Translate

الاثنين، 14 أبريل 2025

ج1 وج2.كتاب : الروضتين في أخبار النورية و الصلاحية المؤلف : أبو شامة المقدسي



ج1 وج2.كتاب : الروضتين في أخبار النورية و الصلاحية

المؤلف : أبو شامة المقدسي
بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله رب العالمينالحمد لله الذي بلطفه تصلح الأعمال، وبكرمه وجوده تدرك الآمال، وعلى وفق مشيئته تتصرف الأفعال، و بإرادته تتغير الأحوال، و إليه المصير والمرجع والمال، سبحانه هو الباقي بلا زوال، المنزه، عن الحلول والانتقال، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، ذو العرش والمعارج والطول والإكرام والجلال؛ نحمده على ما أسبغ من الإنعام والأفضال، ومن به من الإحسان والنوال، حمدا لا توازنه الجبال، ملء السموات والأرض وعلى كل حال. ونصلى على رسوله ونبيه وخيرته من خلقه وصفيه وخليله ووليه وحبيبه المفضال، سيدنا أبي القاسم محمد بن عبد الله ذى الشرف الباذخ، والعلم الزاسخ، والفضل الشامخ، والجمال والكمال؛ صلى الله عليه وعلى الملائكة المقربين، والأنبياًء والمرسلين، وعترتهم الطيبين، ما أفَلَ كوكب وطلع هلال، وعلى آل محمد وصحبه خبر صحب وأكرم آل، وعلى تابيهم بإحسان وجميع الأولياء والأبدال، وعفا عن المقصرين من أمته أولى الكسل والملال، وحشرنا في زمرته، متمسكين بشرعته، مقتدين بسنته، متعظين بما ضرب من الأمئال، مزدحمين تحت لوائه، في جملة أوليائه، يوم لا بيع فيه ولا خلال.

أما بعد، فإنه بعد أن صرفت جل عمرى ومعظم فكرى في اقتباس الفوائد الشرعية، واقتقاص الفرائد الأدبية، عن لى أن أصرف إلى علم التاريخ بعضه، فاحوز بذلك سنة للعلم وفرضه؛ اقتداء بسيرة من مضى، من كل عالم مرتضى. فقل إمام من الأئمة إلا ويحكى عنه من أخبار من سلف فوائد جمة. منهم إمامنا أبو عبد الله الشافعي، رضى الله عنه. قال مصعب الزبيري " ما رأيت أحدا أعلم بأيام الناس من الشافعي " ويروى عنه أنه أقام على تعلم أيام الناس والأدب عشرين سنة، وقال: " ما أردت بذلك إلا الاستعانة على الفقه " قلت: وذلك عظيم الفائدة، جليل العائدة. وفي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أخبار الأمم السالفة، وأنباء القرون الخالفة ما فيه عبر لذوى البصائر، واستعداد ليوم تبلى السرائر. قال الله عز وجل وهو أصدق القائلين: (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أنباء الرسُل ما نُثَبِّت به فُؤَادَك وَجَاءَكَ في هِذِه الحق ومِوْعِظِةٌ وَذِكْرَى للمُؤمِنِين). وقال سبحانه: (وَلَقَدْ جَاءَهم من الأنْبَاء مَاِ فيه مُزْدَجَرٌ. حكمَة بالغة فما تُغْنِى النُّذُرُ). وحدث النبي صل الله عليه وسلم بحديث أم زرع وغيره مما جرى في الجاهلية والأيام الإسرائيلية، وحكى عن عجائب ما رآه ليله أسرى به وعرج، وقال: " حدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج. وفي صحيح مُسلم عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمُره.: أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، كثيراً كان لا يقوم من مصلاه الذي صلى فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام. وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون و يتبسم " صلى الله عليه وسلم " . وفي سنن أبي داود مهن عبد الله بن عمر، رضى الله عنهما، قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن بني إسرائيل حتى نُصبح ما يقوم إلا إلى عُظم صلاة قلت: ولم يزل الصحابة والتابعون فمن بعدهم يتفاوضون في حديث من مضى، ويتذاكرون ما سبقهم من الأخبار وانقضى، ويستنشدون الأشعار، و يتطلبون الآثار والأخبار؛ وذلك بين من أفعالهم لمن اطلع على أحوالهم، وهم السادة القدوة، فلنا بهم أسوة. فاعتنيت بذلك وتصفحته، و بحثت عنه مدة وتطلبته؛ فوقفت والحمد لله على جملة كبيرة من أحوال المتقدمين والمتأخرين، من الأنبياًء والمرسلين، والصحابة والتابعين، والخلفاء والسلاطين، والفقهاء والمحدثين، والأولياء والصالحين، والشعراء والنحويين، وأصناف الخلق الباقين؛ ورأيت أن المطلع على أخبار المتقدمين، انه قد عاصرهم أجمعين، وأنه عند ما تفكر في أحوالهم أو تذكرهم كأنه مُشاهدهم ومحاضرهم؛ فهو قائم له مقام طول الحياة، و إن كان متعجل الوقاة. قال نعيم بن حماد: كان عبد الله بن المبارك يكثر الجلوس في بيته، فقيل له ألا تستوحش؟ قال:كيف أستوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفي رواية قال: قيل لان المبارك: يا أبا عبد الرحمن تكثر القعود في البيت وحدك! فقال أأنا وحدي؟! أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تعني النظر في الحديث. وفي رواية أخرى: وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان. قلت وقد أنشدت لبعض الفضلاء:
كتاب أطالعه مؤنس ... أحب إلى من الانسه
وأدرسه فيريني القرون ... حضورا وأعظمُهُم دراسه
وقد اختار الله سبحانه النا أن نكون آخر الأمم، وأطلعنا على أنباء من تقدم، لنَّتعظ بما جرى على القرون الخالية، وتَعِيَها أذنٌ واعِيَة، فَهَل تَرَى لَهُمْ من بَاقِيَةٍ، ولنقتدى بمن تقدمنا من الأنبياء، والأئمة الصلحاء، ونرجو بتوفيق الله عز وجل أن نجتمع بمن يدخل الجنة منهم، ونذاكرهم بما نقل إلينا عنهم، وذلك على رغم أنف من عدم الأدب، ولم يكن له في هذا العلم أرب، بل أقام على غّيه وأكبَّ؛ والمرء من أحب.

هذا وإن الجاهل بعم التاريخ راكبُ عمياء، خابط خبط عشواء؛ ينسب إلى من تقدم أخبار من تاخر، ويعكس ذلك ولا يتدبر، وإن رُد عليه وهمه لايتأثر، وإن ذكر ما جهله لا يتذكر؛ لا يفرق بين صحابي وتابعي، وحنفي ومالكي وشافعي؛ ولا بين خليفة وأمير، وسلطان ووزير؛ ولا يعرف من سيرة نبيه صلى الله عليه وسلم أكثر من أنه نبي مرسل، فكيف له بعرفة أصحابه وذلك الصدر الأول، الذين بذكرهم ترتاح للنفوس، ويذهب البُوس. ولقد رأيت مجلسا جمع ثلاثة عشر مدرسا، وفيهم قاضي القضاة لذلك الزمان، وغيره من الأعيان، فجرى بينهم وأنا اسمع ذكر من تحرم عليه الصدقة، وهم ذوو القربى المذكورون في القرآن؛ فقال جميعهم: بنو هاشم وبنو عبد المطلب، وعدلوا بأجمعهم في ذلك عما يحب. فتعجبت من جهلهم حيث لم يفرقوا بين عبد المطلب والمطلب، ولم يهتدوا إلى أن المطلب هو عم عبد المطلب، وأن عبد المطلب هو ابن هاشم، فما أحقهم بلوم كل لائم، إذ هذا أصل من أصول الشريعة قد أهملوه، وباب من أبواب العلم جهلوه؛ ولزم من قولهم إخراج بني المطب من هذه الفضيله. فابتغيت إلى الله تعالى الوسيله، وأنفت لنفسي من ذلك المقام، فاخذنها بعلم أخبار الأنام، وتصحيح نسبنها، و إيضاح محجتها؛ فإن كثيراً ممن يحفظ شيئا من الوقائع يفوته معرفة نسبتها إلى أربابها، وإن نسبها خلط فيها وصرفها عن أصحابها. وهو باب واسع غزير الفوائد، صعب المصادر والموارد؛ زلت فيه قدم كثير من نقلة الأخبار ورواة الآثار.

ثم أردت أن أجمع من هذا العلم كتاباً يكون حاويا لما حصلته، وأتقن فيه ما خبرته، فعمدت إلى أكبر كتاب وضع في هذا الفن على طريقة المحدثين، وهو تاريخ مدينة دمشق حماها الله عز وجل الذي صنفه الحافظ الثقة أبو القاسم على بن الحسن العساكرى رحمه الله، وهو ثمانمائة جزء في ثمانين مجلدا، فاًختصرته، وهذبته، وزدته فوائد من كتب أخرى جليله وأتقنته، ووقف عليه العلماء، وسمعه الشيوخ والفضلاء ومر بي فيه من الملوك المتاخرين، ترجمة الملك العادل نور الدين؛ فاطر بني ما رأيت من آثاره، وسمعت من أخباره، مع تأخر زمانه، وتغير خلانه. ثم وقفت بعد ذلك في غير هذا الكتاب على سيرة سيد الملوك بعده، الملك الناصر صلاح الدين. فوجدتهما في المتاخرين، كالعُمَرين رضي الله عنهما في التقدمين؛ فإن كل ثان من الفريقين حذا حذو من تقدمه في العدل والجهاد، واجتهد في إعزاز دين الله أى الجهاد، وهما ملكا بلدتنا، وسلطانا خطتنا، خصنا الله تعالى بهما فوجب علينا القيام بذكر فضلهما. فعزمت على إفراد ذكر دولتيهما بتصنيف، يتضمن التقريظ لهما والتعريف. فلعله يقف عليه من الملوك، من يسلك في ولايته ذلك السلوك، فلا أبعد أنهما حجة من الله على الملوك المتأخرين، وذكرى منه سبحانه فإن الذكرى تنفع المؤمنين. فإنهم قد يستبعدون من أنفسهم طريقة الخلفاء الراشدين، ومن حذا حذوهم من الأئمة السابقين؛ و يقولون: نحن في الزمن الأخير، وما لأولئك من نظير. فكان فيما قدر الله سبحانه من سيرة هذين الملكين إلزام الحجة عليهم، بمن هو في عصرهم، من بعض ملوك دهرهم، فلن يعجز عن التشبه بهما أحد، إن وفق الله تعالى الكريم وسدد. واخذت ذلك من قول أبي صالح شعيب بن حرب المدائني رحمه الله وكان أحد السادة الأكابر في الحفظ والدين قال: إني لأحسب يحاء بسفيان الثوري يوم القيامة حجة من الله تعالى على هذا الخلق، يقال لهم إن لم تدركوا نبيكم فقد أدركتم سفيان؛ ألا اقتديتم به ؟! وهكذا أقول هذان الملكان حجة على المتأخرين من الملوك والسلاطين. فَلِله درهما من ملكين تعاقبا على حسن السيرة، وجميل السريرة. وهما حنفي وشافعي، شفى الله بهما كل غى، وظهرت بهما من خالقهما العناية، فتقاربا حتى في العمر ومدة الولاية. وهذه نكتة قل من فطن لها ونبه عليها، ولطيفة هداني الله بتوفيقه إليها. وذلك أن نور الدين رحمه الله ولد سنة إحدى عشرة وخمسمائة وتوفى سنة تسع ويتين، وولد صلاح الدين رحمه الله سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة وتوفى سنة تسع وثمانين. فكان نور الدين أسن من صلاح الدين بسنة واحدة وبعض أخرى، وكلاهما لم يستكمل ستين سنة. فانظر كيف اتفق أن بين وفاتيهما عشرين سنة، وبين مولدهما إحدى وعشرين سنة. وملك نور الدين دمشق سنة تسع وأربعين، وملكها صلاح الدين سنة سبعين؛ فبقيت دمشق في الملكة الفورية عشرين سنة، وفي المملكة الصلاحية تسع عشرة سنة، تمحى فيه السيئة وتكتب الحسنة؛ وهذا من عجيب ما اتفق في العمر ومدة الولاية ببلدة معينة لملكين متعاقبين؛ مع قرب الشبه بينهما في سيرتهما، والفضل للمتقدم؛ فكأن زيادة مدة نور الدين كالتنبيه على زيادة فضله، والإرشاد إلى عظم محله، فإنه أصل ذلك الخير كله، مهد الأمور بعدله وجهاده وهيبته في جميع بلاده، مع شدة الفتق، واتساع الخرق وفتح من البلاد ما استعين به على مداومة الجهاد فهان على من بعده على الحقيقة، سلوك تلك الطريقة، لكن صلاح الدين أكثر جهادا، وأهم بلادا، صبر وصابر، ورابط وثابر، وذخر له من الفتوح أنفسه، وهو فتح الأرض المقدسة فرضى الله عنهما فما أحقهما بقول الشاعر: " كم ترك الأول للآخر "
وألبس الله هاتيك العظام، وإن ... بلين تحت الثرى، عفوا وغفرانا
سق ثرى أودعوه رحمة ملأت ... مثوى قبورهم روحا وريحانا

وقد سبقني إلى تدوين مآثرهما جماعة من العلماء، والأكابر الفضلاء. فذكر الحافظ الثقة أبو القاسم علي بن الحسن الدمشقي في تاريخه ترجمة حسنة لنور الدين محمود بن زنكي رحمة الله، ولأجله تمم ذلك الكتاب وذكر اسمه في خطبته. وذكر الرئيس أبو يعلى حمزة ابن أسد التميمي في مذيل التاريخ الدمشقي قطعة صالحة من أوائل الدولة النورية إلى سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وصنف الشيخ الفاضل عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الجزري، عرف بابن الأثير، مجلدة في الأيام الأتابكية كلها وما جرى فيه، وفيه شىء من أخبار الدولة الصلاحية لتعلق إحدى الدولتين بالأخرى لكونها متفرعة عنها. وصنف القاضي بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تمتم الموصلي. عرف بابن شداد قاضي حلب مجلدة في الأيام الصلاحية وسياق ما تيسر فيها من الفتوح، واستفتح كتابه بشرح منلقب صلاح الدين رحمه الله تعالى. وصنف الإمام العالم عماد الدين الكاتب أبو حامد محمد بن محمد حامد الأصفهاني كتابين كلاهما مسجوع متقن بالألفاط الفصيحة والمعاني الصحيحة؛ أحدهما الفتح القدسي، اقتصر فيه على فتوح صلاح الدين وسيرته، فاستفتحه بسنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. والثاني البرق الشامي ذكر فيه الوقائع والحوادث من الغزوات والفتوحلت وغيرهما مما وقع من سنة وروده دمشق، وهي سنة اثنتين وستين وخمسمائة إلى سنة وفاة صلاح الدين وهي سنة تسع وثمانين فاشتمل على قطعة كبيرة من أخبار أواخر الدولة النورية. إلا أن العماد في كتابيه طويل النفس في السجع والصف، يمل الناظر فيه، ويذهل طالب معرفة الوقائع عما سبق من القول و ينسيه. فحذفت تلك الأسجاع إلا قليلا منها، استحسنتها في مواضعها، ولم تك خارجة عن الغرض المقصود من التعريف بالحوادث والوقائع، نحو ما ستراه في أخبار فتح بيت المقدس شرفه الله تعالى وانتزعت المقصود من الأخبار، من بين تلك الرسائل الطوال، والأسجاع المفضية إلى الملال، وأردت أن يفهم الكلام الخاص والعام. واخترت من تلك الأشعار الكثيرة قليلا مما يتعلق بالقصص وشرح الحال، وما فيه نكتة غريبة، وفائدة لطيفة.
ووفقت على مجلدات من الرسائل الفاضلية، وعلى جملة من من الأشعار العمادية مما ذكره في ديوانه دون برقه؛ وعلى كتب أخر من دواوين وغيرها، فالتقطت منها أشياء مما يتعلق بالدولتين أو بإحداهما؛ و بعضه سمعته من أفواه الرجال الثقات، من المدكرين لتلك الأوقات. فاختصرت جميع ما في ذلك من أخبار الدولتين، وما حدث في مدتهما من وفاة خليفة أو وزير، أو أمير كبير، أو ذى قدر خطير، وغيرذلك. فجاء مجموعا لطيفا، كتابا طريفا، يصلح لمطالعة الملوك والأكابر، من ذوي المآثر والمفاخر. وسميته " كتاب الروضتين في أخبار الدولتين " . ولله در حبيب بن أوس حيت يقول:
ثم انقضت تلك السنون ... وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام
فصلأما الدولة النورية فسلطانها لملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن عماد الدين أتابك وهو أبو سعيد زنكى بن قسيم الدولة آق سنقر التركي ويلقب زنكى أيضاً بلقب والده قسيم الدولة، ويقال لنور الدين ابن القسيم. وسنتكلم على أخبار أسلافه عند بسط أوصافه. وقدمت من إجمال أحواله ما يستدل به على أفعاله.

ذكر الحافظ أبو القاسم في تاريخه أنه ولد سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وأن جده آق سنقر ولى حلب وغيرها من بلاد الشام، ونشأ أبوه زنكى بالعراق ثم ولى ديار للوصل والبلاد الشامية؛ وظهرت كفايته في مقابلة العدو عند نزوله على شيزر حتى رجع خائباً، وفتح الرها، والمعرة كفر طاب، وغيرها من الحصون الشامية واستنقذها من أيدى الكفار. فلما انقضى أجله قام ابنه نور الدين مقامه، وذلك سنة إحدى وأربعين وخمسمائة؛ ثم قصد نور الدين حلب فملكها وخرج غازيا في أعمال تل باشر، فافتتح حصونا كثيرة من جملتها قلعة عزاز، ومرعش، وتل خالد؛ وكَسَر إبرنس إنطاكية وقتله وثلاثة ا لاف فرنجي معه؛ وأظهر بحلب السنة وغير البدعة التي كانت لهم في التأذين، وقمع بها وقمع الرافضة، وبنى بها المدارس، ووقف الأوقاف، وأظهر العدل، وحاصر دمشق مرتين وفتحها في الثالثة، فضبط أمورها وحصن سورها، و بنى بها المدارس والمساجد، وأصلح طرقها، ووسع أسواقها، ومنع من أخذ ما كان يوخذ منهم من المغارم بدار الطبخ، وسوق الغنم، والكيالة، وغيرها، وعاقب على شرب الخمر، واستنقذ من العدو ثغر بانياس والمنيطرة وغيرهما. وكان في الحرب ثابت القدم، حسن الرمى، صليب الضرب، يقدم أصحابه، و يتعرض للشهادة وكان يسال الله تعالى أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير. ووقف رحمه الله تعالى وقوفا على المرضى ومعلمي الخط والقرآن وساكني الحرمين. وأقطع امراء العرب لئلا يتعرضوا للحجاج، وأمر بأكمال سور المدينة و استخراج العين التي بأحد، و بنى الر بط والجسور والخانات، وجدد كثيرا من قنى السبيل. كذا صنع في غير دمشق من البلاد التي ملكها. ووقف كتبا كثيرة، وحصل في أسره جماعة من أمراء الفرنج، كسر اللروم والأرمن والفرنج على حارم وكان عدتهم ثلاثين ألفا، ثم فتح حارم وأخذ قرى أنطاكية، ثم فتح الديار المصرية وكان العدو قد اشرف على أخذها، ثم أظهر بها السنة وانقمعت البدعة. وكان حسن الخط كثير المطالعة للكتب الدينية، متبعا للآثار النبوية، مواظبا على الصلوات في الجماعات، عاكفاً على تلاوة القرآن، حريصاً على فعل الخير، عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق، متحريا في المطاعم والملابس، لم تسمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره. وأشهى ما إليه كلمة حق يسمعها أو إرشاد إلى سنة يتبعها.
وقال أبو الحسن بن الأثير: قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومناً هذا، فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزير ملكا أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين، ولا أ كثر تحريا للعدل والإنصاف منه. قد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره، وجهاد يتجز له ، وظلمة يزيلها، وعبادة يقوم بها، وإحسان يوليه وإنعام يسديه. ونحن نذكر مل يعلم به محله في أمر دنياه وأخراه؛ فلو كان في أمة لافتخرت به، فكيف بيت واحدة.
اما زهده وعبادته وعلمه فانه كان مع سعة ملكه، وكثرة ذخائر بلاده وأموالها لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف فيما يخصه إلا من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين. أحضر الفقهاء واستفتاهم في أخذ ما يحل له من ذلك فأخذ ما أفتوه بحله، ولم يتعده إلى غير ألبتة. ولم يلبس قط ما حرمه الشرع من حديد أو ذهب أو فضة. ومنع من شرب الخمر وبيعها في جميع بلاده ومن إدخالها إلى بلد ما وكان يحد شاربها الحد الشرعي، كل الناس عنده فيه سواء.

حدثني صديق لنا بدمشق كان رضيع الخاتون ابنة معين الدين، زوجة نور الدين ووزيرها، قال: كان نور الدين إذا جاء إليها يجلس في المكان المختص به وتقوم في خدمته لاتتقدم إليه إلا أن يأذن ثيابه عنه. ثم تعتزل عنه إلى المكان الذي يختص بها و ينفرد هو، تارة يطالع رقاع أصحاب الأشغال، أو في مطالعة كتاب أتاه و يجيب عنهما. وكان يصلى فيطيل الصلاة، وله أوراد في النهار؛ فإذا جاء الليل وصلى العشاء ونام يستيقظ نصف الليل. و يقوم إلى الوضوء والصلاة إلى بكره فيظهر الركوب و يشتغل بمهام الدولة قال: وإنها قلت عليها النفقة ولم يكفها ما كان قرره لها فأرسلتني إليه أطلب منه زيادة في وظيفنها. فلما قلت له ذلك تنكر وأحمر وجهه، ثم قال: من اين أعطيها، أما يكفيها مالها! والله لا أخوض نارجهنم في هواها. إن كانت تظن أن الذي بيدى من الأموال هي لي فبئس الظن. إنما هي أموال المسلمين مُرَصد؛ لمصالحهم ومعدة لفتق إن كان من عدو الإسلام.، وأنا خازنهم عليها فلا أخونهم فيها. ثم قال: لي بمدينة حمص ثلاث دكاكين ملكا وقد وهبتها إياها فلتأخذها. قال: وكان يحصل منها قدر قليل.
قال ابن الأثير: وكان رحمه الله لا يفعل فعلا إلا بنية حسنة. كان بالجزيرة رجل من الصالحين كثير العبادة والورع، شديد الانقطاع عن الناس، وكان نور الدين يكاتبه ويراسله ويرجع إلى قوله ويعتقد فيه اعتقادا حسنا. فبلغه أن نور الدين يُدْمِن اللعب بالكرة. فكتب إليه يقول: ماكنت أظنك تلهو وتلعب وتعذب الخيل لغير فائدة دينية. فكتب إليه نور الدين بخظ يده يقول: والله ما يحملني على اللعب بالكرة اللهو والبطر، إنما نحن في ثغر، العدو قريب منا، و بينما نحن جلوس إذ يقع صوت فنركب في الطلب. ولا يمكنا أيضاً ملازمة الجهاد ليلا ونهاراً شتاء وصيفا إذ لابد من الراحة للجند. ومتى تركنا الخيل على مرابطها صارت جماما لا قدرة لها على إدمان السير في الطلب، ولا معرفة لها بسرعة الانعطاف في الكر والفر في المعركة. فنحن نركبها ونروضها بهذا اللعب فيذهب جمامها وتتعود سرعة الانعطاف والطاعة لراكبها في الحرب. فهذا والله اللمى بعثني على اللعب بالكرة. قال ابن الأثير: فانظر إلى هذا الملك المعدوم النظير، الذي يقل في أصحاب الزوايا والمنقطعين إلى العبادة مثله، فإن من يجىء إلى اللعب يفعله بنية صالحة حتى يصيرمن أعظم العبادات وأكبر القربات يقل في العالم مثله، وفيه دليل على أنه كان لا يفعل شيئا إلا بنية صالحة، وهذه افعال العلماء الصالحين العاملين.
قال: وحكى لي عنه أنه حمل إليه من مصر عمامة من القصب الرفيع مذهبة، فلم يحضرها عنده، فوصفت له فلم يلتفت إليها. وبيناهم معه في حديثها و إذا قد جاءه رجل صوفي فامر بها له؛ فقيل له إنها لا تصلح لهذا الزجل ولو أعطى غيرها كان أنفع له. قال: أعطوها له فإني أرجو أن أعوض عنها في الآخرة. فسُلمت له، فسار بها إلى بغداد فباعها. بستمائة دينار أميري أو سبعمائة دينار.
قلت: قرأت في حاشية هذا المكان من كتاب ابن الأثير يخظ ابن المعطى إياها قال: أعطاها الشيخ الصوفية عماد الدين أبى الفتح بن حمويه بغير طلب ولا رغبة، فبعثها لملى همدان فبيعت بالف دينار.
قال ابن الأثير: وحكى لنا الأمير بهاء الدين على بن السكرى، وكان خصيصا بخدمة نور الدين قد صحبه من الصبا وأنس به وله معه انبساط، قال: كنت معه يوما في الميدان بالرها والشمس في ظهورنا، فكلما سرنا تقدمنا الظل؛ فلما عدنا صار الظل وراء ظهورنا، فاجرى فرسه وهو يلتف وراءه، وقال لي: أتدري لأي شىء أجرى فرسى وألتفت وراثي قلت: لا. قال: قد شبهت ما نحن فيه بالدنيا، تهرب ممن يطلبها، وتطلب من يهرب منها. قلت رضى الله عن ملك يفكر في مثل هذا. وقد أنشدت بيتين في هذا المعنى:
مثل الززق الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي ملك
أنت لاتدركه متَّبِعاً ... فإذا ولّيت عنه تبعك
قال ابن الأثير: وكان، يعنى نور الدين رحمه الله، يصلى كثيرا من الليل ويدعو و يستغفر ويقرأ، ولايزال كذلك إلى أن يركب:
جمع الشجاعة والخشوع لربه ... ما أحسن المحراب في المحراب

قال: وكان عارفا بالفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة، رضي الله عنه، ليس عنده تعصب، بل الإنصاف سجيته في كل شىء. وسمع الحديت وأسمعه طلباً للأجر. وعلى الحقيقة فهو الذي جدد للموك اتباع سنة العدل والإنصاف، وترك المحرمات من المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك؛ فإنهم كانوا قبله كالجاهلية: هم أحدهم بطنه وفرجه، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، حتى جاء الله بدولته فوقف مع أوامر الشرع ونواهيه، وألزم بذلك أتباعه وذويه، فاقتدى به غيره منهم، واستحيوا أن يظهر عنهم ماكانوا يفعلونه. ومن سَن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة قال: فإن قال قائل كيف يوصف بالزهد من له الممالك الفسيحة، وتجبى إليه الأموال الكثيرة، فليذكر نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام مع ملكه وهو سيد الزاهدين في زمانه. ونبينا صلى الله عليه وسلم قد حكم على حضرموت واليمن والحجاز وجميع جزيرة العرب من حدود الشام إلى العراق، وهو على الحقيقة سيد الزاهدين. قال: و إنما الزهد خلو القلب من محبة الدنيا لاخلو اليد عنها.
قال: وأما عدله فإنه كان أحسن الملوك سيرة وأعدلهم حكما. فمن عدله أنه لم يترك في بلد من بلاده ضريبة ولا مكسا ولا عشرا، بل أطلقها رحمة الله جميعها في بلاد الشام والجزيرة جميعها والموصل وأعمالها وديار مصر وغيرها مما حكم عليه وكان المكس. في مصر يؤخذ من كل مائة دينار خمسة وأربعون ديناراً وهذا لم تتسع له نفس غيره. وكان يتحرى العدل وينصف المظلوم من الظالم كائنا من كان، القوى والضعيف عنده في الحق سواء. وكان يسمع شكوى المظلوم ويتولى كشف حاله بنفسه، ولا يكل ذلك إلى حاجب ولا أمير. فلا جَرَمَ سار ذكره في شرق الأرض وغربها.
قال: ومن عدله أنه كان يعظم الشريعة المطهرة ويقف عند أحكامها ويقول نحن شحن لها نُمضي أوامرها. فمن اتباعه أحكامها أنه كان يلعب بدمشق بالكرة، فرأى إنسانا يحدث آخر وبومئ بيده إليه، فارسل إليه يساله عن حاله. فقال: لي مع الملك العادل حكومة، وهذا غلام القاضي ليحضره إلى مجلس الحكم يحاكمني على الملك الفلاني. فعاد إليه ولم يتجاسر أن يعرفه ما قال ذلك الرجل وعاد يكتمه؛ فلم يقبل منه غير الحق، فذكر له قوله. فألقى الجوكان من يده وخرج من الميدان وسار إلى القاضي، وهو حينئذ كمال الدين ابن الشهرزورى، وأرسل إلى القاضي يقول له إنني قد جئت محا كما فاسلك معى ميل ماتسلكه مع غيرى. فلما حضر ساوى خصه وخاصمه وحاكمة فلم يثبت عليه حق؛ وثبت الملك لنور الدين. فقال نور الدين حينئذ للقاضي ولمن حضر: هل ثبَت له عندي حق؟ قالوا لا. فقال: اشهدوا أنني قد وهبت له هذا الملك الذي قد حاكمني عليه، وهُوَ لَهُ دُوني؛ وقد كنت أعلم أن لا حق له عندي وإنما حضرت معه لئلا يظن بي أني ظلمته، فحيث ظهر أن الحق لي وهبته له قال اين الأثير: وهذا غاية العدل والإنصاف، بل غاية الإحسان، وهي درجة وراء العدل. فرحم الله هذه النفس الزكية الطاهرة، المنقادة للحق، الواقفة معه.
قلت: وهذا مستكثر من ملك متأخر بعد فساد الأزمنة وتفرق الكلمة؛ وإلا فقد انقاد إلى المضي إلى مجلس الحكم جماعة من المتقدمين مثل عمر وعلي ومعاوية رضي الله عنهم، ثم حكى نحو ذلك عن أبي جعفر المنصور. وقد نقلنا ذلك كله في التاريخ الكبير، وفيه عن عبد الله بن طاهر قريب من هذا، لكنه أحضر الحاكم عنده ولم يمض إليه. وقد بلغني أن نور الدين رحمه الله تعالى استُدعى مرة أخرى بحلب إلى مجلس الحكم بنفسه أو نائبه؛ فدخل حاجبه عليه متعجبا وأعلمه أن رسول الحاكم بالباب، فانكرعليه تعجبه وقام رحمه الله مسرعا ووجد في أثناء طريقه ما منعه من العبور من حفر جب بعض الحشوش واسخراج ما فيه؛ فوكل م ثم وكيلا وأشهد عليه شاهدين بالتوكيل ورجع.

قال ابن الأثير: ومن وعدله انه لم يكن يعاقب العقوبة التي يعاقب بها الملوك في هذه الأعصار على الظنة والتهمة، بل يطلب الشهود على المتهم، فإن قامت البينة الشرعية عاقبه العقوبة الشرعية من غير تعد فدفع الله إذا الفعل عن الناس من الشر ما يوجد في غير ولايته مع شدة السياسة والمبالغة في العقوبة والأخذ بالظنة، وأمنت بلاده مع سعتها، وقل المفسدون بيركة العدل واتباع الشرع المطهر. قال: وحكى لي من أثق به أنه دخل يوما إلى خزانةالمال فرأى فيها مالا أنكره، فسأل عنه، فقيل إن القاضي كمال الدين أرسله وهو من جهة كذا. فقال: إن هذا المال ليس لنا، ولا لبيت المال في هذه الجهة شىء. وأمر برده وإعادته إلى كمال الدين ليرده على صاحبه. فأرسله متولي الخزانة إلى كمال الدين، فرده إلى الخزانة وقال: إذا سال الملك العادل عنه فقولوا له عنى إنه له. فدخل نور الدين إلى الخزانة مرة أخرى، فرآه، فأنكر على النواب، وقال لهم: ألم أقل لكم يعاد هذا المال على أصحابه؟ فذكروا له قول كمال الدين، فرده إليه وقال الرسول: قل لكمال الدين أنت تقدر على حمل هذا، وأما أنا فرقبتي دقيقة لا أطيق حمله، والمخاصمة عليه بين يدي الله تعالى. يُعاد قولاً واحداً.
قال: ومن عدله أيضا بعد موته وهو من أعجب ما يحكى أن إنسانا كان بدمشق غريباً، استوطنها وأقام بها لما رأى من عدل نور الدين رحمه الله. فلما توفى تعدى بعض الأجناد على هذا الرجل، فشكاه، فلم ينصف. فنزل من القلعة وهو يستغيث ويبكى وقد شق ثوبه وهو يقول: يانور الدين: لو رأيتنا وما نحن فيه من الظلم لرحمتنا؛ أين عدلك! وقصد تربة نور الدين ومعه من الخلق ماً لا يحصى وكلهم يبكى ويصبح. فوصل الخبر إلى صلاح الدين وقيل له: احفظ البلد والرعية و إلا خرج عن يدك. فأرسل إلى ذلك الرجل وهو عند تربة نور الدين يبكى والناس معه فطيب قلبه ووهبه شيئاً وأنصفه، فبكى أشد من الأول. فقال له صلاح الدين: لم تبكى؟ قلل: أبكى على سلطان عدل فينا بعد موته. فقال صلاح الدين: هذا هو الحق، وكل ما ترى فينا من عدل فمنه تعلمناه.
قلت: ومن عدله أن بنى دار العدل. قال ابن الأثير: كان نور الدين رحمه الله أول من بنى دارا للكشف وسماها دار العدل. وكان سبب بنائها أنه لما طال مقامه بدمشق وأقام بها أمراؤه، وفها أسد الدين شيركوه وهو أكبر أمير معه، وقد عظم شانه وعلا مكانه، حتى صار كأنه شريك في الملك واقتنوا الأموال وأكثروا؛ تعدى كل واحد منهم على من يجاوره في قرية أو غيرها. فكثرت الشكاوى إلى كمال الدين فانصف بعضهم من بعض، ولم يقدم على الإنصاف من أسد الدين شيركوه. فأنهى الحال إلى نور الدين، فأمر حينئذ ببَناء دار العدل. فلما سمع أسد الدين بذلك أحضر نوابه جميعهم وقال لهم: اعلموا أن نور الدين ما أمر ببناء هذه الدار إلا بسببي وحدي؛ و إلا فمن هو الذى يمتنع على كمال الدين؟ ووالله لئن أحضرت إلى دار العدل بسبب أحدكم لأصلبنه. فامضوا إلى كل من بينكم و بينه منازعة في ملك فافصلوا الحال معه، وأرضوه بأي شيء أمكن، ولو أتى ذلك على جميع ما بيدي. فقالوا له: إن الناس إذا علموا هذا اشتطوا في الطلب. فقال: خروج أملاكي عن يدي أسهل على من أن يراني نور الدين بعين أتي ظالم، أو يساوى بيني و بين آحاد العامة في الحكومة. فخرج أصحابه من عنده وفعلوا ما أمرهم، وأرضوا خصماءهم، وأشهدوا عليهم. فلما فرغت دار العدل جلس نور الدين فيها لفصل الحكومات. وكان يجلس في الأسبوع يومين وعنده القاضي والفقهاء؛ و بقى كذلك مدة فلم يحضر عنده أحد يشكو من أسد الدين. فقال نور الدين لكمال الدين: ما أرى أحدا يشكو من شيركوه. فعرفه الحال، فسجد شكرا لله تعالى، وقال: الحمد لله الذي جعل أصحابنا ينصفون من أنفسهم قبل حضورهم عندنا. قال ابن الأثير: فانظر إلى هذه المعدلة ما أحسنها، و إلى هذه الهيبة ما أعضمها، و إلى هذه السياسة ما أسدها؛ هذا مع أنه كان لا يريق دماً، ولا يبالغ في عقوبة، وإنما كان يفعل هذا صدقه في عدله وحسنُ نيته.

قال: وأما شجاعته وحسن رأيه فقد كانت النهاية إليه فيهما، فإنه أصبر الناس في الحرب وأحسنهم مكيدة ورأيا، وأجودهم معرفة بأمور الأجناد وأحوالهم، و به كان يضرب المثل في ذلك. سمعت جمعا كثيراً من الناس لا أحصيهم يقولون أنهم لم يروا على ظهر الفرس أحسن منه، كأنه خلق عليه لا يتحرك ولا يتزلزل. وكان من أحسن الناس لعباً بالكرة وأقدرهم عليها؛ لم يرجو كأنه يعلو على رأسه. وكان ربما ضرب الكرة و يجرى الفرس ويتناولها بيده من الهواء ويرميها إلى آخر الميدان. وكانت يده لا ترى والجوكان فيها بل يكون في كم قبائه استهانة باللعب وكان إذا حضر الحرب اخذ قوسين وتركاشين و باشر القتال بنفسه، وكان يقول: طالما تعرضت للشهادة فلم أدركها. سمعه يوماً الإمام قطب الدين النيسابورى الفقيه الشافعي وهو يقول ذلك فقال له: بالله لا تخاطر بنفسك و بالإسلام والمسلمين فإنك عمادهم، ولئن اصب والعياذ بالله في معركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف وأخذت البلاد. فقال: يا قطب الدين: ومن محمود حتى يقال له هذا؟ قبلى من حفظ البلاد والإسلام، ذلك الله الذي لا إله إلا هو. قال: وكان رحمه الله يكثر إعمال الحيل والمكر والخداع مع الفرنج، خذلهم الله تعالى، وأكثر ما ملكه من بلادهم به. ومن جيد الرأي ما سلكه مع مليح بن ليون ملك الأرمن صاحب الدروب، فإنه ما زال يخدعه و يستميله، حتى جعله في خدمته سفرا وحضرا؛ وكان يقاتل به الإفرنج، وكان يقول: إنما حملني على استمالته أن بلاده حصينة وعرة المسالك، وقلاعه منيعة وليس لنا إليها طريق، وهو يخرج منها إذا أراد فنال من بلاد الإسلام، فإذا طلب انحجر فيها فلا يقدر عليه. فلما رأيت الحال هكذا بذلت له شيئا من للإقطاع على سبيل التالف حتى أجاب إلى طاعتنا وخدمتنا وساعدنا على الفرنج. قال: وحين توفى نور الدين رحمة الله وسلك غيره غير هذا الطريق ملك المتولي الأرمن بعد مليح كثيرا من بلاد الإسلام وحصونهم، وصار منه ضرر عظيم، وخرق واسع لا يمكن رقعه.
قال: ومن أحسن الآراء ما كان يفعله مع أجناده؛ فإنه كان إذا توفى أحدهم وخلف ولدا أقر الإقطاع عليه، فإن كان الولد كبيرا استبد بنفسه، وإن كان صغيرا رتب معه رجلا عاقلا يثق إليه فيتولى أمره إلى أن يكبر. فكان الأجناد يقولون هذه أملاكناً يرثها الولد عن الوالد، فنحن نقاتل عليها، وكان ذلك سبَباً عظيما من الأسباب الموجبة للصبر في المشاهد والحروب. وكان أيضاً يثبت أسماء الأجناد، كل أمير في ديوانه، وسلاحهم خوفاً، من حرص بعض الأمراء وشحه أن يحمله على أن يقتصر على بعض ما هو مقرر عليه من العدد؛ ويقول: نحن كل وقت في النفير، فإذا لم يكن أجناد كافة الأمراء كاملي العَدَد والعُدد دخل الوهن على الإسلام. قال: ولقد صدق رضي الله عنه فيما قال، وأصاب فيما فعل، فلقد رأينا ما خافه عياناً.

فال: وأما ما فعله في بلاد الإسلام من المصالح مما يعود إلى حفظها وحفظ المسلمين فكثير عظيم. من ذلك أنه بنى أسوار مدن الشام جميعها وقلاعها؛ فمنها حلب، وحماة، وحمص، ودمشق، و بارين، وشيزر، ومنبج، وغيرها من القلاع والحصون، وحصنها وأحكم بناءها، وأخرج عليها من الأموال ما لا تسمح به النفوس وبنى أيضا المدارس بحلب، وحماة، ودمشق، وغيرها للشافعية والحنفية. وبنى الجوامع في جميع البلاد، فجامعه في الموصل إليه النهاية في الحسن والإتقان. ومن أحسن ما عمل فيه أنه فوض أمر عمارته والخرج عليه إلى الشيخ عمر الملا رحمه الله، وهو رجل من الصالحين، فقيل له إن هذا لا ويصلح لمثل هذا العمل. فقال: إذا وليت العمل بعض أصحابي من الأجناد والكتاب أعلم أنه يظلم في بعض الأوقات، ولا يفي الجامع بظلم رجل مسلم، وإذا وليت هذا الشيخ غلب على ظني أنه لا يظلم، فإذا ظلم كان الإثم عليه لا على. قال: وهذا هو الفقه في الخلاص من الظلم. وبنى أيضاً بمدينة حماة جامعاً على نهر العاصي من أحسن الجوامع وأنزهها. وجدد في غيرها من عمارة الجوامع ما كان قد تهدم، إما بزلزلة أو غيرها، وبنى البيمارستانات في البلاد؛ ومن أعظمها البيمارستان الذي بناه بدمشق، فإنه عظيم كثير الخرج جدا. بلغني أنه لم يجعله وقفاً على الفقراء حسب، بل على كافة المسلمين من غني وفقير. قلت: وقد وقفت على كتاب وقفه فلم أره مشعرا بذلك، و إنما هذا كلام شاع على ألسنة العامة ليقع ما قدره الله تعالى من مزاحمة الأغنياء للفقراء فيه، والله المستعان. وإنما صرح بأن ما يعز وجوده من الأدوية الكبار وغيرها لا يمنع منه من احتاج إليه من الأغنياء والفقراء، فحص ذلك بذلك، فلا ينبغي أن يتعدى إلى غيره، لاسيما وقد صرح قبل ذلك بان وقف على الفقراء والمنقطعين، وقال بعد ذلك: من جاء إليه مستوصفا لمرضه أعطى. وروى أن نور الدين رحمه الله شرب من شراب البيمارستان فيه، وذلك موافق لقوله في كتاب الوقف: من جاء إليه مستوصفا لمرضه أعطى. والله أعلم. وبلغني في أصل بنائه نادرة، وهي أن نور الدين رحمه الله وقع في أسره بعض أكابر الملوك من الفرنج، خذلهم الله تعالى، فقطع على نفسه في فدائه مالا عظيما؛ فشاور نور الدين أمراءه فكل أشار بعدم إطلاقه لما كان فيه من الضرر على المسلمين، ومال نور الدين إلى الفداء بعد ما استخار الله تعالى، فأطلقه ليلا لئلا يعلم أصحابه، وتسلم المال. فلما بلغ الفرنجي مأمنه مات، و بلغ نور الدين خبره، فأعلم أصحابه فتجمعوا من لطف الله تعالى بالمسلمين حيث جمع الحُسْنَيَين، وهما الفداء وموت ذلك اللعين. فبنى نور الدين رحمه الله بذلك المال هذا البيمارستان ومنع المال الأمراء، لأنه لم يكن عن إرادتهم كان.

قال ابن الأثير: وبنى أيضا الخانات في الطرق، فأمن الناس وحفظت أموالهم، وباتوا في الشتاء في كن من البرد والمطر. و بنى أيضا الأبراج على الطرق بين المسلمين والفرنج وجعل فيها من يحفظها ومعهم الطيور الهوادى؛ فإذا رأوا من العدو أحدا أرسلوا الطيور فأخذ الناس حذرهم، واحتاطوا لأنفسهم فلم يبلغ العدو منهم غرضا؛ وكان هذا من ألطف الفكر وأكثرها نفعاً قال: و بنى الربط والخانقاهات في جميع البلاد للصوفية ووقف عليها الوقوف الكثيرة وأدر عليهم الإدرارات الصالحة، وكان يحضر مشايخهم عنده ويقربهم، ويدنيهم ويبَسطهم؛ ويتواضع لهم؛ وإذا أقبل أحدهم إليه، يقوم له مذ تقع عينه عليه، ويعتنقه ويجلس معه على سجادته، ويقبل عليه بحديثه. وكذلك كان أيضا يفعل بالعلماء من التعظيم والتوقير والاحترام، ويجمعهم عند البحث والنظر، فقصدوه من البلاد الشاسعة، من خراسان وغيرها. و بالجملة كان أهل الدين عنده في أعلى محل وأعظمه، وكان أمراؤه يحسدونهم على ذلك، وكانوا يقعون عنده فيهم فينهاهم، وإذا نقلوا عن إنسان عيباً يقول: ومن المعصوم؟! وإنما الكامل من تُعد ذنوبه. قال: وبلغني أن بعض أكابر الأمراء حسد قطب الدين النيسابوري، الفقيه الشافعي، وكان قد استقدمه من خراسان، وبالغ في إكرامه والإحسان إليه؛ فحسده ذلك! الأمير فنال منه يوما عند نور الدين. فقال له: يا هذا إن صح ما تقول فله حسنة تغفر كل زلة تذكرها وهي العلم والدين. وأما أنت وأصحابك ففيكم أضعاف ما ذكرت وليست لكم حسنة تغفرها، ولو عقلت لشغلك عيبك عن غيرك؛ وأنا احتمل سيئاتكم مع عدم حسناتكم، أفلا أحتمل سيئة هذا، إن صحت، مع وجود حسنته على؟! إنني والله لا أصدقك فيما تقول، وإن عدت ذكرته أو غيره بسوء لأؤدبنك. فكف عنه. قال ابن الأثير: هذا والله هو الإحسان والفعل الذي ينبغي أن يكتب على العيون بماء الذهب.
وبنى بدمشق أيضا دار الحديث، ووقف عليه وعلى من بها من المشتغلين بعلم الحديث وقوفا كثيرة، وهو أول من بنى دارا للحديث فيما علمنا. و بنى أيضا في كثير من بلاده مكاتب للأيتام وأجرى عليهم وعلى معلميهم الجرايات الوافرة؛ وبنى أيضاً مساجد كبيرة ووقف عليها وعلى من يقرأ بها القرآن. قال: وهذا فعل لم يسبق إليه. بلغني من طرف بإعمال الشام أن وقوف نور الدين في وقتنا هذا، وهو ثمان وستمائة، كل شهر تسعة الاف دينار صورية، وليس فيها ملك غير صحيح شرعي ظاهرا وباطنا، فإنه وقف ماً انتقل إليه وورث عنه، أو ما غلب عليه من بلاد الفرنج وصار سهمه.

قال: وأما هيبته ووقاره فإليه النهاية فيهما. ولقد كان كما قيل: شديد في غير عنف، رقيق في غير ضعف. واجتمع له ما لم يجتمع لغيره، فإنه ضبط ناموس الملك مع أجناده وأصحابه إلى غاية لا مزيد عليها. وكان يلزمهم بوظائف الخدمة الصغير منهم والكبير، ولم يجلس عنده أمير من غير أن يأمره بالجلوس إلا نجم الدين أيوب والد صلاح الدين يوسف، وأما من عداه، كأسد الدين شيركوه، ومجد الدين أبن الداية، وغيرهما فإنهم كانوا إذا حضروا عنده يقفون قياما إلى أن يأمرهم بالقعود. وكان مع هذه العظمة وهذا الناموس القائم إذا دخل عليه الفقيه أو الصوفي أو الفقير يقوم له ويمشي بين يديه، ويجلسه إلى جانبه كأنه أقرب الناس إليه. وكان إذا أعطى أحدهم شيئاً يقول: إن هؤلاء لهم في بيت المال حق، فإذا قنعوا منا ببعضه فلهم المنة علينا. وكان مجلسه كما روى في صفة مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس حلم وحياء لا تؤبن فيه الحرم؛ وهكذا كان مجلسه لا يذكر فيه إلا العلم والدين وأحوال الصالحين، والمشاورة في أمر الجهاد، وقصد بلاد العدو، ولا يتعدى هذا. بلغني أن الحافظ ابن عساكر الدمشقي، رضي الله عنه، حضر مجلس صلاح الدين يوسف لما ملك دمشق فرأى فيه من اللغط وسوء الأدب من الجلوس فيه مالا حد عليه. فشرع يحدث صلاح الدين كما كان يحدث نور الدين فلم يتمكن من القول لكثرة الاختلاف من المحدثين وقلة استماعهم.. فقام و بقى مدة لا يحضر المجلس الصلاحي؛ وتكرر من صلاح الدين الطلب له، فحضر، فعاتبه صلاح الدين يوسف على انقطاعه، فقال: نزهت نفسي عن مجلسك فإنني رأيته كبعض مجالس السُّوقة، لا يستمع إلى قائل، ولا يرد جواب متكلم. وقد كنا بالأمس نحضر مجلس نور الدين فكنا، كما قيل، كأن على رءوسنا الطير، تعلونا الهيبة والوقار، فإذا تكلم أنصتنا و إذا تكلمنا استمع لنا. فتقدم صلاح الدين إلى أصحابه أنه لا يكون منهم ما جرت به عادتهم إذا حضر الحافظ. قال ابن الأثير: فهكذا كانت أحواله جميعها رحمه الله مضبوطة محفوظة.
وأما حفظ أصول الديانات فإنه كان مراعياً لها لا يهملها، ولا يمكن أحدا من الناس من إظهار ما يخالف الحق. ومتى أقدم مقدم على ذلك أدبه بما يناسب بدعته؛ وكان يبالغ في ذلك و يقول: نحن نحفظ الطرق من لص وقاطع طريق؛ والأذى الحاصل منهما قريب، أفلا نحفظ الدين وتمنع عنه ما يناقضه وهو الأصل! قال: وحكى أن إنسانا بدمشق يعرف بيوسف بن آدم، كان يظهر الزهد والنسك وقد كثر أتباعه، أظهر شيئاً من التشبيه، فبلغ خبره نور الدين فأحضره وأركبه حمارا وأمر بصفعه، فطيف به في البلد جميعه ونودي عليه: هذا جزاء من أظهر في الدين البدع. ثم نفاه من دمشق، فقصد حران وأقام بها إلى أن مات. قال ويسوق الله القصار الأعمار إلى البلاد الوخمة.

قلت وذكر العماد الكاتب في أول كتابه البرق الشامي أنه قدم دمشق في شعبان سنة اثنتين وستين وخمسمائة في دولة الملك نور الدين محمود بن زنكى؛ وأخذ في وصفه بكلامه المسجوع فقال: كان ملك بلاد الشام ومالكها، والذي بيده ممالكها، العادل نور الدين، أعف الملوك وأتقاهم وأثقبهم رأيا وأنقاهم؛ وأعدلهم وأعبدهم، وأزهدهم وأجهدهم؛ وأظهرهم وأطهرهم، وأقواهم؛ وأقدرهم؛ وأصلحهم عملا، وأنجحهم أملا! وأرجحهم رأياً، وأوضحهم آيا؛ وأصدقهم قولا! وأقصدهم طولا؛ وكان عصره فاصلا، ونصره واصلا وحكه عادلا، وفضله شاملا؛ وزمانه طيبا، وإحسانه صيباً؛ والقلو بمهابته ومحبته متلية والنفوس بعاطفته وعارفته متملية؛ وأمور مقتلبة، وأوامره ممتملة؛ وجده منزه عن الهزل ونوابهفي أمن العزل؛ ودولته مأمونه، وروضته مصوبة؛ والرياسة كاملة، والسياسة شاملة؛ والزيادة زائدة، والسعادة مساعدة؛ والعيشة ناضرة، والشيعة ناصرة. والإنصاف ضاف، والإسعاف عاف؛ وأزر الدين قوى، وظمأ الإسلام روى، وزند النجح ورى؛ والشرع مشروع، والحكم مسموع؛ والعدل مُولى والظلم معزول، والتوحيد منصور والشرك مخذول؛ وللتقى شروق، وما للفسوق سوق؛ وهو الذي أعاد رونق الإسلام، إلى بلاد الشام؛ وقد غلب الكفر، وبلغ الضر؛ فاستفتح معاقلها، واستخلص عقائلها؛ وأشاع بها شعار الشرع في جميع الحل والعقد، والإبرام والنفض، والبسط والقبض، والوضع والرفع. وكانت للفرنج في أيام غيره على بلاد الإسلام بالشام قطائع فقطعها، وعفى رسومها ومنعها؛ ونصره الله عليهم مرارا حتى أسر ملوكهم، وبدد سلوكهم؛ وصان الثغور منهم، وحماها عنهم وأحيا معالم الدين الدوارس وبنى للامة المدارس؛ وأنشأ الخانقاهات للصوفية، وكثرها في كل بلاد وكثر وقوفها، وقرر معروفها، وأدنى للوافدين من جنان جنابه قطوفها؛ وأجد الأسوار والخنادق، وأنمى المرافق، وحمى الحقائق؛ وأمر في الطرقات ببناء الربط والخاتات؛ وضاقت ضيوف الفضائل، وفاضت فيوض الأفاضل؛ وهو الذي فتح مصر وأعمالها، وأنشأ دولتها ورجالها.
ثم ذكر العماد في أثناء حوادث سنة تسع وستين، وهي السنة التي توفى فيها نور الدين، قال: وفي هذه السنة أكثر نور الدين من الأوقاف والصدقات وعمارة المساجد المهجورة، وتعفية آثارل الآثام، وإسقاط كل ما يدخل في شبهة الحرام، فما أبق سوى الجزية والخراج، وما تحصل من قسمة الغلات على قويم المنهاج. قال وأمرني بكتابة مناشير لجميع أهل البلاد فكتب أكثر من ألف منشور؛ وحسبنا ما تصدق به على الفقراء في تلك الأشهر فذلك على ثلاثين ألف دينار. وكانت عادته في الصدقة أن يحضر جماعة من أماثل البلد من كل محله، و يسألهم عمن يعرفن في جوارهم من أهل الحاجة، ثم يصرف إليهم صدقاتهم. وكان برسم نفقة الخاصة في كل شهر من جزية أهل للذمة مبلغ ألفى قرطيس، يصرفه في كسوته ونفقته وحوائجه المهة، حتى أجرة خياطه، وجامكية طباخه، ويستفضل منه ما يتصدق به أخر الشهر. واما ما كان يهدي إليه من هدايا الملوك وغيرهم فإنه كان لا يتصرف في شيء منه، لا قليل ولا كثير، إذا اجتمع يخرجه إلى مجلس القاضي يحصل ثمنه، ويصرف في عمارة المساجد المهجورة. وتقدم بإحصاء ما في محال دمشق فاناف على مائة مسجد، فأمر بعمارة ذلك كله وعين له وقوفاً. قال: ولو اشتغلت بذكر وقوفه وصدقاته في كل بلد لطال الكتاب ولم يبلغ إلى أمد. أبيته الدالة على خلوص نيته تغنى عن خبرها بالعيان، ويكفي أسوار البلدان عن الرابط المدارس على اختلاف المذاهب واختلاف المواهب، وفي شرح طوله طول، وعمله لله مبرور مقبول. وواظب على عقد مجالس الوعاظ، ونصب الكرسي لهم في القلعة له للإنذار والاتعاط، وأكبرهم الفقيه قطب الدين النيسابوري، وهو مشغوف ببركة أنفاسه، واغتناًم كلامه واقتباسه. ووفد من بغداد ابن الشيخ أبي النجيب الأكبر، وبسط له في كل أسبوع المنبر، وشاقه وعظه، وراقه معناه ولفظه. وكذلك وفد إليه من أصبهان الفقيه شرف الدين عبد المؤمن بن شَوَرْوَه، وما أثمن تلك الأيام وابرك تلك الشتوه.

فال: ولما أسقط نور الدين الجهات المحظورة، والشبه المحذوره، عزل الشحن، وصرف عن الرعية بصرفهم المحن، وقال للقاضي الدين ابن الشهرزوري: انظر أنت في ذلك واحمل أمور الناس على الشريعة. قال: ولم يكن لمال المواريث الحشرية حاصل، ولا الديوانه طائل، فجعل نور الدين ثلث ما يحصل فيه لكمال الدين الحاكم، فوفره نوابه وكثروه، وما كان نور الدين يحاسب القاضي على شيء من الوقوف، ويقول: أنا قلدته على أن يتصرف بالمعروف؛ ومال من مصارفها وشروط واقفها يأمره بصرفه في بناء الأسوار وحفظ الثغور، وكانت دولته نافذة الأوامر منتظمة الأمور.
قلت: وحكى الشيخ أبو البركات الحسن بن هبة لله أنه حضر مع عمه لحالفظ أبي القاسم رحمه الله مجلس نور الدين لسماع شيء من الحديث، فمر في أثناء الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج متقلداً سيفا؛ فاستفاد نور الدين أمراً لم يكن يعرفه وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتقلد السيف! يشير إلى التعجب من عادة الجند، إذ هم على خلاف ذلك يربطونه بأوساطهم. قال: فلما كان من الغد مررنا تحت القلعة والناس مجتمعون ينتظرون ركوب السلطان. فوفقنا ننظر إليه معهم، فخرج نور الدين رحمه الله من القلعة وهو متقلد السيف وجميع عسكره كذلك. فرحمة الله على الملك الذي لم يفرط في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الحالة، لما بلغته رجع بنفسه ورد جنده عن عوائدهم، اتباعا لما بلغه عن نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فما الظن بغير ذلك من السنن. ولقد بلغني أنه أمر بإسقاط ألقابه في الدعاء على المنابر، ورأى له وزيره موفق الدين خالد بن القيسراني الشاعر في منامه أنه يغسل ثيابه، وقض ذلك عليه. ففكر ساعة، ثم أمره بكتابه إسقاط المكوس، وقال: هذا تفسير منامك، وكان في تهجده يقول: ارحم العشار المكاس و بعد أن أبطل ذلك استعجال من الناس في حل وقال: والله ما أخرجناها إلا في جهاد عدو الإسلام، يعتذر بذلك إليه عن أخذها منهم. وعلى الجملة كان نور الدين رحمه الله تعالى فردا في زمانه من بين سائر الملوك. ولو لم يكن إلا استماعه للموعظة وانقياده لها، وإن اشتملت على ألفاظ قد أغلظ له فيها . قرأت في تاريخ إربل لشرف الدين ابن المستوفى رحمة الله: قال المنتخب الواعظ، هو أبو عثمان المنتخب بن أبي محمد البحتري الواسطي، ورد إبرل ووعظ بها وكان له قبول عظيم، وسافر إلى نور الدين محمود بن زنكى ابن آق سنقر إلى الشام بسبب الغزاة، وأنفذ له نور الدين جملة من مال فلم يقبلها وردها عليه؛ أنشدني له يحيى بن محمد بن صدقة قصيدة عملها في نور الدين وحلف أنه سمعها من لفظه:
مثل وقوفك أيها المغرور ... يوم القيامة والسماء تمور
إن قيل نور الدين رحت مسلما ... فأحذر بان تبقى ومالك نور
أنهيت عن شرب الخمور، وأنت من ... كأس المظالم طافح مخمور
عطلت كاسات المدام تعففا ... وعليك كاسات الحرام تدور
ماذا تقول إذا نقلت إلى البلى ... فردا، وجاءك منكر ونكير
وتعلقت فيك الخصوم وأنت في ... يوم الحساب مُسَحَّبٌ مجرور
وتفرقت عنك الجنود وأنت في ضيق اللَّحود مُوَسَّدٌ مقبور
ووددت أنك ما وليت ولاية ... يوماً، ولا قال الأنامُ: أمير
وبقيت بعد العزّ رَهْن حُفيرة في ... عالم الموتى وأنت حقير
وحشرت عريانا،حزينا،باكيا ... قلقا، ومالَكَ في الأنام مجير
أرضيت أن تحياً وقلبك دارس ... عافي الخراب وجسسمُك المعمور
أرضيت أن يحظى سواك بقربه ... أبداً وأنت مبعد مهجور
مهد لنفسك حجة تنجو بها ... يوم المعاد لعلك لمعذور
قلت: ولعل هذه الأبيات كانت من أقوى الأسباب المحركة إلى إبطال تلك المظالم والخلاص من تلك المآثم. رضي الله عن الواعظ والمتعظ بسببه، ووفق من رام الاقتداء به.

ونقلت من خط الصاحب العالم كمال الدين أبي القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة في كتاب تاريخ حلب الذي صنفه، وسمعت من لفظه، أن نور الدين رحمه الله كان مع أبيه بجلب، فلما حاصر أبوه قلعة جعبر وقتل عليها قصد حلب وصعد قلعتها وملكها في شهر ربيع الأول منة إحدى وأربعين وخمسمائة، وأحسن إلى الرعية و بث العدل ورفع الجور، وأبطل البدع واشتغل بالغزو، وفتح قلاعا كثيرة من عمل حلب كانت بيد الفرنج، وحدث بحلب ودمشق عن جماعة من العلماء أجازوا له، منهم أبو عبد الله بن رفاعة بن غدير السعدي المعرى، روى عنه جماعة من شيوخنا مثل أبي الفضل أحمد وأبى البركات الحسن وأبى منصور عبد الرحمن بن أبى عبد الله محمد بن الحسن بن هبه الله الشافعي. قال: ووقفت على رقعة بخط الوزير خالد بن محمد بن نصر ابن القيسراني كتبها إلى نور الدين، وجوابها من نور الدين على رأس الورقة وبين السطور؛ فنقلت جميع ما فيها من خطبهما. قال: وكان رحمه الله كتب رقعة يطلب من ابن القيسراني أن يكتب له صورة مايدعى له به على المنابر حتى لا يقول الخطيب ما ليس فيه، ويصونه عن الكذب وعما هو مخالف لحلله. ونسخة الورقة بخط خالد: " أعلى الله قدر المولى في الدارين، و بلغه آماله في نفسه وذريته، وختم له بخير في العاجلة والآجلة، بمنه وجوده، وفضله وحمده. وقف المملوك على الرقعة، وتضاعف دعاؤه وابتهاله إلى الله تعالى بأن يرضى عنه وعن والديه، وأن يسهل له السلوك إلى رضاه والقرب منه والفوز عنده، إنه على كل شيء قدير وقد رأى المملوك ما يعرضه على العلم الأشرف، زاده الله شرفا، وهو أن يذكر الخطيب على المنبر إذا أراد الدعاء للمولى: اللهم أصلح عبدك الفقير إلى رحمتك، الخاضع لهيبتك، المعتصم بقوتك، المجاهد في سبيلك، المرابط لأعداء دينك، أبا القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر ناصر أمير المؤمنين. فإن هذا جميعه لا يدخله كذب ولا تزيد والرأى أعلى وأسمى شاء الله تعالى " . فكتب نور الدين على رأس الرقعة بخطه ما هذا صورته: " مقصودى ألاّ بكذب على المنير، أنا بخلاف كل ما يقال. أفرح بماً لا أعمل، قله عقل عظيم، الذي كتبت جيد هو، اكتب به نسح حتى نسيره إلى جميع البلاد " . وكتب في آخر الرقعة: " ثم يبدءوا بالدعاء: اللهم أره الحق حقاً، اللهم أسعده، اللهم انصره، الله وفقه، من هذا الجنس " قال: وحدثني والدي قال: استدعانا نور للذين أنا وعمك أبو غانم شرف الدين ابن أبي عصرون إلى الميدان الأخضر وأشهدنا عليه بوقف حوانيت على سور حمص. فلما شهدنا عليه التفت علينا وقال: بالله انظروا أي شيء علمتموه من أبواب البر والخير، دلونا عليه وأشركونا في الثواب. فقال شرف الدين ابن أبي عصرون: والله ما ترك المولى شيئا من أبواب البر إلا وقد فعله ولم يترك لأحد بعده فعل خير إلا وقد سبقه إليه. وقال: قال لي والدي: دخل في أيام نور الدين إلى حلب تاجر موسر فمات بها وخلف ولداً صغيرا ومالاً كثيرا فكتب بعض من بحلب إلى نور الدين يذكر له أنه قد مات ههنا رجل تاجر موسر وخلف عشرين ألف دينار أو فوقها وله ولد عمره عشر سنين. وحسن له أبن يرفع المال إلى الخزانة إلى أن يكبر الصغير ويرضى منه بشيء ويمسك الباقي للخزانة. فكتب على رقعته : أما الميت فرخمه الله، وأما الولد فأنشاه الله، وأما المال فثمره الله، وأما الساعي فعلنه الله. وبلغتني هذه الحكاية عن غير نور الدين أيضاً. وحدثني الحاج عمر بن سنقر عتيق شاذ بخت النوري قال: سمعت الطواشي شاذ بخت الخادم يحكى لنا قال: كنت يوما أنا وسنقرجا واقفين على رأس الدين وقد صلى المغرب وجلس وهو يفكر فكراً عظيما، وجعل ينكث بأصبعه في الأرض. فتعجبنا من فكره وقلنا تُرى في أي شيئ يفكر، في عائلته أو في وفاء دينه؟ فكأنه فطن بنا فرفع رأسه وقال: ما تقولان؟ فقلنا: ما قبلنا شيئاً. فقال بحياتي قولا لي. فقلنا عجبنا من إفراط مولانا في الفكر وقلنا يفكر في عائلته أو في نفسه فقال. والله إنني أفكر في وال وليته أمرا من أمور المسلمين فلم يعدل فيهم، أو فيمن يظلم المسلمين من أصحابي وأعواني، وأخاف المطالبة بذلك. فبالله عليكم. وإلا فخبري عليكم حرام لا تريان قصة ترفع إلى أو تعلمان مظلمة إلا وأعلماني بها وارفعاها إلى.

وسمعت قاضي القضاة بهاء الدين أبا المحاسن يوسف بن رافع بن تميم قال: كان نور الدين ينفذ كل سنة في شهر رمضان يطلب من الشيخ عمر الملأ شيئاً يفطر عليه، فكان ينفذ إليه الأكياس فيها الفتيت والرقاق وغير ذلك، فكان نور الدين يفطر عليه. وكان إذا قدم الموصل لا يأكل إلا من طعام الشيخ عمر الملأ. قال: وكان نور الدين لما صارت له الموصل قد أمر كمشتكين شحنة الموصل ألا يعمل شيئاً بالشرع إذا أمره القاضي له.، وألا يعمل القاضي والنواب كلهم شيئاً إلا بأمر الشيخ عمر الملأ. قال: فكان لا يعمل بالسياسة، و بطلت الشحنكية. فجاء أكابر الدولة وقالوا لكمشتكين قد كثر الدعار وأرباب الفساد،ولا يجئ من هذا شيء إلا بالقتل والصلب؛ فلو كتبت إلى نور الدين وقلت له في ذلك فقال لهم أنا لا أكتب إليه في هذا المعنى ولا أجسر على ذلك؛ فقولوا للشيخ عمر يكتب إليه فحضروا عنده وذكروا له ذلك، فكتب إلى نور الدين وقال له: إن الدعار والمفسدين وقطاًع الطريق قد كثروا ويحتاج إلى نوع سياسة، فمثل هذا لا يجئ إلا بقتل وصلب وضرب، وإذا أخذ مال إنسان في البرية من يشهد له؟ قال: فقلب نور الدين كتابه وكتب على ظهره: إن الله تعالى خلق الخلق وهو أعلم بما يصلحهم، وإن مصلحتهم تحصل فيما شرعه على وجه الكمال فيها ولو علم أن على الشريعة زيادة في المصلحة لشرعه فما لنا حاجة إلى زيادة على ما شرعه الله تعالى. قال: فجمع الشيخ عمر الملأ أهل الموصل وأقرأهم الكتاب وقال: انظر وافي كتاب الزاهد إلى الملك وكتاب الملك إلى الزاهد! وسمعت صقر المعدل يقول: سمعت مقلداً - يعني الدولعي - يقول: لما ملت الحافظ المرادي، وكنا جماعة الفقهاء قسمين: العرب والأكراد؛ فمنا من مال إلى المذهب، وأردنا أن يستدعي الشيخ شرف الدين ابن أبى عصرون، وكان بالموصل، ومنا من مال إلى علم النظر والخلاف، وأراد أن يستدعي القطب النيسابوري، وكان قد جاء وزار البيت المقدس ثم عاد إلى بلاد العجم؛ فوقع بيننا كلام بسبب ذلك ووقعت فتنة بين الفقهاء. فسمع نور الدين بذلك فاستدعى جماعة الفقهاء إلى القلعة بحلب وخرج إليهم مجد الدين - يعني ابن الداية - عن لسانه وقال: نحن ما أردنا ببناء المدارس إلا نشر العلم ودحض للبدع من هذه البلدة و إظهار الدين، وهذا الذي جرى بينكم لا يحسن ولا يليق. وقد قال المولى نور الدين: نحن نرضى الطائفتين ونستدعي شرف الدين ابن أبى عصرون وقطب الدين النيسابوري. فاستدعاهما جميعاً، وولى مدرسة ابن أبى عصرون لشرف الدين ومدرسة النفرى لقطب الدين قال وعلقت أيضاً من خط ففيه كان معيدا بالنظامية يقال له أبو الفتح بنجه بن أبى الحسن بنجه الأشترى، وكان ورد دمشق وجمع لنور الدين سيرة مختصرة، قال كان نور الدين يقعد في الأسبوع أربعة أيام أو خمسة أيام في دار العدل للنظر في أمور الرعية وكشف الظلامة، لا يطلب بذلك درهما ولا ديناراً ولا زيادة ترجع إلى خزانته، و إنما يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله وطلبا للثواب والزلفى في الآخرة، و يأمر بحضور العلماء والفقهاء، و يأمر بإزالة الحاجب والبواب حتى يصل إليه الضعيف والقوي، والفقير والغني، ويكلمهم بأحسن الكلام، و يستفهم منهم بأبلغ النظام، حتى لا يطمع الغني في دفع الفقير بالمال، ولا القوي في دفع الضعيف بالقال. و يحضر في مجلسه العجوز الضعيفة التي لا تقدر على الوصول إلى خصمها ولا المكالمة معه فيأمر بمساواتها له فتغلب خصمها طمعا في عدله، ويعجز الخصم عن دفعها خوفا من عدله. فيظهر الحق عنده فيجرى الله على لسانه ما هو موافق للشريعة، و يسأل العلماء والفقهاء عما يشكل عليه من الأمور الغامضة فلا يجرى في مجلسه إلا محض الشريعة.

قال: وأما زمانه فهو مصروف إلى مصالح الناس، و النظر في أمور الرعية، والشفقة عليهم. وأما فكره ففي إظهار شعار الإسلام وتأسيس قاعدة الدين من بناء الربط والمساجد حتى إن بلاد الشام كانت خالية من العلم وأهله، وفي زمانه صارت مقرا للعلماء والفقهاء والصوفية، لصرف همته إلى بناء للدارس والربط وترتيب أمورهم، والناس آمنون على أموالهم وأنفسهم. ولو لم يكن من هذه الخصال إلا ما علم منه وشاع أنه إذا وعد وفي، وإذا أوعد عفا؛ وإذا تحدث بشيء يقف عليه ولا يخالف قوله، ولا يرجع عن لفظه ومنطقه، لكفى ولا يجرى في مجلسه الفسق والفجور، والشتم والغيبة، والقدح في الناس والكلام في أعراضهم، كما يجرى في مجالس سائر الملوك؛ ولا يطمع في أخذ أموال الناس، ولا يرضى بأن يأخذ أحد من أموال الشريعة شيئاً بغير حق.
قال: وبلغنا بأخبار التواتر عن جماعة أعتمد على قولهم أنه أكثر الليالي يصلي ويناجي ربه مقبلا بوجهه عليه، و يؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها بتمام شرائطها وأركابها، وركوعها وسجودها. قال: وبلغنا عن جماعة من الصوفية الذين يعتمد على أقوالهم ممن دخلوا ديار القدس للزيارة حكاية عن الكفار أنهم يقولون: ابن القسيم له مع الله سر، فإنه ما يظفر علينا بكثرة جنده وعسكره، وإنما يظفر علينا بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يصلي بالليل و يرفع يده إلى الله و يدعو، والله سبحانه وتعالى يستجيب دعاًءه ويعطيه سؤله، وما يرد يده خائبة، فيظفر عليناً. قال: فهذا كلام الكفار في حقه قال: وحدثنا الشيخ داود القدسي خادم قبر شعيب، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، قال: حضرت في دار العدل في شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين؛ فقام رجل وادعى على نور الدين الملك العادل أن أباه أخذ من ماله شيئاً بغير حق، قال: وأنا مطالب لك بذلك. فقال نور الدين أنا ما أعلم ذلك، فإن كان لك بينة تشهد بذلك فهاتها وأنا أرد إليك ما يخصني، فإني ما ورثت جميع ماله، كان هناك وارث غيري. فمضى الرجل ليحضر البينة فقلت في نفسي هذا هو العدل. قال: وحضر رجل زاهد فيه سمة الخير معروف بالسداد والصلاح، فسألت عنه، فقالوا: أخو الشيخ أبى البيان. وكان قد أودع عند أخيه أبى الببان وديعة، وقد توفي، فادعى المودع على هذا الشيخ أنه يعلم بالوديعة، وطاًلبه. بالرد عليه؛ فأنكر هذا الرجل سلمه بالوديعة؛ فأوجب عليه القاضي كمال الدين حكم الشرع أن يحلف أنه لا علم له بهذه الوديعة، فحلف على ذلك. فجعل المودع يشنع عليه يقول: إنه حلف كاذباً، ويتكلم في عرضه، ويقول في حقه من التنمس وغيره. فحضر عند الملك العادل شاكياً منه وذاكرا سيرته وطريقته، ومن الذي يقدر أن يقول في حق هذا؛ و يتعرض بالتماسه من الملك العادل التقدم بإحضاره والإنكار عليه فيما يقول في حقه. فلما فرغ من الكلام ورمى ما كان في جعبته من دعوى للحقيقة والطريقة، وكان حاصله التماس الإنكار عليه. فقال الملك! العادل أليس أن الله تعالى يقول في كتابه: (وَإِذَا خَاطَبَهُم الَجْاهِلُونَ قالوا سَلاَماً). فإذا كان هو يجهل عليك ويقول في حقك بالجهل مالا يجوز فيجب عليك ألا تعمل معه مثل معاملته فتكون مثله، فكأنك قابلت الإساءة بالإساءة، ومن حقك أن تقابل الإساءة بالإحسان. فقلت في نفسي: الحق ما قال الملك العادل؛ إما قرأ هذا في كتب التفاسير فثبت في قلبه، أو أجراه الله على لسانه وأنطقه به. قال: وحضر جماعة من التجار وشكوا أن القراطيس كان ستون منها بدينار، فصار سبعة وستون بدينار، وتزيد وتنقص، فيخسرون. فسأل الملك العادل عن كيفية الحال فذكروا أن عقد المعاملة على اسم الدينار، ولا يرى الدينار في الوسط، وإنما يعدون القراطيس بالسعر، تارة ستين بدينار، وتارة سبعة وستين بدينار وأشار كل واحد من الحاضرين على نور الدين أن يضرب الدينار باسمه وتكون المعاملة بالدنانير الملكية، وتبطل القراطيس بالكلية. فسكت ساعة وقال: إذا ضربت الدينار وأبطلت المعاملة بالقراطيس فكأني خربت بيوت الرعية، فان كل واحد من السوقة عند عشرة آلاف وعشرون ألف قرطاس. " إيش يعمل به " فيكون سيبا لخراب بيته. قال: فأي شفقة تكون أعظم من هذا على الرعية!

قال: وحضر صبي وبكى عند الملك العادل وذكر أن أباه محبوس على أجرة حجرة من حجر الوقف. فسأل عن حاله. فقالوا: هذا الصبي ابن الشيخ أبى سعد الصوفي، وهو رجل زاهد قاعد في حجرة الوقف وليس له قدرة على الأجرة؛ وقد حبسه وكيل الوقف لأنه اجتمع عليه أجرة سنة. قال الملك العادل كم أجرة السنة؟ فقالوا: مائة وخمسون قرطاسا، وذكروا سيرته وطريقته وفقره. فرق له وأنعم عليه وقال: نحن نعطيه كل سنة هذا القدر ليصرفه إلى الأجرة ويقعد فيها. تقدم بذلك وبإخراجه من الحبس، فوصل إلى قلب كل واحد من الحاضرين الفرح حتى كأن الإنعام كان في حقه. أخبرنا افتخار الدين عبد المطلب ابن الفضل بن عبد المطلب الهاشمي قال: كان عند القاضي تاج الدين عبد الغفور بن لقمان الكردي قاضي حلب غلام قد جعله لمجلس الحكم يدعي سويداً يحضر الخصوم إلى مجلس الحكم. فحضر بعض التجار وادعى أن له على نور الدين دعوى. فقال الكردي لسويد المذكور: امض إلى نور الدين وادعه إلى مجلس الحكم وعرفه أنه حضر شخص يطلب حضوره؛ وكان نور الدين في الميدان، فجاء سويد إلى باب الميدان، فخرج إسماعيل الخازندار فوجده، فتقدم سويد إليه وقال: قد سيرني تاج الدين القاضي وذكر أنه حضر تاجر وذكر أن له دعوى على المولى نور الدين؛ وقد أنفذني تاًج الدين وقال لي كذا وكذا. فضحك إسماعيل الخازندار ودخل على نور الدين ضاحكا وقال له مستهزئا: يقوم المولى إلى مجلس الحكم فأنكر نور الدين على إسماعيل استهزاءه وقال: تستهزئ بطلبي إلى مجلس الحكم! وقال نور الدين: يحضر فرسي حتى نركب إليه، السمع والطاعة. قال الله تعالى (إنّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنينَ إذا دُعُوا إلىَ الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وأَطَعْنَا) ثم نهض وركب حتى دخل باب المدينة، فاستدعى سويدا وقال " امض إلى القاضي تاج الذين وسلم عليه وقل له: أني جئت إلى ههنا امتثالا لأمر الشرع، وأحتاج في الحضور الى مجلسه إلى سلوك هذه الأزقة وفيها الأطيان؛ وهذا وكيلي يسمع الدعوى وإن توجهت على يمين أحضر إن شاء الله قال فحضر الوكيل وسمع الدعوى.، وتوجهت اليمين؛ فقال الكردي: قد توجهت الدين فليحضر. فلما بلع نور الدين ذلك وعلم أنه لا مندوحة عن حضور مجلسه لليمين استدعى ذلك التاجر وأصلح الأمر فيما بينه وبينه وأرضاه.

سمعت قاضي القضاة بهاء الدين يقول: حكى السلطان الملك الناصر صلاح الدين قال: أرسلني الملك العادل نور الدين إلى عمي أسد الدين شيركوه، وكان لا يفعل شيئا إلا بمشورته، فقال: امض وقل لأسد الدين قد خطر في بالي أن أبطل هذه الضمانات بأسرها والمؤن والمكوس، وخذ رأيه في ذلك. قال: فجئت إليه وأنهيت إليه ما قال لي. فقال: امض وقل له يا مولانا إذا فعلت ذلك فالأجناد الذين أرزاقهم على هذه الجهات من أين تعطيهم، وتحتاج إليهم للغزاة وخرج العساكر. فقال السلطان صلاح الدين: فقلت لعمي هذا أمر قد ألهمه الله إياه فساعده عليه. فصاح في وقال: امض إليه، وقل له ما أقول لك فعدت إلى نور الدين فأنهيت إليه ما قال لي عمي، فقال امض إليه وقل له إذا كنا نغزو من هذه الجهات نتركها ونقعد ولا تخرج. قال فعدت إلى عمي وقلت له ما قال. فقال قل له: إن تركوك تقعد فجيد هو. فراجعته في ألا يثبط ! في ذلك. فصاح في وقال: امض إليه وقل له ما أقول لك. قال فجئت إليه وقالت له ذلك فترك ذلك مدة ثم أمضى ما كان عزم عليه. قال لي صقر بن يحيى: بلغني أن موفق الدين خالدا رأى في النوم كأن نور الدين دفع إليه ثيابه ليغسلها، فقص منامه على نور الدين، فتمعر وجه نور الدين؛ فخجل موفق الذين وبقى أياما على غاية من الخجل فاستدعاه يوما نور الدين وقال: تعال، قد آن لك أن تغسل ثيابي اقعد واكتب بإطلاق المؤن والمكوس والأعشار واكتب للمسلمين: إنني قد رفعت عنكم مارفعه الله عنكم وأثبت عليكم ما أثبته الله عليكم. قال فكتب موفق الدين توقيعا. سمعت خليفة بن سليمان بن خليفة الفقيه يقول: سمعت أبي يقول لما كسر نور الدين، يعني كسرة البقيعة، تكلم البرهان البلخي فقال: أتريدون أن تنصروا وفي عسكركم الخمور والطبول والزمور! كَلاَّ وكَلا، مَامع هذا. فلما سمعه نور الدين قام ونزع عنه ثيابه تلك، وعاهد الله تعالى على التوبة وشرع في إبطال المكوس، إلى أن خرج في نوبة حارم وكسر الإفرنج. وسمعت صديقنا شمس الدين إسماعيل بن سودكين بن عبد الله النوري، وكان أبوه أحد مماليك نور الدين وعتيقه، يقول: سمعت والدي يقول: كان نور الدين محمود رحمه الله يلبس في الليل مسحا ويقوم يصلى فيه قطعة من الليل. قال: وكان يرفع يديه إلى السماء ويبكى ويتضرع ويقول: ارحم العشار المكاس. قال لي قاضي القضاة بهاء الدين: سير نور الدين إلى بغداد كتاباً يعلم الخليفة بما أطلق وبمقدار ما أطلق، و يسأله أن يتقدم إلى الوعاظ بان يستجعلوا من التجار ومن جميع المسلمين له في حل مما كان قد وصل إليه، يعنى من أموالهم فتقدم بذلك وجعل الوعاظ على المنابر ينادون بذلك. حدثني رضى الدين أبو سالم عبد المنعم بن المنذر أن نور الدين حين خرج لأخذ شيزر خرج أبو غانم بن المنذر صحبته، فأمره نور الدين رحمه الله بكتابة منشور بإطلاق المظالم بحلب ودمشق وحمص وحران وسنجار والرحبة وعزاز وتل باشر وعداد العرب فكتب عنه توقيعا نسخته: " بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما تقرب به إلى الله تعالى سبحانه صافحا وأطلقه مسامحاً لمن علم ضعفه من الرعايا، رعاهم الله، لضعفهم عن عمارة ما أخربته أيدي الكفار،.أبادهم الله تعالى، عند استيلائهم على البلاد وظهور كلمتهم في العباد، رأفة بالمسلمين المثاغرين، ولطفا بالضعفاء المرابطين، الذين خصهم الله سبحانه بفضيلة الجهاد، واستمحنهم بمجاورة أهل العناد اختبارا لصبرهم، وإعظاما لأجرهم، فصبروا احتسابا، وأجزل لله لهم أجرا وثوابا، إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب؛ وأعاد عليهم ما اغتصبوا عليه من أملاكهم التي أفاء الله عليهم بها من الفتوح العمرية؛ وأقرها في الدولة الإسلامية بعد ما طرأ عليها من الظلمة المتقدمين، واسترجعه بسيفه من الكفرة الملاعين، فطمس عنهم بذلك معالم الجور، وهدم أركان التعدي، وأقر الحق مقره. لقوله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثاَلهاَ)، (واللهُ يُضاَعِفُ لُمِنَ يَشَاءُ). ثم لما أعانه الله بعونه وأيده بنصره، وقمع به عادية الكفر، وأظهر بهمته شعائر الإسلام وأظفره بالفئة الطاغية، وأنه من ملوكها الباغية فجعلهم بين قتيل غير مُقاد، وهارب ممنوع الرقاد، (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِين في الأصْفَادِ، هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنن أو أَمْسِكْ بغَيْرِ حِسَاب، وَإن لَهُ عِنْدَنا لَزُلفى وَحُسْن

مآب).علم أن الدنيا فانية، فاستخدمها للآخرة الباقية، واستبقى ملكه الزائل بان قدمه أمامه و جعله ذخرا للمعاد، فالتقوى مادة دارة إذا انقطعت المواد، وجاًدة واضحة حين تلتبس الجواد (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ). فصفح لكافة المسافرين وجميع المسلمين بالضرائب والمكوس وأسقطها من دواوينه، وحرمها على كل متطاول إليها، ومتهافت عليها، تجنبا لإثمها واكتسابا لثوابها. فكان مبلغ ما سامح به وأطلقه وأنفذ الأمر فيه، اتباعا لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، في كل سنة من العين مائة ألف وستة وخمسون ألف دينار. جهة ذلك حلب خمسون ألف دينار، عزاز، عن مكس جددته الفرنج، خذلهم الله، على المسافرين، عشرة آلاف دينار، تل باشر واحد وعشرون ألف دينار، المعرة ثلاثة آلاف دينار، دمشق المحروسة، لما استنجد به أهلها واستصرغ من فيها خوفاً على أنفسهم وأموالهم من القشة العدو، وضعفهم عن مقاومة ما كان يؤخذ منهم في كل سنة، وهو رسم يسمونه القشة، عشرون ألف دينار، حمص ستة وعشرون ألف دينار، حران خمسة آلاف دينار، سنجار ألف دينار، الرحبة عبرة آلاف دينار، عداد العرب عشرة آلاف دينار. وما وقفه وتصدق به وأجراه في سبل الخيرات ووجوه البر والصدقات تقدير ثمنه مائتا ألف دينار، وتقدير الحاصل من ارتفاع في كل سنة ثلاثون ألف دينار. من ذلك ما وقفه على المدارس الحنفية والشافية والمالكية والحنبلية وأتمها ومدرسيها وفقهائها، " وما وقفه على آدر الصوفية والربط والجسور والبيمارستانات والجوامع والمساجد والأسوار " وما وقفه على السبيل في طريق الحجاز، وما وقفه على فكاك الأسرى و تعليم الأيتام ومقر الغرباء وفقراء المسلمين، وما وقفه على الأشراف العلويين والعباسيين، وما ملكه لجماعة من الأولياء والغزاة والمجاهدين. هذا جميعه سوى ما أنعم به على أهل الثغور حرمها الله تعالى من أملاكهم التي تقدم ذكرها فإنه يضاهي هذا المبلغ وزيادة عليه، جعل ذلك ذريعة عند الله تعالى وتقربا إليه، مضافا إلى ما أنفقه في الغزاة والجهاد، واستئصال شافة المكفر والعناد، من خزانته المعمورة، وأمواله الموروثة المذخورة، طلبا لما عند الله، والله عنده حسن الثواب. فالواجب على كل إمام عادل وسلطان قادر أن يُمِدَّه ويَوَدَّء، و يشد عضده، يقوي عزمه، وينفذ حكمه. وعلى كل مسلم أن يواصله والدعاء، آناء الليل وأطراف النهار. وكتب خادم دولته وغذى نعمته عبد الرحمن بن عبد المنعم بن رضوان بن عبد الواحد بن محمد بن المنذر الحلبي، غفر الله له ورحمه ورضي عنه، إلى كل من يصل إليه من أئمة الدين وفقهاء المسلمين،وأصحاب الزوايا المتعبدين، وكافة. التجار والمسافرين، أحسن لله توفيقهم، وسدد إلى الخير تفويقهم، ليشعروا بذلك من حضرهم من التجار، والمترددين إليهم من الشفار، ليعرفوا قدر ما أنعم الله به عليه وعليهم، (وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ)، ويمدوه بأدعيتهم يبرئوا ذمته مما سبق من أخذ مؤنتهم، فإنه لم يصرف ذلك إلا في وجه بر، وتجهيز جيش، ومعونة مجاهد، وردع كافر ومعاند، فهم شركاؤه في الثواب. قال لي رضى الدين أبو سالم ابن المنذر: فلما وقف نور الدين على قوله: ويبرئوا ذمته مما سبق. استحسن ذلك كثيراً ووعده بإقطاع حسن، واتفق موته بعد ذلك. أن الدنيا فانية، فاستخدمها للآخرة الباقية، واستبقى ملكه الزائل بان قدمه أمامه و جعله ذخرا للمعاد، فالتقوى مادة دارة إذا انقطعت المواد، وجاًدة واضحة حين تلتبس الجواد (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ). فصفح لكافة المسافرين وجميع المسلمين بالضرائب والمكوس وأسقطها من دواوينه، وحرمها على كل متطاول إليها، ومتهافت عليها، تجنبا لإثمها واكتسابا لثوابها. فكان مبلغ ما سامح به وأطلقه وأنفذ الأمر فيه، اتباعا لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، في كل سنة من العين مائة ألف وستة وخمسون ألف دينار. جهة ذلك حلب خمسون ألف دينار، عزاز، عن مكس جددته الفرنج، خذلهم الله، على المسافرين، عشرة آلاف دينار، تل باشر واحد وعشرون ألف دينار، المعرة ثلاثة آلاف دينار، دمشق المحروسة، لما استنجد به أهلها واستصرغ من فيها خوفاً على أنفسهم وأموالهم من القشة العدو، وضعفهم عن مقاومة ما كان يؤخذ منهم في كل سنة، وهو رسم يسمونه القشة، عشرون ألف دينار، حمص ستة وعشرون ألف دينار، حران خمسة آلاف دينار، سنجار ألف دينار، الرحبة عبرة آلاف دينار، عداد العرب عشرة آلاف دينار. وما وقفه وتصدق به وأجراه في سبل الخيرات ووجوه البر والصدقات تقدير ثمنه مائتا ألف دينار، وتقدير الحاصل من ارتفاع في كل سنة ثلاثون ألف دينار. من ذلك ما وقفه على المدارس الحنفية والشافية والمالكية والحنبلية وأتمها ومدرسيها وفقهائها، " وما وقفه على آدر الصوفية والربط والجسور والبيمارستانات والجوامع والمساجد والأسوار " وما وقفه على السبيل في طريق الحجاز، وما وقفه على فكاك الأسرى و تعليم الأيتام ومقر الغرباء وفقراء المسلمين، وما وقفه على الأشراف العلويين والعباسيين، وما ملكه لجماعة من الأولياء والغزاة والمجاهدين. هذا جميعه سوى ما أنعم به على أهل الثغور حرمها الله تعالى من أملاكهم التي تقدم ذكرها فإنه يضاهي هذا المبلغ وزيادة عليه، جعل ذلك ذريعة عند الله تعالى وتقربا إليه، مضافا إلى ما أنفقه في الغزاة والجهاد، واستئصال شافة المكفر والعناد، من خزانته المعمورة، وأمواله الموروثة المذخورة، طلبا لما عند الله، والله عنده حسن الثواب. فالواجب على كل إمام عادل وسلطان قادر أن يُمِدَّه ويَوَدَّء، و يشد عضده، يقوي عزمه، وينفذ حكمه. وعلى كل مسلم أن يواصله والدعاء، آناء الليل وأطراف النهار. وكتب خادم دولته وغذى نعمته عبد الرحمن بن عبد المنعم بن رضوان بن عبد الواحد بن محمد بن المنذر الحلبي، غفر الله له ورحمه ورضي عنه، إلى كل من يصل إليه من أئمة الدين وفقهاء المسلمين،وأصحاب الزوايا المتعبدين، وكافة. التجار والمسافرين، أحسن لله توفيقهم، وسدد إلى الخير تفويقهم، ليشعروا بذلك من حضرهم من التجار، والمترددين إليهم من الشفار، ليعرفوا قدر ما أنعم الله به عليه وعليهم، (وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ)، ويمدوه بأدعيتهم يبرئوا ذمته مما سبق من أخذ مؤنتهم، فإنه لم يصرف ذلك إلا في وجه بر، وتجهيز جيش، ومعونة مجاهد، وردع كافر ومعاند، فهم شركاؤه في الثواب. قال لي رضى الدين أبو سالم ابن المنذر: فلما وقف نور الدين على قوله: ويبرئوا ذمته مما سبق. استحسن ذلك كثيراً ووعده بإقطاع حسن، واتفق موته بعد ذلك.

