ح4وج5وج6.. كتاب:السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون
المؤلف:علي بن برهان الدين الحلبي كتاب:السيرة الحلبية في
سيرة الأمين المأمون
المؤلف:علي بن برهان الدين الحلبي
الأول أنه لم يكن في سعة بحيث يدخر ما يكفيه شهرا من الكعك والزيت
الثاني أن غالب أدمهم كان اللحم واللبن وهو لا يدخر شهرا
الثالث أنه على فرض أن يدخر ما يكفيه شهرا أي من الكعك والزيت إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان يطعم فربما نفد ما ادخره
وإنما اختار الزيت للأدم لأن دسومته لا ينفر منها الطبع بخلاف اللبن واللحم ومن ثم جاء ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة وقوله ائتدموا من هذه الشجرة المباركة أي من عصارة ثمرة هذه الشجرة المباركة التي هي الزيتونة وهو الزيت وقيل لها مباركة لأنها لا تكاد تنبت إلا في شريف البقاع التي بورك فيها كأرض بيت المقدس حتى فجأه الحق وهو في غار حراء أي في اليوم والشهر المتقدم ذكره
وعن عبيد بن عمير رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء في كل سنة شهرا وكان ذلك مما تتحنث فيه قريش في الجاهلية أي المتألهين منهم أي وكان أول من تحنث فيه من قريش جده صلى الله عليه وسلم عبدالمطلب فقد قال ابن الأثير أول من تحنث بحراء عبدالمطلب كان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين ثم تبعه على ذلك من كان يتأله أي يتعبد كورقة بن نوفل وأبي أمية ابن المغيرة وقد أشار إلى تعبده صلى الله عليه وسلم صاحب الهمزية بقوله ** ألف النسك والعبادة والخل ** وة طفلا وهكذا النجباء ** ** وإذا حلت الهداية قلبا ** نشطت في العبادة الأعضاء **
أي ألف صلى الله عليه وسلم العبادة والخلوة في حال كونه طفلا ومثل هذا الشأن العلي شأن الكرام وإنما كان هذا شأن الكرام لأنه إذا حلت الهداية قلبا نشطت الأعضاء في العبادة لأن القلب رئيس البدن المعول عليه في صلاحه وفساده ولعل الخلوة في كلام صاحب الهمزية المراد بها مطلق اعتزاله للناس وأراد بطفلا زمن رضاعه صلى الله عليه وسلم عند حليمة
فقد تقدم عنها رضي الله تعالى عنها أنها قالت لما ترعرع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى الصبيان وهم يلعبون فيتجنبهم لا خصوص اعتزاله الناس في غار حراء فلا ينافى قوله طفلا ظاهر ما تقدم من أن خلوته صلى الله عليه وسلم بغار حراء كانت في زمن
تزوجه صلى الله عليه وسلم بخديجة رضي الله تعالى عنها فكان صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر يطعم من جاءه من المساكين أي لأنه كان من نسك قريش في الجاهلية أي في ذلك المحل أن يطعم الرجل من جاءه من المساكين
وقد قيل إن هذا كان تعبده في غار حراء أي مع الإنقطاع عن الناس وإلا فمجرد إطعام المساكين لا يختص بذلك المحل إلا إن كان ذلك المحل صار في ذلك الشهر مقصودا للمساكين دون غيره
وقيل كان تعبده صلى الله عليه وسلم التفكر مع الإنقطاع عن الناس أي لا سيما إن كانوا على باطل لأن في الخلوة يخشع القلب وينسى المألوف من مخالطة أبناء الجنس المؤثرة في البنية البشرية ومن ثم قيل الخلوة صفوة الصفوة
وقول بعضهم كان يتعبد بالتفكر أي مع الإنقطاع عما ذكرنا وإلا فمجرد التفكر لا يختص بذلك المحل إلا أن يدعى أن التفكر فيه أتم من التفكر في غيره لعدم وجود شاغل به وقيل تعبده صلى الله عليه وسلم كان بالذكر وصححه في سفر السعادة وقيل بغير ذلك
ومن ذلك الغير أنه كان يتعبد قبل النبوة بشرع إبراهيم وقيل بشريعة موسى غير ما نسخ منها في شرعنا وقيل بكل ما صح أنه شريعة لمن قبله غير ما نسخ من ذلك في شرعنا
وفي كلام الشيخ محيى الدين بن العربي تعبد صلى الله عليه وسلم قبل نبوته بشريعة إبراهيم حتى فجأه الوحي وجاءته الرسالة فالولي الكامل يجب عليه متابعة العمل بالشريعة المطهرة حتى يفتح الله له في قلبه عين الفهم عنه فيلهم معاني القرآن ويكون من المحدثين بفتح الدال ثم يصير إلى إرشاد الخلق وكان صلى الله عليه وسلم إذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف قبل أن يدخل بيته الكعبة فيطوف بها سبعا أو ماشاء الله تعالى ثم يرجع إلى بيته حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به ما أراد من كرامته صلى الله عليه وسلم وذلك شهر رمضان وقيل شهر ربيع الأول وقيل شهر رجب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله أي عياله التي هي خديجة رضي الله تعالى عنها إما مع أولادها أو بدونهم حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله تعالى فيها برسالته ورحم العباد بها وتلك الليلة ليلة سبع عشرة من ذلك الشهر وقيل رابع عشريه وقيل كان ذلك ليلة ثمان من ربيع الأول أي وقيل ليلة ثالثة
قال بعضهم القول بأنه في ربيع الأول يوافق القول بأنه بعث على رأس الأربعين لأن مولده صلى الله عليه وسلم كان في ربيع الأول على الصحيح أي وهو قول الأكثرين وقيل كان ذلك ليلة أو يوم السابع والعشرين من رجب