قلت: ونقلت من خط الشيخ الأمين أبى القاسم عبد الرحمن بن الحسين بن الخضر ابن الحسين بن عبدان الأزدى الدمشقي: وقف المولى نور الدين بستان الميدن سوى الغيضة التي من قبليه بعد عمارته و إصلاح ما يحتاج إليه على تطييب المساجد التي يأتي ذكرها، وهي: جامع دمشق المحروسة، جامع قلعة دمشق، مدرسة الحنفية التي جددها نور الدين، مسجد ابن عطية داخل باب الجابية، مسجد ابن لبيد بالفسقار، مسجد سوق الرماحين؛ المسجد المعلق لسوق الصاغة، مسجد دار البطيخ المعلق، مسجد العباسي بسوق الأحد، مسجد جدده نور الدين جوار بيعة اليهود، جامع الصالحين بجبل قاسيون. يبتاع بذلك طيب وعود ويفرق على هذه الأماكن: النصف للجامع بدمشق والنصف الثاني ينقسم على أحد عشر جزءا، جزء ن للمدرسة وتسعة أجزاء لتسعة المساجد الباقية لكل مسجد جزء واحد؛ تطيب هذه الأماكن في الأوقات الشريفة ومواسم. الاجتماعات وليالي شهر رمضان والأعياد وأيام الجمع وقت عقد الجمعة في الجوامع، وليالي الجمعة والخميس والاثنين. ونقلت من خطه أيضاً أن نور الدين رحمه الله تعالى حضر عنده بقلعة دمشق يوم الخميس تاسع عشر صفر سنة أربع وخمسين وخمسمائة القاضي زكي الدين أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى القرشي والفقهاء الشيخ شرف الدين ابن أبى عصرون والخطيب عز الدين أبو البركات بن عبد، والإمام عز الدين أبو القاسم على بن الحسن بن الماسح الشافعيون، وشرف الدين أبو القاسم عبد الوهاب بن عيسى المالكي، وشرف الإسلام محمد بن عبد الوهاب الحنبلي ورضى الدين أبو غالب عبد المنعم بن محمد بن أسد التميمي رئيس دمشق، ونظام الدين أبو الكرام المحسن ابن أبى المضاء متولي الوزارة بدمشق، والأعيان من شهود العدالة بدمشق وهم: عبد الصمد بن تميم، وعبد الواحد بن هلال، والصائن أبو الحسين، وغيرهم. فسألهم نور الدين عن المضاف إلى أوقاف المسجد الجامع بدمشق من المصاغ التي ليست وقفا عليه، وأن يظهر كل واحد منهم ما يعلمه من ذلك ليعمل به ويقع الاعتماد عليه، وقال لهم: ليس يجوز لأحد منك أن يعلم من ذلك شيئا إلا ويذكره، ولا ينكر شيئاً مما يقوله غيره إلا وينكره، والساكت منكم للناطق ومصوب لقوله، وليس العمل إلا على ما تتفقون عليه وتشهدون به؛ وعلى هذا كان الصحابة رضى الله عنهم يجتمعون و يتشاورون في مصالح المسلمين. فكل من الحاضرين شكره على ما قصده وأثنى عليه ودعا له بالبقاء. ثم أمر نور الدين متولي أوقاف الجامع والمساجد والبيمارستان وقني السبيل وما جرى مع ذلك أن يقرأ عليه بمحضر من المذكورين ضريبة الأوقاف موضعا موضعاً ليفرد ما يعلمون أنه للمصالح دون الوقف. فافتح بالسوق المستجد تحت المئذنة الغربية جوار البيمارستان، فقال الصائن وابن تميم وابن هلال: هذا السوق بكماله لمصالح المسلمين وليس من وقف الجامع لأنه احدث في طريق المسلمين، وقد صرف في الجامع من أجوره أوفى مما غرم على عمارته من وقفه. فصدقهم الحاضرون على ما شهدوا به، ومبلغ ذلك خمس وعشرون عضادة. ثم عين للمصالح أيضا ما في زيادة الجامع القبلية وزيادة باب البريد في الصف القبلى والشامي من العضائد والحوانيت والحجر التي طباقها وطباق الطريق بحضرتها وجميع بيوت الخضراء من قبلة الجامع والفرن المستجد بها، ودار الخيل والمساكن والحوانيت المجاورة لدار الخيل، وحانوت في الخواصين في الصف الغربي واثنا عشر حانوتاً متلاصقات في الصنف الشرقي تعرف. بالمعتصميات، ونصف حانوت والفرجة المستجدة بحضرة دار الوكالة إلى سوق على وعدتها ثلاثة عشر حانوت، ومصطبة وثلاثة حوانيت في الصف الشامي من سوق على بلصق الفرجة من شرقها، وحانوت بالفسقار في الصف القبلي يعرف بسكنى ثعلب الفقاعي، وحوانيت اللبادين، و التي بحضرة الفوارة، وتجت اللبادين، وقيسارية العقيقي بسوق الأحد وتعرف بدار الشجرة، وحانوتان في الصف الشرقي بحضرة فندق الزيت من غرب درب التمارين، وخانوت بقنطرة الشماعين في الصف الشامي بحضرة البياطرة، وقطعة جوار المامونية من غربها، والعضائد التي في الصف الشامي من سوق الأحد وهي خمس عشرة عضادة، وستة أسهم من طاحونة السقيفة. وذلك كله ميراث عن بنى أمية كالخضراء ودار الخيل، وبعضه اشترى بمال الوقف والمصالح، وبعضه أخذ من باد أهله الموقوف عليهم ولم يكن له مال وبعضه أحدث في الطريق قال فلما شهدوا بصحة

جميع ما ذكر وأن منافع ذلك وأجوره جارية في المصالح قال نور الدين: إن أهم المصالح سد ثغور المسلمين وبناء السور المحيط بدمشق والخندق لصيانة المسلمين وحريمهم وأموالهم: فصوبوا ما أشار إليه وشكروه. ثم سألهم عن فواضل الأوقاف هل يجوز صرفها في عمارة الأسوار وعمل الخندق للمصلحة المتوجهة للمسلمين فأفتى شرف الدين ابن عبد الوهاب المالكي بجواز ذلك، ومنهم من روى في مهلة النظر، وقال الشيخ شرف الدين ابن أبى عصرون الشافعي لا يجوز أن يصرف وقف مسجد إلى غيره ولا وقف معين إلى جهة غير تلك الجهة، وإذا لم يكن بد من ذلك فليس طريقه إلا أن يقترضه من إليه الأمر في بيت مال المسلمين فيصرفه في المصالح ويكون القضاء واجبا من بيت المال. فوافقه الأئمة الحاضرون معه على ذلك. ثم سال ابن أبى عصرون نور الدين: هل أنفق شيء قبل اليوم على سور دمشق وعلى وبناء الكلام من شام الجامع وعلى إنشاء الوقف المقرنص تحت النسر بالجامع وعلى الرصاص المعمول على سطح الرواق الشامي من الجامع وسائر العمارات المتعلقة بالجامع المعور بغير إذن مولانا وهل كان إلا مبلغا للأمر العالي في عمل ذلك فقال نور الدين: لم ينفق ذلك ولاشيء منه إلا بإذني وأنا أمرت به و بفتح المشهدين من غربي الجامع المعمور اللذين كانا مخزنين، كتب مبلغا عنى ومؤديا بامري.ميع ما ذكر وأن منافع ذلك وأجوره جارية في المصالح قال نور الدين: إن أهم المصالح سد ثغور المسلمين وبناء السور المحيط بدمشق والخندق لصيانة المسلمين وحريمهم وأموالهم: فصوبوا ما أشار إليه وشكروه. ثم سألهم عن فواضل الأوقاف هل يجوز صرفها في عمارة الأسوار وعمل الخندق للمصلحة المتوجهة للمسلمين فأفتى شرف الدين ابن عبد الوهاب المالكي بجواز ذلك، ومنهم من روى في مهلة النظر، وقال الشيخ شرف الدين ابن أبى عصرون الشافعي لا يجوز أن يصرف وقف مسجد إلى غيره ولا وقف معين إلى جهة غير تلك الجهة، وإذا لم يكن بد من ذلك فليس طريقه إلا أن يقترضه من إليه الأمر في بيت مال المسلمين فيصرفه في المصالح ويكون القضاء واجبا من بيت المال. فوافقه الأئمة الحاضرون معه على ذلك. ثم سال ابن أبى عصرون نور الدين: هل أنفق شيء قبل اليوم على سور دمشق وعلى وبناء الكلام من شام الجامع وعلى إنشاء الوقف المقرنص تحت النسر بالجامع وعلى الرصاص المعمول على سطح الرواق الشامي من الجامع وسائر العمارات المتعلقة بالجامع المعور بغير إذن مولانا وهل كان إلا مبلغا للأمر العالي في عمل ذلك فقال نور الدين: لم ينفق ذلك ولاشيء منه إلا بإذني وأنا أمرت به و بفتح المشهدين من غربي الجامع المعمور اللذين كانا مخزنين، كتب مبلغا عنى ومؤديا بامري.
قلت: هذا مختصر الذي كتب فيه صورة ما جرى في ذلك المجلس وهو مشتمل على فوائد حسنة وتأكيد نقل من سيرة هذا الملك في وقوفه مع أوامر الشريعة. وفي ذلك المختصر خطوط الجماعة الحاضرين. وصورة ما كتبه المالكي المفتي: " حضرت المجلس المذكور عمره الله وزينه بالعدل أبداً ما عاش صاحبه، وشهدت على ما تضمنه من المشورة المباركة وما نسب إلى الجماعة الشهادة به من المواضع المشهورة كما نسب إليهم، وقد أخل بذكر دار الحجارة وقد ذكروها في المصالح المشهورة، وما نسب إلى من الفتوى فقد كنت قيدته بالحاجة وفراغ وبيت المال أو ضعفه عن القيام بما يحتاج إليه المسلمون ومهماتهم الدينية كتبه عبد الوهاب بن عيسى بن محمد المالكي.
فصلوقد مدح نور الدين رحمه الله باشعار كثيرة، وأوصافه فوق ما مدح به. وكان في أول دولته شاعرا زمانه أبو عبد الله محمد بن نصر بن صغير، وأبو الحسن أحمد بن منير؛ ولهما فيه أشعار فائقة سيأتي جملة منها في مواضعها. وقد رأيت أن أقدم منها شيئا هنا.

قرأت في ديوان محمد بن نصر القيسراني: كتب إلى نور الدين سلام الله وحنانه، ورأفته وامتنانه، وروحه وريحانه، على من عصم بعزه العواصم، وخصم بحجته الدهر المخاصم وألجم بهيبته العائب والواصم؛. الذي انتضى في سبيل الله سيوف الجهاد، وارتضى بعز سلطانه شعار العُباد والزهاد، واهتدى إلى طاعة الله وليس غير الله من هاد؛ ومن أصبحت أطراف البلاد أوساطا لمملكته، ومعاقل الكفار في عقال ملكته، ومركز الشكر مراكز أعلامه وألويته؛ ومن عادت به ثغور الشام ضاحكة عن ثغور النصر، وممالك الإسلام متوجة بتيجان الفخر، وصعاب الأمور منقادة إليه بأزمة القهر؛ ومن رأى الحكم دراسة فبنى مدارسها، والهمم يابسة فسقى منابتها ومغارسها، والمنابر شامسة فأمكن من صهواتها فوارسها؛ومن عمر ربع السنن بعدها عفا، وأنقذ من الفتن من كان منها على شفا؛ ومن نشر أعلام الفضل، وأنشر بعد الوفاة أيام العدل؛ ومن أنار بوجهه الإيمان، وأخذ الناس به من الزمان توقيع الأمان.
ذو الجهادين من عدوّ ونفس ... فهو طول الحياة و في هيجاء
أيها المالك الذي ألزم النا ... س سلوك المحجة البيضاء
قد فضحت الملوك بالعدل لما ... سرت في الناس سيرة الخلفاء
قاسماً ما ملكت في الناس حتى ... لقسمت التقى على الأتقياء
شيم الصالحين في جتُر التُّر ... ك وكم من سكينة في قباء
أنت حينا تقاس بالأسد الور ... د وحينا تعد في الأولياء
صاغك الله من صميم المعالي ... حيث لا نسب سوى الآلاء
وكأن القباء منك لما ضم من الطهر مسجد لقُباء
أنت إلا تكن نبيا فما فا ... تك إلا خلائق الأنبياء
رأفة في شهامة، وعفاف ... في اقتدار، وسطوة في حياء
وجمال ممنطق بجلال ... وكمال متوج ببهاء
وإذا ما الملوك خافت سهام الذ ... م زرت عليك درع الثناء
عجب الناس منك انك في الحر ... ب شهاب الكتيبة الشهباء
وكأن السيوف من عزمك الما ... ضي أفادت ما عندها من مضاء
ولعمري لو استطاع فداك ال ... قومُ بالأمهات والآباء
وله فيه:
لله عزمك أي سيف وغى ... طبعت مضاربه على القهر
ما زفت الحرب العوان به ... إلا انجلت عن معقل بكر
هل وجه نور الدين غير سنا ... صدع الدجى عن خجله البدر
ملك مهابته طليعته ... أبدا أمام جيوشه تسرى
كم فل كيدهم بصاعقة ... شغلت قلوبهم عن الفكر
تركت حصونهم سجونهم ... فالقوم قبل الأسر في أسر
عصم العواصم فهي ضاحكة ... تجلو الظبي ثغرا على الثغر
وإذا القلاع بمثل جندلها ... حتى استكان الصخر بالصخر
ياسائلي عن نهج سيرته ... هل غيرُ مفرق هَامِه الفجر
وعدلٌ حقيقُ من تأمله ... أن يُحْيِىَ العُمَريْن بالذكر
وشهامة في الله خالصة ... عقدت عليه تمائم الأجر
وندى يد ماضر واردها ... ألا يبيت مجاور البحر
هذا المخيم في ذرا حلب ... وثناؤه أبدا على ظهر
وله وقد وصف داره:
دار تغار الشمس في أفقها ... من حسنها والشمس مغيار
يزأر فيها ضيغم ماله ... غير سيوف الهند أظفار
تمسي وتضحي وهو جارٌ لها ... والله ذو العرش له جار
لسيفه البائر من دهره ال ... جائر ما يهوى ويختار
قد ملأ الأسفار من ذكره ... نشر له في الروض إسفار
حمد يضوع الجوُّ من نَشره ... كأنما راويه عطار
إن خطرت في قلبه خطرة ... أجابها ماض وخطار
وإن دعا داعيه يوم الوغى ... سيوفه لبَّتْه أقدار
كأنما صارمه مرسلُ ... له من التأييد أنصار

يا مالك الدنيا ولكنها دنيا لها في الدين آثار ويا جواداً ما لآلآئه غير قضاء الحمد مضمار وله فيه:
تدرك ملة العربي ذبا ... إلى أن عده منه معد
وحل ذرا العواصم وهي نُهْبى ... فأجلى الشرك حتى ليس ضِدٌّ
ثنى يده عن الدنيا عفافا ... ومال بها عن الأموال زهد
رأى حط المكوس عن الرعايا ... فأهدر قبل ما أنشاه بعد
ومدلها رواق العدل شِرْعا ... وقد طُوِى الرِّواقُ ومن يمد
وبات وعند باب العرش منها ... لدولته دعاء لا يرد
وله فيه:
ملك أشبه الملائك فضلا ... وشبيه بمالك الأمر جندُه
عم إحسانه فأصبح يُتْلى ... شكره في الورى ويُدْرس حمده
فسقى الله ذكره أينما حل ... ولا فاته من النصر رفده
وله:
ضحكت تباشير الصباح كأنها ... قَسَماتُ نور الدين خير الناس
المشترِى العُقبى بأنفس قيمة ... والبائع الدنيا بغير مكاس
وسرى دعاء الخلق يحرس نفسه ... إن الدعاء يعد في الحراس
راض الخطوب الصُّم بعد جماحها ... وألان من قلب الزمان القاسي
وأعاد نور الحق في مشكاته ... وأقام وزن العدل بالقسطاس
واختار مجد الدين سائس ملكه ... فحمى الرياسة منه طود رأسي
فهو الخبير بكل داء معظل ... يأسو جراح زماننا ويواسي
وأذل السلطان النفاق بعزة ... خضعت لها الآساد في الآخياس
وعرته أقران الخطوب فصدها ... ألوى يمارسها أشد مراس
ولوان فيض النيل فائض فضله ... لم تفتقر مصرٌ إلى مقياس
سكنت شعب الدهر بعد تحمط ... وألنت من عِطْفيه بعد شِماس
وفتحت باب الحظ بعد رتاجه ... وأذنت للأطماع بعد الياس
حتى منحت الخلق كل مسرة ... فالناس في عرس من الأعراس
وله:
سام الشام ويالها من صفقة ... لولاء ما عنت على يد سائم
ولشمرت عنها الثغور وأصبحت ... فيها العواصم وهي غير عواصم
تلك التي جمحت على من ارضها ... ودعوت فانقادت بغير شكائم
وإذا سعادتك احتبت في دولة ... قام الزمان لها مقام الخادم
حصِّن بلادك هيبة لا رهبة ... فالدرع من عدد الشجاع الحازم
هيهات يطمع في محلك طامع طال البناء على يمين الهادم
كلفت همتك السُّمُوَّ فحَّلَقت ... فكأنما هي دعوة في ظالم
وأظن أن الناس لما لم يروا ... عدلاً لعدلك أرجفوا بالقائم
وله:
قلت تقول الله لا خائفاً ... مع حكم القرآن حكم القِران
لا رَاقِب النجم ولا سائلا ... ما فعل السعدان والنيران
بل غِرْت للإسلام حتى لقد ... دان له من بالطواغيت دان
رُعْتَ نواميس نواقيسها ... بحلبة الآذان وقت الأذان
تمحو تصاوير الدُّمى عن يد ... تبنى المحاريب خلال المحان
هذا وكم أنشأت من منبر ... فارسه فارس سحر البيان
من مال بالإخلاص ما مِلْتَهُ ... كان من الله مكين المكان
يا شائماً بالشام. صوب الحيا ... ودانيا من كل قاص ودان
هذى سجوف الملك مرفوعة ... عن ملك أخباره كالعيان
أوضح سُبْلَ العدل مفتنة ... فللبرايا بالدعاء افتتان
ألْغَى حمقوقاً كلها باطل ... إلى ضمان حط مال الضمان
عطفا ورفقا بالرعايا وإن ... أصبح تأديب ملوك الزمان
كم بين من نام على نشوة ... وساهد في صهوة من حصان
في كل يوم ينثني سيفه ... ببلدة بكر وأخرى عوان
وقرأت في ديوان أحمد بن منير الطرابلسي من قصائد يمدح بها نور الدين رحمه الله تعالى:

يا محيى العدل ويا مُنْشِرهُ ... من بين أطباق البلى وقد همد
وركن الإسلام الذي وطده ... طال وأرسى العزفيه ووطد
وشارع المعروف إذ لا سفه ... ينجح للقول ولا تسمح يد
محوت ما أثبته الجور مضى ... عليه إخلاد الليالي فخلد
من كل مكاس يظل قاعداً ... لما يسوء المسلمين بالرصد
كانت لأرجاس اليهود دولة ... أزالها منك الهصور ذو اللبد
الملك العادل لفظ طابق ال ... معنى وفي الوصف معاد مسترد
خير النعوت ما جرى الوصف على ... صفحته جرى النسيم في الومد
عدل جنيت اليوم حلو ريعه ... وسوف جنى لك أحلى منه غد
لازال للإسلام منك عدة ... تقيم منه كل زيغ وأود
الناس أنت والملوك شرط ... تعد ليثا ويعدون نقد
مثلك لا يسخوبه زمانه ... ومثل ما أوتبت لم يؤت أحد
وله:
أيا نور دين خبا نوره ... ومذ شاع عدلك فيه اتقد
رآك الصليب صليب القنا ... ة أمين العثارمتين العمد
تهم فتسلبه ما اقتنى ... وتدأى فتشكله ما احتشد
زبنتهم أمس عن صرخد ... ففضوا كان نعاما شرد
ويوم العرُيْمة أقبلتهم ... عراما تثعلب منه الأسد
حبيت مليكهم في الصفاد ... وعفوك عنه أعم الصفد
وقبل أزرتهم في الرها ... موازق مزقن جُرد الجرد
بقيت ترقع خرق الزمان ... قياما لأبنائه إن قعد
نثقف من زيفه ما التوى ... وتصلح من طبعه ما فسد
وله:
أيا ملك الدنيا الحلاحل والذي ... له للأرض دارٌ والبرية أعْبُد
وليست بدعوى لا يقوم دليلها ... ولكنها الحق الذي ليس يُجحد
أخو غزوات كالعقود تناسقت ... تحل بأجياد الجياد وتعقد
لسان بذكر الله يكسو نهاره ... بهاء وحتى في الدجى ليس يرقد
وبذل وعدل أعرقا وتألقا ... فلا الورد مثمود ولا الباب موصد
مرام سمائي وحزم مسدد ... ورأى شهابي وعزم مؤيد
وله:
أبداً تنكب عن ضلال سادرابثقوب زندك أو تدل على هدى
سُدت الكهول من الملوك مراهقا ... وشأوت شِيبَهم البوازل أمردا
إن شيدوا صرحا أناف مناره ... أو أسجدوا للكأس جدد مسجدا
وإذا استهزتهم قلائد معبد ... هزته موعظة فعرف معبدا
قسما لشام الشام منك مهند ... أرضاه مشهورا وراع مقلدا
وتمسك الإسلام منك بعروة ... الله أبرم حبلها فاستصحدا
أشفى فكنت شفاءه من حادث ... غاداه عارض مردى بالردا
كنت الصباح لليله لما دجا ... والغوث كف لظاه حين توقدا
لله يوم أطلعتك به النوى ... يجتاب من مهج الأصافر مسجدا
نشوان غنتك الظبي مفلولة ... وأمال عطفيك الوشيح مقصدا
في معرك ما قام بأسك دونه ... إلا أقام المشركين وأقعدا
ولكم مكر قمت فيه معلماً ... أرضى إلهك والمسيح وأحمدا
يوم العريمة والحطيم وحارم ... وشعاب باسوطا وهاب وصرخدا
لا يعدم الإشراك حدك إنه ... ما سل فيهم حاكما إلا اعتدى
أهمدتهم من بعد ما ملأ وا الملأ ... رجلا فهل كانت سيوفك مرقدا
طلعت نجوم الحق من آفاقها ... وأعاد هاكر العصور كما بدا
وهوى الصليب وحزبه وتبختر ال ... إسلام من بعد التساقف أعيدا
سبق المجلى للخطى فرفع ... نسق بثم وفد رُفعِت بالابتدا
وله:
محمود المربى على أسلافه ... إن زاد في حسب الحسيب تجار
ملك إذا تليت كسد اللطيم وهجّن النوار
ملأ الفرنجة جور سيفك فيهم ... فلهم على سيف المحيط جؤار

يوما يزيرك جوف عِرْقة معلما ... جون له خاف الدروب أوار
ويجر في الأردن فضلة ذيله ... نقع باكناف الأرنط مثار
إما تبيح حريم أنطاكية ... أو يفجأ الداروم منك دمار
عفى جهادك رسم كل مخوفة ... وعفت بصفوة عدلك الأكدار
ومحا المظالم منك نظرة راحم ... لله في خطراته أسرار
غضبان للإسلام مال عموده ... فلنوره مما عراه نوار
وجذمت كل يد تسور على يد ... فأحلت ذاك السور وهو سوار
لم يبق ماكس مسلم سلعا ولا ... ساع لمظلمة ولا عشار
همدوا كما همدت ثمود، وقادهم ... لخسارهم مما أتوه قدار
العارفي الدنيما شقوا بلباسه ... ولباسهم يوم الحساب النار
كم سيرة أحييتا عمرية ... رُفعت لها في الخافقين منار
ونوافل صيرتهن لوازما ... بأقلها تستعبد الأحرار
لازلت تقفو الصالحين مسابقاً ... لهم وتطلع خلفك الأبرار
نفس السيادة زهد مثلك في الذي ... فيه تفانت يعرب ونزار
ومتى أدعى ما تدعيه محكم ... أوهى مَعاقِد دِينِه دينار
لله ما ظفرت به منك المنى ... وتكنفت من ركنك الأستار
وسق الغمام ؤى أييك فإنه ... أزكى ثرى قطرت عليه قطار
وشهدت نضارة عودك الغض الجنا ... أن الذي استخلصت منه نضار
أما نهارك فهو لَيْلُ مجاهد ... والليل من طول القيام نهار
فلذلك النصر العزيز أدلة ... كيف اتجهت وللفتوح أمار
وله أيضم فيه رحمه الله تع إلى:
رأينا الملوك وقد ساجلوك ... تنموا منونا وغروا غرورا
أبى لك أن يدركوها أب ... يزير فينسى الأسود الزئيرا
وجد إذا جد يوم الرها ... ن أبقى لتاليه جدا عثورا
تصب عصاك على من عصا ... ك يوما عبوسا بها قمطريرا
لقد ألبس الشام هذا الإباء ... لبوسا من الأمن لينا وثيرا
تداركت أرماقه والقلوب ... توافر أن يستجن الصدور
أقمت جثاثا وكانت جثا ... وشدت قصورا وكانت قبورا
وكم لك من غضبة للهوى ... تميت الهوى وتجب الذكورا
إذا قَطَبَ البأسُ كانت ردى ... وإن ضحك العفو عادت نشورا
كملت فوْفيت عين الكمال ... تبيد السنين وتفنى العصورا
وجادَ لنا بكَ رَبٌّ برا ... ك للكفر نارا وللدين نورا
إذا ما خدمت فمولى كريما ... وإما عبدت فعبدا شكورا
أمام المحاريب برا حصورا ... وتحت الحروب هزيرا هصورا
تبارك من شاد هذى الخلا ... ل قى ظُلَّة الملك طودا وقورا
وألف في مَعْقِد التاج منك ... سطوا سعيرا وعفوا نميرا
وله:
عقل الحق ألسن المدعينا ... أنت خير الملوك دنيا ودينا
وأسدُّ الأنام قولا وأفعا ... لا ونفسا ونية ويقينا
أنت أسناهم أبا وإباء ... وامرأ حيا وأمرع حينا
بسط الرزق في البسيطة كفا ... ك فكلتا يديك تُلفى يمينا
فيد تحسم النوائب عنا ... ويد تقسم الرغائب فينا
أيها البحر لو تساجلك الأب ... حر عامت في ساحليك سفينا
ولكان المحيط منها محاطا ... مثل نون الهجاء أو خِيلَ نونا
مشرعا مترعا ومنا مهنا ... ورباعا فيحا وكفا لبونا
ومحيا طلقًا ومالاً طليقًا ... وابتهاجاً قصداً وحبلاً متيناً.
بين ذب بميت،عادية الشر ... ك وهب يحيا به المسلمونا
تتبدى من الفتوح ألوفا ... أنت أعلى من أن تعد المئينا

كلما احتزت ثوب نصرعزيز ... من مرام أقبلت فتحا مبينا
صرف الله عنك صرف زمان ... أنت علمت صرفه أن يهونا
يابن من طبق البسيطة آثا ... را وعك المنا بذيه الأجُونا
وغدت حصنه على سرح هذا الد ... ين من شكة الأعادى حصونا
كم تعالى صهيلها في ربا الشا ... م فأعلى خلف الخليج الرنينا
كان صنو الرشيد أبقاك للحك ... مة والبأس بعده المأمونا
سمع الله فيك دعوة سكن ... أوطنوا من حماك حصنا حصينا
عَرَقتهم مدى الخطوب فأحيي ... ت رفاتا من التراب دفينا
ألبسوا عدلك المدبج فاختا ... لوا بنات في وشيه وبنينا
سهرت عنيك الكَلٌوء وناموا ... تحت أكناف رعيها آمنينا
قلت: فهذا أنموذج من أشعار هذين الفحلين فيه، مع أنهما ماتا في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، قبل أن يفتج نور الدين دمشق؛ وبقى نور الدين حيا بعدهما إحدى وعشرين سنة يترقى كل عام في ازدياد، من جهاد واجنهاد؛ ولو كانا أدركا ذلك لأتبا فى وصفه بعجائب مع أنه قد تولى ذلك غيرهما ممن لم يبلغ شأوهما.
ولأبى المجد المسلم بن الخضر بن قسيم الحموي من قصيدة فيه:
تبدو الشجاعة من طلاقة وجهه ... كالرمح دل على القساوة لينه
و وراء يقظته أناة مجرب ... لله سطوة بأسه وسكونه
هذا الذي في الله صح جهاده ... هذا الذي بالله صح يقينه
هذا الذي بخل الزمان بمثله ... والمشمخز إلى العلا عرنينه
ملك الورى ملكٌ أغَرُّ متوج ... لا غدره يُخشى ولا تلوينه
إن حل فالشرف التليد أنيسه ... أوسار فالظفر الطريف قريشه
فالدهر خاذل من أراد عناده ... أبدا وجبار السماء معينه
والدين يشهد إنه لَمُعِزُّةُ ... والشرك يعسلم أنه لمهينه
ما زال يقسم أن يبدد شمله ... والله يكره أن تمين يمينه
فتح الرها بالأمس فانفتحت له ... أبواب ملك لايزال مصونه
وممادح نور الدين كثيرة رحمه الله تعالى. وذكر الحافظ أبر القاسم أنه كان قليل الابتهاج بالشعر. ومات حادى عشر شوال سنة تسع وستين وخمسمائة، ودفن بقلعة دمشق، ثم نقل إلى قبته بمدرسته جوار الخواصين. قلت وقد جرب استجابة الدطء عند قبره.
وهذا ذكر طرف من مناقبه جملة، ونحن بعد ذلك نأتي بأخباره وأخبار سلفه مفصلة مرتبة وما جرى في زمانهم على سبيل الاختصار إن شاء الله تعالى.
فصلأصل البيت الأتابكي هو قسيم الدولة آق سنقر جد نور الدين، رحمه الله، فنذكره وماتم في أيامه، ثم نذكر ولده زنكي وما تم في أيامه، ثم نذكر ولده محمود بن زنكي، ثم نذكر ما بعده وهى الدولة الصلاحية الأيوبية وما تم في أيامها فنقول:

كان آق سنقر تركيا من أصحاب السلطان ركن الدين ملكشاه بن ألب أرسلان، وهو عم دُقاق بن تُتُش ألب أرسلان الذي كان سلطان دمشق، وقبره بقبة الطواويس بها، بنته والمشهد والدته. وكان السلطان ملكشاه من جملة الملوك السلجوقية المتغلبين على للبلاد بعد بنى بويه بالعراق؛ فكان قسيم الدولة من أصحابه وأترابه وممن ربى معه في صغره، واستمر في صحبته إلى حين كبره. فلما أفغت السلطنة إليه بعد أبيه جعله من أعيان أمرائه وأخص أوليائه، واعتمد عليه في مهماته، وزاد قدره علوا إلى أن صار يتقيه مثل نظام الملك الوزير مع تحكمه على السلطان وتمكنه من المملكة. فأشار نظام الملك على السلطان أن يولى آق سنقر مدينة حلب وأعمالها، وأراد بذلك أن يبعده عن خدمة السلطان ويتخذ عنده بذلك يدا. قال ابن الأثير: من الدليل على علو مرتبته تلقبه قسيم الدولة، وكانت الألقلب حينئد مصونة لا تعطي إلا لمستحقها. وفي سنة سبع وسبعين وأربعمائه سير للسلطان ملكشاه الوزير فخر الدولة ابن جهر وزير الخليفة إلى ديار بكر لتملكها، وسير عميد الدولة ابن فخر الدولة ابن جهير وكان زوج ابنة نظام الملك إلى الموصل، وسير معه جيشاً عظيما وجعل القدم على الجيش قسيم الدولة آق سنقر. فساروا نحو الموصل، ولقيهم في الطريق الأمير أرتق التركماني، جد ملوك الحصن وماردين، فاستصحبوه معهم، فحصروا الموصل وصالحوا من بها وتسلموها، وسار صاحبها إلى السلطان فردها عليه، وكانت حينئذ لأحد أمراء بني عقيل، وهو شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران العقيلي. وكان ملكة من السندية بالعراق على نهر عيسى إلى منبج وما بينهما من البلاد الفراتية كهيت والأنبار وغيرهما، وملك الموصل وديار بكر والجزيرة بأسرها، وملك مدينة حلب؛ وكان عادلا ح سن السيرة عظيم السياسة. واتفق أن وقع بينه وبين صاحب أنطاكية خلاف، وذلك أن أنطاكية كان الروم قد استولوا عليها سنة ثمان وخمسين وثلثمائة ولم يزالوا بها إلى هذه السنة، ففتحها سليمان بن قتلمشى وه و جد الملك غياث الدين كيخسرو صاحب قونية وغيرها. وكان لشرف الدولة صاحب حلى على صاحب أنطاكية الرومي جزية يأخذها كل سنة، فانقطعت عنه بسبب أخذ سليمان البلد. فأرسل شرف الدولة يطلب منه ما كان يأخذه من الروم و يهدده. فقال: أنا في طاعتك، وهذا الفتح بسعادتك والخطبة والسكة لك، ولست بكافر حتى أعطيك ما كنت تأخذه من الروم. فلج شرف الدولة فى طلب المال، فالتقيا وقتل شرف الدولة وانهزم عسكره، وسار سليمان إلى حلب فحصرها، وسار إليها من دمشق تاتج الدولة تش بن ألب أرسلان أخو السلطان ملكشاه. فالتقى عسكر تتش وسليمان فقتل سليمان وانهزم عسكره، وملك تتش مدينة حلب دون القلعة. فأرسل أهل القلعة إلى ملكشاه ليسلموها إليه، وهو يومئذ بالرها. وكان سبب مسيره إليها أن ابن عطية النميري كان قد باعها من الروم بعشرين ألف دينار وسلمها، فدخلوها وأخربوا المساجد وأجلوا المسلمين عنها. فسار ملكشاه إليها في هذه السنة فحصرها وفتحها وأقطعها اللأمير بزان. فلما أتاه رسل قلعة حلب با لتسليم سار إليهم. فلما بلغ مسيره إلى أخيه تاج الدولة لم رحل عن حلب إلى دمشق، ووصل السلطان إلى حلب و بالقلعة سالم بن بدران القيلي، وهو ابن عم شرف الدولة، فسلمها إلى السلطان بعد قتال، وأعطاه السلطان عوضاً عنها قلعة جعبر، وكان قد ملكها في هذه السفرة من صاحبها جعبر النميرى، وكان شيخاً كبيراً أعمى. فبقيت بيد سالم وأولاده إلى أن أخذها منهم الملك العادل نور الدين كما يأتي.
فلما ملك السلطان حلب أرسل إليه الأمير نصر بن علي بن المقلد بن منقذ الكناني صاحب شيزر ودخل في طاعته وسلم إليه اللاذقية، وفامية، وكفر طلب.

ثم إن نظام الملك أشار على السلطان. بتسلهيم حلب وأعمالها وحماة ومنبج واللاذقية وما معها إلى قسيم الدولة آق سنقر، فأقطعه الجميع؛ وبقيت في يده لمد أن قتل سنة سبع وثمانين وأربعمائة كما سيأتي. وأقطع السلطان مدينة أنطاكية للأمير ياغي سيان. ولما استقر قسيم الدولة في الشام ظهرت كفايته وحمايته وهيبته في جميع بلاده. ثم إن السلطان، استدعاه إلى العراق فقدم إليه في تجمل عظيم لم يكن في عسكر السلطان من يقاربه، فاستحسن ذلك منه، وعظم محله عنده؛ ثم أمره بالعود إلى حلب فعاد إليها. فلما مات السلطان ملكشاه سير قسيم الدولة جيشا إلى تكريت فملكها. وفي سنة إحدى وثمانين قصد قسيم الدولة شيسز فهبها وعاد إلى حلب. وفي سنة ثلاث وثمانين اجتمع قسميم الدولة وبزان وحصروا مدينة حمص فملكوها ومضى ابن ملاعب إلى مصر. وفي سنة أربع وثمانين ملك قسيم الدولة حصن فامية من الشام وملك الرحبة.
فصلوفي عاشر رمضان سنة خمس وثمانين قتل الوزير نظام الملك أبوعلي الحسن بن علي ابن اسحق، قتله صبي ديلمي بعد الإفطار وقد تفرق عن طعامه الفقهاء والأمراء والفقراء وغيرهم من أصناف الناس؛ وحمل في محفة لنقرس كان به إلى خيمة الحرم فلقيه صبي ديلمي مسغيثا به فقربه منه ليسمع شكواه فقتله، وقُيل الصبي أيضاً. فعدمت الدنيا واحدها الذي لم تر مثله. وكان تلك الليلة قد حكى له بعض الصالحين أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام كانه أتاه وأخذه من محفته فتبعه؛ فاستبشر نظام الملك بذلك وأظهر السرور به وقال: هذا أبغي و إياه أطلب. و بلغ من الدنيا مبلغاً عظيا لم ينله غيره. وكان عالما فقيهاً دينياً خيراً متواضعا عادلا، يحب أهل الدين ويكرمهم و يجزل صلاتهم. وكان أقرب الناس منه وأحبهم إليه العلماء؛ وكان يناظرهم في المحافل ويبحث عن غوامض المسائل لأنه اشتغل بالفقه في حال حداثته مدة. وأما صدقاته ووقوفه فلا حد، عليها، ومدارسه في العلم مشهورة لم يخل بلد منها، حتى جزيرة ابن عمر التي هي في زاوية من الأرض لا يؤبه له بنى فيها مدرسة كبيرة حسنة، وهي التي تعرف الآن بمدرسة رضى الدين. واعماله الحسنة وصنائعه الجميلة مذكورة في التواريخ، لم يسبقه من كان قبله، ولا أدركه. من كان بعده. وكان من جملة عباداته أنه لم يحدث إلا توضأ ولا توضأ إلا صلى. وكان يقرأ القرآن حفظا ويحافظ على أوقات الصلوات محافظة لا يتقدمه، فيها المتفرغون للعبادة، حتى إنه كان إذا غفل المؤذن أمره بالأذان؛ وإذا سمع الأذان أمسك عن كل ما هو فيه واشتغل بجإبته ثم بالصلاة. وكان قد وزر للسلطان عضد الدولة ألب أرسلان والدملكشاه قبل أن يلي السلطنة، في حياة عمه السلطان طغرلبك أول الملوك السلجوقية ببغداد. فلما توفى طغرلبك سعى نظام الملك في أخذ السلطنة لصاحبه ألب أرسلان، وقام المقام الذي تعجز عنه الجيوش الكثيرة، واستقرت السلطاة له. و بقى معه إلى أن توفى، ثم وزر بعده لولده السلطان ملكشاه إلى أن قتل. وكان قد تحكم عليه إلى حد لا يقدر السلطان على خلافه لكثرة مماليكة ومحبة العساكر له والأمراء، وميل العامة والخاصة إليه لحسن سيرته وعدله. هذا كلام أبى ابن الأثير.
وقرأت في كتاب المعارف المتأخرة ويسمى عنوان السير لمحمد بن عبد الملك ابن إبراهيم الهمداني قال: وزر نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن اسحق الطوسي السلطان ألب أرسلان وولده السلطان ملكشاه أربعاً وثلاثين سنة، وقتل بالقرب من نهاوند وعمره ست وسبعون سنة وعشرة أشهر وتسعة عشر يوما؛ اغتاله أحد الباطنية وقد فرغ من فطوره. قال: وقيل إن السلطان ملكشاه ولف عليه من قتله لانه سئم طول عمره. ومات بعده بشهر وخمسة أيام. وقد تقدم نظام الملك في الدنيا التقدم العظيم، وأفضل على الخلق الإفضال الكريم، وعم الناس بعروفه، وبنى المدارس لأصحاب الشافعي " رضي الله عنه " ووقف عليهم الوقوف، وزاد في الحلم والدين على من تقدمه من الوزراء، ولم يبلغ أحد منهم منزلته في جميع أموره. وعبر جيحون فوقع على العامل بأنطاكية بما يصرف إلى الملاحين، وملك من الغلمان الأثراك ألوفا؛ وكان جمهور العساكر وشجعانهم وفتاكهم من مماليكه.

قلت: وأنشد أبو سعد السمعاني في ذيل تاريخ بغداد وقال: أنشدني عمي الإمام أبو القاسم أحمد بن منصور السمعاني غير مرة من لفظه للأمير شبل الدولة، يعني مقاتل ابن عطية بن مقاتل التكريتى:
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... ثمينة صاغها. الرحمن من شرف
عزّت ولم تعرف الأيام قيمتها ... فردّها غيرة منه إلى الصَّدب
فصلعاش السلطان ملكشاه بعد نظام الملك خمسة وثلاثين يوما، ومات في منتصف شوال سنة خمس وثمانين وعمره ثمانية وثلاثون عاما ونصف عام. وكانت مماكته قد اتسعت اتساعا عظيما وخطب له من حدود الصين إلى الداروم من أرض الشام، وأطاعه اليمن والحجاز. وكان يأخذ الخراج من ملك القسطنطينية، وأطاعه صاحب طراز واسبيجاب وكاشغر وبلاسغون وغيرها من الممالك البعيدة، وملك سمرقند وجميع ما وراء النهر. ثم ان صاحب كاشغر عصى عليه فسار السلطان إليه، فلما قارب كاشعر هرب. صاحبها منه فسار في طلبه، ولم يزل حتى ظفر به وأحسن إليه واستصحبه معه إلى أصفهان وعمل السلطان من الخيرات وأبواب البر كثيراً، منها ما اصلحه وعمله من المصانع بطريق مكة وحفره من الابار، و بنى مدرسة عند قبر الإمام أبس حنيفة رحمة الله عليه، وبن الجامع الذي بظاهر بغداد عند دار السلطنة. وهو الذي بنى منارة القرون في طرف البر مما يلي الكوفة بمكان يعرف، بالسبعي وبنى مثلها بسمرقند أيضاً. قيل إنه خرج سنة من الكوفة لتوديع الحجيج، فجاوز العذيب و بلبغ السبعية بقرب الواقصة، وبنى هناك منارة أنزل في أثنائها قرون الظبي وحوافر الحمر الوحشية التي اصطادها في طريقه.
وبعد موته تنازع ابناه بكياروق ومحمد ودامت الحروب بينهما نحو ثنتي عشرة سنة إلى أن توفى بكياروق واستقرت السلطنة لمحمد. وفي مدة تلك الحروب ظهرت الفرنج بالساحل وملكوا أنطاكية أولا ثم غيرها من البلاد. وكان السلطان قد أقطع أخاه تتش تاج الدولة مدينة دمشق وأعمالها وما جاورها كطبرية والبيت المقدس، فلما توفى ملكشاه طمع تاج الدولة في السلطنة، فسار إلى حلب، و بها قسيم الدولة، فصالحه، وراسل بوزان صاحب حران وياغي سيان صاحب أنطاكية فسارا معه نحو الرحبة ونصيبين فأخذهما. وراسل صاحب الموصل إبراهيم بن قريش بن بدران يأمره بالخطبة له وان يعطيه طريقاً إلى بغداد فامتنع، فالتقيا، فهزم صاحب الموصل وقتل وأخذت بلاده. وسار إلى ميافارقين فملكها وسائر ديار بكر. ثم سار إلى أذربيجان فالتقى هو وابن أخيه بكياروق بن ملكشا، فانتقل قسيم الدولة و بوزان إلى بكياروق، فرجع تاج الدولة إلى الشام ورجعا إلى بلاد، بأمر بكياروق ليمنعا تاج الدولة عن البلاد إن قصدها. فجمع تاج الدولة العساكر وسار عن دمشق نحو حلب، فاجتمع قسيم الدولة وبوزان وأمدهما السلطان ركن الدين بكياروق بالأمير كربوفا، وهو الذي سار فيما بعد صاحب الموصل، فالتقوا بالقرب من تل السلطان، وبينه وبين حلب نحو من ستة فراسخ؛ فانهزم جيش قسيم الدولة وأخذ أسيرا، فقتله تاج الدولة صبراً. ودخل بوزان وكربوقا حلب، فحصرهما تاج الدولة حتى فتحها وأخذها أسيرين. وأرسل إلى حران والرها، وكانا لبوزان، فامتنع من بهما من التسليم؛ فقتل بوزان وأنفذ رأسه وتسلم البلدين. وأما كربوقا فإنه سجنه بحمص، فلم يزل إلى أن أخرجه الملك رضوان بعد قتل أبيه تاج الدولة.
قال ابن الأثير: وكان قسيم الدولة أحسن الناس سياسة لرعيته وحفظالهم. وكانت بلاده بين. عدل عام ورخص شامل وأمن واسع. وكان قد شرط على أهل كل قرية في بلاده متى أخذ عند أحدهم ققل أو أحد من الناس غرم أهلها جميع مايؤخذ من الأموال من قليل وكثير. فكانت السيارة إذا بلغت قرية من بلاده ألقوا رحالهم وناموا آمنين وقام أهل القرية يحرسونهم إلى أن يرحلوا. فأمنت الطرق وتحدث الركبان بحسن سيرته.
وفي المحرم من سنة خمس وثمانين وأربعمائه توفى الخليفة المقتدي بأمر الله فجأة. وهو أبو القاسم عبد الله ابن الأمير محمد ابن القائم بأمر الله، وعمره تسع وثلاثون سنة وثمانية أشهر وسبعة أيام. وكانت خلاقته تسع عشرة سنة وخمسة أشهر، وأمه تركية. و بويع من بعده ولده المستظهر بالله أبو العباس أحمد. ويلقب محمد ابن القائم والد المقتدي بالله الذخيرة، مات في حياة أبيه فلم يل الخلافة.
ذكر أخبار زنكي

والد نورالدين رحمهما الله تع إلى على طريق الاختصار في فصول إلى حين وفاته. ثم نذكر أخبار نور الدين على ترتيب السنين.
لما قتل قسيم الدولة آق سنقر لم يخلف من الأولاد غير واحد هو عماد الدين زنكي والد نور الدين؛ وكان حينئذ صبياً له من العمر نحو عشر سنين؛ فاجتمع عليه مماليك والده وأصحابه، وفيهم زين الدين علي، وهو صبي أيضاً. ثم إن الأمير كربوقا خلص من السجن بعد قتل تاح الدولة سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وتوجه إلى حران وقد اجتمع معه عسكر صالح فملكها. ثم سار إلى نصيبين فملكها، ثم إلى الموصل فملكها وزال عنها علي ابن شرف الدولة العقلي، وسار نحو ماردين فملكها، وعظم شأنه وهو في طاعة ركن الدولة بكياروق. فلما ملك البلاد أحضر مماليك قسيم الدولة آق سنقر وأمرهم بإحضار عماد الدين زنكي وقال: هو ابن أخي وأنا أولى الناس بتربيته. فأحضروه عنده فأقطعهم الإقطاعات السنية، وجمعهم على عماد الدين زنكي، واستعان بهم في حروبه؛ وكانوا من الشجاعة في أعلى درجاتها. فلم يزالوا معه فتوجه بهم إلى آمد، وصاحبها من أمراء التركمان، فاستنجد بمعين الدين سقمان بن أرتق جد صاحب الحصن، فكسرهم قوام الدولة كربوقا. وهو أول مصاف حضره زنكي بعد قتل والده. ولم يزل كربوقا إلى أن توفى سنة أربع وتسعين وأربعمائة. وملك بعده موسى التركماني فلم تطل مدته وقتل. وملك الموصل شمس الدولة جكرمش، وهو أيضاً من مماليك السلطان ملكشاه، فأخذ زنكي وقربه وأحبه واتخذه ولدا لمعرفته بمكانة والده، فبقى معه إلى أن قتل سنة خمسمائة. فلا جرم أن زنكي رعى هذا لجكرمش لما ملك الموصل وغيرها من البلاد، فإنه أخذ ولده ناصر الدين كورى فأكرمه وقدمه وأقطعه إقطاعا كبيراً، وجعل منزلته أعلى المنازل عنده، واتخذه صهراً. ثم ملك الموصل بعد جكرمش جاولى سقاوه فاتصل به عماد الدين زنكي وقد كبر وظهرت عليه أمارات السعادة والشهامة، ولم يزل معه حتى عصى على السلطان محمد. وكان جعاولى قد عبر إلى الشام ليملكه من الملك فخر الملك رضوان، فأرسل السلطان إلى الموصل الأمير مودودا وإقطعه إياها سنة اثنتين وخمسمائة. فلما اتصل الخبر. بجاولى فارقه زنكي وغيره من الأمراء. فلما استقر مودود بالموصل واتصل به زنكي أكرمه وشهد معه حروبه؛ فسار موعود إلى الغزاة بالشام، ففتح في طريقه قلاعا لهم منها شبخنان كانت للفرنج وقتل من كان بها منهم. ثم سار إلى الرها فحصرها، ولم يفتحها، فرحل وعبر الفرات، فحصر تل باشر خمسة وأربعين يوما؛ ثم سار إلى معرة النعمان فحصرها، ثم حضر عنده أتابك طغتكين صاحب دمشق فسفارا إلى طبرية وحاصراها وقاتلاها، قتالا شديداً، وظهر من أتابك زنكي شجاعة لم يسمع بمثلها. منها أنه كان. في نفر وقد خرج الفرنج من البلد، فحمل عليهم هو ومن معه، وهو يظن أنهم يتبعونه، فتخلفوا عنه وتقدم وحده وقد انهزم من بظاهر البلد من الفرنج فدخلوا البلد ووصل رمحه إلى الباب فأثر فيه وقاتلهم عليه، و بقى ينتظر وصول من كان معه، فحيث لم ير أحدا حمى نفسه وعاد سالما؛ كافعب لناس من إقدامه أولا ومن سلامته آخرا. ثم التقى. الجمعان فهزم الفرنج، لعنهم الله، ووصلوا إلى مضيق دون طبرية فاحتموا به، وجاءتهم نجدة فأذن الأمير مودود العسكر في الرجوع إلى بلادهم والاجتماع إليه في الربيع. فلما تفرقوا دخل دمشق وأقام بها. فخرج يوما يصلي الجمعة؛ فلما صلاها وخرج إلى صحن الجامع ويده بيد طغتكين وثب عليه إنسان فضربه بسكين معه فجره أربع جراحات، وكان صائما، فحمل إلى دار طغتكين واجتهد به ليفطر فلم يفعل وقال: لا لقيت الله إلا صائما، فإننى ميت لا محالة سواء افطرت أو صمت. وتوفى في بقية يومه رحمه الله؛ فقيل إن الباطنية بالشام خافوه فقتلوه، وقيل بل خافه طغتكين فوضع عليه من يقتله. وكان خيراً عادلا كل حسن السيرة. قال ابن الأثير: فحدثنى والدي رحمه الله قال: كتب ملك الفرنج إلى طغتكين: إن أمة قتلت عميدها في يوم عيدها في بيت معبودها لحقيق على الله أن يبيدها.

فلما قتل الأمير مودود أقطع السلطان البلاد، الموصل وغيرها، للأمير جيوش بك وسير معه ولده الملك مسعود إلى الموصل. ثم إنه جهز آق سنقر البرسقي في العساكر وسيره إلى قتال الفرنج، وكتب إلى عساكر الموصل وغيرها يأمرهم بالمسير معه فساروا، وفيهم عماد الدين زنكي، وكان يعرف في عساكر العجم بزنكي الشامي. فسار البرسقي إلى الرها في خمسة عشر ألف فارس، فحصرها وقاتل من بها من الفرنج والأرمن، وضاقت الميرة عن العسكر فرحل إلى سميساط، وهي أيضاً للفرنج، فأخرب بلدها و بلد سروج وعاد إلى شبختان فأخرب ما فيه للفرنج. وأببلى زنكي في هذه المواقف كلها بلاء حسنا؛ ثم عادت العساكر تتحدث بما فعله، وعاد البرسقي إلى بغداد، وأقام زنكي بالموصل مع الملك مسعود والأمير جيوش بك إلى سنة اربع وعشرين وخمسمائة، وقد علا قدره وظهر اسمه.
فصلوفي سنة إحدى عشرة وخمسمائة ولد الولك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله تعالى. وفيها غرقت سنجار من سيل المطر وهلك منها خلق كثير. ومن أعجب مايحكى أن السيل حمل مهداً فيه طفل فعلق المهد في شجرة ونقص الماء فسلم ذلك الطفل وغرق غيره من الماهرين بالسباحة. وفيها أيضا زلزلت إربل وغيرها من البلاد المجاورة لها زلزلة عظيمة. وفيها في الرابع والعشرين من ذى الحجة توفى السلطان غياث الدين محمد ابن ملكشاه وعمره سبع وثلاثون سنة وأربعة أشهر وستة أيام. وأول ما خطب له ببغداد في ذى الحجة سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وقطعت خطبته عدة مرار، ولقى من المشاق والأخطار ما لم يلقه أحد إلى أن توفى أخوه يكياروق، فحينئذ صفت له السلطنة واستقرت له، ودانت البلاد وأصحاب الأطراف لطاعته. وكان اجتماع الناس عليه بعد موت أخيه اثنتي عشرة سنة وستة أشهر. وكان عادلا حسن السيرة شجاعا، وأطلق المكوس والضرائب في جميع البلاد. ومن عدله أنه اشترى عدة مماليك من بعض التجار وأمر أن يوفى الثمن من عامل خوزستان، فأوصل إليه البعض ومطل بالباقي. فحضر التاجر مجلس الحكم وأخذ غلام الحاكم ووقف بطريق السلطان واستغاث إليه، فأمر من يستعلم عن حاله، فعاد الحاجب وأعلم السلطان حاله، فَعَظُم عليه وضاق صدره وأمر في الحال أن يحضر عامل خوزستان ويلزم بمال التاجر. ثم إنه ندم على تأخره عن مجلس الحكم. وكان يقول كثيراً: لقد ندمت على تركي حضور مجلس الحكم ولو فعلته لا قتدى بي غيري ولم بمتنع أحد عن أداء الحق. قال ابن الأثير: وهذه الفضيلة ذخرها الله تعالى لهذا البيت الأتابكى، فإن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي فعل ما ندم السلطان محمد على تركه. وقد تقدم ذلك. لما علم الأمراء وغيرهم من خلق السلطان محبة العدل وأداء الحق وكراهية الظلم ومعاقبة من يفعله اقتدوا به فأمن الناس وظهر العدل.
وولى بعد السلطان محمد ولده محمود، وعمر يومئذ أربع عشرة سنة، فقام بالسلطنة وجرى بينه وبين عمه سنجر حرب انهزم فيها محمود وعاد إلى عمه بغير عهد فأكرمه وأقطعه من البلاد من حد خراسان إلى الداروم بأقصى الشام. وهي من الممالك هدان وأصبهان و بلد الجبال جميعه و بلاد فارس وكرمان وخوزستان والعراق وآذربيجان وأرمينية وديار بكر وبلاد الموصل والجزيرة وديار مضر وديار ربيعة والشام وبلد الروم الذي بيد قليج أرسلان وما بين هذه المالك من البلاد. قال ابن الأثير: ورأيت منشوره بذلك.

وفي سادس عشر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة توفى الإمام المستظهربالله أمير المؤمنين ابو العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله. وكان عمره إحدى واربعين سنة وستة أشهر وستة أيام، وخلافته أربع وعشرون سنة وثلاثة أشهر وأحد عشر يوما، ومضى في أيامه ثلاث سلاطين خطب لهم ببغداد من الساجوقية، وهم أخو ملكشاه تاج الدولة تتش، وركن الدولة بكياروق بن ملكشاه وأخوه غياث الدين محمد بن ملكشاه. وكان المستظهر رحمه الله كريم الأخلاق، لين الجانب، مشكور المساعي، يحب العلم والعلماء؛ وصنفت له التصانيف الكثيرة في الفقه والأصول وغيرهما. وكان يسارع إلى أعمال البر والمثوبات، حسن الخط، جيد التوقيعات. ولما توفى صلى عليه ولده المسترشد بالله، ودفن في حجرة كانت له يألفها. وفي أيامه توفى جماعة من العلماء. ففي شعبان سنة ثمان وثمانين وأربعمائة توفى قاضي القضاة أبو بكر محمد بن المظفر الشامي. وفي ذي القعدة منها توفى القاضي عبد السلام بن محمد القزويني المعتزلى، مصنف " حدائق ذات بهجة " في تفسير القرآن يزيد على ثلمائة مجلد. قال ابن الأثير رأيت منه تفسير الفاتحة في مجلد كبير. وفى ذي الحجة منها توفى الإمام أبو نصر الحميدي مصنف الجمج بين الصحيحين. وفى شوال سنة إحدى وتسعين توفى الكامل نقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي وله نحو تسعين سنة. وفي سنة اثنتين وخمسمانة توفى أبو زكريا التبريزي اللغوي. وفي الحجة منها توفى أبو الفوارس الحسين بن علي الخازن صاحب الخط الحسن المشهور. وفي سنة خمس وخسمائة توفى الإمام أبو حامد الغزالي. وفي سنة سبع وخمسمائة توفى الإمام أبو بكر محمد ابن أحمد الشاشي الفقيه رحمهم الله أجمعين.
فصللما ولى السلطان محمود السلطنة أقر أخاه مسعودا على الموصل مع أتابكه جيوش بك، فبقى مطيعا لأخيه إلى سنة أربع عشرة وخمسمائة فحسن له الخروج عن طاعته وطلب السطنة، فأظهر العصيان وخطب الملك مسعود بالسلطنة، وكان زنكي يشير بطاعة السلطان و ترك الخلاف عليه، و يحذرهم عاقبة العصيان، فلم ينفع. فالتقى الأخوان في عسكريهما فهزم عسكر مسعود وأسر جماعة من الأمراء والأعيان، منهم الأستاذ أبو إسماعيل الحسين بن إسماعيل الطغرائي وزير مسعود فقتله السلطان محمود وقال قد صح عندي فساد اعتقاده ودينه، وكان قد جاوز ستين سنة، وكان حسن الكتابة جيد الشعر. قلت إنه قتل سنة ثلاث عشرة أو أربع عشرة أو ثماني عشرة وخمسمائة. وقيل إن الذي قتله هو السلطان طغرل بن محمد ابن ملكشاه. ذكر ذلك كله أبو سعد السمعاني في تاريخه وسماه الحسن بن علي بن عبد الصمد الدليمي، وأنشد له أشعاراً حسانا. منها
إذا ما لم تكن ملكا مطاعا ... فكن عبدا لمالكه مطيعا
وإن لم تملك الدنيا جميعا ... كما تهواه فاتركها جميعا
هما شيئان من ملك ونسك ... ينيلان الفتى الشرف الرفعيا
ومن يقنع من الدنيا بشيء ... سوى هذين يَحْىَ بها وضيعا
ثم استأ من مسعود وأتابكه جيوش بك فأمنها السلطان وأخذ الموصل منهما فأقطعها آق سنقر البرسقي مع أعمالها، كالجزيرة وسنجار ونصيبين وغيرها، في صفر سنة خمس عشرة وسيره إليها وأمره بحفظ عماد الدين زنكي وتقديمه والوقف عند إشارته، ففعل البرسقي ذلك وزاد عليه، لمكان زنكي من العقل والشجاعة وتقدم والده في الأيام الكنية. وكانت سيرة ملكشاه عندهم كالشريعة المتبعة، فأعظم الناس عندهم أكثرهم اتباعا لسيرته.

وفي سنة ست عشرة وخمسمائة أقطع أتابك زنكي مدينة واسط وشحنكية البصرة، وظفر من كفايته في البلدين ما لم بظنه أحد، فازداد شأنه عظما. وهاب الأمير دبيس ابن صدقة الأسدي صاحب الحلة ناحيته، وجرت بينه وبين البرسقي حروب ومواقفات، وهم دبيس بقصد بغداد فسار البرسقي إليه، وتبعه الخليفة المسترشد بالله بنفسه. فانهزم عسكر دبيس وقتل منهم وأسر خلق كثير. وكان لعماد الدين زنكي أثر حسن في هذه الوقعة، أيضا بين يدي الخليفة، وذلك في أول الحرم سنة سبع عشرة. وأما دبيس فإنه لما انهزم لحق بالملك طغرل بن السلطان محمد وصار معه من خواص أصحابه، وكان عاصياً على أخيه السلطان محمود. وأمر السلطان محمود البرسقي أن يرجع إلى الموصل، فعاد واستدعى زنكي من البصرة ليسير معه إلى الموصل؛ فقال زنكي لأصحابه: قد ضجرنا مما نحن فيه؛ كل يوم قد ملك البلاد أمير ونؤمر بالتصرف على اختياره وإرادته. ثم تارة بالعراق وتارة بالموصل وتارة بالجزيرة وتارة بالشام. فسار من البصرة إلى السلطان محمود فأقام عنده. وكان يقف إلى جانب تخت السلطان عن يمينه لا يتقدم عليه أحد، وهو مقام والده قسيم الدولة من قبله، وبقي ولده من بعده.
ثم أتي السلطان الخبر أن العرب قد اجتمعت ونهبت البصرة، فأمر زنكي بالمسير إليها وأقطعه إياها لما بلغه عنه من الحماية لها في العام الماضي وقت اختلاف العساكر والحروب. ففعل ذلك فعظم عند السلطان وزاد محله. وكان قد جرى بين برتقش الزكوى شحنة بغداد وبين الخليفة المسترشد بالله نفرة، فتهدده المسترشد، فسار عن بغداد إلى السلطان في رجب سنة تسع عشرة شاكيا من المسترشد، وحذر السلطان جانبه، وأعلمه أنه قد جمع العساكر عازماً على منعه من العراق. فسار السلطان إلى بغداد وجرى بينه و بين المسترشد حروب ووقائع، ثم اصطلحاً وعدا إلى ما كانا عليه؛ وأقام السلطان ببغداد إلى عاشر ربيع الآخر، ونظر فيمن يصلح أن يلي شحنكية بغداد، والعراق يأمن معه من الخليفة ويضبط الأمور. فولى ذلك زنكي مضافا إلى ما بيده من الإقطاع وساًر السلطان عن بغداد.
وفي سنة عشرين وخمسمائة قتل آق سنقر البرسقي بالجامع العتيق بالموصل بعد الصلاة يوم الجمعة، ثار به من الباطنية ما يزيد على عشرة أنفس، فقتل بيده منهم ثلاثة، وقتل رحمه الله. وكان عادلا لين الأخلاق حسن العشرة، وكان يصلى كل ليلة صلاة كثيرة ولا يستعين في وضوئه بأحد. فقرر السلطان ولده عز الدين مسعوداً على ما كان لأبيه من الأعمال، وهي الموصل وديار الجزيرة وحلب وحماة وجزيرة ابن عمر وغيرها. وكان شابا عاقلا فضبط البلاد، ولم تطل أيامه؛ وتوفى سنة إحدى وعشرين، وولى الأمر بعده أخوه الصغير. وقام بتدبير دولتيهما الأمير جاولى، وهو مملوك تركي من مماليك أبيهما، فجرت الأمور على أحسن نظام.
فصل في ولاية زنكي الموصل وغيرها من البلاد التي كانت يد البرسقي

وذلك في شهر رمضان من سنة إحدى وعشرين. وسيب ذلك أن عز الدين البرسقي لما توفى وقام بالبلاد بعده أخوه الصغير وتولى أمره جاولى أرسل إلى السلطان محمود يطلب ان يقر البلاد عليه؛ وكان المرسل بذلك، القاضي بهاء الدين أبو الحسن علي بن المشزوي وصلاح الدين محمد للباغيساني. فحضرا بغداد ليخاطبا السلطان في ذلك، وكانا يخافان جاولى ولا يرضيان بطاعته والتصرف بحكمه. وكان بين الصلاح و بين نصير الدين جقر مصاهرة، فأشار عليهما أن يطلبا البلاد لعماد الدين زنكيم، ففعلا وقالا للوزير: قد علمت أنت والسلطان أن بلاد الجزيرة والشام قد استولى الفرنج على أكثرها وفي تمكنوا منها وقويت شوكهم، وكان البرسقي يكف بعض عاديتهم، فمند قتل ازداد طمعهم. وهذا ولده طفل صغر ولا بد للبلاد من شهم شجاع يذب عنها و يحمي حوزتها؛ وقد أنهينا الحال إليكم لئلا يجرى خلل أووهن على الإسلام والمسلمين فنحصل نحن بالإثم من الله تعالى واللوم من السلطان. فأنس الوزير ذلك إلى السللطان فأعجبه وقال: من تريان يصلح لهذه البلاد؟ فذكرا جماعة فيهم عماد الدين زنكي، وعظما محله أكثر من غيره. فأجاب السلطان إلى توليته لما علم من شهامته كفايته؛ فولى البلاد جميعها، وكتب منشوره بها وسار من بغداد إلى البوازيج ليملكها و يتقوى بها و يجعلها ظهره إن منعه جاولى عن البلاد. فلما استولى عليها سار عنها إلى الموصل، فخرج جاولى إلى لقائه وعاد في خدمته إلى الموصل، فسيره إلى الرحبة وأعمالها، وأقام، بالموصل يصلح أمورها و يقرر قواعدها. فولى نصير الدين دزدارية قلعة الموصل وفوضى إليه أمر الولاية جميعها، وجعل الدزدارية في البلاد جميعها له، وجعل الصلاح محمد الياغبساني أمير حاجب الدولة، وجعل بهاء الدين قاضي قضاة بلاده جميعها وما يفتحه من البلاد، ووفي لهم بما وعدهم. وكان بهاء الدين أعظم الناس عنده منزلة وأكرمهم عليه، وأكثرهم انبساطا معه وقربا منه، ورتب الأمور على أحسن نظام وأحكم قاعدة.
وكان الفرنج قد اتسعت بلادهم، وكثرت أجنادهم، وعظمت هيبتهم، وزادت صولتهم، وامتدت إلى بلاد المسلمين أيديهم، وضعف أهلها عن كف عاديهم، وتتابعت غزواتهم، وساموا المسلمين سوء العذاب، واستطار في البلاد شرر شرهم، وافتدت مملكتهم من ناحية ماردين وشبختان إلى عريش مصر لم يتخللها من ولاية المسلمين غير حلب وحماة وحمص ودمشق. وكانت سراياهم تبلغ من ديار بكر إلى آمد ومن ديار الجزيرة إلى نصيبين ورأس عين؛ أما أهل الرّقة وحر إن فقد كانوا معهم في ذل وهوان. وانقطعت الطرق إلى دمشق إلا على الرحبة والبر؛ ثم زاد الأمر وعظم الشر، حتى جعلوا على أهل كل بلد جاورهم خراجا وإتاًوة، يأخذونها منهم ليكفوا أذيتهم عنهم. ثم لم يضعوا بذلك حتى أرسلوا إلى مدينة دمشق واستعرض والرقيق ممن أخذ من الروم والأرمن وسائر بلاد النصرانية، وخيروهم بين المقام عند أربابهم والعود إلى أوطانهم؛ فمن اختار المقام تركوه ومن اثر العود إلى أهله أخذوه؛ وناهيك بهذه الحالة ذلة للمسلمين وصغاراً. وأما أهل حلب فإن الفرنج أخذوا منها مناصفة أعمالها حتى في الرحا التي على باب الجنان، وبينها وبين المدينة عشرون خطوة. وأما باقي بلاد الشام فكان حال أهلها أشد من حال هذين البلدين. فلما نظر الله سبحانه إلى بلاد المسلمين ولاها عماد الدين زنكي فغزا الفرنج في عقر ديارهم وأخذ للموحدين منهم بثأرهم، واستنقذ منهم حصونا ومعاقل. وسيأتي تفصيل ذلك وما فتحه من البلاد الإسلامية هو وابنه من بعده إن شاء الله تعالى.
فصل

ثم شرع زنكي رحمه الله في أخذ البلاد؛ فافتتح جزيرة ابن عمر ثم مدينة إربل في رمضان سنة اثنتين وعشرين، ثم عاد إلى الموصل. وسار في جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين إلى سنجار فتسلمها وسير منها الشحن إلى الخابور فملكة، ثم قصد الرحبة فلكت قسرا، ثم افتتح نصيبين وساًر إلى حران. وكانت الرها وسروج وغيرهما من ديار الجزيرة الفرنج، لعنهم الله، وأهل حران معهم في ضيق عظيم؛ فراسلوا زنكي بالطاعة واستحثوه على الوصول إليهم ففعل، وهادن الفرنج مدة يسيرة يعلم أنه يفرغ فيها من الاستيلاء على ما بقى من البلاد الشامية والجزرية. وكان أهم الأشياء عنده عبور الفرات، وملك مدينة حلب وغيرها من البلاد الشامية. فلما عبر الفرات ملك مدينة منبج وحضن بزاعة، وحاصر حلب ثم فتحت له فرتب أمورها، وسار عنها إلى حماة فملكها وقبض على صاحب حمص وحصرها، وذلك سنة ثلاث وعشرين. وفي سنة أربع وعشرين اتفق صاحب آمد مع صاحب حصن كيفا وغيرهما من الملوك وجمعوا عساكر نحو عشرين ألفاً وقصدوا زنكي فلقيهم فهزمهم وملك سَرْجَة ودارا. ثم على الجهماد فنازل حصن الأثارب، وكان أضر شيء على أهل حلب، فجمع الفرنج جمعا عظيما فهزمهم وقتلهم مقتله عظيمة وبقيت عظام القتلى بتلك الأرض مدة طويلة. ثم رجع إلى حن فملكه عنوة فأخربه ومحا أثره، وأزال من تلك الأرض ضرره. ثم رحل إلى حصن حارم فحصره، فأنقذ من لم يحضر المعركة من الفرنج ومن نجا منها يسألون الصلح ويبذلون له المناصفة على ولاية حارم، فأجابهم ذلك لأن عسكره كان قد كثرت فيهم الجراحات والقتل فأراد أن يستريحوا، فهادنهم وعاد عنهم وقد أيقن المسلمون بالشام بالأمن وحلول النصر، وسيرت البشائر إلى البلاد بذلك، وفيها استولى زنكي على مدينة حماة وما فيها، وكان فيها بهاء الدين سونج بن تاج الملوك بورى، فأخذه ورجاله ثم طلب في إطلاقهم خمسين ألف دينار، فانفق حضور دبيس بن صدقة بن مزيد أمير العراق بدمشق منهزماً فطلبه زنكي وأطلق من كان عنده من سونج وأصحابه. ذكر ذلك الرئيس أبو العلى.

وفي سنة خمس وعشرين وخمسمائة توفى السلطان محمود بهمذان، وكان عمره نحو ثماني وعشرين سنة، وكانت ولايته ما يقارب أربع عشرة سنة؛ وكان حليما كريما عاقلا عادلا كثير الاحتمال. وطلب السلطنة بعد وفاته ابنه داود بن محمود، وأخواه مسعود وسلجوق شاه ابنا محمد، وعمها سنجر بن ملكشاه ومعه طغرل ابن السلطان محمد. فجرت بينهم حروب واختلافات كثيرة ظفر فيها سنجر وخطب لابن أخيه طغرل بالسلطنة في هذان وأصفهان والري وسائر بلاد الجبل. وفي سنة سبع وعشرين سار الخليفة المسترشد بنفسه إلى الموصل في ثلاثين ألف فارس فحاصرها ثلاثة أشهر، ثم عاد إلى بغداد ولم يبلغ غرضا. وفي سنة تسع وعشرين استولى زنكي على سائر قلاع الحميدية وولاياتهم، منها قلعة العقير وقلعة شوش، وحاصر مدينة آمد ثم مدينة دمشق. وفيها توفيت والدته بالموصل. وفي المحرم سنة تسع وعشرين توفى السلطان طغرل بن محمد بن ملكشاه، فخرج السلطان مسعود والتق هو والخليفة المسترشد في عسكرين عظيمين عاشر رمضان، فهزم عسكر الخليفة وقبض عليه وعلى خواصه، وأنفذ السلطان شحنة إلى بغداد فقبض جميع أملاك الخليفة، وهجم جماعة من الباطنية على المسترشد وهو في الخيمة فقتلوه. وكتب السلطان إلى شحنة بغداد يأمره بالبيعة لابنه أبى جعفر المنصور بن المسترشد، فبايعه في السادس والعشرين من ذي القعدة ولقب بالراشد. وكان عمر المسترشد ثلاثا وأربعين سنة وثلاثة أنهر وثمانية أيام، وكانت خلافته سبع عشرة سنة وسبعة أشهر. وكان شهما شجاعا، مقداماً فصيحاً، وتمكن في خلافته تمكنا عظيما لم يره أحد ممن تقدمه من الخلفاًء من عهد المنتصر بالله إلى خلافته، إلا أن يكون المعتضد والمكتفي، لأن المماليك كانوا قديما يخلعون الخلفاء ويحكمون عليهم؛ ولم يزالوا كذلك إلى مُلك الديلم واستيلائهم على العراق، فزالت هيبة الخلافة بالمرة إلى انقراض دولة الديلم. فلما ملك السلجوقية جددوا من هيبة الخلافة ما كان قد درس، لا سيما في وزارة نظام الملك فإنه أعاد الناموس والهيبة إلى أحسن حالاتها، إلا أن الحكم والشحن بالعراق كان إلى السلطان، وكذلك العهد وضمان البلاد، ولم يكن للخلفاء إلا إقطاع يأخذون دخله. وأما المسترشد فإن استبد بالعراق بعد السلطان محمود، ولم يكن للسلطان معه في كثير من الأوقات سوى الخطبة، واجتمعت عليه العساكر، وقاد الجيوش وباشر الحروب.
وفي سنة ثلاثين وخمسمائة سار الراشد إلى الموصل صحبة زنكي ملتجئا إليه. وذلك أن جماعة حسنوا له الخروج من بغداد لمحاربة السلطان مسعود فأجابهم إلى ذلك، وظهر منه تنقل في الأحوال وتلون في الآراء، وقبض على جماعة من أعيان أصحابه وخافه الباقون، وتقدم السلطان مسعود وحصر بغداد واستظهر عليها. فخرج الراشد ملتجئا إلى زنكي فسار به إلى الموصل، ودخل مسعود بغداد وأمر بخلع الراشد ومبايعة،عمة أبى عبد لله محمد ابن المستظهر بالله، ففعل ذلك ولقب المقتفى لأمر الله. وأما الراشد فإن السلطان سنجر أرسل إلى أتابك يأمره بإخراجه عن بلده، فسار إلى اذربيجان ثم إلى همدان، فاجتمع إليه مُلوك وعساكر كثيرة وسار السلطان إليهم فتصافوا فانهزم الراشد وقصد أصبهان، فقتله الباطنية بها في السابع والعشرين من رمضان سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، ودفن بأصبهان. وفي سنة اثنتين، وثلاثين أيضاً تزوج زنكي بالخاتون صفوة الملك زمرد ابنة الأمير جاولى،أم ششمس الملوك إسماعيل وإخوته بني تاج الملوك بن طغتكين أتابك؛ وهي أخت الملك دقاق لأمه. و إليها ينسب مسجد خاتون الذي هو مدرسة لأصحاب أبى حنيفة بأعلى الشرف القبلي بأرض دمشق بأرض صنعاء. وتسلم قلعة حمص.
فصل في جهاد زنكي للفرنج

لما كان في سنة اثنتين وثلاثين خرج ملك الروم من القسطنطينية ومعه خلق عظيم لا يحصون كثرة من الروم والفرنج وغيرهم من أنواع النصارى، فقصد الشام، لخافه الناس خوفا عظيما. وكان زنكي مشغولا بما تقدم ذكره لا يكنه مفارقة الموصل. فقعد ملك الروم مدينة بزاعة وحصرها، وهي على مرحلة من حلب، وفتحها عنوة وقتل المقاتلة وسبى الذرية في شعبان. ثم سار عنها إلى شيزر، وهي حصن منيع على مرحلة من حماة، فحصرها منتصف شعبان ونصب عليها ثمانية عشر منجنيقا. وأرسل صاحبها أبو العساكر سلطان بن منقذ إلى زنكي يستنجده، فنزل على حماة، وكان يركب كل يوم في عساكره ويسير إلى شيزر بحيث يراه ملك الروم، ويرسل السرايا يتخطف من يخرج من عساكرهم للميرة والنهب، ثم يعود آخر النهار. وكان الروم والإفرنج قد نزلوا على شرقي شيزر، فأرسل إليهم زنكي يقول لهم: إنكم قد تحصنتم بهذه الجبال فاخرجوا عنها إلى الصحراء حتى نلتقي، فإن ظفرتم أخذتم شيزر وغيرها، وإن ظفرت بكم أرحت المسلمين من شركم. ولم يكن له بهم قوة لكثرتهم، وإنما كان يفعل هذا ترهيبا لهم. فأشار الفرنج على ملك لروم بلقائه وقتاله وهونوا أمره، فقال لهم الملك أتظنون أن معه من العساكر ما ترون وله البلاد الكثيرة! و إنما هو يريكم قلة من معه لتطمعوا وتصحروا له، فحينئذ ترون من كثرة عسكره ما يعجزكم. وكان أتابك زنكي مع هذا يراسل فرنج الشام و يحذرهم ملك الروم و يعلمهم أنه إن ملك بالشام حصنا واحدا أخذ البلاد التي بأيديهم منهم. وكان يراسل ملك لروم يتهدد ويوهمه أن الفرنج معه. فاستشعر كل واحد من الفرنج والروم من صاحبه، فرحل ملك الروم عنها في رمضان، وكان مقامه عليها أربعة وعشرين يوما، وترك المجانيق والآت الحصار بحالها فسار زنكي خلفهم فظفر بطائفة منهم في ساقة العسكر فغنم منهم وقتل وأسر، وأخذ جميع ما خلفوه ورفعه إلى قلعة حلب، وكفى الله المؤمنين القتال. وكان المسلمون بالشام قد اشتد خوفهم وعلموا أن الروم إن ملكوا حصن شيزر لا يبق لمسلم معهم مقام، لاسيما حماة لقربها.
ولما يسر الله تعاًلى هذا الفتح مدح الشعراء الشهيد أتابك فأكثروا. منهم أبو المجد المسلم ابن الخض بن المسلم بن قسيم الحموي، له قصيدة، قد ذكرتها في ترجمته في التاريخ، أولها:
بعزمك أيها الملك العظيم ... تزل لك الصعاب وتستقيم
ألم تر أن كلب الروم لما ... تبين أنك الملك الرحيم
فجاء يطبق الفلوات خيلا ... كأن الجحفل الليل البهيم
وقد نزل الزمان على رضاه ... فكان الخطبه الخطب الجسيم
فحين رميته بك في خميس ... تيقن أن ذلك لا يدوم
وأبصر في المفاضة منك جيشا ... فأحزن لا يسير ولا يقيم
كأنك في العجاج شهاب نور ... توقد وهو شيطان رجيم
أراد بقاء مهجته فولى ... وليس سوى الحمام له حميم
يؤمل أن تجود بها عليه ... وأنت بها وبالدنيا كريم
أيلتمس الفرنج لديك عفوا ... وأنت بقطع دابرها زعيم
وكم جرعتها غصص المنايا ... بيوم فيه يكتهل الفطيم
ولما أن طلبتهم تمنى ال ... منية جوسلينهم اللئيم
أقام يطوف الآفاق حينا ... وأنت على معاقله مقيم
فسار وما يعادله مليك ... وعاد وما يعادله سقيم
إذا خطرت سيوفك في نفوس ... فأول ما يفارقها الجسوم
وله أيضاً من قصيدة يمدح بها صلاح الدين محمد بن أيوب العمادي التوتان صاحب حماة:
وما جاء كلب الروم إلا ليحتوي ... حماة، وما يسطو على الأسد الكلب
أراد بها أن يملك الشام عنوة ... وقد غُلبت عنه الضراغمة الغلب
وما ذم فيها العيش حتى صدمته ... فمال جناح الجيش وانكسر القلب
فولى وأطراف الرماح كأنها ... نجوم عليه بالمنية تنصب
ولابن منير من قصيدة في مدح أتابك زنكي رحمه الله ستأتي عند فتحه لمدنية الرها إن شاء الله تعالى:
وما يوم كلب الروم إلا أخو الذي ... أزحت به ما في الجناجن من نبل

أتاك بمثل الروم حشدا، وإنه ... ليفضل أضعافا كثيراً عن الرمل
فقاتلته بالله ثم بعزمة ... تصك قلوب العاشقين بما تسلى
توهم أن الشام مرعى، وما درى ... بأنك أمضى منه في الشزر والسجل
فطار وخير المغنمين ذماؤه ... إذا رد عنه مغنم المال والأهل
قال ابن الأثير: ومن عجيب ما يحكى في هذه الحادثة أن الخبر لما وصل بقصد الروم شيزر قام الأمير مرشد بن علي، أخو صاحبها، وهو ينسخ مصحفا، فرفعه بيده وقال: اللهم بحق من أنزلته عليه إن قضيت بمجيء الروم فاقبضني إليك؛ فتوفى بعد أيام ونزل الروم بعد وفاته. ولما عاد الروم إلى بلادهم نزل أتابك إلى حصن عرقه، وهو من أعمال طرابلس، فحصره وفتحه عنوة ونهب ما فيه وأسر من به من الفرنج وأخربه وعاد سالما غانما. وفيها ملك قلعة دارا من حسام الدين تمرتاش. وفيها توفى، بهاء الدين علي بن القاسم الشهرزوري قاضي الممالك الأتابكية، وكان أعظم الناس منزلة عنده. وفيها ولد صلاح الدين يوسف بن أيرب بتكريت.
فصل في فتح شهرزور وبعلبك وحصار دمشققال ابن الأثير: كانت شهرزور وأعمالها وما يجاورها من البلاد والجبال في يد قفجق ابن أرسلان تاش التركماني، وكان ملكها نافذ الحكم على قاضي التركمان ودانيهم، يرون طاعته فرضا حتما. فتحامى، الملوك قصد ولايته ولم يتعرضوا لها لحصانتها، فعظم شأنه وازداد جمعه. فلما كانت سنة أربع وثلاثين بلغ الشهيد أتابك عنه ما اقتضى أن يقصد بلاده؛ فهزم عسكره ومذ بلاد شهرزور وغيرها، فأضافها إلى بلاده وأصلح أحوال أهلها، وخفف عنهم ما كانوا يلقونه من التركمان. وعاد إلى الموصل عازما على المسير إلى الشام، فإنه كان لا يرى المقام، بل لا يزال ظاعنا، إما لرد عدو يقصده، وإما لقصد بلاد عدو، و إما لغزو الفرنج وسد الثغور. وكانت مياثر السروج آثر عنده من وثير المهاد، والسهر في حراسة المملكة أحب إليه من عرض الوساد، وأصوات السلاح ألذ في مسمعه من الغناء، لا يجد لذلك كله عناء. وفي هذه السنة، وهي سنة أربع وثلاثين، ولد تقي الدين عمر بن شاهنشاه ابن أيوب بن شاذي. وفيها سار الشهيد في جنوده بعد ملك شَهْرَزَوْرَ إلى مدينة دمشق فحصرها، وصاحبها حينئذ جمال الدين محمد بن بورى بن طغتكين، وكان محكوما عليه، والغالب على أمره معين الدين أثر مملوك جده طغتكين. وكان أنابك قد أمر كمال الدين أبا الفضل بن الشهرزوري بمكاتبة جماعة من مقدمي أحداثها وزناطرتها واستمالتهم وإطماعهم في الرغائب والصلات؛ ففعل ذلك فأجابه منهم خلق كثير إلى تسليم البلد، وخرجوا متفرقين إلى كمال الدين، وجدد عليهم العهود، وتواعدوا يوماً يزحف فيه الشهيد إلى البلد ليفتحوا له الباب و يسلموا البلد إليه. فأعلم كمال الدين الشهيد أتابك بذلك، فقال: لا أرى هذا رأياً، فإن البلد ضيق الطرُق والشوارع، ومتى دخل العسكر إليه لا يتمكنون من القتال فيه لضيقه، وربما كثر المقاتلون لنا فنعجز عن مقاومتهم لأنهم يقاتلون على الأرض والسطوحات، وإذا دخلنا البلد اضطررنا إلى التفرق لضيق المسالك فيطمع فينا أهله. وعاد عن ذلك العزم بحرمه وحذره.
ومن العجب أن محمد بن بورى صاحب دمشق توفى وأتابك يحصره، فضبط أثر الأمور يتغير بالناس حال. وأرسل إلى بعلبك فأحضر ولده مجير الدين آبق بن محمد بن بورى، ورتبه في الملك أبيه، فمشى الحال بتمكين معين الدين أثر وحسن تدبيره. وهذا مجير الدين آبق هو الذي منه أخذ نور الدين بن زنكي دمشق كما سيأتي. ولما دخل مجير الدين دمشق أقطع معين الدين أثر× فأرسل إليها نائبه وتسلمها. فلما علم الشهيد ذلك سار إلى بعلبك، وحصرها عدة شهور، فملكها عنوة، وترك بها نحم الدين أيوب والد صلاح الدين دزداراً، وزعم على العود عنها إلى دمشق، فجاءته رسل صاحبها ببذل الطاعة والخطبة، فأجابه إلى ذلك، وعاد عن قصد دمشق، وقد خطب له فيها وصار أصحابها في طاعته وتحت حكمه.

قال يحيى بن أبى طي الحلبي: واتفق أن الامراء نزلوا من بعلبك أفسدوا ذخائرها فقبض عليهم أتابك زنكي وقتل بعضهم وصلبهم، وكان ولى قتلهم صلاح الدين محمد بن أيوب الياغساني فحكى أنه أحضر إليه في جملة الامراء شيخ مليح الشيبة، ومعه ولدله أمرد كأنه فلقة قمر فقال الشيخ لصلاح الدين، سألتك بحياة المولى أتابك إلا صلبتني قبل ولدي لئلا أراه يعالج سكرات الموت! وبكى وكان نجم الدين أيوب واقفا، فرحم الشيخ وبكى، وسال صلاح الدين في إطلاقه فقال: ما أفعل خوفا من المولى أتابك. فذهب نجم الدين إلى أتابك وسأله في الشيخ وولده ما قاله؛ فأذن بإطلاقه وإطلاق من بقى من الجماعة، ووهيه نصف بعلبك. وقيل إن نجم الدين ورد على أتابك وهو قد ملك بعلبك فسأله في الأمراء فأطلقهم له، وولاه بعبك، وكتب له ثلثها ملكا، واستقر فيها هو وأهله؛ ولم يزل بها إلى أيام نور الدين محمود بن زنكي، فأخرجه منها على مما سنذكره.
ثم إن أتابك بعد ملكة بعلبك سار إلى دمشق، فنزل البقاع. فوردت هدية صاحب دمشق، ويطلب العود و يعطيه خمسين كل ألف دينار، ويعطيه حمص. فأشار نجم الدين على زنكي بقبول ذلك، وقال هذا مال كثير، وقد حصل بلا تعب، و بلد كبير بلا عناء، ودمشق بلد عظيم، وقد ألف أهله هذا البيت وتمرنوا على سياستهم وقد بلغتهم الأحوال التي جرت بعلبك. فامتنع زنكي من قبول ما أشار به؛ ففاته فلك ولم يظفر بغرضه.
فصلثم سار أتابك الشهيد في هذه السنة، وهي سنة أربع وثلاثين، إلى بلاد الفرنج فأنار عليها،. واجتمع ملوك الفرنج وساروا إليه، فلقيهم بالقرب من حصن بارين، وهو للفرنج؛ فصبر الفريقان صبرا لم يسمع بمثله إلا ما يكى عن ليلة الهرير. ونصر الله المسلمين، وهرب ملوك الفرنج وفرسانهم، فدخلوا حصن بارين، وفيهم ملك القدس، لأنه كان أقرب حصونهم، وأسلموا عدتهم وعنادهم، وكثر فيهم الجراح. ثم سار الشهيد إلى حصن بارين فحصره حصرا شديدا؛ فراسلوه في طلب للأمان ليسلموا و يسلموا الحصن، فأبى إلا أخذهم قهرا. فبلغه أن من بالساحل من الفرنج قد ساروا إلى الروم والفرنج يستنجدونهم، وينهون إليهم ما فيه ملوكهم من الحصر عليهم؛ فجمعوا وحشدوا وأقبلوا إلى الساحل، ومن بالحصن لا يعلمون بشيء من ذلك لقوة الحصر عليهم. فأعادوا مراسلته في طلب الإمان، فأجابهم وتسلم الحصن وساروا، فلقيتهم أمداد النصرانية، فسأوهم عن حالهم فأخبروهم بتسليم الحصن. قلاموهم وقالوا عجزتم عن حفظه يوما أو يومين! فحلفوا لهم إنا لم نعلم بوصولكم، ولم يبلغنا عنكم خبر منذ حصرنا إلى الآن. فلما عميت الأخبار عنا ظننا أنكم قد أهلتم أمرنا، فحقنا دماءنا بتسليم الحصن.
قال ابن الأثير: وكان حصن بارين من أضر بلاد الفرنج على المسلمين، فأن أهله كانوا قد أخربوا ما بين حماة وحلب من البلاد ونهبوها، وتقطعت السبل؛ فأزال الله تعالى بالشهيد، رخمه الله هذا الضرر العظيم. وفي مدة مقامه على حصن بارين سير جنده إلى المعرة وكفر طاب وتلك الولاية جميعها، فاستولى عليها وملكها، وهي بلاد كبيرة وقرايا عظيمة.
قلت: وقد قال القيسراني يذكر هزيمة الفرنج ويمدح زنكي قصيدة أولها:
حَذار مِنَّا، وأني ينفُع الحذر ... وهي الصّوارم لا تُبقى ولا تَذَر
وأيْن ينجو ملوكُ الشرك ... من خيُله النَصُر، لا بل جُندُه القدر
سلُّوا سيوفا كأغماد السيوف بها ... صالوا فماَ غمدوا نصْلا ولا شهورا
حتى إذا ما عمادُ الدين أرهقهم ... في مأزق من سناه يبرق البصر
وَلَّوْا نضيق بهم ذرعا مسالكُهم ... والموت لا ملجأٌ منه ولا وَزَرُ
وفي المسافة من دون النجاة لهم ... طول وإن كان في أقطارها قصر
وأصبح الدين لا عينا ولا أثرا ... يخاف والكفر لا عين ولا أثر
فلا تخفف بعدها الإفرنج قاطبة ... فالقوم إن نفروا ألوى بهم نفر
إن قاتلوا قُتِلوا أو حاربوا حُرِبوا ... أو طاردوا طُرِدوا أو حاصر واحُصِروا
وطالما استفحل الْخَطْبُ البهيم ... حتى أتى مَلك آراؤه غُرر

والسيف مُفْترع أبكار أنفسهم ... ومن هنالك؟ قيل الصارم الذكر
لا فارقت ظِلَّ محيى العدل لامعة ... كالصبح تطوى من الأعداء ما نشروا
ولآ انثنى النّصْرُ عن أنصار دولته ... بحيث كان وإن كانوا به نصروا
حتى تعود ثغور الشام ضاحكة ... كانما حل في أكنافها عمر
وقال ابن منير:
فدتك الملوك وأيامها ... ودام لنقضك إبرامها
وزلت لِعَيْنِك أقدامها ... وزال لبطشك إقدامها
واو لم تُسلم إليك القلوب ... هواها لما صح إسلامها
أيا محيى العدل لما نعاه ... أيامي البرايا وأيتامها
مستنفذ الدين مع أمه ... أذال المحاربب أصنامها
دلفت لها تقتفيك الأسو ... دو البيض والسمر آجامها
جزرت جزيرتها،بالسٌّيو ... ف حتى تشاء مها شامها
وصارت عوارى أكنافه ... متى شئت أرخص مستامها

قال ابن الأثير: ولما وصل الروم والفرنج إلى الشام ورأوا الأمر قد فات، أرادوا جبر مصيبتهم بمنازلة بعض بلاد المسلمين. فنازلوا حلب وحصروها، فلم ير الشهيد أن يخاطر بالمسلمين و يلقاهم، لأنهم كانوا في جمع عظيم. فانحاز عنهم، ونزل قريبا منهم، يمنع عنهم الميرة، ويحفظ أطراف البلاد من انتشار العدو فيها، والإغارة عليها. وأرسل القاضي كمل الدين ابن الشهرزوري إلى السلطان مسعود. ينهى إليه الحال بأمر البلاد وكثرة العدؤ، و يطلب منه النجدة وإرسال العساكر. فقال كمل الدين: أخاف أن تخرج البلاد من أيديناً وبجعل السلطان هذا حجة ويُنفذ العساكر، فإذا توسطوا البلاد ملكوها. فقال الشهيد: إن هذا العدو قد طمع في، وإن أخذ حلب لم يبق بالشام إسلام؛ وعلى كل خال فالمسلمون أولى بها من الكفار. قال: فلما وصلت إلى بغداد وأديت الرسالة، وعدني السلطان بإنفاذ العساكر، ثم أهمل ذلك ولم يتحر فيه بشيء؛ وكُتُبُ الشهيد إلى متصلة يحثني على المبادرة بإنفاذ العساكر، وأنا أخاطب فلا أزاد على الوعد. قال: فلما رأيت عدم اهتمام السلطان بهذا الأمر العظيم أحضرت فلانا، وهو فقيه كان ينوب عنه في القضاء، فقلت: خذ هذه الدنانير وفرقها في جماعة من أو بأش بغداد والأعاجم، و إذا كان يوم الجمعة وصعد الخطيب المنبر بجامع القصر قاموا، وأنت معهم، واستغاثوا بصوت واحد: وَا إسْلاماه ! وَا دين مُحمّدَاه! ويخرجون من الجامع يقصدون دار السلطنة مستغيثين. ثم وضعت إنسانا آخر يفعل مثل ذلك في جامع السلطان. فلما كانت الجمعة وصعد الخطيب المنبر، قام ذلك. الفقيه ومزق ثوبه وألق عمامته عن رأسه،، وصاح، وتبعه أولئك النفر بالصياح والبكاء. فلم يبق بالجامع إلا من قام يبكي؛ و بطلت الجمعة، وسار الناس كلهم إلى دار السلطان. وقد فعل أولئك الذين بجامع السلطان مثلهم. فاجتمع أهل بغداد وكل من بالعسكر عند دار السلطان، يبكون ويصرخون ويستغيثون، وخرج، الأمراء عن الضبط، وخاف السلطان في داره وقال ما الخبر فقيل له: إن الناس قد ثاروا حيث لم ترسل العساكر إلى الغزاة. فقال: أحضروا ابن الشهرزوري. قال: فحضرت عنده وأنا خائف منه، إلأ أنني عزمت على صدقه وقول الحق. فلما دخلت عليه قال: ياقاضي: ما هذه الفتنة؟ فقلت: إن الناس قد فعلوا هذا خوفا من الفتنة الشر، ولا شك أن السلطان ما يعلم كم بينه وبين العدو، و إنما بينكم نحو أسبوع. ولئن أخذوا حلب انحدروا إليك في الفرات وفي البر، وليس بينكم بلد يمنعهم عن بغداد. وعظمت الأمر عليه حتى جعلته كأنه ينظر إليهم فقال: اردُد هؤلاء العامة عنا، وخذ من العساكر ماشئت، وسر بهم والأمداد تلحقك. قال فخرجت إلى العامة ومن انضم إليهم فأخبرتهم وعرقهم الحال، وأمرتهم بالعود، فعادوا وتفرقوا. وانتخبت من عسكره عشرة آلاف فارس، وكتبت إلى الشهيد أعرفه الخبر وأنة لم يبق غير المسير، وأجدد استئذانه في ذلك. فأمرني بتسييرهم والحث على ذلك، فعبرت العساكر الجانب الغربي. فبينما نحر نتجهز للحركة وإذا قد وصل نجاب من الشهيد يخبر بأن الروم والفرنج قد رحلوا عن حلب خائبين، لم ينالوا منها غرضا؛ ويأمرني بترك استصحاب العساكر. فلما خوطب السلطان في ذلك أصر على إنفاذ العساكر إلى الجهاد وقصد بلاد الفرنج وأخذها؛ وكان قصده أن تطأ عساكره البلاد بهذه الحجة فيملكها. قال: فلم أزل أتوصل مع الوزير وأكابر الدولة حتى أعدت العساكر إلى الجانب الشرقي وسرت إلى الشهيد. قال ابن الأثير: فانظروا إلى هذا الرجل الذي هو خير من عشرة آلاف فارس، يعنى كمال الدين،. رحم الله الشهيد فلقد كان ذاهمة عالية، ورغبة في الرجال ذوى الرأي والعقل، يرغبهم و يخطبهم من البلاد، ويوفر لهم العطاء.
حكى لي والدي قال: قيل الشهيد: إن هذا كمال الدين يحصل له في كل سنة منك ما يزيد على عشرة آلاف دينار أميرية، وغيره يقنع منك بخمسمائة دينار. فقال لهم: بهذا العقل والرأي تدبرون دولتي! إن كمال الدين يقل له هذا القدر، وغيرة يكثر له خمسمائة دينار! فإن شغلا واحدا يقوم فيه كمال الدين خير من مائة ألف دينار. وكان كما قال رحمه الله تعالى.
فصل

قال: وفي سنة سبع وثلاثين سار الشهيد إلى بلد الهكارية، وكان بيد الأكراد، وقد أكثر في البلاد الفساد، إلا إن نصير الدين جقر نائب السلطان الشهيد بالموصل كان قد ملك كثيرا من بلادهم. فلما بلغها الشهيد حصر قلعة الشعباني، وهي من أعظم قلاعهم وأحصنها، فملكها وأخربها، وأمر ببناء قلعة العمادية عوضا عنها. وكانت هذه العمادية حصنا كبيرا عظيما فأخربه الأكراد لعجزهم عن حفظه لكبره. فلما ملك أتابك الشهيد البلاد التي لهم قال: إذا عجز الأكراد عن هذا الحصن فأتا بحول الله لا أعجز عنه فأمر ببنائه، وكان رحمه الله ذا عزم ونفاذ أمر فُبنى وسماه العمادية، نسبة إلى لقبه عماد الدين وفي هذه السنة خطب لأتابك بآمد ،وكان قد أرسل إلى صاحبها يطلب منه الانفصال عن موافقة ركن الدولة داود احب الحصن والانتماء إلى خدمته والخطبة له؛ فأجابه إلى ذلك وفيها ملك الشهيد مدينة عانة. وفيها حصر مدينة حمص مرة أخرى وفتحها في شوال؛ وقصد ولاية دمشق بها.
وفي سنة ثمان وثلاثون عزم السلطان مسعود على قصد الموصل بعساكره؛ وكان قد وقع بينه وبين الشهيد وحشة. فترددت الرسل بينهما حتى استقرت الحال على مائة ألف دينار أمامية يحملها الشهيد إلى السلطان؛ وطلب أن يحضر الشهيد في خدمته، فامتنع، واعتذر باشتغاله بالفرنج، فعذره وشرط عليه فتح الرها. وكان من أعظم الأسباب في تأخر السلطان عن قصد الموصل أنه قيل له إن تلك البلاد لا يقدر على حفظها من الفرنج غير أتابك عماد الدين، فإنها قد وليها قبله مثل جاولى سقاوه، ومودود، وجيوش بك، والبرسقي، أو غيرهم من الأكابر. وكان السلاطين يمُدونهم بالعساكر الكثيرة ولا يقدرون على حفظها؛ ولا يزال الفرنج يأخذون منها البلد بعد البلد إلى أن وليها أتابك، فلم يمُده أحد من السلاطين بفارس واحد ولا بمال، ومع هذا فقد فتح من بلاد العدو عدة حصون وولايات، وهزمهم غير مرة، واستضعفهم، وعز الإسلام به. ومن الأسباب المانعة له أيضاً أن الشهيد كان لا يزال ولده الأكبر سيف الدين غازي في خدمة السلطان مسعود بأمر والده، وكان السلطان يحبه و يقربه، و يعتمد عليه ويثق به. فأرسل إليه الشهيد يأمره بالهرب. والمجيء إلى الموصل؛ وأرسل إلى نائبه بالموصل يأمره أن يمنعه من دخول الموصل ومن المسير إليه أيضا. ففعل ذلك، وقال له: ترسل إلى والدك تستأذنه في الذي تفعله. فأرسل إليه، فعاد الجواب: إنني لا أريدك مهما السلطان ساخط عيك. وألزمه بالعود إليه، فعد ومعه رسول إلى السلطان يقول له: إنني لما بلغني أن ولدي فارق الخدمة بغير إذن لم أجتمع به ورَدَدْته إلى بابك فحل هذا عند السلطان محلا كبيراً، وأجلب إلى ما أراد الشهيد. ولما استقر المال حمل منه نحو عشرين ألف دينار. ثم إن الأمور تقلبت عاد أصحاب الأطراف خرجوا على السلطان، فاحتاج إلى مداراة الشهيد، وأطلق له الباقي استمالة له.
وفي هذه السنة سار الشهيد إلى ديار بكر ففتح عدة بلاد منها طنزة، وإسعرد، وملك مدية المعدن الذي يعمل منه النحاس من إرمينية، ومدينة حيزان، وأخذ من أعماك ماردين عدة مواضع، ورتب أمور الجميع، وملك مدينة حاني، وحاصر امد، وأرسل عسكراً إلى مدينة عانة، فملكها له، وقد تقدم ذكرها في السنة قبلها.
فصل

في فتح الشهيد الرها في جمادى الآخرة من سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. وكانت لجوسلين، وهو عاتي الفرنج وشيطانهم، والمقدم على رجالهم وفرسانهم. وكانت مدة حصاره لها ثمانية وعشرين يوما، وأعادها إلى حكم الإسلام. وهذه الرها من أشرف المدن عند النصارى وأعظمها محلا، وهي أحد الكراسي عندهم؛ فأشرفها البيت المقدس، ثم أنطاكية، ثم رومية ثم قسطنطينية والرها. وكان على المسلمين من الفرنج الذين بالرها شر عظيم. وملكوا من نواحي ماردين إلى الفرات على طريق سنجار عدة حصون كسروج، والبيرة، وجملين، والمُوزر. وكانت غاراتهم تبلغ مدينة آمد من ديار بكر، وماردين، ونصيبين، ورأس عين، والرّقة. وأما حران فكانت معهم في الحزى كل يوم قد صبحوها بالغارة. فلما رأى الشهيد الحال هكذا أنف منهم، وعلم أنة لا ينال منها غرضا ما دام جوسلين بها. فأخذ في إعمال الحيل والخداع، لعل جوسلين يخرج منها إلى بعض البقاع. فتشاغل عنها يقصد ما جاورها من ديار بكر التي بيد الإسلام كحاني وجبل جور وآمد؛ فكان يقاتل من بها قتالا فيه إبقاء، وهو يُسر حشوا في ارتغاء، فهو يخطبها وعلى غيرها يحوم، ويطلبها وسواها يروم. وكل بها من يخبره بخلو عرينها من آساده، وفراغ حصنها من أنصاره وأجناده. فلما رأى جوسلين اشتغال الشهيد بحرب أهل ديار بكر ظن أنه لا فراغ له إليه، وأنه لا يمكنه الإقدام عليه. ففارق الرها، إلى بلاده الشامية، ليلاحظ أعماله، و يتعهد ذخائره وأمواله. فأقبل الشهيد مسرعا بعساكر. إلى الرها.
ثم وصف ابن الأثير الجيش. وأنشد:
بجيشٍ جاش بالفرسان حتى ... ظننت البر بحرا من سلاح
وألسنهٍ من العَذبات حمر ... تخاطبنا بأفواه الرياح
وأروع جيشه ليلٌ بهم ... وغرته عمود للصباح
صفوح عند قدرته ولكن ... قليل الصفح ما بين الصِّفاح
وكان ثباته للقلب قلبا ... وهيبته جناحاً للجناح
وألح الشهيد في حصاًرها فملكها عنوة، فاستباحها، ونكس صلبانها، وأبباد قُسُوسها ورهبانها، وقتل شجعانهاً وفرسانها، وملأ الناس أيديهم من النهب والسبي ثم إنه دخل البلد فراقه، فأنف لمثله من الخراب. فأمر بإعادة ما أخذ من أثاث ومال وسبى ورجل، وجوار وأطفال، فردوا عن أخرهم، لم يفقد منهم إلا الشاذ والنادر؛ فعاد البلد عامراً بعد أن كان داثراً. ثم رتب البلد وأصلح من شأنه، وسار عنه فاستولى على ما كان بيد الفرنج من المدن والحصون والقرايا، كسروج وغيرها، وأخلى ديار الجزيرة من معرة الفرنج وشرهم، وأصبح أهلها بعد الخوف آمنين. وكان قتحا عظيما طار في الآفاق ذكره، وطلب بها نشره، وشهده خلق كثير من الصالحين والأولياء.

قال ابن الأثير: حكى لي جماعة أعرف صلاحهم أنهم رأوا، يوم فتح الرها الشيخ أبا عبدا الله بن علي بن مهران الفقيه الشافعي، وكان من العلماء العاملين، والزاهدين في الدنيا، المنقطعين عنها، وله.الكرامات الظاهرة. ذكروا عنه أنه غلب عنهم في زاويته يومه ذلك ثم خرج عليهم وهو مُسْتَبشر مسرور، عنده من الارتياح ما لم يروه أبداً. فلما قعد معهم قال: حدثني بعض إخواننا أن أتابك زنكي فتح مدينة الرها، وأنة شهد معه فتحها يومنا هذا. ثم قال ما يضرك يا زنكي ما فعلت بعد اليوم؛ يرُدد هذا القول مراراً؛ فضبطوا ذلك اليوم فكان يوم الفتح. ثم إن نفرا من الأجناد حضروا عند هذا الشيخ وقالوا له: منذ رأيناك على سور تكبر أيقنا بالفتح؛ وهو ينكر حضوره، وهم يقسمون أنهم رأوه عيانا. قال: وحكى لي بعض العلماء بالأخبار والأنساب، وهو أعلم من رأيت بها، قال: كان ملك جزيرة، صقلية من الفرنج لما فتحت الرها، وكان بها بعض الصالحين من المغاربة المسلمين، وكان الملك في يحضره ويكرمه، ويرجع إلى قوله، ويقدمه على من عنده من الرهبان والقسيسين. فلما كان الوقت الذي فتحت فيه الرها سير هذا ملك الفرنج جيشا في البحر إلى أفريقية فنهبوا وأغاروا وأسروا، وجاءت الأخبار إلى الملك وهو جالس وعنده هذا العالم المغربي وقد نعس وهو شبيه النائم. فأيقظه الملك وقال: يافقيه: قد فعل أصحابا بالمسلمين كيت وكيت؛ أين كان محمد عن نصرهم: فقال له: كان قد حضر فتح الرها. فتضاحك من عنده من الفرنج؛ فقال لهم الملك: لا تضحكوا فوا الله ما قال عن غير علم. واشتد هذا على الملك؛ فلم يمض غير قليل حتى أتاهم الخبر بفتحها على المسلمين، فأنساهم شدة هذا الوهن رخاء ذلك الخبر، لعلو منزلة الرها عند النصرانية. قال: وحكى لي أيضا غير واحد ممن أثق إليهم، أن رجلا من الصالحين قال: رايت الشهيد بعد قتله في المنام في أحسن حال، فقلت له ما فعل الله بك؟ فقال غفر لي، فقلت بماذا. قال بفتح الرها.
قلت وهنأه القيسراني عند فتح الرها بقصيدة أولها:
هو السيف لا يغنيك إلا جلاده ... وهل طوق الأملاك إلا نجاده
وعن ثغر هذا النصر فلتأخذ الظبا ... سناها وإن فات العيون اتقاده
سمت قبة الإسلام فخرا بطوله ... ولم يك يسمو الدين لولا عماده.
وذاد قسيم الدولة ابن قسيمها ... عن الله ما لا يستطاع ذياده
ليهن بنى الإيمان أمن ترفعت ... رواسيه عزا واطمأن مهاده
وفتح حديث في السماع،حديثه ... شهىٌّ إلى يوم المعاد مُعادُه
أراح قلوباً طرن من وُكُناتها ... عليها فوافى كل صدر فؤاده
لقد كان في فتح الرُّهاء دلالة ... على غير ما عند العُلوج اعتقاده
يرجعون ميلاد ابن مريم نُصرة ... ولم يغن عند القوم عنه ولاده
مدينة إفك منذ خمسين حجة ... يفل حديد الهند عنها حداده
تفوت مدى الأبصار حتى لوانها ... ترقت إليه خان طرفاً سواده
وجامحةٍ غزَّ الملوك قيادُها ... إلى أن ثناها من يعز قياده
فأوسعها حر القراع مؤيد ... بصير بتمرين الألد لداده
كأن سنا لمع الأسنة حوله ... سرار ولكن في يديه زناده
فأضرمها نارين: حرباً وخدعة ... فما راع إلا سورها وانهداده
فصدت صُدُودَ البكر عند افتضاضها ... وهيهات كان السيف حتما سفاده
فيا ظفراً عم البلاد صلاحُه ... بمن كان قد عم البلاد فساده
فلا مطلق إلا وشد وثاقه ... ولا موثق إلا وحل صفاده
ولا منبر إلا ترنح عوده ... ولا مصحف إلا أنار مداده
فإن يثكل الابرنز فيها حياته ... وإلا فقل للنجم كيف نهاده
وباتت سرايا القمص تقمص دونها ... كما تتنزى عن حريق حراده
إلى أين يا أسرى الضلالة بعدها ... لقد ذل غاويكُم وعز رشاده

رويدكم لا مانع من مظفر ... يعاند أسباب القضاء عناده
مُصيبُ سهام الرأي لو أن عزمه ... رمى سد ذي القرنين أصمي سداده
وقل لملوك الكفر تُسِلمُ بعدها ... ممالكها، إن البلاد بلاده
كذا عن طريق الصبح أيتها الدُّجى ... فيا طالما غال الظلام امتداده
ومن كان أملاك السَّموات جنده ... فأية أرض لم ترضها جياده
ولله عزم ماء سيحان ورده ... وروضة قسطنطينية، مستراده
وله من قصيدة هنأ بها القاضي كمال الدين ابن الشهرزوري أولها:
هي جنة المأوى فهل من خاطب.
يقول فيها:.
إن الصفائح يوم صافحت الرها ... عطفت عليها كل أشرس ناكب
فتح الفُتوح مبشراً بتمامه ... كالفجر في صدر النهار الآيب
لله أية وقفةٍ بدرّيةِ ... نصرت صحائبها بأيمن صاحب
ظفر كمال الدين كنت لقاحه ... كم ناهض بالحرب غير محارب
وأمدكم جيش الملائك نصرة ... بكتائب محفوفة بكتائب
جنبوا الدبور وقد تم ريح الصبا ... جندُ النبوة هل لها من غالب!
أترى الرها الورهاء يوم تمنعت ... ظنت وجوب السور سورة لاعب
لا أين يا أسرى المهالك بعدها ... ضاق الفضاء على نجاة الهارب
شدا إلى أرض الفرنجة بعدها ... إن الدُّرُوب على الطريق اللاّحب
أفغركم والثارُ رهنُ دمائكم - ما كان من إطراق لحفظ الطالب؟!
وإذا رأيت الليث يجمع نفسه ... عون الفريسة فهو عين الواثب!
وقال ابن منير:
صفات مجدك لفظ جل معناه ... فلا استرد الذي أعطاكهُ الله
يا صارما بيمين الله قائمة ... وفى أعالي أعادي الله حداه
أصْبَحْتَ دْون ملوك الأرض مُنفرداً ... بلا شبيه إذا الأملاك أشباه
فداك من حاولت. مسعاك همته ... جهلا، وقصر عن مسعاك مسعاه
قل للأعادي:ألا موتوابه كمداً ... فالله خيبكم والله أعطاه
ملك تنام عن الفحشاء هِمّمُهُ ... تُقى وتسهر للمعروف عيناه
مازال يَسُمُك والأياًم تخدمه ... فيما ابتلاه وتدنى ما توخاه
حتى تعالت عن الشعري مشاعره ... قدراً، وجاوزت الجوزاء، نعلاه
وقد روى الناس أخبار الكرام مضوا ... وأين مما رَوَرْه ما رأينا
أين الخلائف عن فتح أتيح له ... مظلل أفق الدنيا جناحاه
على المنابر من انبائه أرج ... مقطوبة بفتيق المسك رياه
فتح أعاد على الإسلام بهجته ... فافتر مبسمه واهتز عطفاه
يهدى بمعتصم بالله فتكته ... حديثها نسخ الماضي وأنساه
إن الرها غير عمورية، وكذا ... من رامها ليس مَعْزَاهُ كمغزاه
أخت الكواكب عزا ما بغى أحدٌ ... من الملوك لها وقما فوتاه
حتى دلفت لها بالعزم يشحذه ... رأى يبيت فُوَيق النجم مسراه
مشمراً وبنو الإسلام في شُغُل ... عن بدء غرس لهم أثمار عقباه
يا مُحيي العدل إذ قامت نَوَادِبُه ... وعامر الجود لما مح مغناه
يا نعمة الله يستصفى المزيد بها ... للشاكرين ويستصفى صفاياه
أبقاك للدين والدنيا تحوطهما ... من لم يتوجك هذا التاج إلا هو
ولابن منير أيضاً من قصيدة تقدم بعضها:
أيا ملكاً ألقى على الشرك كلكلا ... أنخ على أماته كلكل الثكل
جمعت إلى فتح الرها سد باله ... بجمعك بين النهب والأسر والقتل
هو الفتح أنسى كل فتح حديثه ... وتوج مسطور الرواية والنقل

فضضت به نقش الخواتم بعده ... جزيت جزاء الصدق عن خاتم الرّسْل
تجردت للإسلام دون ملوكه ... تُبتِّكُ أسباب المذلة والخذل
أخو الحرب غذته القراع مفطًّما ... يشوب بإقدام الفتى حنكة الكهل
وله من قصيدة أخرى:
بعماد الدين أضحت عروة الد ... ين معصوبا بها الفتح المبين
واستزادت بقسيم الدولة ال ... قسم من إدْحاض كيدْ المارقين
ملك أسْهَر عينا لم تزل ... هُّمها تشريدُهمِّ الرّاقدين
لا خَلتْ من كَحَل النصر فقد ... فقات غيظا عيون الحاسديين
كلُّ يوم مر من أيامه ... فهو عيدٌ عائد للمسلمين
لو جرى الإنصاف في أوصافه ... كان أولادها أمير المؤمنين
ما روى الرّاوُون بل ما سطّروا ... مثل ما خطت له أيدي السنين
إذ أناخ الشرك في أكنافه ... بمئي ألفٍ ثناها بمئين
وقعة طاحت بكلب الرّوم من ... قطعة البين إلى قطع الوتين
إن حمت مصر فقد قام لها ... واضح البرهان أن الصّين صين
درج الدّهر عليها معصراً ... لم يدنس بمرام اللأئمين
والرها لو لم تكن إلا الرّها ... لكنت حَسْماً لشك الممترين
هم قسطنطين أن يفرعها ... ومضى لم يَحْوِ منها قِسْطَ طِيِنْ
ولكَم مِنْ مَلِكٍ حاولها ... فتحلى الحين وسماً في الجبين
هي أختُ النّجم إلا أنها ... منه كالنجم لرأى المُبْصرين
مُنِيَتْ منه بليثٍ قائد ... بعران الذل أساد العرين
زارها يزأر في أسد وغى ... تبدل الأسد من الزأر الأنين
صولجوا البيض بضرب نَثَر ال ... هامَ في ساحاتها نثر الكرين
ياَلَهَا هِمّةُ ثغرِ أضحكت ... من بنى القلف ثغور الشّامتين
برنست رأس برنس ذلة ... بعد ما جاست حوايا جوسلين
وسروج منذٌ وعت أسراجه ... فرقت جماعها عنها عضين
تلك أقفال رماها الله من ... عزمه الماضي بخير الفاتحين
شام منه الشام برقاً ودْقُه ... مؤمن الخوف مخيف الآمنين
كم كنيس كنست رامها ... منه بعد الروح في ظل السفين
دنت الآجال من آجالها ... فأحلّتها القطا بعدَ القطين
ومنار يجتلى صلبانه ... نجين بيض تتبارى فى البرين
قرعته البيض حتى بدلت ... قرعة الناقوس تثويب الأذين
بالقسيميّات مقسوما لها الد ... هر في علك لجين أو لجين
سل بها حران كم حرى سقت ... بردا من يوم ردت ماردين
سمطت أمس سُمَيْسَاط بها ... نظم جيش مبهْج للناظرين
وغدا يلقي على القدس لها ... كلكل يدرسها درس الدرين
همة تمسى وتضحي عزمة ... ليس حصن إن نحته بحصين
قل لقوم غرهم إمهاله ... ستذوقون شذاه بعد حين
إنه الموت الذي يدرك من ... فرمنه مُشحا للغافلين
وهو يُحيى مُمْسكى عروته ... إنها حبل لمن تاب متين
من يطع ينج، ومن يعص يكن ... من غداة عبرة للآخرين
بك ياشمس المعالي رُدت الر ... وح في المَيْتَيْن من دنيا ودين
أقسم الجد بأن تبقى لكي ... تملك الأرض يمينا لا يمين
وتُفيض العدل في أقطارها ... مُنسياً مُؤلم عسف الجأرين
لاتزال دارك كيف انتقلت ... كعباً محفوفة بالطائفين
كل يوم يتحلى جيدها ... من نظيم المدح بالدر الثمين
كلما أخلص فيها دعوة لك قالت ألْسُنُ الخلق أمين
فصل

لما فزغ الشهيد من أخذ الرها وإصلاح خالها والاستيلاء على ما وراءها من البلاد والولايات سار إلى قلعة البيرة، وهي حصن حصين مطل على الفرات، وهو لجوسلين أيضا، فحصره، وضايقه. فأتاه الخبر بقتل نائبه بالموصل والبلاد الشرقية، نصير الدين جغر بن يعقوب، فرحل عنها خوفا من أن يحدث بعده في البلاد فتق يحتاج إلى المسير إليها. فلما رحل عنها سير إليها حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي صاحب ماردين عسكراً، فسلمها الفرنج إليهم خوفا من الشهيد أن يعود إليهم فيأخذها. وكان قتل النصير في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين. وسببه أن الملك ألب أرسلان المعروف بالخفاجي ولد السلطان محمود بن محمد كان عند الشهيد، وهو أتابكه ومربيه، وكان هو يظهر للخلفاء وللسلطان وأصحاب الأطراف أن البلاد التي بيده للملك ألب أرسلان وأنه نائبه فيها؛ وكان إذا أرسل رسولا أو أجاب عن رسالة فإنما يقول قال الملك كذا وكذا. وكان ينتظر وفاة السلطان مسعود ليجمع العساكر باسمه و يخرج الأموال ويطلب السلطنة، فعاجلته المنية قبل ذلك. وكان هذا الملك بالموصل هذه السنة، وبها نصير الدين، وهو ينزل إليه كل يوم يخدمه ويقف عنده ساعة ثم يعود. فحسن المفسدون للملك قتله، وقالوا له: إنك إن قتلته ملكت الموصل وغيرها، و يعجز أتابك أن يقيم بين يديك، ولا يجتمع معه فارسان عيك؛ فوقع هذا في نفسه وظنه صحيحاً. فلما دخل نصير الدين إليه على عادته وثب عليه جماعة في خدمة الملك فقتلوه وألقوا رأسه إلى أصحابه، ظنا منم أن أصحابه إذا رأوا رأسه تفرقوا، ويملك الملك البلاد. وكان الأمر بخلاف ما ظنوا؛ فإن أصحابه وأصحاب أتابك الذين معه ك رأوا رأسه قاتلوا من بالدار مع الملك، واجتمع معهم الخلق الكثير. وكانت دولة الشهيد مملوءة بالرجال الأجلاد ذوى الرأي والتجربة، فلم يتغير عليه بهذا الفتق شيء. وكان في جملة من حضر القاض تاج الدين يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري، أخو كمال الدين، فدخل إلى السلطان وخدعه حتى أصعده إلى القلعة وهو في يحسن له الصعود إليها، وحينئذ يستقرله ملك البلاد. فلما صعد القلعة سجنوه بها، وقتل الغلمان الذين قتلوا نصير، وأرسلوا إلى أتابك يعرفونه الحال؛ فسكن جأشه، واطمأن قلبه وأرسل زين الدين على بن بكتكين واليا على قلعة الموصل، وكان كثير الثقة به والاعتماد عليه، فسلك بالناس غير الطريق التي سلكها النصير، وسهل الأمر، فاطمأن الناس وأمنوا، وازدادت البلاد معه عمارة.،ولما رأى الشهيد صلاح أمر الموصل سار إلى حلب فجهز منها جيشا إلى قلعة شيزر، و بينها وبين حماة نحو أربعة فراسخ، فحصرها.
قلت كذا وقع في تحن ابن الأثير. وقد وهم في قوله ألب أرسلان المعروف بالخفاجي، فالخفاجي غير ألب أرسلان على ما ذكره العماد الكاتب في كتاب السلجوقية فإنه قال: كان مع زنكي ملكان من أولاد السلطان محمود بن حمد بن ملكشاه، أحدهما يسمى ألب أرسلان وهو في تنقل من معاقل شجار، والآخر يسمى فرخشاه و يعرف بالخفاجي الملك، وهو بالموصل، وكان هذا الملك فت مسلماً إلى الأمير دبيس بن صدقة، فانزعه منه زنكي في حرب جرت، فكانت زوجة زنكي، خاتون السكمانية، تربيه حتى بلغ. وكان النصير يقبض عنانه، ويبسط فيه لسانه، ويقول: إن عقل و إلا عقلته، وإن ثقل طبعه وإلا ثقلته. فدبر في قتله مع اصحابه، فقطعوه في دهليز داره لما دخل للسلام على الملك. ثم أصعد القاضي تاج الدين الملك إلى القلعة فلم يُر له أثر، والتقط مماليكه. ثم عطف زنكي على الملك الآخر ألب أرسلان فاستخرجه من معقله، وغنى بتفاصيل أمره وجمله، وضرب له نوبتية ونوبا، ورتب له في حالتي ركوبه وجلوسه رتبا؛ واغرى بتولي إكرامه وتوخيه، وغرضه خفاء ما جرى من هلاك أخيه. ثم ذكر قصة موت زنكي على قلعة جعبر، كما سيأتي.
وفي سنة أربعين وخمسمائة أرسل أتابك إلى زين الدين علي يأمره بإرسال عسكر إلى حصن فنك يحصره، فسير خلقا كثيراً من الفرسان والرجالة؛ فأقاموا عليه يحصرونه إلى أن أتاهم الخبر بقتل الشهيد أتابك. وهذا الحصن هو مجاور جزيرة ابن عمر، هو للأكراد البشنوية، وله معهم مدة طويلة، يقولون نحو ثلاثمائة سنة؛ وهو من أمنع الحصون، مطل على دجلة؛ وله سرب إلى عين ماء لا يمكن أن يحال بين أهله وبينها.

قلت وفي هذه السنة أنشد ابن منير بالرقة عماد الدين زنكي، يهنئه بالعافية من مرض عرض له في يده ورجله، قصيدة أولها:
يا بدر لا أفل ولا محاق ... ولا يرم مشرقك الإشراق
بالدين والدنيا الذي يشكو،وهل ... يهتز فرع لم يُقعه ساق
إن تورق القضب ويجرى ماؤها ... إلا إذا ما التاثت الأعراق
إن الرعايا ما سلمت في حمى ... للخطب عن طروقه إطراق
غرست بالعدل لهم خمائلا ... ترتع في حديقها الحداق
يا هضبة الدين، التي عاذبها ... فعاد لا بغت ولا إرهاق
لو ولم تحطه راحلاً وقافلا ... أصبح لا شام ولا عراق
عماد دين قد أقام زيغه ... حي، ومات الشرك والنفاق
يا محيي العدل الذي في ظله ... تسربلت زينتها الآفاق
يفديك من لاَنَ مِهاد جنبه ... لمانبا بجنبك الإقلاق
من بِشَبَا سيفك أنبطْت له ال ... عَذْبَ وما عيسه زُعاق
تجرع السم ولو لم تحمه ... بحده لَعزّهُ الدّرياق
ملوك أطراف لا حمى أطرافها ... عزمك هذا اللاحق السّبّاق
لو لم ترق ماء كرى العين لما ... ساغت بأفواههم الأرْياق
شققت من دونهم موج الردى ... وشق أكبادهم الشقاق
أقسم: لو كلفتهم أن يسمعوا ... حديث أيامك ما طاقوا
لما اشتكيت دب في أهوائهم ... توجس للسمع واستراق
تطالوا، لا عدمت آمالهم ... قصرا ولا جانبها الإخفاق
توهموها غسقا ثم انجلت ... والصفو من مشربهم غساق
لئن ألم ألم بقدم ... خد السها لنعلها طراق
أو كان مدَّ يّدّهُ إلى يدٍ ... تجرى بها الآجال والأرزاق
فالنصْل يُعْلَى صَدَأ وتحته ... حد حسام وسناُ رقراق
رمى الصَّليبَ بصليب الرَّأي عن ... زوراءَ أوهى نزعها الإغراق
ونوم من خلف الخليج سَهَرٌ ... والعيش في فرنجة سياق
ماتوا فلا همسٌ ولا إشارة خوف هموس زأره إزهاق
لا سلبت منك الليالي ماكست ... ولا عرت نجدتك الإخلاق
فصل في وفاة زنكي رحمه اللهقال ابن الأثير: كانت قلعة جعبر قد سلمها السلطان ملكشاه إلى الأمير سالم بن مالك العقيلي لما ملك قسيم الدولة بمدينة حلب؛ فلم تزل بيده و يد أولاده إلى سنه إحدى وأربعين. فسار الشهيد إليها فحصرها، وكان الباعث له على حصرها وحصر فنك ألا يبقى في وسط بلاده ما هو لغيره وإن قل، لِلْحَزْم الذي كان عنبده والاحتياط؛ وأقام عليه يحصره بنفسه إلى أن مضى من شهر ربيع خمس ليال.. فبينما هو نائم دخل عليه نفر من مماليك فقتلوه غيلة ولم يجهزوا عليه، وهربوا من ليلتهم إلى القلعة، ولم يشعر أصحابه بقتله. فلما صعد أولئك النفر إلى القلعة صاح من بها إلى العسكر يعلمهم بقتله، فبادر أصحابه إليه، فأدركه أوائلهم وبه رمق. ثم ختم الله له بالشهادة أعماله:
لاقى الحمام ولم أكن مستيقنا ... أن الحمام سُيبتلى بحمام
فأضحى وقد خانه الأمل، وأدركه الأجل، وتخلى عنه العبيد والخول. فأي نجم للإسلام. أفل، وأي ناصر للإيمان رحل؛ وأي بحر ندى نضب، وأي بدر بكارم غرب؛ وأي أسد افترس، ولم ينجه قلة حصن ولا صهوة فرس. فكم أجهد نفسه لتمهيد الملك وسياسته، وكم أذبها في حفظه وحراسته؛ فأتاه مبيد الأمم، ومُفنيها في الحدث والقدم؛ فأصاره بعد القهر للخلائق مقهورا، وبعد وثير المضاجع في التراب معفراً مقبوراً؛ رهين جدث لا ينفعه إلا ما قدم، قد طويت صحيفة عمله فهو موثوق في صورة مستسلم. ثم دفن بصفين عند أصحاب على أمير المؤمنين رضي الله عنه.

قلت وذكر العماد الكاتب في كتاب السلجوقية، قال: قصد زنكي حصار قلعة جعبر فنازلها؛ وكان إذا نام ينام حوله عدة من خدامه الصباح وهو يحبهم و يَحْبُوهم ولكنه. مع الوفاء منهم يجفوهم، وهم أبناء الفحول القروم، من الترك والأرمن والروم. وكان من دأبه أنه إذا نقم على كبير أرداه وأقصاه، واستبق ولده عنده وخصاه. فنام ليلة موته وهو سكران؛ فشرع الخُدام في اللعب فزجرهم، وزبرهم وتوعدهم، فخافوا من سطوته. فلما نام ركبه كبيرهم، واسمه برتقش، فذبحه، وخرج ومعه خاتمه، فركب فرس النوبة مُوِهماً أنه يمضي في مهم، وهو لا يرتاب به لأنه خاص زنكي. فأتي الخادم أهل القلعة فأخبرهم، وذكر الحديث. قلت: ثم نقل إلى الرّقة فدفن بها، وقبره الآن فيها.
قال ابن الأثير: وكان حسن الصورة مليح العينين، قد وخطه الشيب، طويلا وليس بالطويل البائن. وخلف من الأولاد سيف الدين غازيا، وهو الذي ولى بعده، ونور الدين محموداً الملك العادل، وقطب الدين مودوداً، وهو أبو الملوك بالموصل، ونُصرة الدين أمير أميران، و بتاً. فانقرض، عقب سيف الدين من الذكور والإناث، ونور. الدين من الذكور ولم يبق الملك إلا في عقب قطب الدين. ولقد أنجب رحمه الله، فبن أولاده الملوك لم يكن مثلهم.
قلت ومن عجيب ما حكى أنه لما اشتد حصار قلعة جعبر جاء في الليل أبى حسان المنبجي ووقف تحت القلعة ونادى صاحبها، فأجابه؛ فقال له: هذا المولى أتابك صاحب البلاد، وقد نزل عليك بعساكر الدنيا وأنت بلا وزر ولا معين؛ وأنا أرى أن ادخل في قضيتك واخذ لك من المولى أتابك مكانا عوض هذا المكان؛ وإن لم تفعل فأي شيء تنتظر؟! فقال له صاحب القلعة: أنتظر الذي انتظر أبوك. وكان بلك بن بَهرام صاحب حلب قد نزل على أبيه حسان وحاصره في منبج أشد حصار، ونصب عليه عدة مجانيق، وقال يوما لحسان، وقد أصرفه بحجارة المنجنيق: أي شيء تنتظر؛ أما تسلم الحصن؟! فقال له حسان: أنتظر سهام من سهام الله. فلما كان من الغد بينا بلك يرتب المنجنيق إذ أصابه سهم غرب، وقع في لبته فخر ميتا؛ ولم يكن من جسده شيء ظاهر إلا ذلك، المكان، لأنه كان قد لبس الدرع ولم يزرها على صدره. فلما سمع أبى حسان ذلك من مقالة صاحب قلعة جعبر رجع عنه. وفي تلك الليلة قتل أتابك، فكان هذا من الاتفاقات العجيبة والعبر الغريبة. ذكر ذلك يحيى بن أبى طي في كتاب السيرة الصلاحية.
فصل في بعض سيرة الشهيد أتابك زنكي.وكانت من أحسن سير الملوك وأكثرها حزما وضبطا للأمور، وكانت رعيته في أمن شامل يعجز القوى عن التعدي على الضعيف. قال أبن الأثير: حدثني والدي قال: قدم الشهيد أتابك زنكي إلينا بجزيرة ابن عمر، في بعض السنين، وكان زمن الشتاء، ونزل بالقلعة، ونزل العسكر في الخيام. وكان في جملة أمرائه الأمير عز الدين أبو بكر الدبيسي، وهو من أكابر أمرائه ومن ذوي الرأي عنده، فدخل الدبيسي البلد ونزل بدار في إنسان يهودي وأخرجه منها؛ فاستغاث اليهودي إلى الشهيد وهو راكب فسأل عن حاله، فأخبر به؛ وكان الشهيد واقفا والدبيسي إلى جانبه ليس فوقه أحد؛ فلما سمع أتابك الخبر نظر إلى الدبيسي نظر مغضب ولم يكلمه كلمة واحدة، فتأخر القهقرى، ودخل البلد فأخرج خيامه وأمر بنصبها خارج البلد، ولم تكن الأرض تحتمل وضع الخيام عليها لكثرة الوحل والطين. قال: ولقد رأيت الفراشين وهم ينقلون الطين لينصبوا خيمته؛ فلما رأوا كثرته جعلوا على الأرض تبناً ليقيموها، ونصبوا الخيام، وخرج إليها من ساعته.

قال: وكان ينهى أصحابه عن، اقتناء الأملاك ويقول: مهما كانت البلاد لنا فأي حاجة لكم إلى الأملاك،، فإن الاقطاعات تغنى عنها؛ وإن خرجت البلاد عن أيدينا فإن الأملاك تذهب معها؛ ومتى سارت الأملاك لأصحاب السلطان ظلموا الرعية وتعدوا عليهم وغصبوهم أملاكهم. ثم ذكر ما تجدد في أيامه من. عمارة البلاد، لا سيما بالموصل، وذلك لحسن سيرته، فكان يقصده الناس ويتخذون بلاده دار إقامة. وهو الشي أمر ببناء عور المملكة بالموصل، ولم يكن بها للسلطان غير الدار المعروفة بدار الملك مقابل الميدان. ثم رفع سورها وعمق خندقها. وهو الذي فتح الباب العمادي و إليه ينسب. قال: وكانت الموصل اقل بلاد الله فاكهة، وكان الذي يبع الفواكه يكون عنده مقراض يقص به العنب لقلته إذا أراد أن يزنه؛ فلما مرت البلاد عملت البساتين بظاهر الموصل وفي ولاينها.
قال: ومن أحسن آرائه أنه كان شديد العناية بأخبار الأطراف وما يجرى لأصحابها حتى في خلواتهم، ولا سيما دركاة السلطان، وكان يغرم على ذلك المال الجزيل فكان يطالع ويكتب إليه بكل ما يفعله السلطان في ليله ونهاره، من حرب وسلم،، وهزل وجد، وغير ذلك فكان يصل إليه كل يوم من عيونه عدة كتب. وكان مع اشتغاله بالأمور الكبار من أمور الدولة لا يهمل الاطلاع على الصغير؛ وكان يقول إذا لم يعرف ليمنع صار كبيراً. وكان لا يمكن رسول ملك يعبر في بلاده بغير أمره؛ وإذا استأذنه رسول في العبور في بلاده أذن له وأرسل إليه من يسيره، ولا يتركه يجتمع بأحد من الرعية ولا غيرهم؛ فكان الرسول يدخل بلاده ويخرج منها ولا يعلم من أحوالها شيئا. وكان يتعهد أصحابه و يمتحنهم. سلم يوما خشكنانكة إلى طشت دار له وقال احفظ هذه؛ فبقى نحو سنة لا تفارقه الخشكنانكة خوفا أن يطلبها منه. فلما كان بعد ذلك قال له: أين الخشكنانكة فأخرجها في قنديل وقدمها بين يديه، فاستحن ذلك منه وقال: مثلك ينبغي أن لا يكون مستحفظا لحصن. وأمر له بدُزْدَاريةَّ قلعة كواشي، فبقى فيها. إلى أن قتل أتابك. وكان لا يمكن أحدا من خدمه من مفارقة بلادة ويقول:إن البلاد كبستان عليه سياج، فمن هو خارج السياج يهاب الدخول، فإذا خرج منها من يدل على عورتها ويطمع العدوو فيها زالت الهيبة وتطرق الخصوم إليها قاله: ومن. صائب رأيه وجيده أن سير طائفة من التركمان الإيوانية مع الأمير اليارق إلى الشام، وأسكنهم بولاية حلب، وأمرهم بجهاد الفرنج، وملكهم كل ما استنقذوه من البلاد التي للفرنج وجله ملكا لهم فكانوا يغادرون الفرنج بالقتال و يراوحونهم؛ وأخذوا كثيراً من السواد وسدوا ذلك الثغر العظيم. ولم يزل جميع ما فتحوه في أيديهم إلى نحو سنة ستمائة قال: ومن آارائه أنه لما اجتمع له الأموال الكثيرة أودع بعضها بالموصل وبعضها بسنجار وبعضها بحلب، وقال إن جرى على بعض هذه الجهات خرق أو حيل بيني و بينه استعنت على سد الخرق بالمال في غيره.
قال: واما شجاعته وإقدامه فإليه النهاية! فيها، وبه كانت تضرب الأمثال، ويكفى في معرفة ذلك جملة، أن ولايته أحدق بها الأعداء والمنازعون من كل جانب: الخليفة المترشد، والسلطان مسعود، وأصحاب أرمينية وأعمالها، بيت سكمان، وركن الدولة داود صاحب حصن كيفا، وابن عمه صاحب ماردين، ثم الفرنج، ثم دمشق. وكان ينتصف منهم و يغزو كلا منهم في عقر داره ويفتح من بلادهم، ماعدا للسلطان مسعود فإنه كان لا يباشر قصده، بل كان يحمل أصحاب الأطراف على الخروج عليه، فإذا فعلوا عاد السلطان محتاجاً إليه، وطلب منه أن يجمعهم على طاعته، فيصير كالحاكم على الجميع، وكلٌ يداريه ويخضع له، ويطلب ما تستقر القواعد على يده.

قال: وأما غيرته فكانت شديدة ولا سيما على نساء الأجناد، فإن التعرض إليهن كان من الذنوب التي لا يغفرها؛. كان يقول إن جندي لا يفارقوني في أسفاري وقلما يقيمون عند أهلم، فإن نحن لم نمنع من التعرض إلى حرمهم هلكن وفسدن. قلت: وفي صحيح مسلم من حديث أبى سعيد الخدري، وذكر حديث رجم النبي صل الله عليه وسلم ما عزاً، قال: ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا قال: أو كُلَّماَ انطلقنا غُزَاةً في سَبِيلِ الله تَخَلَّفَ رَجُلٌ في عِيالنا لَهُ نَبِيبٌ كَنَبِيبِ التِّيْسِ!! على ألا أؤْتَي بِرَجُلٍ فَعَلَ ذلك إلا نَكَّلْتُ به. قال ابن الأثير: وكان قد أقام بقلعة الجزيرة دُزْادَاراً اسمه نور الدين حسن البربطي، وكان من خواصّه وأقرب الناس إليه، وكان غير مرضى السيرة؛ فبلغه عنه أنه يتعرض للحُرم؛ فأمر صاحبه صلاح الدين الياغبساني أنه يسير مجدا ويدخل الجزيرة، فإذا دخلها أخذ البربطي وقطع ذكره، وقلع عينيه عقوبة لنظره بهم إلى الحرم، ثم يصلبه. فسار الصلاح مجدا، فلم يشعر البربطي إلا وقد وصل إلى البلد؛ فخرج إلى لقائه، فأكرمه الصلاح ودخل معه البلد، وقال له: المولى أتابك يسلم عليك ويريد أن يُعلى قدرك، ويرفع منزلتك، ويسلم إليك قلعة حلب وبوليك جميع البلاد الشامية لتكون هناك مثل نصير الدين، فتجهز وتحدر مالك في الماء إلى الموصل وتسير إلى خدمته ففرح ذلك المسكين فلم يترك له قيلا ولا كثيراً إلا نقله إلى السفن ليحدرها إلى الموصل في دجلة. فحين فرغ من جمع ذلك أخذه الصلاح وأمضى فيه ما أمر به،، وأخذ جميع ماله. فلم يتجاسر بعده أحد على سلوك شيء من أفعاله.
قال: وأما صدقاته، فكان يتصدق كل جمعة بمائة دينار، أميري ظاهراً، ويتصدق فيما عداه من للأيام سرا مع من يثق به. وركب يوما فعثرت به دابته فكاد يسقط عنها، فاستدعى أميراً كان معه فقال له كلاما لم يفهمه ولم يتجاسر على أن يستفهمه منه، فعاد عنه إلى بيته وودع أهله عازما على الهرب؛ فقالت له زوجته ما ذنبك وما حملك على هذا الهرب فذكر لها الحال، فقالت له إن نصير الدين له عناية، فاذكر له قصتك وافعل ما يأمرك به. فقال أخاف أن يمنعني من الهرب فأهلك. فلم تزل زوجته تراجعه وتقوي عزمه، فعزف النصير حاله، فضحك منه وقال: خذ هذه الصرة الدنانير واحملها إليه فعي التي أراد. ففال: الله الله في دمي ونفسي. فقال: لا بأس عليك فإنه ما أراد غير هذه الصرة؛ فحملها إليه. فحين رآه قال: أمعك شيء قال نعم؛ فأمره أن يتصدق به. فلما فرغ من الصدقة تصد النصير وشكره، وقال: من أين علمت أنه أراد الصرة؟ فقال له: إنه يتصدق في هذا اليوم بمثل هذا القدر، يرسل إلى من يأخذ من الليل، وفي يومنا هذا لم يأخذه. ثم بلغني أن دابته عثرت به حتى كاد يسقط إلى الأرض، وأرسلك إلي، فعلمت أنه ذكر الصدقة فقال: وحكى لي من شدة هيبته ما هو أشد من هذا. قال والدي خرج يوما الشهيد من قلعة الجزيرة من باب السّر خلوة وملاَّح له نائم فأيقظه بعض الجاندارية وقال له اقعد؛ فحين رأى الشهيد سقط إلى الأرض فحركوه فوجدوه ميَّتاً.
قال: وكان الشهيد قليل التلون والتنقل، بطيء الملل والتغير، شديد العزم، لم يتغير على أحد من أصحابه مُذْ مَلَكَ إلى أن قتل إلا بذنب يوجب التغير؛ والأمراء والمقدمون الذين كانوا معه أولاً هم الذين بقوا أخيراً، من سلم منهم من الموت؛ فلهذا كانوا ينصحونه ويبذلون نفوسهم له. وكان الإنسان إذا قدم عسكره لم يكن غريباً: إن كان جندباً اشتمل عليه الأجناد وأضافوه، و إن كان. صاحب ديوان تصد أهل الديوان، وإن كان عالما قصد القضاة بني الشهرزوري فُيحسنون إليه ويؤنسون غربته فيعود كأنه آهل. وسبب ذلك جميعه أنه كان يخطب الرجال ذوي الهمم العالية، والآراء الصائبة، والأنفس الأبية.، ويوسع عليهم في الأرزاق، فيسهل عليهم فعل الجميل واصطناع المعروف.
قلت: وما أحسن ما وصفه به أحمد بن منير من قوله في قصيدة:
في ذرا ملك هو الده ... ر عطاء واستلابا
من له كف تبز ال ... غيث سحا وانسكاباً
فاتح في وجه كل ... أمة للنصر باباً
تَرْجُف الدنيا إذا حر ... ك للسير الركابا
وتخر المشمخرا ... ت اختلالا واضطرابا

وترى.الأعداء من هي ... بته تأوى الشعاباً
وإذا ما لفحتهم ... ناره صاروا كبابا
با عماد الدين لا زل ... ت على الدين سحابا
جاعلا من دونه سي ... فك إن ريع حجابا
فالبس النعماء في الأ ... من الذي طبت وطابا
وأصف عيشاً إن أعدا ... ءك. قد صاروا تراباً
وقال العماد الكتاب: استولى زنكي على - الشامل من سنة اثنتين وعشرين إلى أن قتل في سنة إحدى وأربعين. وهو الذي فتح الرها عنوة، واحتل بها من السعادة ذروة؛ فتسنى بفتح الرها للمسلمين، جَوْسُ بلاد جوسلين؛ وعاد جمعها إلى الإسلام في عهد ولد زنكي نور الدين وصارت عقود الفرنج من ذلك لحين تنفسخ، وأمورها تنْتسخ؛ ومعاقلها تفرع، وعقائلُها تُفْتَرع.
وقال الرئيس أبو يعالي التميمي: كانت الأعمال بعد قتل زنكي قد اضطربت، والمسالك قد اختلت، بعد الهيبة المشهورة ؟، والأمنة المشكورة؛ وانطلقت أيدي التركمان والحرامية في فساد الأطراف.، والعيث في سائر النواحي والأكناف؛ ونظمت في صفة هذه الحال أبياتا من قصيدة:.
كذلك عماد الدين زنكي تنافرت ... سعادته عنه وخرت دعائمه
وكم بيت مال من نضار وجوهر ... وأنواع ديباج حوتها مخاتمه
وأضحت بأعلى كل حصن مصونة ... يُحامى عليها. جنده وخوادمه
ومن صافنات الخيل كل مطهم ... يروع الأعادي حليه وَبَرَاجمه
فلو رامت الكتاب وصف شياتها ... بأقلامها ما أدرك الوصف ناظمه
كم معقل قد رامه بسيوفه ... وشامخ حصْن لم تَفُتْه غنائمه
ودانت وُلاة الأرض فيها لأمره ... وقد أمنتهم كتبه وخواتمه
وأمن من في كل قطر لهتبة ... يراع بها أعرابُه وأعاجمه
وظالم قوم حين يذكر عدله ... فقد زال عنهم ظُلْمه وخصائمه
وأصبح سلطان البلاد بسيفه ... وليس له فيها نظير يزاحمه
وزاد على الأملاك بأساً وسطوة ... ولم يبق في الأملاك ملك يقاومه
فلما تناهي مُلكُه وجلاله ... وراعت ولاة الأرض منه لوائمه
أتاه قضاء لا ترد سهامه ... فلم تنجه أمواله ومغانمه
وأدركه لْلِحْين. فيها حِمامه ... وحامت عليه بالمنون حوائمه
وأضحى على ظهر الفراش مُجدلا ... صريعاً تولى ذبحه فيه خادمه
وقد كان في الجيش اللهام مبيته ... ومن حوله أبطاله وصوارمه
وسمر العوالي حوله بأكفهم ... تذود الردى عنه وقد نام نائمه
ومن دون هذا عصبة قد ترتَّبَت ... بأسهمها يُرْدى من، الطير حائمه
وكم رام في الأيام راحة سره ... وهمته تعلو وتقوى شكائمه
وكم مسلك للسفر أمن سُبله ... ومسرح حي أن تُراعَ سوائمه
وكم ثغر إسلام حواه بسيفه ... من الروم لماً أدركته مراحمه
فمن ذا الذي يأتي بهيبة مثله وتنفذ ... في أقصى البلاد مراسمه
فلَوْرَقِيتْ في كل مصر بذكره ... أراقمه ذلت هنك أراقمه
فمن ذا الذي ينجو من الدهر سالما ... إذا ما أتاه الأمر، والله حاتمه
ومن رام صفواً في الحياة فما يرى ... له صفو عيش والحمام يحاومه
فإياك لا تغبط ملكيا بملكه ... ودعه فإن الدهر لاشك قاصمه
وقل للذي يبني الحصون لنحفظه ... رويدك ما تبني فدهرك هادمُه
وفى ضل هذا عبرة ومواعظ ... بها يَتَناسى المرء ما هو عازمه

قال: وفي ثامن عشر جمادى الآخرة من السنة وصل الخادم يرتقش القاتل لعماد الدين زنكي وانفصل من قلعة جعبر لخوف صاحبها من طلبه منه، فوصل دمشق متيقنا أنه قد أمن بها، ومدلاَّ بما فعله، وظنا منه أن الحال على ما توهمه. فقبض عليه وانفذ إلى حلب صُحبة من حفظه وأوصله إليها، فأقام بها أياما ثم حمل إلى الموصل، وذكر أنه قتل بها.
قلت وللحكيم أبى الحكم المغربي قصيدة في مرثية الشهيد عماد الدين زنكي رحمه الله، منها:
عينُ لا تذخرى الدموع وبكى ... واستهلى دما على فقد زنكي
لم يَهَتْ شخصه الردى بعد أن كا ... نت له هيبة على كل تركي
خيرُ ملك ذي هيبة وبهاء ... وعظيم بين الأنام بُزُزْك
يهب المال والجياد لمن يم ... مه مادحا بغير تلكي
إن داراً تمدنا بالرزايا ... هي عندي أحق دارٍ بِتَرْك
فاسكبوا فوق قبره ماء وردٍ ... وانضحوه بزغفران ومسك
أي فتك جرى له في الأعادي ... بعد ما استفتح الرُّها، أي فتك
كل خطب أنت به نوب الده ... ر يسير في جنب مصْرع زنكي
بعد ما كاد أن تدين له الرو ... م ويحوي البلاد من غير شك
فصل فيما جرى بعد قتل زنكي من تفرق أصحابه وتملك ولديه غازي ومحمودقال الرئيس أبو يعلى: توجه الملك ولد السلطان، المقيم كان معه، فيمن صحبه وانضم، إليه إلى ناحية الموصل، ومعه سيف الدين غازي بن عماد الدين أتابك؛ وامتنع عليهم الوالي بالموصل، على كوجك، أياما إلى حين تقررت الحال بينهم. ثم فتح الباب ودخل ولده واستقام له الأمر، وانتصب منصبه. وعاد الأمير سيف الدولة سوار وصلاح الدين، يعنى محمد بن أيوب الياغبساني.، في تلك الحال إلى ناحية حلب، ومعهما الأمير نور الدين محمود ابن زنكي، وحصل بها. وشرع في جمع العساكر وإنفاق المال فيها، واستقام له الأمر وسكنت الدهماء. وفصل عنه الأمير صلاح الدين وحصل بحماة ولايته على سبيل الاستيحاش والخوف على نفسه من أمر يُدبر عليه.
وقال الحافظ أبو القاسم،: لما راهق نور الدين لزم خدمة والده إلى ان انتهت مدته على قلعة جعبر. وسير في صبيحة الأحد الملك ألب أرسلان بن السلطان محمود إلى الموصل مع جماعة من أكابر دولة أبيه، وقال لهم إن وصل أخي سيف الدين غازي إلى الموصل فهي له وأنتم في خدمته، وإن تأخر فأنا أقرر أمور الشام وأتوجه إليكم. ثم قصد حلب ودخل قلعنها يوم الاثنين سابع ربيع الآخر، ورتب النواب في القلعة والمدينة.
وقال ابن أبى طي الحلبي: لما اتصل قتل أتابك بأسد الدين شيركره ركب من ساعته وقصد خيمة نور الدين وقال له: اعلم ان الوزير جمال الدين قد اخذ عسكر الموصل وعزم على تقديم أخيك سيف الدين وقصده إلى الموصل، وقد انضوى إليه جُل العسكر. وقد انفذ إلى جمال الدين وأرادني على اللحاق به فلم اعرج إليه وقد رأيت أن أصيرك إلى حلب وتجعلها كرسي مُلكك وتجتمع في خدمنك عساكر الشام؛ وأنا أعلم أن الأمر يصير جميعُه إليك لأن ملك الشام بحلب، ومن ملك جلب استظهر على بلاد الشرق. فركب وأمر أن لم ينادى في الليل في عساكر الشام بالاجتماع، فاجتمعوا وساروا في خدمة نور الدين إلى حلب، ودخلوها سابع ربيع الأول. ولما دخلوا حلب جاء أسد الدين إلى تحت القلعة ونادى واليها، وأصعد نور الدين إليها لي قرر أمره ومشى أحواله، فكان نور الدين يرى له ذلك وأسد الدين يمن بأنه كان السبب في توليته.

قال ابن الأثيرأ. لمنا قتل أتابك الشهيد ركب الملك ألب أرسلان بن السلطان محمود، وكان مع الشهيد، واجتمعت العساكر عليه وخدموه. فأرسل جمال الدين الوزير إلى الصلاح يقول له: المصلحة أن نترك لم ما كان بيننا وراء ظهورنا، ونسلك طريقا يبقى به الملك في أولاد صاحبنا، ونعمر بيته جزاء لإحسانه إلينا؛ فإن الملك قد طمع في البلاد واجتمعت عليه العساكر؛ ولئن لم نتلاف هذا الأمر في أوله ونتداركه في بدايته لَيَتَّسِعَنَّ الخرق ولا يمكن رقعه. فأجابه الصلاح إلى ذلك وحلف كل واحد منهما لصاحبه. فركب الجمال إلى الملك فخدمه وضمن له فتح البلاد وأطمعه فيها، ومعه الصلاح، وقالا له: إن أتابك كان نائباً عنك في البلاد، وباسمك كنا نطيعه فقبل قولهما، وظنه حقاً، وقربهما، طمعاً أن يكونا عونا له على تحصيل غرضه. وأرسلا إلى زين الدين بالموصل يعرفانه قتل الشهيد ويأمرانه بالإرسال إلى سيف الدين غازي، وهو ولد عماد الدين زنكي الأكبر، وإحضاره إلى الموصل، وكان بشَهْرَزَوْر، وهي إقطاعُه من أبيه؛ ففعل زين الدين ذلك. وكان نور الدين محمود بن الشهيد قد سار لما قُتل والده إلى حلب فملكها، وذلك بإشارة أسد الدين شيركوه عليه. بذلك، وقال الجمال الملك: إن من الرأي أن يسير الصلاح إلى مملوك نور الدين بحلب يدبر أمره، وكانت حماة إقطاع الصلاح، فأمره فسار، وبقى الجمال وحده مع الملك فأخذه وقصد الرقة. فاشتغل بشرب الخمر والخلوة بالنساء، وأراد أن يعطي الأمراء شيئا فمنعه خوفا من أن تميل قلوبهم إليه، وقال: لهم الإقطاع الجزيل والنعم الوافرة. وشرع الجمال يستميل العسكر ويحلف الأمراء لسيف الدين بن أتابك الشهيد واحداً بعد واحد؛ وكل من حلف بأمره بالمسير إلى الموصل هاربا من الملك. وأقام بالملك في الرقة عدة أيام، ثم سار به إلى ماكسين تركه بها عدة أيام أيضاً، قد اشتغل بلذته عن طلب الملك ثم سار به نحو سنجار، وكان سيف الدين غازي قد دخل الموصل واستقر بها، فقوى حينئذ جنان جمال الدين، ووصل هو والملك إلى سنجار، فأرسل إلى دُزدارها وقال له: لا تسلم البلد ولا تمكن أحداً من دخوله، ولكن أرسل إلى الملك وقل له إنا تبع الموصل، فمتى دخلت الموصل سلمت إليك ففعل الدُّزدار ذلك. فقال الجمال للمك: المصلحة أننا نسير إلى الموصل، فإن مملوكا غازي، إذا سمع بقربنا منه خرج إلى الخدمة، فحينئذ نقبض عليه ونتسلم البلاد. فساروا عن سنجار، وكثر رحيل العسكر إلى الموصل هاربين من الملك؛ فبقى في قلة من العسكر، فساروا إلى مدينة بلد وعبر لملك دجلة من هناك. فلما عبرها دخل الجمال الموصل وأرسل الأمير عز الدين أبا بكر الدبيسي إلى الملك في عسكر، وهو في نفر يسير، فأخذه وأدخله الموصل، فكان آخر العهد به واستقر أمر سيف الدين، وأقرزين الدين على ما كان عليه من ولاية الموصل، وجعل الجمال وزيره. وأرسلوا إلى السلطان مسعود فاستحلفوه لسيف الدين فحلف له وأقره على البلاد، وأرسل له الخلع. وكان سيف الدين هذا قد لازم خدمة السلطان مسعود في أيام أبيه سفراً وحضراً، وكان السلطان يحبه كثيراً ويأنس به ويبسطه. فلما خوطب في اليمين وتقرير البلاد له لم يتوقف. قال ابن الأثير: فانظروا إلى جمال الدين وحُسْن عهده وكمال مروءته ورعايته لحقوق مخدومه!! وهذا المقام الذي ثبت فيه يعجز عنه عشرة آلاف فارس. ولقد قلل من قال الناس ألف منهم كواحد؛ وهو معذور لأنه لم ير مثل جمال الدين. قال: ولما استقر سيف الدين في الملك أطاعه جميع البلاد ما عدا ما كان بديار بكر كالمعدن وحيزان وإسْعَرد وغير ذلك، فإن المجاورين لها تغلبوا عليها.

قال: ولما فرغ سيف الدين من إصلاح أمر السلطنة وتحليفه وتقرير أمر البلاد عبر إلى الشام لينظر في تلك النواحي، ويمرر القاعدة بينه وبين أخيه نور الدين، وهو بحلب، وقد تأخر عن الحضور عند أخيه وجافه؛ فلم بزل يراسله و يستميله، فكلما طلب نور الدين شيئاً أجابه إليه استمالة لقلبه. واستقرت الحال بينهما على أن يجتمعا خارج العسكر السيفي، ومع كل واحد خمسمائة فارس، فلما كان يوم الميعاد بينهما سار نور الدين من حلب في خمسمائة فارس، وسار سيف الدين من معسكره في خمسة فوارس؛ فلم يعرف نور الدين أخاه سيف الدين حتى قرب منه، فحين رآه عرفه؛ فترجل له وقبل الأرض بين يديه، وأمر أصحابه بالعود عنه فعادوا. وقعد سيف الدين ونور الدين بعد أن اعتنقا وبكيا، فقال له سيف الدين: لم امتنعت من المجيء إلي، أكنت تخافني على نفسك؟ والله ما خطر في ببالي ما تكره، فلمن أريد البلاد، ومع من أعيش، وبمن أعتضد إذا فعلت السوء مع أخي وأحب الناس إلي!! فاطمأن نور الدين وسكن روعه، وعاد إلى حلب فتجهز وعاد بعسكره إلى خدمة أخيه سيف الدين، فأمره سيف الدين بالعود وترك عسكره عنده، وقال: لا غرض لي في مقامك عندي، وإنما غرضي أن يعلم الملوك والفرنج اتفاقنا، فمن يريد السوء بنا يكف عنه. فلم يرجع نور الدين ولزمه إلى أن قضيا ما كانا عليه.،وعاد كل واحد منهم إلى بلده.
قلت: ومن قصيدة لابن منير في نور الدين:
أيا خير الملوك أبا وجدا ... وأنقعهم حيا لغليل صاد
علوا وغلوا وقال الناس فيهم ... شوارد من ثناء أو أحاد
وما اقتسموا ولا عمدوا بناهم ... بمنصبك القسيمي العمادي
وهل حلب سوى نفس شاع ... تقسمها التمادي والتعادي
نفى ابن عماد دين الله عنها الش ... كاة فأصبحت ذات العماد
تبختر في كسا عدل وبذل ... مدبجة التهائم والنجاد
وفي محرابها داود منه ... يهذب حكمة آيات صاد
تجاوزت النجوم، فأين تبغي ... ترق، فلا خلوت من ازدياد
فصل فيما جرى بعد وفاة زنكي من صاحب دمشق والإفرنج المخذولينقال ابن أبى طي: في سابع يوم من استقرار نور الدين بحلب اتصل خبر مقتل أتابك بصاحب أنطاكية البيمند، فخرج ليومه في ساكر أنطاكية وقسم عسكره قسمين: قسما أنفذه إلى جهة حماة، وقسما أغار به على جهة حلب وعاث في بلادها، وكان الناس آمنين فقتل وسبى عالما عظيما، وتمادى حتى وصل إلى صلدى ونهبا. ووصل الخبر إلى حلب فخرج أسد الدين شيركوه فيمن كان بحلب من العساكر وجد في السير، ففاته. الفرنج وأدرك جماعة من الرجالة يسوقون الأسرى فقتلهم واستنقذ كثيرا مما كانت الفرنج أخذته؛ وسار مجنبا عن طريق الفرنج إلى أن شن الغارة على بلد أرتاح، واستاق جميع ما كان للفرنج فيه، وعاد إلى حلب مظفراً.
وقال ابن الأثير: لما قتل الشهيد سار مج ر الدين صاحب دمشق في عسكر إلى بعلبك وحاصرها، وبها نجم الدين أيوب والد السلطان صلاح الدين، فسلمها إليه وأخذ منه مالا، وملكه قرايا من أعمال دمشق.؛ وانتقل أيوب إلى دمشق فأقام بها. وقال ابن أبى طي: اشتد صاحب دمشق في القتال، وصبر نجم الدين أيوب أحسن صبر. فاتفق أن الماء لما شاء الله من حصن بعلبك غار حتى لم لبق منه شيء، وأهل القلعة يستمدون من البلد. فلما ملك البلد منع من يريد الماء من القلعة، فاشتد الأمر فطلبوا الأمان والمصالحة. فاستخلف صاحب دمشق نجم الدين، وأقر له الملك الذي كان أتابك قد جعله له فيها، وأقره فيها. ولما بلع ذلك نور الدين خاف أن يفسد عليه أسد الدين إلى صاحب دمشق بحصول أخيه نجم الدين عند، ومال نور الدين إلى مجد الدين أبى بكر ابن الداية حتى ولاه جميع أموره وجميع مملكته، فشق ذلك على أسد الدين.

قال الرئيس أبو يعلى: لما اتصل خبر موت زنكي بمعين الدين أثر شرع في التأهب والاستعداد لقصد بعلبك وانتهاز الفرصة فيها بآلات الحرب والمنجنيقات. فنزل عليها وضايقه، ولم يمض إلا أيام قلائل حتى قل الماء في قلة دعتهم إلى النزول على حكمه. وكان الوالي بهاذا حزم وعقل ومعرفة بالأمور؛ فاشترط ما قام له به من إقطاع وغيره، وسلم البلد والقلعة إليه، ووفى له بما قرر الأمر عليه، وتسلم ما فيه من غلة وآلةٍ في أيام من جمادى الأول من السنة. وأرسل معين الدين إلى الوالي بحمص، وتقررت بينه وبينه مهادنة ومُوادعة يعودان بصلاح الأحوال وعمارة الأعمال. ووقعت المراسلة فيما بينه وبين صلاح الدين بحماة، وتقرر بينهما مثل ذلك. ثم انكفأ بعد ذلك إلى البلد عقيب فراغه من بعبك ترتيب من رتبه لحفظها والإقامة فيها قال: ووردت الأخبار في أيام من جمادى الآخرة من السنة بأن ابن جوسلين جمع الإفرنج من كل ناحية وقصد مدينة الرها، على غفلة، بموافقة من النصارى. المقيمين فيها، فدخلها واستولى عليها، وقتل من فيها من المسلمين. فنهض نور الدين صاحب حلب في عسكره ومن انضاف إليه من التركمان وغيرهم في زهاء عشرة آلاف فارس، ووقعت الدواب في الطرقات من شدة السير، ووافوا البلد وقد حصل ابن جوسلين، وأصحابه فيه، فيه عليهم ووقع السيف نجم. وقتل من أرمن الرها والنصارى من قتل، وانهزم إلى برج يقال له برج الماء، فحصل في ابن جوسلين في تقدير عشرين فارسا من وجوه أصحابه، وأحدق بهم المسلمون وشرعوا في النقب عليهم حتى تعرقب البرج، فانهزم ابن جوسلين في الخفية من أصحابه، وأخذ الباقون، ومحق بالسيف كل من ظفر به من نصارى الرها، واستخلص من كان فيه أسيراً من المسلمين، ونهب منها شيء كثير من المال والأثاث والسبى، وانكفأ المسلمون بالغنائم إلى حلب وسائر الأطراف.
قال ابن الأثير: لما قتل زنكي كان جوسلين الفرنجي الذي كان صاحب الرها في ولايته غرب الفرات في تل باشر وما جاورها، فراسل أهل الرها، وكان عامتهم من الأرمن، وواعدهم يوما يصل إليهم فيه، فأجابوه إلى ذلك، فسار في عساكره إليها وملكها وامتنعت عليه القلعة بمن فيها من المسلمين، فقاتلهم وجد في قتالهم. فبلغ الخبر نور الدين، وهو يومئذ بحلب، فسار إليها بعسكره؛ فهرب جوسلين ودخل نور الدين مدينة الرها ونهبها وسبى أهلها. وفي هذه الدفعة نهبت وخربت وخلط من أهلها، ولم يبق منهم بها إلا القليل. ووصل خبر الفرنج إلى سيف الدين غازي بالموصل فجهز العساكر إلى الرها، فوصلت العساكر وقد ملكها نور الدين، فبقيت بيده ولم يعارضه فيها أخوه سيف الدين. قال: ومن عجيب ما جرى أن نور الدين أرسل من غنائمها إلى الأمراء، وأرسل إلى زيد الدين عل جملة من الجواري، فحملن إلى داره ودخل لينظر إليهن، فخرج وقد اغتسل وهو يضحك، فسُئل عن ذلك فقال: لما فتحنا الرها مع الشهيد كان في جملة ما غنمت جارية مالت نفس إليها، فعزمت على أن أبيت معها، فسمعت منادي الشهيد وهو يأمر بإعادة السبي والغنائم، وكان مهيبا مخوفا، فلم أجسر على إتيانها وأطلقتها. فلما كان الآن أرسل إلى نور الدين سهمي من الغنيمة وفيه تلك الجارية، فوطئتها خوفا من العود.
قلت: وللقيسراني قصيدة مدح بها جمال الدين وزير الموصل ذكر فيها فتح الرها أولها:
أماً آن أن يَزْهق الباطل ... وأن ينجز العدة المْاطلُ
لى كم يغب ملوك الظلا ... ل سيف بأعناقها كافل
فلا تحفلن بصول الذئاب ... وقد زأر الأسد الباسل
وهل يمنع الدين إلا فتى ... يصول انتقاماً فيستاصل
أبا جعفر أشرقت دولة ... أضاء لها بدرك الكامل
فإما نصبت لرفع اسمها ... فإنكما الفعلُ والفاعل
ليهنك ما أفرج النصر عنه ... وما ناله الملك العادل
فقل للحقاق الطريق الطريق ... فقد دلف المقرم البازل
وجاهد في الله حق الجها ... د محتسب بالعلا قافل
هل يمنع السور من طالع ... يُشايِعُه القدر النازل
فإن يك فتح الرها لُجَّة ... فساحلها القدس والساحل

فهل علمت علم تلك الديا ... ر أن المقيم بها راحل
أرى القمص يأمل فوت الرماح ... ولا بد أن يضرب الشائل
يقوى معاقله جاهداً ... وهل عاقل بعدها عاقل
وكيف بضبط بواقي الجهات ... لمن فات حسبته الحاصل
ولا بن منير من قصيدة في نور الدين:
ملك ما أذل بالفتح أرضا ... قط إلا أعزها إغلاقه
الوهي في الرها أزجي إليها ... عارضاً شيب الدجى إبراقه
جارت جأرة إليه فحلى ... عطلا من إعناقها إعناقه
تلك بكر الفتوح فالشام منها ... شامه والعراق بعد عراقه
أين كان الملوك عن وجهها الطل ... ق يُرينا إضاءة إطلاقه
سنة سنها أبوه بكلب الر ... وم لما أظله إرهاقه
خافقا قلبه إلى أمل عا ... جله دون نيله إخفاقه
قسمت راية المواضى القسيمي ... ات وبتز من لَهَاهْ عراقه
كذا أنت يا بْنَه ما عدا من ... خلقه فيك خصلة خَلاقه
وكفى البحر أنه ابن سحاب ... ما وَنَى سَحُّه ولا إصْعَاقه
لم يمت من سددت ثلمته يا ... من على الذين كظه إشفاقه
رهبة لم تدع على الأرض قلبا ... خلف صدر ينشق عنه شقاقه
كلما طن ذكرها منه في السم ... ع يكمى في النافقاء نفاقه
وجهاد عن حوزة الدين لم يأ ... ل له ركضه ولا إنفاقه
وله فيه من قصيدة أخرى:
بنور الدين روض كل محل ... من الدنيا وجدد كل بال
أقام على ثنية كل خوف ... سهادا بات يكلا كل كال كل
وصوب عدله في كل أوب فعوض عاطلا منه بحال
ينكس رأيه رأى المحامي ... ويقتل خوفه قبل القتال
لقد أحصدت للإسلام عزا ... يفوت سنامه يد كل قال
وأصبحت العواصم ملحقات ... عصاما غير منتكث الحبال
فصلوقفت على توقيع كتب في ذي القعدة سنة إحدى وأربعين عن خليفة مصر يومئذ،وهو الملقب بالحافظ، وعليه علامته: الحمد لله رب العالمين: إلى القاضي الأشرف أبى المجد علي بن الحسن بن الحسين بن احمد البيساني، البيساني وهو والد القاضي الفاضل، وكان يومئذ متولي القضاء والحكم بمدينة عسقلان، يقول، فيه: انتهى إلى حضرة أمير المؤمنين أن قوما من أهل ثغر عسقلان، حماه الله، قد صاروا يؤدون توقيعات بقبول أقوالهم من غير تزكية من شهودها المعروفين بالتزكية لهم، مع كونهم غير مستوجبين الشهادة ولا مستحقين لسماع القول. فأنكر أمير المؤمنين ذلك من فعلهم، وخرج عالي أمره بألا يسمع قول شاهد، ولا من تقدم لخطابة ولا لصلاة بالناس، ولا لتلاوة في موضع شريف، إلا من زكاه أعيان شهود الثغر المحروس، وهم. فلان وفلان؛ وعد ثمانية أنفس: عبد الساتر بن عبد الرحمن، عبد العزيز بن مفضل، علي ابن قريش، أحمد بن حسن، أحمد بن علي، عبد الرحمن بن محسن، أسامة بن بد الصمد،، علي بن عبد الله. قلت: وهذا من أحسن ما يؤرخ عن إمام تلك الدولة المباينة للشريعة، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقال الرئيس أبو يعلى: وفي شوال من م سنة إحدى وأربعين ترددت المراسلإت بين نور الدين ومعين الدين أثر إلى أن استقرت الحال بينهما على أجمل صفة وأحسن قضية. وانعقدت الوصلة بين نور الدين وبين ابنة معين الدين، وتأكدت الأمور على ما اقترح كل منهما؛ بكتب كتاب العقد في دمشق بمحضر من رسل نزر الدين في الثالث والعشرين من شوال. وشرع في تحصيل الجهاز. وعند الفراع منه توجهت الرسل عائدة إلى حلب، وفي صحبتهم ابنة معين الدين ومن في جملتها من خواص الأصحاب، في النصف من ذي القعدة.
قال: وتوجه معين الدين إلى ناحية صرخد وبصرى بالحيل والرجل وآلات الحرب، ونزل على صرخد وبها المعروف بالتونتاش غلام أمين الدولة كمشتكين الأتابكي الذي كان واليها أولا. قلت هو الذي تنسب إليه المدرسة الأمينية قبلي الجامع بدمشق.

قال: وكانت نفس ألتونتاش قد حدثته، لجهله، أنه يقاوم من يكون مستولياً على دمشق، وأن الإفرنج يعينونه على مراده. وكان قد خرج من حصن صرخد إلى ناحية الفرنج للاستنصار بهم وتقرير أحوال الفساد معهم؛ فحال معين الدين بينه وبين العود إلى أحد الحصنين. وراسل نور الدين في إنجاده على الكفرة فأجابه، وكان مبرزاً بظاهر حلب في عسكره، فثنى إليه الأعنة وأغذ المسير، فوصل إلى دمشق في السابع والعشرين من ذي الحجة، فأقام أيام يسيرة.
ودخلت سنة اثنتين وأربعين وخمسمائةفتوجه نور الدين نحو صرخد، ولم يشاهد أحسن من عسكره، وهيئته وعدته ووفور. عدته. واجتمع العسكران، وأرسل من بصرخد إليها يلتمسون الأماًن، والمهلة أياما وتسلم المكان؛ وكان ذلك منهم على سبيل المغالطة والمخاتلة إلى أن يصل عسكر الإفرنج لترحيلهم. وقضى الله تعالى وصول من أخبر بتجمع الفرنج واحتشادهم، ونهوضهم في فارسهم وراجلهم، مجدين السير إلى ناحية بصرى، وعليها فرقة وافرة من العسكر محاصرة لها. فنهض العسكر في الحال إلى ناحية بصرى فسبقوا الفرنج إليها، فحارا بينهم و بينها ووقعت العين على العين فانهزم الكفار، وولوا الأدبار؛ وتسلم معين الدين بصرى، وعاد إلى صرخد فتسلمها، وعاد العسكران إلى دمشق فوصلاها يوم الأحد السابع والعشرين من الحرم. وفي هذا الوقت. وصل ألتونتاش، الذي خرج من صرخد إلى الفزنج بجهله وسخافة عقله، إلى دمشق من بلاد الإفرنج من غير أمان، ولا تقرير واستئذان، توهما منه أنه يكرم ويُصطنع، بعد الإسامة القبيحة والارتداد عن الإسلام. فاعتقل في الحال، وطالبه أخوه خطلخ بما جناه عليه من كل عينيه؛ وعقد لهما مجلس حضره الفقهاء والقضاة وأوجبوا عليه القصاص. فسمل كما سمل أخاه، وأطلق إلى دار له بدمشق فأقام بها.
قلت: وقد ذكر ابن منير وقعة بصرى هذه وغيرها من الوقعات التي يأتي ذكرهاً في قصيدة قد تقدم بعضها. منها:
أي شأن أدركت يانور دين الل ... مه أعيا على الملوك لحاقه
نطق الحاسدون بالعجز عن مل ... ك محلى بالنيرات نطاقه
غض أبصارهم لحاق جواد ... ليس إلا إلى المعالي سباقه
سل بصيراً: كم أعتقت يوم بصرى ... من أسار الموت الزؤام عتاقه
كم عرام على العريمة شبت ... ضاق منه على الصليب خناقه
ولكم هبوة بهاب وأختي ... ها لها صكت الأسارى رباقه
بسط الذل فوق بسطة باسو ... طا ولكن طواه عنه ارتفاقه
وفي هذه السنة ولد في ببعلبك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب؛ وقيل في سنة فتح زنكي الرها قال: أبو يعلى: وفي ليلة الجمعة الثالث من ربيع الأول توفى الفقيه شيخ الإسلام أبو الفتح نصر الله بن محمد عبد القوى المصيصي بدمشق كان بقية الأئمة الفقهاء المفتنين على مذهب الإمام الشافعي، ولم يخلف بعده مثله. قال وفي جمادى الآخرة تقررت ولاية حصن ، صرخد للأمير مجاهد الدين بزان بن مامين على مبلغ من المال والغلة، وشروط وأيمان، دخل فيها وقام بها. واستبشر أهل تلك الناحية به، لما هو عليه من حب الخير والصلاح، والتدين والعفاف.
قال: وفي الحادي والعشرين من شوال، وهو مستهل نيسان، أظلم الجو ونزل غيث ساكن، ثم أظلمت الأرض في وقت العصر ظلاما شديداً بحيث كان ذلك كالغُدوة بين العشائين؛ وبقيت السماء في عين الناظرين إليها كصفرة الورس، وكذلك الجبال وأشجار الغوطة وكل ما ينظر إليه من حيوان ونبات وجماد. ثم جاء في أثر ذلك من الرعد القاصف، والبرق الخاطف، والهدات المزعجة، والرجفات المفزعة، ما ارتاع لها الشيب والشبان، فكيف الولدان والنسوان؛ وقلقت لذلك الخيول في مرابطها. و بق الأمر على هذه الحال إلى وقت العشاء الاخرة، ثم سكن بقدرة الله تعالى. وأصبح على الأرض والأشجار وسائر النبات غبار في رقة الهواء، بين البياض والغبرة.
قال ابن الأثير: وفى سنة اثنتين وأربعين فتح نور الدين ارتاح بالسيف، وحصن بارة، وبصرفوت، وكفر لاثا. وكان الفرنج قد طمعوا وظنوا أنهم بعد قتل الشهيد يستردون ما أخذ منهم. فلما رأوا من نور الدين هذا الجد علموا أن ما أملوه بعيد.
فصل في نزول الفرنج على دمشق ورجوعهم وقد خذلهم الله عنها.

قال الرئيس أبو يعلى: وفي هذه السنة تواصلت الأخبار من ناحية القسطنطينية وبلاد الفرنج والروم وما والاها بظهور ملوك الإفرنج من بلادهم؛ منهم الألمان والفنش، وجماعة من كبارهم، في العدد الذي لا يحصر، لقصد بلاد الإسلام بعد أن نادوا في سائر بلادهم ومعاقلهم: النفير النفير إليها، والإسراع نحوها؛ وخلوا بلادهم وأعمالهم خالية شاغرة من حُملتها والحفظة لها. ثم استصحبوا من ذخائرهم وأموالهم وعددهم الشيء الكثير الذي لا يحصى، بحيث يقال إن عدتهم ألف ألف من الرجالة والفرسان، ويقال أكثر من ذلك وغلبوا على أعمال قسطنطينية، واحتاج ملكها إلى الدخول في مداراتهم ومسالمتهم، والنزول على أحكامهم. وحين شاع خبرهم واشتهر امرهم، شرعت ولاة الأعمال المصاقبة لهم، والأطراف الإسلامية القريبة منهم، في التأهب للمدافعة لهم، والاحتشاد على المجاهدة فيهم. وقصدوا منافذهم، ودروب معابرهم، لكي يمنعوهم من العبور والنفوذ إلى بلاد الإسلام، وواصلوا شن الغارات على أطرافهم؛ واستحر القتل فيهم والفتك بهم إلى أن هلك منهم العدد الكثير، وحل بهم من عدم القوت والعُلوفات والمير وغلاء السعر، إذا وجدوه، ما أفنى الكثير منهم بالجوع والمرض. ولم تزل أخبارهم تتواصل بهلا كهم وفناء أعدادهم إلى أواخر سنة اثنتين وأربعين، بحيث سكنت النفوس بعض إلى سكون
ودخلت سنة ثلاث وأربعين وخمسمائةوتواترت الأخبار بوصول مراكب الفرنج وحصولهم على سواحل الثغور الساحلية صور وعكا، واجتماعهم مع من بها من الفرنج. و يقال إنهم بعد ما فنى منهم بالقتل والمرض والجوع، وصل تقديرهم مائة ألف، وقصدوا البيت المقدس فقضوا حتى حجم وعاد من عاد منهم إلى بلادهم في البحر، وقد هلك منهم بالموت والمرض الخلق العظيم، وهلك من ملوكهم من هلك، وبق للألمان أكبر ملوكهم ومن هودونه واختلفت الآراء بينهم فيما يقصدون منازلته من البلاد الإسلامية، إلى أن استقرت الحال على منازلتهم دمشق. وبلغ ذلك معين الدين فاستعد لحربهم، فجاءوا في تقدير خمسين ألفا ودنوا من البلاد؛ ثم قصدوا في المنزله المعروفة بنزول العساكر فيها فصادفوا الماء مقطوعا؛ فقصدوا ناحية المزة فخيموا عليها لقربهم من الماء. وزحفوا إلى البلد بخيلهم ورجلهم، ووقف المسلمون بازائهم، في يوم السبت سادس ربيع الأول. ونشبت الحرب بين الفريقين، واجتمع عليهم من الأعمال الأجناد والأتراك والقتال وأحداث البلد والمطوعة والغزاة، الجم الغفير؛ واستظهر الكفار على المسلمين بكثرة الأعداد، وغلبوا على الماء، وانتشروا في البساتين وخيموا فيها، وقربوا من البلد وحصلوا منه بمكان لم يتمكن أحد من العساكر قديما وحديثا منه واستُشهد في هذا اليوم الفقيه الإمام يوسف الفندلاوي المالكي، رحمه الله، قريب الربرة على الماء، لوقوفه في وجوههم، وترك الرجوع عنهم ؟ اتبع أوامر الله تعالى في كتابه الكريم وقال بعنا واشترى. وكذلك عبد الرحمن الحلحول الزاهد، رحمه الله، جرى أمره هذا المجرى.
قلت: وذكر الأمير أسامة بن منقذ في كتاب الاعتبار أن ملك الألمان الفرنجي لما وصل إلى الشام اجتمع إليه كل من بالشام من الإفرنج، وقصد دمشق فخرج، عسكرها وأهلها لقتالهم، وفي جملتهم الفقيه الفندلاوي المالكي، والشيخ الزاهد عبد الرحمن الحلحول، رحمهما الله، وكانا من خيار المسلمين،. فلما قاربوهم قال الفقيه عبد الرحمن: أما هؤلاء الروم. قال: بلى: قال فإلى متى نحن وقوف قال: سر على اسم الله. فتقدما فقاتلا حتى قتلا في مكان واحد، رحمهما الله تعالى.