فقد أورد الحافظ الدمياطي في سيرته عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال من صام يوم سبع وعشرين من رجب كتب الله تعالى له صيام ستين شهرا وهو اليوم الذي نزل فيه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأول يوم هبط فيه جبريل هذا كلامه أي أول يوم هبط فيه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يهبط عليه قبل ذلك وسيأتي في بعض الروايات أن جبريل عليه السلام نزل في سحر تلك الليلة التي هي ليلة الإثنين ويجوز أن يكون كل من تلك الليالي كانت ليلة الإثنين فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال لا يفوتك صوم يوم الإثنين لأني ولدت فيه ونبئت فيه فلا مخالفة بين كونه نبىء في الليل وبين كونه نبيء في اليوم لأن السحر قد يلحق بالليل
وفي كلام بعضهم أتاه صلى الله عليه وسلم جبريل ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له بالرسالة يوم الإثنين لسبع عشرة خلت من رمضان في حراء فجاء بأمر الله تعالى وهذا القول أي أن البعث كان في رمضان قال به جماعة منهم الإمام الصرصري حيث قال ** وأتت عليه أربعون فأشرقت ** شمس النبوة منه في رمضان **
واحتجوا بأن أول ما أكرمه الله تعالى بنبوته أنزل عليه القرآن وأجيب بأن المراد بنزول القرآن في رمضان نزوله جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة في سماء الدنيا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءني وأنا نائم بنمط وهو ضرب من البسط وفي رواية جاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب أي كتابة فقال اقرأ فقلت ما أقرأ أي أنا أمي لا أحسن القراءة أي قراءة المكتوب أو مطلقا فغطني أو فغتني بالتاء بدل من الطاء به أي غمني بذلك النمط بأن جعله على فمه وأنفه قال حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ أي من غير هذا المكتوب فقلت ماذا أقرأ وما أقول ذلك إلا افتداء منه أي تخلصا منه أن يعود لي بمثل ما صنع أي إنما استفهمت عما أقرؤه ولم أنف خوفا أن يعود لي بمثل ما صنع عند النفي أي وفي رواية فقلت والله ما قرأت
شيئا قط وما أدري شيئا أقرؤه أي لأني ما قرأت شيئا فهو من عطف السبب على المسبب قال { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } فقرأتها فانصرف عني وهببت أي استيقظت من نومي فكأنما كتب في قلبي كتابا
أقول أي أستقر ذلك في قلبي وحفظته ثم لا يخفى أن كلام هذا البعض وهو أنه جاءه ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له يوم الإثنين محتمل لأن يكون أتاه بذلك النمط في ليلة السبت وليلة الأحد وسحر يوم الإثنين وهو نائم لا يقظة لقوله ثم هببت من نومي
ولا ينافي ذلك قوله ثم ظهر له بالرسالة أي أعلن له بما يكون سببا للرسالة الذي هو اقرأ الحاصل في اليقظة وحينئذ يكون تكرر مجيئه هو السبب في إستقرار ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا يبعده قوله في الليلة الثانية ما قرأت شيئا لأن المراد لم يتقدم لي قراءة قبل مجيئك إلى ولا يبعده أيضا قوله ما أدري ما أقرأ لأنه لم يستقر ذلك في قلبه لما علمت أن سبب الإستقرار التكرر فلم يستقر ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم في الليلة الأولى
وفي سيرة الشامي أن مجىء جبريل عليه السلام له صلى الله عليه وسلم بالنمط لم يتكرر وأنه كان قبل دخوله صلى الله عليه وسلم غار حراء وهذا السياق يدل على أنه كان بعده
وفي سفر السعادة ما يقتضى أنه جاء بالنمط يقظة في حرا ونصه فبينما هو في بعض الأيام قائم على جبل حرا إذ ظهر له شخص وقال أبشر يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله لهذه الأمة ثم أخرج له قطعة نمط من حرير مرصعة بالجواهر ووضعها في يده وقال اقرأ قال والله ما أنا بقارئ ولا أدري في هذه الرسالة كتابة أي لا أعلم ولا أعرف المكتوب فيها قال فضمني إليه وغطني حتى بلغ مني الجهد فعل ذلك بي ثلاثا وهو يأمرني بالقراءة ثم قال اقرأ باسم ربك هذا كلامه فليتأمل والله أعلم قال فخرجت أي من الغار أي وذلك قبل مجىء جبريل إليه صلى الله عليه وسلم باقرأ خلافا لما يقتضيه السياق حتى إذا كنت في شط من الجبل أي في جانب منه سمعت صوتا من السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل فوقفت أنظر إليه فإذا جبريل على
صورة رجل صاف قدميه أي وفي رواية واضعا إحدى رجليه على الأخرى في أفق السماء أي نواحيها يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني وأنصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة أي في الغار فجلست إلى فخذها مضيفا إليها أي مستندا إليها فقال يا أبا القاسم أين كنت فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك فبلغوا مكة ورجعوا إلي
أقول وهذا يدل على أن خديجة رضي الله تعالى عنها كانت معه بغار حرا وهو الموافق لما تقدم من قوله ومعه أهله أي خديجة رضي الله تعالى عنها على ما تقدم
وقد يخالف ذلك ما روى أن خديجة رضي الله تعالى عنها صنعت طعاما ثم أرسلته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تجده بحراء فأرسلت في طلبه إلى بيت أعمامه وأخواله فلم تجده فشق ذلك عليها فبينما هي كذلك إذا أتاها فحدثها بما رأى وسمع فإن هذا يدل على أنها لم تكن معه صلى الله عليه وسلم بحرا