ثم قال أبو يعلى: وشرعوا في قطع الأشجار والتحصن بها، وهدوا الفطائر؛ وباتوا تلك الليلة على هذه الحال، وقد لحق الناس من الارتياع لهول ما شاهدوه، والروع بما عاينوه، ما ضعفت به القلوب وحرجت معها الصدور. و باكروا الظهور إلها غد ذلك اليوم، وهو الأحد تاليه، وزحفوا إليهم، ووقع الطراد. بينهم؛ واستظهر المسلمون عليهم،. وأكثروا القتل والجراح فيهم؛ وأبلى الأمير معين الدين في حربهم بلاء حسناء، وظهر من شجاعته وصبره وبسالته ما لم يشاهد في غيره، بحيث كان لا يني في جهادهم، ولاينثنى عن دمارهم. ولم تزل رحا الحرب دائرة بيهم، وخيل الكفار محجمة عن الحملة المعروفة لهم، حتى تتهيأ الفرصة لهم، إلى أن مالت الشمس إلى الغروب، وأقبل الليل، وطلبت النفوس الراحة، وعاد كل منهم إلى مكانه. وبات الجند بإزائهم وأهل البلد على أسوارهم الحرس والاحتياط، وهم يشاهدون أعداءهم بالقرب منهم. وكانت المكاتبات قد نفذت إلى ولاة الأطراف بالاستصراخ والاستنجاد، وجعلت خيل التركمان تتواصل، ورجالة الأطراف تتتابع؛ وباكرهم المسلمون وقد قويت شوكتهم ونفوسهم، وزال عنهم روعهم، وثبتوا بإزائهم؛ وأطلقوا فيهم السهام ونبل الجرخ، بحيث يقع في مخّيمهم في راجل أو فارس، أو فرس أو جمل. ووصل في هذا اليوم من ناحية البقاع وغيرها رجاله كثير من الرُّماة، فزادت بهم العدة وتضاعفت العدة. وانفصل كل فريق إلى . مستقره في هذا اليوم، وباكروهم من غده يوم الثلاثاء وأحاطوا بهم في مخيمهم، وقد لم تحصنوا بأشجار البساتين وأفسدوها رشقاً بالنشاب، وحذفا بالأحجار؛ وقد أحجموا عن البروز وخافوا وفشلوا، ولم يظهر منهم أحد وظن أنهم يعملون مكيدة أو يدبرون حيلة ولم يظهر منهم إلا النفر اليسير من الخيل والرجل على سبيل المطاردة والمناوشة، خوفا من المهاجمة، إلى أن يجدوا لحملتهم مجالا. وليس يدنو منهم أحد إلا صُرع برشقة أو طعنة وطمع فيهم نفر كثير من رجالة الأحداث والضياع، وجعلوا يقصدونهم في المسالك وقد أمنوا، فيقتلون من ظفروا به ويحضرون رُءوسهم لطلب الجوائز عليها. وحصل من رءوسهم العدد الكثير وتواترت إليهم أخبار العساكر الإسلامية بالمسارعة إلى جهادهم واستئصال شأفتهم، فأيقنوا بالهلاك والبوار، وحلول الدمار، وأعملوا الآراء بينهم. فلم يجدوا لنفوسهم خلاصا من الشبكة التي حصلوا بها غير الرحيل، فرحلوا سحر يوم الأربعاء التالي مفلولين. وحين عرف المسلمون ذلك برزوا إليهم في بكرة هذا اليوم، وسارعوا في آثارهم بالسهام، بحيث قتلوا في أعقابهم من الرجال والخيول والدواب العدد الكثير. ووجدوا في آثار منازلهم. وطرقاتهم من دفائن قتلاهم وخيولهم مالا عدد له ولا حصر يلحقه؛ بحيث لها أراييح من جيفتهم تكاد تصرع في الجو. وكانوا قد أحرقوا الرّبوة والقبة الممدودية في تلك الليلة. واستبشر الناس بهذه النعمة التي أسبغها الله عليهم، وأكثروا من الشكر له تعالى على ما أولاهم من إجابة دعائهم الذي واصلوه في أيام هذه الشدة فلله الحمد على ذلك والشكر. واتفق عقيب هذه الرحمة اجتماع معين الدين مع نور الدين عند قرية من دمشق للإنجاد لها.

وقال ابن الأثير: خرج ملك الألمان، من بلاد الإفرنج في جيوش كبيرة عظيمة لا تحصى كثرة من الفرنج إلى بلاد الشام. فاتفق هو ومن بساحل الشام من الفرنج فاجتمعوا وقصدوا مدينة دمشق ونازلوها، ولا يشك ملك الألمان إلا أنه يملكها وغيرها لكثرة جموعه وعساكره. قال: وهذا النوع من الفرنج هو أكثرهم عدداً وأوسعهم بلاداً، وملكهم أكثر عَدَداً وعُدَدا، وإن كان غير ملكهم أشرف منه عندهم وأعظم محلا. فلما حاصروا دمشق، و بها صاحبها مجير الدين آبُق بن محمد بن بورى بن طغتكين، وليس له من الأمر شيء، و إنما كان الأمر إلى مملوك جده طغتكين، وهو معين الدين أثر، فهو كان الحاكم والمدبر للبلد والعسكر،، وكان عاقلا دينا خيرا حسن السيرة؛ فجمع للعسكر وحفظ البلد؛ وحصرهم الفرنج وزحفوا إليهم سادس ربيع الأول، فخرج العسكر وأهل البلد لمنعهم. وكان فيمن خرج الشيخ الفقيه حجة الدين أبو الحجاج يوسف بن دوناس المغربي الفندلاوي شيخ المالكية بدمشق؛ وكان شيخا كبيراً، زاهدا عابدا؛ خرج راجلا، فرأى معين الدين، فقصده وسلم عليه وقال له: يا شيخ أنت معذور، ونحن نكفيك، وليس بك قوة على القتال. فقال: قد بعت واشترى، فلا نُقيله ولا نستقيله. يعنى قول الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ...) الآية. وتقدم فقاتل الفرنج حتى قتل، رحمه الله، عند النيرب، شهيدا. وقوى أمر الفرنج وتقدموا فنزلوا بالميدان الأخضر، وضعف أهل البد عن ردهم عنه. وكان معين الدين قد أرسل إلى سيف الدين يستغيث به ويستنجده، ويسأله القدوم عليه، ويعلمه شدة الأمر. فجمع سيف الدين عساكر. وسار مجدا إلى مدينة حمص، وأرسل إلى معين الدين يقول لم: قد حضرت ومعي كل من يطيق حمل السلاح من بلادي، فإن أنا جئت إليك ولقينا الفرنج وليست دمشق بيد نوابي وأصحابي وكانت الهزيمة والعياذ بالله علينا، لا يسلم منا أحد لبعد بلادنا عنا، وحينئذ تملك الفرنج دمشق وغيرها. فإن أردتم أن ألقاهم وأقاتلهم فتسلم البلد إلى من أثق إليه؛ وأنا أحلف لك، إن كانت النصر لنا على الفرنج، أنني لا آخذ دمشق ولا أقيم بها إلا مقدار ما يرحل العدو عنها، وأعود إلى بلادي فماطله معين الدين لينظر ما يكون من الفرنج. فأرسل سيف الدين إلى الفرنج الغرباء يتهددهم ويعلمهم أنه على قصدهم إن لم يرحلوا. وأرسل معين الدين إليهم أيضاً يقول لهم قد حضر ملك الشرق ومعه من العساكر مالا طاقة لكم به، فإن أنتم رحلتم عنّا وإلا سلمت البلد إليه، وحينئذ لا تطمعوا في السلامة منه. وأرسل إلى فرنج الشام يخوفهم من أولئك الفرنج الخارجين إلى بلادهم، ويقول لهم أنتم بين أمرين مذمومين: إن ملك هؤلاء الفرنج الغرباء دمشق لا يبقون عليكم ما بأيديكم من البلاد، وإن سلمت أنا دمشق إلى سيف الدين فأنتم تعلمون أنكم لا تقدرون على منعه من البيت المقدس. و بذل لهم أن يسلم إليهم بانياًس أن رحلوا ملك الألمان عن دمشق. فأجابوه إلى ذلك وعلموا صدقه، واجتمعوا بملك الألمان وخوفو بن سيف الدين وكثرة عساكره وتتابع أمداده، وأنه ربما ملك دمشق فلا يبقى لهم مقام بالساحل فأجابهم إلى الرحيل عن دمشق. فرحل ورحل فرنج الساحل، وتسلموا حصن بانياس من معين الدين وبقى معهم حتى فتحه نور للدين محمود، رحمه الله، كما سنذكر.
قلت: وذكر الحافظ أبو القاسم ابن عساكر رحمة الله في تاريخه أن الفقيه الفندلاوي رؤى في المنام، فقيل له انت؟ قال في جنات عدن على سُرُرٍ متقابلين. وقبره الآن يزار بمقارب الباب الصغير من ناحية الملى، وعليه بلاط كبير مقورة فيها شرح حاله. واما عبد الرحمن الحلحول فقبره في بستان في جهة شرقه، وهو البستان المحاذي لمسجد عبان المعروف الآن بمسجد طالوت. وكان مقامه في حياته في ذلك المكان، رحمة الله. وقرأت قصيدة في شعر أبى الحكم الأندلسي شرح فيها هذه القصة منها:
بشطى نهر داريا ... أمور ما تؤاتينا
وأقوام رأوا سفك الد ... ما في جلق دينا
أتانا مائتا ألف ... عديدا أو يزيدونا
فبعضهم من أندلس ... وبعض من فلسطينا
ومن عكا ومن ور ... ومن صيدا وتبنينا

وإذا أبصرتهم أبصر ... ت أقواماً مجانينا
ولكن حرقوا في عا ... جل الحال البساتينا
وجازوا المرج والتعدي ... ل أيضاً والميادينا
تخالهم وقد ركبوا ... فطائرها جراذينا
وببن خيامهم ضموا ال ... سخنازر والقرابينا
ورايات وصلبانا ... على مسجد خاتونا
وقلنا إذ رأيناهم ... لعل الله يكفينا
سَمَا لهم معين قد ... أعان الخلق والدنيا
وفتيانٍ تخالهمُ ... لدى الهيجا شياطينا
فوَّوْا يطلبون المرْ ... جَ من شرقي جِسْرِينا
ولكن غادروا إليا ... س تحت الترب مدفونا
وشيخا فند لاويا ... فقيها يعضُد الدينا
وفتيانا، تفانوا من ... دمشق نحو سبعينا
ومنهم مائتا علج ... وخيل نحو تسعينا
وبا قيهم إلى الآنَ ... من القتل يفرّونا
وللعرقلة حسان في مدح مجير الدين صاحب دمشق حينئذ قصيدة ذكر فيها هؤلاء الفرنج ،أولها:
عرّج على نجد لعلك منجدى ... بنسيمها، وبذكر سعدي مسعدى
يقول فيها:
من قاتل الأفرنج دنْيا غيرهُ ... والخيل مثلُ السّيل عند المشهد
رد الأمان بكل نَذْبٍ باسل ... ومن الجياد بكل نهد أجرد
ومن السيوف بكل عضب أبيض ... ومن العجاج بكل نقع أسود
حتى لوى الإسلام تحت لوائه ... وغدا بحمد من شريعة أحمد
وقرأت في ديوان محمد بن نصر القيسراني قصيدة في مدح تاج الملوك بورى جد مجير الدين، أنشده إياها عند كسرة الفرنج على دمشق في أواخر سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة؛ وهي واقعة تشبه الواقعة في زمن مجير الدين.
أول القصيدة:
الحق مبتهج، والسيف مبتسم ... ومال أعدا مجيبر الدين مُقْتَسَمُ
يقول فيها:
قُدتَ الجياد، وحصنت البلاد، وأم ... نت العباد، فأنت الحل والحرم
وجئت بالخيل من أقصى مرابطها ... معاقد الحزم في أوساًطها الحُزُم
حتى إذا ما أحاط المشركون بنا ... كالليل، يلتهم الدُّنيا له ظلم
وأقبلوا، لا من الإقبال، في عدد ... يؤود حاسبه الإعياء والسأَم
أجريت بحرا من الماذي معتكرا ... أمواجه بأواسى اليأس تلتطم
وسُست جندك والرحمن بكلؤه ... سياسة ما يعفى إثرها ندم
وقفت في الجيش، والأعلام خافقة ... بالنصر، كل قناة فوقها علم
يحوطك الله صونا عن عيونهم والله يعصم من بالله يعتصم
حتى إذا بد الآراء ضاحكة ... وأقبلت أوجه الإقبال تبتسم
أتبعت جن سراياهم مضمرة ... فيها نجوم إذا جد الوغى رجموا
والنصر دان، وخيل الله مقبلة ... ترجو الشهادة في الهيجا، وتغتنم
صاب الغمام عليهم والسّهام معا ... فما دروا أيُّما الهطالة الدّيم
سروا لينهبوا الأعمار، فانتهبوا ... قتلا، ويغتنموا الأقوال فاغُتنموا
وأقبلت خيُلنا تردى بخيلهم ... مجنوبة، وعلى أرْماحنا القم
وأدْبر الملك الطاغي، يزعزعه ... حر الأسنة، وهو البارد الشبم
وَافَوا دمشق فظنوا أبها جدة ... ففارقوها وفي أيديهم العدم
وأيقنوا مع ضياء الصبح أنهم ... إن لم. يزولوا سراعا زالت الخيم
فغادروا أكثر القربان وانجفلوا ... وخلفوا أكبر الصُّلبان وانهزموا
فغادروا المسجد الأدْنى فما عبرت ... عن مسجد القدم الأقصى لهم قدم
مُسْتَسْلمين لأيدي المسلمين، وقد ... أعزى القنا بتمادي خطفهم نهم
لا يملك الجسُم دفعاً عن مقاتله ... كأنه حين يغشاهُ الردى صنم
فصل

قال ابن الأثير: لما رحل الفرنج عن. دمشق سار معين الدين أثر إلى بعلبك؛ وأرسل إلى نور الدين، وهو مع أخيه سيف الدين، يسأله أن يحضر عنده فاجتمعا. فوصل إليها كتاب القمص صاحب طرابلس يشير عليها بقصد حصن العُرَيْمة وأخذه ممن فيه من الفرنج. وكان سبب ذلك أن ولد الفنش صاحب جزيرة صقلية خرج مع ملك الألمان إلى الشام وتغلب على العُرَيم}ة وأخذها من القمص، وأظهر أنه يريد أخذ طرابلس منه أيضاً. وجد هذا الذي ملك العُريمة هو الذي غزا إفريقية وفتح مدينة طرابلس الغرب. فلما استولى هذا على العريمة كاتب القومص نور الدين ومعين الدين في قصده، فسارا إليه مجدين، فصحباه؛ وكتبا إلى سيف الدين يستنجد انه ويطلبان منه، المدد فأمدهما فحصروا الحصن، و به ابن الفنس، ونقبوا السور؛ فأذعن الفرنج واستسلموا، وألقوا بأيديهم. فملك المسلمون الحصن وأخذوا كل من به من رجل وصبي وامرأة في وفيهم ابن الفنس.؛ وأخربوا الحصن وعادوا إلى سيف الدين. وافتتح نور الدين أيضا باسوطا وهاب.
وقال الرئيس أبو يعلى: قتل أكثر من كان فيه، يعنى في حصن العُريمة، واخذوا ولد الملك وأمه، ونهب ما فيه من العدد والخيول والأثاث وعاد عسكر سيف الدين إلى مخيمه بحمص، ونور الدين عاد إلى حلب ومعه ولد الملك وأمه ومن اسر معهما، وانكفأ معين الدين إلى دمشق.
قال: ووردت الأخبار في رجب من ناحية حلب بأن نور الدين صاحبها كان قد توجه في عسكره إلى ناحية الأعمال الإفرنجية، وقصد أفاميةأ، وظفر بعدة من الحصون والمعاقل الإفرنجية، وبعدة وافرة من الإفرنج؛ء وأن صاحب أنطاكية جمع الفرنج وقصده على حين غفلة منه، فَنَال من عسكره وأثقاله وكُراعه ما أوْجبته الأقدار للنازلة، وانهزم، بنفيه وعسكره، وعاد إلى حلب سالما في عسكر لم يفقد منه إلا النفر اليسير، بعد قتل جماعة وافرة من الإفرنج. وأقام بحلب أياما بحيث جدد ما ذهب له من اليزك وما يحتاج إليه من آلات العسكر، وعاد إلى منزله، وقيل لم يَعُد.
وذكر ابن أبى طي أن أسد الدين لما كان في نفسه على نور الدين من تقديم ابن الداية عليه لم ينصح يومئذ، وهي وقعة يغرا؛ ومر به نور الدين فقال له: ما هذا الوقوف والغفلة في مثل هذا الوقت والمسلمون قد أنكسروا؟ فقال: " ياخوند إيش ننفع نحن؟ إنما ينفع مجد الدين أبو بكر، فهو صاحب الأمر " . فاستدرك نور الدين بعد ذلك، وألزم مجد الدين أن يعرف لأسد الدين حقه، وأصلح بينهما.
قال: وقتل في هذه الكسرة شاهنشاه بن أيوب، أخو الملك الناصر، وقيل في كسرة البقيعة. قلت وهو والد عز الدين فرخشاه، وتقى الدين عمر، والست عذرا المنسوب إليها العذاروية داخل باب النصر بدمشق. وقبره الآن بالتربة النجمية جوار المدرسة الحسامية بمقبرة العونية ظاهر دمشق، رحمهم الله تعالى.
قلت: ولابن منير من قصيدة تقدمت اعتذارا عما جرى في هذه الغزاة قال:
لم يشنه من ماء يغراء أن فر ... الأشابات ذاد عنها انذلاقه
كان فيها ليث العرين، حمى الأشْ ... بال منه غضبان، كالنار ماقه
وشبيه النبي يوم حُنيْن ... إذ تلافى أدواءهم درْيَاقه
وهي الحرب، فحلها يحسن الكر ... ة إن عض بأسها، لا نياقه
فصلوقال ابن الأثير: وفى سنة ثلاث وأربعين أيضاً سار نور الدين إلى بصرى، وقد اجتمع بها الفرج في قضهم وقضيضهم وقد عزموا على قصد بلاد الإسلام. فالتقى بهم هنالك واقتتلوا أشد قتال، ثم أنزل الله نصره على المسلمين وانهزم الفرنج، وكانوا بين قتيل وأسير. وفي هذه الوقعة يقول القيسراني من قصيدة أولها:
يا ليت أن الصدود مصدود ... أولا، فليت النوم مردود
إلى متى تعرض عن مغرم ... في خده للدمع أخدود
قالوا عيون البيض بيض الظبا ... قلت ولكن هذه سود.
يخاف منها وهي في جفنها ... والسيف يُخشى وهو مغمود
ثم خرج إلى المدح فقال:
وكيف لانثنى على عيشنا ال ... محمود والسلطان محمود
فليشكر الناس ظلال المنى ... إن رواق العدل ممدود
ونيرات الملك وهاجة ... وطالع الدولة مسعود

صارم الإسلام لا ينثني ... إلا وشْلوُ الكفر مقدود
مناقب لم تك موجودة ... إلا ونور الدين موجود
مظفر،في درعه ضيغم ... عليه تاج الملك معقود
نال المعالي حاكما مالكا ... فهو سليمان وداود
ترتشف الأفواه أسيافه ... أن رُضاب العز مورود
وكم له من وقعةٍ يومها عند ملوك الشرك مشهود
والقوم: إما مُرهق صرعة ... أو موثق بالقد مشدود
حتى إذا عادوا إلى مثلها ... قالت لهم هيبته عودوا
طالبْ بثأر ضَمِنِتْه الظبا ... فكل ما يضن مردود
والكنر والفر سجال الوغى ... فطارد طوراً ومطرود
وإنما الإفرنج من بغيها ... عادوا وقد عادلها هود
قد حصحص الحق، فما جاحد ... في قلبه بأسك مجحود
فكل مصر بك متفتح ... وكل ثغر بك مسدود
وقال أيضاًم قصيدة في نور الدين، وأنشده إياها بظاهر حلب، وقد كسر الإفرنج على يغرا وهزمهم إلى حصن حارم، وقد كانت الفرنج هزمت. المسلمين أولاً بهذا الموضع، أولها:
تفي بضمانها البيض الحداد ... وتقضى دينها السُّمر الصعاد
وتدرك ثارها من كل باغ ... فوارس من عزائمها الجلاد
ويغشى حومة الهيجا همام ... يُشَدُّ بضعه السبع الشداد
أظنوا أن نار الحرب تخبو ... ونور الدين في يده الزناد
وجند كالصقور على صقور ... إذا انقضوا على الأبطال صادوا
إذا أخفوا مكيدتهم أخافوا ... وإن أبدوا عداوتهم أبادوا
ونصرة دولة حاميت عنها ... وهل يخشى وأنت لها عماد
وإن تَتْلُ القوافي ما تلته ... بإنِّب ما يؤنبها سناد
جرت بالنصر أقلام العوالي ... وليس سوى النّجِيع لها مداد
وطاًلت أرؤس الأعلاج خصبا ... فنادى السيف قد وقع الحصاد
أحطت بهم فكان القتل صبراً ... ولا طعن هناًك ولا طراد
وللإبرنز فوق الرمح رأس ... تَوَسّدُ، والسِّنان له وساد
ترجل للسلام ف ففر سوه ... وليس سوى القناة له جواد
غضيض المقلتين ولا نعاس ... وغائرها وليس به مهاد
فَسِرْ واستوعب الدنيا فتوحا ... فلا هضب هناك ولا وهاد
وزز ببني الوغى مثوى حبيب ... فما عن باب مسلمه ذياد
ولا في باب فارس غير ثكلى ... بفارسها يضيء بها الحداد.
لأنطاكية يحمي ذراها وقد دانت لسطوتك البلاد
وأذعنت الممالك واستجابت ... ملبية لدعوتك العباد
قلت: ووقعة إنب هذه كانت عظيمة، وقد أكثر كذلك الشعراء لها؛ وسيأتي ذكرها قريبا إن شاء الله تعالى.
فصلقال أبو يعلى التيمي: وفي رجب من هذه السنة ورد الخبر من ناحية حلب بأن صاحبها نور الدين بن أتابك أمر بابطال " حي على خير العمل " في أواخر تأذين الغداة والتظاهر بسب الصحابة، وأنكر ذلك إنكاراً شديداً، وساعده على ذلك جماعة من أهل السنة بحلب. وعظم هذا الأمر على الإسماعيلية وأهل التشيع وضاقت له صدروهم، وهاجوا وماجوا، ثم سكنوا وأحجموا، للخوف من السطوة النورية المشهورة، والهيبة المحذورة.
قلت وأنشده ابن منير في شهر رمضان:
فداك من صام ومن أفطرا ... ومن سعى سعيك أو قصرا
وما الورى أهلا فتفدى بهم ... وهل يوازي عرض جوهرا
عدل تساوى تحت أكنافه ... مطافل العين فاسد الشرى
يا نور دين الل ه:كم حادثٍ ... دجا وأسفرت له فانشرى
وكم حمى للشرك لا يهتدي ال ... وهم له غادرته مجزرا
يا ملك العصر الذي صدره ... أفسح من أقطارها مصدرا
وابن الذي طاول أفلاكها ... فلم يجد من فوقه مظهرا

مناقب تكسر كسرى كما ... تقصر عن إدراكها قيصرا
ما عام في أوصافها شاعر ... إلا رأى أوصافها أشعرا
لله أصل أنت فرع له ... ما أطيب المجنى وما أطهرا
ما حلب البيضاء مذ صنتها ... إلا حرام مثل أم القرى
شيدت في سور أرجائها ... لكل باغي عُمرة مشعرا
فأصبح الشادى إذا ثوب الد ... اعي له هلل أو كبرا
لا عدم للإسلام مَنْ كَفُّه ... كهفٌ لمن أرهق أو أُحْصرا
كأنما ساحٌته جنة ... أجرت بها راحته كوثرا
تصرم الشهر الذي كنت في أوقاته من قدره أشهرا
جهاد ليل في نهار، فَفُزْ ... إذ كنت فيه الأصْبرَ الأشكرا
أصدق ما يرشفه سامع ... ما هز من أو صافك المنبرا
أبقاك للدنيا وللدين من خلاك في ليلهما نيرا
حتى نرى عيسى من القدس قد ... لجا إلى سيفك مستنصرا
قال أبو يعلى: وفي رجب أذن لمن يتعاطى الوعظ بالتكلم في الجامع المعمور بدمشق على جارى العادة والرّسم، فبدا من اختلافهم في أحوالهم وأغراضهم، والخوض في قضايا لا حاجة إليها من المذاهب ما أوجب صرفهم عن هذه الحال وإبطال الوعظ، لما يتوجه معه من الفساد، وطمع سفهاء الأوغاد؛ وذلك في آخر شعبان منها.
قال: وكثر فساد الفرنج المقيمين بصور وعكا والثغور الساحلية في الأعمال الدمشقية بعد رحيلهم عن دمشق؛ فأغار. معين الدين على أعمالهم، وخيم في ناحية من حَوْرَان بالعسكر، وكاتب العرب، واستدعى جماعة وافرة من التركمان، وأطلق أيديهم في نهبهم والفتك بهم. فلم يزل على النكاية فيهم والمضايقة لهم إلى أن ألج أهم إلى طلب المصالحة.
ودخلت سنة أربع وأربعين وخمسمائةفجددت المهادنة في المحرم مدة سنتين. وأنفذ نور الدين إلى معين الدين يعلمه أن صاحب أنطاكية قد جمع إفرنج بلاده وظهر يطلب بهم الإفساد في الأعمال الحلبية، وأنه قد برز في عسكره إلى ظاهر حلب للقائه، والحاجة ماسة إلى معاضدته، فندب معين الدين مجاهد الدين بزان بن مامين في فريق وافر من العسكر الدمشقي للمصير إلى جهته، وبذل المجهود في طاعته ومناصحته؛ وبقى معين الدين في باقي العسكر بناحية حَوْرَان.

قال: وفي صفر من السنة وردت البشائر من جهة نور الدين بما أولاه الله تعالى، وله الحمد، على حشد الإفرنج المخذول، ولم يُفلت منهم إلا من خبر ببوارهم وتعجيل دمارهم. وذلك أن نور الدين اجتمع له بن سائر العساكر سنة آلاف فارس مقاتلة سوى الأتباع والسواد، فنهض بهم إلى الفرج في الموضع المعروف بإنب، وم في نحو أربعمائة فارس وألف راجل، فقتلوهم وغنموهم؛ ووجد اللعين البرنس مقدمهم صريعا بان حُماته وأبطاله، فعرف وقطع رأسه وحمل إلى نور الدين. وكان هذا للعين من أبطال الفرنج المشهورين بالفروسية وشدة البأس، وقوة الحيل وعظم الخلعة، مع اشتهار الهيبة وكثرة السطوة، والتناهي في الشر؛ وذلك يوم الأربعاء الحادي والعشرين من صفر. ثم نزل نور الدين في العسكر على باب أنطاكية، وقد خلت من حُماتها، والذابين عنها، ولم يبق فيها غير أهلها مع كثرة أعدادهم وحصانة بلدهم. وترددت المرسلات بينه وبينهم في طلب لتسليم إليه وإيمانهم وصيانة أموالهم، فوتع الاحتجاج منهم بأن هذا أمر لا يمكنهم الدخول فيه إلا بعد انقطاع آمالهم من الناصر لهم، والمعين على من يقصدهم. وحملوا ما أمكنهم من التحف والمال، ثم استمهلوا فأمهلوا. ثم رتب نور الدين بعض العسكر للإقامة عليها والمنع لمن يصل إليها، ونهض في باقية العسكر إلى ناحية أفامية، وقد كان رتب الأمير صلاح الدين في فريق وافر من العسكر لمنازلتها ومضايقتها، فالتمسوا الأمان. فأومنوا على أنفسهم، وسلموا البلد في ثامن عشر ربيع الأول، وانكفأ نور الدين في عسكره إلى ناحية أنطاكية، وقد انتهى الخبر بنهوض الفرنج من ناحية الساحل إلى صوب أنطاكية لإنجاد من بها. فاقتضت الحال مهادنة من في أنطاكية وموادعتهم، وتقرير أن يكون ما قرب من الأعمال الحلبية له، وما قرب من أنطاكية لهم. ورحل عنهم إلى جهة غيرهم، بحيث كان قد ملك في هذه التوبة مما حول أنطاكية من الحصون والقلاع والمعاقل وغيرها المغانم الجّمة.
وفصل عنه الأمير مجاهد الدين بزان في العسكر الدمشقي، وقد كان له في هذه الوقعة ولمن في جملته البلاء المشهور والذكر المشكور، لما هو موصوف به من الشهامة والبسالة، وإصابة الرأى، والمعرفة بمواقف الحروب.
وقال ابن أبى طي: حمل أسد الدين على حامل صليب الفرنج فقتله، وقُتل البرنس صاحب أنطاكية وجماعة من وجوه عسكره، ولم يقتل من المسلمين من يقوم به، وعاد المسلمون بالغنائم والأسارى. وكان لأسد الدين في هذه الحرب اليد البيضاء ومدحه بها بعض الشعراء الحلبين بقصيدة يقول فيها.
إن كان آل فرنج أدركوا فلجا ... في يوم يغرا، ونالوا منية الظفر
ففي الخطيم خطمت الكفر منصلتا ... أبا المظفر بالصمصامة الذكر
نالوا بيغرا نهابا، وانْتَهبْت لنا ... على الخطيم نفوس المعشر الأشر
واستقودوا الخيل عرياً واستَقَدْتَ لنا ... قوامص الكفر في ذل وفى صغر
قال: وحصل لأسد الدين من هذه الكسرة سلاح كثير، وعدة أسارى وخيول كثيرة، فأنفذ لأخيه نجم الدين منها شيئا. وفي هذه السنة عظم أمر أسد الدين.
وقال ابن الأثير: سار نور الدين إلى حصن حارم، وهو للفرنج، فحصره وخرب ربضه، ونهب سواده؛ ثم رحل عنه إلى حصن إنب فحصره. فاجتمعت الفرنج مع البرنس صاحب أنطاكية وساروا إليه ليُرَحِّلُوه عن إنب فلم يرحل، بل لقيهم وتصاف الفريقان، واقتتلوا، وصبروا. وظهر من نور الدين من الشجاعة والصبر في الحرب على حداثة سنه ما تعجب منه الناس. وانجلت الحرب عن هزيمة الفرنج؛ وقتل المسلمون منهم خلقاً كثيراً؛ وفيمن قتل البرنس صاحب أنطاكية، وكان عاتياً من عتاة الفرنج، وذوى التقدم فيهم والماًل. ولما قتل البرنس خلف ابنا صغيرا، وهو بيمند، فبقى مع أمه بأنطاكية؛ فتزوجت أمه ببرنس آخر وأقام معها بأنطاكية يدبر الجيش و يقودهم و يقاتل بهم إلى أن يكبر بيمند. ثم إن نور الدين غزا بلد الفرنج غزوة أخرى وهزمهم وقتل فيهم وأسر، وكان في الأسرى البرنس الثاني زوج أم بيمند. فلما أسره تملك بيمند أنطاكية بلد أبيه وتمكن منه، وبقى بها إلى أن أسره نور الدين بحارم، سنة تسع وخمسين وخمسمائة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

وأكثر الشعراء مدح نور الدين وتهنئته بهذا الفتح وقتل البرنس، وممن قال فيه القيسراني الشاعر من قصيدة أنشده إياها يجسر الحديد، الفاصل ببن عمل حلب وعمل أنطاكية، أولها:
هذى العزائم، لا ما تدعى القضب ... وذى المكارم، لا ما قالت الكتب
وهذه الهمم اللاّتي متى خَطبت ... تعثرت خلفها الأشعار والخطب
صافحت ياَبْن عماد الدين ذروتها ... براحة، للمساعي دونها تعب
ما زال جدك يبق كل شاهقة ... حتى ابتنى قبة أوتادها الشهب
لله عزمك ما أمضى، وهمك ما ... أقضى اتساعا بما ضاقت به الحِقَب
ياساهد الطرف والأجفان هاجعة ... وثابت القلب والأحشاًء تضطرب
أغرت سيوفك بالإفرنج راجفة ... فؤاد رومية الكبرى لها يجب
ضربت كبشهم منها بقاصمة ... أودى بها الصلب وانحطت بها الصلب
قل للطغاة وإن صمت مسامعها ... قولاً لصُم القنا في ذكره أرب
ما يوم إنّب، والأيام دائلة ... من يوم يغرا بعيدٌ، لاَ ولاَ كثب
أغركم خدعة الآمال ظنكم ... كم اسلم الجهل ظنا غرّهُ السكذب
غضبت للدين حتى لم يفتك رضى ... وكان دين الهدى مرضاته الغضب
طّهرت أرض الأعادي من دمائهم ... طهارة كل سيف عندها جنب
حتى استطار شرار الزند قادحُه ... فالحرب تضرم والآجال تحتطب
والخيل من تحت قتلاها تقر لها ... قوائم خانهن الركض والخبب
والنقع فوق صقال البيض منعقد ... كما استفل دخان تحته لهب
والسيف هام على هاًم بمعركة ... لا البيض ذو ذمّةٍ فيها ولا اليَلَب
والنبل كالوبل هطال، وليس له ... سوى القسي وأيدٍ فوقها سحب
وللظبا ظفر حلوٌ مذاقته ... كأنما الضرب فيما بينهم ضَرَب
وللأسنة عما في صدورهم ... مصادر، أقلوب تلك أم قُلُب
خانوا فخانت رماح الطعن أيديهم ... فاستسلموا وهي لا نبع ولا غرب
كذلك من لم يوق الله مهجته ... لاقى العدا والقنا في كفه قصب
كانت سيوفهم أوحى حتوفهم ... يا رب حاثنة منجاتها العطب
حتى الطواراق كانت من طوارقهم ... ثارت عليهم بها من تحتها النوب
أجسادهم في ثياب من دمائهم مسلوبة، وكأن القوم ما سُلبوا
أنباء ملحمةٍ لو أنها ذكرت ... فيما مضى نسيت أيامها العرب
من كان يغزو بلاد الشرك مكتسبا ... من الملوك فنور الدين محتسب
ذو غرة، ما سمت والليل معتكر ... إلا تَمَزَّقَ عن شمس الضحى الحجب
أفعاله كاسمه في كل حادثة ... ووجهه نائب عن وصفه الّلقب
في كل يوم لفكرى من وقائعه ... شغل، فكل مديحى في مقتضب
من باتت الأسد أسرى في سلاسله ... هل يأسر الغُلْبَ إلاَّ من له الغَلَب
فملكوا سلب الإبرنز قاتله ... وهل له غير أنطاكية سلب
من للشقي بما لاقت فوارسه ... وإن بسائرها من تحته قتب
عجبت للصَّعْدة السمراء مثمرة ... برأسه إن أثمار القنا عجب
سما عليها سو الماء أرهقهُ ... أنبوبُهُ في صَعُود أصلها صَبب
ما فارقت عذبات التاج مفرقه ... إلاّ وهامتهُ تاج ولا عذب
إذا القناة ابتغت في رأسه نفقا ... بدا لثعلبها من نحره سَرَب
كنا نَعُد حمى أطرافنا ... ظفراً فملكتك الظبا ماليس نحتسب
عمت فتوحك بالعدوى معاقلها ... كان تسليم هذا عند ذا جرب
لم يبق منهم سوى بيض بلا رمق ... كما التوَى بعد رأس الحية الذنب
فانهض إلى المسجد الأقصى بذى لجب ... يوليك أقصى المنى، فالقدس مرتقب

وائذن لموجك في تطهير سلحه ... فإنما أنت بحر لُجُّه لجب
يامَن أعاد ثغور الشام ضاحكة ... من الظبا عن ثغور زانها الشنب
ما زلت تلحق عاصيها بطائعها. حتى أقمت وأنطاكية حلب
حلت من عقلها أيدي معاقلها ... فاستحلفت وإلى ميثاقك الهرب
وأيقنت أنها تتلو مراكزها ... وكيف يثبت بيت ماله طُنُب
أجريت من ثغر الأعناق أنفسها ... جرى الجفون امتراها بارح حصب
وما ركزت القنا إلا ومنك على ... جسر الحديد هزبرٌ غيله أشب
فاسعد بما نلته من كل صالحة ... يأوى إلى جنة المأوى لها حسب
إلا تكن أحد الأبدال في فلك الت ... قوى فلا نمارى أنك القطب
فلو تناسب أفلاك السماء بها ... لكن بينكما من عفة نسب
هذا، وهل كان في الإسلام مكرمة ... إلا شهدت وعّبادُ الهوى غُيُب
وله فيه من قصيدة أخرى:
ألا لله درك، أي در ... صريح جاء بالكرم الصريح
وعسكرك الذي استولى مسيحا ... على ما بين فامية، وسيح
ووقعتك التي بنت العوالي ... صوادر عن قتيل أو جريح
بإنب يوم أبرزت المذاكى ... من النقع الغزالة في مسوح
غداة كأنما العاصى احمرارا ... من الدم عبرة الجفن الفريح
وقد وافاك بالإبرنزا حتف ... أتيح له من القدر المتيح
قتلت أشحهم بالنفس، إذلا ... يجود بفسه غير الشحيح
ملأت بهم ضرائحهم، فأمسوا ... وليس سوى القشاعم من ضريح
وعدت إلى ذرا حلب حميدا ... سمو البدر من بعد الجنوح
فإن حَلِيَتْ بغرتك الليالي ... فكم لِسَنَاك من زمن مليح
رويدك تسكن الهيجا فواقا ... بحيث تريح من تعب المريح
فأنت وإن أرحت الخيل وقتا ... فهمُّك غيرُهَمّ المسترتح
وقال أحمد بن منير يمدحه ويذكر ظفره بالبرنس وأصحابه وحمل رأسه إلى حلب، وأنشده إياها أيضا بجسر الحديد:
أقوى الضّلالُ وأقفرت عرصاته ... وعلا الهدى وتبلجت قسماته
وانتاش دين محمد محموده ... من بعد ما عُلت دما عبراته.
ردت على الإسلام عصر شبابه ... وثباثه من دونه وثباته
أرسى قواعده، ومدعماده ... صُعُداً، وشيد سوره سوراته
وأعاد وجه الحق أبيض ناصعا ... إصْلاَته، وصِلاَتُه، وصَلاَتُه.
لما تواكل حزبه، وتخاذلت ... أنصاره، وتقاصرت خطواته
رفعت لنور الدين نار عزيمة ... رجعت لها عن طبعها ظلماته
ملك مجالس لهوه شداته ... ومُشُوقُهُ بين الصفوف شذاته
يغرى بحثحثة اليراع بنانه ... إن لذ حثحثة الكئوس لداته
ويروقُه ثغر العداء فاني دما ... لا الثغر يعبق في لما لثاته
فصبوحه خمر الطلى، وغبوقه ... نطف النفوس تديرها نشواته
فتح تعّمعت السماء بفخره ... وهفت على أغصانها عذباته
سبغت على الإسلام بيض حجوله ... واختال في أوضاحها جبهاته
وانهل فوق الأبطحين غمامُهُ ... وسرت إلى سكينها نفحاته
لله لمجة ليلة محصت به ... واليوم دبج وشيه ساعاته
حط القوامص فيه بعد قماصها ... ضرب يصلصل في الطلي صعقاته
نبذوا السلاح لضيغم، عاداته ... فرس الفوارس، والقنا غاباته
لمجرب عمريه غضباته ... لله، معتصمية غزواته
نحيا لضيق صفاده اسراؤه ... وتغيض ماء شؤونها نقماته
بين الجبال خواضعا أعناقها ... كالذود نابت عن براه حداته

نشرت على حلب عقود بنودهم ... حلل الربيع تناسقت زهراته
روض جناه لها مكر جياده ... واستوأرت حّمالهُ حملاته
متساندين على الرحال، كما انتشى ... شرْب أمالت هامه قهواته
لم تُنبت الآجام قبل رماحه ... شجراً أصولُ فروعه ثمراته
فليحمد الإسلام ماجدحت له ... شربات غرس هذه مجناته
وسقى صدى ذاك الحياصوب الحيا ... خير الثرى ما كنت أنت نباته
نصب السرير ومال عنه، ومهدت ... لمقر منصبك السري سرايته
ما ضر هذا البدر وهو محلق ... أن الكواكب في الذرا ضراته
في كل يوم تستطيل قناته فوق السماء، وتعتلى درجاته
وتظل ترقم في الضحى آثاره ... مجدا وألسنة الزمان رواته
أين الأولى ملأوا الطروس زخارفا ... عن نزف بحر هذه قطراته
غدقوا بأعناق العواطل ماله ... من جوهر فأتتهم في ذاته
لو فصلوا سمطا ببعض فتوحه ... سخرت بما افتعلوا لهم فعلاته
يُمسى قنانيه بنات قيونه ... فوق القوانس والقنا قيناته
صلتان من دون الملوك تقرها ... حركاته وتنيمها يقظاته
قعدت بهم عن خطوه هماتهم وسمت به عن قطوهم هماته
سكنوا مسجّفة الحجال، وأسكنت ... زحل الرحال مع السها عزماته
لو لاح للطائي غرة فتحه ... بآءت بحمل تأوه باءاته
أوهب للطبري طيب نسيمه ... لا حتش من تاريخه حشواته
صدم الصليب على صلابة عوده ... فتفرقت أيدي سباخَشَباتُه
وسقى البرنس، وقد تبرنس ذلة ... بالروح ممقرما جنت غدراته
فانقاد في خطم المنية أنفه ... يوم الخطيم، وأقصرت نزواته
ومضى يؤنب تحت إنب همة ... أمست زوافرغيها زفراته
أسد تبوا كالغرنف فجأته ... فتبوأت طرف السنان شواته
دون النجوم مغمضا، ولطالما ... أغضت وقد كرّت لها لحظاته
فجلوته تبكي الأصادق تحته ... بدم إذا طحكت له شُمّاته
تمشي القناة برأسه، وهو الذى ... نظمت مدار النيرين قناته
لوعانق العيوق يوم رفعته ... لأراك شاهد خفضه إخباته
ما انقاد قبلك أنفه بخزامه ... كلا، ولا همت لها هدراته
طّيان خف السرح طال زئيره ... نطقت سُطاك له فطال صُماته
لما بدا مسود رايك، فوقه ... مبيض نصرك، نكست راياته
ورأى سيوفك كالصوالج طاوحت ... مثل الكرين تقلصت كراته
ولى وقد شربت ظباك كماته ... تحت العجاج وأسلمته حماته
ترك الكنائس والكناس لناهب ... بالبيض ينهب ماحواه عفاته
غلاب، أروع، لا يُميت عِدَاته ... داء المطال، ولا تعيش عُداتُه
للوحش ملقى بالعرا يقتاته ... ما كان قبل بصيده يقتاته
اليوم ملّكك القراع قلاعه ... متسنّما ما استشرفت شرفاته
وغدا تحل لك الحلائل أسهم ... متوزغات بينهن بناته
أوطأت أطراف السّنابك هامه ... فتقاذفت بعيقها قذفاته
لا زال هذا الملك يشمخ شأنه ... أبدا، ويكفت في الحضيض شناته
ما أخطأتك يد الزمان فدونه ... من شاء فلتسرع إليه هناته
أنت الذي تحلى الحياة حياتُه ... وتهب أرواح القصيد هباته
فصل

قال ابن الأثير: وفيها سار نور الدين إلى حصن أفامية،. وهو للفرنج أيضاً، وبينه وبين حماة مرحلة؛ وهو حصن منيع على تل مرتفع عال من أحصن القلاع وأمنعها. وكان من به من الفرنج يغيرون على أعمال حماة وشيرر وينهبونها، فأهل تلك الأعمال معهم تحت الذل والصغار. فسار نور الدين إليه وحصره وضيق عليه، ومنع من به القرار ليلا ونهارا، وتابع عليهم القتال لينعوا الاستراحة. فاجتمعت الفرنج من سائر بلادها وساروا نحوه ليزحزحوه عنها، فلم يصلوا إليه إلا وقد ملك الحصن وملأه ذخائر، من طعام ومال، وسلاح ورجال، وجميع ما يحتاج إليه. فلما بلغه قرب الفرنج سار نحوهم؛ فحين رأوا جده في لقائهم رجعوا واجتعوا ببلادهم، وكان قصاراهم أن صالحو. على ما أخذ ومدحه الشعراء وأكثروا؛ منهم أبو الحسين أحمد بن منير. قال:
أسنى ما الممالك ما أطلت منارها ... وجعلت مرهفة الشفاردسارها
وأحق من ملك البلاد وأهلها ... رَؤُفٌ تكّنف عدلُه أقطارها
من عام سام الخافقين وحامها ... مننا، وزاد هوًى فخصّ نزارها
مضرية طبعت مضاربه، وإن ... عدته ذروة فارس أسوارها
آل الرعية وهي تجهل آلها ... وتعاف نطفتها وتكره دارها
فأقرّ ضجعتها وأنبت نيها ... وأساغ جزْعتها وأثبت زارها
ملك أبوه سما لها، فسما، بها ... وأجارها، فعلت سُهيلا جارها
نهج السبيل له فأوضع خلفه ... وشدا له يمن العلا فأنارها
أنشرْت يامحمود ملة أحمد ... من بعد ما شمل البلى أبشارها
إن جانأت عدل السنان قوامها ... أو نأنأت كان الحسام جبارها
عقلت مع العصم العواصم مذغدت ... هذي العزائم أسرها وإسارها
وتكفلت لك ضُمر أنضيتها ... في صونها أن تسترد ضمارها
كلأت هواملها ورد مطارها ... ما أريشته، وثقفت آطارها
كم حاولت من كفتيها غرة ... غلب الأسود فقلمت اظفارها
أني، وحامى سرحها من لم سمت ... للفلك بَسْطته أحال مدارها
في كل يوم من فتوحك سورة ... للدّين يحمل سفره أسفارها
ومطيلة قصر المنابر إن غدا ال ... خطباء تنثر فوقها تقصارها
هم تحجّلت الملوك وراءها ... بدم العثار، وما اقتفت آثارها
وعزائم تستوئر الآساد عن ... نهش الفراش إن أحس أوارها
أبدا تقر طول مشرفة الذرا ... بالمشرفية، أو تطيل قصارها
فغرت أفاميةٌ فما فهتمته ... كبوار أجناها الأران بوارها
أرهقت رائك فوق رائك تحتها ... فحططت من شعفاتها أعَفارها
أدركت ثأرك في البغاة، وكنت يا ... مختار أمة احمد مختارها
عارية الزمن المغير، سمالها ... منك المعير فاسترد معارها
زأر الهزبر فقيدت عاناتها ... عصر الضلال وأسلمت أعيارها
ضاءت نجومك فوقها، ولربما ... باتت تنافثها النجوم سرارها
أمست مع الشعرى العبور وأصبحت ... شعراء تستفلى الفحول شوارها
ولكم قرعت بمقرباتك مثلها ... تلعا، وقلدت الكماة عذارها
حتى إذا اشتملتك أشرق سورها ... عزا، وحلاها سناك سوارها
خر الصليب وقد علت نغماتها ... واستوبلت صلواته تكرارها
لما وعاها سمع أنطاكية ... سرت الوقار وكشفت استارها
فاليوم اضحت تستذم مجيرها ... من جوره، وغدت تذم جوارها
علمت بأن ستذوق جرعة أختها ... إن زز أطواق القباء وزارها
ماض، إذا قرع الركاب لبلدة ... ألقت له قبل القراع إزارها
وإذا مَجَانقه ركعن لصعبة ال ... ملقاة أسجد كالجدير جدارها

ملأ البلاد مواهبا ومهابة ... حتى استرقت آيُهُ أحرارها
يذكى العيون إذا أقام لعونها أبداً، ويفضى بالظّبا أبكارها
أوما إلى رمم الندى فأعاشها ... وهى لسابقة المنى فأزارها
نبوىّ تشبيه الفتوح، كانما ... أنصاره رجعت له أنصارها
أحبا لصرح سلامها سلمانها ... وأمات تحت عمارها عمارها
إن سار سار وقد قدم جيشه ... رجفٌ يقصع في اللها دعارها
أوحل حل حبا القروم بهيبة ... سَلَب البدور بدارها أبدارها
وإذا الملوك تنافسوا درج العلا ... أربى بنفس أفرعته خيارها
ونُهّى إذاهيضت تدل بخيرها ... وسُطى تُذل إذا عنت جبارها
تهدى لمحمود السجايا كاسكه ... لو لز فاعلة بها لأبارها
الفاعل الفعلات ينظم في الدجى ... بين النجوم حسودها أسمارها
ساع سعى والسابقات وراءه ... عنقا، فعصفر منتماه عثارها
كالمضرجي إذا يُصَرْصِر آيبياً ... خرس البغاث وهاجرت أوكارها
عرفت لنور الدين نور وقائع ... يُغشى إذا اكتحلت به أبصارها
مشهورة سعطت وقد حاولتها الْ ... أقدار عجزاً أن تشق غبارها
لله وجهك والوجوه كأنما ... حطت بها أوقار هِيت وقارها
واليض تخنس في الصدور صدورها ... هبرا، وتكتحل الشفور شفارها
والخيل تدلج تحت أرشية القنا ... جذب المواتح غاورت آبارها
فبفيت تستجلى الفتوح عرائسا ... متمليا صدر العلا وصدارها
في دولة للنصر فوق لوائها ... زبر تنمق في الطلى أسطوارها
فالدين موماة رفعت بها الصوى ... وحديقة ضمنت يداك إيارها
وله فيه من قصيدة أخرى:
خنس الثعالب حين زمجر مصحر ... ملأ البلاد هماهماً وزئيرا
تركوا مشجارة الرماح لحاذق ... جعلت محافته القصور قبور
لريب حرب، لم تزل فعلاته ... كالراء يلزم لفظها التكريرا
أسد إذا ما عاد من ظفر بمف ... ترس أحدَّ لمثله أظفورا
يتناذر الأعداد منه سطوة ... ملء الزمان تغيظاً ورفيراً
عرفوا لنور الدين وقع وقائع ... وفي بها الإسلام أمس نذورا
أبدا يظافرك القضاء على الذي ... تبغى، فترجع ظافرا منصورا
قوّضت، فانتقع الظهائر ظلمة ... وقفلت، فاشتغل الدياجر نورا
وعلى العواصم من دفاعاك عاصم ... ينشى الرشيد وينشر المنصور
فصل في وفاة معين الدين أثر بدمشق وما كان الرئيس ابن الصوفي في هذه السنة
قال أبو يعلى التميمي: فصَل معين لدين من عسكره بحَوْرَان ووصل إلى دمشق في أواخر ربيع الآخر، لأمر أوجب ذلك ودعا إليه، وأمعن في الاكل، فلحقه عقيب ذلك انطلاق تمادى به؛ وحمله اجتهاد فيما يدبره على العود إلى عسكره بناحية حوران وهو على هذه الصفة من الانطلاق، وقد زاد به وضعفت قوته، وتولد معه مرض في الكبد. فأوجب الحال إلى دمشق في محفة لمداواته؛ فوصل وقضى نحبه في لية الثالث والعشرين من ربيع الآخر، ودفن في إيوان الدار الأتابكية التى كان يسكنها، ثم نقل بعد ذلك المدرسة التى عمرها.
قلت: قبره في قبة بمقابر العونية شمالي دار البطيخ الآن، واسمه مكتوب على بابها، فلعله نقل من ثم إليها.
وفيهه يقول الأميرمؤيد الدولة أسامة بن منقذ، وكتب بها إليه من مصر لمّا لقى الفرنج في أرض بصرى وصرخد مع نور الدين، وقد تقدم ذلك كتب إليه قصيدة يقول فيها:
كل يوم فتح مبين ونصر ... واعتلاء على الأعادي وقهر
صدق النعت فيك، أنت معين الد ... ين، إن النعوت قال وزجر
أنت سيف الإسلام حقا، فلا كَل ... غراريك ايها السّيفُ دهر
لم تَزل تُضمر الجهاد مُسِرَّا ... ثم أعلنت حين أمكن جهر

كل ذخر الملوك يَفْنَى، وذخرا ... ك هما الباقيان: أجرٌ وشكر
قال: وفي يوم الجمعة تاسع رجب قرئ المنشور المنشأ عن مجيرالدبن بعد الصلاة على المنبر بإبطال الفسة المستخرجة من الرعية، وإزالة حكمها وتعفية رسمها، وإبطال دار الضرب؛ فكثر دعاء الناس له وشكرهم.
قال: واستوحش الرئيس مؤيد الدلولة من مجير الدين استيحاشاً أوجب جمع من أمكنه من سفهاء الأحداث والغوغاء، وحَمَلة السلاح من الجهلة والعوام، وترتيبهم حول داره ودار أخيه زين الدولة حيدرة، للاحتماء بهم من مكروه يتم عليهما؛ وذلك في ثالث عشر رجب. ووقعت المراسلات من مجير الدين بما في يُسَكنها ويطيب أنفسهما، فما وثقا بذلك، وجدا في الجمع والاحتشاد من العوام وبعض الأجناد، وأثارا الفتفة فقصدوا باب السجن وكسروا أغلاقه وإطلقوا من فيه. واسنفرُوا جماعة من أهل الشاغور وغيرهم، وقصدوا الباب الشرقي وفعلوا مثل ذلك، وحصلوا في جميع كثير، وامتلأت بهم الأزقة والدروب. فحين عرف مجير الدين وأصحابه هذه الصورة اجتمعوا في القلعة بالسلاح الشاكي، وأخرج ما في خزانته من السلاح والعدد، وفُرِّقت على العسكرية، وعزموا على الزحف على جميع الأوباش، والإيقاع بهم، والنكاية فهيم. فسأل جماعة من المقدمين التمهل في هذا الأمر وترك العجلة، بحيت تحقن الدماء ويسلم. البلد من النهب والحريق؛ وألحوا عليه إلى أن أجلب سؤالهم.
ووقعت المراسلة والتلطف في إصلاح ذات البين. فاشترط الرئيس وأخره شروطا أجيبا إلى بعضها وأعرض عن بعض، بحيث يكون ملازما لداره، ويكون ولده و ولد أخيه في الخدمة في الديوان، ولا يركب إلى القلعة إلا مُسدعى إليها؛ وتقررت الحال على ذلك، سكنت الدهماء. ثم حدث بعد هذا التقرير عود الحال إلى ما كانت عليه من العناد وإثارة الفساد، وجمع الجمع الكثير من الأجناد والمقدمين والرعاع والفلاحين، واتفقوا على الزحف إلى القلعة وحصر من بها، وطلب من عين من الأعداء الأعيان، في أواخر رجب ونشبت الحرب بين الفريقين، وجرح وقتل بينهم نفر يسير، وعاد كل فريق منهم إلى مكانه. ووافق ذلك هروب السلار زين الدين إسماعيل الشحنة واخيه إلى ناحية بعلبك ولم تزل الفتننة ثائرة والمحاربة متصلة، إلى أن اقتضت الصورة إبعاد كل من التمس إبعاده من خواص مجير الدين، وسكنت الفتنة وأطلقت أيدى النهاية في دار السلاربن وأصحابهما، وعمها النهب والخراب ودعت الضرورة إلى تطييب نفس الرئيس وأخيه والخلع عليهما، و إعادة الرئيس إلى الو زارة والرئاسة، بحيث لا يكون له في ذلك معترض ولا مشارك.
قلت: وفى هذه الفتنة يقول العرقلة:
ذر الأتراك والعربا ... وكُنْ في حزب من غلبا
بجلق أصبحت فتنٌ ... تجر الويل والحربا
لئن تمت فوا أسفا ... ولم تخرب فواعجبا
وقال في الرئيس لما زحف إلى القلعة:
زد علوا في المجد يابن علي ... هكذا من أراد أن يتعالى
قد حوى الدين، يا مؤيّدهُ، مِنْ ... كَ، هزبرا، وديمة، وهلالا
وغدت جلق تناديك عجبا ... هكذا هكذا، وإلا فلا. لا
جثتَها في الظلام خيْلا وَرَجْلا ... وحميت النفوس والأموالا
لن تبالى من بعدها بعدوّ ... إنما ذاك كان قطعاً فزالا
قد بلغت المراد من كل ضد ... وَكَفَى الله الْمُؤمِنِينَ الْقِتَاَلا
قال أبو يعلى التميمي: وفيها ورد الخبر من ناحية مصر بوفاة المستخلف بها الملقب بالحافظ، واسمه عبد المجيد بن الآمر بن المستنصر، في خامس جمادى الآخرة. وولى الأمر بعده والده الأصغر أبو منصور إسماعيل، ولقب بالظافر، وولى الوزارة له أمير الجيوش أبو الفتح ابن مصال المغربي.
فصل في وفاة سيف الدين غازي بن زنكي صاحب الموصل وهو أخو نور الذين الأكبر

قال ابن الأثير: كان أتابك الشهيد، يعني زنكي، ملك دارا وبقيت بيده إلى أن قتل، فأخذها صاحب ماردين، ثم سار إليها سيف الدين ابن الشيهد، في سنة أربع وأربعين، فحاصرها وملكها، واستولى على كثير من بلاد ماردين بسببها، ثم حصر ماردين عازما على أن يدخل ديار بكر ويستبعد ما اخذ من البلاد بعد قتل والده. فتفرق العسكر في بلادها ينهبون ويخربون. فقال صاحب ماردين: كنا نشكو من أتابك وأين أيامه. فلقد كانت أعياداً!! قد حَصَرَنا غير مرة فلم يتعد هو وعسكره حاصل السلطان، ولا أخذوا كفا من التبن بغير ثمن:
رُب دهرٍ بكيت منهُ، فلما ... صِرْتُ في غيرِه بكيت عليه
ثم إنه راسل سيف الدين وصالحه على ما أراد وزوجه ابنته الخاتون، ورحل سيف اللإين عن ماردين وعاد إلى الموصل؛ وجُهِّزت الخاتون وسُيرت إليه، فوصلت إلى الموصل وهو مريض، فتوفى ولم يدخل بها؛ وذلك في أواخر جمادى الآخرة، وكان عمره نحو أربعين سنة؛ وكان من أحسن الناس صورة. ودفن بالمدرسة التي أنشأها بباطن الموصل وخلف ولدا ذكراً، أخذه نور الدين محمود عمه فرباه فأحسن تربيته، وزوجه ابنة عمه قطب الدين مودود، فلم تطل ايامه، وأدركه أجله في عنفوان شبابه، فتوفي، وانقرض عقب سيف الدين.
وكان كريها شجاعا ذا عزم وحَزم؛ وهو أؤل من حمل على رأسه سنجق من أصحلب الأطراف، فإنه لم يكن فيهم من يفعله لأجل السلاطين السلجوقية. وهو أؤل من أمر عسكره ألا يركب أحدهم إلا والسيف في وسطه، فلما أمر هو بذلك اقتدى به غيره من أصحاب الأطراف. و بنى بالموصل المدرسة الأتابكية العتيقة، وهي من أح - ن المدارس وأوسعها، وجعلها وقفاً على الفقهاء الشافعية والحنفية نصفين. و بنى رباط الصوفية، وهو الر باط المجاور لباب المشرعة، ووقف علبهها الوقوف الكثيرة، وكان كريما. قصده شهاب الدين حيص بيص، وامتدحه بقصيدته المشهورة، وهي من جيد شعر، فأجازه عنها ألف دينار أميري سوى الإقامة والتعّهد مدَّة مُقَامه، وسوى الخلع والثياب.
قلت أول تلك القصيدة:
إلاَمَ يراك المجد في زي شاعر
و يقول في آخرها:
أتابك، إن سُميت في المهد غازيا ... فسابقة معدودة في البشائر
وَفَيتَ بها والدين قد مال رَوْفُه ... وصدقتها والكفر بادى الشعائر
وعز ى أبو الحسن أحمدُ بن منير نور الدين بأخيه بقصيدة تقدم بعضها، أولها:
هو الجذ بز التمام البدورا
يقول فيها:
شوى كل ماجنت الحادثا ... ت ما كنت ظلا علينا قريرا
أسان وأحسن صن الهلال وملأننا منك بدرا منيرا
إذأ ثبح البحر أخطأنه ... فلا غرْو أن ينتشفن الغديرا
وأصُغِر بفقداننا الذاهبين ... ماعشت نأتيك مَلكا كبيرا
وما أغمد الدّهر ذاك الحسا ... م ماسل حدَّاك عضْبا بتورا
قسيمُ عُلاك، ونعم القسيم ... أخٌ شاف نزراً وأعطى كثيرا
وكان نظيرك،غار الزما ... ن من أن يرى لك فيه نظيرا
فدتك نفوسٌ بك استوطنت ... من الأمن نوراً، وقد كُنً بُورا
بقيت مُعزًّا من الهالكين ... تُوقّى الرّدى وتوفي الأجورا
وغيرك يمهد بسسط العزاء ... ويولى المُسَلّين سمعاً وقورا
وما نقص الدّهرُ أعدادكم ... إذا شف قطراً وأبقى بُحُورا
ولو أنصف المجد موتاكم ... لَخَطّ لهم في السماء القُبُورا
حياتُك أحيت رميم الرّجاء ... وأمْطَت من الجود ظهراً ظهيرا
وللقيسراني قصيدة منها:
ما أطرق الجو حتى اشرق الأفق ... إن أغمد السيف فالصَّمصام يأتلق
دون الأسى منك، نور الدين، في حلب ... مُلّكٌ ينجلى عن وجهه الغسق
كُنْتَ الشقيق الشفيق الغيب، حين ثوى ... أراق ماء الكرى من جفنك الأرق
تلقى الأسى من لباس الصبْر في جُنن ... حصينة، تحتها الأحشاء تحترق
ومدّةُ الأجل المحتوم إن خفيت ... فإن أيامنا من دونها طُرُق
وإنما نحن في مضمار حلبتها ... خيل إلى غاية الأعمار تسْتبِق

شأو إذا ابتدر الأقوام غايته ... كان المؤخر فيها من له السبق
إن كان صنوك هذا قد ثوى فذوى ... ففي مغارسك الأثمار والورق
أو أصبحت بعده الأهواء نافرة أيدى ... سبا، فعلى علياك تّتفق
ما غاب من غاب عن آفاق مطلعه ... إلاَّ لِيْفترَّ عن أنوارك الأفق
ما دام شمسك فينا غير آفلةٍ ... فالدين منتظم والملك مُتَّسق
فصلقال ابن الأثير: ولما توفى سيف الدين غازي كان أخوه قطب الدين مودود بالموصل؛ فاتفقت كلمة جمال الدين وزين الدين على توليته وتمليكه طلباً للسلامة منه، فإنه كان لين الجانب، حسن الأخلاق، كثير الحلم، كريم الطباع. فأحضروه من داره وحلفوه لهم وحلفوا له، ونزل بدار المملكة، وحلف له الأمراء والأجناًد، واستقر في الملك وأطاعه جميع ما كان لأخيه سيف الدين، لأن المرجع كان في جميع المملكة إلى جمل الدين وزين الدين. ولما ملك واستقر في الملك تزوج امرأة أخيه، التي مات ولم يدخل بها، الخاتون ابنة. حسام الدين تمرتاش صاحب ماردين فولدت لقطب الدين أولاده الذين ملكوا الموصل بعده، على ماسنذكره، ولم يملكها من، أولاد قطب الدين أحد غير أولادها.
قال: وكانت هذه الخاتون يحل لهاً ان تضع خمارها عند خمسة عشر ملكا من آبائها، وأجدادها، وإخوتها، وبني إخوتها، وأزواجها، وأولادها، وأولاد أولادها. ثم ذكرهم ابن الأثير في كتابه وسماهم، وذكر أنها أشبهت في ذلك فاطمة بنت عبد الملك ابن مروان، زوج عمر بن عبد العزبز، رضي الله عنه؛ كان لها أن تضع خهارها عند ثلاثة عشر خليفة، وهم: من معاوية رضي الله عنه إلى آخر خلفاء بني أمية، سوى آخرهم، وهو مروان بن محمد، فإنه ابن عم لها ليس بمحرم، والباقون محارم لها. وما تم له ذلك إلا بعد ذكره أن أمها عاتكة بنت يزيد بن معاو ية؛ فمعاوية جدّها لأمها، ومعاوية بن يزيد خالها، ومروان جدها لأبيها، وعبد الملك أبوها، والويد وسليمان وهشام و يزيد إخوتها، وعمر بن عبد العزيز زوجها، والوليد بن يزيد ويزيد بن الوليد وإبراهيم بن الوليد أولاد أخويها، وهؤلاء كلهم خلفاء وعدتهم ثلاثة عشر. قلت: وهذا كله مبني على أصل فيه خلل، وهو أن فاطمة بنت عبد الملك ليست أمها عاتكة بنت يزيد بن معاوية، بل أمها امرأة مخزوميّة، على ما بيناه في ترجمتها في تاريخ دمشق. ولكن الصواب في ذلك أن يقال: كان لفاطمة إن تضع خمارها عند عشرة من الخلفاء، وهم: مروان بن الحكم ونسله، سوى مروان بن محمد؛ وأما عاتكة فالجيمع محرم لها سوى عمر بن عبد العزيز ومروان ابن محمد، بقى ثنا عشر خليفة كلهم محارم لها: معاوية جدها، ويزيد أبوها، ومعاوية بن يزيد أخوها، ومروان حموها، وعبد الملك زوجها، والوليد وسليمان وهشام أولاد زوجها، ويزيد بن عبد الملك ابنها، والوليد بن يزيد ابن ابنها، ويزيد بن الوليد وأبرابيم بن الوليد انبا ابن زوجها. ولو أضيف إلى ذلك الملوك من محارم عاتكة أو فاطمة كالإخوة والأعمام والأخوال وبني الإخوة، لتضاعف العدد، كخالد بن يزيد بن معاوية أخى عاتكة، وعبد العزيز بن مروان عم فاطمة، ومسلمة وعبد الله ابنى عبد الملك، وغيرهم. وذلك ظاهر لمن عرف أنساب بني أمية. وما ذكره ابن الأثير من أمر بنت حسام الدين، فسِتُّ الشام بنت أيوب أكثر منها محارم من الملوك، يجتمع لها من ذلك اكثر من ثلاثين ملكا. من إخوتها الأربعة: المعظم، وصلاح الدين، والعادل، وسيف الإسلام، ومن أولادهم وأولاد أولادهم، وأولاد أخيها الأكبر شاهنشاه بن أبوب تقي الدين، وذريته أصحاب حماة، وفرخشاه.
فصل

قال ابن الأثير: ولما ملك قطب الدين الموصل والبلاد الجزرية كان أخوه نور الدين بحلب، وهو أكبر من قطب الدين، فكاتبه بعض الأمراء وطلبوه إليهم؛ منهم المقدم والد شمس الدين ابن المقدم، وهو حينئذ دزدار سنجار. فسار نور الدين جريدة في سبعين فارسا من أكابر دولته، منهم أسد الدين شيركوه، ومجد الدين أبو بكر ابن الداية، وغيرهما. فوصلوا إلى ماكِسِين في ستة أنفس في يوم شديد المطر وعليهم اللبابيد، فلم يعرفهم الذين بالباب، وأرسلوا إلى الشحنة وأخبروه بوصول نفر من الأجناد وكأنهم تركمان؛ فلم يستتم القاصد كلامه حتى وصل نور الدين. فحين رآه الشحنة قبّل يده وخرج عن الدار، فنزلها نور الدين حتى لحق به أصحابه. وسار مجد الدين إلى سنجار فوصلها وليس معه إلا نفر يسير، فنزل بظاهر البلد وألقى نفسه على محفورة صغيرة من شدّة تَعبه، وأرسل إلى المقدم بالقلعة يعرفه وصوله، وكان المقدم قد استُدعى من الموصل لأن خبره مع نور الدين بلغ من بها، فأرسلوا إليه فتوقف عدة أيام، فلم يصل نورالدين، فسار إلى الموصل وترك ابنه شمس الدين بسنجار، وقال له: أنا أتأخر في الطريق، فإن وصل نور الدين فأرسل من يعلمني، فلما فارق سنجار وصل نور الدين، فلما علم شمس الدين بوصوله أرسل قاصدا إلى أبيه بالخبر وأنهى الحال إلى نور الدين، فحاف فوات الأمر. ورصل القاصد الذي سيره ابن المقدم إلى أبيه فأدركه بتل يعفر، فعاد إلى سنجار وسلمها إلى نور الدين، وكاتب فخر الدين قرا أرسلان بن داود صاحب الحصن يستنجده، وبذل له قلعة الهيثم، فسار إليه بجنده. فلما سمع قطب الدين الخبر جمع عساكره وسار عن الموصل نحو سنجار، ومعه الجمال والزين، ونزلوا بتل يعفر، وأرسلوا إلى نور الدين ينكرون عليه. إقدامه وأخذه ما ليس له، وتهددوه بقصده وإخراجه من البلاد قهراً إن لم يرجع اختياراً. فأعاد الجواب: إنني أنا الأ كبر، وأنا أحق ان أدبر أمر أخى منكم. وما جئت إلا لما تتابعت إلى كتب الأمراء يذكرون كراهيتَهم لولا يتكم عليهم، يعني الجمال والزين، فخِفت أن يحملهم الغيظ والأنفة على أن يخرجوا البلاد من أيدينا. فأما تهدُّدُكم إياى بالقتال فأنا ما أقاتلكم إلا بجندكم؛ وكان قد هرب إليه جماعة من أجنادهم. فخافوا أن يلقوه لئلا يخامر عليهم باقي العسكر، ودخل الأمراء في الصلح، وأشار به جمال الدين الوزير وقال: نحن نظهر للسلطان والخليفة أننا تبع نورالدين، ونور الدين يظهر للفرنج أنه يحكمنا ويهددهم بنا. فإن كاشفناه وحاربناه فإن ظفر بناً طمع فينا السّلطان، وإن ظفرنا، به طمع فينا الفرنج. ولنا بالشام حمص وقد صار له عندنا سنجار، فهذه أنفع لنا من تلك، وتلك إنفع له من هذه؛ والرأى أن نسلم إليه حمص ونأخذ سنجار؛ وهو في ثغر بإزاء الفرنج ويتعين مساعدته. فاتفق الجماعة على هذا الرأي، وسار جمال الدين إلى نور الدين وابرم معه الأمر وتسلم حمص وسلم سنجار إلى أخيه؛ وعاد نور الدين وأخذ ما كان بسنجار من المال. ولما تسلم قطب الدين سنجار أقطعها لزين الدين، لأن حمص كانت لأخيه ينال وهو مقيم بها. واتففت كلمتهم واتحدت آراؤهم، كل واحد منهما لا يصدر إلا عن أمر أخيه. وطلب نور الدين أن يكون الجمال عنده، فقال له الجمال: أنت عندك من الكفاية ما يستغنى به، عن وزير ومشير، وليس عندك من الأعداء مثل ما عند أخيك، لأن عدوك كافر فالناس يدفعونه ديانة، وأعداء أخيك مسلمون فيحتاج من يقوم بدفعهم. وإذا كُنت عند أخيك فالنفع إليك عائد؛ وأريد من بلادك مثل مالي من بلاد أخيك معونة على كثرة خرجي. فأجابه له إلى ذلك فقال له جمال الدين أنت عليك خرج كثير لأجل الكفار فيجب مساعدتك، وأنا أقنع منك بعشرة آلاف دينار كل سنة. فأمر له بها. فكان نائب جمال الدين يقبضها كل سنة ويشتري بها أسرى من الفربج ويطلقهم. قلت: وقرأت في ديوان القيسراني: وقال في نور الدين عند قدومه، وقد استولى على سنجار وأعمال الرّحبة والفرات، وذلك في منتصف ذى القعدة سنة أربع وأربعين وخمسمائة:
هذا الذي ولدت له الأفكار ... وتمخَضت فألا به الأشعار
وجرت له خيل النهى في حلبة ... وردت وصفو ضميرها المضمار
وأتت به نذر القوافي برهة ... إن القوافي وحيها إنذار

حكمت لسيفك بالممالك عنوة ... حكما، لَعموى، ماعليه غبار
يأيها الملك المطيل نجاده ... بَرُّ يَدِينُ بِهَدْيه الأبرار
يابْن السيوف،وهل فخرت بنسبة ... إلا سمابك قائم وغرار
فارقت دار الملك غير مفارق ... لك من علاك بكل أرض دار.
في عسكر يخفي كواكب ليله ... نقعاً، فيطلعها القنا الخطَار
جرّاز أذيال العجاج وراءه ... وأمامه، بل جحفلٌ جرّار
تدنى لك الغايات أكبر همة ... نوريّة، هم الملوك كبار
حتى ملأت الخافقين مهابة ... دانت لُعظم نظامها الأقطار
وملكت سنجاراً، وما من بلدة ... إلا تَمَنَّى أنها سنجار
وبسطْت بالأموال كفَّا طالما ... طالت بها الآمال وهي قصار
وجرت أمداد الجياد شعابها ... جرْى السيول، وما عداك قرار
وثنى الفراتُ إلى يديك عنَانه ... والبحر ما اتّصلت به الأنهار
وملكت رحبة مالك فتبرَّجت ... منها لِعَيْنِك كاعبٌ مِعطار
جاءتك في حُلل الربيع وحَلْيها ... قبل الربيع شقائق وبهار
نثرت عليلث هوى القلوب محبة ... وتدّ لو أن النجوم نثار
فأقمت كالشمس المنيرة، إن نأت ... عن أفْقها فَلَها بِهَ أقمار
من كان نور الدين ثم أجَنَّه ... ليلُ السُّرى حفّت به الأنوار
تدعو البلاد إليك ألسنة الظّبا ... فتجيبك الأنجاد والأغوار
حتى عمدت الدين يابن عماده ... بقنا أسنّتها عليه منار
وقفلت من أسفار جدك قادما ... كالصبح نمّ بثغره الإسفار
يغشى البصائر نور وجهك بعد ما اع ... تركت على قسماته الأبصار
حتى عمرت بكل قلب صدره ... حين الصدور من القلوب قفار
إن تُمسِ في حلب رياحك غضة ... فلها بأنطاكية إعصار
وغدت جيادك بالشآم مقيمة ... ولها بأطراف الدروب مغار
هم سبقت بها إلى مهج العدا ... صرف الردى، ومسيره إحضار
وأرى صياح القمص كان خديعة ... فطغى وَجَارَ، وليس ثَمّ وِجَار
سأل الصنيعة غير محقوق بها ... والخير يهدم ما بنى الختار
حتى إذا ما غبت أقدم عاثيا ... إقدام من لم يدْنُ منه قرار
أمضى السّلاح على عدّوك بغيهُ ... بالغدر يُطعن في الوغي الغدار
فاحسم عنا ذوي العناد بجحفل ... كالليل فيه من الصفيح نهار
جند على جُرد، أمام صدورها ... صدر عليه من اليقين صِدَار
قد بايع الإخلاص بيعة نصرة ... ولكلّ هادي أمٍة أنصار
ملك له من عدله ووفائه ... جيش، به تستفتح الأمصار
وإذا الملوك تثاقلت عن غاية ... وأرادها حَفّت به الأقدار
وإذا انتضته إلى الثغور عزيمة ... قامت مقام جنوده الأخبار
ولابن منير من قصيدة فيه:
ترنح معطف الزوراء لما ... دعاك لزَوْرَ سنجار لمام
وزلزلت الصّعيد وراء مصر ... غداة علتك في قطنا الخيام
رجاء هَزَّ تيك، وتلك خوفٌ ... ولو قد شئت ضمهما قرام
بعيشك يامبيد الخيل ركضا ... حَمامٌ هنّ تحتك أم حِمام
وقال ابن منير أيضاً يهنئه بتسلم قلعة حمص من بنال، وأنشده في القلعة، قصيدة أولها:
أرحها فهي أزلام المعالي ... لهنّ إلى الوغى تَوْقُ المغالي

أقاد مقيلهن بكل نقع ... يقوّض، بالهدى عمر الضّلال
وأي سيوفك الحمر الحواشي ... منزلة متى دُعِيتْ نَزَال
مَواضٍ، إن سُللن سلكن جزما ... نفاه من الطلي لفظ اعتلال
لقد غلت الصليب بِحَرْ حرْب ... يُشيب أوارُها لمم الليالى
وشمت لنصر هذا الدين بأساً تحرم منه كل حمّى حلال ومنها:
وقائع أنزعت في كل فج ... وقائع جوّها دامي العَزَال
تسائل حمص عن منسىّ دين ... تقاضاه لك الحِجج الخوالي
فواتَت وهي أخت النجم بُعدا ... ووعدا صيغ فن مطل مطَال
تشامخ أنفها عزا وشدت ... على أن لاتنال يدا ينال
فما زالت رقاك تجدّ نقضا ... لما تثنيه من مرر الحِبال
إلى أن أطلق الخسناء كرها ... وآل إلى ملاوحة المآلي
يصد الوجه عن شمّاء ألقت ... يداً لأشمّ ذي باع طوال
شغلت بها يمينك، والمواضي ... تكّفلُ أنّ مصرا للشمال
إذا فتح القتال عليك أرضا ... أباحك أختها لاَ عَنْ قتال
فصلقال الرئيس أبو يعلى: اتصل الخبر بنور الدين بإفساد الفرنج في الأعمال الحَوْرَانيّة بالنّهب والسبي، فعزم على التأهب لقصدهم، وكتب إلى مَنْ دمشق يعُلمهم بما عزم عليه من الجهاد ويستدعي المعونة على ذلك بألف فارس تصل إليه مع مقدم يعول عليه. وقد كانوا عاهدوا الفرنج على أن يكونوا يداً واحدة على من يقصدهم من عساكر المسلمين، قاحتج عليه وغولط. فلما عرف ذلك رحل ونزل بمرج يبوس، و بعض العسكرية بيعفور. فلما قرب من دمشق وعرف من بها خبره ولم يعلموا أين قصده، وقد كانوا راسلوا الإفرنج بخبره، قرروا معهم الإنجاد عليه، وكانوا قد نهضوا إلى ناحية عسقلان لعمارة غزة، ووصلت أوائلهم إلى بانياس. وعرف نور الدين خبرهم فلم يحفل بهم، وقال لا أنحرف عن جهادهم، وهو مع ذلك كافّ أيدي أصحابه عن العيث والإفساد في الضايع، وأمر بإحسان الرأي في الفلاحين والتخفيف عنهم، والدعاء له مع ذلك متواصل من أهل دمشق وأعمالها، وسائر البلاد وأطرافها وكان الغيث قد انحبس عن حَوْرَان والمرج والغوطة، ونزح أكثر أهل حوران عنها للْمَحْل واشتداد الأمر. فلما وصل نور الدين إلى بعلبك اتفق نزول المطر يوم الثلاثاء ثالث ذي الحجة، وأقام إلى مثله، فروّى الآكام والوهاد، وجرت الأودية، وزادت الأنهار، وامتلأت برك حوران ودارت أرحيتها، وط د ما صوّح من النبات والزرع غضَّا طريا، وجد الناس بالدعاء لنور الدين وقالوا هذا ببركته وحُسْن مَعْدلته وسيرته. ثم رحل من منزله بالأعوج، ونزل بجسر الخشب المعروف بمنازل العساكر في السادس والعشرين من ذي الحجة، وأرسل إلى مجير الدين والرئيس، وقال: إنني ما قصدت بنزول هذا المنزل طلبا لمحاربتكم ولا منازلتكم، و إنما دعاني إلى هذا الأمر كثرة شكاية المسلمين من أهل حَوْران. والعربان بأن الفلاحين أخذت أموالهم وسُبيت نساؤهم وأطفالهم بيد الأفرنج، وعدم الناصر لهم ولا يسعني، مع ما أعطاني الله، وله الحمد، من الاقتدار على نصرة المسلمين وجهاد المشركين، وكثرة المال والرجال، أن أقعد عنهم ولا أنتصر لهم، مع معرفتي بعجزكم عن حفظ أعمالكم والذبّ عنها، والتقصير الذي دعاكم إلى الاستصراخ بالإفرنج على محاربتي، وبذْلكم لهم أموال الضعفاء والمساكين من الرعية ظُلْماً لهم وتعدّياً عليهم. وهذا ما لا يرضي الله تعالى ولا أحداً من المسلمين؛ ولابد من المعونة بألف فارس مُزاحِي العلّة، تُجرّدُ مع من يوثق بشجاعته من المقدّمين، لتخليص ثغر عسقلان وغزّة. قال: فكان الجواب عن هذه الرسالة: ليس بيننا وبينك إلا السيف، وسُيوافينا من الإفرنج ما يُعينُنا على دفعك إن قصدتنا ونزلت إلينا. فلما عاد الرسول بهذا الجواب ووقف عليه، أكثر التعجب منه والإنكار له، وعزم على الزحف إلى البلد ومحاربته في غد ذلك اليوم. فأرسل الله من الأمطار وتدارُكها ودوامها ما منعه من ذلك.
ثم دخلت سنة خمس واربعين وخمسمائة

ففي مستهل المحرم تقررالصلح بين نور الدين وأرباب دمشق. والسبب في ذلك أن نور الدين أشفق من سفك دماء المسلمين إن أقام على حربها والمضايقة لها، بعد ما اتصل به من أخبار دعته إلى ذلك. واتفق أنهم بذلوا له الطاعة وإقامة الخطبة له على منبر دمشق بعد الخليفة والسلطان، وكذا السكة، ووقعت الأيمان على ذلك. وخلع نور الدين على مجير الدين خلعة كاملة بالطوق، وأعاده مكرما محترماً، وخطب له على منبر دمشق يوم الجمعة رابع عشرمحرم. ثم استدعى الرئيس إلى المخيم وخلع عليه خلعة كاملة أيضاً وأعاده إلى البلد. وخرج اليه جماعة من الأجناد والخواصّ إلى المخيم واختلطوا به ووصل من استماحه من الطلاب والقراء والضعفاء، بحيث ما خاب فاصدُه، ولا أكدى سائله. ورحل عن مخّيمه عائداً إلى حلب بعد إحكام ما قرر وتكميل ما دبّر.
قلت: وفي فلك يقول القسراني:
لك الله؛ إن حاربت فالنصر والفتح ... وإن شئت صلحاًعُدَّ من حَزمك الصلح
وهل أنت إلا السيف في كل حالة ... فطَوراً له حدّ وطوراً له صفح
سقيت الرّدينيات حتى رددتها ... تَرَنَّحُ من سكر فحلّ القنا تصحو
وما كان كف العزم إلا إشارة ... إلى الحزم لو لم يغضب السيف والرمح
وقد علم الأعداء مُذ بِتَّ جانحا ... إلى السلم ما تتوي بذاك وما تنحو
إذا ما دمشق، ملكتك عنانها ... تيقن من في إيليا أنه الذبح
متى التف نقع الحجفلين على الهدى ... فلا مهمهٌ يحوي الضلال ولا سفح
إذا سار نور الدين في الجيش غازيا ... فقولا لليل الإفك قد طلع الصبح
تركت قلوب الشرك تشكو جراحها ... فلا زالت الشكوى ولا اندمل الجرح
صبرت فكان الصبر خير مغبة ... فسيق إليك الملك يسعى به النجح
كان القنا تجلو له وجه أمره ... ولو أمهلت بلقيس ما غرها الصّرح
بدولتك الغراء أصبح ضدها ... بهيما، ولولا الحسن ما عرف القبح
وكم من قريح القلب لو بات وارداً ... موارد هذا العدل ما مّسه قرح
سخابك هذا الدهر جودا على الورى ... على أنه ما زال في طبعه شح
وقد كان يمحو رسم كل فضيلة ... ونحن نراه اليوم يثبت ما يمحو
بك ابتهج الألباب، وانتهج الححا ... وأثمرت الآداب، واطّرد المدح
ولا ذت بك، التقوى وعاذت بك العلا ... ودانت لك الدنيا، وعز بك السرح
فلا قلب إلاقد تملكته هوى ... ولا صدر إلا قد جلاه لك النصح
وما الجود في الأملاك إلا تجارة ... فمن فاته حمد الورى فاته الربح
ولم أختصر ما قلت إلا لأنني ... اعبر عما لا يقوم به الشرح
فصل في فتح عزازقال أبو يعلى: وورد الخبر في الخامس من المحرم من ناحية حلب بأن عسكرها من التركمان ظفر بابن جوسلين صاحب عزاز وأصحابه، وحصلوا في قبضة الأسر في قلعة حلب. فسر هذا الفتح كافة الناس، وتوجه نور الدين في عكسره إلى عزاز ونزل عليها وضايقها وواظب قتالها، إلى أن سهل الله تعالى ملكها بالأمان، وهي على غاية من المنعة والحصانة والرّقعة. فلما تسلمها رتب فيها من ثفاته من وثق به، ورحل عنها ظافراً مسرورا، عائدا إلى حلب، في أيام من شهر ربيع الأول.
قلت: وذكر ابن منير فتح عزاز وغيرها وأمر دمشق في قصيدة أولها:
فدتك القلوب بألبابها ... وَساحُ الملوك بأربابها
كتائب ترمى جنود الصلي ... ب منها بتقطيع أصلابها
إذا ما انثنت من قراع الكماة ... كست وقدها وشي أسلابها
تبرنس منها البرنس الثياب ... حلته وقع أحلابها
عشية غصت على إنّب ... نفوس النصارى بغصابها
وقام لأحمد محمودها بجدْع موارن أحزابها
تجلى لها حيدرى المصا ... ع أغلب مُودٍ بغلابها
مورث أركاسها من أب ... أكول الفوارس شرابها

همامٌ إذا اعْصَوْ صَبَتْ نَبوة ... دهاها بها أعصابها
مضى وجنى لك حلو الشها ... د مما تمطق من صابها
وأوصى بها لك من بعد ما ... تجرع ممقر أوصابها
وأقسم جدك ألا يليق ... بغيرك ملبس أثوابها
صبحت دمشق بمشق الجياد ... زبور الوغى بين أحدابها
وأصْلَت رأيك قبل الحسام ... فحمد جمرة أجلابها
فأعطتك ما لم تنله يدُ وفازت رقاك بأصحابها
وأنت تصرف فضل الزما ... م من حمص تأخير ركابها
تخونها الجور فاستدركت ... بعد لك أغبار ظبظابها
وفاجأت قُورُس بالشائلات ... تمج القنا سمّ أذنابها
فما رِمت حتى رَمَت بيضها ... إليك أزمّة ضرّابها
وعَزّت غزاز فأذللتها ... بمجر مضيق لأسهابها
بأشمخ من أنفها منكبا ... وأكثر من عد تورابها
دلفت لعيطاء أم النجو ... م في الأمر إيطاء أترابها
وعذراء مذ عَمَرت ما اهتدت ... ظنون الليالى لإخْرَابها
تفرّعتها بفروع الوشي ... ج مثمرة هام أوشابها
وعوج إذا أنبضت اغمضت ... ذكاء لإرسال نشابها
ومحدودبات تطير الخطوب ... ملافظ ألسُن خطابها
تصوب عقبان ريب المنون ... متى زبَنَتْها بأعقابها
وما ركعت حول شم الهضا ... ب إلا سجدن لأنصابها
فلاذت بمعتصم بالكتاب ... وَهوبِ الممالك سلابها
بمعتصمى الندى والهدى ... هموس السُّرى غير هيابها
محلى المحل بوصف الفتوح ... ووصف التهاني وأربابها
وتعجز مداحه أن تحيط ... بآدابه فلك آدابها
بدائع، لو رد دهر رمين ... بَنات حبيب بأحبابها
وأين ابن أوس وآياته ... من اللاء أودت بحسابها
من اللاء عاد عتيق لها ... ورد عليها ابن خطابها
فأيامه من حبور تكاد ... يطير بها فرط إعجابها
لك الفضل إن راسلتك الجياد وقامت أدلة أنجابها
إذا اعتسفت هم الجائرين أتيت السيادة من بابها
أبوك أبوها، وأنت ابنها الْ ... عريق، ودمية محرابها
أقول لمؤجره بالغرور ... تمطت هواها فأهوى بها
حذار فعند ابتسام الغيو ... ث تحشى صواعق ألهابها
ولا تخدعوا بافترار الليو ... ث فالنار في برد أنيابها
فصل في صفة أسر جوسلين

======================================ج2.