وقد يقال يجوز أن تكون خرجت معه أولا وأرسلت رسلها إليه صلى الله عليه وسلم وهي بحرا فلم تجده وأن الرسل أخطئوا محل وقوفه صلى الله عليه وسلم بالجبل الذي هو حرا ثم رجعت إلى مكة وأرسلت رسلها إليه صلى الله عليه وسلم بحراء لإحتمال عوده إليه ثم أرسلت إلى بيت أعمامه وأخواله لما لم تجده صلى الله عليه وسلم بحراء فإرسالها تكرر مرتين مع إختلاف محلها ويكون قوله وانصرفت راجعا إلى أهلي أي بمكة لا بحراء لأنه يجوز أن يكون بلغه رجوع خديجة رضي الله تعالى عنها إلى مكة
هذا على مقتضى الجمع وأما على ظاهر الرواية الأولى يكون رجوعه إلى أهله بحراء كما ذكرنا وهويدل على أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى شط الجبل كان من غار حراء كما ذكرنا لا من مكة الذي يدل عليه قول الشمس الشامي فخرج مرة أخرى إلى حراء قال فخرجت حتى أتيت الشط من الجبل سمعت صوتا إلى آخره فليتأمل والله أعلم
قال ثم حدثتها بالذي رأيت أي من سماع الصوت ورؤية جبريل وقوله له
يا محمد أنت رسول الله فقالت أبشر يا بن عمي واثبت فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة ثم قامت فجمعت عليها ثيابها أي التي تتجمل بها عند الخروج
ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع أي رأى جبريل وسمع منه أنت رسول الله وأنا جيريل فقال ورقة قدوس قدوس بالضم والفتح والذي نفسي بيده لئن كنت صدقت يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي يأتي موسى الذي هو جبريل وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له يثبت والقدوس الطاهر المنزه عن العيوب وهذا يقال للتعجب أي وجاء بدل قدوس سبوح سبوح وما لجبريل يذكر في هذه الأرض التي تعبد فيها الأوثان جبريل أمين الله بينه وبين رسله أي لأن هذا الإسم لم يكن معروفا بمكة ولا غيرها من بلاد العرب فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة بن نوفل فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف أي فرغ ما تزوده وليس المراد انقضاء جواره بانقضاء الشهر لأن ذلك كان قبل أن يجئ إليه جبريل باقرأ باسم ربك يقظة كما تقدم أي وذلك كان في الشهر الذي أكرمه الله فيه برسالته
فعند ذلك صنع كما كان يصنع بدأ بالكعبة فطاف بها فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال له يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه ولتؤذينه و لتقاتلنه ولتخرجنه بهاء السكت ولا تكون إلا ساكنة ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه ثم أدنى ورقة رأسه صلى الله عليه وسلم منه وقبل يأفوخه أي وسط رأسه لأن اليأفوخ بالهمزة وسط الراس إذا استد وقيل استداده كما في رأس الطفل يقال له الفادية بالفاء ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله أي ولا مانع من تكرار مراجعة ورقة فتارة قال قدوس قدوس وتارة قال سبوح سبوح أو جمع بين ذلك في وقت واحد وبعض الرواة اقتصر على أحد اللفظين وقد جاء أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه دخل على خديجة أي وليس عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له يا عتيق إذهب بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى ورقة أي بعد أن أخبرته بما
أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سيذكر فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده فقال انطلق بنا إلى ورقة وذهب به إلى ورقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فانطلق هاربا إلى الأرض فقال له لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني أي وهذا قبل أن يراه ويجتمع به ويجئ إليه بالقرآن وحينئذ يكون تكرر سؤال ورقة ثلاث مرات الأولى علي يد أبي بكر رضي الله تعالى عنه وذلك قبل أن يرى جبريل والثانية التي رأى فيها جبريل وسمع منه ولم يجتمع به وذلك عند إجتماعه صلى الله عليه وسلم به في المطاف والثالثة التي بعد مجئ جبريل له يقظة بالقرآن أي باقرأ باسم ربك على المشهور من أنه أول ما نزل وذلك على يد خديجة ولاينافى ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر كما سيأتي أن القصة واحدة لم تتعدد ومخرجها متحد لأن مراده قصة مجئ جبريل له يقظة باقرأ باسم ربك وسيأتي ما فيه
وإنما قال ورقة له صلى الله عليه وسلم ياابن أخي قيل لأنه يجتمع مع عبدالله والد النبي صلى الله عليه وسلم في قصي فكان عبدالله بمثابة الأخ له أو أنه قال ذلك توقيرا له وإنما ذكر ورقة موسى دون عيسى عليهما الصلاة والسلام مع أن عيسى أقرب منه وهو على دينه لأنه كان على دين موسى ثم صار على دين عيسى عليهما الصلاة والسلام أي كان يهوديا ثم صار نصرانيا أي لأن نبوة موسى عليه الصلاة والسلام مجمع عليها أي على أنها ناسخة لما قبلها وأن شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام قيل إنها متممة ومقررة لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام لا ناسخة لها قيل ولأن ورقة كان ممن تنصر أي كما علمت والنصارى لا يقولون بنزول جبريل على عيسى عليه الصلاة والسلام أي بل كان يعلم الغيب لأنهم يقولون فيه إنه أحد الأقانيم الثلاثة اللاهوتية وذلك الأقنوم هو أقنوم الكلمة التي هي العلم حل بناسوت المسيج واتحد به فلذلك كان يعلم علم الغيب ويخبر بما في الغد