كتاب : الروضتين في أخبار النورية و الصلاحية

المؤلف : أبو شامة المقدسي

قال ابن الأثير: سار نور الدين إلى بلاد جوسلين وهي القلاع التي شمالي حلب منها تل باش. وعين تاب، وعزاز، وغيرها من الحصون. فجمع جوسلين الفرنج فارسهم وراجلهم، ولقوا نور الدين. وكانت بينهم حرب شديدة انجلت عن انهزام المسلمين وظفر الفرنج، وأخذ جوسلين سلاح دار كان لنورالدين أسيرا، أخذ مامعه من السلاح فأنفذه إلى السلطان مسعود بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب قونية وأقصرا وغيرهما من تلك الأعمال، وكان نرر الدين قد تزوج ابنته وأرسل مع السلاح إليه يقول: قد أنفذت لك بسلاح صهرك، وسيأتيك بعد هذا غيره. فعظمت هذه الحادثة على نور الدين وأعمل الحيلة على جوسلين، وعلم أنه إن هو جمع العساكر الإسلامية لقصده جمع جوسلين الفرنج وحذر وامتنع فاحضر نور الدين جماعة من التركمان وبذل لهم الرغائب من الإقطاع والأموال إن هم ظفروا بجوسلين، إما قتلا وإما أسرا. فاتفق أن جوسلين خرج في عسكره وأغار على طائفة من التركمان فنهب وسبى، فاستحسن من السبي امرأة منهم خلا معها تحت شجرة؛ فعاجله التركمان، فركب فرسه ليقاتلهم فأخذو. أسيرا، فصانعهم على مال بذله لهم؛ فرغبوا فيما واجابو إلى ذلك، وأخفوا أمره عن نور الدين. فأرسل جوسلين في إحضار المال، فأتى بعض التركمان إلى نائب نور الدين بحلب فأعلمه الحال، فسير معه عسكراً أخذوا جوسلين من التركمان قهرا؛ وكان نور الدين حينئذ بحمص. وكان أسره من اعظم الفتوح على المسلمين، فإنه كان شيطانا عاتيا من شياطين الفرنج، شديد العداوة للمسلمين. وكان هو يتقدم على الفرنج في حروبهم لما يعلمون من شجباعته وجودة رأيه، وشدة عداوة للملة الإسلامية، وقسوة قلبه على أهلها. وأصيبت النصرانية كافة بأسره، وعظمت المصيبة عليهم بفقده؛ وخلت بلادهم من حاميها، وثغورهم من حافظها؛ وسهل أمرهم على المسلمين بعده. وكان كثير الغدر والمكر، لا يقف على ي ين، ولا يفي بعهد. طالما صالحه نور الدين وهادنه، فإذا أمن جانبه بالعهود والمواثيق نكث وغدر؛ فلقيه غدره، وحاق به بكره، (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ). فلما أسر تيسر فتح كثير من بلادهم وقلاعهم. فمنها عين تاب، وعزاز، وقورس، والراوندان، وحصن البارة، وتل خالد، وكفر لاثا، وكفر سود، وحصن بسرفوث بجبل بني عليم، ودوك، ومرعش، ونهر الجوز، وبرخ الرصاص.
قال: وكان نور الدين، رحمه الله، إذا فتح حصنا لا يرحل عنه حتى يملأه رجالا وذخائر تكفيه عشر سنين، خوفا من نصرة تتجدد للفرنج على المسلمين، فتكون الحصون مستعدة غير محتاجة إلى شيء. وقال الشعراء في هذه الحادثة فأكثروا؛ منهم القيسراني. قال يمدح نور الدين بعد صدوره عن دمشق واستقرار أمرها، ويذكر قتل البرنز وأسر جوسلين وأخذ بلاده:
دعا ما ادعى مَن غره النهى والأمر ... فما الملك إلا ما حباك به القهر
ومن ثنت الدنيا الييما عنانها ... تصرف فيما شاء عن إذنه الدهر
ومن راهن الأقدار في صهوة العلا ... فلن تدرك الشعري مداه ولا الشعر
إذا الجد أمسى دون غايته المنى ... فماذا عسى أن يبلغ النظم والنثر
ولم لا يلي أسنى الممالك مالك ... زعيم بجيش من طلائعه النصر
ليهن دمشقا أن كرسي ملكها ... حبي منك صدراً ظاق عن همه الصدر
وأنك نور الدين، مُذْ زرت أرضها ... سمت بك حتى انحط عن نسرها النسر
خطبت، فلم يحجبك عنها وليها ... وخطب العلا بالسيف ما دونه ستر
جلاها لك الإقبال حورية السنا ... عليها من الفردوس أردية خضر
خلوب، أكَنّت من هواك محبة ... نمت فاتمت جهرا، وسر الهوى جهر
فسقت إليها الأمن والعدل نحلة ... فأمست ولا أسر تخاف ولا إصر
فإن صافحت يمناك من بد هجرها ... فأحلى التّلاقي ما تقدمه هجر
وهل هي إلا كالحَصان تمنعت ... دلالاً، وإن عز الحيا وغلا المهر
ولكن إذا ما قستها بصداقها ... فليس له قدر وليس لها قدر
هي الثغر أمسى بالكراديس عابساً ... وأصبح عن باب الفراديس يفترّ

على أنها لو لم تجبك إنابة ... لأرهقها من بأسك الخوف والذعر
فإما وقَفْت الخيل ناقعة الصّدى ... على بردى من فوقها الورق النّضر
فمن بعد ما أوردتها حومة الوغى ... وأصدرتها والبيض من عَلَقٍ حُمْر
وجللتها نقعا أضاع شِيَاتها ... فلا شُهبها شُهبٌ ولا شُقرها شُقر
علا النهر لما كاثر القصب القنا ... مكاثرةً في كل نحرٍ لها نحر
وقد شرقت أجرافه بدم العدا ... إلى ألغ جرى العاصي وضَحْضَاحُه غمر
صدعتهم صدع الزجاجة لا يد ... لجابرها، ما كل كسر له جبر
فلا ينتحل من بعدها الفخر دائل ... فمن بارز الإبرنز كان له الفخر
ومن بز أنطاكية من مليكها ... أطاعته ألحاظ المؤلَّلة الخزرُ
أخو الليث لولا غدره، نزعت به ... إلى الذئب أن الذئب شيمته الغدر
أتي رأسه ركضا وغُودر شِلْوه ... وليس سوى عافي النسور له قبر
وقد كان في استبقائه لك منة ... هي الفتك لو لم تغضب البيض والسمر
كما أهدت الأقدار للقمص أسره ... وأسعد قِرْنٍ مَنْ حواه لك الأسر
طغى وبغى عدوا على غُلوائه ... فأوبقه الكفران عدواه والكفر
وألقت بأيديها إليك حصونه ... ولو لم تُجب طوعاً لَجَاه بها القسر
وأمست عزاز كاسمها بك عزة ... تشق على النسرين لم أنها الوكر
فسِرْ، وَاملأ الدنيا ضياء وبهجة ... فبالأفق الداجي إلى ذا السنا فقر
كأني بهذا العزم، لا فل حده ... وأفصاه بالأقصى وقد قضى الأمر
وقد أصبح البيت المقدس طاهراً ... وليس سوى جارى الدماء له طُهر
وقد أدت البيض الحداد فروضها ... فلا عهدة في عْنق سيف ولا نذر
وصلت بمعراج النبي صوارم ... مساجدها شفع وساجدها وتر
وإن يتَيَمّم ساحل البحر مالكاً ... فلا عجب أن يملك السّاحلَ البحر
سللت سيوفا أثكلت كل بلدة ... بصاحبها،حتى تَخوَّفك البدر
إذا سار نور الدين في عزماته ... فقولا لليل الإفك: قد طلع الفجر
ولم لم يَسِر في عسكر من جنوده ... لكان له من نفسه عسكر مَجْر
مليك سمت تم المنابر باسه ... كما زُهيت تِيهاً به الأنجم الزُّهر
فيا كعبة ما زال في عرصاتها ... مواسم حج لا يروّعها النفر
خلعت على الأيام من حلل العلا ... ملابس من أعلامها الحمد والشكر
وتوَجت ثغر الشام منك جلالة ... تمنّت لها بغدادُ أنها ثغر
فلا تفتخر مصر علينا بنيلها ... فُيمناك نيلٌ، كل مصر بها مصر
رددت الجهاد الصعب سهلا سبيله ... ويا طالما أمسى ومسلكة وعر
وأطمعت في الإفرنج من كان بأسه ... تخوف أن يعتاده منهم فكر
وأقحمت جُرد الخيل أعلى حصونها ... ولولاك لم يهجم على كافر كفر
ومن يدعى في قتلك الشرك شركة ... إذا لم يكن عند القوافي له ذكر
هي القانتات الحافظات فروجها ... فشاهدها عدل وراثقها سحر
ولو لم يكن في فضلها وكمالها ... سوى أنها من بعد عمر الفتى عمر
وله من قصيدة يصف فيه وقائعه أولها:
أما وخيال زار ممن أحبه ... لقد هاج من ذكراه مالا أغّبه
إذا ما صبا قلب المحب إلى الصّبا ... ذكرت نسيما بالثغور مهُّبهُ
فيا نفحات الشام، رفقا بمهجة ... يحامى عليها مدنف القلب صّبه
فلا تسألن الصب أين فؤاده ... فإن فؤاد المرء مع من يحبه

وفي شعب الأكوار من هو عالم ... غداة استطار البرق من طار لبه
يشيم ثغور المزن تهمى، كأنها سنا ... بشر نور الدين تنهل سُحبه
إذا ما سما في مُبهم الخطب وجهه ... تمزق عن بدر الدُّجٌنَّة حُجبه
تولد بين الغيث والليث والتقى ... منافسه أي الثلاثة تربه
يعد مضاء في الظبا، لا، وضربه ... بها قلل للأعداء ما السيف ضربه
مكين الحجا،أرضى الزمان بنفسه ... إلى الآن، حتى لان وانقاد صعبه
حمى قّبة الإسلام بالخليل، فاغتدت ... وأوتادها جرد الطعان وقبه
فكم هبوة أوقعن بالكفر تحتها ... فما انقشعت إلا وللذل جنبه
كيوم الرّها الورهاء والهامُ يانع ... ملى برعي الهندوَانىّ خصبه
وشهباء هاجتها وغى صرخدية ... ثناها وليل الحرب تنقضن شهبه
وعارم يوما بالعُريمة فاغتدت ... كوادي ثمود إذ رغا فيه سَقْبُه
وعاصي على العاصي بأرْعن خاطب ... دم الإفك حتى أنكح النصل خطبه
بإنب لما أكسب المال وانثنى ... يصاحب أنطاكية وهو كسبه
غداة هوى شطرين: للسيف رأسه ... وللرمح حتى توج الرأس قلبه
على حين النصر للخطى فيه عوامل ... يعاقبه خفض الحسام ونصبه
وقائع محمودية النصر لم تزل ... غريباً بها عن موطن السّيف غربه
يقوم مقاًم الجيش فيها وعيده ... ويَفعل أفعال الكتائب كتبه
وحين انتضته عزمةُ من قرابه ... مضى وهو نصل، والمالك قربه
إلى أن دعته ربها كل بلدة ... فليس من الأمصار ما لا يربه.
ولما نزا بالقمص عُجب، هوى به ... على أم رأس البغى والغدر عُجبه
فاصبح في الحجلين ينكر خطوه ... بعيد على الرجلين في السعي قربه
تعاقبه البشرى بأخذ حصونه ... فياعانياً ضرب البشائر ضربه
تناجي عزاز باسمه تل باشرِ ... فيلعنه لعن الصريح وسبّه
فإن يكن المقهور من ثل عرشه ... فهذا عمود الكفر قد طاح طُنبه
فقل لملوك الخافقين نصيحة ... كذا عن طريق الليث يزأر غلبه
وخلوا عن الآفاق، فالشرق شرقه ... بحكم الرّدينتات، والغرب غربه
ولا يعتصم بالدرب طاغ على القنا ... فإن القنا في ثغرة النحر دربه
رحيب فضاء الحلم عن ذات قدره ... إذا ضاق من صدر المملك رحبه
عفو عن الجاني، يكاد الذي جنى ... يكرًّ به شوقا إلى العفو ذنبه
أمُتخذ الإخلاص الله جُنّة ومن يعتصم بالله فالله حسبه
أبوك استرد الشام بالسيف عنوة ... وللروم بأس طالما غال خطبه
إذا ذب عن أضغاث دنياه مالك ... فأنت الذي عن حوزة الدين ذبه
رأيت اتباع الحق خيراً مغبة ... فأفرجت عن رأى يسرك غٍبُّة
وأوضحت ما بين الفريقين سنة ... بهاً عرف المربوب من هو ربه
وبينت ما قد كان من كان يبتغي ... دليلا بان الله من.أنت حزبه
وقال ابن منير يمدح نور الدين بظاهر حمص:
هيهات يعصم من أردت حِذارُ ... أني، ومن أوهاقك الأقدار
طلعت عيك بجوسلين ذريعة ... لا سحل انشاها ولا إمرار
وسعادة مازلت تمرى خلفها ... فيشف، وهو الناتق المدرار
فأرتك مايجنى الوفى وفاؤه ... وأرته كيف يُحًّين الغدار
عود أمر على أبارك طلعه ... فأحيل ذاك البر وهو بوار
مازلت تنعم وهو يكفر عاتيا ... والله يهدم مابنى الكفار
حتى أتاح لقومه ما جره ... لثمود من عقر الفصيل قدار
أسرى فأصبح في براثن آسرٍ ... مازال يدُمى ظفره الأظفار

سام، كقرن الشمس، يُقبس نوره ... وتغض عون محله الأبصار
يهب التلاد من البلاد وما حوت ... إن السماحة للبحار بحار
يقظان، يخشى الله في خلواته ... لا مُترف لاه، ولا جبار
نصب المراقب العواقب ناظرا ... فيها، كذلك تربأ الأبرار
لا كالذين تعجلوا حسوأتها ... وتفلسوها بعد وهي خسار
درجوا وأدرج في ملف رفاتهم ... سوءى تساء لذكرها الآثار
والمرء من يُطوى فيَنشر طيه ... ما أودعته صدورها الأخيار
قل للأولى ناموا على نأماته ... ما كلُّ هبة بارخ إعصار
لا تأمنوا في الله بطشة ثائر ... لله، ملء سريره أسرار
صاف إذا كدر المعادن، عادل ... إن خاف حكام الملوك وجاروا
أعلى أبو له النجاد، وشيد في ... صهواتها مما ابتناه منار
محمود المحمود آثاراً إذا ... نظمت على جيد الدجى الأسمار
دانت له الأيام صاغرة،كما ... دانت له في ظله الأمصار
وله من أخرى أولها:
ما الملك إلاّ ما حواهُ نجادُه
يقول فيها:
وتدين حُسده لمحكم آيه والفضل ما شهدت به حسّاده
شمس إذا ما الحربُ زَر جيوبها ... حل المعاقد كَرُّه وطِراده
ألوى، ألد، حمى الشريعة جهده ... وأذل ناصية الضلال جهاده
صعق البرنس وقد تلألأ برقه ... وأطار ساكن جأشه إرعاده
ولى وقد سُلَّت فَسَلَّت ضغنه ... زُبر تلقى فودهن فؤاده
مستلئما مستسلما، لاعدة ... رد المى عنه ولا استعداده
ولجوسلين احتثهن فأصبحت نهبى لهن: بلاده وتلاده
جاءت به بعد الشماس عوابس ... قود يلين لعُنفهن قياده
وتصيدته لك السّعود، وقلما ... ينجو بخيرٍ من أردت مصاده
داني له قينا أدهم كلما غناه ... طار شماتة عوّاده
سلبت عزاز عزاءه، وِبقُورس ... محجوبة فرشت له أقتاده
وبتل خالد يوم تل جبينها ... خلط الثرى بجبينه إخلاده
وغدا يباشر تل باشر قلُبه ... بأحر ما حمل القلوب عداده
منّت أمانيه في بشائرك التي ... عادت لهن ما تما أعياده
وحبوت ملكك من نظيم ثغوره ... حَلْياً تَتَايَه تحته أجبادُه
لا يخدعتك، فإنما إصلاح من ... يخُشى انتشاط خناقه إفساده
أنزله حيث قضت له غدراته ... وأحلّه طُغيانه وعناده
في حيث لا يأوى له سجّانه ... حنقا ويكشط جلده جلاده
وثن هدمت بني الضلال بهدمه ... وعدت عبادك عنوة عباده
فتكت به آيات مَن لمحمد ... ولدينه ابداؤه وعواده
او أنشط البلد الحرام تواءمت ... تُثْننى عليه تلاعه ووهاده
ولو ان منبره أطاق تكالما ... نطقت بباهر فضله أعواده
نام الخليفة، واستطال لذَبّه ... عن سذنيه واستطير رقاده
رجعت لك العز القديم سيوفه ... ما زان رونق مائها أغماده
من بعد ما نعق الصليب لحزبه ... ورأيت زرع الملك حان حصاده
أني تميل الحادثات رواقه ... بهبوبها، وابنُ العماد عماده!
فصلقال ابن الأثير: لما سار نور الدين إلى قلاع جوسلين ملك بعضا وأبق بعضا. فاجتمعت الفرانج، فالتقوا مع نور الدين بدُلُوك، فهزمهم واستولى على دلوك وغيرها. ففيها يقول أحمد بن منبر قصيدة منها:
هي الخبرل خير عتاد الكريم ... يحضر للهم إحضارها
ضغنت فأدررت أفواها ... وسرت فقلمت أظفارها
إلام، ولم تُبق مما غزوت ... قلوبا تكابد إذعارها
اما في مفصل آى القرا ... ع أن تضع الحرب أوزارها

عسى أن يُحم لهذا الحما ... م أن يتوكر أو كارها
وما يوم من غلته واحد ... فتودعه الّلسْنُ أشعارها
واين المَقَاول مما فعلت ... ولو شفع القطر إكثارها
فكم أجلبت خلفك الجافحات ... فصلصل فخرك فخارها
أعدت بعصرك هذا الأنيق ... فتوح النبي وأعصارها
وكان مهاجرها تابعيك ... وأنصارُ رأيك أنصارها
فجددت إسلام سلمانها ... وعمر جدَّك عّمارها
وما يوم إنب إلا كتي ... ك، بل طال بالبوع أشبارها
وأيامك الغرّ من بعده ... تُعيد إلى إلى الطيّ أغرارها
ولما، هببت ببصرى سمكت ... بأهباء خيلك أبصارها
ويوم على الجؤن جون السرا ... ة عز فسعَّطها عارها
صدمت عُريمتها صدمة ... أذابت مع الماء أحجارها
وفى تل باشر باشرتهم ... بزحف تسور أسوارها
وإن دالكتهم دُلُوك فقد ... شددت فصدقت أخبارها
وشب التدامُر حتى طلعت ... عليها فولتك أدبارها
مشاهد مشهورة نمنمت ... على صفحة الدهر أسطارها
يلذ الأغاني ترجيعها ... وتستسفرالسَّفْرُ أسفارها
بنيت لوفد المنى كعبة ... تُجيرالمعلق أستارها
ملكت الأراضي مُغْتبرَّة ... تكاد تُحَدِّثُ أخْبَارَها
فما زلت تدجن حتى محوت ... دجاها وشعشت أنوارها
وَصَلْتَ فأعززت مسكينها ... وَصُلْتَ فأذلت جبارها
وصغت حلى من علا أحكمت ... على عنق الدهر أزرارها
قال أبو يعلى: وفى رجب وردت الأخبار من ناحية نور الدين بظفره بعسكر الإفرنج النازلين بإزائه قريبا من تل باشر، وعظيم النكاية فيهم والفتك بهم؛ وامتلأت الأيدي من غنائمهم وسبيهم واستولى على حصن خلد الذي كان مضايقه ومنازله. قال: وفي أيام من المحرم وصل جماعة من حجاج العراق وخراسان المأخوذين في طريق الحج عند عودهم بجماعة من كفار العربان، وحكوا مصيبة ما نزل مثلها بأحد في السنين الخالية، ولا يكون أبشع منها. وذكر أنه كان في هذا الحاج من وجوه خراسان و تُنَّائها، وفقائها وعلمائها، وقضاتها، وخواتين أمراء العساكر السلطانية والحرم العسد الكثير، والأموال الجمة، والأمتعة الوافرة. فأخذ جميع ذلك وقتل الأكثر، وسلم الأقل؛ وهتكت النساء وسُلبن، وهلك من هلك بالجوع والعطش؛ فضاقت الصدور لهذه النازلة. فكسي العارى منهم وأطلق لهم ما استعانوا به على عودهم إلى أوطانهم من أصحاب المروءة بدمشق. ذَلِكَ تَقْدِيُر الْعَزِيِز الْعَلِيم.
فصلقال: وكان مجاهد الدين بزان قد توجه إلى حصنه صرخد ليتفقد أحواله، فعرضت نُفرة بين مجير الدين والرئيس بسعابات أصحاب الأغراض والفساد، واقتضت الحال استدعاء مجاهد الدين لإصلاح الحال، فوصل وتم ذلك بوساطته على شريط إبعاد الحاجب يوسف، صاحب مجير الدين، عن البلد مع أصحابه. وتوجهوا ولم يعْرض لشيء من أموالهم؛ وقصد بعلبك فأكرمه وإليها.
قال: ووردت الأخبار من مصر بالخُلف المستمر بين وزيرها ابن مصال وبين الأمير المظفر ابن السلار ووقوع الحرب وسفك الدماء، إلى أن أسفرت الحال عن، قتل ابن مصال الوزير وانتصاب ابن السلار موضعه في الوزارة.
قال: وفيها في سابع عشير رجب توفى القاضي بهاء الدين عبد الملك ابن الفقيه عبد الوهاب الحنبلي. وكان إماما فاضلا، مناظرا مستقلا، مفتيا على مذهب الإمامين أحمد وأبى حنيفة، بحكم ماكان عليه عند إقامته بخراسان لطلب العلم والتقدم. وكان يعرف اللسان الفارسي مع العربي؛ وهو حسن الحديث في الجدّ والهزل. وكان له يوم مشهود، ودفن في جوار أبيه، وجده في مقابر الشهداء. قال: وتوفى عقيب وفاته الشريف القاضي النقيب أبو الحسن فخر الدولة ابن أبى، الجن، وتفجع الناس لخيريته وشرف بيته.
ودخلت سنة ست وأربعين وخمسمائة

ففيها خاصر نور الدين رحمه الله دمشق لمعاضدة اهلها الفرنج واستنصارهم بهم. ومدحه ابن منير بقصيدة يحرضه فيها عليهم، وكتبها إليه من حماة وهو محاصر دمشق، وقد تخلف عن الخدمة لمرض عرض له. منها:
أخليفة الله الذي ضمنت له ... تصديق واصفه سراة المنبر
لا المسطيل بمصر ظل قصوره ... والمستطال إليه شقة صرصر
يانور دين الله وابن عماده والكوثر ابن الكوثر ابن الكوثر
صفّر بحد السيف دار أشائب ... عقلوا جيادك عن بنات الأصفر
هم شيدوا صرح النفاق، وأوقدوا ... نارا تخشى بهم غدا في المحشر
اذكوا بجلق حرّها، واستشعرت ... لفحاتها بين الصفا والمشعر
شردتهم من خلفهم مستنجدا ... ماظاهر الكفار من لم يكفر
لاتعف، بل شق الهدى نفس الذي اد ... رع الضّلال على أغرّ مشهر
قلده ما اهدى على لمرحب ... فلقد تهكم في الخداع الخيبري
ما الغش ممن أمه نصرانة ... لم تختن كالغش من متنصر
أذكت لنا هذي العزائم، لاخبت ... ماغار من سنن الملوك الغببر
إثقاب آراء المعز، وخفق رايات ... العزيز، ويقظة المستنصر
شمر، فقد مدت إليك رقابها ... لايدرك الغايات خير مشمر
أوَلَسْت من ملأ البسيطة عدلُه ... واجتب بالمعروف أنف المنكر
حدب الأب البر الكبير، ورأفة الْ ... أم الحفية باليتيم الأصغر
يا هضبة الإسلام، من يعصم بها ... يُؤمن، ومن يتول عنها يكفر
كانوا على صلب الصليب سرادقا ... أنبت بنيته بكل مذكر
آثارهم نجس أذال المسجد الْ ... أقصى، فضن ما دنسوه وطهر
جار الخليل ومن بغزة هاشم ... بلهامك الْمُتَدَمْشق المتمصر
بعرمرم صلمت وعاوعه عرى ... أسماع جيحون وسيف البربر
يفتر عن ملك الملوك منحل ال ... أنواء، بل سعد السعود الأكبر
عن طاعن الفرسان غير مكذب ... ومتمم الإحسان غير مكدر
بدرالجحافل والمحافل، فارس الآ ... ساد في غاب الوشيج الأسمر
ملك تساوي الناس في أوصافه ... غذر المقل وبان عجز المكثر
يأيها الملك المنادي جوده ... في سائر الآفاق: هل من مُعسر
إن القصائد أصبحت أبكارها ... في ظل ملكك غاليات الأمهر
إن كنت أحييت ابن حمدان لها ... فأنا الذي غبرت في وجه السرى
ولأنت أكرم من أناس نوّهوا ... باسم ابن وستخصوا البحترى
ذلت لدوتك الرقاب، ولا تزل ... إن تَغْزُ فُتغنم، أو تقاتل تظفر
وكتب إليه من حماة أيضا، وهو محاصر دمشق، ينال فيها من صاحبها منها:
أبوك أب ركان للناس كلهم ... أبا ورضوا وطء النجوم لفندوا
وما مات حتى سد، ثلمة ملكه ... بك الله، ترمى ما رماه فتصرد
صدمت ابن ذي الّلغدين فانحل عقده ... وكالسلك قد أمسى يحل ويعقد
يقلب خلف السّجف عينا سخينة ... ويبكى بأخرى ذات شتر ويسهد
ولا غَرْوَ، قد أبقى أبوه وجده ... له كل يوم ثوب عجز يجدد
فيارا كبا إما عرضت فبلغن ... يبوتا على جَيْرُون بالذّلّ تعمد
وقل لمبير الدين وهو مجيره ... بزعم له وجه الحقيقة ازبد
حملت الصليب باغيا، ونبذته ... وثغرك مطووس النبات وأدرد
وحاربت حزب الله، والله ناصر ... لناصره، ودين أحمد أحمدُ
تنصرت حينا، والبلاء موكل ... ولابُد من يوم به تتهوّد

وأقسم ماذاق اليهود بإيليا ... وموضعها من بختنصر أسود
كبعض الذي جرعته فسرطته ... وايد فيه من عماك المؤيد
ولايته عزل إليك موجه ... وتصحيفه قتل عليك مؤبد
رماك باقلاّ دمشق، فلم تكن ... سوى بقلة حمقاء، بالحق تحصد
وجالدت جَلاّدًّ وأنت مؤنث ... تذكرت، والجلاد أدهى وأجلد
تطاولت لانفس تسمى ولا أب ... وراءك زحفا، إنما أنت مقعد
أمسعاة نور الدين تبغى ودونها ال ... أسنة بُتر والعوامل تعضد!
بمخمود المحمود سيفا وساعدا ... حملت لقد ناجتك صما مؤيد
وهل يستوي سار تأمد طاويا ... ونشوان يُعْلَى معصما ويؤيد
تنصرت أما، بل تمجَّسْت والدًا ... وعمًّا، فعِرق الكفرفيك مردد
تخذت بني الصوفي أسراً واسرة ... لكي يصلحوا مافي يديك فأفسدوا
لعمرى لَنِعْم العبد أنت، تجيعه ال ... موالى وتوليه هواناً فيحمد
إليكم بني العلاّت عن متُشاوس ... له الشام مرفا والعراق مرفد
وما مصر إلا بعض أمصاره التي ... إلى أمره تسعى قماءً وتَحفد
انيبوا إليه فهو أرحم قادرٍ ... له الصفح دينٌ واقبلوا النصح تَرْشُدوا
ولا ترشفوا نفث المؤيد إنه ... عن الخير يزوي أو إلى المْين يسند
وفرّوا إلى مولاكم والذي له ... عليكم أياد وَسْمُها ليس يجحد
ولا تكفروه، إنما أنتم له ... ومنه، ويوم عند حوران يشهد
غداة على الجولان جول، وللظبا ... رُعود، فربص الموت منهنّ يرعد
ولما اكفهر اليوم واربد وجهه ... وعوّذ مرهون وفر مزيد
وأيقن من بين السُّدَيْر وجاسم ... بأن الجرار السود بالجرد تجرد
رَدَتهم على بصرى وصرخد خيله ... وقد أبصرت بصرى رَداها وصرخد
وطاروا تهز المرهفات طِلابهم ... كما انصاع من أسد نعام مشرد
وليلة ألقى الشرك. بالمرج بركهُ ... ومارج نيران الوغى تتوقد
رمى وأخوه مغرب الشمس دونكم ... بمشرقها غضبان يعْدو ويسئد
فمذ وردت ماء الأرنط مُغِذَّةً ... أثارت بثَوْرَا غة ليس تبرد
أيا سيف شامته يد الملك صارما ... فيمهد إذ يسرى، ويسرى فيهمد
دمشقَ دمشقَ: إنما القدس سرحة ... مركزها صرح عليها ممرّد
حموها لكي يحهوا وقد بلغ المدى ... بهم أجل حتم وعمر محدّد
متى أنارَاءٍ طائر فتح صادجا ... يرفرف في أرجائها ويغرد؟!
وله، من قصيدة أخرى:
نذرك بالغوطتين قد ضمنت ... ربوتها ربعه مقراها
أطلع لها الشمس، من جبينك لم ... ترج سواها في النوم جفناها
فالخيل صور إلى تساهم سهمي ... ها وملهى في بيت لهياها
دولة من دانت البلاد له ... وعمّها ظلّه فأغناها
لاَ بِسِواها تليق بهجتها ولا سواه تبغى رعاياها

قال أبر يعلى: وفى عاشر المحرم نزلت أوائل عسكر نور الدين على أرض عذراء من عمل دمشق وما والاها. وفي الغد قصد فريق وافر منهم ناحية السهم والنيرب؛ وكمنوا عند الجبل لعسكر، دمشق. فلما خرج منها إليهم أسرع النذير إليهم فحذرهم وقد ظهر الكمين، فانهزموا إلى البلد. وفي الغد نزل نور الدين بعسكره على عيون فاسريا بين عذراء ودومة، وامتدوا إلى تلك الجهات، ونزلوا من الغد في أراضي حجيرا وراو ية في الخلق الكثير والجم الغفير، وانبثت أيدى المفسدين من العكر الدمشقي والأوباش، من أهل العيث والفساد، في زروع الناس، فحصدوها، وفي الثمار فأفنوها، بلا مانع ولا دافع. وتحرك السعر وانقطعت السابلة، ووقع التأهب للحصار. ووافت رسل نور الدين إلى ولاة البلد يقول: أناما أوثر إلاّ صلاح أمر المسلمين، وجهاد المشركين، وخلاص من في أيديهم من الأسارى. فإن ظهرتم معي في عسكر دمشق وتعاضدنا على الجهاد، فذلك المراد. فلم يعد الجواب إليه بما يرضاه، فنزل في أرض مسجد القدم وما والاه من الشرق والغرب، و بلغ منتهى الخيم إلى المسجد الجديد قبلى البلد. قلت: هو الذي يسمى في زماننا بمقبرة المعتمد، بين مسجد القدم ومسجد فلوس. فال: وهذا منزل ما نزله أحد من مقدمى العساكر فيما سلف من السنين. وأهمل الزحف إلى البلد إشفاقا من قتل النفوس. ووصلت الأخبار باحتشاد الفرنج واجتماعهم لإنجاد أهل دمشق، فضاقت صدور أهل الصلاح، وزاد إنكارهم لمثل هده الأحوال المنكرة؛ والمناوشات في كل يوم متصلة من غير مزاحمة ولا محاربة. فلم يزل ذلك إلى ثالث عشر صفر؛ فرحل العسكر النورى من هذه المنزلة ونزل في أراضي فذايا وحلفبلتين والخامسين المصاقبة للبلد، وما عرف فى قديم الزمان من أقدم على الدنو منها. ثم رحل في العشرين من صفر إلى ناحية دَارَايّا لتواصل الإرجاف بقرب عساكر الإفرنج من البلد لقوة عزمه على لقائهم. وصار العسكر النورى في عدد لا يحصى، وفي كل يوم يزداد بما يتواصل من الجهات وطوائف التركمان. ونور الدين هذه الحال لا يأذن لأحد من عسكره في التسرع إلى قتال أحد من المسلمين؛ وكانوا، يعني أهل البلد، يحملهم الجهل والغرور، على التسرع والظهور، ولا يعودون إلا خاسرين مغلولين. وأقام على هذه الصورة، ثم رحل إلى ناحية الأعوج لقرب عسكر الإفرنج وعزمهم على قصده. واقتضى رأيه الرحيل إلى جهة الزبداني اسجراراً لهم. وأفرق من عسكره فريقاً يناهز أربعة آلاف فارس مع جمإعة من المقدمين، ليكونوا في أعمال حَوْرَان مع العرب لقصد الإفرنج ولقائهم، وترقبا لوصولهم، وخروج العسكر الدمشقي إليهم، واجتماعهم بهم، ثم يقاطع عليهم. واتفق أن عسكر الفرنج رحل عقيب رحيله إلى الأعوج، ونزل به في ثالث ربيع الأول، ودخل منهم خلق كثير إلى البلد لقضاء حوائجهم. وخرج مجير الدين ومؤيد الدين في خواصهما وجماعة وافرة من الرعية، واجتمعوا بملكهم وخواصه، وما صادفا نحده شيئا مما هجس في النفوس من كثرة ولا وقوة. وتقرر بينهم النزول بالعسكرين على حصن بصرى لتملكه واستغلال اعماله. ثم رحل عسكر الإفرنج إلى رأس الماء، ولم يتهيأ خروج العسكر الدمشقي إليهم، لعجزهم واختلافهم. وقصد من كان بحوران من العسكر النوري، ومن انضاف إليهم من العرب في خلق كثير، ناحية الإفرنج للايقاع بهم والنكاية فبهم. والتجأ عسكر الإفرنج إلى لجأة حوران الاعتصام بها، ونمى الخبر إلى نور الدين فرحل ونزل على عين الجر من البقاع، عائدا إلى دمشق، وطالبا قصد الفرنج والعسكر الدمشقي. وكان الإقرنج حين اجتمعوا مع العسكر الدمشقي قد قصدوا بصرى لمضايقتها ومحاربتها فلم يتهيا ذلك لهم، وظهر إليهم سرخاك واليها في رجاله، وعادوا عنها خاسرين. وانكفأ عسكر الإفرنج إلى أعماله، وراسلوا مجير الدين ومؤيده يلتمسون باقي القطيعة المبذولة لهم على ترحيل نور الدين عن دمشق، وقالوا لولا نحن نَدفعه ما رحل عنكم.

قال أبو يعلى: وفي هذه الأيام ورد الخبر بوصول الأسطول المصري إلى ثغور الساحل في غايٍة من القوة، وكثرة من العِدّة والعُدّة. وذكر أن عدة مراكبه سبعون مركبا حربية مشحنة بالرّجال، ولم يخرج مثله في السنين الخالية؛ وقد أنفق عليه فيما حكى وقرب ثلثمائة ألف دينار، وقرب من يافا من ثغور لإفرنج، فقتلوا وأسروا وأحرقوا ما ظفروا به، واستولوا على عدة وافرة من مراكب الروم والإفرنج. ثم قصدوا ثغر عكا ففعلوا فيه مثل ذلك؛ وحصل في أيديهم عدة وافرة من المراكب الحربية الفرنجية؛ وقتلوا من حجّاجهم وغيرهم خلقا عظيما. وقصدوا ثغر صيدا وبيروت وطرابلس، وفعلوا في الكل مثل ذلك. ووعد نور الدين بمسيره إلى ناحية الأسطول المذكور لإعانته على تدويخ الفرنجية. فاتفق اشتغاله بامر دمشق وعوده إليها لمضايقتها. وحدث نفسه بملكها، لعلمه بضعفها، وميل الأجناد والرعية إليه، و إشارتهم لولايته وعدله.
قال: وذكر أن نور الدين أمر بعرض عسكره فبلغ كمال ثلاثين ألفاً مقاتلةً. ثم رحل ونزل بالدلهمية من عمل البقاع، ثم نزل، بأرض كوكبا غربي دارَيّا، ثم نزل بارض دارَيّا إلى جسر الخشب، ونودى في البلد بخروج الأجناد والأحداث إليه، فلم يظهر منهم إلا اليسير ممن كان يخرج أولا. ثم تقدم ونزل القطيعه وما والاها ودنا منها بحث قرب من البلد، ووقعت المناوشة بين الفريقين من غير زحف ولا شد في محاربة، تحرجا من قتل المسلمين، وقال لاحاجة إلى قتل المسلمين بايدى بعضهم بضعا، وأنا أرفُههم ليكون بذل نفوسهم. في مجاهدة المشركين.
قال: وورد الخبر إلى نور الدين بتسلم نائبه الأمير حسن المنبيى مدينة تل باشر بالأمان في الخامس والعشرين من ربيع الأول، وورد مع المبشر جماعة من أعيان تل باشر لتقرير الأحوال. وترددت المرسلات في عقد الصلح ثم أهل دمشق على شررط واقتراحات، وتردد فيها الفقيه برهان الدين على البلخي والأمير أسد الدين سيركوه، وأخوه نجم الدين أيوب. وتقارب الأمر في ذلك إلى أن استقرت الحال على قبول الشروط المقترحة ووقعت الأيمان من الجهتين على ذالك والرضا به في عاشر ربيع الآخر. ثم رحل نور الدين من الغد طالبا ناحية بصرى للنزول عليها، والتمس من دمشق ما تدعو إليه الحاجة من آلات الحرب، لأن واليها سرخاك كان قد شاع خلافه وعصيانه، ومال إلى الإفرنج فاعتضد بهم؛ فأنكر نور الدين ذالك عليه وأنهض إليه فريقا وافراً من عسكره.
قلت: ولابن منير في نور الدين يذكر وقعة الجولان وغيرها قصيدة أولها:
ما برقت بيضك في غمامها ... إلا وغيث الدين لابتسامها
يقول فيها: محمود المحمود جدا وجداً أرخص جلد الأرض حكم عامها
ملك أزال الرّوم عن صلبابها ... دفاعُه وكبَّ من أصنامها
جال على الجولان أمس جولة ... صفّرت الأدحىّ من نعامها
والجون قد جرعها أجونه ... وفَلّ مشحوذاً من اعتزامها
وشد في القد له مليكها ... قود عتود القوط في شبامها
وفي الرّها صابت له سحابة ... صاروا جُفَاء خف في التطامها
وهب في هاب له عواصف ... تجهمتها الهفّ من جهامها
كفرُ لاَثا لاث في جبينهالثم ظبا أبت على أشامها
وقائع يرفضُّ تحت وقعها ... نظم الثريا في فضا مصامها
فساعة البيض إذا عدّدها ... سوط عذاب صب في أيامها
وَاعجبا لعُصب الشرك التي ... لم يصعب الرشد على أحلامها
حكمة استواؤها في غيّها ... في نقص ما أحصد من إبرامها
مظفر الرّايات والرأي والرأى إذا ... الحربُ مشت تعثر في خطامها
عدت به حد العلاءهمهن النجوم أو نواصي هامها
جلت له الدنيا على زبرْجها ... عفوا فلم تلو على خطامها
رأته وهو اللّيث يدمى ظفره ... أنفذ في المشاكل من حكامها
فتوّجتْه العزّ في في مرتبة ... تمنطق الجوزاء في نظامها
غضبان للإسلام لا يغيظه اسْ ... تسلامها للقسر من إسلامها
خط على مثل أب طاعت له الْ ... آفاق واستشرف لاغتشامها

تصرف الذّنيا على إيثاره ... عراقَها مُستردفا بشامها
لو لم يكن دون منى فات المنى ... واقعد الفائز من قوامها
وامتك ماء مكة رواضع ... يقصر باع الدّهر ش فطامها
وصار كالجمر الجمار وخلا ... من أهله الأشرف من مقامها
ودونها لازلت ترقى في حمى ... من مؤلم الأرواء أو لمامها
تُلْبس بيت الله وشى يَمَن ... يقرأ آياتك من أعلامها
فإنما الدّين رحى قطّبتَها ... وبازل مُكّنت من زمامها
أمّت بنا الآمال منك كعبة ... سلم الليالى آية استسلامها
وأرشفَتنا بك ثغر نعمة ... لانسال الله سوى دوامها
وقال أيضاً يمدحه:
بجدك أصحب الجد الحزون ... وأطلع فجره الفتح المبين
وفي كنفيك سولمت الليالي ... وفارق طبعه الزمن الخؤون
ومنك تعلم القطع المواضي ... وقد زبنت بها الحرب الزّبون
وأنت السيف لم تمسه نار ... ولا شحذت مضاربه القيون
ترَقْرقُ فوق صفحته الأماني ... ويقطر من غراريه المنون
وقبلك ما سمعت بذى فقار ... يبُير الفقر كان ولا يمكن
ولا غيث سماوته سرير ... ولا ليث وسادته عرين
ولا قمر له الهيجاء هال ... ولاتاج له الدنيا جبين
جُبلتَ ندى وعفواً وانتقاما ... وماءُ كلُّ مجبول وطين
وملكك عمم الأقطار قَطْراً ... فأمرعت الأواعث والحزون
تَلألأ تحته غررُ الليالي ... إذا الأيام عند سواك جون
وأنت أقمت للجدوى مناراً ... يبين لشائميه ولا يبين
وعندك مشرب النّعمى زلال ... إذا عبقت مشاربها الأجون
تحكم في عطائك كل عاط ... وقد شيدت من الُمنع الحصون
لقد أشعرت دين الله عزا ... تتيه له المشاعر والحجون
وقام بنصره والناس فوضى ... قوى منك في الجلى أمين.
رجعت ملوكهم وهم خيوف ... أسير في صفادك أو كنين
فبرنست البرنس لفاع خسف ... وجُرّع مرّ جوسك جوسلين
إذا ما الفعل عُلَّ تلاه حذف ... يتاح لمنتهاهُ أو سكون
غنوا حتى غزوتهم فغنى الصَّ ... دى في أرضهم حف القطين
وكم عبر الصليب بهم صليبا ... فردته قناك وفيه لين
وما خطرت بدار الشّرك إلا ... هوى الناقوس وارتفع الأذين
ملأت عظام ساحِهُم عظاما ... فكل ملأ لقوك به جرين
بإنب في القنا تجرى تجيعا ... كأن عيون أكعُبِها عيون
وبين حِرار صرخد ذُبْنَ حَرًّا ... له في كل حبحبة كمين
وَفين من العُرَيْمة في عَرام ... له في جونها الأقصى وجون
وكم حرم لحارم غادرته ... ودارته لمنسفها درين
وفي شعراء قُورُس صغن شعرا ... تدار على غراريه اللجون
وقائع صِرْن في صنعاء طيرا ... يوقعها على عدن عدون
نماك أب إذا عد انتسابا ... تراقي مصعدا والناس دون
شِمالاً كان أملاك البرايا ... وقد قيسوا به وهو اليمين
قضى وقضاؤه في اللأرض حتم ... وطاعة أهلها لبنيه دين
لهذا اليوم تُنشخب القوافي ... ويذخر نفسه الدُّرُّ المصون
ونحن أحق منك بأن نهنا ... إذا قرّت برؤَيِتك العيون
سلمت لنا، فإئا كلُّ صعب ... نوازيه بأن تبقى يهون
ترابطنا بعقوتك التهاتي ويغبطنا بدولتك القرون
فل في باقي حوادث هذه السنة

قال أبو يعلى: وورد الخبر من ناحية ديار مصر بأن أهل دمياط حدث فيهم فناء ما عهد مثله في حديث ولا قديم، بحيث أحصى المففود منهم في سنة خمس واربعين فبلغ سبعة آلف شخص، وفي سنة ست وأربعين مثلهم، فصار الجميع اربعة عشر ألفا. وخلت دور كثيرة من أهلها، وبقيت مغلقة لا ساكن فيها ولا طالب لها.
قال،: وفيها في ثاني جمادى الآخرة توفى القاضي السديد الخطيب أبو الحسين ابن أبى الحديد خطيب دمشق، وكان خطيبا بليغا صيِّتا عفيفا، ولم يكن له من يقوم مقامه في منصبه سوى أبى الحسن الفضل، ولد ولده، وهو حدث السن، فنصب مكانه وخطب وصلى بالناس، واستمر الأمر له ومضى فيه.
قال: ووردت الحكايات بحدوث زلزلة وأفت الليلة الثالثة عشرة من جمادى الاخرة اهتزت الأرض لها ثلاث رجفات في أعمال بُصرى وحَوْران وما والاها من سائر الجهات، وهدمت عدّة وافرة من حيطان المنازل ببصرى وغيرها، ثم سكنت بقدرة من حركها سبحانه وتعالى.
قال: وفي ثاني عشر رجب توجه مجير الدين صاحب دمشق إلى حلب في خواصه ووصل إليها، ودخل على نور الدين صاحبها فأكرمه، وبالغ في الفعل الجميل في حقه، وقرر معه تقريرات اقترحها عليه بعد أن بذل له الطاعة وحسن النيابة عنه في دمشق، ورجع إلى دمشق مسروراً سادس شعبان.
قلت: وفي ذلك يقول القيسراني:
وفت لك الدنيا بميعادها ... ياذلة أفلاذ أكبادها
وأوفدت غرّ سلاطينها ... عليك في همة أنجادها
تبغى سناء اقصدت قصده ... طائعة طاعة أجنهادها
خاضعة تعتد أعمارها ... يوم التلاقي يوم ميلادها
شامت دمشق بك بَرْق العلا ... فأرسلت أصدق روّادها
رأتك نور الدين نار الهدى ... قد أشرق الأفق بإقادها
فيممت منك حيا مزنة ... بيض الأيادي ورد ورّادها
فاسأل مجير الدين عن خُبره ... أوردها محمود إيرادها
تبوأت من عزها ة قبة ... سُمر القنا أطناب أوتادها
تنافس الناس على دولة ... فت بها أعين حسادها
يغدو المعُادي كالموالى لها ... فوالها إن شئت أو عادِها
يا ملكا تُزههى بأسمائه ... منابر تسمو بأعوادها
وتأخذ السماع أوصافه ... عن جُمع الدنيا وأعيادها
كمْ للمعالي فيك من رغبةٍ ... تفنى الأماني دُون تعدادها
لك المساعي الغر، ياجا معاً ... من طرفيها بين أضدادها
يغْشى الوغى أفرس فرسانها ... وفي التقى أزْهد زهادها
فأنت نُسْكاً غيث أبدالها ... وأنت فتكا ليث آسادها
في أمّة أنت حِمَى دِينها ... حينا،وحينا شمس عبادها
يطوى بك العمرُ إلى غايةٍ ... حسُبك تقوى الله من زادها
هذا، وَكم مِنْ سسنةٍ بدعةٍ ... أعدمْتها من بعد إيجادها
مآثرٌ لو عَدِمت راوياً ... تكفَّل النّظم بإسنادها
قال أبو يعلى: وفي أواخر شعبان أغار بعض التّركمان على ظاهر بانياس، فخرج إليهم واليها من الإفرنج في أصحابه، وظهر التركمان عليهم فقتلوا وأسروا. وفي رمضان قصد بعض الفرنج ناحية من البقاع وأغاروا، فأنهض إليهم والى بعلبك رجاله، فلحِقُوهم وقد أرسل الله عليهم من الثلوج المتداركة ما ثبطّهم؛ فاستخلصوامنهم الغنيمة.
قلت: والى بعلبك هذا هو نجم الدين أيّوب، والد صلاح الدّين يوسف.

قال ابن أبي طي: في سنة ست واربعين أغار التركمان على بانياس، فخرج أهل بانياس من الفرنج، واستنقذوا ما أخذو؛ فعاد التركمان عليهم فكسروهم واتصل ذلك بصاحب دمشق فأغضبه فعل التركمان لِمَكان الهُدنة المنعقدة بينه وبين الفرنج؛ فأنفذ عسكراً إلى التركمان استعاد منهم ما أخذوه. واتصل خبر التركمان بالفرنج فجيشوا وخرجوا في جيش عظيم، وشنوا الغارة على البقاع والناس غافلون؛ فامتلأت أيديهم من الغَنائم والأسارى. واتصل خبر غارة الفرنج بنجم الدين أيوب وهو في بعلبك وعنده جماعة من عسكر دمشق وأصحابه، فقدم عليهم ولد شمس الدولة، فخرج وأوقع بالفرنج. واتفق أنه كان قد أصاب الفرنج ثلج عظيم فهلك أكثرهم، وجاء شمس الدّولة وهم متورّطون فقتل فيهم مقْتَلةً عظيمة، وخلص من كان عند الفرنج من الأسارى.
قال: وفى هذه السنة فارق صلاح الدين والدَه، وصار إلى خدمة عمه أسد الدين، بحلب، فقدّمه بين يدىْ نور الدّين، فقبله وأقطعه إقطاعاً حسناً.
قال أبو يغلى: وفي ثاني شوّال، وهو الثّاني من شباط، وافت قُبيل الظهر زلزلة اهتزت لها الأرض ثلاث هزّات هائلة، وتحركت الدور والجُدران، ثم سكنت.
قلت: وفي هذه السنة، في غرة جمادى الأولى، كتب أحمد بن منير من حماة إلى نورالدين قصيدة يهنئه بوصول الخلع إليه من بغداد من عند الخليفة، على يد الشيخ شرف الدين ابن أبى عصرون، ويصف الفرس الأصفر، الأسود القوائم والمعارف، والسّيف العربيّ. أولها:
لِعَلائك التّأييدُ والتأميل ... ولمُلكك التّأبيد والتّكميل
أبداً تهم وتقتفى، فتنال ما ... عز الورى إدراكُه، وتُنيل
إما كتاب يستقل به الكتا ... ئب، أو رسول للنجاح رسيل
لك من أبى سعد زعيم سعادة ... قمن تفاءل فيك ليس يفيل
نعم الحسامُ، جلوته وبلوته يرضيك حين يصل ثم يصول
سهم تُعّود في الكنانة عودُه ... ويقصّر المطلوب وهو طويل
سددته فمضى وقرطس صادراً ... كالنّجم، لاوَهْلٌ وَلاَ تهليل
فثنا القلوب إلى ولائك حُوَّلٌ ... منه بكا يجنى رضاك كفيل
وأقام ينشر في العراق ودجلةٍ ... آياً تأولها لمصر النّيل
وكساك من رأى الخليفة جبة ... لا النّقص يُوهيها ولا التقليل
كنت الشريف، أفضت في تشريفه ... ماء عليه من سَناك دليل
ألِيُوسف لما طلعت مقرطقا ... طمئت حصانٌ واستخف أبيل
أم عن سليمان يفرج ضاحكاً ... سجف الرواق وضعضع الكّيول
ومُملّكٌ في السرّج، أم ملك سطت ... لبهائه عقلٌ وتاه عقول!
وبرزت في لبس الخلافة كالهلا ... ل، جلاه في حلل الدجا التهليل
خِلَعٌ خَلعْن عل القلوب مسرّةً ... سد كاتها التعظيم والتَّبْجيل
نثرت نُضاراً جامدا أعلامها ... وتكاد تجرى رقة وتسسل
لقضى لها أن لا عديل لِفَخرها ... رب براك فما تلاك عديل
أنت المهَّند، مُنذ سَّلتْهُ العُلا ... لم يخلُ من مهج عليه تسيل
مذهر قائمَهُ الإمامُ تألقت ... غررٌ شُدخن لمُلكه وحجول
والَيْت دولَته فتِهتَ بدولةٍ ... متُكلل بصعيدها الإكليل
ونصرتَهُ، فحَلاك أبيض، دونه ... صَرْف الزمان إذا استكل كليل
قُلِّدتَه، وكِلاَ كما مُتَلَهْذِمٌ ... عَضْب، فَزَانَ المغمد المسلولُ
وحَبار كابك حين قرّ بزحفه ال ... قرآن واستخْذَى لهُ الإنجيل
بأَقب أصفر مشرف الهادي، له الت ... حجيل لون واللّما تحجيل
قسم الدجابين الغدائر والشوى ... واعْنام رونقَه الأصيلَ أصيل
وتقاسم الراؤُوه تحتك إنه ... حيزوم يصرف عطفُه جبريل
تختال في حبك الحُلىّ مخيلا ... أن الشّوامخ للبدور خيول

مُرْخَى الذوائب كالعروس، يزينُه ... طرف بأطراف الرّماح كحيل
تتصاعق النعرات تحت لبانه ... إن شب زفْرٌ واستجشَّ صهيل
لم يَحْبُ مثلك مثله مُهد، ولم ... يشلل على سرق سواه شليل
وأنشده في هذه السّنة أيضاً بحمص قصيدة منها:
الدّهر أنت، ودارُك الدُّنْيا، ومَنَ ... في العَدِّ بعدُ مؤمِّل وحَسُود
وأزمَّةُ الأقدار طوعُ يديك، وال ... أيامُ جندُك، والأنام عبيد
فُتَّ الورى، وعقدت ناصية المدى ... بذمرّ الشعري، فأين تريد؟!
تال أباك، فهل سليمانٌ يُرى ... في الدَّست مهد مُلكه داود
جَلَّى وسُدْتَ مصلِّيًا،لايرفع ال ... معدُومُ ما لم يشفع المدجود
لم يخُترم جدٌّ نماك ولا أب ... إن النباهة في الخليف خلود
شمخت منارُك في اليفاع، وأمها ... من لم يسُدْ، فَأَرتْه كيف يسود
وهَبَبْت للإسلام وهو مصوّح ... فاهتز أهضاب ورقّ نجود
وفثأت جمرة صالميه بصيلم ... نَصَع الأجنةَ يومُها المشهود
خطمتهم فوق الخطيم لوافح ... نفس الأرين لوأرهنّ برود
ورُمُوا على الجولان منك بجولة ... توئيدها نسر الضلال وثيد
وَلَحَا عظامهم بِعَرْقةَ عارق ... ما زلتَ تمحض جوّه فتجود
وشللت بالرّوح السروج وفوقها ... زرعٌ تحصدُه الرماح حصيد
وعلى عنوْا وثل عروشهم ... ملك مقيد من عصاه مقيد
وَبِتَلِّ باشِرَ باشُروك فعافسوا ... أهب الأساود حشوهنّ أسود
أوْدَوْا كما أوْدى بِعادٍ غَيَّها ... وعقوا كما استغوى الفصيل ثمود
إن آلموا عقراً فإنك صالح ... أو آلموا غدراً فإنك هود
وزَّعتهم، فبكُلّ مهِبط تَلْعَةٍ ... خدٌّ به من وازع أخدود
وعصبتهم بعصائب ملء الملا ... شَتَّى، وإن خل البسالة عو
آثارها محمودة، وأثارها ... مشهودة، وشعارها محمود
لَبست من سمك في الكريهة ملبسا ... يَبْلَى جديدُ الدّهر وهو جديد
وقصيرة الآجال طول باعها ... بوع يسامي هامها وقدود
مطرورة الأسلاب مُذ هزَّعتها ... تاه الهدى وتبخَتَر التّوحيد
أشرعتها، فعلي شريعة أحمد ... مما جنته بوارق وعقود
ولكم نثرت نطيمها في موقف ... تغريد صالى حره التغريد
يجلو سناك ظلامَهُ، ويحل ما ... قدت قناهُ لواؤك المعقود
في هبوة زحم السماء رواقُها ... والأرض ترجُف تحته وتَميد
ضربت مُخَيَّمها، فكان كُمَاتُها ... أو تادَهُ القُصوى وأنْت عمود
في كل، يوم من فتوحك صادِحٌ ... هزِجُ الغِناء، وطائرٌ غِرِّيد
تهدى لعانة كأسه فرغانة ... وتسيع زبدة ما شداه زبيد
فغِرار سيفك للأحابش محبس ... ومُثار نقعك للصعيد صعيد
لا تَعْدَ من هذا المقلد أمنة ... مُلقى إليه لرعْيها القليد
الورد قمور، والمسارح رَحبةٌ ... والرّفْد مد، والظّلال مديد
والعيش أبلجُ مشرق القَسَمات، وال ... أشجار غرٌّ، والأصَائِل غيد
والملك مدود الرّواق، منور ال ... آفاق، وضاء المنى، محسود
في دولة مُذْ هَبّ نشر ربيعها ... نُشِر الرَفاتُ وأثمر الجُلمود
محمودة الآثار، محمودية ... كل المواسم عندها تعييد
وقال يهنئه بليلة الميلاد ويصف النازلين في الجبل من قلعة حلب قصيدة منها:

هُنيت روزى فذاك صومك وال - ميلاد جا والعيد في نسق
فذاك أنحلت فيه كل يد ... وذاك أخملت فيه كل نقي
وجه كصدر الحسام تصبُوله ال ... عَيْن وينقد القلب من فَرَق
ومقلة شوقها ليَقْظتها ... شوقٌ لحسّادها إلى الأرق
ومُرتقًى تَعْجبُ السماء له ... إذا استطالت إليه: كيف رُقى
توّجت شهباءَها بمُشرقة ... مشرقة شهْبُها على الأفُق
جوّتهاوى منه كوكبه ... طرفه طرف رجوم مُسترق
فوارس تذْهلُ الفوارس أن ... تهافتت من أرشاقها الرّشق
من راكضٍ في الهواء أهوى من ال ... فتح مجر من تحته لبق
شاو من الخصر لو تحاوله ال ... خُضر لزلت عن موطئ رُلَق
يقول من دينه الفروسة: ما ... لاقك إلا ضرب من الإلق
بَدائعٌ تغبط السماء بها ال ... أرض وتُذكى الإشفاق في الشفق
في دولة جمعت إيالتها ... من بدد الحسن كل مفترق
تَزَّر أطواقُها على ملِك ... مكتفلٍ رزقَ كلّ مرتزق
محمود اسماً وَميسما وندى ... واعتصب الدم كل مرتفق
طبّق طوفانُه، فلسْت ترى ... إلا مغيثا مشفٍ على غرق
مابحرُ، لاَ خلق تدعى شبها ... فات المدى ما حَويتَ من خُلُق
ملكك هذا الذي تملأه ... صباه يجرى والدهر في طلق
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وخمسمائةقال أبو يعلى: وورد الخبر في المحرم بنزول نور الدين على حِصْن أنطرسوس في عسكره وافتتاحه له وقتل من كان فيه من الإفرنج. وطلب الباقون الأمان على النفوس فأجيبوا إلى ذلك؛ ورتب فيه الحفظة، وعاد عنه، وملك عدّة من الحصون بالسبي والسيف والإخراب والإحراق والأمان قال: وورد أيضا ظفر رجال عسقلان بالإفرنج المجاورين لهم بغَزة، بحيث هلك منهم العدد الكثير وانهزم الباقون.
قلت: وقرأت في ديوان ابن منير يمدح نور الدين ويهنّئُه بفتح أنطرسوس ويحمور وعوْده عنهما قصيدة منها:
أبداً تباشر وجه غزوك ضاحكا ... وتؤوب منه مؤيداً منصورا
تدني لك الأمل البعيدَ سَوَاهِمٌ ... محقت أهلتها وَكُنّ بدورا
مثل السهام، لو ابتغى ذو أرْبع ... في الجؤ مُطلباً لكن طيورا
نبذت علائقها بحمص وأعلقت ... سحراً بمعرق عرقه الأضفورا
وعَدوْن صافيثاء لاح شوارها ... قد أتلعت عُنقاً إليك مشيرا
القلب أنت، فإن تعامى عن هدى ... عُضْوٌ أهَابَ بِه فعاد بصيرا
عرفوا مكانك والظهيرة بينهم ... يغُرى بياض أديمها الديجورا
أين الذّبالُ من الغزالة، أشرقت ... وجهاً وطبَّقت البسيطة نورا
غضبانُ اقسم لا يَشيم حسامه ... والارض تحعل في الكُفور كَفورا
غسل العواصم أمس من أدرانهم ... واليوم رد به السواحل بورا
لم يُبْقِ بين الحولتين وآميد ... وثراً لِمُضْطغنٍ، ولاَ مَوتورا
أخلى ديار الشرك من أوثانها ... حتى غدا ثلوثُهن نكيرا
رفع القصور على نضَائد هامِهِم ... من بعد ما جعل القصور قبورا
بشواحِب الألياط تقطو في الظَّلا ... م قطاً، وتهوى في الصباح نشورا
غادرت أنطرسوس كالطرس امحى ... رسماً وحّمر درعها يحمورا
وهي الرماد لفتنة كانت عل ال ... إسلام أحكم كسره إكسيرا
هتمت طرابلسا فأصبح ثغرها ال ... بَسامُ من الثُّغور ثَغِيرا
إقليدها كانت وقد أنطيته ... واسأل به ممن دهَتْه خبيرا
إن الأولى أمنوا وقاعك بعدها ... غُروا وقد ركبوا الأغَرّ غرورا

ألق العصا فيمن أطاع، ومن عصى ... منهم، ودمرْ أرضهم تذميرا
لا يُلهِهِم أن قد مَنَنْتَ، وشنها ... شعواء تُصلى الكافرين سعيرا
باكر برَكز قناً تُنسّف أسها ... والخيل صوّر كي تزُيرك صُورا
وتُريك لامعة التريك بساحة ال ... أقصى مُطهرة لها تطهيرا
أولَستَ من قوم إذا هزموا القنا ... فتلوا معاصمهم لها تسويرا!
وإذا هم خطبوا اليراع عزيزة ... ساقوا الشفار على المهار مهورا
الق قسيماهم إليك أزمَّة ال ... مُلك المطل على السُّها تأثيرا
ضحكت لك الأيام، واكتاب العدا ... قلقاً، فجئت مبشراً ونذيرا
لامُلك إلاّ ملكُ حمود الّذي ... تَخِذَ الكتاب مُظاهراً ووزيرا
تمشى وراء حدوده أحكامُه ... تأتمُّهن فيحكم التقديرا
يقظان، ينشر عدله في دولةٍ ... جاءت لِمَطْوِىَّ السّماح نُشورا
خلف الخلائف قائماً عنهم بما ... عَيُّوا به، ألْوى، الدَّ، غيورا
البرّ، والمعصوم، والمهدى، وال ... مأمون، والسفاح، والمنصورا
بشروابه به فعهودهم وعهادهم ... يَمْتَحن تحت لوائه منشورا
وأنشده بحلب في هذه السنة قصيدة أوّلها:
المجدُ ما ادّرعت ثراك هضابُه ... وتثقفتك شعوبه وشعابه
ملك تكنّفَ دين أحمد كنه فأضاء نِّيرهُ وصاب شهابه
فالعدل حيث تصرّفتْ أحكامه ... والأمن حيث تصرّمَتْ أشرابه
متهلل والموتُ في نبراته ... يُرجى ويرهب خوفه وعقابه
عقد الّلواء وسار يَقدهه، وما ... حلت عقودَ تَميمِها أترابه
أسد، فرائسه الفوارس، والظبا ... أظفاره، والسَّمهرية غابه
طبع الحديد فكان منه جنانه ... وسِنانه، وإهابه، وثيابه
وتهش ان كثب الوجوهُ، كانما ... أعداؤه تحت الوغى أحبابه
نشرت بمحمودٍ شريعة أحمدٍ ... وأرى الصّحابة ما احتذاه صحابه
ما غاب أصلع هاشم فيها ولا ال ... فاروق باء بخطبه خطّابه
أبناء قيلة قائمون بنصره ... إن أجلبت من قاسط أحزابه
صَبَحوا مُحلّقة البرنس يحالق ... حرش الضباب من القلوب ضبابه
ما زال يغلب من بغاه ضلاله ... حتى أتيح من الهدى غلابه
ملق بوحش الأصرمين، تزايلت ... آراؤه وتزايلت آلابه
دون الأرنظ سخت به نجداته ... ونجاده وقِرابه وقُرابه
سلبته دُرّةَ تاجه يدُ ضيغم ... لم تنْجه من بأسه أسلابه
وأتته تجلب جُوسلين جنائبٌ ... هّبت فقلّ إلى القتال هبابه
أسرته لا منعت سراه وعزه ... بالقاع إن رام الورود سرابه
يمشي فيسمعه وقائع قيده ... هزجا تقى دماً له أندابه
لا تل باشره، ولا كيسونه ... صدت منّى عنه ولا عنتابه
ضمنت شقاوته سعادة صافحٍ ... غطى على إعناته إعتابه
ما زال يغدر ثم يغدر قادراً ... حتى أتاه بجامحٍ أصحابه
قصر الأماني أن يملأ عصرك ال ... إسلامُ مضروبا عليه حجابه
مجر يجر إلى الغنائم قَبَّه ... وحمى يزار على الفتوح قبابه
وأنشده بحلب أيضا في شوال من هذه السنة قصيدة منها:
لقد أوطأت دين الله عزَّا ... أديمُ الشعرَيْين له رغام
دعاك وقد تناوشت الرزايا ... له اهًباً يوزعها العذام
فقمت بنصره والنّاس فوضى قيامٌ ذمّ ما اقترفت فئام
جذبت بضْبِعه من قعر يّمٍ ... له من فوق مقسمه التطام
صببت على الصليب صليب بأسٍ ... قواه تحت كلكاه خطام

وملت على معاقلهم فخرت ... ولاء مثل ما انتقض النّظام
بصرخد والخطيم، وفي عزاز ... وقائع هز مشهدها الأنام
ولو لم تعترف وتشم لأمسى ... وأصبح لا عراق ولا شآم
ويوم بالعُرَيْمة كان حتفاً ... على الإشراك أمقره العرام
لُقوك كأن ما سلّوه سيح ... وما اعتقلوه من خور ثمام
وهاب وقُورس وبكفرلاثا ... ذممت وأنت للجلىّ ذمام
صدمتهمُ بأرعنَ مُرجحَنّ ... كأن مطار أنسُره غمام
وأية ليلة لم تلف فيها ... لهم طيفاً يروع به منام
بنور الدين أنشر كل عدل ... تعفت في الثرى منه الرمام
وعاد الحق بعد كلال حدٍ ... حمى من أن تراع له سُوام
تألقّ عدله وذكت سطاه ... فَلاَ حيف يخاف ولا اهتضام
بقأؤك خيرُ ما يرجوه راجٍ ... وأنفع ما يُبلّ به أوام
فصلوفي هذه السنة ولد بحمص نور الدين ابن سماه أحمد، وهنأه به ابن منير في بعض قصائده، ثم توفى بدمشق، وقبره خلف قبر معاوية رضي الله عنه إذا دخل الحظيرة في مقابر الباب الصغير. وقصيدة ابن منير قد تقدم بعضها في أول الكتاب، ومنها في ذكر المولود:
توالت الأعيادُ، لا زلت لها ... تُبلى دبابيج البقاء وتُجِد:
الفطر، والميلاد، والمولود لو ... قابله بدر التّمام لسجد
ثلاثة تعرب عن ثلاثة ... لمثلها يذكر حمداً من حمد:
فتح مبين، وطلاب مُدْرك ... ودولة ما تنتهى إلى أمد
وله من أخر يقول:
وجئت بأحمدٍ فملأت حمداً ... موارد كان معدنُها عذابا
تهلل وجه ملكك يوم أهدت ... قوابلُه لك الملك الّلبابا
شبيهك، لا يغادر منك شيئا ... سَنا، وحيا، و بدلآ، واسْتلابا
قسيم الحمد، إلا أن حرفاً ... من اسمك زاد للمعنى منابا
ألا لله يوم فَرَّ عنه ... وركْبٌ نصّ بالبشرى الرّكابا
قال أبو يعلى: في أواخر صفر توجه مجير الدين في العسكر ومعه مؤيد الدين الوزير إلى ناحية حصن بُصرى، ونزل عليه محاصراً لسرخاك واليه لمخالفته وجَوْره. وأراد مجير الدين المصير إلى حصن صرخد لمشاهدته، فاستأذن مجاهد الدّين واليه في ذلك، فقال له هذا المكان بحكمك، وأنا فيه والٍ من قِبَلِك وأنفذ إلى ولده سيف الدين محمد النائب فيه بإعداد مايحتاج إليه، وتَلَقى مجير الدين بما يجب له. فخرج إليه في أصحابه ومعه المفاتيح، وأخلى الحصن من الرجال، ودخل إليه في خواصه، وسر بذلك مجير الدين وتعجب، وشكره على ذلك. وعاد إلى مُخيَّمه على بُصرى وحاربها عدة أيام إلى أن استقر الصلح والدخول فيما أراد، وعاد إلى دمشق.
قال: وفي شوال توفى الأمير سعد الدولة أبو عبد الله محمد بن الحسن بن الملحى ودفن في مقابر الكهف؛ وكان فيه أدبٌ وافر وكتابه حسنة ونَظْم جيّد وتقدم والده في حلب في التدبير والسّياسة وعرض الأجناد.
قال ابن الأثير: وفيها توفي السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه بههذان وعهدإلى ابن أخيه ملكشاه بن السلطان محمود بن محمد وخطب له ببلاد الجبل. وكان الغالب على البلاد والعساكر أيام السلطان مسعود خاصبك بن بلنكرى، فقام بامر ملكشاه، ولم يمهله غير قليل حتى قبض عليه، وكتب إلى أخيه الملك محمد بن محمود، وهو بخوزستان، يستد عيه إليه ليخطب له بالسلطنة وكان غرض خاصبك أن يقبض عليه أيضاً قيخلو وجهه من منازع من السلجوقية، وجنئذ يطلب السلطنة لنفسه. فلما كاتب محمداً أجابه إلى الحضور عنده، وسار إليه، وهو بهمذان، واجتمع به وخدم خاصّبك خدمة عظيمة فلما كان الغد دخل عليه خاصبك فقتله محمد وألقى رأسه إلى أصحابه، فتفرقوا، واستقر محمد وثبتت قدمه، واستولى على بلاد الجبل جميعها.

وكان قتل خاصبك سنة ثمان وأربعين، وبقى مطروحاً حتى أكلته الكلاب. وكان ابتداء أمره أنه كان من بعض أولاد التركمان، فخدم السلطان فمال إليه وقدمه حتى فاق سائنر الأمراء، واستولى على أكثر البلاد. وهو كان السبب في أكثر الحوادث الشاغلة للسلطان مسعود، فإن الأمراء الأكابر كانوا يأنفون من اتّباعه لما كان يُقابلهم به من الهوان والاحتشام عليهم.
وذكر الوزير يحيى بن هبيرة في كتاب الإفصاح، أنه لما تطاول على الخليفة المقتفي أصحاب مسعود وأساءوا الأدب، ولم يمكن المجاهرة بالمحاربة، اتفق الرأى على الدعاء على مسعود بن محمد شهراً، كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رِعْل وذَكْوان شهرا. فابتدأ هو والخليفة سِرّا،كل واحد في موضعه، يدعو سحراً، من ليلة تسع وعشرين من جمادى الأولى سنة وأربعين وخمسمائة؛ واستمر الأمر على ذلك كل ليلة. فلما كان ليلة تسع وعشرين من جمادى الآخر،كان موت مسعود على سريره، لم يزد عن الشهر يوما ولم ينقص يوماً. ووصل القُصّادُ بذلك من همذان إلى بغداد في ستة أيام؛ فأزال الله يده ويد أتباعه عن العراق، وأورثنا أرضهم وديارهم. فتبارك الله رب العالمين، مجيب دعوة الداعين. قال: وكان الشيخ محمد بن يحيى يقول لا أدل على وجود موجود أعظم من إن يُدعى فيجيب.
ثم دخلت سفة ثمان وأربعين وخمسمائة
ففيها أخذت الفرنج، خذ لهم الله، عسقلان وبقيت في أيديهم إلى أن فتحها صلاح الدين يوسف بن أيوب، رحمه الله سنة ثلاث وثمانين، كما سيأتي إن شاء الله تعلى.
قال الرئيس أبو يعلى التميمي: وتواصلت الأخبار من ناحية نور الدين وبقوة عزمه على جمع العساكر والتركمان، من سائر الأعمال والبلدان، للغزو في أحزاب الشرك والطّغيان، ولِنُصرة أهل عسقلان على الإفرنج النازلين عليها، وقد ضايقوها بالزحف إليها بالبرج المخذول، وهم في الجمع الكثير. واقتضت الحال توجه مجير الدين صاحب دمشق إلى نور الدين في جمهور عسكره للتعاضد على الجهاد في ثالث عشر محرم، واجتمع معه في ناحية الشّمال، وقد ملك نور الدين الحصن المعروف بإفليس بالسيف، وهو على غاية المنعة والحصانة، وقتل من كان فيه من الإفرنج والأرمن وحصل العسكر من المال والسبي الشيء الكثير. ونهضوا طالبين ثغر بانياس، ونزلوا عليه في آخر صفر وقد خلا من حماته، وتسهلت أسباب ملكته. وقد تواصلت استغاثه أهل عسقلان واستنصارهم بنور الدين، فقضى الله تعإلى بالخلف بينهم والقتل، وهم في تقدير عشرة آلاف فارس وراجل، فأجفلوا عنها من غير طارق من الإفرنج طرقهم، ولا عسكر رهقهم، ونزلوا على المنزل المعروف بالأعوج، وعزموا على معاودة النزول على بانياس وأخذها، ثم أحجموا عن ذلك من غير سبب ولا موجب، وتفرقوا. وعاد مجيرالدين إلى دمشق ودخلها سالما في نفسه وجملته حادي عشر ربيع الأول، وعاد نور الدين إلى حمص ونزل بها في عسكره.
ووردت الأخبار بوصول أسطول مصر إلى عسقلان فقويت نفوس من بها بالمال والرجال والغلال، وظفروا بعدة وافرة من مراكب الفرنج في البحر، وهم على حالهم في محاصرتها ومضايقتها، والزحف بالبرج اليهم. واستمر ذلك إلى أن تيسرت لهم أسباب الهجوم عليها من بعض جوانب سورها، فهدموه، وهجموا البلد؛ وقتل من الفريقين الخلق الكثير، وألجأت الضرورة والغلبة إلى طلب الأمان، فأجيبوا إليه، وخرج من أمكنه الخروج في البر والبحر إلى ناحية مصر وغيرها. وقيل إن في هذا الثغر المفتتح من العُدد الحربية والأموال والميرة والغلال مالا يحصر فيذكر. ولما شاع هذا الخبر في الأقطارساء سماعه،، وضاقت الصّدور، وتضاعفت الأفكار بحدوث مثله فسبحان من لا يُردُّ نافذ قضائه، ولا يُدفع محتوم أمره عند نفوذه ومضائه.

قال وعرض بين الرئيس ابن الصّوفي وبين أخويه عزّ الدولة وزينها مشاحنات ومشاجرات، اقتضت المساعاة إلى مجير الدين في جمادى الأولى، فأنفذ مجير الدين إلى الرئيس يستدعيه للإصلاح بينهم في القلعة، فامتنع من ذلك وجلس في داره، وهم بالتّحصِن عنه بأحداث البلد والغوغاء. وآلت الحال إلى تمكُّن زين الدولة منه بمعاونة مجير الدين عليه، وتقرر بينهما إخراج الرئيس من البلد وجماعة إلى حصن صرخد مع مجاهد الدين بزان واليه بعد أن قرر له بقاء داره وبستانه وما يخصة ويخص أصحابه. وتقلد أخوه زين الدولة مكانه، وأمر ونهى، ونفذ الأشغال على عادته في العجز والتقصير، وسوء الأفعال، والتماس الرشا على أقل الأعمال. ورأى مجير الدين عقيب ذلك التوصل إلى بعلبك لتطيب نفس واليها عطاء الخادم واستصحابه معه إلى دمشق لينوب عنه في تدبيرالأمور، وعاد وهو معه. واستشعر مجاهد الدين بزان أن نية مجير الدين قد تغترت فيه، فاستوحش من عَوْده إلى البلد بغير يمين يخلف له بها على أمانه في نفسه، فوعد بالإجابة، فعاد إلى داره بدمشق.
ثم هجس في خاطره من مجير الدين وأصحابه ما أوحشه منهم، فدعاه ذالك إلى الخروج من البلد سرا طالبا صرخد. فحين عرف خبره أنهض في طلبه وقص أثره، فأدرك وقد قرب من صرخد، ففبض عليه وأعيد إلى القلعة بدمشق، واعتقل بها اعتقالا جميلا.
ثم تجدد من الرئيس الوزير حيدرة المقدم ذكره اشياء ظهرت عنه، مع ما في نفس الملك مجير الدين منه ومن أخيه المسيب من المعرفة بالسعي والفساد، فاقتضت الحال استدعاءه إلى القلعة على حين غفلة عن القضاء النازل به، لسوء أفعاله، وقبح ظلمه، وخبثه. ثم عدل به الجانْدَارِية إلى الحمام بالقلعة، مستهل ذي القعدة، وضُربت عنفه صبراً، واخرج رأسه ونصب على حافة الخندق، ثم طيف به، والناس يلعنونه ويصفون أنواع ظلمه، وتفنُّنه في الفساد، ومقاسمة الّلصوص وقطاع الطريق على أموال الناس المستباحة، بتقديره وتدبيره وحمايته، وكثر السرور بمصرعه، وابتهج به. ثم زحفت العامة والغوغاء ومن كان من أعوانه على الفساد من أهل العَيْث إلى منازله وخزائنه.، ومخازن غلاته، وأثاثه وذخائره، فانتهبوا منها مالا يحصى، وغلبوا أعوان السلطان وجنده عليها بالكثرة، فلم يحصل السلطان من ذالك إلا النزر اليسير. ورد أمر الرئاسة والنظر في البلد إلى الرئيس رضىّ الدين أبى غالب عبد المنعم بن محمد بن أسد بن علي التميمي في اليوم المقدم ذكره، فطاف في البلد مع أقاربه وأهله، وسكنت الدّهماء، و بولغ في إخْراب منازل الظالم ونقل أخشابها.
قال: وكان عطاء الخادم قد استبد بتدبير الأمور، ومدّيده في الظلم، وأطلق لسانه بالهجو، وأفرط في الاحتجاب، وقصر في قضاء الأشغال؛ فتقدم مجير الدين باعتقاله وتقييده، والاستيلاء على ما في داره ومطالبته بتسليم بعلبك وما فيها من مال وغلال ثم ضربت عنقه، ونهبت العوام والغوغاء بيوت أسبابه وأصحابه.
قال: وورد الخبر من ناحية مصر بأن العادل المعروف بابن السّلار، الذي كانت رتبته قد علت، ومنزلته في الوزارة قد تمكنت، كان لزوجته ولد يعرف بالأمير عّباس قد قدمه واعتمد عليه في الأعمال؛ ولعّباس هذا ولد قدمه الوزير وأنعم عليه، وأذن له في الدخول بغير إذن إليه فدخل عليه وهو نانماً في فراشه، فقطع رأسه، وحصل عّباس في منصب العادل، ثم كان من أمره ما سيأتي ذكره.
قلت: هو أبو الحسن علي بن السّلار وزير خليفة مصر وهو الذي بنى مدرسة الشّافعية بالاسكندرية للحافظ أبى طاهر السّلفى، رحمه الله. كان قتله في سادس المحرم بمواطأةٍ من الخليفة الملقب بالظّافر بن الحافظ.
قال: وفيها في آخر شعبان توفى الفقيه برهان الدين أبو الحسن علي البخلي رئيس الحنفية، ودفن في مقابر الباب الصغير الجاورة لقبور الشهداء. وكان من التفقه على مذهبه ماهو مشهور شائع، مع الورع والدين، والعفاف والتّصوّف، وحفظ ناموس العلم، والتّواضع، والتّودّد إلى الناس على طريقة مرضية وسجّية محمودة.