أقول وفيه أن في رواية وإنك على مثل ناموس موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام أي ففي بعض الروايات جمع وفي بعضها اقتصر على موسى وفي الإقتصار على موسى دون الإقتصار على عيسى ما علمت ثم رأيت أنه جاء في غير الصحيح
الإقتصار على عيسى فقال هذا الناموس الذي نزل على عيسى فهو كما جاء الجمع بينهما جاء الإقتصار على كل منهما
ولا ينافى ذلك أي مجئ جبريل لعيسى ما تقدم عن النصارى من أنهم لا يقولون بنزول جبريل على عيسى لجواز أن يكون المراد لا ينزل عليه دائما وأبدا بالوحي بل في بعض الأحيان وفي بعضها يعلم الغيب بغير واسطة ثم رأيت في فتح الباري أن عند إخبار خديجة لورقة بالقصة قال لها هذا ناموس عيسى بحسب ما هو فيه من النصرانية وعند إخبار النبي صلى الله عليه وسلم له بالقصة قال له هذا ناموس موسى للمناسبة بينهما لأن موسى أرسل بالنقمة على فرعون وقد وقعت النقمة على يد نبينا صلى الله عليه وسلم على فرعون هذه الأمة الذي هو أبو جهل هذا كلامه فليتأمل وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال في حق أبي جهل في يوم بدر هذا فرعون هذه الأمة والله أعلم
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها جاءه الملك سحرا أي سحر يوم الإثنين يقظة لا مناما أي بغير نمط فقال له اقرأ قال ما أنا بقارئ أي لا أوجد القراءة قال فأخذني فغطني أي ضمني وعصرني وفي لفظ فأخذ بحلقي حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ أي لا أحسن القراءة أي لا أحفظ شيئا أقرؤه فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ أي أي شيء أقرؤه
وفيه أنه لو كان كذلك لقال ما أقرأ أو ماذا أقرأ إلا أن يقال أطلق ذلك وأراد لازمه الذي هو الإستفهام خصوصا وقد قدمه قال فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم }
أقول فقولنا أي بغير نمط هو ظاهر الروايات ويجوز أن يكون لفظ النمط سقط في هذه الرواية كغيرها من الروايات ويؤيده اقتصار السيرة الشامية على مجيئه بالنمط وأيضا كيف الجمع بين قوله هنا ما ذكر وبين قوله هناك فكأنما كتب في قلبي كتابا وما بالعهد من قدم إلا أن يقال يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم حوز أن يكون جبريل يريد منه قراءة غير الذي قرأه وكتب في قلبه ولا يخفى أنه علم أن قول جبريل اقرأ أمر بالقراءة
وفيه أنه من التكليف بما لا يطاق أي في الحال أي ومن ثم ادعى بعضهم أنه لمجرد التنبيه واليقظة لما يلقى إليه
وفيه أنه لو كان كذلك لم يحسن أن يقال في جوابه ما أنا بقارئ الذي معناه لا أوجد القراءة إلا أن يقال جبريل عليه الصلاة والسلام أراد التنبيه لا الأمر وجوابه صلى الله عليه وسلم بناء على مقتضى ظاهر اللفظ
وعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارئ في المواضع الثلاثة معناه مختلف ففي الأول معناه الإخبار بعدم إيجاد القراءة والثاني معناه الإخبار بأنه لا يحسن شيئا يقرؤه وإن كان ذلك هو مستند الأول والثالث معناه الإستفهام عن أي شيء أن يقرؤه وفيه ماعلمت
وبعضهم جعل قوله الأول لا أقرأ لا أحسن القراءة بدليل أنه جاء في بعض الروايات ما أحسن أن أقرأ وحينئذ يكون بمعنى الثاني فيكون تأكيدا له أي الغرض منهما شيء واحد
قال بعضهم وجه المناسة بين الخلق من العلق والتعليم وتعليم العلم أن أدنى مراتب الإنسان كونه علقة وأعلاها كونه عالما فالله سبحانه وتعالى امتن على الإنسان بنقله من أدنى المراتب وهي العلقة إلى أعلاها وهي تعلم العلم
وقد اشتملت هذه الآيات على براعة الإستهلال وهو أن يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتكلم فيه ويشير إلى ما سبق الكلام لأجله فإنها اشتملت على الأمر بالقراءة والبداءة فيها ببسم الله إلى غير ذلك مما ذكره في الإتقان قال فيه من ثم قيل إنها جديرة أن تسمى عنوان القرآن لأن عنوان الكتاب ما يجمع مقاصده بعبارة موجزة في أوله وكرر جبريل الغط ثلاثا للمبالغة وأخذ منه بعض التابعين وهو القاضي شريح أن المعلم لا يضرب الصبي على تعليم القرآن أكثر من ثلاث ضربات
وأورد الحافظ السيوطي عن الكامل لإبن عدي بسند ضعيف عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يضرب المؤدب الصبي فوق ثلاث ضربات
وذكر السهيلي أن في ذلك أي الغط ثلاثا إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم يحصل له شدائد ثلاث ثم يحصل له الفرج بعد ذلك فكانت الأولى إدخال قريش له صلى الله عليه
وسلم الشعب والتضييق عليه والثانية اتفاقهم على الإجتماع على قتله صلى الله عليه وسلم والثالثة خروجه من أحب البلاد إليه وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل وميكائيل أي قبل قول جبريل له اقرأ فشق جبريل بطنه وقلبه إلى آخر ما تقدم في الكلام على أمر الرضاع ثم قال له جبريل اقرأ الحديث فعلم أن اقرأ باسم ربك نزلت من غير بسملة وقد صرح بذلك الإمام البخاري وما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بأن أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال يا محمد استعذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال قل بسم الله الرحمن الرحيم ثم قال اقرأ باسم ربك قال الحافظ ابن كثير هذا الأثر غريب في إسناده ضعف وإنقطاع أي فلا يدل للقول بأن أول ما نزل بسم الله الرحمن الرحيم حكاه ابن النقيب في مقدمة تفسيره وبه يرد على الجلال السيوطي حيث قال وعندي فيه أن هذا لا يعد قولا برأسه فإن من ضرورة نزول السورة أي سورة اقرأ نزول البسملة معها فهي أول آية نزلت على الإطلاق هذا كلامه والله أعلم