قال: وورد الخبر من ناحية حلب بوفاة الأديب أبى الحسين أحمد بن منير الشاعر في جمادى الاخرة. ووصل في ثاني عشر شعبان إلى دمشق الأديب الشاعر، أبو عبد الله محمد بن نصر بن صغير القيسراني، ومن حلب، باستدعاء مجير الدين له، ومات بعد عشرة أيام، وفي الثاني والعشرين من شعبان. قلت: هما شاعراً الشام في وقتهما. وقد شبههما العماد الكتاب في كتاب الخريدة بالفرزدق وجرير، وكذلك كان اتفق موتهما في سنة واحدة، ومات جرير بعد الفرزدق بقليل. وقد سبق من شعرهما في مدح نور الدين رحمة الله قصائدة حسنة، وسيأتي غير ذلك في موضعه لغرض سنذكره.
ومما قاله ابن منير من قصصيدة له:
أيَا سيفاً أغر الدين منه ال ... غرارُ العضْبُ والنوم الغرار
ملأت جوانح الاقطار رجفاً ... كأن الأرض خامرها دُوار
علاك حلى شمس عدلك في دجاها ... بمفرقها، وفي يدها سوار
أضاءت شمس عدلك في دجاها ... فكلُّ زمان ساكنها نهار
تُحرق من عصاك وأنت ماء ... وتغرق من رجاك وأنت نار
ألا لله وجهك والمنايا ... مكحلة، وللبيض افترار
هتكت حجابه والنصر غيب ... وللهبوات طيٌّ وانتشار
بطعن للقلوب يه انتظام ... وضرب للرءوس به انتثار
تبادره، وكأن الموت غتم ... وما من عادة البدر الدار
أنخت على الصليب مطا صليبا ... به من صك مبركه هذار
بمشرفة المتاكب مقرابات ... لهن بمنتن كل وغى حضار
جبين بإنب أنب العناصي ... وإضن وللقنا منها ثمار
وفي هاب أهْبت بها، فجاءت ... كما أجلى من الكسم الصوار
وكم في فج حارم من حريمٍ ... عفته، فلا جدير ولا جدار
وأنطاكية أسْنَّتْ إليها ... فأجفل خيطها وله عرار
وصبح في عزاز بها عزاز ... فأمسى وهو وَعْثٌ أو خبار
يشق بها دُجا الغمرات عسفا ... جواد لا يُشق له غبار
وله من أخرى:
وما يرم الفرنجة مك فذٌّ ... فتحر عدّهُ خطط الحساب
أجاش الأربعاء لهم خميساً ... بعيد الغور ملتطم العباب
وأحكم بالخطيم لهم خطاما ... أمر بريمه مرّ الضراب
مشوا متساندين إلى صليب ... يبرقع هبوة الصمّ الصلاب
تُلفُّهم المنايا في الثنايا ... وتفجؤهم شَعوبُ من الشّعاب
أطاشت سهم كبشهم هناة ... فكنت ذباب طائشة الذّباب
حللت التّاج عنه وحل تاجا ... مكان العقد من عقد الكعاب
أناف على العقاب فكان أشهى ... وأبهى منه في ظل الُعقاب
فأشرف وهو عن شرفٍ معوق ... وأصعد وهو غاية الانصباب
تكاشره الشوامت وهو مغض ... ثناه مناه عن رجع الجواب
بعيداً من قراع واقتراع ... يؤوب له إلى يوم المآب
وكم سوط بخيلك أقبلوه الص ... دور فكان سوطا من عذاب
تركتهم بأرض الشام شاما ... لِظُفٍر تتقيه، أو لِنَاب
هتكت حجابه والشمس وَسْنَى ... بشمس لا توارى بالحجاب
بأبيض من حَبِيك الهند صافٍ ... مَصُون المتن مبتذل الذّباب
له سمةُ الشيوخ صفاء شيب ... وفي خطراته نزق الشباب
ألاَ يا ناظر الدنيا بعين ... أرته علابها خدع السراب
تبطنها فطّلقَها ثلاثاً ... على عزّ التملق والخلاب
فلا يأوى إلى رأى شَعاعٍ ... ولا يثنى إلى أمل خراب
ترفع عن مجاوزة الأماني ... وحلق عن محاضرة التصابي
صلاة الله كل درور شمس ... على مثوى أبيك من التّراب
فقد ألقى إلى الإسلام عضباً ... يطّبق في النوائب غيرنا بي

تجيس له رَوَاسٍ كالرّواسي ... تمد لها جِفان كالجوابي
وله من أخرى:
مُظفر العزم، ممدود الرواق على ... معالم الدين، يرفيها ويبنيها
رد الكنائس كُنسا للهدى، فخبت ... نار الظلال ووارتها أثافيها
وأورد العلم عدا من ايالته ... فاستن وافتنّ عبّا في صوافيها
وبث للشرك أشراكاً فما درجت ... طريدة منه إلا استوهقت فيها
يا بدرُ مُذْ أشرقت في الدّست غُرتهُ ... غِيثَ الرّعيةُ واخضلت مراعيها
أقام أحمد من محمودها علما ... به استقام على البيضاء ساريها
محيى شريعته من بعد ما انهدمت ... واستعجمت بعد إفصاح معانيها
شابت مواهبه فيها مهابته ... حتى استقرت على سمت سواريها
وله من أخرى
عزت سيوفك، فالعراق عراقها ... والشام غير مدافعات شامهاً
إن اغمدت حل العزائم حلها ... أوجردت حرم الكرى إحرامها
شخبت عداك بها، فلا إشراقها ... بمفازة منها، ولا إعتامها
سربت فصبحها بها يقظانُها ... هدأت فمستها بها أحلامها
كالماء، إلا أن في رشفاته ... ناراً حشاشات النّفوس ضِرامها
خفت على أيمانكم أوزانها ... يوم الوغى، واستثقلتها هامُها
حتى أحلن الشام شاما صرصرت ... فيه جنادبها وصدح هامها
وَرَحَضْنَ أدْران الجزيرة بعد ما ... غمرت بها وهداتها وإكامها
شطرا أبرت، ومثله أنظرته ... وقع الخطوب تكرها، أيامها
بالخابطات الغاب، تزأر أسده ... والمجفلى الحي اللقاًح صيامها
أوردتها أجمات أنطاكية ... عنقا وقد شبب الصدا اجمامها
تلقى المشافر في مراشف، كلما ... بردت بها الأكباد زاد هيامها
فغدت وقد عز السراح سراحها ... وتوزعت في كنسها آرامها
ومشى الضلال القهقرى واستأصل ال ... آذان من رجع الأذان صلامها
وغدا يخللها الخليل سواحبا ... عذبا يمر لها العذاب غمامها
غضبا لدين الله خص جناحه ... بغيا وادمى صفحتيه لدامها
فالان رد النور فيه نوره ... وانجاب من تلك الهنات ظلامها
محمود المحمود اقداما إذا ... خام الكماة زلزلت اقدامها
الفارج الكرب العظام تضاجمت ... اشداقها وفرى القلوب ضغانها
وله من أخرى:
اما الرعايا فإنها رشفت ... لديك نعمى عذبا ثنايها
سلكت نهج العدل القويم بها ... فاحمدت دينها ودنياها
وكم امنيت خوفا فامنتها ... متالف الخوف خوفك الله
لله اقطارك التي قطرت ... لها مناها إلى مناياها
أنب في إنب فوارسها ... تردى فتردى أولادك إخراجها
أشجت لهاة البرنس هبوتها ... وكم عتا عاتيا فاشجاها
وجوسلين استساغ نطفتها ... فاحتلب الذل تحت مغداها
ردته صفرا من كل ما ملكت ... يداه ايد ما ضل مسراها
جويس جاستك اوجه لا رأت ... بؤسا وجاد الحيا محياها
سرية لوتكون فارسها ... يومئذ ما انبعثت اشقاها
لا زال ظل النعماء عن ملك ... ما الشمس كفئا له إذا باها
والله جازيه عن مقيدة ... اعزها الله مذ تولاها
محمود المعتلى إلى فلك ال ... حمد وثسيرا له ولاياها
اعطاكه جدك المتوج بالجد ... ونفس لله مغزاها
نفس عزوف وعن الخنا طبعت ... نزهها الله يوم سواها
أنت الذي سلم الأنام له ... يمنى طباق العلا ويسراها

وأنت مولى الملوك قاطبة ... من كان فنا خسرو شاهنشاها
والشعر هذا لا قول أحمده ... أوه بديل من قولتي واها
وله من أخرى:
يابن الذي لم يأل في نجدة ال ... اسلام إدلاجا وتهجيرا
تكتنف الشام وقد شام بر ... ق الخوف إنجادا وتغويرا
وكف كلب الروم من بعد أن ... أنشبه نابا وأظفورا
فأهله رقك إن أنصفوا ... رقا بحد السيف مسطورا
بدر هوى واستخلف الشمس في ... دستك إشراقا وتأثيرا
وله من أخرى:
ملك كسا الإسلام من ذبه ... بردا بتدبيج الظّبا معلما
من أصبح الشام به شامة ... يقطر من قتل عداه دما
لو لم يقم منصلتا دونه ... لم نلق في أقطارها مسلما
وله يمدحه بعد مصالحة صاحب حماة واهتمامه بالعرس وعوده إلى حلب
الدهر ما رضته بالجود والباس ... مقسم بين أغراس وأعراسى
فتح تعاقبه فتح، ومطلب ... داني المنال، وملك ثابت راسي
نصرا بُبصرى، وصفحا عن حماة لقد ... أحسنت للداء حسما أيها الآسي
يابن الذي عنت الدنيا لدولته ... من فاطمي أعز به وعباس
وله فيه أيضا:
غدا الذين باسمك سامي العلم ... أمين العماد، مكين القدم
لذلك لقبت نورا له ... وقد أغطش الظلم فيه الظلم
أضاءت بعدلك آفاقه ... وفضت عرى الدين لما ادْلهم
ولم تمش زهواً لِنَصر الرّها ... ومثلك أدرك غزم
ويوم بسوطا، بسطت الحمام ... على الهضب من ركنها فانهدم
وبصرى وصرخد، لو لم تثر ... دراكا لكانا رَديَفْى إرم
ومذ فض جيشك في الغوطتي ... ن فض الصليب له ما نظم
وفي كفر لاثا، وهاب، حَلَل ... ت عقد البرنس، ببيض خذم
معودة أنها لا تسل ... إلا مقمقمة للقمم
ويوم بَسَرْفُود جرعتهم ... أجابا أغصهم واصْطلم
وفوق العريمة غشاهم ... عرام حيوشك سيل العرم
وأنت بكلبهم في الكبول ... مباح الحريم مذال الحرم
وبارتهم أذنت أنها ... أبارتهم، فليبؤوا بذم
بنوهاً وأعلوا، ولم يعلموا ... بما خط في اللوح منك القلم
وأنك خارم ما أحكمو ... ومن ديننا راقع ما انحزم
فترفع من بعد خفض هدى ... وتخفض من بعد رفع صنم
سمكت المدارس فوق النجوم ... فكم منجم تحتها قد نجم
وعاش الحنيفي والشافعي ... بما شدت منها وكانا رمم
وإن لم تكن هاشمي الأصول ... فإنك فرع الهزبر الهشم
ومن يدعى في العلا ما ادعيت ... وأنت ابن من عز لما احتكم
واقسم ما غاب سيف سقت ... مغارسه عين هذى الشيم
قلت: وقصائد ابن منير في مدح نور الدين فيكثرة، ونفسه فيها طويل. ولم يبق بعد موت القيسراني وابن منير فحل من الشعراء يصف مناقب نور الدين كما ينبغي إلا ابن أسعد الموصلى، وسيأتي شيء من شعره؛ إلى أن قدم العماد الكاتب الشام في سنة اثنتين وستين، فتسلم هذا الأمر، وعبر عن أوصاف نور الدين ومناقبه وغزواته بأحسن العبارات وأتمها نظما ونثرا. وسيأتي كل ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال ابن الأثير: وفيها توفى صاحب ماردين حسام الدين تمرناش، ووليها بعده نجم الدين إلى بن تمرناش ارتق قلت: وقد مدحه القيسراني والعرقلة وغيرهما من الشعراء
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وخمسمائة

قال ابن الأثير: ففيها ملك نور الدين دمشق وأخذها من صاحبها مجير الدين آبق بن محمد وكان الذي حمل نور الدين على الجد في ملكها أن الفرنج ملكوا في السنة الخالية عسقلان، وهي مدينة فلسطين حسنا وحصانة. ولما كانوا يحاصرونها كان نور الدين يتلهف ولا يقدر على إزعاجهم عنها، لأن دمشق في طريقه وليس له على غيرها معبر، لاعتراض بلاد الإفرنج في الوسط. وقوى الفرنج بملكها حتى طمعوا في دمشق، واستضعفوا مجير الدين، وتابعوا الغارة على أعماله وأكثروا الفتك بها والنهب والسبي. وزاد الأمر بالمسلمين بها إلى أن جعل الفرنج على أهل المدينة قطيعه كل سنة، وكان رسولهم يجئ إلى دمشق ويجبيها من أهل البلد. ثم اشتد البلاء على أهلها حين أرسل الفرنج عبيدهم وامائهم الذين نهبوا من سائر بلاد النصرانية، وخيروهم من المقام عند مواليهم والعود إلى أوطانهم، فمن أحب المقام تركوه، ومن أحب وطنه سار إليه. وزالت طاعة مجير الدين عن أهل البلد إلى أن حصروه في القلعة مع إنساًن منهم كان يقال له مؤيد الدين، ابن الصوفي. فلما كانت الأمور بها هكذا خاف أهلها وأشفقوا من العدو، فلجأوا إلى الله تعالى ودعوه أن يكشف ما بهم من الخوف، فاستجاب لهم وأذن في خلاصم مما هم فيه، على يد أحب عباده إليه، وأحسنهم طريقة، وأمثلهم سيرة، وهو الملك العادل حقا نور الدين محمود؛ فحسن له السعي ملك البلدة وألقاه في روعه. فلما خطر له ذلك أفكر فيه فعلم أنه أن رام ملكه بالقوة والحصار تعذر عليه، لأن صاحبه متى رأى شيئا من ذلك راسل الفرنج واستعان بهمم واستمالهم. قلت: وقد كان سبق له بذلك سوابق قد تقدم ذكر شيء منها. ولذلك قال العرقلة يمدح أتابكه معين الدين أثر من قصيدة:
يظن صلاح الدين فرسان جلق ... كفرسانه، ما الأسد مثل الثعاًلب
رجال إذا قام الصليب تصلبت ... رماحهم في كل ماش وراكب
غدا يطلع الشام الفرنج بفيلق ... معؤدة أبطاله للمصائب
لها الليل تقع والأسنة أنجم ... فما غير أبطال وغير جنائب
وصلاح الدين هذا المذكور ليس هو يوسف بن أيوب المشهور، فإن ذلك لم يكن حينئذ ملكا يقود الجيوش، وإنما هذا صلاح الدين محمد بن أيوب الياغبساني صاحب حماة، أحد أصحاب زنكي، وقد تقدم ذكره مرارا، وكأنه كان في مقدمة الجيش النوري لما قصد دمشق في المرتين الأوليين، أوفي إحداهما، أوفى زمن حصار زنكي لهاً، والله أعلم.
قال ابن الأثير: وكان أبغض الأشياء إلى الفرنج أن يملك نور الدين دمشق، لأنه، كان، يأخذ حصونهم ومعاقلهم وليست له دمشق، فكيف إذا أخذها وقوى بها. وانضاف إلى ذلك كراهيته لسفك دماء المسلمين، فإن الدم كان عنده عظيما، لما كان قد جبل عليه من الرأفة والرحمة والعدل. فلما رأى الحال هكذا عمد إلى إعمال الحيلة، فراسل مجير الدين صاحبها واستماله، وواصلة بالهدايا، وأظهر له المودة حتى وثق إليه. ثم صار بكاتبه في بعض الأوقات ويقول له: إن فلانا، ويذكر بعض الأمراء الذين لجير الدين، قد كاتبني في المخامرة عليك فاحذره. فتارة يأخذ إقطاع أحدهم، وتارة يقبض عليه. فلما خلت دمشق من الأمراء، قدم أميرا كان عنده يسمى عطاء بن حفاظ السلمي الخادم، وكان شهما شجاًعا، وفوض إليه أمر دولته، وكان نور الدين لا يتمكن من دمشق معه. فقبض عليه مجير الدين وقتله، فقال له عند قتله: إن الحيلة قد تمت عليك فلا تقتلني، فإنه سيظهر لك ما أقول. فلم يصغ إلى قوله، وقتله.
قلت: وفى بعض قصائد ابن منير ما يدل على أن عطاء هذا كان له مع نور الدين في دمشق حديث فإنه قال:
ودمشق في دمشق رجال سلم ... لحور نسائهم منهم نساء
هي الفردوس أصبح وهو عاف ... من العالي ومن خال خلاء
جنان ان تعرف الجنات فيها ... ولا رأى هناك، ولا رواء
لأسمح صعبها ودنت قصاها ... وأمكنك اقتياد وامتطاء
ويانعم العطاء عطاء رب ... توسطه فانشطه عطاء
تفاءل بإسمه فالفال وعد ... يكون على ظباك به الوفاء
هو السبب الذي شزرت قوله ... وهذبه بخدمتك الصفاء
وسيف إن نشمه تشم حساما ... وإن يغمد فنار بل ذكاء

جنتة لك السعادة قطف رأى ... لنقب الخادعيك به هناًء
ويجوز أنه لم يكن لعطاء في ذلك حديث، وإنما هذه الأبيات أو ما في معناها كانت سبب قتله لما بلغ مجير الدين ذلك. وعطاء هذا هو الذي ينسب إليه مسجد عطاء خارج الباب. الشرقي بدمشق؛ وجورة عطاء ببيت أبيات، وهي أرض فيها أخشاب كباًر من الحور تربى أوتاراً لجامع دمشق، وهي وقف عليه. وقد مدحه العرقلة وغيره من الشعراء.
قال ابن الأثير: فلما قتل عطاء قوى طمع نور الدين في دمشق فراسل أحداث البلد وزناطرته، واستمالهم، فأجابوه إلى تسليم البلد، فسار إليهم وحاصرهم عشرة أيام. فكاتب مجير الدين الفرنج وبذل لهم الأموال وقلعة بعلبك إن رحلوا نور الدين عنه. فإلى أن اجتمعوا وجاءوا بلغهم أخذ نور الدين دمشق، فعادوا بخفي حنين. وأما نور الدين فإنه لما حاصرهم وضيق علي من به، ثار الأحداث الذين كاتبهم نور الدين وسلموا إليه البلد من الباب الشرقي، فدخله بالأمان عاشر صفر، وحصر مجير الدين في القلعة، وراسله وبذل له. الإقطاع الكثير، من جملته مدينة حمص، فأجاب إلى تسليم القلعة وسار إلى حمص.
وقال ابن أبى طي: أنفذ نور الدين شيركوه رسولا إلى صاحب دمشق، فخرج في تجمل عظيم ومعه ألف فارس، فعظم على مجير الدين ذلك وقال: ما هذه رسالة، هذه مكيدة؛ ولم يتجاسر على الخروج إلى لقائه ولا أحد من أمراء دمشق. فاستوحش أسد الدين، ونزل بمرج القصب، وأغلظ لصاحب دمشق في المقال وأنقذ إلى نور الدين يعرفه بما جرى عليه. فسار نور الدين في عساكره، وزحف إلى البلد من شرقية، وكانت الحرب في عاشر صفر، وتولى أسد الدين القتال، وأبلى الجهد، فكر عساكر دمشق إلى الأسوار من قبلي البلد؛ ولم يكن أحد من المقاتلة على السور من ذلك الجانب، لأن نور الدين كان من شرقها وجل العسكر مقابله. ورأى من كان مع نور الدين من الجاندريه والحلبيين خلو السور من المقاتلة، فتسرعوا إلى السور وتسلقوا به وحصلوا في الحال على الأسوار. ويقال إن امرأة كانت على السور، فدلت حبلا فصعدوا فيه، وصار على السور جماعة ونصبوا السلالم، وصعد جماعة أخرى ونصبوا علما وصاحوا بشعار نور الدين. فوقع على أهل البلد الخذلان، وكسر باب البلد ودخلت الخيالة منه وملك نور الدين دمشق. وكان لأسد الدين اليد الطولي في فتحها، فولاه نور الدين أمرها، ورد إليه جميع أحوالها. وفي هذه السنة أقطعه نور الدين الرحبة.

وقال الرئيس أبو يعلى: في العشر الثاني من المحرم وصل الأمير أسد الدين شيركوه رسولا من نور الدين إلى ظاهر دمشق، وخيم بناحية القصب من المرج في عسكر يناهز الألف.، فأنكر ذلك ووقع الاستخوان منه، وإهمال الخروج إليه لتلقيه والاختلاط به، وتكررت المراسلات فيما اقتضته الحال، ولم تسفر عن سداد ولا نيل مراد، وغلا سعر الأقوات لانقطاع الواصلين بالغلات. ووصل نور الدين في عسكر. إلى شيركوه. ثالث صفر وخيم بعيون الفاسريا، عند دومة، ورحل في الغد ونزل بيت الآبار من الغوطة، وزحف إلى البلد من شرقيه وزحف إليه من عسكره وأحداثه الخلق الكثير؛ ووقع الطراد بينهم، ثم عاد كل من الفريقين إلى مكانه. ثم زحف يوما بعد يوم، وتأكد الزحف يوم الأحد عاشر صفر، وظهر العسكر الدمشقي فاندفع بين أيديهم حتى قربوا من سور باب كيسان والدباغة من قبلي البلد، وليس على السور أحد من العسكرية والبلدية لسوء تدبير صاحب الأمر غير نفر يسير لا يوبه لهم. فسرع بعض الرجالة إلى السور، وعليه امرأة يهوديه، فأرسلت إليه حبلا فصعد فيه وحصل على السور، ولم يشعر به أحد؛ وتبعه من تبعه وأطلعوا علما نصبوه على السور، وصاحوا: نور الدين يامنصور وامتنع الأجناد والرعية من الممانعة لما هم عليه من المحبة لنور الدين وعدله، وحسن ذكره وبادر بعض قطاعي الخشب بفأسه إلى الباب الشرقي فكسر إغلاقه وفتحه، فدخل منه العسكر وسعوا في الطرقات، ولم يقف أحد بين أيديهم. وفتح باب توما أيضا ودخل الناس. منه. ثم دخل نور الدين وخواصه، وسُر كافة الناس من الأجناد والعسكرية، لما هم عليه من الجوع وغلاء الأسعار والخوف من منازلة الفرنج. الكفار. وكان مجد الدين لما أحس بالغلبة والقهر قد انهزم في خواصه إلى القلعة وأنفذ إليه، فأومن على نفسه وماله، وخرج إلى نور الدين، فطيب نفسه ووعده الجميل. ودخل نور الدين القلعة في يوم الأحد المقدم ذكره، وأمر بالمناداة بالأمان للرعية، والمنع من انتهاب شيء من دورهم. وتسرع قوم من الرعاع والأوباش إلى سوق على وغيره، فعاثوا ونهبوا، وانفذ نور الدين إلى أهل البلد بما طيب نفوسهم وأزال نقرتهم. وأخرج مجير الدين ما كان له في دوره بالقلعة والخزائن من المال والآلات والأثاث على كثرته إلى الدار الأتابكية، دار جده، وأقام أياما. ثم تقدم إليه بالمسير إلى حمص في خواصه ومن أراد السكون معه من أسبابه وأتباعه، بعد أن كتب له المنشور بإقطاعه عدة ضياع بأعمال حمص، برسمه ورسم جنده؛ وتوجه إلى حمص على القضيه المقررة. ثم أحضر نور الدين غد ذلك اليوم أماثل الرعية من القضاة والفقهاء والتجار وخوطبوا بما زاد في إيناسهم وسرور نفوسهم، وحسن النظر لهم بما يعود بصلاح أحوالهم تحقيق آمالهم؛ فأكثروا الدعاء له، والثناء عليه، والشكر لله تعالى على ما أصارهم إليه. ثم تلا ذلك أبطال حقوق دار البطيخ وسوقي البقل، وضمان الأنهار، وأنشأ بذلك المنشور، وقرئ على المنبر بعد صلاة الجمعة. فاستبشر الناس بصلاح الحال، وأعلن الناس برفع الدعاء، إلى الله تعالى بدوام أيامه، ونصرة أعلامه.
وقال ابن الأثير: لما استقر نور الدين في البلد عمل مع أهله مكرمة عظيمة، وأظهر فيهم عدلا عاما. قلت: قد تقدم ذكره في أول الكتاب، وسيأتي منه أشياء مفرقة فيما بعد.
قال: وألق الإسلام جرانه بدمشق، وثبتت أوتاده؛ وأيقن الكفار بالبوار، ووهنوا واستكانوا؛ وصار جميع ما بالشام من البلاد الإسلامية بيد نور الدين. وأما مجير الدين فإنه أقام بحمص وراسل أهل دمشق في إثارة الفتنة فانتهى الأمر إلى نور الدين، فخاف أن يحدث ما يشق تلاقيه، بل ربماً تعذر، لا سيما مع مجاورة الإفرنج. فأخذ حمص من مجير الدين وعوضه عنها مدينة بالس، فلم يرضها؛ وسارعن الشام إلى العراق، فأقام ببغداد وابنى داراً تجاور المدرسة النظامية، وتوفى بها.
قال: ولما ملك نور الدين دمشق خافه الفرنج كافة، علموا أنه لا يقعد عنهم وعن غزو بلادهم، والمبادرة إلى قتالهم؛ فراسله كل كند وقمص وتقربوا إليه. ثم إن من بتل باشر راسلوه وبذلوا له تسليما فأرسل إلى الأمير حسان المنبجي، وهو من أكابر أمراء نور الدين، وإقطاعه منبج، فأمره أن يتسلمها منهم. فسار إليها، وتسلمها، وحصتها، ورفع إليها ذخائر كثيرة.
فصل

قال الرئيس أبو يعلى: وقد كان مجاهد الدين بزان أطلق يوم الفتح من الاعتقال وأعيد إلى داره. ووصل الرئيس مؤيد الدين المسّيب إلى دمشق، مع ولده النائب عنه في صرخد، إلى داره، معوّلا على لزومها، وترك التعرض لشيء من التصرفات والأعمال. فبدا منه من الأسباب المعربة عن إضمار الفساد، والعدول إلى خلاف مناهج السداد، والرشاد، ما كان داعيا إلى فساد النية فيه. وكان في إحدى رجليه فتح قد طال به ونسيه. ثم لحقه مرض وانطلاق متدارك أفرط عليه، واسقط قوته، مع فهاق متصل وقُلاع في فيه زائد. فقضى نحبه في رابع ربيع الأول، ودفن في داره، واستبشر الناس بهلاكه، والراحة من سوء أفعاله.
قال: ووردت الأخبار بقتل خليفة مصر الملقب بالظافر بن الحافظ، وأقيم ولده عيسى مقامه، وهو صغير يناهز ثلاث سنين، ولقبوه بالفائز، وعباس الوزير. ثم ورد الخبر بأن الأمير فارس الدين طلائع بن رزيك، وهو من أكابر الأمراء المقدمين، والشجعان المذكورين لما انتهى إليه الخبر وهو غائب عن مصر قلق لذلك وامتعض، وجمع واحتشد، وقصد العود إلى مصر. فلما عرف عباس بما جمع خاف الغلبة، فتأهب للهرب في خواصه وأسبابه وحرمه، وما تهيأ من ماله، وسار بهذا. فلما قرب من أعمال عسقلان وغزة خرج إليه جماعة من خيالة الإفرنج، فاغتر بكثرة من معه وقلة من قصده فلما حملوا عليه فشل أصحاًبه وأعانواعليه، وانهزم أقبح هزيمة، هو وابنه الصغير واسر ابنه الكبير، الذي قتل العادل ابن السلار، مع ولده وحرمه، وماله وكراعه، وحصلوا في أيدى الفرنج؛ ومن هرب لقي من الجوع والعطش شدة؛ ومات العدد الكثير من الناس والدواب ووصل في اثر هروبهم فارس الدين فوضع السيف فيمن ظفر به من أصحاب عباس، وانتصب في الوزارة وتدبير الأمور موضعه. ووصل إلى دمشق منهم من أنجاه الهرب على أشنع صفة من العدم والعرى، في آخر ربيع الآخر.
قلت: وفي ذلك يقول عمارة اليمنى من قصيدة له:
لكم يا بنى رزيك، لازال ظلكم ... مواطن، سحب الموت فيها مواطر
سللتم على عباس بيض صوارم ... قهرتم بها سلطانه وهو قاهر

وذكر الأمير أسامة بن منقذ في كتاب الاعتبار أن نصر بن عباس لما قتل ابن السلار وتوزر أبوه عباس كان نصر يعاشر الخليفة الظافر ويخالطه، وعباس كاره لذلك مستوحش من ابنه، لعلمه بمذهب القوم وضرب بعض الناس ببعض حتى يفنوهم وشرع الظافر مع ابن عباس في حمله على أبيه ومواصلته بالعطايا الكثيرة؛ ففاتحني في ذلك فنهيته. فأطلع والده على الأمر، فاستماله أبوه ولطف به، وقرر معه قتل الظافر، وكانا يخرجان متنكرين، وهما تربان سنهما واحد. فدعاه إلى داره ورتب من أصحابه معه في جانب الدار نفراً؛ ثم لما استقر به المجلس خرجوا عليه فقتلوه؛ وذلك سلخ محرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة، ورماه بجنب الدار وأصبح عباس جاء إلى القصر ضحوة نهار للسلام، فجلس في مجلس الوزارة ينتظر جلوس الظافر. فلما تجاوز وقت جلوسه استدعى، صاحب زمام القصر وقال: ما لمولانا ما جلس للسلام؟ فتبلد الأستاذ في الجواب؛ فصاح عليه وقال: مالك لا تجاوُبني قال: يامولاي؟ مولانا ما ندري أين هو. قال: مثل مولانا يضيع! ارجع واكشف الحال. فمضى ورجع؛ فقال: ما وجدنا مولانا. فقال يبقى الناس بلا خليفة! ادخل إلى الموالى إخوته يخرج منهم واحد لنبايعه. فمض وعاد، وقال: الموالى يقولون لك مالنا في الأمر شيء، والدنا عزله عنا وجعله في الظافر، والأمر لولده بعده. قال: أخرجوه حتى نبايعه. قال: وعباس قد قتل الظافر وعزم على ان يقول لإخوته أنتم قتلتموه ويقتلهم. فخرج ولد الظافر، ولعل عمره خمس سنين، يحمله الأستاذ؛ فأخذه عباس فحمله وبكى، وبكى الناس، ثم دخل به إلى مجلس أبيه، وهو حامله، وفيه أولاد الحافظ. قال ابن منقذ: ونحن في الرواق جلوس وفى القصر أكثر من ألف رجل من المصريين، فما راعنا إلا قوم قد خرجوا من المجلس مجتمعين إلى القاعة، فإذا السيوف تختلف على إنسان؛ فقلت لغلام لي أرْمَنِيّ: انظر من هذا المقتول. فمضى وعاد وقال: ما هؤلاء مسلمين هذا مولاي أبو الأمانة جبريل بن الحافظ قد قتلوه، وواحد قد شق بطنه يجذب مصارينه. ثم خرج عباس وهو اخذ برأس الأمير يوسف تحت إبطه وفي رأسه ضربة سيف، والذم، يفور منها، وأبو البقاء ابن أخيهم مع ابنه نصر. ثم أدخلوهما خزانة في القصر فقتلوهما، وفي الخزانة ألف سيف مجرد قال،: وكان ذلك اليوم من أشد الأيام التي جرت عليّ لأني رأيت من الفساد والبغي ما ينكره الله سبحانه وجميع خلقه.
وذكر الأمير أسامة بن منقذ في ديوانه قال كان لعباس أربعمائة جمل تحمل أثقاله، ومائتا بغل، ومائتا جنيب. فلما أراد الخروج من مصر يوم الجمعة رابع عشر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وقد قام عليه أهل مصر وعسكريتها، فارسهم وراجعهم، تقدم بشد خيله وجماله لتحمل ويخرج. فلما صار الجميع على باب داره، وقد ملأت ذلك الفضاء إلى قصر السلطان إلى الايوان، خرج غلام يقال له عنبر كان على أشغاله، وغلمانه كلهم تحت يده، فقال للجمالين والخَربَنْديّة والرّكابية: روحوا إلى بيوتكم وسيبوا الدواب. ففعلوا ذلك، وانحازوا إلى المصرين يقاتله معهم. وكان ما جرى، من تهميك الدواب لطفا من الله تعالى به، فإنها سدت الطريق بينه وبين المصريين. ومنعتهم من الوصول إليه، وهم في خلق كثير، ونحن في قلة ما نبلغ خمسين أرجلا؛ وغلمان عباس ومماليكه في ألف ومائتي غلام بالخيول الجياد والسلاح التام، وثمانمائة فارس من الأتراك؛ خرجوا كلهم من باب النصر ووقفوا في الفضاء الذي بينه وبين رأس الطابية فرارا من القتال. فشرع المصريون في نهب الخيل والجمال والبغال.فلما فتحوا طريقهم إليه خرج عباس من باب القصر وجاءوا في أثره حتى أقفلوا الباب وعادوا إلى نهب دوره. وكان عباس قد أحضر من العرب نحوا من ثلاثة آلاف فارس يتقوى بهم على المصريين، واستحلفهم، ووهبهم هبات عظيمة. فلما خرج من باب مصر غدروا به وقاتلوه أشد قتال ستة أيام، يقاتلهم من الفجر إلى الليل؛ فإذا نزل أمهلوه إلى نصف الليل، ثم يركبون ويهدون خيلهم على جانب الناس، ويصيحون صيحة واحدة، فتجفل الخيل وتقطع، ويخرج إليهم منها ما فيه منة وقوة فيأخذونه، فكان ذلك سبب هلاك خيله، وتمكن الإفرنج منه، واشتغاله عن سلوك طريق لا يقصد الفرنج إليه.

قال:ودامت الحرب بينه وبينهم من يوم الجمعة ضحى نهاره إلى آخر يوم الخميس، ثم جاءوا إليه وأخذوا منه حسبا على أموالهم وأنفسهم وبيوتهم ظنا أن له عودة إليهم؛ وانصرفرا عنه وهم أكثر من ثلاثة آلاف فارس. ويوم الأحد صبحتهم الإفرنج وقد هلك الناس من الجوع والعطش وماتت خيلهم، فقتلوا عباسا وابنه الأوسط، وأسروا ابنه الأكبر وقتلوا خلقا كثيرا؛ وأخذوا نساء عباس وخزائنه، وأسروا أولادا له صغارا وانصرفوا.
قلت: عباس هذا هو عباس ابن أبى الفتوح بن تميم بن المعز بن باديس الحميري ويلقب بالأفضل ركن الدين، ويكنى بأبى الفضل. ورأيت علامته في الكتب أيام وزارته: الحمد لله وبه أثق. وفيه يقول أسامة بن منقذ:
لقد عم جود الأفضل السيد الورى ... وأغنى غناء الغيث حيث يصوب
ومن أبيات لابن أبى أسعد فيه لما قتل الظافر:
وأنفق من أنعامهم في هلاكهم ... وأظهر ما قد كان عنه ينافق
ومد يدا هم طولوها إليهم ... وحلت بأهل القصر منه البوائق
سقى ربه كاس المنايا، وما انقضى ... له الشهر إلا وهو للكأس ذائق
وكان عباس قد تخيل من أسامة عند خروجه من مصر، يا يعلمه بينه وبين الملك الصالح من الودة والمصافاة، فأحضره واستحلفه أنه لا يفصل عنه. ثم لم يقنعه ذلك حتى أنقذ من أستاذى داره من يدخل على حرمه إلى داره، فأخذ أهله ؤأولاده، فتركهم عند أهله وأولاده، وقال قد حملت ثقلهم عنك، لهم أسوة بوالدة ناصر الدين، يعنى ولده ناصر الدين، وبأخواته. فلما خرجوا ونهبت دورهم ودوابهم عجز عن حمل من يخصه، فأعادهم أسامة من بلبيس، وانفذ إلى الملك الصالح يقول له: قد أنفذت أهلي وأولادي اليك، وأنت ولى ما تراه فيهم. فأنزلهم في دار، وأجرى عليهم الجاري الواسع، وأحسن إليهم غاية الإحسان. وكان يكاتبه في الرجوع إلى مصر وهو بلطف الأمر معه قصدا لخلاص أهل. وأولاده؛ فلما عرف ذلك منه نسبه إلى وحشة قلبه من القصور، ونفوره من المصريين. فأنفذ إليه يقول له: تصل إلى مكة في الموسم ويلقاك رسولي إليها يسلم إليك مدينة أسوان، وأنفذ إليك أهلك؛ وأمدك بالأموال؛ وهي كما علمت، الثغر بيننا وبين السودان، وما يسد الثغر مثلك. واكثر من الوعد وذكر رغبته في قربه ورعايته، وما بين وبينه من قديم الصحبة. فاستأذن أسامة في ذلك الملك العادل نور الدين، وكان في خدمته. فقال: يافلان ما تساوي الحياة الشتات، والرجوع إلى الأخطار، والبعد عن الأوطان. ومنعة من ذلك بإحسانه ووعده أن يستخلص أهله. فكتب أسامة إلى الملك الصالح يعتذر ويسأله تسيير أهله. وترددت بينهما مكاتبات، وأشعار متصلات، إلى أن سيرهم، وهم نيف وخمسون نسمة، في الإكرام والاحترام إلى آخر ولايته. وذكر أن أهل القصور والأمراء أنكروا تسييرهم، وقالوا نكون أهله رهائن عندنا لنأمن ما يكون منه. ووصله بعض أصحابه من دمشق، وهو في العسكر النوري بحلب، فأخبره أن من كان له بمصر من الأهل والأولاد والأصحاب وصلوا، وأن المراكب انكسرت بهم في ساحل عكا، ونهب الفرنج كل ما فيه، ولم يصلوا إلي دمشق إلا بأنفسهم. وأن تملك الإفرنج أعطاهم خمسمائة دينار أصلحوا منها حالهم واكتروا ظهرا إلى دمشق، فقال أسامة.
إلى الله أشكو فرقة دميت لها ... جفوني، وأذكت في بالهموم ضميري
تمادت إلى أن لاذت النفس بالمنى ... وطارت بها الأشواق كل طير
فلما قضى الله اللقاء تعرضت ... مساءة دهري في طريق سروري
فصلقال أبو يعلى: وفي آخر ربيع الأول وصل الأمير مجد الدين أبو بكر محمد نائب نور الدين في حلب إلى دمشق عقيب عوده من الحج، وأقام أياما وعاد إلى منصبه في حلب وتدبير أعمالها.قلت مجد الدين هذا هو ابن الداية؛ وكان نور الدين كثير الاعتماد عليه وعلى اخوته، وسيتكرر ذكرهم في هذا الكتاب. ومجد الدين أكبر إخوته، وقد مدحه الشعراء. قال القيسراني من بعض ما قاله فيه:
دعوا ما مضى من قبل هذا لما بعد ... فأقسم لولا المجد ما عرف المجد
كريم سمت أوصافه لعفاته ... قرائن كل اثنين بينهما عقد
محيّاه والبشرى، ويمناه والندى ... ونجواه والدنيا، وتقواه والزهد

ففي قربه الزلفى، وفي وعده الغنى ... وفي نيله الحسنى، وفى رأيه الرشد
إذا وجه نور الدين قابل مجده ... فقل في كمال البدر قابله السعد
وفى موسم هذه السنة توفى أمير الحرمين هاشم بن فليتة، وولى الحرمين ولده قاسم ابن هاشم، وهو الذي أرسل عمارة اليمنى الفقيه الشاعر إلى الديار لمصري، وسيأتي ذكره.
قال أبو يعلى: وفي ثامن جمادى الأولى ورد الخبر من ناحية مصر بان عدة وافرة من مراكب الفرنج من صقلية وصلت إلى مدينة تنيس على حين غفلة من أهلها، فهجمت عليها وقتلت وأسرت، وسبت ونهبت، وعادت بالغنائم بعد ثلاثة أيام، وتركتها صفرا. وبعد ذلك عاد من كان هرب منها في البحر بعد الحادثة، ومن سلم واختفى؛وضاقت الصدور عند استماع هذا الخبر المكروه.
قال: وفي شهر رمضان ورد الخبر من ناحية حلب بوفاة القاضي فخر لدين أبى منصور محمد بن عبد الصمد بن الطرسوسي؛ وكان ذاهمة ماضية، ويقظة ومروءة ظاهرة في داره وولده، ومن يلم به من غريب ووافد؛ وقد نفذ أمره وتصرفه في أعمال حلب في الأيام النورية، وأثر في الوقوف أثرا حسنا توفر به ارتفاعها، ثم اعتزل عن ذلك أجمل اعتزال.
ثم دخلت سنة خمسين وخمسمائةففيها تسلم نور الدين بعلبك من واليها ضحاك. ذكر ابن الأثير أن ذلك كان في سنة اثنتين وخمسين، وقال: كان ضحاك البقاعي ينوب ببعلبك عن، صاحب دمشق؛ فلما ملك نور الدين دمشق امتنع بها، ولم يمكن نور الدين محاصرتها لقربه من الفرنج؛ فلطف الحال معه إلى ذلك الوقت، فملكها، واستولى عليها.
وقال ابن أبى طي: لما فتح نور الدين دمشق اتصل ذلك بنجم الدين أيوب، فكاتب نور الدين في تسليم بعلبك، فانقذ إليه وتسلمها منه، وألحقه بأصحابه. قال: ورأيت بعض المؤرخين قد ذكر إن مجير الدين صاحب دمشق أنزل نجم الدين من القلعة وجعله في البلد: وولى القلعة رجلا يقال له ضحاك. فلما ملك نور الدين دمشق خرج إلى بعلبك واستنزل منها ضحاكا. وتوسط أسد الدين في امر أخيه نجم الدين مع نور الدين، فأقطعه إقطاعا وسيره إلى دمشق، فأقام فيها، ورد نظر دمشق إليه، وولى ولده تور انشاه شحنكية دمشق فساسها أحسن سياسة، ولم يزل بها إلى أن توفي، فولى صلاح الدين شحنكية .
قلت: هذا وهم تور انشاه هو الملك المعظم شمس الدولة الذي فتح اليمن في أيام أخيه صلاح الدين. فكيف يقول انه مات قبل أن يلي صلاح الدين شحنكية دمشق؟ وأما كونه ولى الشحنكية بدمشق قبل صلاح الدين فهذا قريب، وقد رأيت ما يؤكده. قرأت في ديوان العرقلة: وقال يهنئه بالشحنكية بدمشق وهو في دار عمه أسد الدين شيركوه ابن شاذى:
قلت لحسادك: زيدوافي الحسد ... قد سكن الدار، وقد حاز البلد
لا تعجبوا. إن حل دار عمه ... أماتحل الشمس في برج الأسد
وقال في صلاح الدين لما ولى الشحنكية:
لصوص الشام توبوامن ذنوب ... تكفرها العقوبة والصفاد
لئن كان الفساد لكم صلاحا ... فمولاي الصلاح لكم فساد
وله فيه:
رويدكم يالصوص الشّآم ... فإني لكم ناصح في مقالي
واياكم وسمى النبيّ ... يوسف رب الحجا والحجال
فذاك مقطع أيدي النساء ... وهذا مقطع أيدي الرجال
قال ابن أبى طي: وولى صلاح الدين شحنكية مشق والديوان، فأقام فيه أياما، ثم تركه وصار إلى حلب لأجل واقعة جرت بينه وبين صاحب الديوان، أبى سالم بن همام0 فأنفذ نور الدين وأخذ ابن همام وحلق لحيته، وطيف به في دمشق. قلت وابن همام هذا هو الذي ذكره الشنباشي في قصيدته وأشار إلى حلق لحيته بقوله:
كابى سالم بن همام لما ... قام للنصح عاد يمشي ملثم
قال ابن أبى طي واستخص نور الدين صلاح الدين وألحقه بخواصّه، فكان لا يفارقه في سفر ولا حضر. وكان يفوق الناس جميعا في لعب الكرة، وكان نور الدين يحب لعب الكرة.

قال أبو يعلى: ونزل نور الدين بعسكره بالأعمال المختصة بالملك قليج أرسلان ابن الملك مسعود بن سليمان بن قتلمش ملك قونية وما والاها، فملك عدة من قلاعها وحصونها بالسيف والأمان. وكان الملك قليج أرسلان وأخواه ذو النون ودولات. مشتغلين بمحاربة أولاد الدّانِشَمْند ونصروا عليهم في وقعة كانت بأقصرا في شعبان. فلما عاد قليج أرسلان وعرف ما كان من نور الدين في بلاده، عظم عليه هذا الأمر واستبشعه، مع ما بينهما من الموادعة والمهادنة والصهر. وراسله بالمعاتبة والإنكار، والوعيد. والتهديد، فأجابه نور الدين بحسن الاعتذار وجميل المقال. وبق الأمر بينها مستمرا على هذه الحال، وعاد نور الدين من حلب إلى دمشق.
قال: وولى الأسطول المصري مقدم شديد الباس، بصير باشتغال البحر. فاختار جماعة من رجال البحر يتكلمون بلسان الفرنج، وألبسهم ثيابهم، ونهض بهم في عدة من المراكب الأسطولية، وأقلع في البحر لكشف الأماكن والمكامن، والمسالك المعروفة بمراكب الروم فتعرف أحوالها. ثم قصد ميناء صور، وقد ذكر له أن فيه شختورة رومية كبيرة فيها رجال كثير، ومال وافر. فهجم عليها وملكها، وقتل من فيها، واستولى على ما حوته، وأقام ثلاثة أيام، ثم احرقها وعاد عنها في البحر، فظفر بمراكب حجاج الفرنج، فقتل وانتهب وأسر وعاد إلى مصر بالغنائم والأسرى.
قلت:وفي هذه السنة ورد أمر الخليفة بغداد، وهو المقتفي، إلى أمير الحرمين، قاسم ابن هاشم، يأمره أن يركب على باب الكعبة المكرمة باب ساج جديدا قد ألبس جميع خشبه فضة وطلى بذهب، وأن يأخذ أمير الحرمين حلية الباب القديم لنفسه، ويسير إليه، خشب الباب القديم مجردا ليجعله تابوتا يدفن فيه عند موته. ذكر ذلك الفقيه عمارة الشاعر وقال: سألني أمير الحرمين أن أبيع له الفضة التي أخذها من الباب في اليمن، ومبلغ وزنها. خمسة عشر ألف درهم، فتوجهت إلى زبيد وعدن من مكة، في صفر سنة إحدى وخمسين، وحججت في الموسم منها، فدفعت لأمير الحرمين ماله، وألزمني الترسل عنه إلى مصر، يعنى مرة ثانية، بسبب جناية جناها خدمه على حاج مصر والشام.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وخمسمائةقال ابن الأثير: فيها حاصر نور الدين قلعة حارم، وهي حصن غربي حلب بالقرب من أنطاكية، وضيق على أهلها؛ وهي من أمنع الحصون وأحصنها في نحور المسلمين. فاجتمعت الفرنج، من قرب منها ومن بعد، وساروا نحوه لمنعه. وكان بالحصن شيطان من شياطين الفرنج يرجعون إلى رأيه، فأرسل إليهم يعرفهم قوتهم، وأنهم قادرون على حفظ الحصن والذب عنه، بما عندهم من العدد والعدد، وحصانة القلعة، ويشير عليهم بالمطاولة وترك اللقاء؛ وقال لم إن لقيتموه هزمكم وأخذ حارم وغيرها، وإن حفظتم أنفسكم منه أطقنا الامتناع عليه. ففعلوا ما أشار به عليهم، وراسلوا نور الدين في الصلح على أن يعطوه حصة من حارم، فأبى أن يجيبهم إلا على مناصفة الولاية، فأجابوه إلى ذلك، فصالحهم وعاد. وفى ذلك يقول بعض الشعراء من قصيدة؛ وذكر أبياتا من قصيدة لابن منير. وقد سبق أن ابن منير توفى سنة ثمان وأربعين. فإما أن يكون ابن منير قال هذا الشعر في غير هذه الغزاة، واما أن تكون هذه الغزاة في غير هذه السنة.
وقد قرأت في ديوان ابن منير: وقال يمدحه ويهنئه بالعود من غزاة حارم:
مافوق شأوك في العلا مزداد ... فعلام يقلق عزمك الإجهاد
هم ضربن على السماء سرادقا ... فالشهب اطنابٌ لها وعماد
أنت الذي خطبت له حساده ... والفضل ما اعترفت به الحساد
قام الدليل وسلم الخصم اليلن ... دَدُ وانجلى للآئر الإسناد
زهرت لدولتك البلاد، فروحه ... أرج المهب، ودوحها مياد
أحيا ربيع العدل ميت ربوعها ... فالبرض نجم والهشيم مراد
فالعيش إلا في جنابك ميتة ... والنوم إلا في حماك سهاد
وإذا العِدا زرعوا النفاق وأحصدوا ... كيدا فعزمك ناقض حصاد
بالمقربات كان فوق متونها ... جن الملا، وكأنها أطواد
تداى ومن وحى الكماة صفورها ... فالزحر قيد والندى قياد

سحب إذا سحبت بأرض ذيلها ... فالحزن سهل والهضاب وهاد
يهدى النواظر في دُجُنّة نقعها ... بدر بسرجك نير وقَّاد
أليست دين محمد، يانوره ... عزا له فوق السماء إساد
مازلت تسمكه بمياد القنا ... حتى تثقف عوده المّياد
لم يبق مذ أرهفت عزمك دونه ... عدد يراع به ولا استعداد
إن المنابر لو تطيق تكلما ... حمدتك عن خطبائها الأعواد
ولئن حمت منك الأعادي مهلة ... فلهم إلى المرعى الوبى معاد
وَلَكَمْ لَكُمْ في أرضهم من مشهد ... قامت به لِظُباكمُ الأشهاد
مُلقٍ بأطراف الفرنجة كلكلا ... طرفاه ضرب صادق وجلاد
حاموا، فلما عاينوا حوض الردى ... حاموا برائش كيدهم أو كادوا
ورجا البرنس وقد تبرنس ذلة ... حرما بحارم، والمصاد مصاد
ضجت ثعالبه فأخرس جرسها ... بيض تناسب في الحديد حداد
وسواعد ضربت بهن وبالقنا ... من دون ملة أحمد الأسداد
يركزن في حلب ومن أفنانها ... تجنى فواكه أمنها بغداد
يامن إذا عصفت زعازع بأسه ... خمدت جحيم الشرك فهي رماد
عجبا لقوم حأولوك وحاولوا ... عودا فواتاهم إليه مراد
ورأوا لواء النصر فوقك خافقا ... فأقام منهم في الضلوع فؤاد
من منكر ان ينسف السيل الربا ... وأبوه ذاك العارض المداد
أو أن يعيد الشمس كاسفة السنا ... نار لها ذاك الشهاب زناد
لا ينفع الآباء ما سمكوا من الْ ... علياء حتى ترفع الأولاد
ملك يقيد خوفه ورجاؤه ... ولقلما تتظافر الأضداد
وقال يهنئه بالنصر يوم حارم قصيدة أولها:
لملكك ما نشاء من الدوام
حظيت من المعالي بالمعاني ... ولاذ الناس بعدك بالأسامي
عزيز المنتمى عالى المراق ... بعيد المرتمى غالى المسامي
فما أحد إلى العلياء يدلى ... بمحتدك القسيمى القسامى
أبوك المعتلى قمم الأعادي ... إذا استعرت مذامرة القمام
زكا عرق العراق وقد تكنى ... به وأطال من شمم الشام
وجدك جد حتى قال قوم ... على الفلك ابتنى عمد الخيام
فخرت ففت آباء عظاما ... إذا فخر المنافر بالعظام
وقفنا والنواظر مسجدات ... وروح العز ذارىّ الختام
أساطر كالزبور مقصلات ... كانا من صلاة في نظام
لدى ملك سجاياه سجال ... تعاقب بين عفو وانتقام
فأهلنا لسالفتي هلال ... وكفرنا لضاحكتي حسام
ذهلنا والسماط يخال سمطا ... وقد سجد المقاول للسلام
هل الدَّست استقل بليث غاب ... أم الفلك ارتدى بدر التمام
كريم، أكثرت يده أيادي الْ ... عفاة، وقللت عدد الكرام
وخير سماعه ضرب مدام ... إذا طرب الملوك إلى المُدام
تطير به إلى العلياء نفس ... غروب عن ملاءمة الملام
سقي الله العوامل من جبال ... سعفن النقع عن نقع الأوام
فكم أنتجت من أمل عقيم ... بها، وحسنت من داء عقام
بإنب والرعال، كأن ثول ... تطاوح تحت عير من أيام
وأيدي الخيل تذرع لج بحر ... من الدم مزيد الثَّجَّيْن طامى
مقام كنت قطب رحاه، ارجي ... مقام بين زمزم والمقام
أحلت الدين فيه، وكان هما ... عزيز القوم، معتدل القوام

رميتهم بأرعن مرجحن ... أبارهم، وكنت أبر رامى
وفى شجراء حارم شاجرتهم ... سواهم كالسهام بكالسهام
فطائر حممت لهم حماما ... تطاير تحته، مثل الحمام
فلو قد مثل الإسلام شخصا ... لرشف ما وطئت من السلام
حماه وقد تناعس كل راع ... وقام وقد تقاعس كل حام
فأكذب مدعين هفوا وغروا ... بأن الأرض تخلو من إمام
أولى الأبصاركم هذا التعاشي ... عن النور المبين بل التعامي
عن القمر الذي يجلوه ظل ال ... عواصم في ضيا الليل التهامي
هو المهدى لامن ضل فيه ... كثيرا واستخف سوى هشام
وقائم عصرنا لا ما يمنى ... به من صوغ أضغاث المنام
بنور الدين انشر كل حق ... أطيل ثواؤه تحت الرجام
وطالت قية الإسلام حتى اس ... توت بين الفوارس والنعام
تطابق لاسمه لفظ ومعنى ... أحلاه الطباق على الأنام
جرى قدامه ابن سبكتكين ... وقبل الوبل هينمة الرهام
وكان من النجوم بحيث تومى ... إليه من غيابات التكامى
وجئت فصار أشمخ ما بناه ... لما شيدت الطأ من رغام
أطاعك إذ أطعت الله جد ... ركبت به الزمان بلا زمام
ألا يارُ بما اتفق الأسامي ... وفاضل. بينها درج التسامي
جنى شرفا من استغواه حتف ... إليك، وكم حياة من حمام
ترشفك الكماة وأنت موت ... كأنك من طعان في طعام
فصلقال الرئيس أبو يعلى: توجه نور الدين إلى ناحية حلب في بعض عسكره في الرابع والعشرين من صفر عند انتهاء خبر الفرنج إليه بعيثهم في أعمال حلب وإفسادهم. وصادفه في طريقه المبشر بظفر عسكره الحلبي بالإفرنج المفسدين على حارم، وقتل جماعة منهم وأسرهم. ووصل مع المبشر عدة وافرة من رءوس الإفرنج المذكورين وطيف بها في دمشق.
قال: وعاد نور الدين إلى دمشق. في بعض أيام رمضان سالما بعد تهذيب حلب وأعمالها، وتفقد أحوالها واستقرت الموادعة بينه وبين ولد السلطان مسعود صاحب، قونية وزال ما كان حدث بينهما.
وفى شوال تقررت الموادعة والمهادنة بينه وبين ملك الإفرنج مدة سنة كاملة، أولها شعبان، وأن المقاطعة المحمولة إليهم من دمشق ثمانية آلاف دينار صورية؛ وكتبت المواصفة بذلك بعد تأكيدها بالأيمان والمواثيق المشددة.
قال: وفى العشر الآخر من ذي الحجة غدر الفرنج ونقضوا ما كان استقر من الموادعة والمهادنة بحكم وصول عدة وكفرة من الفرنج في البحر، وقوة شوكتهم بهم؛. ونهضوا إلى ناحية الشعراء المجاورة لبانياس، وقد اجتمع فيها من جشارات خيول العسكرية والرعية وعوامل فلاحى الضياع ومواشي الحلابين والعرب والفلاحين الشيء الكثير الذي لا يحص فيذكر، للحاجة إلى الرعي بها والسكون إلى الهدنة المستقرة، ووقع للمندوبين بحفظها تقصير؛ فانتهزوا الفرصة واستاقوا جميع ما وجدوه، وأفقروا أهله منه، مع من أسروه من تركمان وغيرهم، وعادوا ظافرين آمنين. والله عادل في حكمه، يتولى المكافأة لهم، والإدالة منهم. وقد فعل سبحانه ذلك على ما سيأتي في حوادث السنة الآتية.
وفيها توفي القاضي أبو الفتح محمود بن إسماعيل بن قادوس، كاتب الإنشاء بالحضر. المصرية، وأصله من دمياط، ذكره العماد الكاتب في الخريدة وأثنى عليه. ومن شعره، في رجل كان يكثر التكبير في آخر الصلاة:
وفاتر النية عنينها ... مع كثرة الرعدة والهزه
مكبر سبعين في مرة ... كأنه صلى على حمزه
وله في وصف كتاب
مداده في الطرس لما بدا ... قبله الصب ومن يزهد
كأنما قد حل فيه اللّمى ... أو ذاب فيه الحجر الأسود
وبلغني أن القاضي الفاضل كان يعظمه كثيرا ويسميه ذا البلاغتين، وهو أحد من اشتغل الفاضل عليه، وكان لا يتمكن من اقتباس فوائده غالبا إلا في ركوبه من القصر إلى منزله بمصر، ومن منزله إلى القصر، فيسايره الفاضل ويجاريه في فنون الكتابة والأدب والشعر.

قال: وفي يوم الثلاثاء الثالث من ربيع الأول من هذه، السنة توفى الفقيه الزاهد أبو البيان نبا أبن محمد المعروف بابن الحوراني؛ وكان حسن الطريقة مذ نشأ صبيا إلى أن قض، متدينا نقيا، عفيفا سخيا، محبا للعلم والأدب، والمطالعة للغة العرب. وكان له عند خروج سريره لقبره في مقابر الباب الصغير المجاورة لقبور الصحابة من الشهداء، رض الله عنهم، يوم مشهود، من كثرة المتأسفين له. والمثنين عليه.
قلت: وفي هذه السنة والتي بعدها كثرت الزلازل بالشام.
قال أبو يعلى: في ليلة الثاني والعشرين من ربيع الأول وافت زلزلة هائلة، وجاءت قبلها وبعدها مثلها في النهار وفي الليل، ثم جاء بعد ذلك ثلاث دونهن، بحيث أحصين ست مرات. وفي ليلة الخامس والعشرين منه جاءت زلزلة ارتاع الناس منها في أول النهار وآخره وتواصلت الأخبار من ناحية حلب وحماة بانهدام مواضع كثيرة وانهدام برج من أبراج أفامية بهذه الزلازل المباركه. وذكر أن الذي أحصى عدده منها تقدير الأربعين؛ وما عرف مثل ذلك في السنين الماضية، والأعصار الخالية. وفى التاسع والعشرين من الشهر بعينه وافت زلزلة آخر النهار، وبالليل ثانية في آخره؛ وفى أول شهر رمضان زلزلة مروعة، وثانيهآ، وثالثة؛ وفى ثالث رمضان ثلاث زلازل، وأخرى وقت الظهر، وأخرى هائلة أيقظت النيام وروعت القلوب انتصاف الليل. وفي ليلة نصف رمضان زلزلة هائلة أعظم مما سبق؛ وعند الصباح أخرى، رفي الليلة التي تليها زلزلتان أولها وآخرها، وفى اليوم الذي بعد يومها، وفي ليلة الثالث والعشرين زلزلة مزعجة. وفى ثاني شوال زلزلة أعظم مما تقدم، وفي سابعه، وسادس عشره، وفي اليوم الذي جاء بعده، أربع زلازل، وليلة الثاني والعشرين منه. ودفع الله تعالى عن دمشق وضواحيها ما خافه أهلها من توالى ذلك وتتابعه، برأفته بهم، ورحمته لهم؛ فله الحمد والشكر. لكن وردت الأخبار من ناحية حلب بكثرة ذلك فيها، وأنهدام مساكنها. وأما شيزر فإن الكثير من مساكنها انهدم على سكانه بحيث قتل منهم العدد الكثير. وأما كفر طاب فهرب أهلها منها خوفا، على أرواحهم. واما حماة فكانت كذلك. وأما باقي الأعمال الشامية فما عرف ما حدث فيها من هذه القدرة الباهرة.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وخمسمائةففي ليلة تاسع عشر صفر وافت زلزلة عظيمة، وتلاها أخرى. وكذا في ليلة العشرين واليوم بعدها. وتواصلت الأخبار من الشام بعظيم تأثير هذه الزلازل.
وفي ليلة الخامس والعشرين من جمادى الأولى وافت أربع زلازل، وضج الناس بالتهليل والتسبيح والتقديس. وفى ليلة رابع جمادى الآخرة وافت زلزلتان. وتواصلت الأخبار من ناحية الشمال بأن هذه الزلازل أثرت في حلب تأثيرا أزعج أهلها وأقلقهم، وكذا في حمص وهدمت مواضع فيها وفي حماة وكفر طاب وأفامية، وهدمت ما كان بنى من مهدوم الزلازل الأولى وحكى. أن تيماء أثرت فيها هذه الزلازل تأثيرا مهولا.

وفى رابع رجب نهارا وافت بدمشق زلزلة عظيمة لم ير مثلها فيما تقدم ودامت رجفاتها حتى خاف الناس على أنفسهم ومنازلهم، وهربوا من الدور والحوانيت والسقائف، وانزعجوا، وأثرت في مواضع كثيرة، ورمت من فص الجامع الشيء الكثير الذي يعجز عن إعادة مثله؛ ثم وافت عقيبها زلزلة في الحال، ثم سكنتا بقدرة من حركهما. ثم تبع ذلك في أول ليلة اليوم المذكور زلزلة، وفى وسطه زلزلة، وفى آخره زلزلة، وفي ليلة الجمعة ثامن رجب زلزلة مهولة أزعجت الناس وتلاها في النصف منها ثانية، وعند انبلاج الصبح ثالثة، وكذلك في ليلة السبت، وليلة الأحد، وليلة الاثنين؛ وتتابعت بعد ذلك بما يطول به الشرح. ووردت الأخبار من ناحية. الشمال بما يسوء سماعه ويرعب النفوس ذكره، بحيث انهدمت حماة. وقلعتها، وسائر دورها ومنازلها، على أهلها من الشيوخ والشبان، والأطفال والنسوان، وهم العدد الكثير والجم الغفير، بحيث لم يسلم منهم إلا القليل اليسر وأما شيزر فإن ربضها سلم إلا ما كان خرب أولا. وأما حصنها المشهور فإنه انهدم على واليها، تاج الدولة بن أبى العساكر بن منقذ ومن تبعه، إلا اليسير ممن كان خارجا. وأما حمص فإن أهلها كانوا قد اختلفوا منها إلى ظاهرها فسلموا وتلفت مساكنهم وتلفت قلعتها. وأما حلب فهدمت بعض دورها وخرج أهلها منها إلى ظاهر البلد وكفر طاب وأفاميه وما والاها ودنا منها وبعد عنها من الحصون والمعاقل إلى جبلة وجبيل. وأتلفت سلمية وما اتصل بها إلى ناحية الرحبة وما جاورها. ولو لم يدرك العباد، والبلاد رحمة الله تعالى ولطفه ورأفته لكان الخطب أقطع. وقد نظم في ذلك من قال.
روعتنا زلازل حادثات ... بقضاء قضاهُ رب السماء
هدمت حصن شيرز، وحماة ... أهلكت أهله بسوء القضاء
وبلادا كثيرة وحصونا ... وثغورا موثقات البناء
فإذا ما رنت عيون إليها ... أجرت الدمع عندها بالدماء
وإذا قض من الله أمر ... سابق في عباده بالمضاء
حار قلب اللبيب فيه ومن كا ... ن له فطنة وحسن ذكاء
وتراه مسبحا باكَي العين ... مَرُوعاً من سخطة وبلاء
جل ربي في ملكة، وتعالى ... عن مقال الجُهّال والسفهاء
قال: وأما أهل دمشق، فلما وافتهم الزلزلة في ليلة الاثنين التاسع والعشرين من رجب ارتاع الناس من هولها، واجفلوا من منازلهم والمسقف إلى الجامع والأماكن الخالية. من البنيان خوفا على أنفسهم. ووافت بعد ذلك أخرى، ففتح البلد وخرج الناس إلى ظاهره والبساتين والصحراء، وأقاموا عدة ليال وأيام عل الخوف والجزع، يسبحون ويهللون، ويرغبون خالقهم ورازقهم في الطف بهم والعفو عنهم.
قال: وفى الرابع والعشري من رمضان وافت دمشق زلزلة عظيمة روعت الناس وأزعجتهم، لما وقع في نفوسهم مما قد جرى على بلاد الشام من تتابع الزلازل فيها. ووافت الأخبار من ناحية حلب بان هذه الزلزلة جاءت فيها هائلة فقلقلت من دورها وجدرانها العدد الكثير؛ وأنها كانت بحماة أعظم مما كانت في غيرها، وأنها هدمت ما كان عمر فيها من بيوت يلتجأ إليها. وأنها دامت فيها أياما كثيرة في كل يوم هذه وافرة من الرجفات الهائله، يتبعها صيحات مختلفات توفى على أصوات الرعود القاصفة المزعجة. فسبحان من له الحكم والأمر. وتلا ذلك ردفات. متوالية أخف من غيرهن. فلما كان ليلة السبت العاشر من شوال وافت زلزلة هائلة بعد صلاة العشاء الاخرة، أزعجت وأقلقت، وتلاها في أثرها هزة خفيفة. وكذا، في ليلة العاشر من ذي القعدة وفي غدها زلازل، وليلة الثالث والعشرين، والخامس والعشرين منه أيضا زلازل، نفر الناس من هولها إلى الجامع والأماكن المنكشفة، وضجوا بالتكبير والتهليل، والتسبيح والدعاء، والتضرع إلى الله تعالى. وفى يوم الجمعة، انسلاخ ذي القعدة، وافت زلزلة رجفت لها الأرض، وانزعج لها الناس.

وقال ابن الأثير: في سنة اثنتين وخمسين كان بالشام زلزلة شديدة ذات رجفات عظيمة متتابعة أخربت البلاد وأهلكت العباد، وكان أشدها بمدينة حماة وحصن شيزر، فانهما خربا بمرة وكذا ما جاورهما كحصن بارين والمعرة، وغيرهما من البلاد والقرايا وهلك تحت الهدم من الخلق ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وتهدمت الأسوار والدور والقلاع. ولولا أن الله تعالى من على المسلمين بنور الدين، جمع وحفظ البلاد، وإلا كان دخلها الإفرنج بغير حصار ولا قتال. قال: ولقد بلغني من كثرة الهلكى أن بعض المعلمين بحماة ذكر أنه فارق لمهم، فجاءت الزلزلة فأخربت الدور وسقط المكتب على الصبيان جميعهم قال المعلم فلم يأت أحد يسأل عن صبي كان له في المكتب.
قلت: وقرأت في ديوان الأمير الفاضل مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن منقذ: وقال في الزلازل التي أهلكت كثيرا من أهل الشام، وكان ابتداؤها في شهر الله رجب سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وهلك بها من ملك من الخلق، وكان نحوا من عشرة آلاف نسمة، قال: وكتب هذا المكتوب والزلازل إلى الآن تتعهد البلاد:
نمنا عن الموت والمعاد، وأصبح ... نا نظن اليقين احلاما
فحركتنا هذى الزلازل أي ... تيقظوا كم ينام من ناما
وقال أيضا:
أيها الغافلون عن سكرة المو ... ت واذ لا يسوع في الحلق ريق
كم إلى هذا التشاغل والغف ... لة، حار الساري وضل الطريق
إنما هزت الزلازل هذى ال ... أرض بالغافلين كي يستفيقوا
وقال في الزلازل أيضا، وقد سكن الناس بعد الدور والنزهة في أكواخ عملوها بالأخشاب لئلا تهدها الزلازل:
يا أرحم الراحمين ارحم عبادك من ... هذى الزلازل فهي الهُلْك والعطب
ماجت بهم أرضهم حتى كأنهم ... ر كاب بحر مع الأنفاس تضطرب
" فنصفهم هلكوا فيها، ونصفهم لمصرع السلف الماضين يرتقب
تعوضوا من مشيدات المنازل بال ... أكواخ فهي، قبور سقفها خشب
كأنها سفن قد أقبلت وهم ... فيها، فلا ملجأ منها ولا هرب
وقال يرثى أهله الذين هلكوا بالزلازل بحصن شيزر قصيدة منها:
ما استدرج الموت قومي في هلاكهم ... ولا تخرمهم مثنى ووحدانا
فكنت أصبر عنهم صبر محتسب ... وأحمد الخطب فيهم عز أوهانا
وافتدى بالورى قبلى، فكم فقدوا ... أخا، كم فأرقوا أهلا وجيرانا
لكن سقيت المنايا وسط جمعهم ... رغا، فخروا على الأذقان إذعانا
وفاجأتهم من الأيّام قارعة ... سقتهم بكئوس الموت ذيفانا
ماتوا جميعا كرجع الطرف، وانقرضوا ... هل ما ترى تارك للعين إنسانا
أعزز على بهم من معشر صبروا ... على الحفيظة إن ذو لوثة لانا
لم يترك الدهر لي من بعد فقدهم ... قلبا أجشمه صبر أو سلوانا
فلو رأوني لقالوا مات اسعدنا ... وعاش للهم والأحزان أشقانا
لم يترك الموت منهم من يخبرني ... عنهم، فيوضح ما قالوه تبيانا
بادوا جميعا وما شادوا، فواعجبا ... للخطب أهلك عمارا وعمرانا
هذى قصورهم أمست قبورهم ... كذاك كانوا بها من قبل سكانا
ويح الزلازل، افنت معشري فإذا ... ذكرتهم خلتني في القوم سكرانا
لا ألتقي الدهر من بعد الزلازل، ما ... حييت، إلا كسير القلب حيرانا
أخنت على معشري الأدنْين فاصطلمت ... منهم كهولا وشبانا وولدانا
لم يحمهم حصنهم منها، ولا رهبت ... بأسا تناذره الأقران أزمانا
إن أقفرت شيزر منهم فهم جعلوا ... منيع أسوارها بيضا وخرصانا
هم حموها، فلو شاهدتهم وهم ... بها، لشاهدت آسادا وخفانا
تراهم في الورى اسدا، ويوم ندى ... غيثاُ مغيثا، وفي الظلماء رهبانا
بنو أبي وبنو عمي، دمي دمهم ... وإن أروني منأواة وشنانا

يطيب النفس عنهم انهم رحلوا ... وخلقوني على الآثار عجلانا
وكتب إليه الصالح بن رزيك قصيدة يعزيه عن أهله منها:
بابي شخصك الذي لا يغيب ... عن عياني، فهو البعيد القريب
يا أخلاى بالشام لئن غب ... تم فشوقي إليكم لا يغيب
غصبتنا الأيام قربكم من ... ا ولا بد أن ترد الغصوب
كره الشام أهله، فهو محقو ... ق بألا يقيم فيه لبيب
إن تجلت عنه الحروب قليل ... خلفتها زلازل وخطوب
رقصت أرضه عشية غنى الر ... عد في الجو، والكريم طروب
وتثذت حيطانه إذ أمالت ... ها شمال بزمرها وجنوب
لا هبوب لنائم من أمانيه ... وللعاصفات فيها هبوب
وأرى البرق شامتا ضاحك السن ... وللجو بالغمام قطوب
ذكروا أنه تذوب به السح ... ب فما للصخور أيضا تذوب
أبذنب أصابها قدر الل ... ه فالأرض، كالأنام، ذنوب
إن ظني، والظن مثل سهام الر ... مي، منها المخطي ومنها المصيب
أن هذا لأن غدت ساحة القد ... س وما للإسلام فيها نصيب
منزل الوحي قبل بعث رسول الل ... ه، فهو المحجوج والمحجوج
نزلت وسطه الخنازير والخم ... ر، وبارى الناقوس فيه الصليب
لوراه المسيح لم يرض فعلا ... ذكروا أنه له منسوب
أبعد الناس عن عبادة رب الن ... اس قوم إلهم مصلوب
لهف نفسي على ديار من السك ... ان أقوت، فليس فيها عريب
فاحتسب ما اصاب قومك مجد الد ... ين، واصبر، فالحادثات ضروب
إن تخصصكم نوائب مازا ... لت لكم دون من سوامكم ننوب
فكذاك القناة، يكسر يوم الر ... وع منها صدر وتبقى الكعوب
وقرأت في ديوان العرقلة: كان المولى صلاح الدين يوسف بن أيوب مع عبيد غلام المولى، وكان عيد هذا موصوفا بالثقل، في بيت بمدينة حماة يوم الزلزلة فوقعت المدينة بأسرها سوى ذلك البيت الذي هما فيه. فقال العرقلة:
قل لصلاح الدين رب الندى ... بلغ عبيدا كل ما امله
بثقه لما تصا حبتما ... سلمك الله من الزلزلة
وقرأت في بعض كتب أبى الحسين الرازي عن شيوخه وقع بدمشق في ذي القعدة سنه خمس وأربعين ومائتين زلازل عظيمة حكى نحو مما مض ذكره وأكثر؛ نسأل الله تعالى تمام العافية.
فصلقال الرئيس أبو يعلى: في ثالث عشر ربيع الأول توجه نور الدين إلى ناحية بعلبك لتفقد أحوالها وتقرير أمر المستحفظين لها. وتواصلت الأخبار إليه من ناحية حمص، وحماة بإغارة الفرنج الملاعين على تلك الأعمال.
وفي خامس عشر ربيع الأول ورد المبشر من العسكر المنصور برأس الماء بأن ناصر الدبن أمير أميران لما انتهى إليه خبر الفرنج أنهم قد أنهضوا سرية وافرة العدد إلى ناحية بانياس لتقويتها، أسرع النهضة إليهم، وعدتهم سبعمائة فارس سوى الرجالة. فأدركهم قبل الوصول إلى بانياس وقد خرج إليهم من كان فيها من حماتها، فأوع بهم وقد كان كمن لهم في مواضع كمناء من شجعان الاتراك، واندفع المسلمون بين أيديهم في أول المجال، وظهر عليهم الكمناء، فأنزل الله نصره على المسلمين، بحيث لم ينج منهم إلا القليل؛ وصاروا بأجمعهم بين قتيل وجريح، ومسلوب وأسير. وحصل في أيدي المسلمين من خيولهم وسلاحهم، وأموالهم وأسراهم، ورءوس قتلاهم، ما لا يحدُ كثرة ومحقت السيوف عامة رجالتهم من الإفرنج ومسلمي جبل عاملة المضافين إليهم. ووصلت الأسرى ورءوس القتلى والعدد إلى دمشق، وطيف بهم، وقد اجتمع لمشاهدتهم الخلق، وكان يوما مشهودا وانفذ إلى نور الدين إلى بعلبك جماعة من أسرى المشركين فأمر بضرب أعناقهم صبرا.

قال: وتبع هذا الفتح ورود البشرى الثانية من أسد الدين باجتماع العدد الكثير إليه من شجعان التركمان، وافي قد ظفر من المشركين بسريه وافرة ظهرت في معاقلهم من ناحية الشمال، فانهزمت، وتخطف التركمان منهم من ظفروا به. قال: ووصل أسد الدين، إلى بعلبك في العسكر من مقدمي التركمان وأبطالهم للجهاد، وهم في العدد الكثير والجم الغفير، واجتمعوا بنور الدين. وتقررت الحال على قصد بلاد المشركين لتدويخها، والابتداء بالنزول على بانياس. وقدم نور الدين دمشق في إخراج آلات الحروب وتجهيزه إلى العسكر بحيث يقيم أياما يسيرة ويتوجه. وأمر بالنداء بدمشق في الغزاة والمجاهدين؛ فتبعه من الأحداث والمطوعة، والفقهاء والصوفية والمتدينين خلق كثير؛ وخرج يوم السبت انسلاخ شهر ربيع الأول.
وفي سابع ربيع الآخر، عقيب نزول نور الدين على بانياس ومضايقته لها بالمنجنيقات والحرب، سقط بدمشق الطائر من العسكر المنصور بظاهر بانياس، يتضمن كتابة الإعلام لورود المبشر من معسكر أسد الدين بناحية هونين في التركمان والعرب بأن الفرنج، خذلهم الله تعالى.، أنهضوا سرية من أعيان مُقدَّميم وأبطالهم تزيد على مائة فارس، سوى أتباعهم، لكبس المذكورين، ظّنامنهم بأنهم في قل، ولم يعلموا انهم في ألوف. فلما دنوا منهم وثبوا إليهم كالليوث إلى فرائسها فأطبقوا عليهم بالقتل والسمر، والسلب، ولم يبق منهم إلا اليسير. ووصلت الأسرى ورءوس القتلى وعددهم من الخيول المنتخبة، والطوارق، والقنطاريات، إلى دمشق وطيف بهم فيه يوم الاثنين تالي اليوم المذكور.
قال: وتلا هذه الموهبة المتجددة سقوط الطائر من المعسكر المحروس ببانياس، في يوم الثلاثاء تلو المذكور، يذكر افتتاح مدينة بانياس بالسيف قهرا، على مض أربع ساعات من يوم الثلاثاء المذكور، عند تناهي النقب وإطلاق النار فيه، وسقوط البرج المنقوب وهجوم الرجال فيه، وبذل السيف في قتل من فيه، ونهب ما حواه، وانهزام من سلم إلى القلعة وانحصارهم بها، وأن أخذهم بمشيئة الله تعالى لا يبطىء، والله يسهله ويعجله.
قال: وانفق بعد ذاك أن الفرنج تجمعوا من معَاقلهم عازمين على استنقاذ الهنفري صاحب بانياس ومن معه من أصحابه المحصورين بقلعة بانيس، وقد أشرفوا على الهلاك وبادروا وبالغوا في سؤال نور الدين الأمان ويسلمون ما في أيديهم من القلعة وما حوته لينجوا سالمين؛ فلم يجبهم إلى ما سألوه ورغبوا فيه. فلما وصل ملك الفرنج في جمعه من الفارس والراجل من ناحية الجبل على حين غفله من العسكرين، النازل على بانياس لحصارها، . والنازل على الطريق لمنع الواصل إليها، اقتضت السياسة الاندفاع عنها بحيث وصلوا إليها واستخلصوا من كان فيها. وحين شاهدوا ماعم بانياس من إخراب سورها ومنازل سكانها يئسوا من عمارتها بعد خرابها.

قال: وفي تاسع جمادى الأولى سقطت الأطيار بالكتب من المعسكر النوري تتضمن الإعلام بأن الملك العادل نور الدين، أعز الله نصره، لما عرف أن معسكر الكفرة الإفرنج على الملاحة، بين طبرية وبانياس، نهض في عسكره المنصور من الأتراك والعرب وجد في السير. فلما شارفهم وهم غازون، وشاهدوا راياته قد أظلتهم، بادروا بلبس السلاح والركوب وافترقوا أرع فرق؛ وحملوا على المسلمين. فعند ذلك ترجل الملك العادل نور الدين، فترجلت معه الأبطال وأرهقوهم بالسهام وخرصان الرماح، حتى زلزت بهم الأقدام، ودهمهم البوار والحمام. فأنزل الله نصره على المسلمين، وتمكنوا من فرسانهم قتلا وأسرا، واستأصلت السيوف الرجالة، وهم العدد الكثير، فلم يفلت منهم غير عشرة نفر وقيل إن ملكهم لعنه الله فيهم، وقيل إنه في جملة القتلى، ولم يعرف له خبر. ولم يفقد من عسكر الإسلام سوى رجلين أحدها من لأبطال المذكورين قتل أربعة من شجعان الكفرة، وقتل عند حضور أجله إلى رحمة الله والآخر غريب لا يعرف؛ وكل منهما مض شهيدا، مثابا مأجورا، رحمهما الله وامتلأت أيدي العساكر من خيولهم وعددهم، وكُراعهم وأثاث سوادهم، وحصلت كنيستهم في يد الملك نور الدين بالاتها المشهورة وكان فتحا مبينا، ونصرا عزيزا. ووصلت الأسرى ورءوس القتلى إلى دمشق يوم الأحد تالي يوم الفتح، وقد رتبوا على كل جمل فارسين من أبطالهم ومعهما راية من راياتهم منشورة، وفيها من جلود رءوسهم بشعرها عدة. والمقدمون منهم وولاة المعاقل والأعمال كل واحد منهم على فرس، وعليه الزردية والخوذة، وفى يده رأيه. والرجالة كل ثلاثة وأربعة، وأقل وأكثر في حبل وخرج من أهل البلد الخلق الذي لا يحص لهم عدد، من الشيوخ والشبان، والنساء والصبيان، لمشاهدة ما منح الله تعالى ذكره، كافة المسلمين من هذا النصر المبين، وأكثروا شكر الله تعالى، والدعاء لنور الدين المحامي عنهم، والرامي دونهم، والثناء على مكارمه، والوصف لمحاسنه ونظم في ذلك أبيات في هذا المعنى:
ما رأينا فيما تقدم يوما ... كامل الحسن غاية في البهاء
مثل يوم الفرنج لاحين علتهم ... ذلة الأسر والبلا والفناء
وبراياتهم على العيس زفوا ... بين ذل وحسرة وعناء
عد عز لهم وهيبة ذكر ... في مصاف الحروب والهيجاء
هكذا هكذا، هلاك الأعادي ... عند شن الإغارة الشعواء
شؤم أخذ الجشار كان وبالا ... عمهم في صباحهم والمساء
نقضوا هدنة الصلاح بجهل ... بعد تأكيدها بحسن الوفاء
فلقوا بينهم بما كان منهم ... من فساد يجهلهم واعتداء
لا حمى الله شملهم من شتهات ... بمواض تفوق حد المضاء
فجزاء الكفور قتل وأسر ... وجزاء الشكور خير الجزاء
ولرب العباد حمد وشكر ... دائم مع تواصل النعماء
قال: وشرع نور الدين في قصد أعمالهم لتملكها وتدويخها، والله المعين والموفق.
وقال. ابن أبى طي: في سنة اثنتين وخمسين أغارت الفرنج على بلد حمص وحماة، وأفسدوا، وأكثروا العبث؛ واتصل ذلك بنور الدين فأنهد إليهم عسكرا كثيفا، فأوقع بهم وهزمهم إلى أرض بانياس. وخرج نور الدين حتى نزل على بانياس وحاصرها، أشد حصار، حتى افتتحها في الثامن والعشرين من ربيع الأول، وأخذ جميع ما كان للفرنج فيها، وأنقذ الغنيمة والأساري مع أسد الدين إلى دمشق، وأنفذ معه مقدار ألف رأس. واتصل ذلك بالفرنج، فأنهضت إلى معارضة أسد الدين قطعة من خيالتها، واتصل هذا بأسد الدين، وقد دهمته الفرنج، قلبي لأمته، وتقدم في جماعة من مماليكه بين يدي العسكر، وأمر الرجال بلقاء الفرج، وناجزهم الحرب، فلم يتماسكوا بين يديه، ورجعوا على أدبارهم؛ وتبعهم مقدار فرسخين بقتل وبأسر؛ وغنم منهم غنيمة حسنة، وعاد. إلى أصحابه ظافرا، وتوجه في وجهته مؤيدا.
فصل

قال الرئيس أبو يعلى: وفى العشر الثاني من جمادى الآخر تواصلت الأخبار بوصول ولد السلطان مسعود في خلق كثير للنزول على أنطاكية. وأوجبت الصورة تقرير المهادنة بين نور الدين وملك الإفرنج؛ وتكررت المراسلات بينهما والاقتراحات والمشاجرات، بحيث فسد الأمر ولم يستقر على مصلحة، ووصل نور الدين إلى مقر عزه في بعض عسكره، وأقر باقيه ومقدميه مع العرب بإزاء أعمال المشركين.
قال: وفى ثالث رجب توجه نور الدين إلى ناحية حلب وأعمالها لتجديد مشاهدتها، وإمعان النظر في حمايتها عندما عاث المشركون فيها، وقربت عساكر الملك ابن مسعود منها. قال بعد ذلك: وقد تقدم من ذكر نور الدين ونهوضه في عساكره من دمشق إلى بلاد الشام عند انتهاء الخبر إليه بتجميع أحزاب الفرنج، خذلهم الله تعالى، وقصدهم لها وطمعهم، يحكم ما حدث من الزلازل والرجفات المتتابعة لها، وما هدمت من الحصون والقلاع والمنازل في أعمالها وثغورها لحمايتها والذب عنها إيناس من سلم من أهل حمص وشزر، وكفر طاب، وحماة، وغيرها، بحيث اجتمع إليهم العدد الكثير والجم الغفير، من رجال المعاقل والأعمال والتركمان. وخيم بهم بإزاء جمع الفرنج بالقرب مزن أنطاكية، وحصرهم، بحيث لم يقدر فارس منهم على الإقدام على الفساد. فلما مضت أيام من شهر رمضان عرض لنور الدين ابتداء مرض حماد؛ فلما اشتد به، وخاف منه على نفسة، استدعى أخاه نصرة الدين أمير أميران، وأسد الدين !شيركوه، وأعيان الأمراء والمقدمين، وأوصى إليهم ما اقتضاه رأيه، واستصوبه، وقرر معهم كون أخيه نصرة الدين القائم في منصبه من بعده، والساد لثلمة فقده، لاشتهاره بالشهامه وشدة البأس، ويكون مقيما بحلب؛ ويكون أسد الدين في دمشق في نيابة نصرة الدين واستحلف الجماعة على هذه القاعدة فلما تقررت اشتد به المرض، فتوجه في محفة إلى حلب وحصل في قلعتها، وتوجه أسد الدين إلى دمشق لحفظ أعمالها من فساد الإفرنج وتواصلت الأراجيف نور الدين فقلقت النفوس، وأزعجت القلوب، فتفرقت جموع المسلمين، واضطربت الأعمال وطمع الفرنج فقصدوا مدينة شيزر وهاجموها وحصلو فيها فقتلوا، وأسروأ، ونهبوا. وتجمع من عدة جهات خلق وكثير من رجال الاسماعيليه وغيرهم، وظهرو عليهم، فقتلوا منهم وأخرجوهم من شيزر. واتفق وصول نصرة الدين إلى حلب فأغلق والى القلعة، مجدالدين، في وجهه الأبواب وعص عليه. فثارت أحداث حلب، وقالوا هذا صاحبنا وملكنا بعد أخيه فزحفوا في. السلاح إلى بابا لبلد وكسروا أغلفة؛ ودخل نصرة الدين في أصحابه وحصل في البلد. وقامت لأحداث على وإلى القلعة باللوم والنكار والوعيد، واقترحوا على، نصرة الدين اقتراحات من جملتها إعادة رسمهم في التأذين بحى عَلَى خَيْرَ العَمَل، مُحَمَّدٌ وعَلِىُّ خَيْرُ البشر. فأجابهم إلى ما رغبوا فيه، وأحسن القول لهم والوعد، ونزل في داره. وأنقذ والى القلعة إليه والى الحلبيين يقول: موله نور الدين حي في نفسه وما كان إلى ما فعل حاجة. فقيل الذنب في ذلك للوالي؛ وصعد إلى القلعة من شاهد نور الدين حيا يفهمه، ما يقول وما يقال له. فأنكر ما جرى وقال: أنا أصفح للأحداث عن هذا الفعل الخطل ولا أؤاخذهم بالزلل؛ وما طلبوا لصلاح حال اخى وولى عهدى من بعدى وشاهد الأخبار وانتشرت البشائر في الأقطار بعافيته فأنست القلوب، بعد الاستيحياش، وابتهجت النفوس بعد القلق والانزعاج؛ وتزايدت العافيه، وصرفت الهممم إلى مكانات المقدمين، بالعود إلى جهاد الملاعين وكان نصرة الدين قد ولى مدينة حران وما أضيف إليها، وتوجه نحوها ولما تناصرت إلأخبار بالبشائر إلى أسد الدين بدمشق بعافية نور الدين واعتزامه على استدعاء العساكر الإسلامية للجهاد، سارع بالنهوض من دمشق إلى حلب؛ ووصل إليها في خيله، فاجتمع بنور الدين فأكرم لقيا، وشكر مسعاه وشرعوا في حماية الأعمال، من شر عصب الكفر والضلال.
قال: ونظمت هذه الأبيات في هذا المعنى:
لقد حسنت صفاتك يا زمانى ... وفزت بما رجوت من الأماني
فكم أصبحت مرتاعا لخوف ... فبدّلت المخالفة بالأمان
وجاءتنا أراجيف بملك ... عظيم الشأن، مسعود الزّمان
فروعت القلوب من البرايا ... وصار شجاعُها مثل الجبان

وثارت فتنة يٌخشى أذاها ... على الإسلام في قاصٍ ودان
ووافى بعد ذاك بشير صدق بعافية المليك مع التهاني
فولى الخوف منهدم المباني ... وعاد الأمن معمور المغاني
قال ابن أبى طي: وفي هذه السنة كانت الزلزلة التي هدمت شيزر، فخرج نور الدين وأخذها من بني منقذ وسلمها إلى مجد الدين ابن لداية، وسار إلى سرمين، لأنه بلغه حركة الفرنج، فاعترضه هناك مرض أشفى من؛ فأخضر شيركوه، وأوصاه بالعساكر، وأن يكون الامر بهذه لأخيه نرة الدين أمير أميران. فسار أسد الدين إلى دمشق وأقام بمرج الصفر أن يتحرك الفرنج إلى جهة دمشق أو غيرها؛ ولم يزل هناك حتى تعافى نور الدين فعاد إلى خدمته، منئا له بالعافيه. وكان أوخوه نصرة الدين قد حاصر قلعة حلب في مدة مرض نور الدين من مرضه سيرة إلى حران وجعل ولى عهدع أخاه قطب صاحب الموصل.
قال: ومان مجد الدين طمع في الملك لنفسه، فتحزم لأمره، وتقترب إلى الناس، زجعل له أصحاب أخبار، وشَحَن الطرقات والسبل بالرجال لتفتيش الخارجين من حلب وغيرهما والداخلين إليها.
قلت: ولابن منير تهنئة لنور الدين بالعافية من مرض غير هذا:
يا شمس لا كسف ولا تكدار ... ولا خلت من نورك الأنوار
البدر منقوص وأنت كامل ... لك السرايا وله السرار
برؤك الإسلام من أدوائه ... برء، وفي أعدائه بوار
ما أنت إلا السيف صد صدأ ... عن متنه مضربه البتار
لو كان محمولا أذى عن منفس ... لحملته دونك الأبصار
ولوفدت أرض سماء، ساقت ال ... ملوك في فدائك الأمصار
انت غياث محلهم إن أجدبوا ... وخيرهم إن ذكر الخيار
وفى سرير الملك منها ملك ... لله في سرائه اسرار
خير ملوك الأرض جدا وأبا ... إن هز عطفي ما جد نجار
مد على الدين رواق دولة ... تنازعت أسمارها للسمار
علت بنا، وحلت في يده ... فهى عليه السور والسوار
محمود المحمود عصر ملكه ... فلحيا من مزنها عتصار
يانور دين أظلمت آفاقه ... لو لم تبلج هذه الآثار
لله أيامك، ما تخطه ... بالمسك من إسفارها الأسفار
سلمت للإسلام، ترعى سرحه ... إذا ولى رعاته وجاروا
شكوت فالدنيا على سكانها ... قرارة جانبها القرار
كادت تموت الأرض من إشفاقها ... لولا شفاء ردها تمار
زرت عليك الترك جيب نسب ... يحسدها بزيه نزار
لا عَدِمت منك الأماني ربها ... معطى من الإقبال ما يختار
ما سمح الدهر بأن تبق لنا ... فكل جرح مسنا جبار
وله في قصيدة أخرى:
لا نؤدي لأنعم، الله شكرا ... بك يا أعظم البرية قدرا
زور عشر وافي لإقلاع ذا ... جعلا المنة الممناة عشرا
ام مغناك ضامنا أن ايا ... مك تغنى الأحقاب عصرا فعصرا
في محل له السما كان سمك ... وجدود لها المجرة مجرى
أيها العادل المظفر، لاقص ... ت شبا الدهر من شباتك ظفرا
جعل الله ما استهل من الأش ... هر ينهل في مغازيك نصرى
أبدا ينشر التهاني على سا ... حاتك الزهر في المواسم نشرا
أنت أسرى الملوك نفسا وفلسا ... وإلى أسرهم من الطيف أسرى
ملك عنده المشارب تستم ... رى وأخلاف الجود تمرى فتفرى
فلك الله من.مثمر بذر ... يصطفى صالحا ويحصد أجرا
عش لملك أصبحت في الدست منه ... فوق كسرى عدلاً وشعبا وكسرا
تفطر الطيبات للقطر فطرا ... وتعم الأعداء في النحر نحرا
يقتنى من كساك أنفس ملبو ... س يفنيك منه أطول عمرا
أنت تملى ونحن ننظم ماتن ... ثره الغر من مساعيك نثرا
صرف الله عنك عين زمان ... بك صارت بعد الإصابة عبرى

وتوالت لك الفتوح إلى أن ... تملاء الخافقين نهيا وأمرا
كلما أبهجت ملابس نعمى ... وتمليتهن، جددت أخرى
وقال القيسراني من قصيدة:
أشرق البهو ياجبين الهلال ... فحلاه لوجهك المتلالي
عن ليال حجبن عنا سناها ... إنما غيبة الهلال ليالي
لم يكن ما ألم بالجسم شكوى ... فتهنا توافد إلإقبال
لا ، ولا كان زائرا من سقام ... إنما كان طائفا من خيال
وعكة أقلعت وأنت صحيح ... ويصح النسيم بالاعتلال
أوما هذه السماء سرار ال ... بدر فيها على طريق الكمال
نعمة الله لايخص بها الخا ... لق إلأمن كان منه ببال
ولباس من المثوبة والغف ... ران ألبست ضافى الأذيال
فهنيئا لك البقاء وإن كا ... ن هناء يخص فيه المعالي
والتق، والندى، ومعربة الخي ... ل، وبيض الظبا، وسمر العوالي
والخلال التي إذا ما تحلت ... صدرت منك عن كريم الخلال
إن وقتك النفوس ما تتوقى ... فحقيق فدا الموالى الموالي
أو تحصنت في شعار من التق ... وى فما زلت منه في سربال
فشفى الله من أجل دوائي ... ه صريح الدعاء والإبتهال
ملك أبدل المخافة بالأم ... ن وأضحى بعد في الإبدال
وهو تاج الملوك، فالملك العا ... طال حال به على كل حال
وإذا النيران غابا، فنور الد ... ين شمس فجرية الآصال
قد أرت وجهك العلاما يريها ... وهى مرآة صالح الأعمال
وقض الله أن نجمك في الا ... نجم سام، وان جدك عال
كل يوم هذا المحيا محيى ... بالتهاني على يد الإقبال
فصل في ذكر حصن شيزر وولاية بني مُنْقذ
فال ابن الأثير وهو حصن قريب من حماة، بينهما نحو نصف نهار. وهو من أمنع القلاع واحصنها، على حجر عال، له طريق منقور في طرف الجبل، وقد قطع الطريق في وسطه وجعل عليه جسر من خشب؛ فإذا قطع ذلك الجسر تعذر الصعود ود إليه وكان لآل منقذ الكنانيين، يتوارثونه من أيام صالح بن مرداس إلى أن انتهى الأمر إلى الأمير أبى المرهف نصر بن علي بن المقلد بن نصر بن منقذ بن نصر بن هاشم، بعد أبيه أبى الحسن علي، فبقى به مدة طويلة إلى أن مات بشيزر سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وكان شجاعا كريما، صؤاما قواما. فلما حضره الموت استخلف أخاه الأمير أبا سلامه مرشد بن على، وهو والد أسامة، فقال والله لا وليتها، ولا خرجن من الدنيا كما دخلتها وكان عالما بالقرآن والأدب، كثير الصلاح؛ فولاها اخاه أبا العساكر سلطان بن علي وكان أصغر منه، فاصطحبا أجمل صحبة من الزمان.فولد أبو سلامة مرشد عدة أولاد ذكور، فكبروا وسادوا. منهم عز الدولة أبو الحسن على، ومؤيد الدولة أسامة بن مرشدا. وغيرهما ولم يولد لخيه سلطان ولد ذكر إلى أن كبر فجاءه أولاد، فحسد أخاه على ذلك؛ فكان كلما رأى صغر أولاده وكبر أولاد أخيه وسيادتهم ساءه ذلك وخافهم على أولاده وسعى المفسدون بينهما فغيروا كلا منهما على أخيه فكتب الأمير سلطان إلى أخيه شعرا يعاتبه على أشياء بلغته عنه، فأجابه بأبيات جيدة في معناها وكلهم كان أديبا شاعراً، فمنها:
ظلوم أبت في الظلم إلا تماديا ... وفي الصد والهجران إلا تناهيما
شكت هجرنا في ذاك، والذنب ذنبها ... فيا عجبا من ظالم جاء شاكيا
وطاوعت الواشين في، وطالما ... عصيت عذولاً في هواها وواشيا
ومال بِهاَتِيهُ الجمال إلى القلى ... وهيهات أن أمسى لها الدهر قاليا
ولا ناسيا ما أودعت من عهودها ... وإن هي أبد ت جفوة وتناسسيا
ولما أتاني من قريضك جوهر ... جمعت المعالي فيه لي والمعانيا
وكنت هجرت الشعر حينا لأنه ... تولى برغمى حين ولى شبابيا

وأين من الستين لفظ مفوف ... إذا رمت أدْني القول منه عصانيا
وقلت أخي يرعى بنى وأسرتي ... ويحفظ عهدي فهم وذماميا
ويجزيهم ما لم أكلفه فعله ... لنفسي، فقد أعددته من تراثيا
فمالك أن جنى الدهر صعدتي ... وثلم مني ما كان ماضيا
تنكرت حتى صار بِرٌّك قسوة ... وقربك منى جفوة وتنائيا
فأصبحت صفر الكف مما رجوته ... كذا اليأس قد عفى سبيل رجائيا
على أنني ما حلت عما عهدته ... ولا غيرت هذى السنون وداديا
فلا غَزْوَ عند الحادثات فإنني ... أراك يميني والأنام شماليا
تهن بها عذراء، لو قُرنت بهما ... نجوم السماء لم تعد دراريا
تحلت بد رمن صفاتك، زانها ... كما زان منظوم اللآلي الغوانيا
وعش بانيا للْجُود ما كان واهنا ... مُشيدا من الإحسان ما كان واهيا
قال: وكان الأمر فيه في حياة الأمير بض إلستر، فلما مات، سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، قلب أخوه لأولاده ظهر المجن، وبادأهم بما يسوءهم وتمادت الأيام بينهم إلى أن قوى عليهم فأخرجهم من شيزر. وكان أعظم الأسباب في إخراجهم ما حدثت به عن مؤيد الدولة أسامة بن مرشد قال: كنت من الشجاعة والإقدام على ما قد علمه الناس فبينما أنا بشيزر وإذا قد أتاني إنسان أخبرني أن بدجلة، يقاربها، أسدا ضاريا فركبت فرسي وأخذت سيفي وسرت إليه لأقتله، ولم أعلم أحدا من الناس. لئلا أمنع من ذلك. فلما قربت من الأسد نزلت عن فرسي وربطته، وسثيت نحوه. فلما رآني قصدني ووثب فضربته بالسيف عل رأسه فانفلق، ثم أجهزت عليه، وأخذت رأسه في مخلاة فرسي وعدت إلى شيزر؛ ودخلت على والدتي، وألقيت الرأس بين يديها، وحدثتها الحال فقالت: يا بنى: تجهز الخروج من سيزر، فو الله يمكنك عمك من المقام، ولا أحداً من إخوتك، وأنتم على هذه الحال من الإقدام والجرأة. فلما كان الغد أمر عمي بإخراجنا من عنده، وألزمنا به إلزاما لا مهلة فيه، فتفرقنا في البلاد. فقصدوا الملك العادل نور الدين وشكوا إليه ما لقوا من عمهم، فلم يمكنه قصده ولا الأخذ بثأرهم وإعادتهم إلى أوطانهم، لاشتغاله بجهاد الفرنج، ولخوفه من أن تسلم شيزر إلى الفرنج؛ وبقي لي في نفسه وتوفى الأمير سلطان وولى بعده أولاده فبلغ نور الدبن عنهم مراسلة الفرنج، فاشتد ما في نفسه وهو ينتظر الفرصة. فلما خربت القلعة بالزلزلة ولم يسلم منها أحد كان بالحصن، بادر إليها. وملكها، وأضافها إلى بلاده، وعمرها واسوارها، وأعادها كان لم تخرب. كذلك أيضا. فعل بمدينه حماة، وكل ما خرب بالشام بهذه الزلزلة، فعادت البلاد كأحسن ما كانت قلت: وسيأتي ذكر أسامة بن مر شد في أخبار سنة اثنتين وسبعين، وهى السنة التي قدم فيها دمشق من بلاد الشرق. وذلك أنه لما خرج من شيزر استوطن دمشق ثم فارقها، إلى الديار المصرية، وكتب إلى معين الدين أثر، أتابك صاحب دمشق، يعانيه في أسباب المفارقة قصيدة أولها:
وَلُوا، فلما رجونا عدلهم ظلمو ... فليتهم حكموا فينا بما علموا
ما مر يوما بفكري ما يريبهم ... ولا سعت بي إلى ما ساءهم قدم
ولا أضعتُ لهم عهدا، ولا اطلعت ... على ودائعهم في صدري التهم
فَلَيْت شعري! بم استوجبتُ هجرهمُ ... ملوا قصدهم عن وصلى السَّأم
حفظت ما ضيعوا، أغضبت حين جنوا ... وفَيْتُ إذ غدروا،واصلت إذ صرموا
حُرِمتُ ما كنت أرجو من ودادهم ... ما الرزق إلا الذي تجرى به القسم
وبعدُ لَوْ قيل لي ماذا تحب، وما ... تختار من زبنَة الدُّنيا؟ لقلت هم
لهم مجال الكرى من مقلتي، ومن ... قلبي محل المنى، جاروا أو اجترموا
تبدّلُوا بي، ولا أبغى بهم بدل ... حسبي هم أنصفوا في الحكم أو ظلموا
بلغ أميري معين الدين مالكه ... من نازح الدار، لكن وده أمم
وقل له: أنت خير الترك فضلك ال ... حياء والدين، والإقدام، والكرم

هلاَّ أنفت حياء أو محافظة ... من فعل ما أنكرته العرب والعجم
أسلمتنا وسيوف الهند مغمدة ... ولم يرو سنان السمهري دم
وكنت أحسب من والاك في حرم ... لا يعتريه به شيب ولا هرم
وما طُمانُ بأولى من أسامة بال ... وفاء، لكن جرى بالكائن القلم
هبنا جنينا ذنوبا لا يكفرها ... عذر، فماذا جنى الأطفال والحرم
ألقيتهم في رضا الإفرنج متبعا ... رضا عداً يسخط الرحمن فعلهم
جرّبهمُ مثل تجريبي لتخبرهم ... فللرجاًل إذا ما جربوا قيم
وهي طويلة. وطمان المذكور خادم تركي كان لأتابك ملك الأمراء زنكي بن آق سنقر، هرب من خدمته إلى دمشق، فطلبه ولج فيه؛ فاشتمل عليه معين الدين للجنسية، وحماه. فلما لج فيه سيره إلى العرب.وقام له بما يحتاج إلى أن رده لخدمته بدمشق.
وبقي أسامة بمصر إلى أن خرج منها مع عباس، كما سبق ذكره، وأسر الفرنج أخاه نجم الدولة محمد بن مرشد، وطلب من ابن عمه ناصر الدين محمد بن سلطان، صاحب شيزر، الإعانة في فكاكه فلم يفعل. قال: وادخر الله سبحانه أجر خلاصه وحسن ذكره للملك العادل نور الدين، رحمه الله، فوهبه فارسا من مقدمي الدّاوية، يقال له المشطوب، قد بذل الإفرنج فيه عشرة آلاف دينار، فاستخلص به أخاه من الأسر وبلغ أسامة أن القاضي كمال الدين ابن الشهرزوري أنشد نور الدين:
ملكُ بنى منقذ تولى ... وكان فوق السِّماك سمكة
فاعتبروا، وانظروا، وقولوا ... سبحان من لا يزول ملكه
والمعروف ملك بني برمك، فغيره المنشد لما تمثل به في غرضه. فأجازهما أسامة، بهذه الأبيات:
وكل ملك إلى زوال ... لا يعتري ذا اليقين شكه
إن لم يزل بانتقال حال ... أزال ذا الملك عنه هلكه
والله رب العباد باق ... وهالك نده وشركه
فقل لمن يظلما البرايا ... غرك إمهاله وتركه
تنس ذنوبا عليك تحمى ... يحصرها نقده وحكه
كم ناسك نسكه رياء ... أوبقَه في المعاد نسكه
فاحذر فما يختفي عليه ... من عبده صدقه وافكه
وما أحسن ما قال أسامة في كبره:
مع الثمانين عاث الضعف في جَلَدي ... وساءني ضعف رجلي واضطراب يدى
إذا كتبت فخطى جد مضطرب ... كخط مرتعش الكفين مرتعد
فاعجب لضعف يدي عن حملها قلماً ... من بعد حطم القنا في لبة الأسد
وإن مشيت وفي كفى العصا، ثفلت ... رجلي، كأني أخوض الوحل في الجلد
فقل لمن يتمنا طول مدته ... هذى عواقب طول العمر والعدد
فصل في باقي حوادث سنه اثنتين وخمسينقال الرئيس أبو يعلى: تناصرت الأخبار بظهور أمير المؤمنين المقتفي على عسكر السلطان المخالف لأمره ومن انظم إليه من عسكري الموصل وغيره، بحيث قتل منهم العدد الكثير، ورحلوا عن بغداد مفرقين مغلولين خاسرين، بعد المضايقه والتناهي في المحاصرة والمصابرة.
قال: ووردت الأخبار في أوائل رجب بوفاة السلطان غياث الدين أبى الحارث سنجر بن الفتح بن ألب أرسلان، سلطان خراسان، عقيب خلاصه من الشدة التي وقع فيها، والأسر الذي حصل فيه وكان يحب العدل والإنصاف للرعايا، حسن السيرة، جميل الفعل؛ وقد علت سنه وطال عمره وكان قد ورد كتابها في أواخر صفر من هذه السنة إلى نور الدين بالتشوق إليه والإحماد لخلاله، وما ينتهي إليه من جميل أفعاله، وإعلامه ما من الله عليه به من خلاصه من الشدة التي وقع فيها، والأسر الذي بلى به في أيدي الأعداء الكفرة، من ملوك التركمان، بحيلة دبرها، وسياسة أحكمها وقررها، بحيث عاد إلى منصبه من السلطة المشهورة، واجتماع العساكر المتفرقة عنه إليه.