قال الحافظ ابن حجر هذا الذي وقع له صلى الله عليه وسلم في ابتداء الوحي من خصائصه إذ لم ينقل عن أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه جرى له عند ابتداء الوحي مثل ذلك ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الآية رجع بها ترجف بوادره والبادرة اللحمة التي بين المنكب والعنق تتحرك عند الفزع ويقال لها الفريصة والفرائض اي وفي رواية فؤاده أي قلبه ولا مانع من إجتماع الأمرين لأن تحرك البادرة ينشأ عن فزع القلب حتى دخل صلى الله عليه وسلم على خديجة فقال زملوني زملوني أي غطوني بالثياب فزملوه حتى ذهب عنه الروع بفتح الراء أي الفزع ثم أخبرها الخبر وقال لقد خشيت على نفسي وفي رواية على عقلي كما في الإمتاع قالت له خديجة كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا أي لا يفضحك إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل أي الشيء الذي يحصل منه التعب والإعياء لغيرك وتكسب المعدوم بضم التاء والمعدوم الذي لا مال له لأن من لا مال له كالمعدوم أي توصل إليه الخير الذي لا يجده عند غيرك
وبهذا يعلم سقوط قول الخطابي الصواب المعدم بلا واو لأن المعدوم أي الشخص المعدوم لا يكسب أي لا يعطى الكسب وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق أي
على حوادثه فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل فقالت له خديجة رضي الله تعالى عنها أي عم اسمع من ابن أخيك أي وقولها أي عم صوابه ابن عم لأنه ابن عمها لا عمها كما وقع في مسلم
قال ابن حجر وهو وهم لأنه وإن كان صحيحا لجواز إرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد أي فلا يقال يجوز أنها جاءت إليه بعد نزول الآية مرتين قالت في مرة أي عم وفي مرة أي ابن عم قال ورقة يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي أنزل علي موسى أي صاحب سر الوحي وهو جبريل يا ليتني فيها جذعا أي يا ليتني حينئذ أكون في زمن الدعوى إلى الله أي إظهاره الذي جاء به وأنذر أو أصل وجودها بناء على تأخر الدعوى التي هي الرسالة عن النبوة على ما يأتي شابا حتى أبالغ في نصرتها يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجي هم بتشديد الياء المفتوحة لأنه جمع مخرج والأصل أو مخرجوني حذفت النون للإضافة فصار مخرجوى قلبت الواو ياء وأدغمت قال ورقة نعم لم يأت رجل بما جئت به إلا عودى أي فتكون المعاداة سببا لإخراجه
وهذا يفيد بظاهره أن من تقدم من الأنبياء أخرجوا من أماكنهم لمعاداة قومهم لهم وإلا فمجرد المعاداة لا يقتضى الإخراج فلا يحسن أن يكون علامة عليه وقد يؤيد ذلك ما تقدم عند الكلام على بناء الكعبة أن كل نبي إذا كذبه قومه خرج من بين أظهرهم إلى مكة يعبد الله عز وجل بها حتى يموت وتقدم ما فيه
وفي كونه صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئا في جواب قول ورقة إنه يكذب ويؤذي ويقاتل وقال في جواب قوله إنه يخرج أو مخرجي هم إستفهاما إنكاريا دليل على شدة حب الوطن وعسر مفارقته خصوصا وذلك الوطن حرم الله وجوار بيته ومسقط رأسه قال ورقة وإن أدركت يومك أنصرك نصرا مؤزرا أي شديدا قويا من الأزر وهو الشدة الذي في الحديث الصحيح وإن يدركني يومك وسيأتي في بعض الروايات وإن يدركني ذلك قال السهيلي وهو القياس لأن ورقة سابق بالوجود والسابق هو الذي يدركه ما يأتي بعده كما جاء أشقى الناس من أدركته الساعة وهو حي هذا كلامه
أي وفي بعض الروايات أنه قال لها إن ابن عمك لصادق وإن هذا البدء نبوة وفي لفظ إنه لنبي هذه الأمة أي وفي الشفاء أن قوله صلى الله عليه وسلم لخديجة لقد خشيت على نفسي ليس معناه الشك فيما آتاه الله تعالى من النبوة ولكنه لعله خشى أن لا تحتمل قوته صلى الله عليه وسلم مقاومة الملك وأعباء الوحي بناء على أنه قال ذلك بعد لقاء الملك وإرساله إليه بالنبوة فإن للنبوة أثقالا لا يستطيع حملها إلا أولو العزم من الرسل
وفي كلام الحافظ ابن حجر اختلف العلماء في هذه الخشية على أثني عشر قولا وأولاها بالصواب وأسلمها من الإرتياب أن المراد بها الموت أو المرض أو دوام المرض هذا كلامه فليتأمل مع رواية خشيت على عقلي
قال وفي بعض الروايات أن خديجة قبل أن تذهب به إلى ورقة ذهبت به إلى عداس وكان نصرانيا من أهل نينوى قرية سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام فقالت له يا عداس أذكرك الله إلا ما أخبرتني هل عندكم علم من جبريل أي فإن هذا الإسم لم يكن معروفا بمكة ولا بغيرها من أرض العرب كما تقدم فقال عداس قدوس قدوس ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل أوثان أي والقدوس المنزه عن العيوب وأن هذا يقال للتعجب كما تقدم فقالت أخبرني بعلمك فيه قال هو أمين الله بينه وبين النبيين وهو صاحب موسى عليهما الصلاة والسلام اه
وفيه أنه سيأتي عند الكلام على ذهابه صلى الله عليه وسلم للطائف بعد موت أبي طالب يلتمس إسلام ثقيف اجتماعه بعداس الموصوف بما ذكر لكن في تلك القصة ما قد يبعد معه كل البعد أنه المذكور هنا فليتأمل ثم رأيت أن عداسا المذكور هنا كان راهبا وكان شيخا كبير السن وقد وقع حاجباه على عينيه من الكبر وأن خديجة قالت له أنعم صباحا يا عداس فقال كأن هذا الكلام كلام خديجة سيدة نساء قريش قالت أجل قال أدنى منى فقد ثقل سمعي فدنت منه ثم قالت له ما تقدم وهذا صريح في أنه غير عداس الآتي ذكره وأنهما اشتركا في الإسم والبلد والدين أي وكونهما غلامين لعتبة بن ربيعة
ففي كلام ابن دحية عداس كان غلاما لعتبة بن ربيعة من أهل نينوى عنده علم من الكتاب فأرسلت إليه خديحة تسأله عن جبريل فقال قدوس قدوس الحديث ولا يخفى أن هذا اشتباه وقع من بعض الرواة بلا شك
وفي رواية أن عداسا هذا قال لها يا خديجة إن الشيطان ربما عرض للعبد فأراه أمورا فخذي كتابي هذا فانطلقي به إلى صاحبك فإن كان مجنونا فإنه سيذهب عنه وإن كان من الله فلن يضره فانطلقت بالكتاب معها فلما دخلت منزلها إذا هي برسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل يقرئه هذه الآيات { ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون } فلما سمعت خديجة قراءته اهتزت فرحا ثم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم فداك أبي وأمي امض معي إلى عداس فلما رآه عداس كشف عن ظهره فإذا خاتم النبوة يلوح بين كتفيه فلما نظر عداس إليه خر ساجدا يقول قدوس قدوس أنت والله النبي الذي بشر بك موسى وعيسى الحديث
وفيه إن كان هذا قبل أن تذهب به إلى ورقة اقتضى أن نزول سورة ن قبل اقرأ و لا يحسن ذلك مع قوله لجبريل ما أنابقارئ إذ هو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ قبل ذلك شيئا ومن ثم كان المشهور أن أول ما نزل اقرأ وكون ن نزلت لهذا السبب مخالف لما ذكر في أسباب النزول أنها نزلت لما وصفه المشركون بأنه مجنون إلا أن يقال لا مانع من تعدد النزول
وذكر ابن دحية أيضا أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبرها بجبريل ولم تكن سمعت به قط كتبت إلى بحيرا الراهب فسألته عن جبريل فقال لها قدوس قدوس يا سيد نساء قريش أنى لك بهذا الإسم فقالت بعلى وابن عمي أخبرني بأنه يأتيه فقال إنه السفير بين الله وبين أنبيائه وإن الشيطان لا يجترئ أن يتمثل به ولا أن يتسمى باسمه وهذه العبارة أي كون جبريل هو السفير بين الله وبين أنبيائه صدرت من الحافظ السيوطي وزاد ولا يعرف ذلك لغيره من الملائكة
واعترض عليه بعضهم بأن إسرافيل كان سفيرا بين الله وبينه صلى الله عليه وسلم فعن الشعبي أنه جاءته صلى الله عليه وسلم النبوة وهو ابن أربعين سنة وقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين فلما مضت ثلاث سنين رن بنبوته جبريل وفي لفظ عنه فلما مضت ثلاث سنين تولى عنه إسرافيل وقرن به جبريل أي وقد تقدم أن إسرافيل قرن به صلى الله عليه وسلم قبل النبوة ثلاث سنين يسمع حسه ولا يرى شخصه يعلمه الشيء بعد الفيء إلى آخره وحينئذ يلزم أن يكون قرن به بعد النبوة ثلاث سنين أيضا
وسيأتي عن بحث بعض الحفاظ أنها مدة فترة الوحي فليتأمل وأجاب الحافظ السيوطي عن ذلك بأن السفير هو المرصد لذلك وذلك لا يعرف لغير جبريل ولا ينافى ذلك مجئ غيره من الملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان
ولك أن تقول إن كان المراد بالمجيء إليه بوحى من الله كما هو المتبادر فليس في هذه الرواية أن إسرافيل كان يأتيه بوحي في تلك المدة وجواب الحافظ السيوطي بقتضى أن إسرافيل وغيره من الملائكة كان يأتيه بوحي من الله قبل مجيء جبريل له صلى الله عليه وسلم بوحي غير النبوة ولا يخرجه ذلك عن الإختصاص باسم السفير وبأن إسرافيل لم ينزل لغير النبي صلى الله عليه وسلم من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كما ثبت في الحديث فلم يكن السفير بين الله وجميع أنبيائه
قيل وإنما خص بذلك لأنه أول من سجد من الملائكة لآدم ورأيته سئل هل عيسى بعد نزوله يوحى إليه فأجاب بنعم وأورد حديث النواس بن سمعان الذي أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم وفيه التصريح بأنه يوحى إليه قال والظاهر أن الجائي إليه بالوحي جبريل قال بل هو الذي يقطع به ولا يتردد فيه لأن ذلك وظيفته وهو السفير بين الله تعالى وبين أنبيائه لا يعرف ذلك لغيره من الملائكة ثم استدل على ذلك بما يطول
قال وما اشتهر على ألسنة الناس أن جبريل لا ينزل إلى الأرض بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فهو شيء لا أصل له وزعم زاعم أن عيسى إنما يوحى إليه وحى إلهام ساقط قال وحديث لا وحى بعدي باطل أي ويدل له ما رأيته في كلام بعضهم جبريل ملك عظيم ورسول كريم مقرب عند الله أمين على وحيه وهو سفيره إلى أنبيائه كلهم وسماه روح القدس والروح الأمين واختصه بوحيه من بين الملائكة المقربين
قال ورأيت في بعض التواريخ أن جبريل نزل عليه صلى الله عليه وسلم ستا وعشرين ألف مرة ولم يبلغ أحد من الأنبياء هذا العدد والله أعلم