قال: وفي شهر رمضان ورد الخبر من ناحية حلب بوفاة الشيخ مخلص الدين أبى البركات عبد القاهر بن على بن أبى جرادة الحلبي، وهو الأمين على خزائن مال نور الدين وكان كاتبا بليغا، حسن البلاغة نظما ونثرا، مستحسن الفنون من التذهيب البديع، وحسن الخط المحرر على الأصول القديمة المستظرفة، مع صفاء الذهن وتوقد الفطنة والذكاء وقال: وفيها رابع عشر شوال ورد الخبر من ناحية بصري بأن واليها فخر الدين سرخاك قتل غيلة بموافقة من أعيان خاصته. وكان فيه افراط في التحرر واستعمال التيقظا. ولكن القضاء لا يغالب ولا يدافع قال: وفي أوائل ذي القعدة ورد الخبر من حمص بوفاة واليها الأمير الملقب بصلاح. الدين وكان في أيام شبيبته قد حظي في خدمة عماد الدين زنكي، وتقدم عنده بالمناصحة وسداد التدبير، وحسن السفارة وصواب الرأى؛ ولما علت سنه ضعف عن ركوب الخيل، وألجأته الضرورة إلى الحمل في المحفة لتقرير الأحوال، والنظر في الأعمال؛ ولم ينقص من حسنه وفهمه ما ينكر عليه إلى حين وفاته. وحلفه من بعده أولاده في منصبه وولايته قال: وورد إلى دمشق إماًم من أئمة فقهاء بلخ في عنفوان شبابه وغضارة عوده، ما رأيت أفصح من لسانه في ببلاغَتْيه العربية والفارسية، ولا أسرع من جوابه ببراعته، ولا أطيش منه قلما في كتابته: أبو الحياة محمد بن أبى القاسم بن عمر السلمي ووعظ في جامع دمشق عدة أيام والناس يستحسنون وعظه، ويستظرفون فنه، وسلاطة لسانة، وسرعة جوابه، وحدة خاطرة، وصفاء حسة.
قال ابن الأثير: وفيها في ذي الحجة توفى الأمير عز الذين أبو بكر الدبيسى صاحب جزيرة ابن عمر؛ وكان من أكابر الأمراء، ياخذ نفسه ماخذ الملوك وكان عاقلا حازما، ذا رأى وكيد ومكر. وملك الجزيرة قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، أخو نور الدين.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وخمسمائةقال الرئيس أبو يعلى: في أوائل المحرم تناصرت الأخبار من ناحية الفرنج المقيمين بالشام، خذلهم الله تعالى، بمضايقتهم لحصن صارم ومواظبتهم على رميه بحجارة المجانيق إلى ان ضعف وملك بالسيف. وتزايد طمعهم في شن الغارات في الأعمال الشامية وايطلاق ألايدى في العبث والفساد في معاقلها وضياعها، بحكم تفرق العسكر الإسلامية والخلف الواقع بينهم باشتغال نور الدين بعقابيل المرض العارض له. ولله المشيئة التي لا تدافع والأقضية التي لا تمانع0 وقال: وفي صفر ورد الخبر، والمبشر بنزول نور الدين من حلب للتوجه إلى دمشق. واتفق للكفرة الملاعين تواتر الطمع في شن الغارات على أعمال حوران والإقليم، وإطلاق أيدى الفساد والعيث والإحراق والإخراب في الضياع، والنهب والسبي والأسر؛ وقصد داريا والنزول عليها في انسلاخ صفر، واحراق منازلها وجوامعها، والتناهي في إخرابها. وظهرإليهم العسكرية والأحداث، وهموا بقصدهم والإسراع إلى لقائهم وكفهم؛ فمنع من ذلك بعد أن قربوا منهم. وحين شاهد الكفار، خذلهم الله تعالى، كثرة العدد الظاهر إليهم رحلوا في آخر النهار المذكور إلى ناحية الإقليم. ووصل نور الدين إلى دمشق وحصل في قلعته، سادس ربيع الأول، سالما في نفسه وجملته ولقي باحسن زي وترتيب وتجمل، واستبشر العالم بمقدمة المسعود وابتهجوا، وبالغوا في شكراللة تعالى على سلامتة وعافيتة والدعاء لة بدوام ايامة. وشرع في امر الاجتهاد والتاهب للجهاد.
قال: وفي أوائل ربيع الأول ورد الخبر من ناحية مصر بخروج فريق وافر من عسكرها إلى غزة وعسقلان، وأغاروا على أعمالها وخرج إليهم من كان بها من الفرنج الملاعين، فأظهر الله تعالى المسلمين عليهم قتلا وأسرا، بحيث لم يفلت منهم إلا اليسير، وغنموا ما ظفروا به وعادوا سالمين ظافرين. وقيل إن مقدم الغزاة في البحر ظفر بعدة من مراكب المشركين وهي مشحونة بالفرنج، فقتل وأسر منهم العدد الكثير، وحاز من أموالهم وعددهم وأثاثهم مالايحصى، وعاد ظافرا غانما.
قلت: وأرسل إلى مؤيد الدولة أسامة بن منقذ من وزيرها الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن رزيك قصيدة يشرح فيها هذة الغزاة ويحرص فيها نور الدين على قتال المشركين، ويذكرة بما من الله تعالى عليه من العافيه والسلامة من تلك المرضة المقدم ذكرها. وكان كثيرا ما يكاتبه طالبا منه بالغزاة لحثه عليها. واول هذه القصيدة:

إلا هكذا في الله تمضى العزائم ... وتُنضى لدى الحرب السيوف الصوارم
ويُستنزل الاعداء من طَوْد عزهم ... وليس سوى سُمْر الرماح سلالم
وتغزى جيوش الكفر في عقر دارها ... ويوطا حماها والانوف رواغم
ويوفى الكرام الناذرون بنذرهم ... وان بذلت فيها النفوس الكرائم
نذرنا مسير الجيش في صفرٍ، فما ... مضى نصفة حتى انثنى وهو غانم
بعثناه من مصر إلى الشام قاطعا ... مفاوز وخد العيش فيهن دائم
فما هاله بعد الديار، ولا ثنى ... عزيمته جهد الظما والسمائم
يهجر والعصفور في قعر وكره ... ويسرى إلى الاعداء والليل نائم
يبارى خيولا ما تزال كانها ... إذا ما هي انقضت نسور قشاعم
يسير بها ضرغام في كل مازق ... وما يصحب الضرغام إلا الضراغم
ورفقته عين الزمان، وحاتم ... ويحيى، وان لاقى المنية حاتم
وواجههم جمع الفرنج بحملة ... يهون على الشجعان فيها الهزائم
فلقوهم زرق الاسنة، وانطووا ... عليهم، فلم يرجع من الكفر ناجم
وما زالت الحرب العوان اشدها ... إذا ما تلاقي العسكر المتضاجم
يشبههم من لاح جمعهمُ له ... بلجَّة بحر موجها متلاطم
وعادوا إلى سل السيوف، فقطعت ... رءوس، وحزّت للفرنج غَلاَصِم
فلم ينج منهم يوم ذاك مخبر ... ولاقيل هذا وحده اليوم سالم
نقتلهم بالرأي طورا، وتارة ... تدوسهم منا المذاكى الصلادم
فقولوا لنور الدين، لا قل حده ... ولا حكمت فيه الليالي الغواشم
تجهز إلى ارض العدو، ولا تهن ... وتظهر فتورا إن مضت منك حازم
فما مثلها تبدى احتفالا به ولا ... يعض عليها للملوك الاباهم
فعندك من الطاف ربك مابه ... علمنا يقينا انه بك راحم
اعادك حيا إن زعم الورى ... بانك قد لاقيت ما الله حاتم
بوقت اصاب الأرض ما اصابها ... وححلت بها تلك الدواهى العظائم
وخيم جيش الكفر في الض شيزر ... فسيقت سبايا واستحلت محارم
وقد كان تاريخ الشام وهلكه ... ومن يحتويه انه لك عادم
فقم،واشكر الله الكريم بنهضه ... إليهم،فشكر الله للخلق لازم
فنحن ىلى ما عهدت،نروعهم ... ونحلف جهدا اننا لا نسالم
وغاراتناليست تفتر عنهم ... وليس ينجى القوم منا الهزائم
فاسطولنا اضعاف ما كان سائرا ... إليهم،فلا حصن لهم منه عاصم
ونرجو بان يجتاح باقيهم به ... وتحوى الاسارى منهم والغنائم
وكتب إليه أيضاً:
يا سيدا يسمو بهم ... ته إلى الرتب العليه
فينال منها حين يح ... رم غيره اوفى مزيه
انت الصديق وان بعد ... ت،وصاحب الشيم الرضيه
ننبيك إن جيوشنا ... فعلت فعال الجاهليه
سارت إلى الاعداء من ... ابطالها مائتا سريه
فتغير هذى بكرة ... وتعاود الاخرى عشيه
فالويل منها للفر ... نج فقد لقوا جهد البليه
جاءترءوسهم تلو ... ح على رءوس السمهريه
وقلائع قد قسمت ... بين الجنود على السويه
وخلائق كسرت من ال ... أسرى تقاد إلى المنيه
فانهض فقد أنبيت مَجْ ... د الدين بالحال الجليّه
والمم بنور الدين واع ... امه بهاتيك القضيه
فهو الذي ما زال يخ ... لص منه أفعالاً ونيه
ويبيد جمع الكفر بال ... بيض الرّقاق المشرفيه

فعساه ينهض نهضه ... يفنى بها تلك البقيه
إما لنُصرة دينه ... أو مُلكه، أو للحميه
وكتب إليه أيضاً:
أيها المفتدي، لأنت على البُع ... د صديق لنا، ونعم الصّديق
ليس فيما تأتيه من بر أفعا ... لك للطالب الحقوق عقوق
فلهذا نرى مواصلة الكت ... ب تباعاً إليك خليق
ونناجيك بالمهات، اذ أنْ ... ت بالقائها إليك خليق
وأهم المهم أمر جهاد ال ... كفر، فاسمع فعندنا التحقيق
واصلتهم منا السرايا، فأشجا ... هُم بُكُورٌ منا لهم وطرق
وأباحت ديارهم، فأباد ال - قوم قتل ملازم وحريق
وانتظرنا بزحفنا برءُ نور الد ... ين، علماً منّا بأن سيُفيق
وهو الآن في أمان من الل ... ه، وما يعتريه أمر يعوق
ماً لهذا المهم مثلك مجد الد ... ين، فانهض به فانت حقيق
قل له، لا عداء رأى، ولازا ... ل له بكل خير طريق
أنت في جسم داء طاغية الكف ... ار ذاك المرجو والمرموق
فاغتنم بالججهاد أجرك كي تل ... قى رفيقا له ونعم الرفيق
فاجبه اسامه بقصية منها:
يا أمير الجيوش ما زال للاس ... لام والدين منك ركن وثيق
أسمعت دعوة الجهاد، فلبا ... ها مليك بالمكرمات خليق
ملك عادل أنار به الدي ... ن، فعم الإسلام منه للشروق
ماله عن جهاده الكفر، والعد ... ل، وفعل الخيرات شغل يعوق
هومثل الحسام: صدر صقيل ... لين منه، وحد ذليق
ذوانة بجمالها الغر اهما ... لا، وفيها حتف الأعادى المحيق
فاسلما للإسلام كهفين ما طر ... ز ثوب الظلام برق خفوق
وكتب الصالح إليه أيضاً:
قل لابن منقذ الذي ... قد حاز في الفضل الكمالا
فلذاك قد أضحى الأنا ... م علىمكارمه عيال
كم قدبعثنا نحوك ال ... ا شعارمسرعة عجالا
وصددت عنها حين را ... مت من محاسنك اوصال
هلآ بذلت لنا مقا ... لأ، حين لم تبذل فعالا
مع أننا نوليك صب ... را في المودة، واحتمال
ونبثك الأخبار إن ... أضحت قصاراً أو طوالا
سارت سرايانا لقص ... د الشام تعتسف الرمالا
نزجي إلى الأعداء جر ... د الخيل اتباعا توالى
تمضى خفافا للمغا ... ر بها، وتاتينا ثقالا
حتى لقد رام الأعا ... دى من ديارهم ارتحال
وعلى الوعيرة معشر ... لم يعهدوا فيها القتالا
لما نأت عمن يحف ... بها يمينا أو شمالا
نهضت إليها خيلنا ... من مصر تحتهمل الرجالا
والبيض لامعة، وبي ... ض الهند، والأسل النهالا
فغدت كان لم يعهدوا ... في أرضها حيا حلالا
هذا، وفي تل العجا ... ل ملأن بالقتلى التلالا
اذ مر مرى ليس يد ... وى نحو رفقتها اشتغالا
واستق عسكرنا له ... أهلا يحبهم ومالا
وسرية ابن فرنج الطا ... ئي طال بها وصالا
سارت إلى أرض الخلي ... ل فلم تدع فيها خلال
فلو إن نور الدين يج ... عل فعلنا فيهم مثالا
ويسير الأجناد جه ... را، كي ينازلهم نزال
ووفى لنا، ولأهل دو ... لته، بما قد كان قالا
لرأيت للافرنج طرا ... في معاقلها اعتقالا

وتجهزوا للسير نح ... و الغرب، أو قصدوا الشمالا
واذا أبى إلآ اطرا ... حا للنصيحة واعتزالا
عدنا بتسليم الأمو ... ر لحكم خالقنا تعالى
فأجاب ابن منقذ بقصيدة منها:
يا اشرف الوزراء اخ ... لاقا، واكرمهم فعال
نبهت عبدا طالما ... نبهته قدرا وحالا
وعتبته، فانلته ... فخرا، وحمدا، لن ينالا
لكن ذاك العتب يش ... عل في جوانبه اشتعالا
اسفا لجد مال عن ... ه إلى مساءته ومالا
اما السرا ياحين تر ... جع بعد خفتها ثقالا
فكذاك عاد وفود با ... بك مثقلين ثنا ومالا
ومسيرها في كل ار ... ض تبتغي فيها المجالا
فكذاك فضلك مثل عد ... لك في الدنا سارا وجالا
فاسلم لنا حتى نرى ... لك في بنى الدنيا مثالا
واشدد يديك بود نو ... ر الدين والق به الرجالا
فهو المحامي عن بلا ... د الشام جمعا إن تذالا
ومُبيد أملاك الفرن ... ج وجمعهم حالا فحالا
ملك يتيه للدهر والد ... نيا بدولته اختيالا
جمع الخلال الصالحا ... ت فلم يدع منها خلالا
فإذا بدا للناظري ... ن رأت عيونهم الكمالا
فبقيم للمسلمي ... ن حمى وللدنيا جمالا
وكتب إليه الصالح من قصيدة تقدم ذكرها فىا لزلازل:
ولعمرى ان المناصح في الدي ... ن على الله أجره محسوب
وجهاد العدو بالفعل والقو ... ل على كل مسلم مكتوب
ولك الرتبة العلية في الأم ... رين مذ كنت إذ تشب الحروب
أنت فيها الشجاع، مالك في الطع ... ن ولا في الضراب يوماً ضريب
وإذا ما حرضت، فالشاعر المف ... لق فيما يقوله، والخطيب
وإذا ما أشرت فالحزم لاين ... كر ان التدبير منك نصيب
لك رأى يقظان إن ضعف الرا ... ئ، على حاملى الصليب صليب
فانهض الآن مسرعا، فبأمثا ... لك مازال يدرك المطلوب
الق منا رسالة عند نور الد ... ين مافي إلقائها مايريب
قل له، دام ملكه، وعليه ... من لباس الإقبال برد قشيب
أيها العادل الذي هو للدي ... ن شباب، وللحروب شيب
والذي لم يزل قديما عن الإس ... لام بالعزم منه تجلى الكروب
وغداً منه للفرنج، إذالا ... قوه، يوم من الزمان عصيب
إن يرم نزف حقدهم فلا شطا ... ن قناة في كل قلب قليب
غيرنا من يقول ما ليس يمضي ... ه بفعل، وغيرك المكذوب
قد كتبنا إليك ما وضح الا ... ن، بماذا عن الكتاب تجيب؟
قد قصدنا أن يكون منا ومنكم ... أجل في مسيرنا مضروب
فلدينا من العساكر ما ضا ... ق بأدناهم الفضاء الرحيب
وعلينا أن يستهل على الشا ... م مكان الغيوث مال صبيب
أو تراه مثل العروس، نراها ... كله من دم العدا مخضوب
لطنين السيوف في فلق الصب ... ح على هام أهلها تطريب
ولجمع الحشود من كل حصن ... سلب لهم ونهوب
ويحول الإله ذاك، ومن غا ... لب ربى فإنه مغلوب
وكتب إليه أيضاً:.
أيها السائر المجد إلى الشا ... م، تبارى ركابة والخيول
خذ على بلدة بها دار مج ... د الدين، لأربع ريعها المأهول
وتعرف أخباره واقره من ... ا سلاما فيه العتاب يجول

قل له: أنت نعم ذخر الصديق ال ... يوم، لكنك الصديق الملول
ما ظننا بأن حالك في القر ... ب ولا البعد بالملال يحول
لا كتاب، ولا جواب، ولا قو ... ل به لليقين منا حصول
غير أنا نواصل الكتب إذ أق ... صر منك البر الكريم الوصول
ذاكرين الفتح الذي فتح الل ... ه علينا، فالفضل منه جميل
جاءنا بصد ما ذكرناه في كت ... ب أتاكم بهن منا رسول
أن بعض الأسطول نال من الإف ... رنج مالا يناله التأميل
سار في قلة، وما زال بالل ... ه وصدق النيات ينمى القليل
وبقايا الأسطول ليس له بع ... د إلى جانب الشام وصول
فحوى من عكآ وأنطرسوس ... عدة لم يحط بها التحصيل
جمع د يوية، بهم كانت الإف ... رنج تسطو على الورى وتصول
قيد في وسطهم. مقدمهم، يه ... دى إلينا، وجيده مغلول
بعد مثوى جماعة هلكوا بال ... سيف، منها الغريق والمفلول
هذه نعمة الإله، وتعدي ... د أيادي الإله شيء يطول
بلغوا قولنا إلى الملك الع ... ادل، فهو المرجو والمأمول
قل له: كم تماطل الدين في الكف ... ار، فأحذر أن يغضب الممطول
سر إلى القدس، واحتسب ذلك في الل ... ة، فبالسير منك يشفى الغليل
وإذا ما أبطا مسيرك، فالل ... ة إذا حسبنا ونعم الوكيل
فأجابه أسامة بقصيدة منه:
يا أمير الجيوش، يا أعدل الحك ... ام في فعله وفي ما يقول
أنت حليت بالمكارم أهل العص ... ر حتى تعرف المجهول
وقسمت الفرنج بالغزو شطري ... ن: فهذا عان، وهذا قتيل
بالغ العبد في النّيابة والتح ... ريض، وهو المفوه المقبول
فرأى من عزيمة الغزو ما كا ... دت له الأرض والجبال تميل
وإذا عاقت المقادير فالل ... ة إذا حسبنا ونعم الوكيل
وكتب الصالح إليه جواباً قصيدته الطائية التي أولها:
هي البدر، لكن الثريا لها قرط ... ومن أنجم الجوزاء في نحرها سمط
ثم قال بعد وصف السيوف:
ذخرنا سطاها للفرنج، لأنها ... بهم دون أهل الأرض أجدر أن تسطو
وقد كاتبوا في الصلح، لكن جوابهم ... بحضرتنا ما تكتب الخط لا الخط
سطور خيول لا تغب ديارهم ... لها بالمواضى والقنا الشكل والنقط
إذا أرسلت فرعا من النقع فاحما ... أثيثا، فأسنان الرماح لها مشط
رددنا به ابن الفنش عنا، وإنم ... ا يثبته في سرجه الشد والربط
فقولوا لنور الدين: ليس لخائف ال ... جراحات إلا الكي في الطب والبط
وحسم أصول الداء أولى بعاقل ... لبيب إذا استولى على المدنف الخلط
فدع عنك ميلاً للفرنج وهدنة ... بها أبداً يخطى سواهم ولم يخطوا
تأمل، فكم شرط شرطت عليهم ... قديما، وكم غدر به نقص الشرط
وشمر فإنا قد اعنا بكل ما ... سألت، وجهزنا الجيوش ولن يبطوا
قال العماد في كتاب الخريدة: الصالح أبو الغارات بن رزيك سلطان مصر في زمان الفائز وأول زمان العاضد. ملك مصر، واستولى على أمر صاحب القصر، ونفق في زمانه النظم والنثر، وقرب الفضلاء، واتخذهم جلساء، ورحل إليه ذوو الرجاء، وأفاض على القاصي والداني العطاء. وله قصائد كثيرة مستحسنة أنفذها إلى الشام، يذكر فيها بنصر الإسلام، وما يصدق أحد أن ذلك شعره، لجودته، وإحكام مباني حكمته، وأقسام معاني بلاغته، فيقال إن للمهذب ابن الزبير كان ينضم له، وان الجليس ابن الحباب كان يعينه وله ديوان كبير وإحسان كثير.
ولما جلس في دست الوزارة نضم هذه الأبيات بديهة:

انظر إلى ذي الدار، كم ... قد حل ساحته وزير
ولكم تبختر آمنا ... وسط الصفوف بها أمير
ذهبوا، فلا والله ما يبقى ... الصغير ولا الكبير
ولمثل ما صاروا إلي ... ه من الفناء غدا نصير
فصلقال أبو يعلى: ورد الخبر في خامس عشر ربيع الأول من ناحية حلب بحدوث زلزله هائله روعت أهلها وأزعجتهم، وزعزعت مواضع مساكنها، ثم سكنت بقدرة محركها سبحانه وتعالى. وفي ليلة الخامس والعشرين من ربيع الأول وافت زلزلة في دمشق روعت وأقلقت، ثم سكنت.
وفى التاسع من ربيع الآخر برز نور الدين من دمشق إلى جسر الخشب في العسكر المنصور بآلات الحرب لجهاد الكفرة. وقد كان أسد الدين قبل ذلك، عند وصوله، فيمن جمعه فرسان التركمان، أغارتهم على أعمال صيدا وما قرب منها، فغنموا أحسن غنيمة وأوفرها؛ وخرج إليهم من كان بها من خيالة الفرنج ورجالتها، وقد كمنوا لهم، فغنموهم، وقتل أكثرهم، وأسر الباقون؛ وفيهم ولد المقدم المتولي حصن حارم، وعادوا سالمين بالأسرى ورءوس القتلى والغنيمة، ولم يصب منهم غير فارس واحد.
قال: وفي أوائل في شهر تموز، الموافق الأول جمادى الآخرة من السنة، وافى البقاع مطر هطال بحيث حدث منه سيل أحمر كما جرت به العادة في تنبوك للشتاء، ووصل إلى بردى، ووصل إلى دمشق؛ وكثر التعجب من اثار قدرة الله تعالى بحدوث مثل ذلك في هذا الوقت.
قال: وفى ليلة الثالث والعشرين من رجب وافت زلزلة عند تأذين الغداة، ثم أخرى في الليلة بعدها وقت صلاة الغداة. وورد الخبر من العسكر بأن الفرنج تجمعوا وزحفوا إلى العسكر المنصور وأن المولى نور الدين نهض في الحال في العسكر، والتقى الجمعان. واتفق إن عسكر الإسلام حدث فيه فشل لبعض المقدمين، فاندفعوا وتفرقوا بعد الاجتماع، و بقى نور الدين ثابتا مكانه، في عدة يسيرة من شجعان غلمانه وأبطال خواصه، في وجوه الفرنج،واطلوا فيهم السهام، فقتلوا منهم ومن خيولهم العدد الكثير، ثم ولوا منهزمين خوفا من كمين يظهر عليهم من عسكر الإسلام ونجى الله، وله الحمد، نور الدين من بأسهم بمعونة الله تعالى، وشدة باسه، وثبات جأشه. ومشهور شجاعته؛ وعاد إلى مخيمه سالما في جماعته، ولام من كان السبب في اندفاعه بين يدي الفرنج. وتفرق جمع الفرنج إلى أعمالم، وراسل ملكهم نور الدين في طلب الصلح والمهادنة، وحرض على ذلك. وترددت بين الفريقين مراسلات، ولم يستقر بينهما حال؛ وعاد نور الدين إلى دمشق سالم.

قلت. وذكر أبو الفتح بنجه بن أبى الحسن بن بنجه الأشترى، المعيد كان بالمدرسة النظامية، في سيرة مختصرة جمعها لنور الدين، وقد تقدم شيء منها، رحمهما الله. قال: وبلغنا أن نور الدين خرج إلى الجهاد، في سنة ست وخمسين وخمسمائة، فقضى الله بانهزام عسكر المسلمين، وبق الملك العادل، مع شرذمة قليلة، وطائفة يسيرة، واقفا على تل يقال له تل حبيش، وقد قرب عسكر الكفار بحيث اختلط رجالة المسلمين. مع رجالة الكفار فوقف الملك العادل بحذائهم موليا وجهه إلى قبلة الدعاء، حاضرا بجميع قلبه، مناجيا ربه يقول: يارب العباد، أنا العبد الضعيف، ملكتني هذه الولاية وأعطيتني هذه النهابة؛ عمرت بلادك، ونصحت عبادك، وأمرتهم بما أمرتني به، ونهيتهم عما نهيتني عنه؛ فرفعت المنكرات من بينهم، وأظهرت شعار دينك في بلادهم؛ وقد انهزم المسلمون، وأنالا أقدر على دفع هؤلاء الكفار أعداء دينك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أملك إلا نفسي هذه، وقد سلمتها إليهم ذابا عن دينك وناصرا لنبيك. فاستجاب الله تعالى دعاءه، وأوقع في قلوبهم الرعب، وأرسل عليهم الخذلان؛ فوقفوا مواضعهم وما جسروا على الإقدام عليه، وضنوا أن الملك العادل عمل عليهم الحيلة، وأن عسكر المسلمين في الكمين، فإن أقدموا عليه يخرج عساكر المسلمين من الكمين فلا ينفلت منهم أحد فوقفوا وما أقدموا علية. قال ولولا أن ذلك إلهام من الله تعالى لكانوا قد استأجروا المسلمين وما كان ينفلت واحد من المسلمين. فوقف عسكر الكفار وبرز اثنان منهم يحولان بين الصفين يطلبان البراز من المسلمين؛ فأمر الملك العادل لخطلخ الزاهد، مولى الشهيد بالخروج إليهما، فخرج، وجال بينهما ساعة، وحمل على واحد منهما فقتله؛ ثم جال ساعة وعمل حيلة وخدعة، ورجع إلى قريب صف الكفار، وحمل على الآخر فقتله، ورجع إلى الصف.
قال: وحدثنا الشيخ داود القدسي خادم قبر شعيب، على نبينا وعليه السلام، قال: كان أعطاني ملك القدس بغلة كنت راكبا عليها، يعني في ذلك اليوم، واقفا مع الملك العادل؛ فلما وصل الكفار وقربوا منا شمت بغلتي رائحة خيل الكفار، فصهلت تطلب خيلهم، فسمعوا صهيل بغلتي، فقالوا هذا داود راكب على البغلة مع نور الدين واقف، ولولا الحيلة والكمين من المسلمين لما وقفوا مع هذه الشرذمة القليلة، والطائفة اليسيرة. فتحقق ذلك في قلوبهم فوقفوا وما جهروا على الإقدام عليه. قال: فترجل كل من كان مع الملك العادل وتتشفعوا إليه، وباسوا الأرض بين يديه، وقالوا: أيها الملك أنت بجميع المسلمين في هذا الموضع وفي هذا الإقليم؛ فإن جرى، والعياذ بالله، وهن وضعف من استيلاء الكفار على المسلمين فمن الذي يقدر على تداركه ؟! قال: وحلف هذا الشيخ داود أنهم بعنان فرسه كرها ورحلوا من ذلك الموضع، وما كان في عزم الملك العادل أن يرحل من ذلك الموضع. فلما علم الكفار ذلك، وأنه ما كان عليهم حيلة ولا كمين، ندموا على ذلك ندامة عظيمة. قال: وكان قبل هذه الوقعة بسنة كسر الملك العادل الكفار وقتل منهم مقتله عظيمة وأسر منهم خلقا كثيرا، على ما حكى عن صلاح الدين صاحب حمص أنه قال: قد جاز التركمان علينا، فحصل في الجريدة ألف أسير مع التركمان. هذا ما جاز على بلد حمص وحده. وكان قد انفلت ملك القدس ودخل إلى قليعة؛ فلما جن عليه الليل خرج من القلعة ومضى.
فصل

قال أبو يعلى: في رجب تجمع قوم من السفهاء العوام وعزموا على التحريض لنور الدين على إعادة ما كان أبطل وسامح به أهل دمشق من رسوم دار البطيخ وعرصة البقل والأنهار، وصانهم من إعنات شرار الضمان وحوالة الأجناد. وكرروا لسخف عقولهم الخطاب، وضمنوا القيام بعشرة آلاف دينار بيض؛ وكتبوا بذلك حتى أجيبوا إلى ما راموا. وشرعوا في فرضها على أرباب الأملاك من المقدمين والأعيان والرعايا، فما اهتدوا إلى صواب، ولا نجح لهم قصد في خطاب ولا جواب وعسفوا الناس بجهلهم بحيث تألموا وأكثروا الضجيج والاستغاثة إلى نور الدين؛ فصرف همة إلى النظر في هذا الأمر، فنتجت له السعادة وإيثار العدل في الرعية الإعادة إلى ما كان عليه. فأمر في عاشر رمضان بإعادة الرسوم المضادة إلى ما كانت عليه، من إماتتها وتعفية أثر ضمانها؛ وأضاف إلى ذلك، تبرعا من نفسه، إبطال ضمان الهريسة والجبن واللبن. ورسم بكتابة منشور يقرأ على كافة الناس بإبطال هذه الرسوم جمعها وتعفية ذكرها، فبالغ العالم عند ذلك في مواصلاً الأدعية والثناء عليه، والنشر لمحاسنه.
قال: وفي الحادي والعشرين من رمضان وصل الحاجب محمود المستر شدي من ناحية مصر بجواب ما تحمله من المراسلات من الملك الصالح متولي أمرها، ومعه رسول. من مقدمي أمرائها، ومعه المال المنفذ برسم الخزانة الثورية، وأنواع الثياب المصرية، والجياد العربية. وكانت فرقة من الفرنج، خذلهم الله، قد ضربوا لهم في المعابر، فأظفر الله بهم، فلم يفلت منهم إلا القليل النزر. ثم تلا ذلك ورود الخبر من العسكر المصري بظفره بجملة وافرة من الفرنج ناهز أربعمائة فارس، وتزيد على ذلك، في ناحية العريش من الجفار، بحيث استولى عليهم القتل والأسر والسلب.
قال: وقد كانت الأخبار تناصرت من ناحية القسطنطينية في ذي الحجة يبروز ملك الروم منها بالعدد الكثير لقصد الأعمال والمعاقل الإسلامية، ووصوله إلى مروج الديباج وتخييمه فيها، و بث سرايا. للإغارة على أعمال أنطاكية وما والاها. وأن قوما من التركمان ظفروا بجماعة منهم، هذا بعد أن افتتح من أعمال لا وين، ملك الأرمن، عدة من حصونه ومعاقله. ولما عرف نور الدين هذا شرع في مكاتبة الولاة بالأعمال والمعاقل بإعلامهم ما حدث من الروم، وبعثهم على استعمال التيقظ، والتأهب للجهاد فيهم، والاستعداد للنكاية بمن يظهر منهم.
قال ابن الأثير: وفي سنة ثلاث وخمسين سار الملك محمد بن محمود، فحصر بغداد، و بها الخليفة المقتفى لأمر الله، ومعه وزيره عون الدين ابن هبيرة. فكاتب أصحاب الأطراف فتحركوا؛ ووصل الخبر إلى الملك محمد بأن أخاه ملكشاه قصد همدان ودخلها في عسكر كبير ونهبها، وأخذ نساء الأمراء الذين معه، وأولادهم. فاختلط العسكر وتفرقوا، وعاد محمد نحو همدان. وخرج أهل بغداد فنهبوا أواخر العسكر المنقطعين، وشعثوا دار السلطان.
قلت: وفي هذه السنة توفى أبو الوقت عبد الأول المحدث المنفرد يعلو رواية كتاب الجامع الصحيح للبخاري، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة

قال أبو يعلى: في أول يوم منها وافت زلزلة عظيمة ضحى نهار، وتلاها ثنتان دونها. وكان قد عرض لنور الدين مرض تزايد به بحيث أضعف قوته، ووقع الإرجاف به من حساد دولته، والمفسدين من عوام رعيته. وارتاعت الرعايا وأعيان الأجناد، وضاقت صدور قطان الثغور والبلاد، خوفا عليه واشفاقا من سوء يصل إليه، لا سيما مع أخبار الروم والفرنج ولما أحس من نفسه بالضعف تقدم إلى خواص أصحابه وقال لهم: إنني قد عزمت على وصيه إليكم بما وقع في نفسي فكونوا لها سامعين مطيعين، وبشروطها عاملين إني مشفق على الرعايا وكافة المسلمين ممن يكون بعدى من الولاة الجاهلين، والظلمة الجائرين؛وإن آخي نصرة الدين أعرف من أخلاقه وسؤ أفعاله ما لا أرتضى معه توليته أمرا من أمور المسلمين. وقد وقع اختياري على أنني الأمير قطب الدين مودود، متولي الموصل، لما يرجع إليه من عقل وسداد، ودين وصحة اعتقاد. فحلفوا له، وأنفذ رسله إلى أخيه بإعلامه صورة الحال ليكون لها مستعدا. ثم تفضل الله تعالى بإبلاله من المرض وتزايد القوه في النفس والحس؛ وجلس للدخول إليه والسلام عليه. وكان الأمير محمد الدين النائب في حلب قد رتب في الطرقات من يحفظ السالكين فيها؛ فظفر المقيم في منبج برجل حمال من أهل دمشق ومعه كتب، فأنفذ بها إلى مجد الدين متولي حلب. فلما وقف عليها أمر بصلب متحملها، وأنفذها في الحال إلى نور الدين، فوجدها من أمين الدين زين الحاج أبى القاسم، متولي ديوانه، ومن عز الدين والى القلعة، مملوكله، ومن محمد بن جفرى، أحد حجابه، إلى أخيه نصرة الدين أمير أميران صاحب حران بإعلامه بوقوع اليأس من أخيه، و يحضونه على المبادرة والإسراع إلى دمشق لتسلم إليه. فلما عرف نور الدين ذلك عرض الكتب على أربابها فاعترفوا بها، فأمر باعتقالهم، وكان رابعهم سعد الدين عثمان، وكان قد خاف فهرب قبل ذلك بيومين. وورد في الحال كتاب صاحب قلعة جعبر يخبر بقطع نصرة. الدين الفرات مجدا إلى دمشق فأنهض أسد الدين في العسكر المنصور لرده ومنعه من الوصول، فاتصل به خبر عوده إلى مقره عند معرفته بعافية أخيه، فعاد أسد الدين إلى دمشق ووصلت رسل الملك العادل من ناحية الموصل بجواب ما تحملوه إلى أخيه قطب الدين، وفارقوه وقد برز في عسكره، متوجها إلى ناحية دمشق. فلما فصل عن الموصل اتصل به خبر عاقبته، فأقام بحيث هو وأنفذ وزيره. جمال الدين أبا جعفر محمد بن علي لكشف الحال. فوصل إلى دمشق يوم السبت الثامن صفر في أحسن زي وأبها تجمل، وخرج إلى لقائه الخلق الكثير.
قال: وهذا الوزير قد ألهمه الله تعالى من جميل الأفعال وحميد الخلال، وكرم النفس، و أنفاق أمواله في أبواب البر والصلات والصدقات، ومستحسن الآثار في مدينة الرسول عليه السلام، ومكة ذات الحرم والبيت المعظم، شرفه الله تعالى، ما قد شاع ذكره، وتضاعف عليه حمده وشكره. واجتمع مع نور الدين وجرى بينهما من المفاوضات والتقريرات ما انتهى إلى عوده إلى جهته، بعد الإكرام له، وتوفيتة حقه من الاحترام؛ وأصحبه برسم قطب الدين أخيه وخواصه من الملاطفة ما اقتضته الحال الحاضرة؛ وتوجه معه الامير أسد الدين.
وقال ابن أبى طي: لما وصل الوزير جمال الدين إلى حلب تلقاه موكب نور الدين، وفيه وجوه الدولة وكبراء المدينة، وانزل في دار ابن الصوفي وأكرم غاية الإكرام؛ وأعيدة إلى صاحبه شاكرا عن نور الدين، وسير معه الأمير أسعد الدين شيركوه رسولا إلى قطب الدين بالشكر له والثناء عليه؛ وأخذت معه هدايا سنية. فسار وعاد إلى حلب مكرما، فوجد نور الدين عازما على الخروج إلى دمشق لما بلغته من إفساد الفرنج في بلد حوران، فسار في صحابته ووصل نور الدين إلى دمشق، فأمر الناس بالتجهز لقتال الفرنج، ثم أنهض أسد الدين في قطعة من العسكر للإغارة على بلد صيدا فسار وسار معه أخوه نجم الدين أيوب وأولاده. ولم يشعر الفرنج وهو قد عاث في بلد صيدا وقتل وأسر عالم عظيما، وغنم غنيمة جليلة؛ وعاد فاجتمع بنور الدين على جسر الخشب.
قلت: وهذا هو ما تقدم ذ كره بعد المرضة الأولى، وكأن ابن أبى طي جعل المرضتين واحدة بحلب؛ وأبو يعلى ذكر أن الأولى بحلب والثانية بدمشق، وهو الأصح. والله أعلم.
فصل

قال أبو يعلى: وكان قد وصل من ملك الروم رسول من معسكر. ومعه هدية أتحف بها الملك العادل من أثواب ديباج وغير ذلك، وجميل خطاب وفعال؛ وقوبل بمثل ذلك. وحكى عن ملك الفرنج، خذله الله، إن المصالحة بينه وبين ملك الروم تقررت، والمهادنة انعقدت؛ والله يرد باس كل واحد منهما إلى نحره، و يذيقه عاقبة غدره ومكره.
قال: ووردت أخبار من ناحية، ملك الروم باعتزامه على أنطاكية وقصد المعاقل الإسلامية؛ فبادر نور الدين بالتوجه إلى البلاد الشامية لإيناس أهلها بن استيحاشهم من شر الروم والإفرنج، خذلهم الله تعالى، فسار في العسكر صوب حمص وحماة وشيزر.
قال: وفي ثالث ربيع الأول وافت زلزلة هائلة ماجت أربع موجات وأيقظت النيام وأزعجت اليقظى، وخاف كل ذي مسكن مضطرب على نفسه وعلى مسكنه.
قال: وفي تاسع جمادى الأولى هبت ريح عاصف شديدة أقامت يومها وليلتها، فأتلفت أكثر الثمار، صيفيها وشتويها، وأفسدت بعض الأشجار، ثم وافت آخر الليل زلزلة هائلة ماجت موجتين أزعجت وأقلقت.
قال وتجددت المهادنة المؤكدة لنور الدين مع ملك الروم، بعد تكرر المراسلات والاقتراحات في التقريرات؛ وأجيب ملك الروم إلى ما التمسه من إطلاق مقدمي الإفرنج المقيمين في حبس نور الدين، فأنفذهم بأسرهم. وقابل الروم هذا الفضل بما يضاهيه من الإتحاف بأثواب الديباج الفاخرة، المختلفة الأجناس، الوافرة العدد؛ ومن. الجوهر النفيس، وخيمة من الديياج لها قيمة وافرة، وما استحسن من الخيول الجبلية ثم رحل عقيب ذلك في عساكره من منزله عائدا إلى بلاده مشكورا محمودا، ولم يؤذ أحدا من المسلمين، في العشر الأوسط من جمادى الأولى؛ فاطمأنت القلوب بعد انزعاجها وقلقها.
قال: وورد بعد ذلك الخبر بأن نور الدين صنع لأخيه قطب الدين، والعسكر، ولمن ورد معه من المقدمين والولاة وأصحابهم، الواردين لجهاد الروم والإفرنج، سماطاً عظيما هائلا، تناهىفيه، وفرق من الحصن العربية والخيول والبغال العدد الكثير؛ ومن الخلع من أنواع الديباج المختلف وغيره، والتخوت الذهب، الشيء الكثير الزائد على الكثرة؛وكان يوما مشهودا في الحسن والتجمل. وانفق أن جماعة من غرباء التركمان وجدوا من الناس غفلة باشتغالهم بالسماط وانتهابه، فأغاروا على العرب من بنى أسامة وغيرهم، واستاقوا مواشيهم فلما ورد الخبر بذلك أنهض. نور الدين في أثرهم فريقا وافرا من العسكر، فأدركوهم. واستخلصوا منهم، جميع ما أخذوه، وأعيد إلى أربابه.
قال: وتقرر الرأي النورى على التوجه إلى مدينة حران لمنازلتها واستعادتها من يد أخيه نصرة الدين، حسبما رآه في ذلك من الصلاح؛ فرحل في عسكره. أول جمادى الآخرة. فلما نزل عليها وأحاط بها، وقعت المراسلات، إلى أن تقرر الحال على أمان من بها؛ وسلمت في يوم السبت الثالث والعشرين من جمادى الآخرة، وقررت أحوالها، وأحسن النظر في أحوال أهلها، وسلمها للأمير زين الدين على سبيل الإقطاع، وفوض إليه تدبير أمورها
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائةقال الرئيس أبو يعلى: في صفر توفى الأمير مجاهد الدين بزان بن مامين أحد مقدمي أمراء الأكراد. وهو من ذوى الوجاهة في الدولة، موصوف بالشجاعة والبسالة والسماحة مواظب على بث الصلات والصدقات، في المساكين والضعفاء والفقراء مع الزمان، في كل عصر ينقضي وأوان؛ جميل المحيا، حسن البشر في اللقاء. وحمل من داره بباب الفراديس إلى الجامع للصلاة عليه ثم إلى المدرسة المشهورة باسمه، فدفن فيها في اليوم، ولم يخل من باك عليه، ومؤبن له، ومتأسف على فقده؛ لجميل أفعاله وحميد خلاله.
قلت: وله أوقاف على أبواب البر منها المدرستان المنسوبتان إليه إحداهما التي دفن فيها، وهي لزيق باب الفراديس المجدد، والأخرى قبالة باب دار سيف الغربى، في صف مدرسة نور الدين، رحمه الله. وله وقف على من يقرأ السبع كل يوم بمقصورة الخضر بجامع دمشق؛ وغير ذلك. وقد مدحه العرقلة وغيره.

قال أبو يعلى: وفي مستهل صفر رفع القاضي زكى الدين أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى بن علي القرشي، قاضي دمشق، إلى الملك العادل نور الدين، رقعة يسأله فيها الإعفاء من القضاء، والاستبدال به، فأجاب سؤاله وولى قضاء دمشق القاضي كمال الدين ابن الشهرزورى، وهو المشهور بالتقدم ووفور العلم، وصفاء الفهم، والمعرفة بقوانين الأحكام، وشروط استعمال الإنصاف، والعدل، والنزاهة، وتجنب الهوى والظلم. واستقام له الأمر على ما يهواه، ويؤثره. ويرضاه، على أن القضاء من بعض أدواته. واستقر أن يكون النائب عنه، عند اشتغاله، ولده.
قلت: ولكمال الدين رحمه الله تعالى الصدقة الجارية بعده على الفقراء كل جمعة؛ وإليه ينسب الشباك الكمالي بجامع دمشق من الغرب، وهو الذي حكمت فيه القضاة مدة، ويصلون فيه الجمعة في زماننا.
وإلى ههنا أنتها ما نقلناه من كتاب الرئيس أبي يعلى التميمي، فإنه آخر كتابه. وفي هذه السنة توفي رحمه الله. وقال ابن الأثير: وفيها توفي أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله. بن المستظهر بأمر الله، ومولد سنة تسع وثمانين وأربعمائة؛ وكانت خلافته أربعا وعشرين سنة وشهرين. وبويع ولده أبو المظفر يوسف، ولقب بالمستنجد بالله فأقر ابن هبيرة على وزارته.
قال: وفيها حج زين الدين على وأحسن إلى الناس في طريق مكة، وأكثر الصدقات. فلما وصل بغداد أكرمه المستنجد بالله؛ فلما لبس الخلعة كانت طويلة، وكان قصيرا جدا، فمد يده إلى كمراته وأخرج ما شد به، وقصر الجبة. فنظر المستنجد إليه واستحسن ذلك منه، وقال لمن عنده: مثل هذا يكون الأمير والجندي لا مثلكم.
قلت: وفيها توفى المستخلف بمصر، الملقب بالفائز بن الظاهر بن الحافظ، وولى بعده. بن عمه العاضد بن يوسف بن الحافظ؛ وهو أخر خلفاء مصر. ووصل من الصالح بن رزيك كتاب إلى ابن منقذ أسامة بذلك فكتب إليه:
هناء بنعمى قل عن قدرها الشكر ... وصبرا لرزء لا يقوم به الصبر
مض الفائز الطهر الإمام، وقام بال ... إمامة فينا بعده العاضد الطهر
إماما هدىالله، في نقل ذا إلى ... كرامته، وفي إقامة ذا سر
فعش أبدا، واسلم لهم يا كفيلهم ... تدافع عنهم كل حادثة تعرو
ثم دخلت سنة ست وخمسين وخمسمائةقال ابن أبى علي: في هذه السنة حج أسد الدين من الشام وخرج في محمل عظيم وشارة رائقة؛ واستصحب معه من الأزواد والكسى أشياء عظيمة. ويقال إنه كان معه ألف نفس يجرى عليهم الطعام والشراب. وحج على كوجك المعروف بزين الدين من العراق؛ وحج ملهم أخو ضرغام وزير مصر؛ فكان الموسم بهؤلاء الثلاثة كثير الخير، واستغنى بسببهم أهل الحجاز وعاد أسد الدين سالما وخرج نور الدين إلى لقائه، وكان يوم وروده يوما عظيما.
وقال أيضاً: وفيها قتل الصالح ابن رزيك بمصر وكان سبب قتله إن عمة العاضد عملت على قتله، وأنفذت الأموال إلى الأمراء فبلغ ذلك الصالح، فاستعاد الأموال، واحتاط على عمة العاضد. قال: وإنما كرهته عمة العاضد لاستيلائه على الأمور والدولة، وحفظه للأموال وقتل الصالح بسببها جماعة من الأمراء ونكبهم، وتمكن من الدولة تمكنا حسنا. ثم إن عمة العاضد عادت وأحكمت الحيلة عليه، وبذلت لقوم من السودان مالا جزيلا حتى أوقعوا به الفعل: جلسوا له في بيت في دهليز القصر مختفين فيه. فلما كان يوم تاسع عشر رمضان ركب إلى القصر ودخله، وسلم على العاضد، وخرج من عنده، فخرج عليه الجماعة، ووقعت الصيحة. فعثر الصالح بأذياله، فطعنه أحدهم بالسيف في ظاهررقبته، فقطع أحد عمودي الرقبة، وحمل إلى باب القصر، وأصيب ولده رزيك في كتفه. ولما حصل الصالح في داره أوصى ولده رزيك، ومات بعد ساعة من ذلك اليوم.
قال العماد: وانكسفت شمس الفضائل، ورخص سعر الشعر، وانخفض علم العلم، وضاق قضاء الفضل؛ وعم رزء ابن رزيك، وملك صرف الدهر ذلك المليك. فلم تزل مصر بعد منحوسة الحظ، منجوسة الجد، منكسوة الراية، معكوسة الآية، إلى أن ملكها يوسفها الثاني، وجعلها مغاني المعاني، وأنشررميمها، وعطر نسيمها، وتسلم قصرها، والتزم خصرها. قال زين الدين الواعظ: عمل فارس المسلمين، أخو الصالح، دعوة في شعبان من السنة التي قتل فيها فعمل هذه الأبيات وسلمها إلى:

أنست بكم دهرا، فلما ظعنتم اس ... تقرت بقلبي وحشة للتفرق
وأعجب شيء أنني يوم بينكم ... بقيت، وقلبي بين جنبي ما بقى
أرى البعد ما، بيني وبين أحبتي ... كبعد المدى ما بين غرب ومشرق
ألا جددى يانفس وجدا وحسرة ... فهذا فراق بعده ليس نلتقي
قال: فلم يبق بعدها لهم اجتماع في مسرة، وقتل في شهررمضان.
قلت: ولعمارة اليمنى ولغيره مدائح في الصالح ومراث جليلة، وقد أثنى عليه كثيراً في كتاب الوزراء المصرية وقال: لم يكن يجلس أنه ينقطع إلا بالمذاكرة في أنواع العلوم الشرعية والأدبية، وفي مذاكرة وقائع الحروب مع أمراء دولته. قال: وكان مرتاضا، قد شم أطراف المعارف، وتميز عن أجلاف الملوك. وكان شاعرا يحب الأدب وأهله، . يكرم. جليسه، و يبسط أنيسه، ولكنه كان مفرط العصبية في مذهب الأمامية. وكان مرتاضا. حصيفا قد لقي في ولايته فقهاء السنة وسمع كلامهم.
قال: ودخلت عليه قبل أن يموت بثلاث ليال، وفي يده قرطاس وقد كتب فيه بيتين من شعره عملهما في تلك الساعة
نحن في غفلة ونوم، وللمو ... ت عيون يقظانة لا تنام
قد رحلنا إلى الحمام سنينا ... ليت شعري؛ متى يكون الحمام
قال: ومن عجيب الاتفاق أني أنشدت ابنه مجد الإسلام، في دار سعيد السعداء، ليله السادس عشر من شهر رمضان، أو السابع عشر، قصيدة أقول فيها:
أبوك الذي تسطو الليالي بحده ... وأنت يمين، إن سطا، وشمال
لرتبته العظمى، وإن طال عمره ... إليك مصير واجب ومآل
تخالسك الّلحظ المصون، ودونها ... حجاب شريف، لا انقضى، وحجال
قال: فانقل الملك بعد ثلاث إليه: قال: ومما رثيته به قولي:
أفى أهل ذا النادي عليم أسائله ... فأني لما بي ذاهب اللب ذاهله
سمعت حديثا أحسد الصم عنده ... ويذهل واعيه ويخرس قائله
فقد رابني من شاهد الحال أنني ... أرى الدست منصوبا وما فيه كافله
وأني أرى فوق الوجوه كآبة تدل ... على أن الوجوه ثواكله
دعوني، فما هذا بوقت بكائه ... سيأتيكم طل البكاء ووابله
ولم لا تبكيه وتندب فقده ... وأولادنا ايتامه وأرامله
فياليت شعري بعد حسن فعاله ... وقد غاب عنا، ما بنا الدهر فاعله
أيكرم مثوى ضيفكم وغريبكم ... فيسكن، أم تطوى ببين مراحله
وله من أخرى يرثيه ويذكر ولاية ابنه:
طمع المرء في الحياة غرور ... وطويل الآمال فيها قصير
ولكم قدر الفتى فأتته ... نوب لم يحط بها التقدير
فض ختم الحياة عنك حمام ... لا يراعى إذنا ولا يستشير،
ما تخطى إلى جلالك إلا ... قدر أمره علينا قدير
يا أمير الجيوش، هل لك علم ... أن حر الأسى علينا أمير
إن قبرا حللته لغنى ... إن دهرا فارقته لفقير
انطوى ذلك البساط، وعهدي ... وهو بالعلم والندى معمور
لا تظن الأيام أنك ميت ... لم يمت من ثناوه منشور
إن مضى كافل فهذا كفيل ... أو وزير يغب فهذا وزير
دولة صالحية، خلفتها ... دولة عادلية لا تجور
ما شكونا كسر النوائب حتى ... قيل في الحال كسركم محبور
نصر الناصر الملا بالعوالي ... ونعم المولى ونعم النصير
وقال أيضاً يرثيه، و يذكر ا لظفر بقاتله، ويصف نقل تابوته إلى مشهده قصيدة طويلة منها: قد كنت أشرق من ثماد مدامعي أسفا، فكف وقد طي التيار
عم الورى يوم الخميس، وخصتني ... خطب بأنف الدهر منه صغار
ما أوحش الدنيا غدية فارقت ... قطبا رحى الدنيا عليه تدار
خربت ربوع المكرمات لواحد ... عمرت به الأحداث وهي قفار
نعش الجدود العاثرات مشيع ... عشيت برؤية نعشه الأبصار

نعش يود بنات نعش لو غدت ... ونظامها أسفا عليه نثار
شخص الأنام إليه تحت جنازة ... خفضت لرفعة قدرها الأقدار
صار الإمام أمامها، فعلمت إن ... قد شيعتها الخمسة الأبرار
ومشى الملوك بها حفاة، بعدما ... حفت ملائكة بها أطهار
فكأنها تابوت موسى أودعت ... في جانبيه سكينة ووقار
لكنه ماضم غير بقية ال ... اسلام وهو الصالح المختار
أقطنته دار الوزارة ريثما ... بنيت لنقلته الكريمة دار
وتغاير الهرمان والحرمان في ... تابوته، وعلى الكريم يغار
آثرت مصرا منه بالشرف الذي ... حدت قرافتها له الأمصار
وجعلتها أمنا به ومثابة ... ترجو مثابة قصدها الزوار
قد قلت إذ نقلوه نقلة ظاعن ... نزحت به دار وشط مرار
ما كان إلا السيف جدد غمده ... بسواه، وهو الصارم البتار
والبدر فارق برجه متبدلا ... برحابه تتشعشع الأنوار
والغيث روى بلدة ثم انتحى ... أخرى، فنوء سحابه مدرار
يا مُسبل الأستار دون جلاله ... ماذا الذي رفعت له الأستار
مالي أرى الزوار بعد مهانة ... فوضى، ولا إذن ولا استثمار
غضب الإله على رجال أقدموا ... جهل عليك، وآخرين أشاروا
لا تعجبا لقدار ناقة صالح ... فلكل دهر ناقة وقدار
ؤاخجلتا للبيض كيف تطاولت ... سفها بأيدي السود وهي قصار
واحسرنا: كيف انفردت لأعبد ... وعبيدك السادات والأحرار
رصدوك في ضيق المجال بحيث لا ال ... سخطى متسع ولا الخطار
ما كان أقصر باعهم عن مثلها ... لو كنت متروكا وما تختار
ولقدت ثبت ثبات مقتدر على ... خذلانهم لو ساعد المقدار
وتعثرت أقدامهم، بك هيبة ... لو لم يكن لك بالذيول عثار
أحللت دار كرامة لا تنقضي ... أبدا، وحل بقاتليك بوار
ياليت عينك شاهدت أحوالهم ... من بعدها، ورأت إلى ما صاروا
وقع القصاص بهم، وليسوا مقنعا ... يرضى، وأين من السماء غبار
ضاقت بهم سعة الفجاج، وربما ... نام العدو ولا ينام الثار
وتوهموا ان الفرار مطية ... تنجى، وأين من القضاء فرار
طاروا فمد أبو الشجاع لصيدهم ... شرك الردى، فكأنهم ما طاروا
فتهن بالأجر الجزيل وميتة ... درجت عليها قبلك الأخبار
مات الوصي بها، وحمزة عمه ... وابن البتول، وجعفر الطيار
نلت السعادة والشهادة والعلا ... حيا وميتا، إن ذا لفخار
ولقد أقر العين بعدك أروع ... لولاه لم يك للعلا استقرار
الناصرالهادى، الذي حسناته ... عن سيئات زماننا أعذار
لما استقام لحفظ أمة أحمد ... عمرت به الأوطان والأوطار
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وخمسمائةفال ابن الأثير: فيها جمع نور الدين العساكر وسار إلى قلعة حارم وحصرها وجد في قتالها، فامتنعت عليه، لحصانتها وكثرة من بها من فرسان الفرنج وشجعاتهم. واجتمع الفرج من سائر البلاد وساروا نحوه ليرحلوه عنها؛ فلما قاربوه طلب منهم المصاف، فلم يجيبوه الىذلك، وراسلوه وتلطفوا الحال معه فعاد إلى بلاده. وممن كان معه في هذه الغزاة الأمير مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن منقذ، وكان من الشجاعة في الغاية التي، لا مزيد عليها. فلما عاد إلى حلب دخل إلى مسجد سيرين، وكان قد دخله في العام الماضي، سائرا إلى الحج؛ فلما دخله عامئذ كتب على حائطه:
لك الحمد يا مولاي، كم لك منة ... على، وفضل لا يحيط به شكري
نزلت بهذا المسجد العام قافلا ... من الغزو، موفور النصيب من الأجر

ومنه رحلت العيس في عامي الذي ... مض نحو بيت الله ذي الركن والحجر
فاديت مفروضي، وأسقطت ثقل ما ... تحملت من وزر الشبيبة عن ظهري
قلت: أذكرني هذا ما كتبه أسامة أيضاً بمدينة صور وقد دخل دار ابن أبى عقيل فرآها وقد تهدمت وتغيرت زخرفتها، فكتب على لوح من رخام هذه الأبيات:
احذر من الدنيا، ولا ... تغتر بالعمر القصير
وانظر إلى آثار من ... سرعته منا بالغرور
عمروا وشادوا ماترا ... ه من المنازل والقصور
وتحولوا من بعد سُك ... ناها إلى سكني القبور
قلت:ابن أبى عقيل هذا هو أبو الحسن محمد بن عبد الله بن عياض بن أبى عقيل صاحب صور، ويلقب عين الدولة. مات سنة خمس وستين وأربعمائة، واستولى على صور ابنه النفيس. والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وخمسمائةقال ابن الأثير: فيها جمع نور الدين عساكره ودخل بلاد الفرنج، فنزل بالبقيعة تحت حصن الأكراد، وهو للفرنج، عازما عل دخول بلادهم ومنازلة طرابلس. فبينما الناس في بعض الأيام في خيامهم في وسط النهار، لم يرعهم إلا ظهور صلبان الفرنج من وراء الجبل الذي عليه الحصن فكسبوهم. فأراد المسلمون دفعهم فلم يطيقوا، فانهزموا. ووضع الفرج السيف، وأكثروا القتل والأسر، وقصدوا خيمة الملك العادل، فخرج عن ظهر خيمته عجلا بغير قباء، فركب فرسا هناك للنوبة، ولسرعته ركبه وفي رجليه شبحة، فنزل إنسان من الأكراد فقطعها، فنجا نور الدين وقتل الكردي؛ فسأل نور الدين عن مخلفي ذلك الكردي فأحسن إليهم، جزاء لفعله. وكان أكثر القتل في السوقة والغلمان وسار نور الدين إلى مدينة حمص، فأقام بظاهرها، وأحضر منها ما فيها من الخيام ونصبها على بحيرة قدس على فرسغ من حمص، وبينها وبين مكان الواقعة أربعة فراسخ؛ وكان الناس يظنون أنه لا يقف دون حلب، وكان رحمه الله أشجع من ذلك وأقوى عزماً ولما نزل على بحيرة قدس اجتمع إليه كل من نجا من المعركة، فقال له بعض أصحابه: ليس من الرأي أن نقيم ههنا، فإن الفرنج ربما حملهم الطمع على المجيء إلينا ونحن على هذه الحال. فوبخه وأسكته، وقال: إذا كان معي ألف فارس فلا أبالي بهم قلوا وكثروا؛ وَوَالله لا أستظل بجدار حتى اخذ بثأر الإسلام وثأرى، ثم إنه أرسل إلى حلب ودمشق وأحضر الأموال والدواب والأسلحة والخيام، وسائر ما يحتاج إليه الجند؛ فأكثر، وفرق ذلك جميعه على من سلم. وأما من قتل فانه أقر إقطاعه على أولاده، فإن لم يكن له ولد فعلى بعض أهله. فعاد العسكر كأنه لم يفقد منه أحد.
وأما الفرنج فكأنهم كانوا عازمين على قصد حمص بعد الهزيمة، لأنها أقرب البلاد إليهم. فلما بلغهم مقام نور الدين عندها قالوا إنه لم يفعل هذا إلا وعنده من القوة أن يمنعنا. وكان نور الدين رحمه الله قد أكثر الخرج إلى أن قسم في يوم واحد مائتي ألف دينار، سوى غيرها من الدواب والخيام والسلاح وغير ذلك. وتقدم إلى ديوانه أن يحضروا الجند ويسألوا كل واحد منهم عن الذي أخذ منه، فكل من ذكر شيئا أعطوه عوضه، فحضر بعض الجند وادعى شيئا كثيرا علم بعض النواب كذبه فيما ادْعاه لمعرفتهم بحاله. فأرسلوا إلى نور الدين ينهون إليه القضية، و يستأذنونه في تحليف الجندي على ما ادعاه. فأعاد الجواب:لا تكدروا عطاءنا، فإني أرجو الثواب والأجر على قليلة وكثيرة. وقال له أصحابه إن لك في بلادك إدرارتٍ كثيرة وصلات عظيمة للفقهاء والفقراء وللصوفية والقراء، فلو استعنت بها.
الآن لكان أمثل، فغضب من هذا وقال: والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم. كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عنى وأنا نائم في فراشي، بسهام لا تخطيء، وأصرفها إلى من يقاتل عنى إذا رآني بسهام قد تخطيء وتصيب؟! ثم هؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال أصرفه إليهم، كيف أعطيه غيرهم فسكتوا.
ثم إن الفرنج أرسلوا إلى نور الدين في المهادنة فلم يجبهم إليها؛ فتركوا عند الحصن من يحميه، وعادوا إلى بلادهم وتفرقوا.
قلت: وفى هذه الحادثة تحت حصن الأكراد يقول، أبو الفرج عبيد الله بن أسعد الموصلي تزيل حمص، من جملة قصيدة فائقة يمدح بها نور الدين رحمه الله تعالى أولها:

ظُبا المواضي وأطراف القنا الذبل ... ضوا من لك ما جازوه من نفل
وكافل لك كاف ما تحاوله ... عز، وعزم، و بأس غير منتحل
وما يعيبك ما حازوه من سلب ... بالختل، قد تؤسر الآساد بالحيل
وإنما أخلدوا جبنا إلى خدع ... إذا لم يكن لهم بالجيش من قبل
واستيقظوا وأراد الله غفلتكم ... لينقذ القدر المحتوم في الأزل
حتى أتوكم ولا الماذى من أمم ... ولا الضبا كثب من مرهق عجل.
قَنًا لِقًا، وقسى غير موترة ... والخيل عازبة ترعى مع الهمل
ما يصنع الليث لا ناب ولا ظفر ... بما حواليه من عفر ومن وعل
هلا، وقد ركب الأسد الصقور وقد ... سلوا الظبا تحت غابات من الأسل
وإنما هم أضاعوا حزمهم ثقة ... يجمعهم، ولكم من واثق خجل
بنى الأصافر ما نلتم بمكركم ... والكر في كل إنسان أخو الفشل
وما رجعتم بأسرى، خاب سعيكم ... غير الأراذل والاتباع والسفل
سلبتم الحرد مُعراة بلا لجم ... والسّمر مركوزةً، والبيض في الخلل
هل اخذ الخيل قد أردى فوارسها ... مثال آخذها في الشكل والطول
أم سالب الرمح مركوزا، كسالبه ... والحرب دائرة من كف معتقل
جيش أصابتهم عينا الكمال وما ... يبخلوا من العين إلا غير مكتمل
لهم بيوم حنين أسوة، وهم ... خير الانام، وفيهم خاتم الرسل
سيقتضيكم بضرب عند أهونه ... البيض كالبيض، والأدراع كالحلل
ملك بعيد من الأدناس، ذو كلف ... بالصدق في القول والإخلاص في العمل
ومنها:
فالسمر ما أصبحت، والشمس ما أفلت ... والسيف ما فل، والأطواد لم تزل
كم قد تجلت بنور الدين من ظُلم ... للظلم، وإنجاب للإضلال من ظلل
قل لِلْمُولّين: كفوا الطرف من جبن ... عند القاء، وغضوا الطرف من خجل
طلبتم السهل تبغون النجاة، ولو ... لذتم بملككم لذتم إلى جبل
أسلمتموه ووليتم، فأسلمكم ... بثبتة، لو بغاها الطود لم ينل
فقام فردا وقد ولت جحافله ... فكان من نفسه في جحفل زجل
في مشهد، لَوْ ليوث الغيل تشهده ... خرت لأذقانها من شدة الوهل
وسط الندى وحده ثبت الجنان، وقد ... طارت قلوب على بعد من الوجل
يعود عنهم رويدا غير مكترث ... بهم، وقد كرفيهم غير محتفل
يزداد قدما إليهم من تيقنه ... أن التأخر لا يحمى من الأجل
ما كان أقربهم من أسر أبعدكم ... لم أنهم لم يكونوا منه في شغل
ثباته في صدور الخيل أنقذكم ... لا تحسبوا وثبات الضمّر الذلّل
ما كل حين تصاب الأسد غافلة ... ولا يصيب الشديد البطش ذو الشلل
والله عونك فيما أنت مز معه ... كما أعانك في أيامك الأول
كم قد ملكت لهم ملكا بلا عوض ... وحزت من بلد منها بلا بدل
وكم سقيت العوالي من طلى مثلك ... وكم قريت العوافي من قرى بطل
لا نكبت ملكت الأقدار عن غرض ... ولا ثنت يدك الأيام عن أمل
قلت: حاول ابن أسعد في هذه القصيدة ما حاوله المتنبي في قوله:
غيري بأكثر هذا الناس ينخدع
فإن كل واحد منهما اعتذر عن أصحابه ومدحهم وهم المنهزمون؛ وقد احسنا معا عفا لله عنهم.
وعبيد الله بن أسعد هذا فقيه فاضل وشاعر مفلق، كان مدرسا بحمص يعرف بابن الدهان، وله ترجمة في تاريخ دمشق. وقد ذكره العماد الكاتب في خريدته، فاحسن ذكره وأكثر الثناء على علمه وشعره؛ وسيأتي ذكره أيضاً في هذا لكتاب في أخبار سنة سبعين، وست وسبعين، وثمان وسبعين، إن شاء الله تعالى.

وفي هذه السنة، أعنى سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، توفى عبد المؤمن بن علي، خليفة المهدي محمد بن تومرت صاحب المغرب؛ وولى بعده ابنه يوسف.
كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية تأليف شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي المعروف بأبى شامه الجزء الأول - القسم الثاني
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وخمسمائةففيها سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى مصر المرة الاولى، وهو من أكابر الأمراء الذين في الخدمة النورية، عازماً على ملك الديار المصرية واستضافتها إلى المملكة النورية.
وكان أسد الدين وأخوه نجم الدين أيوب، وهو الأكبر، ابنا شاذي، من بلد دَوِين وهي بلدة من آخر بلاد أذْرَبِيجان مما يلي بلاد الروم؛ وأصلهما من الأكراد الرواذية، وهذا القبيل من أشرف الأكراد، وقدما العراق، وخدما مجاهد الدين بهروز الخادم، وهو شِحنة العراق؛ فرأى من نجم الدين عقلاً ورأياً وحسن سيرة فجعله دزداراً بتكريت، وهي له، فسار إليها ومعه أخوه أسد الدين.
فلما انهزم أتابك زنكي الشهيد، والد نور الدين، بالعراق من قراجه الساقي، وهو أتابك داود بن السلطان محمود، وذلك من المسترشد بالله، سنة ست وعشرين وخمسمائة، وصل إلى تكريت. فخدمه نجم الدين أيوب وأقام له السفن، فعبر دجلة هناك وتبعه أصحابه، فأحسن نجم الدين صحبتهم وسيَّرهم.
ثم إن أسد الدين قتل إنساناً نصرانياً بتكريت لملاحاة جرت بينهما؛ فأرسل مجاهد الدين إليه وإلى أخيه نجم الدين، فأخرجهما من تكريت. وقيل إن أيوب كان يحسن الرماية فرمى شخصاً من مماليك بهروز بسهم فقتله، فخشى على نفسه، فتوجه نحو الشام وخدم مع زنكي. وقيل لما قتل أسد الدين شيركوه النصراني، وكان عزيزاً عند بهروز، هرب إلى الموصل، والتحق أيوب به. وسنوضح هذه القضية إن شاء الله تعالى عند ذكر وفاة أيوب في أخبار سنة ثمان وستين.
ثم إن أيوب وشيركوه قصدا أتابك الشهيد فأحسن إليهما، وعرف لهما خدمتهما، وأقطعهما إقطاعاً حسناً، وصارا من جملة جنده. فلما فتح حصن بعلبك جعل نجم الدين دزداراً فيه. فلما قُتل الشهيد عند قلعة حعبر حّصر عسكر دمشق نجم الدين، فأرسل إلى سيف الدين غازي، وقد قام بالملك بعد والده في الموصل، يُنهي الحال إليه، فلم يتفرغ لبعلبك وضاق الأمر على من بها، وخاف نجم الدين أن تؤخذ عنوةً ويناله أذى؛ فأرسل في تسليم القلعة وطلب إقطاعاً ذكره، فأجيب إلى ذلك. وحلف له صاحب دمشق عليه، وسلم القلعة، ووفى له بما حلف عليه من الإقطاع والتقدم، وصار عنده من أكابر الأمراء.
واتصل أخوه أسد الدين شيركوه بالخدمة النورية، بعد قتل الشهيد، وكان يخدمه في أيام والده، فقربه نور الدين وأقطعه، ورأى منه في حروبه ومشاهده آثاراً يعجز عنها غيره لشجاعته وجرأته، فزاده إقطاعاً وقرباً حتى صارت له حمص والرحبة وغيرهما؛ وجعله مقدم عسكره.
فلما تعلقت الهمة النورية بملك دمشق أمر أسد الدين فراسل أخاه نجم الدين، وهو بها، في ذلك، فطلب منه المساعدة على فتحها، فأجاب إلى ما يراد منه؛ وطلب هو وأسد الدين من نور الدين كثيراً من اٌقطاع والأملاك ببلد دمشق وغيرها، فبذل لهما ما طلبا منه، وحلف لهما عليه، فوفى لهما لما ملكها، وصارا عنده في أعلى المنازل، لاسيما نجم الدين، فإن جميع الأمراء كانوا لايقعدون عند نور الدين إلا أن يأمرهم أو أحدهم بذلك، إلا نجم الدين، فإنه كان إذا دخل إليه قعد من غير أن يؤمر بذلك.
فلما كان سنو تسع وخمسين عزم نور الدين على إرسال العساكر إلى مصر، ولم ير هذا الأمر الكبير أقوم ولاأشجع من أسد الدين، فسيَّره.
وكان سبب ذلك أن شاور بن مجير أبا شجاع السعدي، وهو الملقب أمير الجيوش الذي يقول فيه عُمارة من قصيدة:
ضجر الحديد من الحديد، وشاور ... في نصر آل محمد لم يضجر
حلف الزمان ليأتين بمثله ... حنثت يمينك يا زمان فكفر

وهو وزير الملقب بالعاضد لدين الله آخر المستخلفين بمصر، كان قد وصل إلى دمشق في سنة ثمان وخمسين، سادس ربيع الأول، إلى نور الدين مستنجداً به على من أخذ منه منصبه قهراً. وكانت عادة المصريين أنه إذا غلب شخص صاحب المنصب وعجز صاحب المنصب عن دفعه، وعرفوا عجزه، وقعّوا للقاهر منهم ورتبوه ومكنوه، فإن قوتهم إنما تكون بعسكر وزيرهم، وهو الملقب عندهم بالسلطان، وما كانوا يرون المكاشفة، وأغراضهم مستتبة وقواعدهم مستقرة من أول زمانهم على هذا المثال.
وكان شاور قد غلب على الوزارة وانتزعها من بني رزيك وقتل العادل بن الصالح ابن رزيك الذي وزر بعد أبيه، واسمه رزيك، ويلقب بالناصر أيضاً، وهو الذي استحضر القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني من الاسكندرية واستخدمه بحضرته وبين يديه في ديوان الجيش، على ما ذكره عمارة اليمني، في كتاب الوزراء المصرية. وقال: غرس منه للدولة، بل للملة، شجرة مباركة متزايدة النماء، أصلها ثابت وفرعها في السماء. ثم خرج على شاور نائب الباب، وهو أمير يقال له ضرغام بن سوار ويلقب بالمصور، فجمع له جموعاً كثيرة لم يكن له بها قِبل، فغلبه وأخرجه من القاهرة وولده طيَّاً، واستولى على الوزارة. فرحل شاور إلى الشام قاصداً خدمة نور الدين مستصرخاً به ومستنصراً، فأحسن نور الدين لقاءه وأكرم مثواه، فطلب منه شاور إرسال العساكر إلى مصر ليعود إليها، ويكون له فيها حصة، ذكرها له، ويتصرف على أمره ونهيه، واختياره. ونور الدين يقدم في ذلك رجلا ويؤخر أخرى، تارة تحمله رعاية قصد شاور وطلب الزيادة في الملك والتقَّوى على الفرنج، وتارة يمنعه خطر الطريق وكون الفرنج فيه، إلا أن يوغلوا في البر فيتعرضوا لخطر آخر مع الخوف من الفرنج أيضاً.
ثم استخار الله تعالى وأمر أسد الدين بالتجهز للمسير معه قضاءً لحق الوافد المستصرخ، وجَسَّا للبلاد، وتطلعاً على أحوالها. وكان هوى أسد الدين في ذلك؛ وكان عنده من الشجاعة وقوة النفس ما لايبالي معه بمخافة. فتجهز وسار مع شاور، في جمادى الآخرة من سنة تسع وخمسين. هكذا ذكر ابن الأثير والعماد الكاتب. وقال القاضي ابن شداد: كان ذلك سنة ثمان وخمسين؛ والقول في ذلك قولهما، فقد بينا أن قدوم شاور إلى الشام كان في سنة ثمان وخمسين، وإرسال نور الدين العسكر كان في جمادى سنة تسع وخمسين.
وأمر نور الدين أسد الدين بإعادة شاور إلى منصبه والانتقام ممن نازعه في الوزارة. وساروا جميعاً، وسار معهم نور الدين إلى أطراف بلاد الإسلام مما يلي الفرنج بعساكره ليشغلهم عن التعرض لأسد الدين، فكان قصارى الفرنج حفظ بلادهم من نور الدين. ووصل أسد الدين سالماً إلى مصر هو ومن معه، فهرب المنازع لشاور في الوزارة، وقتل، وطيف برأسه؛ وعاد شاور وزيراً وتمكن من منصبه.
وكان عمارة قد مدح ضرغاماً بقصيدة منها:
وأحق من وزر الخلافة من نشا ... في حضرة الإكرام والإجلال
واختص بالخلفاء، وانكشفت له ... أسرارها بقرائن الأحوال
وتصرف الوزراء عن أفعاله ... كتصرف الأسماء بالأفعال
قال عمارة: ولما جازوا برأسه على الخليج، وكنت أسكن صف الخليج بالقاهرة، قلت ارتجالا:
أرى حنك الوزارة صار سيفاً ... يَحُدُّ بحدِّه صيد الرقاب
كأنك رائد البلوى، وإلا ... بشير بالمنية والمصاب
ولعمارة اليمني من قصيدة مدح بها شاور وذكر وزارتيه:
فنُصرت في الأولى بضرب زلزل ال ... أقدام وهي شديدة الإقدام
ونُصرت في الأخرى بضرب صادق ... أضحى يطير به غراب الهام
أدركت ثأراً، وارتجعت وزارة ... نزعاً بسيفك من يدي ضرغام
وكان ضرغام أولا من أصحاب شاور وأتباعه. وقد أشار إلى ذلك عمارة في قوله من قصيدة له:
كانت وزارتك القديمة مشرعاً ... صفواً، ولكن كُدرت غدرانها
غصبت رجالٌ تاجه وسريره ... من بعد ما سجدت له تيجانها
وله من قصيدة أخرى في شاور:
وزير تمنته الوزارة أولا ... وثانية، عفواً بغير طلاب
فخانته في الأولى بطانة وده ... ورب حبيب في قميص حُباب

وجاءته تبغى الصلح ثاني مرة ... فلم يرض إلا بعد ضرب رقاب
ولم يُغلب وزير لهم وعاد غير شاور. وكان مدة أخذ الوزارة منه إلى أن عادت إليه تسعة أشهر سواء، وهي مدة الحمل. نص عمارة على ذلك، وقال: قتل ولده طيّ يوم الجمعة الثامن والعشرين من رمضان، وجاز رأسه على رمح تحت الطيقان، والنساء يولولن بالصراخ، وكان فيهن واحدة تحفظ قولي في الصالح:
أُينْسى وفي العينين صورة وجهه ال ... كريم، وعهد الإنتقال قريب
فما زالت تكرره حتى رأت رأس ضرغام.
قال: وأدرك شاور ثأره في يوم الجمعة الثامن والعشرين من جمادى الآخرة، فيكون بينهما تسعة أشهر.
قال: وقلت في ذلك:
ونزعت ملكك من رجال نازعوا ... فيه، وكنت به أحقَّ وأقعدا
جذبوا رداءك غاصبين، فلم تزل ... حتى كسوت القوم أردية الردى
وبردت قلبك من حرارة حرمة ... أمرت نسيم الليل ألا يبردا
تاريخ هذا قلتُه في مثله ... يوماً بيوم، عبرةً لمن اهتدى:
حملت به الأيام تسعة أشهر ... حتى جعلن له جمادى مولدا
وله أيضاً في ذلك:
لله ردُّك موتوراً أقضّ به ... دستٌ، وسرجٌ، وأجفانٌ، ومضطجع
ما غبت إلا يسيراً، ثم لحت لنا ... والثأر مستدرك، والمُلك مرتجع
قضية لم ينل منها ابن ذي يزنٍ ... إلا كما نلت، والآثار تتُبع
فافخر على الحيّ من قيسٍ ومن يمنٍ ... أبا شجاع، فليس الحق يندفع
قال ابن الأثير: وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة، وغدر به شاور. وعاد عما كان قرره لنور الدين من البلاد المصرية، ولأسد الدين أيضاً. فأرسل إليه يأمره بالعودة إلى الشام، فأنف أسد الدين من هذا الحال، وأعاد الجواب يطلب ما كان استقر؛ فلم يجبه شاور إليه. فلما رأى ذلك أرسل نوابه فتسلموا مدينة بلبيس، وحكم على البلاد الشرقية، فأرسل شاور إلى الفرنج يستمدهم ويخوفهم من نور الدين إن ملك مصر. وكان الفرنج قد أيقنوا بالهلاك إن ملكها نور الدين، فهم خائفون. فلما أرسل شاور إليهم يستنجدهم ويطلب منهم أن يساعدوه إلى إخراج أسد الدين من البلاد جاءهم فرج لم يحتسبوه، وسارعوا إلى تلبية دعوته، والمبادرة إلى نصرته؛ وطمعوا في ملك ديار مصر. وكان قد بذل لهم مالا على المسير إليه، فتجهزوا وساروا.
فلما بلغ نور الدين خبر تجهيزهم للمسير سار بعساكره في أطراف بلاده مما يلي الإفرنج ليمتنعوا من المسير، فلم يمتنعوا، لعلمهم أن الخطر في مقامهم إذا ملك أسد الدين مصر أشد من الخطر في مسيرهم. فتركوا في بلادهم من يحفظها، وسار ملك القدس في الباقين إلأى مصر. وكان قد وصل إلأى الساحل جمع كبير من الفرنج في البحر لزيارة البيت المقدَّس، فاستعان بهم ملك الفرنج، فأعانوه؛ وسار بعضهم معه، وأقام بعض في البلاد لحفظها.
فلما قارب الفرنج مصر فارقها أسد الين وقصد مدينة بلبيس، وأقام بها هو وعسكره وجعلها ظهراً يتحصن به. فاجتمعت العساكر المصرية والفرنجية، ونازلوا أسد الدين بمدينة بلبيس، وحصروه بها ثلاثة أشهر؛ وقد امتنع أسد الدين بها وسوُرها من طين، قصير جداً، وليس له خندق ولافصيل يحميها، وهو يغاديهم القتال ويراوحهم؛ فلم يبلغوا منه غرضاً، ولا نالوا منه شيئاً. فبينما هم كذلك أتاهم الخبر بهزيمة الفرنج بحارم، وملك نور الدين الحصن، ومسيره إلأى بانياس. فحينئذ سُقط في أيديهم وأرادوا العود إلأى البلاد ليحفظوها، ولعلهم يدركون بانياس قبل أخذها، فلم يدركوها إلا وقد ملكها، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وراسلوا أسد الدين في الصلح، والعود إلى الشام، ومفارقة مصر، وتسليم ما بيده منها إلى المصريين؛ فأجابهم إلى ذلك لأنه لم يعلم بما فعله نور الدين بالفرنج في الساحل.

قال ابن الأثير: فحدثني من رأى أسد الدين حين خرج من بلبيس، قال: رأيته وقد أخرج أصحابه بين يديه، وبقي في آخرهم وبيده لتّ من حديد يحمي ساقتهم، والمسلمون والفرنج ينظرون. قال: فأتاه فرنجي من الفرنج الغرباء فقال له: أما تخاف أن يغدر بك هؤلاء المسلمون والفرنج وقد أحاطوا بك وبأصحابك، فلا يبقى لك معهم بقية!! فقال شيركوه: ياليتهم فعلوا!! كنت ترى مالم تر مثله، كنت والله أضع سيفي، فلا أُقتل حتى أقتُل رجالا، وحينئذ يقصدهم الملك العادل نور الدين وقد ضعفوا وفنى أبطالهم، فيملك بلادهم، ويفني من بقي منهم. ووالله لو أطاعني هؤلاء، يعني أصحابه، لخرجت إليكم أول يوم، لكنهم امتنعوا. فصلّب الفرنجي على وجهه وقال: كنا نعجب من فرنج هذه الديار ومبالغتهم في صفتك وخوفهم منك، والآن قد عذرناهم؛ ثم رجع عنه. وسار شيركوه إلى الشام وعاد سالماً.
وقال العماد الكاتب: وصل شاور إلى نور الدين ملتجئاً، فألفاه على عدوه مقدماً مشكياً، وسيّر معه أسد الدين على قرار عيّنه، وأمر بينّه، وبُغية يدركها، وخطة يملكها، ومَحجَّة واضحة في الملك يسلكها؛ فمضى معه ونصره، وأصفى له مشرعه، واسترد له موضعه، وأظهره بعلّوه، وأظفره بعدوع؛ فلما باد خصمه، بدا وصمه، وغدر بعهده، وأخلف في وعده.
وكان قد راسل الفرنج وهاداهم في حرب الإسلام، فوصلوا؛ فتحصن شيركوه ومن معه بمدينة بلبيس، فحاصره شاور بدنود مصر والفرنج ثلاثة أشهر، من مستهل رمضان إلى ذي الحجة. فبذلوا له قطيعة فانصرف عنهم، وعاد إلى الشام وفي قلبه من شر شاور الإحن، وكيف تمت بغدره تلك المحن.
قلت: وقد أشار إلى ذلك عُمارة في قوله في مدح شاور، وذكر الإفرنج، فقال:
وأنفذت من مصر عدواًّ بمثله ... فلله من ظفر فللت وناب
صدمت جموع الكفر والشام صدمة ... أقمت بها للقوم سوق ضراب
وقد جرّدت أجناد مصر عزائماً ... مضاربها في الصخر غير نوابي
تولّوا عن الإفرنج فادح ثقلها ... ودارت رحاها منهم بهضاب
أقامت دروع الجند تسعين ليلة ... ثياباً لهم، ما بدُلت بثياب
وهم بين مطروح هناك وطارح ... وبين مصيب خصمه ومصاب
وقال القاضي ابن شداد: سار أسد الدين إلى مصر، واستصحب معه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، وجعله مقدم عسكره وصاحب رايه وكان لايفصل أمراُ ولايقرر حالا إلا بمشورته ورأيه، لما لاح له منه من آثار الإقبال والسعادة، والفكرة الصحيحة، واقتران النصر بحركاته وسكناته. فساروا حتى وصلوا مصر، وشاور معهم؛ وكان لوصولهم إلى مصر وقع عظيم؛ وخافه أهل مصر، ونصر شاوراً على خصمه، وأعاده إلى منصبه ومرتبته، وقرر قواعده، وشاهد البلاد وعرف أحوالها، وعلم أنها بلاد بغير رجال، تمشي الأمور فيها بمجرد الإيهام والمحال.
وكان ابتداء رحيله عنها متوجهاً إلى الشام في السابع من ذي الحجة، فأقام بالشام مدبراً لأمره، مفكراً في كيفية رجوعه إلى البلاد المصرية، محدثاً بذلك نفسه، مقرراً لقواعد ذلك مع نور الدين، إلى سنة اثنتين وستين.
قلت: ولفعل شاور ما فعل مع أسد الدين وصفه الشعراء بالغدر، ووقعوا فيه قبل قتله وبعده، على ما سنذكره؛ وبقي متخوفاً من أسد الدين. فقال عرقلة الكلي من جملة قصيدة له:
وهل همّ يوماً شيركوه بِجلِّق ... إلأى الصّيد إلا ارتاع في مصر شاور
هو الملك المنصور، والأسد الذي ... شذى ذكره في الشرق والغرب سائر
وفيها في ذي الحجة احترقت جيرون بعد رجوع أسد الدين إلى دمشق، فقال العرقلة يمدحه ويذكر ذلك:
جار صرف الردى على جيرون ... وسقى أهلها كئوس المنون
أصبحت جنة وأمست جحيماً ... تتلَّظى بكل قلب حزين
حبذا حصنُها الحصين، لقد كا ... ن جمالا لكل حصن حصين
أي سيف سطا على دار سيفٍ ... وزبون أتى بحرب زبون
خِلتُ نيرانها وكلَّ ظلامٍ ... نار ليلى تلوح للمجنون
كم غنيِّ أمسى فقيراً ... وفقير أمسى غنيَِّ اليمين
كل حين لها حريق جديد ... ليت شعري، ماذا لها بعد حين!

كل هذا البلاء عاقبة الفس ... ق، وشرب الخمور، والتلحين
ولقد ردها بعزم وحزم ... أسد الدين غاية المسكين
وحمى الجامع المقدس والمش ... هد من جمرها بماء معين
ملك فعله بدَلْجَة والبا ... ب فعال الإمام في صفين
فصل في فتح حارمقال العماد الكاتب: وفي تلك السنة، يعني سنة تسع وخمسين، اغتنم نور الدين خلو الشام من الفرنج وقصدهم، واجتمعوا على حارم، فضرب معهم المصاف، فرزقه الله تعالى الانتقام منهم؛ فأسرهم، وقتلهم، ووقع في الأسار إبرنس أنطاكية، وقومص طرابلس، وابن لجوسلين، ودوك الروم؛ وذلك في رمضان.
وقل في الخريدة: كانت نوبة البقيعة نوبة عظيمة على المسلمين، وأفلت نور الدين في أقل من عشرة من عسكره، ثم كسر الفرنج بعد ثلاثة أشهر على حارم، وقُتل في معركة واحدة منهم عشرون ألفاً، وأُسر من نجا؛ وأخذ القومص والإبرنس والدوقس وجميع ملوكهم. وكان منحاً عظيماً، وفتحاً مبيناً.
قال ابن الأثير: والسبب في هذا الفتح أن نور الدين لما عاد منهزماً، على ما سبق، من غزوة ناحية حصن الأكراد، أقبل على الجد والاجتهماد، والاستعداد للجهاد، والأخذ بثاره، وغزو العدو في عقر داره؛ وليرتق ذاك الفتق، ويمحو سمة الوهن، ويعيد رونق الملك. فراسل أخاه قطب الدين بالموصل، وفخر الدين قرا أرسلان بالحصن ونجم الدين ألب بماردين، وغيرهم من أصحاب الأطراف.
أما قطب الدين أتابك فإنه جمع عساكره وسار مجداً، وعلى مقدمة عسكره زين الدين نائبه.
وأما فخر الدين قرا أرسلان فإنه بلغني عنه أنه قال له لخواصه: على أي شئ عزمت؟ فقال: على القعود، فإن نور الدين قد تحشّف من كثرة الصوم والصلاة، فهو يلقي نفسه والناس معه في المهالك؛ وكلهم وافقه على ذلك. فلما كان الغد أمر بالنداء في العسكر بالتجهز للغزاة؛ فقال له أولئك: ماعدا مما بدا! فارقناك بالأمس على حال ونرى الآن ضدها! فقال: إن نور الدين قد سلك معي طريقاً إن لم أنجده خرج أهل بلادي عن طاعتي، وأخرجوا البلاد عن يدي، فإنه كاتب زُهَّادها وعبَّادها والمنقطعين عن الدنيا، يذكر لهم مالقي المسلمون من الفرنج، وما نالهم من القتل والأسر والنهب، ويستمد منهم الدعاء، ويطلب منهم أن يحثُّوا المسلمين على الغزاة. فقد قعد كل واحد من أولئك ومعه أتباعه وأصحابه وهم يقرءون كتب نور الدين ويبكون، ويلعنونني ويدعون عليّ؛ فلابد من إجابة دعوته. ثم تجهز أيضاً وسار إلى نور الدين بنفسه.
وأما نجم الدين ألب فإنه سيّر عسكراً.
فلما اجتمعت العساكر سار نحو حارم فنزل عليها وحصرها؛ وبلغ الخبر إلى من بقي من الفرنج بالساحل أنه لم يسر إلى مصر، فحشدوا وجاءوا، ومقدم الفرنج البرنس صاحب أنطاكية، والقمص صاحب طرابلس وأعمالها، وابن جوسلين وهو من مشاهير الفرنج وأبطالها، والدُّوك وهو رئيس الروم ومقدمها. وجمعوا من الراجل ما لايقع عليه الإحصاء، قد ملأوا الأرض وحجبوا بقسطلهم السماء؛ فحرّض نور الدين أصحابه، وفرق نفائس الأموال على شجعان الرجال.
فلما قاربه الفرنج رحل عن حارم إلى أرْتاح وهو إلى لقائهم مرتاح؛ وإنما رحل طمعاً أن يتبعوه، ويتمكن منهم إذا لقوه. فساروا حتى نزلوا علم عِمَّ، وهو على الحقيقة تصحيف مالقوه من الغم؛ ثم تيقنوا أنه لاطاقة لهم بقتاله، ولاقدرة لهم على نزاله؛ فعادوا إلى حارم وقد حرمتهم كل خير، وتبعهم نور الدين.

فلما تقربوا اصطفوا للقتال؛ وبدأت الفرنج بالحملة على ميمنة المسلمين، وبها عسكر حلب وفخر الدين، فبددوا نظامهم، وزلزلوا أقدامهم، وولوا الأدبار، وتبعهم الفرنج. وكانت تلك الفرَّة من الميمنة عن اتفاق ورأي دبروه، ومكر بالعدو مكروه، وهو أن يبعدوا عن راجلهم فيميل عليهم من بقي من المسلمين، ويضعوا فيهم السيوف، ويرغموا منهم الأنوف، فإذا عاد فرسانهم من أثر المنهزمين لم يلقوا راجلا يلجئون إليه، ويعود المنهزمون في آثارهم، وتأخذهم سيوف الله من بين أيديهم ومن خلفهم. فكان الأمر على مادبروا؛ فإن الفرنج لما تبعوا المنهزمين عطف زيد الدين في عسكر الموصل على راجلهم، فأفناهم قتلاً وأسراً، وعادت خيّالهم ولم يمعنوا في الطلب، خوفاً على راجلهم من العطب، فصادفوا راجلهم على الصعيد معفَّرين، وبدمائهم مضرجين؛ فَسُقِط في أيْديِهْم وَرَأَوْا أَنَّهْم قدْ ضلُّوا، وخضعت رقابهم وذلوا. فلما رجعوا عطف المنهزمون أعنتهم، وعادوا، فبقي العدو في الوسط وقد أحدق بهم المسلمون من كل جانب. فحينئذ حمى الوطيس، وباشر الحرب المرؤس والرئيس، وقاتلوا الفرنج قتال من يرجو بإقدامه النجاة، وحابوا حرب من أيس من الحياة. وانقضت العساكر الإسلامية عليهم انقضاض الصقور على بغاث الطيور، فمزقوهم بدداً، وجعلوهم قدداً. فألقى الفرنج بأيديهم إلى الأسار، وعجزوا عن الهزيمة والفرار، وأكثر المسلمون فيهم القتل، وزادت عدة القتلى على عشرة الآف. وأما الأسرى فلم يحصوا كثرة، ويكفيك دليلاً على كثرتهم أن ملوكهم أسروا، وهم الذين من قبل ذُكروا.
وسار نور الدين بعد الكسرة إلى حارم، فملكها في الحادي والعشرين من شهر رمضان. وأشار أصحابه عليه بالمسير إلى أنطاكية ليملكها، لخلوها ممن يحميها ويدفع عنها، فلم يفعل، وقال: أما المدينة فأمرها سهل، وأما القلعة التي لها فهي منيعة لاتؤخذ إلا بعد طول حصار، وإذا ضيقنا عليهم أرسلوا إلى صاحب القسطنطينية وسلموها 'ليه؛ ومجاورة بيمند أحب إليّ من مجاورة ملك الروم.
وبثَّ سراياه في تلك الأعمال والولايات فنهبوا وسبوا، وأوغلوا في البلاد حتى بلغوا اللاذقية والسويداء وغيلا ذلك، وعادوا سالمين.
ثم إن نور الدين أطلق بيمند أنطاكية بمال جزيل أخذه منه، وأسرى كثيرة من المسلمين أطلقهم.
وقال الحافظ أبو القاسم: كسر نور الدين الروم والأرمن والفرنج على حارم، وكان عدتهم ثلاثين ألفاً. قال: ووقع بيمند في أسره في نوبة حارم، وباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد.
قلت: وبلغني أن نور الدين رحمه الله تعالى لما التقى الجمعان، أو قبيله، انفرد تحت تل حارم وسجد لربه عز وجل، ومرغ وجهه وتضرع، وقال: يارب! هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهوؤلاء عبيدك وهم اعداؤك؛ فانصر أولياءك على اعدائك. إيش فضول محمود في الوسط؟ يشير إلى أنك يارب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر.
وبلغني أنه قال: اللهم انصر دينك ولاتنصر محموداً. من هو محمود الكلب حتى يُنصر! وجرى بسبب ذلك منام حسن نذكره في أخبار سنة خمس وستين عند رحيل الفرنج عن دمياط بعد نزولهم عليها؛ وهذا فتح عظيم ونصر عزيز أنعم الله به على نور الدين والمسلمين، مع أن جيشه عامئذ كان منه طائفة كبيرة بمصر مع شيركوه كما سبق؛ وهذا من عجيب ما وقع وانفق.
فصلفي ذكر وزير الموصل جمال الدين، الجواد الممدح، ووفاته في هذه السنة رحمه الله. وقد ذكره العماد الكاتب في مواضع من مصنفاته واثنى عليه ثناء عظيما حسناً.

فمما ذكره في كتابه الموسوم بنصرة الفترة وعُصرة الفطرة، في أخبار الوزراء السلجوقية أن قال: ذكر جمال الدين أبي جعفر محمد بن علي بن أبي منصور. كان والده من أصفهان يدعى الكامل علي، وهو صاحب الوزير شمس المُلك بن نظام الملك، وكان أبوه أبو منصور فهّاداً في عهد السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان، وابنه الكامل أديب لبيب، وزادت أيامه في السمو وأيامنه في النمو حتى تنافس في استخدامه الملوك والوزراء، واستضاءت برأيه في الحوادث الآراء. وقد كان زوّج بنتا له ببعض أولاد أخوال جمال الدين أبي جعفر محمد، وخرّجه في الأدب ودرّجه في الرتب؛ فأول ما رتبه في ديوان العرض السلطاني المحمودي وغلب في تحليته ذكر الأبلج، فنعته الأتراك بالأبلج، الأمير كيدغدي وولدها خاص بك بن كيدغدى من أمراء الدولة وأبناء المملكة وهو يسر معها، فرتبه العزيز لخاص بك وزيراً، فسار في الصحبة، وكان مقبل الوجاهة، مقبول الفكاهة، شهي الهشاشة، بهي البشاشة؛ فتوفرت مُنى زنكي على منادمته، وقصر صباحه ومساءه على مساهمته، وعول عليه آخر عمره في إشراف ديوانه، وزاد المال وزان الحال بتمكينه ومكانه. فلم يظهر لجمال الدين في زمان زنكي جود، ولاعرف له موجود، فإنه كان يقتنع بأقواته، وتزجية أوقاته، ويرفع جميع ما يحصل له إلى خزانة زنكي استبقاء لجاهه، واستعلاء به على اشباهه. فمكنه زنكي من أصحاب ديوانه، فمنهم من استضر بإساءته ومنهم من انتفع بإحسانه.
ولما قُتل زنكي صار للدولة الأتابكية ملاذاً، وللبيت الآق سنقري معاذاً؛ واستوزره الأمير غازي بن زنكي وآزره علي كوجك على وزارته، وحلف له على مظاهرته ومظافرته.
وجرى بين جمال الدين الوزير، وبين زين الدين علي كوجك، وبين سيف الدين غازي التعاقد على التعاضد، والتعاهد على التساعد. وتولى جمال الدين وزارة الموصل واستولى، فعاش بنداه الجود، وعشا إلى ناديه الوفود، وعادت به الموصل قبلة الإقبال، وكعبة الآمال، فأنارت مطالع سعوده، وسارت في الآفاق صنائع جوده. وعمر الحرمين الشريفين وشمل بالبر أهلهما، وجمع بالأمن شملهما، وأجرى بحر السماح، ونادى: حيّ على الفلاح، فصاحت بأفضاله ألفاظ الفصاح، وأتوا إليه من كل فج عميق، وقُصد من كل بلد سحيق؛ فقصده العظماء، ومدحه الشعراء.
وممن وفد إليه أبو الفوارس سعد بن محمد الصفي، المعروف بحيص بيص. قال: وأنشدني لنفسه فيه قصيدة أولها:
ياللصوارم والرماح الذبل ... نُصرا، ومن أنجدتما لم يُخذل
لو شئتما، ومشيئة بمشيئة ... جاد الزمان وبالعلا لم يبخل
فاقني فخارك يا مُجاشع، واعلمي ... أني لكم من همتي في جحفل
أنا فارس اليومين، يوم مقالة ... ووغى، أصول بصارمي وبمقولى
ظلمت فضائلي المقاول مثل ما ... ظلمت جمال الدين مأوى العُيَّل
مدحوه كي يحووا مناقب نفسه ... فَطَمَتْ، فسالت بالمدائح من عل
فأتيت أبذل ما استطعت، ومن يرد ... نقل الخضم إلى المزادة يخجل
شمس من الإحسان، عم ضياؤها ... بل آية جاءت بحجة مرسل
يعطي الجزيل لسائلي معروفه ... ويجود بالنُّعمى إذا لم يُسأل
وتزيده شوس الخطوب طلاقة ... فيكون أبسم ما يرى في المعضل
ثقُلت به الأعناق من منن الفدا ... فالهام مطرقة لذاك المثقل
فإذا تلاقي الناس كان حديثهم ... عن كل جفن بالحجالة مسدل
أسراء معروف الوزير، فكلهم ... عاف تراه مطلقاً كمكبل
من سنرقند إلى تهامة شاهد ... فضل الجمال على الحيا المتهلل
السحب تمطر ما تظل، وجوده ... يسري ودار مُقامه بالموصل
وتقرّ عين محمد بمحمد ... محيي دَرِيسىْ علمه والمنزل
معمار مرقده، وحافظ دينه ... ومعين أمته بجود مسبل
جعل المدينة مصر ربعاً آهلا ... نشوان يمرح بالنعيم المُحصل
فكأنها بالخصب من قربانه ... بلد على شط الفرات السلسل

فلو انه في عصره نزلت له ... في مدحه سُور الكتاب المنزل
عبد أخٌ في ضيفه ووداده ... لايستحيل، وسيد في المحفل
خرق نياط قميصه ورداؤه ... بعباب زخار وهضبة يذبل
قال العماد: وكنت أنا في ذلك العهد متفقها ببغداد، واتفق حضوري بالموصل سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، فحضرت عند جمال الدين بالجامع في جمعتين، وتكلمت عنده مع الفقهاء في مسألتين. ومما مدحته به قصيدة أولها:
أظنهم وقد عزموا ارتحالا ... ثنوا عنا جَمالا لاجِمالا
سروا والصبح مبيضٌ الحواشي ... فلما حال عهد الوصل حالا
هم اعتادوا الملال، فكيف ملّوا ... وصالهم وماملوا الملالا
أحادي ديسهم، بالله رفقاً ... فإن السير اورثها الكلالا
وعُج نحو الأراك بها، فإني ... أراه لاجتماع الشمل فالا
سقى صوب الحيا تلعات نجد ... وحيَّا بالحمى تلك التلالا
أخلائي، وهل في الناس خل ... به أُخْلي من الأحزان بالا
لئن لم أشف صدري من حسودي ... ولم أذق العدا داءً عضالاً
فلا أدركت من أدبي مرادا ... ولا صادفت من حسبي منالا
ولاوخدت إليكم بي جِمال ... ولا واليت مولانا الجَمالا
هو المغنى إذا ما المرء أقوى ... هو المنجي إذا ما الخطب هالا
وقائلة: أفي الدنيا كريم ... سواه، فقلت: لا وأبي العلا، لا
أطَلْت على الورى كرما وفخراً ... كذلك من حوى هذين طالا
وحزت المجد عن كسب وإرث ... فيا صدر الورى حزت الكمالا
خُصصِت بكل منقبة وفضل ... تعالى من حباك به، تعالى
قلت: وقد أكثر الشعراء في مدحه، منهم العرقلة، له من قصيدة:
يهوى تجنَّيه والصدود كما ... يهوى المعالي محمد بن علي
جمال دين اإله خير فتى ... للرزق أقلامه وللأجل
معطى القرِى والقُرى لقاصده ... من غير مَنْ، والخيلُ، والخول
مثل فتوح الفاروق نائله ... شرقاً وغرباً، في السهل والجبل
من قال لم يَحو ذا ويسكن ذا ... أصبح مما يقول في خجل
محمد خاتم الكرام، كما ... سميُّه كان خاتم الرسل
وفيه يقول أحمد بن منير من قصيدة:
كسا الحرمين لبسة عبد شمس ... وهاشم غُرَّتي نسل الخليل
وللبلد الأمين أجدَّ أمناً ... تكنَّف مثله جدث الرسول
عشيتم ياولاة الأمر عمَّا ... أتيح له من الأثر الجميل
وطار لها وأشفقتم فشَّد ال ... يدين على عُرى المجد الأثيل
بيوت بالحجاز مقدسات ... رماها الدهر بالخطب الجليل
وكان أذالَهُنَّ فصاب صونا ... لمن آوته من ولد البتول
مآثرُ باقيات يوم يجنى ال ... مقال ويُجتنى طيب المقيل
وكم للموصل الحدباء مما ... تُنيل يداه من ريف ونيل
بَرُود الصفح، ملتهب الحواشي ... مهيب البطش، فرَّاس الدخول
ولأبي المجد قسيم الحموي فيه من قصيدة:
أغرَّ يبصر منه الناس في رجل ... والليث في بشر، والبدر في غصن
سما بهمتَّه في المكرمات إلى ... علياء تقصر عنها همة الزمن
يلقاك واضحَ ليل الفكر، راجح نَي ... ل الكف، طاهرَ ذيل السر والعلن
ماضي العزيمة، ميمون النقيبة، رئ ... بال الكتيبة، عين القائل اللَّسن
إذا تكلم واستمليت غُرَّته ... في محفل رُحت حالي العين والأذن
كأن في الدست منه حين تنظره ... شمس النهار وصوب العارض الهتن

قال ابن الأثير: وفي شعبان من هذه السنة، وهي سنة تسع وخمسين وخمسمائة، توفي الوزير جمال الدين محمد بن علي بن أبي منصور الأصفهاني. كان قد خدم الشهيد فولاه نصيبين؛ وظهرت كفايته، فأضاف إليه الرحبة، فأبان عن كفايته وعفة. وكان من خوّاصه فجعله مشرف مملكته كلها، وحكمّه تحكيماً لامزيد عليه، حتى كان وزير الشهيد والحاكم في بلاده ضياء الدين بن الكَفَرْتُوثي يحكي عن جمال الدين قال: كان يدخل إلى أتابك قبلي ويخرج بعدي. ولم يزل كذلك إلى أن قتل الشهيد، ثم وزر لولدي الشهيد سيف الدّين ثم قطب الدين. وكان بينه وبين زين الدين علي كوجك عهود ومواثيق على المصافاة والاتفاق؛ وكان أصحاب زين الدين يكرهونه ويقعون فيه عند زين الدين فنهاهم.
وكانت الموصل في أيامه ملجأ لكل ملهوف، ومأمناً لكل خائف؛ فسعى به الحساد إلى قطب الدين حتى أوغروا صدره عليه وقالوا له: إنه يأخذ أموالك فيتصدق بها؛ فلم يمكنه أن يغيِّر عليه شيئاً بسبب اتفاقه مع زين الدين. فوضع علي زبن الدين من غيَّره من مصافاته ومؤاخاته. فقبض عليه قطب الدين وحبسه بقلعة الموصل. ثم ندم زيد الدين على الموافقة على قبضه لأن خواص قطب الدين وأصحابه كانوا يخافون جمال الدين، فلما قُبض تبَّسطوا في الأمر والنهي على خلاف غرض زين الدين. فبقي جمالُ الدين في الحبس نحواً من سنة، ثم مرض؛ ومضى لسبيله عظيم القدر والخطر، كريم الوِرد والصَدر، عديم النظير، في سعة نفس، لم يُروْ في كتب الأولين أن أحداً من الوزراء اتسعت نفسه ومروءته لما اتسعت له نفس جمال الدين، فلقد كان عظيم الفتوة كامل المروة.
قال ابن الأثير: حكى لي جماعة عن الشيخ أبي القاسم الصوفي، وهو رجل من الصالحين كان يتولى خدمة جمال الدين في محبسه، قال: لم يزل الجمال مشغولا بأمر آخرته مدة حبسه؛ وكان يقول: كنت أخشى أن أُنقل من الدست إلى القبر. قال: فلما مرض قال لي بعض الأيام: يا أبا القاسم، إذا جاء طائر أبيض إلى الدار فعرِّفني، فقلت في نفسي: قد اختلط الرجل. فلما كان الغد أكثر السؤال عن ذلك الطائر، وإذا طائر أبيض لم يُر مثله قد سقط؛ فقلت له: قد جاء الطائر، فاستبشر، ثم قال: جاء الحق؛ وأقبل على الشهادة وذِكر الله تعالى، وتُوفي؛ فلما توفي طار ذلك الطائر. قال: فعلمت أنه رأى شيئاً في معناه.
ودفن بالموصل نحو سنة؛ وكان قد قال للشيخ أبي القاسم: إن بيني وبين أسد الدين شيركوه عهداً: من مات منا قبل صاحبه حمله الحي إلى المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فدفنه بها في التربة التي عملها؛ فإن أنا متُّ فامض إليه وذكِّره. فلما توفي سار الشيخ أبو القاسم إلى أسد الدين في هذا المعنى؛ فأعطاه مالا صالحاً ليحمله به إلى مكة والمدينة، وأمر أن يحج معه جماعة من الصوفية ومن يقرأ بين يدي تابوته عند النزول والرحيل، وقدوم مدينة تكون في الطريق، وينادون في البلاد: الصلاة على فلان. ففعلوا ذلك؛ فكان يصلى عليه في كل مدينة خلق كثير. فلما كان في الْحِلَّة اجتمع الناس للصلاة عليه، فإذا شاب قد ارتفع على موضع عال ونادى بأعلى صوته:
سَرَى نعشهُ فوق الرقاب، وطالما ... سَرى بِرُّه فوق الركاب ونائله
يمر على الوادي، فتثُنى رماله ... عليه، وفي النادي فتبكي أرامله
فلم ير باكياً أكثر من ذلك اليوم. ثم وصلوا به إلى مكة فطافوا به حول الكعبة وصلوا عليه بالحرم، وحملوه إلى المدينة فصلوا عليه أيضاً، ودفنوه بالرباط الذي أنشأه بها، وبينه وبين قبر النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ذراعاً.
قلت: كذا قال ابن الأثير. ولقد رأيت المكان ولعله أراد الحائط الشرقي من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لانفس القبر الشريف، زاده الله شرفاً وصلى على ساكنه.

ثم قال: كان جمال الدين رحمه الله أسخى الناس وأكثرهم عطاء وبذلا للمال، رحيماً بالناس متعطفاً عليهم عادلا فيهم. فمن أعماله الحسنة أنه جدد بناء مسجد الخيف بمنى، وغرم عليه أموالا عظيمة، وبنى الحجر بجنب الكعبة ورأيت اسمه عليه، ثم غُير وبنُى غيره سنة ست وسبعين وخمسمائة. وزخرف الكعبة بالذهب والنُّقْرة، فكل ما فيها من ذلك فهو عمله إلى سنة تسع وستمائة. ولما أراد ذلك أرسل إلى الإمام المقتفي لأمر الله هدية جليلة حتى أذن فيه، وأرسل إلى أمير مكة عيسى بن هاشم خلعاً سنية وهدية كثيرة حتى مكنه منه. وعمر أيضاً المسجد الذي على جبل عرفات، وعمل الدرج الذي يصعد فيها إليه، وكان الناس يلقون شدة في صعودهم. وعمل بعرفات مصانع للماء وأجرى الماء إليها من نعمان في طريق معمولة تحت الجبل مبنية بالكلس، فغرم على ذلك مالا كثيراً.
وكان يعطي أهل نعمان كل سنة مالا كثيراً ليتركوا الماء يجري إلى المصانع أيام مقام الحجاج بعرفات؛ فكان الناس يجدون به راحة عظيمة.
قال: ومن أعظم الأعمال التي عملها نفعاً أنه بنى سوراً على مدينة النبي عليه السلام فإنها كانت بغير سور ينهبها الأعراب، وكان أهلها في ضنك وضر معهم. رأيت بالمدينة إنساناً يصلي الجمعة، فلما فرغ ترحم على جمال الدين ودعا له، فسألناه عن سبب ذلك، فقال: يجب على كل من بالمدينة أن يدعو له، لأننا كنا في ضر وضيق ونكد عيش مع العرب، لايتركون لأحد منا ما يواريه ويشبع دوعته، فبنى علينا سوراً احتمينا به ممن يريدنا بسوء، فاستغنينا؛ فكيف لاندعو له! قال: وكان الخطيب بالمدينة يقول في خطبته: اللهم صُنْ حريم من صان حرم نبيك بالسور، محمد بن علي بن أبي منصور. قال: فلو لم يكن له إلا هذه المكرمة لكفاه فخراً، فكيف وقد كانت صدقاته تجوب مشرق الأرض وغربها! وسمعت عن متولي ديوان صدقاته التي يخرجها على باب داره للفقراء، سوى الإدرارات والتعهدات، قال: كان له كل يوم مائة دينار أميرية يتصدق بها على باب داره. قال: ومن أبنيته العجيبة التي لم ير الناس مثلها الجسر الذي بناه على دجلة عند جزيرة ابن عمر بالحجر المنحوت والحديد والرصاص والكلس؛ إلا أنه لم يفرغ لأنه قُبض قبل فراغه. وبنى أيضاً جسراً على نهر الأرياد عند الجزيرة أيضاً. وبنى الرُّبط بالموصل، وسنجار، ونصيبين، وغيرها؛ وقصده الناس من أقطار الأرض. ويكفيه أن صدر الدين الجخندي رئيس أصحاب الشافعي، رضي الله عنه، بأصبهان، وابن الكافي قاضي قضاة همدان، قصداه، فأخرج عليهما مالا جزيلا، وكذلك غيرهما من الصدور والعلماء ومشايخ الصوفية. وصارت الموصل في أيامه مقصداً وملجأ.
وكان أحب الأشياء إليه إخراج المال في الصدقات، وكان يضيِّق على نفسه وبيته ليتصدق. حكى لي والدي قال: كنت يوماً عنده وقد أحضر بين يديه قندز، ليُعمل على وبر ليلبسه، بخمسة دنانير، فقال: هذا الثمن كثير، اشتروا لي قندزاً بدينارين وتصدقوا بثلاثة دنانير. قال: فراجعناه غير مرة فلم يفعل. قال: وحكى لي من أثق إليه من العدول بالموصل أن الأقوات تعذرت في بعض السنين بها وغلت الأسعار، وكان بالموصل رجل من الصالحين يقال له الشيخ عمر الملا، فأحضره جمال الدين وسلم إليه مالا، وقال له: تخرج هذا على مستحقيه؛ وكلما فرغ أرسل إليَّ لأتفذ غيره؛ فلم يمض إلا أيام يسيرة حتى فرغ ذلك المال لكثرة المحتاجين، فأنفذ له شيئاً آخر ففنى؛ ثم أرسل يطلب ما يخرجه، فقال جمال الدين للرسول: والله ما عندي شئ، ولكن خذوا هذه المحافر التي في داري فبيعوها وتصدقوا بثمنها إلى أن يأتيني شئ آخر إلى الشيخ عمر. فبيعت المحافر وتصدقوا بثمنها وعرفوه ذلك، فلم يكن عنده ما يرسله، فأعطاه ثيابه التي كان يلبسها مع العمامة التي كانت على رأسه، وأرسل الجميع، وقال للرسول: قل للشيخ لايمتنع من الطلب فهذه أيام مواساة. فلما وصلت الثياب إلى الشيخ عمر بكى وباعها وتصدق بثمنها.

وقال: وحكى لي بعض الصوفية ممن كان يصحب الشيخ عمر النسائي شيخ الشيوخ بالموصل قال: أحضرني الشيخ فقال لي: انطلق إلى مسجد الوزير، وهو بظاهر الموصل، واقعد هناك، فإذا أتاك شئ فاحفظه إلى أن أحضر عندك؛ ففعلت. وإذا أقبل جمع من الحمالين يحملون أحمالا من النَّصافي والخام، وإذا قد جاء نائب جمال الدين مع الشيخ ومعهما قماش كثير، وثمانية عشر ألف دينار، وعدة كثيرة من الجمال. فقال لي تأخذ هذه الأحمال وتسير إلى الرحبة، فتوصل هذه الرزمة وهذا الكتاب إلى متوليها فلان، فإذا أحضر لك فلاناً العربي فتوصل إليه الرزمة الأخرى وهذا الكتاب وتسير معه، فإذا أوصلك إلى فلان العربي فتوصل إليه هذه الرزمة وهذا الكتاب؛ وهكذا إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، توصَل إلى وكيلي فلان هذه الأحمال وهذه الكسوات والمال الذي عليه اسم المدينة ليخرجها يمقتضى هذه الجريدة، ثم يأخذ الباقي الذي عليه اسم مكة ويسير إليها فيتصدق به وكيلي بها بموجب الجريدة الأخرى. قال: فسرنا كذلك إلى وادي القُرى فرأيناه به نحو مائة جمل تحمل الطعام إلى المدينة وقد منعهم خوف الطريق، فلما رأونا ساروا معنا إليها، فوصلناها والحنطة بها كل صاعين بدينار مصري، والصاع خمسة عشر رطلا بالبغدادي. فلما رأوا الطعام والمال اشتروا كل سبعة آصع بدينار. فانقلبت المدينة بالدعاء له. ثم سرنا إلى مكة ففعلنا ما أمرنا.
قال: وحكى لي والدي قال: رأيت جمال الدين وقد حضر عنده رجل فقيه قبل أن يصير وزيراً فطلب منه شيئاً، وتردد إليه عدة أيام، ثم انقطع، فسأل عنه، فقيل إنه سافر، فشق ذلك عليه، ثم قال: هكذا تنصرف الأحرار عن دور الكلاب، وردد ذلك غير مرة؛ ثم سأل عنه فقيل إنه سار نحو ماردين، فأرسل إليه خلعة ونفقة إلى ماردين.
قال: ولو رُمت شرح مفردات أعماله لأطلت وأضجرت، وهي ظاهرة لاتحتاج إلى بيان، فلهذا تركنا أكثرها.
وقد ذكره الأمير مؤيد الدولة أسامة بن منقذ في كتاب الاعتبار فقال: اجتمعت بجمال الدين الموصلي سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وأنا متوَّجه إلى الحج، وكانت بيني وبينه مودة قديمة وعشرة ومؤانسة؛ فعرض عليّ الدخول إلى دار في الموصل فامتنعت، ونزلت بخيمتي على الشط، فكان مدة مقامي كل يوم يركب يجوز على الجسر نحو نينوى وأتابك قد ركب إلى الميدان، وينفذ إليّ يقول: أركب فأنا واقف أنتظرك، فأركب فأسير أنا وهو فنتحدث. فوجدت يوماً منه خلوة من أصحابي، فقلت له: في نفسي شئ يتردد من حيث اجتمعنا أشتهي أن أقوله لك وما يتفق لي خلوة، وقد خلونا الساعة. قال: قل: قلت: أقول ما قاله الشريف الرضي:
ما ناصحتك خفايا الود من أحد ... مالم يصبك بمكروه من العذل
مودتي لك تأبى أن تسامحني ... بأن أراك على شئ من الزلل
وقد بسطت يدك في إنفاق المال في الصدقات ووجوه البر والمعروف، والسلاطين ما يحتملون إخراج المال، ولاتصبر نفوسهم عليه، ولو أن الإنسان يخرجه من ميراثه؛ وهذا الذي أهلك البرامكة؛ فانظر لنفسك كيف المخرج مما قد دخلت فيه. فأطرق ساعة وقال: جزالك الله خيراً، لكن الأمر قد عَبَر عما تخافه. ففارقته وسرت إلى الحجاز، وعدت من مكة على طريق الشام، ونُكب جمال الدين ومات في الحبس.
قلت: ولعلم الدين الحسن بن سعيد الشاتاني في هذا الوزير الجواد لما نكب:
ماحطّ قدرك من أوج العلا القدر ... كلا، ولا غيرت أفعالك الغير
أنت الذي عم أهل الأرض نائله ... ولم ينل شأوه من سؤدد بشر
سارت صفاتك في الآفاق واتضحت ... وصدّق السمع عنها ما رأى البصر
فاصبر لصرف زمان قد منيت به ... فآخر الصبر، ياطود النُّهى، الظفر
فما ترى أحداً في الخلق يسلم من ... صروف دهر له في أهله غير
سعوا بقصدك سرَّا، واستتب لهم ... ولو سعوا نحوه جهراً لما قدروا
لولا الأماني التي تحيا النفوس بها ... لمتّ من لوعة في القلب تستعر
ومنها في ذكر الشيخ عمر الملا:
وأصدق الناس في حفظ العهود، إذا ... ميزت بالفكر أحوال الورى، عُمَر
الزاهدُ، العابدُ، البَرُّ، التقي، ومن ... يزوره ويقويّ أزره الخضِر

وقال العرقلة يرثى جمال الدين الوزير والصالح بن رزيك:
لاخير في الدنيا و لا أهلها ... بعد جمال الدين والصالح
بحران، لولا دمع باكيهما ... ماكان ماء البحر بالمالح
قال ابن الأثير: قال والدي: كنت أرى من الوزير جمال الدين في الأيام الشهيدية من الكفاية والنظر في صغير الأمور وكبيرها، والمحاققة فيها، ما يدل على تمكنه من الكفاية. فلما وصل الأمر إلى الملك قطب الدين مودود بن أتابك الشهيد، وجمال الدين وزيره حينئذ، وقد تمكن زين الدين عليّ بن بكتكين في الدولة تمكناً عظيماً، وتقدم عند قطب الدين جماعة من أصحابه؛ فكان جمال الدين مع تمكنه وعلو محله يهمل بعض الأمور؛ قال: فقلت له يوماً: أين تلك الكفاية التي كنا نراها منك في الأيام الشهيدية؟ ما أرى الآن منها شيئاً!! فقال لي: والآن ما عندي كفاية؟ فقلت: ما هذا العمل من ذلك بشئ. فقال: أنت صبي غرٌّ. ليست الكفاية عبارة عن فعل واحد في كل زمان، إنما الكفاية أن يسلك الإنسان في كل زمان ما يناسبه ذلك الوقت. كان لنا صاحب متمكن قوي العزم لايتجاسر أحد على الاعتراض عليه، ولايَتَلَّون بأقوال أصحابه، فحفظناه؛ فكان ما أفعله هو الكفاية. وأما الآن فلنا سلطان غير متمكن، وهو محكوم عليه؛ فهذا الذي أفعله هو الكفاية.
ثم دخلت سنة ستين وخمسمائةقال ابن الأثير: فيها فتح نور الدين قلعة بانياس من الفرنج. وكان قد سار إليها بعد عوده من فتح حارم، وأذن لعسكر الموصل وديار بكر بالعودة إلى بلادهم، وأظهر أنه يريد طبرية؛ فجعل من بقي من الفرنج همهم حفظها وتقويتها. فسار نور الدين مجداً إلى بانياس لعلمه بقلة من فيها من الحماة الممانعين عنها؛ ونازلها، وضيق عليها وقاتلها. وكان في جملة عسكره أخوه نصرة الدين أمير أميران، فأصابه سهم أذهب إحدى عينيه؛ فلما رآه نور الدين قال له: لو كُشف لك عن الأجر الذي أعد لك لتمنيت أن تذهب الأخرى. وجدّ في حصارها، وسمع الفرنج بذلك فجمعوا، فلم تتكامل عدتهم حتى فتحه الله تعالى. على أن الفرنج كانوا قد ضعفوا بقتل رجالهم بحارم أوسرهم، فملك القلعة وملأها ذخائر وعُدة، ورجالا عدة.
وعاد نور الدين إلى دمشق وفي يده خاتم بفص ياقوت من أحسن الجوهر، فسقط من يده في شعراء بانياس، وهي كثيرة الأشجار ملتفة الأغصان. فلما أبعد من المكان الذي ضاع فيه الفص علم به، فأعاد بعض أصحابه في طلبه ودلهم على مكانه، وقال أظنه هناك صاع. فعادوا إليه فوجدوه، فقال بعض الشعراء الشاميين، وأظنه أحمد بن منير، من جملة قصيدة يمدحه بها ويهنيه بهذه الغزاة وعود الفص الياقوت:
إن يِمتر الشكاك فيك، فإنك ال ... مهديّ مطفئُ جمرة الدجال
فلعودة الجبل الذي أظللته ... بالأمس بين عناطيل وجبال
مسترجعاً لك بالسعادة آية ... ردت مطال الفال غير مُطال
لم يُعْطَها إلا سليمان، وقد ... نلت الرقاء بموشك الإعجال
زجر جرى لسرير ملكك أنه ... كسريره عن كل جدر عال
فلو البحار السبعة استهوينه ... وأمرتهن قذفنه في الحال
قلت: هذه الأبيات لابن منير بلا شك، ولكن في غير هذه الغزاة، فإن ابن منير قد سبق أنه توفي سنة ثمان وأربعين، وفتح بانياس كما تراه في سنة ستين. وقد قرأت في ديوان ابن منير: وقال يمدحه، يعني نور الدين، ويهنئه بالعود من غزاة وضياع فص ياقوت جبل من يده لاشتغاله بالصيد شراؤه ألأف ومائة دينار. وفي نسخة: ووجد أن خاتماً ضاع منه في الصيَّد قيمته ألف ومائة دينار، وأنشده إياه بقلعة حمص. فذكر القصيدة أولها:
*يوماك يوم ندىً ويوم نزال*
يقول فيها:
أخرست شقشقة الضلال، وقدته ... قود الذَّلول أطاع بعد صيال
ورميت دار المشركين بصليم ... ألفحت فيها الحرب بعد حيال
وسَعَرْتَ بين تربيهم وترابهم ... ذعراً يشيبُ نواصي الأطفال
فوق الخطيم، وقد خطمت زعيمهم ... ضرباً سوابقه بغير توالي
ضرباً ملأت فرنجةً من حرِّه ... رهباً، به سيف الصقالب صالي

وبفَجِّ حارم أحرمت لقراعهم ... هيم أحلن النوم غير حلال
عجموا على الجسر الحديد حديدها ... نبعاً يعاذمه أدير دُصال
زلزلت أرضهم بوقع صواعق ... أعطيننا أمناً من الزلزال
في مأزق شمرت ذيلك تحته ... والنصر فوقك مسبل الأذيال
في دولة غراء محمودية ... سحبت رداء الحمد غير مذال
تنسى الفتوح بها الفتوح، وتجتني ... زُهر المقال بباهر الأفعال
لبست بنور الدين نور حدائق ... ثمراتهن غرائب الأفضال
ملك تحجبّ في السرير بزأرة ... زرّت حواشيها على رئبال
تنجاب عن ذي لبدتين شذاته ... في بردتي بدل من الأبدال
رفع الرواق بروق أنطاكية ... فرمى الخليج بمرهق البلبال
بدر لأربع عشرة اقتبس السنا ... من خمس عشرة سورة الأنفال
فوز المآل أخاضه ماءً الطلي ... وسواه يُقعده احتيازُ المال
متقسم بين القسيمين العلا ... عن همِّ عمٍ أو مخايل خال
لازلت تطلع من ثنايا جحفل ... يقفو لواءك كاللوى المنهال
لك أن تطل على الكواكب راقياً ... ولحاسديك بكاً على الأطلال
ومما يناسب هذه السعادة في وجدان الخاتم بعد وقوعه في مظنة الهلاك والضياع ما بلغني أن موسى الهادي لما ولي الخلافة سأل عن خاتم عظيم القيمة كان لأبيه المهدي، فبلغه أن أخاه الرشيد أخذه، فطلبه منه فامتنع، فألح عليه، فحنق الرشيد ومر على جسر بغداد فرماه في دجلة. فلما مات الهادي وولي الرشيد الخلافة أتى ذلك المكان بعينه ومعه خاتم من رصاص فرماه ثَمَّ، وأمر الغطاسين أن يلتمسوه، ففعلوا، فاستخرجوا الخاتم الأول، فعُد ذلك من سعادة الرشيد وبقاء ملكه.
قال ابن الأثير: ولما فتح نور الدين حصن بانياس كان ولد معين الدين أنر الذي سلم بانياس إلى الإفرنج قائماً على رأسه، فالتفت إليه وقال له: للناس بهذا الفتح فرحة واحدة، ولك فرحتان، فقال: كيف ذلك؟ قال: لأن الله تعالى اليوم برّد جلدة والدك من جهنم. وقد تقدم أنه كان صانع بها عن دمشق ولما نزل الفرنج عليها.
وفيها توفي وزير بغداد عون الدين أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة الشيباني، من بني ذهل بن شيبان بن ثعلبة ن الحصن. وكان عالماً ديناً مدبرا حنبلي المذهب؛ وزر للمقتفي ثم للمستنجد بعده، وله عدة مصنفات، منها: الإفصاح في شرح الأحاديث الصحاح. وكان يجمع في مجلسه أفاضل الوقت من أعيان المذاهب الأربعة والنحاة وغيرهم، ويجري بحضرتهم فوائد كثيرة. ثم توفي وهو ساجد في صلاة الصبح من يوم الأحد ثالث عشر جمادي الأولى سنة ستين وخمسمائة. ورئيت له منامات حسنة، ومدحه جماعة من الفضلاء. ومولده في ربيع الآخر سنة سبع وتسعين وأربعمائة بقرية من أعمال دُجَيْل تعرف بالدُّور، وهو الذي محا رسوم سلاطين العجم من العراق وأجلاهم عن خطتها بحسن تدبيره. ومن كلامه لبعض من كان يأمر بالمعروف: اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيب في الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وخمسمائةففيها توفي فتح الدين بن أسد الدين شيركوه، أخو ناصر الدين؛ وقبره بالمقبرة النجمية إلى جانب قير ابن عمه شاهنشاه بن أيوب في قبة فيها أربعة قبور، هما الأوسطان منها. وفي هذين الأخوين، ناصر الدين وفتح الدين، يقول العرقلة حسان:
لله شبلا أسد خادر ... ما فيهما جبن ولا شح
ما أقبلا إلا وقال الورى ... قد (جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَاْلفَتْحُ)

وفيها سار نور الدين أيضاً إلى حصن المنيطرة، وهو للفرنج، ولم يحشد له ولا جمع عساكره، إنما سار إليه على غرة من الفرنج، وعلم أنه إن جمع العساكر حذروا وجمعوا؛ فانتهز الفرصة وسار إلى المنيطرة وحصرها، وجدّ فيؤ قتالها، وأخذها عنوة وقهراً، وقتل من بها، وسبى، وغنم غنيمة كثيرة لأَمِنْ من به، فأخذتهم خيل الله بغتة وهم لايشعرون؛ ولم يقدر الفرنج على أن يجتمعوا لدفعه إلا وقد ملكه. ولو علموا أنه جرد جريدة لأسرعوا، وإنما ظنوا أن نور الدين في جمع كثير، فلما ملكه تفرقوا وأيسوا منه.
هذا قول ابن الأثير. وذكر القاضي ابن شداد أن ذلك في سنة اثنتين وستين كما سيأتي، والله أعلم.
وفيها توفي الجليس بن الحباب بمصر. قال العماد في الخريدة: القاضي الجليس أبو المعالي عبد العزيز بن الحسين بن الحباب الأغلبي السعدي التميمي، جليس صاحب مصر، ففضله مشهور، وشعره مأثور. وكان أوحد عصره في مصر نظماً ونثراً، وترسلا وشعرا؛ ومات بها في سنة إحدى وستين، وقد أناف على السبعين. انشدني له الأمير نجم الدين بن مصال من قصيدة يقول فيها:
ومن عجب أن السيوف لديهُم ... تحيض دماءً، والسيوف ذكور
وأعجب من ذا أنها في أكفهم ... تأججُ ناراً، والأكف بحور
قال: وأنشدني له الشريف إدريس الإدريسي قصيدة سيَّرها إلى الصالح بن رزيك قبل وزارته، يحرضه على إدراك ثأر الظافر، وكان عباس وزيرهم قتله وقتل أخويه يوسف وجبريل، يقول فيها:
أصادفهُم قولا وغيباً ومشهداً ... نحوهم على عمد بفعل أعادي
فأين بنو رزيك عنها ونصرهم ... وما لهم من منعة وذياد
تدارك من الإيمان قبل دثُورِه ... حشاشة نفس آذنت بنفاد
فلو عاينت عيناك بالقصر يومهم ... ومصرعهم لم تكتحل برقاد
فمزق جموع المارقين، فإنها ... بقايا زروع آذنت بحصاد
وله فيه من أخرى في هذه الحادثة:
ولما ترامى البربري بجهله ... إلى فتكة ما رامها قط رائم
ركبت إليه متن عزمتك التي ... بأمثالها تُلقى الخطوب العظائم
أعدت إليهم ملكهم بعد ما لوى ... به غاصب حق الإمامة ظالم
وأنفذ إليه في المعنى:
أعدت إلى جسم الوزارة روحها ... وماكان يرجى بعثها ونشورها
أقامت زماناً عند غيرك طامثاً ... فهذا الأوان قرؤها وطهورها
من العدل أن يحيا بها مستحقُّها ... ويخلعها مردودةً مستعيرها
إذا ملك الحسناء من ليس كفئها ... أشار عليه بالطلاق مشيرها
وله يشكو طبيباً:
وأصل بليتي من قد غزاني ... من السَّقَم الملحّ بعسكرين
طبيب طبُّه كغراب بين ... يفرق بين عافيتي وبيني
أني الحمى وقد شاخت وباخت ... فرد لها الشباب بنسختين
ودبرها بتدبير لطيف ... حكاه عن سسنان أو حنين
وكانت نوبةً في كل يوم ... فصيّرها بحذق نوبتين
قلت: الأبيات الرائية تمثل بها الجليس، وهي لصُرد، وقرأتها في ديوانه؛ وهي من قصيدة مدح بها وزير الخليفة ببغداد فخر الدين أبا نصر محمد بن جهير ويهنيه بعوده إلى الوزارة؛ وأول القصيدة:
لجاجةُ قلب ما يفيق غرورها ... وحاجة نفس ليس يُقضي يسيرها
وهي طويلة يقول فيها متغزلا:
وقفنا صفوفاً في الديار، كأنها ... صحائف ملقاة ونحن سطورها
يقول خليلي، والظباء سوانح: ... أهذي التي تهوى؟ فقلت: نظيرها
وقد قلتما لي ليس في الأرض جنة ... أما هذه فوق الركائب حورُها؟
أراكَ الحْمى، قل لي بأي وسيلة ... وصلت إلى ان صادقتك ثغورها!
ويقول في مديحها:
وما لي بها علم، فهل أنت عالم ... أأفواهها أولى بها أم نحورها
على رسلكم في الهجر، إنَّا عصابة ... إذا ظفرت في الحب عف ضميرها
فقل لليالي: كيف شئت تقلبَّي ... ففي يد عبل الساعدين أمورها

أمانيُّ في نفس الوزارة بُلِّغت ... به كنهها حتى استحقت نذورها
لوَتْ وجهها عن كل طالب متعة ... إلى خاطبٍ حلُّ عليه سفورها
إذا مثل الأقوام دون عرينه ... تساوى به ذو طيشها ووقورها
تكاد لما قد أُلبسْت من سكينة ... ترف على تلك الرؤس طيورها
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وخمسمائةففيها عاد أسد الدين إلى مصر تاسع ربيع الآخرة! وقد كان بعد رجوعه من مصر لايزال يحدث نفسه بقصدها ومعاودتها، حريصاً على الدخول إليها، يتحدث به مع كل من يثق إليه. وكان مما يهيجه على العود زيادة حقده على شاور وما عمل معه. فلما كان هذه السنة تجهز وسار إليها، وسير نور الدين معه جماعة من الأمراء وابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب. وفي ذلك يقول العرقلة:
أقول والأتراك قد ازمعت ... مصرَ إلى حرب الأعاريب:
ربّ، كما ملكتها يوسف الص - ديق من اولاد يعقوب
يملكها في عصرنا يوسف الص ... ادق من أولاد أيوب
من لم يزل ضرّاب هامِ العدا حقاً ... وضرّاب العراقيب
ثم إن أسد الدين جدَ في السير على البرّ، وترك بلاد الإفرنج عن يمينه، فوصل إلى الديار المصرية وقصد إطفيح، وعبر النيل عندها إلى الجانب الغربي، ونزل بالجزيرة مقابل مصر، وتصرّف في البلاد الغربية وأقام بها نيفاً وخمسين يوماً.
وكان شاور لما بلغه مجئ أسد الدين قد راسل الفرنج يستغيث بهم ويستصرخهم؛ فأتوه على الصعب والذلول، فتارة يحثهم طمعهم في ملك مصر على الجد والتشمير، وتارة يحدوهم خوفهم من أن يملكها العسكر النُّوري على الإسراع في المسير؛ فالرجاء يقودهم والخوف يسوقهم. فلما وصلوا إلى مصر عبروا إلى الجانب الغربي؛ وكان أسد الدين والعسكر النُّوري قد ساروا إلى الصعيد فبلغوا مكاناً يعرف بالبابين، وسارت العساكر المصرية، والفرنج وراءهم، فأردركوهم به في الخامس والعشرين من جمادي الأولى.
وكان شيركوه قد أرسل إليهم جواسيس، فعادوا وأخبروه بكثرة عددهم وعددُهم، وجدهم في طلبه؛ فعزم على قتالهم ولقائهم، وأن تحكم السيوف بينه وبينهم.
إلا أنه خاف من أصحابه أن تضعف نفوسهم عن الثبات في هذا المقام الخطير الذي عطبهم فيه أقرب من السلامة، لقلة عددهم وبعدهم عن بلادهم؛ فاستشارهم، فكلهم أشار عليه بعبور النيل إلى الجانب الشرقي والعود إلى الشام، وقالوا له: إن نحن انهزمنا، وهو الذي لاشك فيه، فإلى أين نلتجئ وبمن نحتمي، وكل من في هذه الديار من جندي وعامي وفلاح عدوُّ لنا، ويودون لو شربوا دمتءنا؛ وحق لعسكر عدتهم ألفا فارس قد بعدُوا عن ديارهم وقل ناصرهم أن يرتاع من لقاء عشرات ألوف، مع أن كل أهل البلاد عدو لهم فلما قالوا ذلك قام إنسان من المماليك النُّورية يقال له شرف الدين بزغش، وكان من الشجاعة بالمكان المشهور، وقال: من يخاف القتل والجراح والأسر فلا يخدم الملوك بل يكون فلاحاً أو مع النساء في بيته؛ والله لئن عدتم إلى الملك العادل من غير غلبة وبلاء تعُذرون فيه ليأخذن إقطاعاتكم وليعودنَّ عليكم بجميع ما أخذتموه إلى يومنا هذا، ويقول لكم: أتأخذون أموال المسلمين وتفرون عن عدوهم، وتسلمون مثل هذه الديار المصرية يتصرف فيها الكفار؟! قال أسد الدين: هذا رأيي وبه أعمل، ووافقهما صلاح الدين يوسف بن أيوب، ثم كثر الموافقون لهم على القتال، فاجتمعت الكلمة على اللقاء. فأقام بمكانه حتى أدركه المصريون والفرنج وهو على تعبئة، وقد جعل الأثقال في القلب يتكثر بها، ولأنه لم يمكنه أن يتركها بمكان آخر فينهبها أهل البلاد.

ثمَّ إنه جعل صلاح الدين ابن أخيه في القلب، وقال له ولمن معه: إن الفرنج والمصريين يظنون أنني في القلب فهم يجعلون جمرتهم بإزائه وحملتهم عليه، فإذا حملوا عليكم فلا تصدقوهم القتال ولاتهلكوا نفوسكم، واندفعوا بين أيديهم؛ فإذا عادوا عنكم فارجعوا في أعقابكم. واختار من شجعان أصحابه جمعاً يثق إليهم ويعرف صبرهم وشجاعتهم، ووقف بهم في الميمنة. فلما تقابل الطائفتان فعل الفرنج ما ذكره أسد الدين وحملوا على القلب ظناً منهم أنه فيه، فقاتلهم من به قتالا يسيراً، ثم انهزموا بين أيديهم، فتبعوهم. فحينئذ حمل أسد الدين فيمن معه على من تخلف عن الفرنج الذين حملوا على القلب من المسلمين فهزموهم، ووضع السيف فيهم فأثخن، وأكثر القتل والأسر، وانهزم الباقون. فلما عاد الفرنج من أثر المنهزمين الذين كانوا في القلب رأوا مكان المعركة من أصحابهم بلقعاً ليس بها منهم ديار، فانهزموا أيضاً. وكان هذا من أعجب ما يؤرخ: أن ألفي فارس تهزم عساكر مصر وفرنج الساحل.
ثم سار أسد الدين إلى ثغر الإسكندرية وجبى ما في طريقها من القرايا والسواد من الأموال، ووصل إلى الإسكندرية فتسلمها من غير قتال: سلمها إليه أهلها؛ فاستناب بها صلاح الدين ابن أخيه، وعاد إلى الصعيد وتمَّلكه، وجبى أمواله، وأقام بها حتى صام رمضان.
وأما المصريون والفرنج فإنهم عادوا إلى القاهرة وجمعوا أصحابهم، وأقاموا عوض من قتل منهم، واستكثروا، وحشدوا، وساروا إلى الإسكندرية، وبها صلاح الدين في عسكر يمنعونها منهم، وقد أعانهم أهلها خوفاً من الفرنج، فاشتد الحصار وقل الطعام بالبلد، فصبر أهله على ذلك. ثم إن أسد الدين سار من الصعيد نحوهم، وكان شاور قد أفسد بعض من معه من التركمان، ووصله رسل المصريين والفرنج يطلبون الصلح، وبذلوا له خمسين ألف دينار سوى ما أخذه من البلاد؛ فأجابهم إلى ذلك وشرط أن الفرنج لايقيمون بمصر، ولا يتسلمون منها قرية واحدة، وأن الإسكندرية تعاد إلى المصريين. فأجابوا إلى ذلك واصطلحوا؛ وعاد إلى الشام، فوصل دمشق ثامن عشر ذي القعدة؛ وتسلم المصريون الإسكندرية في النصف من شوال.
وأما الفرنج فإنهم استقر بينهم وبين المصريين أن يكون لهم بالقاهرة شحنة، وتكون أبوابها بيد فرسانهم ليمتنع الملك العادل من إنفاذ عسكر إليهم، ويكون للفرنج من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار. هذا كله يجري بين الفرنج وشاور؛ وأما العاضد صاحب مصر فليس إليه من الأمر شئ، ولايعلم بشئ من ذلك: قد حكم عليه شاور وحجبه. وعاد الفرنج إلى بلادهم، وتركوا جماعة من فرسانهم ومشاهيرهم وأعبانهم بمصر والقاهرة على القاعدة المذكورة.
ثم إن الكامل شجاع بن شاور راسل نور الدين مع شهاب الدين محمود الحارمي، وهو من أكابر أمراء الملك العادل، وهو خال صلاح الدين يوسف، ينهى محبته وولاءه، ويسأله أن يأمر بإصلاح الحال وجمع الكلمة بمصر على طاعته، ويجمع كلمة الإسلام، وبذل مالاً يحمله كل سنة. فأجابه إلى ذلك، وحملوا إلى نور الدين مالا جزيلا. فبقي الأمر على ذلك إلى أن قصد الفرنج مصر لتملكها، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخبار سنة أربع وستين.
قال القاضي أبو المحاسن يوسف بن شداد: ذكر عود أسد الدين إلى مصر في المرة الثانية، وهي المعروفة بوقعة البابيْن: لم يزل أسد الدين يتحدث بذلك بين الناس حتى بلغ شاوراً ذلك وداخله الخوف على البلاد من الأتراك، وعلم أن أسد الدين قد طمع في البلاد، وأنه لابد له من قصدها. فكاتب الفرنج وقرر معهم أنهم يجيئون إلى البلاد ويمكنونه فيها تمكيناً كلياً، ويعينونه على استئصال أعدائه، بحيث يستقر قدمه فيها. وبلغ ذلك نور الدين وأسد الدين، فاشتد خوفهما على مصر أن يملكها الكفار فيستولون على البلاد كلها. فتجهز أسد الدين، وأنفذ نور الدين معه العسكر، وألزم صلاح الدين رحمه الله بالمسير معه على كراهة منه لذلك، وذلك في اثناء ربيع الأول. وكان وصولهم إلى البلاد المصرية مقارناً لوصول الفرنج إليها. واتفق شاور مع الفرنج على أسد الدين، والمصريون بأسرهم، وجرى بينهم حروب كثيرة ووقعات شديدة، وانفصل الفرنج عن الديار المصرية، وانفصل أسد الدين.

وكان سبب عود الفرنج أن نور االدين، قدس الله روحه، جرد العساكر إلى بلاد الإفرنج وأخذ المنيطرة؛ وعلم الفرنج ذلك فخافوا على بلادهم وعادوا. وكان سبب عود أسد الدين ضعف عسكره بسبب مواقعة الفرنج والمصريين، وما عانوه من الشدائد وعاينوه من الأهوال. وما عاد حتى صالح الفرنج على أن ينصرفوا كلهم عن مصر، وعاد إلى الشام في بقية السنة، وقد انضم إلى قوة الطمع في البلاد شدة الخوف عليها من الفرنج، لعلمه بأنهم قد كشفوها كما كشفها، وعرفوها من الوجه الذي عرفها. فأقام بالشام على مضض وقلبه مقلقل والقضاء يجره إلى شئ قد قُدر لغيره وهو لايشعر بذلك.
قال: وفي اثناء سنة اثنتين وستين ملك نور الدين قلعة المنيطرة بعد مسير أسد الدين في رجب، وخرب قلعة اكاف بالبرية.
وفي رمضان منها اجتمع نور الدين وأخوه قطب الدين وزين الدين بحماة للغزاة، وساروا إلى بلاد الفرنج، فخربوا هُونين في شوال منها.
وفي ذي القعدة منها كان عود أسد الدين إلى مصر.
وفيه مات قرا أرسلان بديار بكر.
فصلوفي شعبان من هذه السنة قدم دمشق عماد الدين الكاتب ابو حامد محمد بن محمد الاصفهاني، مصنف كتابي الفتح والبرق، فأنزله قاضي القضاة كمال الدين ابو الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم بن الشهرزوري بالمدرسة النورية الشافعية عند حمام القصير بباب الفرج، المنسوبة الان الى العماد. وانما نسبت اليه لان نور الدين رحمه الله تعالى ولاه اياه في رجب سنة سبع وستين بعد الشيخ الفقيه بن عبد الحارثي.
وكان العماد له معرفة بنجم الدين ايوب واسد الدين شيركوه ابني شاذي من تكريت، بسبب ان عمه العزيز احمد بن حامد اعتقله السلطان محمود بن ملشكاه بقلعة تكريت، ونجم الدين ايوب اذ ذاك واليها، فانتسجت المودة بينهم من هناك. فلما سمع نجم الدين بوصوله ، بكر الى منزله لتبجيله، وكان صلاح الدين وشيركوه حينئذ بمصر، فمدح العماد نجم الدين ايوب بقصيدة اولها:
يوم النوى ليس من عمري بمحسوب ... ةلا الفراق الى عيشي بمنسوب
ما اخترت بعدك، لكن الزمان اتى ... كرها بما ليس، يا محبوب، محبوبي
ارجو ايابي اليكم ظافراً عجلا ... فقد ظفرت بنجم الدين ايوب
موفق الرأي، ماضي العزم، مرتفع ... على الاعاجم مجداً والاعاريب
احبك الله اذ لازمت نجدته ... على جبين بتاج الملك معصوب
اخوك وابنك، صدقاً منهما، اعتصما ... بالله، والنصر وعد غير مكذوب
هما همامان في يومي وغى وقرى ... تعودا ضرب هام او عراقيب
داً يشبان في الكفار نار وغى ... بلفحها يصبح الشبان كالشيب
بملك مصر ونصر المؤمنين غداً ... تحظى النفوس بتأنيس وتطييب
ويستقر بمصر يوسف، وبه ... تقر بعد التنائي عين يعقوب
ويلتقي يوسف فيها بأخوته ... والله يجمعهم من غير تثريب
وكان انشاده هذه القصيدة في اخر شوال سنة اثنتين وستين وخمسمائة، وتم ملكهم مصر بعد سنتين فنظمت ما في الغيب تقديره.

قال: وكان اسد الدين قد جمع وسار الى مصر في الرمل في النصف من ربيع الاول، ووصل في سادس ربيع الاخر الى اطفيح وعبر منها الى الجانب الغربي ، واناخ بالجيزة محاذاة مصر، فأقام عليها نيفاً وخمسين يوماً، واستعان شاور بالفرنج ورتبوا لهم سوقاً بالقاهرة، وعبروا بهم من البلاد الشرقية الى الغرب، وعلم اسد الدين فسار امامهم، فالتقوا بموضع يعرف بالبابين، فكسرهم اسد الدين واصحابه، وقتلوا من الفرنج وممن تبعهم من المصريين الوفا، وحصل منهم في الاسار سبعون فارساً من بارونيتهم. فلما تمت لهم هذه الكسرة رحلوا إلى الإسكندرية، فوجدوا مساعدة من أهلها فدخلوها. ثم قال أسد الدين: أنا لايمكنني أن أحصر نفسي؛ فأخذ العسكر وسار به إلى بلاد الصعيد فاستولى عليها، وجبى خراجها. وأقام صلاح الدين بالإسكندرية فسار إليه شاور والرنج، فحاصروه أربعة أشهر، وصدق أهل الإسكندرية القتال مع صلاح الدين، وقوى أسد الدين بقوص، واستنهض لقصد القوم العموم والخصوص. فسمع الفرنج أنه جاء يقصدهم فرحلوا عن الحصار. وكان شاور قد استمال جماعة من التركمان الذين مع أسد الدين بالذهب، فلما راسلوه في المهادنة أجاب، وطلب منهم عوض ماغرمه؛ فبذلوا له خمسين ألف دينار، فخرجوا من الإسكندرية في النصف من شوال، ووصلوا إلى دمشق ثامن عشر ذي القعدة، وعادوا إلى الخدمة النورية. فاجتمع العماد بأسد الدين وأنشد هذه القصيدة:
بلغت بالجد مالا يبلغ البشر ... ونلت ماعجزت عن نيله القُدر
من يهتدي للذي أنت اهتديت له ... ومن له مثل ما أثرّته أثر!
أسرِت أم بِسُراك الأرضُ قد طويت ... فأنت إسكندرٌ في السير أم خَضِر
أوردت خيلا بأقصى النيل صادرةً ... عن الفرات يقاضي وِرْدَها الصَّدَر
تناقلت ذكرك الدنيا، فليس لها ... إلا حديثك ما بين الورى سمر
فأنت مَنْ زانت الأيام سيرته ... وزاد فوق الذي جاءت به السيِّر
لو في زمان رسول الله كنت، أتت ... في هذه السيرة المحمودة السور
أصبحت بالعدل والإقدام منفرداً ... فقل لنا: أعليٌّ أنت أم عمر
إسكندرٌ ذكروا أخبار حكمته ... ونحن فيك رأينا كل ماذكروا
ورُسْتُمٌ خبرونا عن شجاعته ... وصار فيك عياناً ذلك الخبر
اِفخر؛ فإن ملوك الأرض أذهلهم ... ماقد فعلت، فكلٌ فيك مفتكر
سهرت إذرقدوا، بل هجت إذ سكنوا ... وصُلت إذ جبنوا، بل طُلت إذ قُصروا
يستعظمون الذي أدركته عجباً ... وذاك في جنب مانرجوه محتقر
قضى القضاء بما نرجوه عن كثب ... حتما، ووافقك التوفيق والقدر
شكت خيولك إدمان السرى، وشكت ... من فَلِّها البيضُ، بل من حَطْمها السُّمر
يسرت فتح بلاد كان أيسرها ... لغير رأيك قفلاً فتحه عسر
قرنت بالحزم منك العزم، فاتسقت ... مآرب لك عنها أسفر السفر
ومن يكون بنور الدين مهتدياً ... في أمره، كيف لايقوى له المرر
يرى برأيك مافي الملك يبرمه ... فأنت منه بحيث السمع والبَصر
لقد بغت فئةُ الإفرنج فانتصفت ... منها، بإقدامك، الهندية البتر
غرست في أرض مصرٍ من جسومهمُ ... أشجار خط لها من هامهم ثمر
وسال بحر نجيع في مقام وغي ... به الحديد غمامٌ، والدم المطر
أنهرت منهم دماءً بالصعيد، جرى ... منها إلى النيل في واديهمُ نَهَر
رأوا إليك عبور النيل إذ عدموا ... نصراً فما عبروا حتى قد اعتبروا
تحت الصوارم هامُ المشركين، كما ... تحت الصوالج يوماً خفتّ الأكر
أفنت سيوفك من لاقت، فإن تركت ... قوماً فهم نفر من قبلها نفروا

لم ينج إلا الذي عافته من خبث ... وحش الفلا، وهو للمحذور منتظر
والساكنون القصور القاهرية قد ... نادى القصورُ عليهم أنهم قُهروا
وشاورٌ شاوروه في مكائدهم ... فكادوه الكيد لما خانه الحذر
كانوا من الرعب موتى في جلودهم ... وحين أمنتهم من خوفهم نُشروا
وإن من شيركوه الشرك منخزلٌ ... والكفرَ منخذل، والدين منتصر
عوِّل على فئةٍ عند اللقاء وفت ... وعدِّ عن تركمان قبله غدروا
وكيف يُخذل جيش أنت مالكه ... والقائدان له التأييد والظفر
أجاب فيك إله الخلق دعوة من ... يطيب بالليل من أنفاسه السَّحر
وقال العماد: واتصلت بيني وبين صلاح الدين يوسف ابن أخيه مودة، تمت لي بها على الزمان عُدة؛ ولم يزل يستهديني نظمي ونثري، ويشعرني أنه يميل إلى شعري. فأول ما خدمته به هذه الكلمة:
كيف قلتم بمقلتيه فتور ... وأراها بلا فتور تجور
ومنها:
مستجيزٌ جوري، وإنيَّ منه ... بابن أيوب يوسفٍ مستجير
فضله في يدي الزمان سوار ... مثلها رأيه على الملك سور
كرمٌ سابغ، وجودٌ عميم ... وندىً سائغ، وفضل غزير
أنت من لم يزل يحن إليه، ... وهو في المهد، سرجه والسرير
من دم الغادرين غادرت بالأم ... س صعيد الصعيد وهو غدير
ولكلٍ مما تطاولت فيهم ... أمل قاصر وعمر قصير
لاذ بالنيل شاورُ مثل فرعو ... ن، فذل اللاجيّ وعز العُبور
شارك المشركين بغياُ، وقدماً ... شاركتها قريظةٌ والنضير
والذي يدعى الإمامةَ بالقا ... هرة ارتاع أنه مقهور
وغدا الْمَلْك خائفاً من سُطاكم ... ذا ارتعاد كأنه مقرور
وبنو الهنفري هانوا ففروا ... ومن الأسد كلُّ كلب فرور
إنما كان للكلاب عواء ... حيث ماكان للأسود زئير
قليب عند الفرار سليب ... فهو بالرعب مطلق مأسور
لم يبقوا سوى الأصاغر للسب ... ي فودوا أن الكبير صغير
وحميت الإسكندرية عنهم ... ورحى حربهم عليهم تدور
حاصروها وما الذي بان من ذَبَّ ... ك عنها وحفظها محصور
كحصار الأحزاب طيبةً قدماً ... ونبيُّ الهدى بها منصور
فاشكر الله حين أولاك نصراً ... فهو نعم المولى ونعم النصير
ولكم أرجف الأعادي، فقلنا ... مالما تذكرونه تأثير
ورقبنا كالعيد عودك فاليو ... م به للأنام عيد كبير
عاد من مصر يوسفٌ وإلى يع ... قوب بالتهنئات جاء البشير
فلأيوب من إياب صلاح الدِّ ... ين يوم به توفيَّ النذور
ولكم عودة إلى مصر بالنص ... ر على ذكرها تمر العصور
فاستردوا حق الإمامة ممن ... خان فيها فإنه مستعير
وافترعها بكراً، لها في مدى الده ... ر رواح في مدحكم وبكور
أنا سيرت طالع العزم مني ... وإلى قصدك انتهى التسيير
وأرى خاطري لمدحك إلفاً ... إنما يألف الخطير الخطير
وهي والتي قبلها طويلتان جداً. فانتظمت معرفة العماد بصلاح الدين وكان له مساعداً عند نور الدين.
وقرأت في ديوان العرقلة: وقال يمدح أسد الدين شيركوه، وقد أخذ الشقيف ورحل طالباً حصناً يقال له الغراق:
رحلت من الشقيف إلى الغراق ... بعزم كالمهندة الرقاق
ونكست الأعادي منه قهراً ... ومجدك في ذرا الجوزاء باقي
بجأشك لا بجيشك نلت هذا ... وبالتوفيق لا بالإتفاق

فداؤك من مضى بالحصن قبلي ... إلى دار الخلود من الرفاق
وما نخشى على الإسلام بؤساً ... إذا هلك الجميع وأنت باقي
أشاوركم تُشاور كل خب ... وتنفق عند مثلك بالنفاق
أتصبر إن أتتك بحار خيل ... وقدماً ما صبرت على السواقي
متى رفعت لك السودان رأساً ... وقد خلاهم مثل الزقاق
وعيشك ماله من مصر بد ... ومن عندي ثلاثاً بالطلاق
هو الأسد الذي مازال حتى ... بنى مجداً على السبع الطباق
فصلقال ابن الأثير: وفي هذه السنة أرسل نور الدين إلى أخيه قطب الدين يطلب أن يعبر الفرات إليه بعساكره؛ فتجهز وسار هو وزين الدين في العساكر الكثيرة، فاجتمعوا بنور الدين على حمص. فدخل بالعساكر الإسلامية بلاد الفرنج واجتاز على حصن الأكراد، فأغاروا ونهبوا وأسروا، وقصدوا عَرْقَةَ ونزلوا عليها وحصروها، وحصروا جَبَلَة وأخربوها. وتوجهت عساكر المسلمين يميناً وشمالاً تغير وتخرب البلاد، وفتح العَرِيمة وصافيثا. وعاد إلى حمص، فصام بها شهر رمضان. ثم سار إلى بانياس وقصد قلعة هُونين، وهي للفرنج ايضاً، من قلاعهم المنيعة، فانهزم الفرنج عنها وأحرقوها، فقصدها نور الدين فوصلها من الغد، وخرب سورها جميعه. وأراد الدخول إلى بيروت فتجدد في العسكر خُلف أوجب التفرق، فعاد. وسار قطب الدين إلى الموصل وأقطعه مدينة الرَّفَّة فأخذها في طريقه.
قال: وفي هذه السنة عصى الأمير غازي بن حسان المنبجي صاحب مَنْبِج على نور الدين، وهو كان أقطعه إياها، فأرسل إليه نور الدين عسكراً حصره بها وأخذها منه، وأقطعها أخاه قطب الدين ينال بن حسان، وكان عاقلاً خيراً، حسن السيرة، فبقى بها إلى أن أخذها منه صلاح الدين سنة اثنتين وسبعين كما سيأتي.
وفي هذه السنة توفي القاضي الرشيد أحمد بن علي بن الزبير صاحب كتاب الجنان. قال العماد في الخريدة: كان ذا علم غزير وفضل كثير، قتله شاورَ صبراً في سنة اثنتين وستين، ونسب إليه أنه شارك أسد الدين شيركوه في قصده. وأخوه المهذب أبو علي الحسن بن علي بن الزبير أشعر منه وتوفي قبله بسنة، لم يكن في زمانه أشعر منه. وله شعر كثير، منه قصيدة غراء في مدح الصالح بن رزيك، وذكر فيها نور الدين، أولها:
أعلمت حين تَجاور الحيان ... أن القلوب مواقد النيران
يا كاسر الأصنام قم فانهض بنا ... حتى تصير مكسِّر الصلبان
فالشام ملكك قد ورثت بلاده ... عن قومك الماضين من غسان
وإذا شككت بأنها أوطانهم ... قدماً فسل عن حارث الجولان
أورمُت أن تتلو محاسن ذكرهم ... فاسند روايتها إلى حسان
مازلزلت أرض العدا، بل ذاك ما ... بقلوب أهليها من الخفقان
وأقول إن حصونهم سجدت لما ... أوتيت من ملك ومن سلطان
ولقد بعثت إلى الفرنج كتائباً ... كالأسد حين تصول في خّفَّان
لبسوا الدروع، ولم نخل مِنْ قبلهم ... أن البحار تحل في غُدران
عجلت في تل العَجُول قراهم ... وهم لك الضيفان بالذِّيفان
وثللت في يوم العريش عروشهم ... بشبا ضراب صادق وطعان
ألجأتهم للبحر لما أن جرى ... منه ومن دمهم معاً بحران
ولقد أتى الأسطول حين غزا بما ... لم يأت في حين من الأحيان
وأعدت رُسل ابن القسيم إليه في ... شعبان كي يتلاءم الشَّعبان
والفال يشهد في اسمه أن سوف يغ ... دو الشام وهو عليكما قسمان
وأراك من بعد الشهيد أباً له ... وجعلته من أقرب الإخوان
وهو الذي مازال يفعل في العدا ... مالم يكن لِيُعَدَّ في الإمكان
قتل البرنس ومن عساه أعانه ... لما عتا في البغي والعدوان
وأرى البرية حين عاد برأسه ... مُرَّ الجنى يبدو على المران

وتعجبوا من زرقة في طرفه ... وكأن فوق الرمح نصلاً ثاني
عجباً لجود يديه إذ يبني العلا ... والسيل يهدم ثابت الأركان
قلدت أعناق البرية كلها ... منناً تحمل ثقلها الثقلان
حتى تساوى الناس فيك وأصبح ال ... قاصي بمنزلة القريب الداني
وفي هذه السنة ذكر القاضي كمال الدين بن الشَّهْرَزَوْرِي للسلطان نور الدين رحمه الله حال العماد الكاتب وعرفه به، وعرض عليه قصيدة له في مدحه مطلعها:
لو حفظت يوم النوى عهودها ... ما مُطلت بوصلكم وعودها
ومنها:
محمد يحمد عيش بلدة ... مالكها بعدله محمودها
مؤيد أموره بعزمة ... من السموات العلا تأييدها
آثاره حميدة، وإنما ... للمرء من آثاره حميدها
إن الورى بحبه وبغضه ... يعرف من شقيها سعيدها
قد جاءكم نور من الله، فمن ... به اهتدى فإن رشيدها
جلا ظلام الظلم نور الدين عن ... أرض الشآم، فله تحميدها
إن الرعيا منه في رعاية ... ونعمة مستوجب مزيدها
لنومها يسهر، بل لأمنها ... يخاف، بلْ يخصبها بجودها
بالدين والملك له قيامه ... وللملوك عنهما قعودها
ودأبه ثلم ثغور الكفر، لا ... لثم ثغور ناقع برودها
قد أسبغ الله لنا بعدله ... ظلال أمن وارف مديدها
غدا ملوك الروم في دولته ... وهم على رغمهم عبيدها
لما أبت هاماتهم سجودها ... لله، أضحى للظُّبا سجودها
إن فارقت سيوفه غمودها ... فإن هاماتهم غمودها
كم مغلقات، من حصون عزمه ... مفتاحها، وسيفه إقليدها
قد ودَّت الفرنج لو فرَّت نجتْ ... منك، ولكن روعها يبيدها
قهرتها حتى لودَّ حيُّها ... من ذلة لو أنه فقيدها
أماتها رعبك في حصونها ... كأنما حصونها لحودها
وإن مصراً لك تعنو بعدما ... لسيفك العضب عنا صعيدها
والملة الغراء اخالٍ بالها ... عال سناها، بك حالٍ جيدها
مفترة ثغورها، ممنوعة ... ثغورها، محفوظة حدودها
وإن بغى جالوتها ضلالةً ... فأنت في إهلاكه داودها
ياابن قسيم الدولة الملك الذي ... خرّضت له من الملوك صيدها
دع العدا بغيظها، فإنما ... يذيب أكباد العدا حقودها
يادولة نوريةً أمن الورى ... وخصبها، وجودها، وُجودها
مامثلُ الدنيا لمن يجمعها ... بالحرص إلا قَزَّة ودودها
أنت الذي يرفضها عن قدرة ... فلا يشوب زهده زهيدها
فابق لنا ياملكا، بقاؤه ... في كل عام للرعايا عيدها
في نعمة جديدة سعودها ... ودولة سعيدة جدودها
وهي طويلة. فرتبه نور الدين في ديوانه منشئاً لاستقبال سنة ثلاث وستين.
قال: ووجدت على الأيام منه الإعزاز والتمكين. قلت: وذلك بعد أن استعفى أبو اليُسر شاكر بن عبد الله من الخدمة في كتابة الإنشاء وقعد في بيته. كذا ذكر العماد في الخريدة.
وقال: تولى ديوان الإنشاء بالشام سنين كثيرة، وله مقاصد حسنة في الكتب، وهو حميد السيرة، جميل السريرة.
وفيها توفي الحافظ أبو سعد عبد الكريم محمد السمعاني المروزي رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وخمسمائةفذكر العماد أن نور الدين رحل إلى حمص، ثم مضى إلى حماة، ثم شتَّى بقلعة حلب ومعه الأسد والصّلاح. ونزل العماد بمدرسة ابن العجمي وكتب إلى صلاح الدين يوسف بن أيوب، وقد عثر فرسه في الميدان وهو يلعب بالكرة مع نور الدين رحمه الله تعالى:

لاتنُكرنَّ لسابح عثرت به ... قدم وقد حمل الخضم الزاخرا
ألقى على السلطان طرِفك طرفه ... فهوى هنالك للسلام مبادرا
سبق الرياح بجريه، وكففته ... عنها، فليس على خلافك قادرا
ضعفت قواه إذ تذكر أنه ... في السرج منك يُقل ليثاً خادراً
ومتى تطيق الريح طوداً شامخاً ... أو يستطيع البرق جوناً ماطرا
فاعذر سقوط البرق عند مسيره ... فالبرق يسقط حين يخطف سائرا
وأّقِلْ جوادك عثرة ندرت له ... إن الجوادَ لَمَن يُقيل العاثرا
وتوقّ من عين الحسود وشرها ... لاكان ناظرها بسوء ناظرا
واسلم لنور الدين سلطان الورى ... في الحادثات معاضدا ومؤازرا
وإذا صلاح الدين دام لأهله ... لم يحذروا للدهر صَرفاً ضائرا
وجرت بين العماد وبين الإمام شرف الدين أبي سعد عبد الله بن أبي عصرون مكاتبات. كتب إليه العماد:
أيا شرف الدين إن الشتا ... بكافاته كفّ آفاته
وكفك من كرم كافها ... لقد كفلت لي بكافاته
وإنك مَن عرفه شكرنا ... غدا عاجزا عن مكافاته
قال: فكتب إليَّ شرف الدين في جوابها:
إذا ما الشتاءُ وأمطاره ... عن الخبر حابسة رادعه
فكافاته الست أُعطيتها ... وحوشيتَ من كافه السابعه
وكف المهابة والإحتشام ... لكفِّيَ عن بره مانعه
وهمة كل كريم النِّجار ... بميسور أحبابه قانعه
ونفسي في بسط عذري إليه، ... جعلت الفداء له، طامعه
وشوقي إلى قربه زائد ... ومعذرتي إن جفا واسعه
قال: فكتبت إليه جوابها:
أيا من له همة في العلا ... لذروتها أبدا فارعه
ومن كفه ديمة ماتزا ... ل بالعرف هامية هامعه
وللفضل في سوق أفضاله ... بضائع نافقة نافعه
وهل كابن عَصْرون في عصرنا ... إمام أدلته قاطعه
فحبر فوائده جمة ... وبحر موارده واسعه
أيا شرف أوامرك الساميات ... وما برحتْ همتي طائعه
أرى كل جارحة لي تودّ ... لو أنها أذن سامعه
وأما الشتاء وكافاته ... وكفُّك عن كافه الرابعه
فنفسي منزهة بالعفا ... ف عنها، وفي غيرها طامعه
وماذا تُطيق إذا لم تكن ... بميسور سيدنا قانعه
وهي أكثر من هذا.
قال: وكان ابن حسان صاحب منبج قد ساءت أفعاله، فبعث إليه نور الدين من حاصره وانتزعها منه؛ ثم توجّه نور الدين إليها لتهذيب أحوالها، ومدحه العماد بقصيدة منها:
بشرَى الممالك فتح قلعة منبج ... فلْيَهْنِ هذا النصر كل متوج
أُعطيت هذا الفتح مفتاحاً، به ... في الملك يفتح كل باب مرتج
وافي يبشر بالفتوح وراءه ... فانهض إليها بالجيوش وعرِّج
أبشِر، فبيت القدس يتلو منبجاً ... ولَمَنبج لسواه كالأنموذج
ما أعجزتك الشهب في أبراجها ... طلباً، فكيف خوارج في أبرُج
ولقدرُ من يعصيك أحقر أن يرى ... أثر العبوس بوجهك المتبلج
لكن تهذب من عصاك سياسة ... في ضمنها تقويم كل معوَّج
فانهد 'لى البيت المقدس غازياً ... وعلى طرابلسٍ ونابلسٍ عج
قد سرت في الإسلام أحسن سيرة ... مأثورة، وسلكت أوضح منهج
وجميع ما استقريت من سنن الهدى ... جددت منه كل رسم مبهج
قال العماد: وسار نور الدين من منبج إلى قلعة نجم، وعبر الفرات إلى الرُّها، وكان ينال صاحب مَنْبِج، وهو سديد الرأي رشيد المنهج، فنقله إليها مٌقْطَعاً ووالياً. وأقام نور الدين بقلعة الرهامدة، فمدحه العماد بقصيدة، وتحجَّب له صلاح الدين في عرضها، وهي:

أدركت من أمر الزمان المشتهى ... وبلغت من نيل الأماني المنتهى
وبقيت في كنف السلامة آمناً ... متكرماً بالطبع لا متكرهّا
لازلت نور الدين في فلك الهُدى ... ذا غرة للعالمين بها الْبها
يا محييَ العدل الذي في ظله ... مِن عَدْله رَعَت الأسودُ مع المها
محمودٌ المحودُ من أيامه ... لبهائها ضحك الزمان وقهقها
مولى الورى، مُولى الندى، معلى الهدى ... مُرْدى العدا، مسدى الجدا، معطى اللها
ارؤه بصوابها مقرونة ... وبمقتضاها دائرُ فلك النهى
متلِّبس بحصافة وحصانة ... متقِّدس عن شَوْب مكر أودها
يامن أطاع الله في خلواته ... متأوباً من خوفه متأوها
أبداً تقدم في المعاش لوجهه ... عملاً يبيض في المعاد الأوجها
كل الأمور وهي، وأمرك مبرم ... مستحكم لا نقض فيه ولاوها
ما صين عنك الصّين لَِوْ حاولتها ... والمشرقان، فكيف منبجُ والرُّها
ما للملوك لدى ظهورك رونق ... وإذا بَدْت شمس الضحى خَفَى السُّها
إن الملوك لَهْوا وإنك من غدا ... وبماله والملك منه مَاَلَها
شرهت نفوسهُم إلى دنياهم ... وأبى لِنَفسِك زهدها أن تشرها
ما نمت عن خير ولم يك نائماً ... من لايزال على الجميل منبّها
أخملت ذكر الجاهلين، ولم تزل ... ملكا بذكر العالمين منوها
ورأيت إرعاء الرعايا واجباً ... تغنى فقيراً أو تجير مدلها
لرضاهمُ متحفظا، ولحالهم ... متفقداً، ولدينهم متفقها
وبما به أمرَ الإله أمرتهم ... من طاعة ونهيتهم عما نهى
عن رحمة لصغيرهم لم تشتغل ... عن رأفة لكبيرهم لن تُشدها
باليأس عندك آمل لم يُمتحن ... بالرد دونك سائل لن يُجْبها
أتعبت نفسك كي تنال رفاهة ... من ليس يتعب لايعيش مرفهّا
فقت الملوك سماحة وحماسة ... حتى عدمنا فيهُم لك مشبها
ولك الفخار على الجميع، فدونهم ... أصبحت عن كل العيوب منزها
وأراك تحلمُ حين تصبح ساخطا ... ويكاد غيرك ساخطاً أن يسفها
قلت: رحم الله العماد، فقد نظم أوصاف نور الدين الجليلة بأحسن لفظ وأرقه؛ وهذا البيت الأخير مؤكد لما نقلناه في أول الكتاب من قول الحافظ أبي القاسم رحمه الله تعالى في وصف نور الدين رحمه الله تعالى، إنه لم يستمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره، وقلَّ من الملوك من له حظ من هذه الأوصاف الفاضلة والنعوت الكاملة.
قال العماد: ثم عاد نور الدين إلى حلب في شهر رجب، وضربت خيمته في رأس الميدان الأخضر.
قال: وكان مولعاً بضرب الكرة وربما دخل الظلام فلعب بها بالشموع في الليلة المُسْفرة، ويركب صلاح الدين مبكراً كل بكرة، وهو عارف بآدابها في الخدمة، وشروطها المعتبرة.
قال: وأقطعه في تلك السنة ضيعتين إحداهما من ضياع حلب والأخرى من ضياع كفرطاب. قال: وكتبت إليه في طلب كنبوش:
أصبحت بغلتي تشكيَّ من العُرْ ... ى، وأسراجها بلا كنبوش
قلت: كُفى. فخير يومك عندي ... أن تفوزي بالتبن أو بالحشيش
وافرجي ليلة الشعير كما يف ... رح قوم بليلة الماشوش
لو تبصرت حالتي لتصبر ... ت، فإياك عندها أن تطيشي
أوَما مات في الشتاء من البر ... د، ومن فرط جوعه، إكديشي
فثقي واسكني بجود الد ... ين غرس الملوك مَلْك الجيوش

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

*

ج1. السنن الكبري للنسائي *تحقيق ونسخ المخطوطات وتصحيح.الدكتور عبد الغفار سليمان البنداري.. ج2. السنن الكبري للنسائي من الجزء الاول الدكتور ...