وفي أسباب النزول للواحدي عن علي رضي الله تعالى عنه لما سمع النداء يا محمد قال لبيك قال قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ثم قال قل { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين } حتى فرغ من السورة أي فلما
بلغ { ولا الضالين } فقال قل آمين فقال آمين كما في رواية عن وكيع وابن أبي شيبة وجاء في حديث قال بعضهم إسناده ليس بالقائم إذا دعا أحدكم فليختم بآمين فإن آمين في الدعاء مثل الطابع على الصحيفة وفي الجامع الصغير آمين خاتم رب العالمين على لسان عباده المؤمنين أي خاتم دعاء رب العالمين أي يمنع من أن يتطرق إليه رد وعدم قبول ومن ثم لما سمع صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو قال قد وجب إن ختم بآيمن
فأتى صلى الله عليه وسلم ورقة فذكر له ذلك فقال له ورقة أبشر ثم أبشر فإني أشهد أنك الذي بشر بك ابن مريم فإنك على مثل ناموس موسى وإنك نبي مرسل وإنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك
أقول هذا لا يدل للقول بأن الفاتحة أول ما نزل وعليه كما قال في الكشاف أكثر المفسرين إذ يبعد كل البعد أن تكون هذه الرواية قبل نزول { اقرأ باسم ربك } ثم رأيت عن البيهقي أنه قال فيما تقدم عن أسباب النزول هذا مرسل ورجاله ثقات فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه اقرأ والمدثر أي والمدثر نزلت بعد يا أيها المزمل
ثم رأيت ابن حجر اعترض ما تقدم عن الكشاف بقوله الذي ذهب إليه أكثر الأمة هو الأول أي القول بأنه اقرأ وأماالذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول هذا كلامه
ثم رأيت الإمام النووي قال القول بأن الفاتحة أول ما نزل بطلانه أظهر من أن يذكر أي ومما يدل على ذلك ما جاء من طرق عن مجاهد أن الفاتحة نزلت بالمدينة ففي تفسير وكيع عن مجاهد فاتحة الكتاب مدنية وفيه أنه جاء عن قتادة أنها نزلت بمكة
وعن علي كرم الله وجهه كما في أسباب النزول للواحدي أنها نزلت بمكة من كنز تحت العرش وفيها عنه لما قام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقال { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين } قالت قريش رض الله فاك وفي الكشاف أن الفاتحة نزلت بمكة وقيل نزلت بالمدينة فهي مكية مدنية هذا كلامه وتبعه على ترجيح أنها مكية القاضي البيضاوي حيث قال وقد صح أنها مكية وفي الإتقان وذكر قوم منه أي مما تكرر نزوله الفاتحة فليتأمل فإنه لا يقال ذلك إلا بناء على أنها نزلت بهما أي نزلت
بمكة ثم بالمدينة مبالغة في شرفها وقد أشار القاضي البيضاوي إلى أن تكرير نزولها ليس بمجزوم به وقيل نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة
قال في الإتقان والظاهر أن النصف الذي نزل بالمدينة النصف الثاني قال ولا دليل لهذا القول هذا كلامه
واستدل بعضهم على أنها مكية بأنه لا خلاف أن سورة الحجر مكية وفيها { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } وهي الفاتحة فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قرئ عليه الفاتحة والذي نفسي بيده ما أنزل الله تعالى في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها إنها لهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته
وقد حكى بعضهم الإتفاق على أن المراد بالسبع المثاني في آية الحجر هي الفاتحة ويرد دعوى الإتفاق قول الجلال السيوطي وقد صح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير السبع المثاني في آية الحجر بالسع الطوال
ومما يدل على أن المراد بها الفاتحة ما ذكر في سبب نزولها وهو أن عيرا لأبي جهل قدمت من الشام بمال عظيم وهي سبع قوافل ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ينظرون إليها وأكثر الصاحبة بهم عرى وجوع فخطر ببال النبي صلى الله عليه وسلم شيء لحاجة أصحابه فنزل { ولقد آتيناك } أي أعطيناك { سبعا من المثاني } مكان سبع قوافل ولا تنظر إلى ما أعطيناه لأبي جهل وهو متاع الدنيا الدنية { ولا تحزن عليهم } أي على أصحابك { واخفض جناحك } له فإن تواضعك لهم أطيب لقلوبهم من ظفرهم بما تحب من أسباب الدنيا
وفي زوائد الجامع الصغير لو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان وجعل القرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات وفي لفظ فاتحة الكتاب شفاء من كل داء وفي لفظ فاتحة الكتاب تعدل ثلثي القرآن فليتأمل ولها إثنان وعشرون إسما
وذكر بعضهم أن لها ثلاثين إسما وذكرها الأستاذ الشيخ أبو الحسن البكري في تفسيره الوسيط قال السهيلي ويكره أن يقال لها أم الكتاب أي لما ورد لا يقولن أحدكم أم الكتاب وليقل فاتحة الكتاب قال الحافظ السيوطي رحمه الله ولا أصل له
في شيء من كتب الحديث وإنما أخرجه ابن الضريس بهذا اللفظ عن ابن سيرين وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة تسميتها بذلك هذا كلامه ولا يخفى أنه جاء في تسمية الفاتحة ذكر المضاف تارة وهو سورة كذا وإسقاطه أخرى وتارة جوزوا الأمرين معا وهو يشكل على أن تسمية السور توقيفي
ثم رأيت في الإتقان قال قال الزركشي في البرهان ينبغي البحث عن تعداد الأسامي هل هو توقيفي أو بما يظهر من المناسبات فإن كان الثاني فيمكن الفطن أن يستخرج من كل سورة معاني كثيرة تقتضى اشتقاق أسمائها وهو بعيد عن هذا كلامه ويلزم القول بأنها إنما نزلت في المدينة أن مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة كان يصلي بغير الفاتحة قال في أسباب النزول وهذا مما لا تقبله العقول أي لأنه لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة أي ويدل لذلك ما رواه الشيخان لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب وفي رواية لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها الرجل بفاتحة الكتاب والمراد في كل ركعة لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته إذا استقبلت القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت إلى أن قال ثم اصنع ذلك أي القراءة بأم القرآن في كل ركعة وجاء على شرط الشيخين أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها منها عوضا ويدل لذلك أيضا وصف القول بأنها إنما نزلت بالمدينة بأنه هفوة من قائله لأنه تفرد بهذا القول والعلماء على خلافه أي لأن نزولها كان بعد فترة الوحي بعد نزول { يا أيها المدثر } ويلزم على كونها نزلت بعد المدثر أنه صلى الله عليه وسلم صلى بغير الفاتحة في مدة فترة الوحي أي لأن المدثر نزلت بعد فترة الوحي على ما سيأتي
وقد يقال لا ينافيه ما تقدم من أنه لم يحفظ أنه لم يكن في الإسلام صلاة بغير الفاتحة لجواز أن يراد صلاة من الصلوات الخمس وما تقدم مما يدل على تعين الفاتحة في الصلاة يجوز أن يكون صدر منه صلى الله عليه وسلم بعد فرض الصلوات الخمس
وفي الإمتاع إنزال الملك يبشره بالفاتحة وبالآيتين من سورة البقرة يدل على أنه نزلت بالمدينة
فقد أخرج مسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نغيضا أو صوتا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم
فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما من قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة هذا كلامه فليتأمل وجه الدلالة من هذا على أنه سيأتي عن الكامل للهذلي ما يصرح بأن خواتيم البقرة نزلت عليه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بقاب قوسين
ومما يدل على أن البسملة آية منها نزولها معها أي كما في بعض الروايات وإلا فالرواية المتقدمة تدل على أنها لم تنزل معها
ويدل لكون البسملة آية من الفاتحة أيضا ما أخرجه الدارقطني وصححه والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأتم الحمد لله فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم أحدى آياتها
وقد أخرج الدارقطني عن علي رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن السبع المثاني فقال الحمدلله رب العالمين فقيل له إنما هي ست آيات فقال بسم الله الرحمن الرحيم آية وقيل لها السبع المثاني لأنها سبع آيات وتثنى في الصلاة وقيل المثاني كل القرآن لأنه يثنى فيه صفات المؤمنين والكفار والمنافقين وقصص الأنبياء والوعد والوعيد
قال بعضهم والوجه أن يقال المراد بالسبع المثاني السبع الطوال أي كما أنها المراد بقوله تعالى { ولقد آتيناك سبعا من المثاني } على ما تقدم وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والسابعة يونس وقيل براءة وقيل الكهف
وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم عد البسملة آية من الفاتحة وبهذا يعلم ما في تفسير البيضاوي عن أم سلمة من أنه صلى الله عليه وسلم عد بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين آية فقد ذكر بعض الحفاظ أن هذا اللفظ لم يرد عن أم سلمة والذي رواه جماعة من الحفاظ عن أم سلمة بألفاظ تدل على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية وحدها
منها أنها ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى في بيتها فيقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين } وفي رواية عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصلوات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والإستدلال على أن البسملة آية من الفاتحة بكونها نزلت معها يقتضى أن البسملة ليست آية من { اقرأ باسم ربك }
ومن ثم قال الحافظ الدمياطي نزول اقرأ بسملة يدل على أن البسملة ليست آية من كل سورة واستدل به أي بعدم نزولها في أول سورة اقرأ أيضا كما قال الإمام النووي من يقول إن البسملة ليست بقرآن في أوائل السور أي وإنما أنزلت وكتبت للفصل والتبرك بالإبتداء بها وهذا القول ينسب لقول إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه في القديم هو قول قدماء الحنفية
قال وجواب المثبتين أي لقرآنيتها في ذلك أنها نزلت في وقت آخر كما نزل باقي السورة أي سورة اقرأ
وجوابهم أيضا بأن الإجماع من الصحابة والسلف على إثباتها في مصاحفهم مع مبالغتهم في تجريدها عن كتابة غير القرآن فيها حتى إنهم لم يكتبوا آمين فيها واستدل أيضا لعدم قرآنيتها في أوائل السور بعدم تواترها في محلها
ورد بأن عدم تواترها في محلها لا يقتضى سلب القرآنية عنها ورد هذا الرد بأن الإمام الكافيجي قال المختار عند المحققين من علماء السنة وجوب التواتر أي في القرآن في محله ووضعه وترتيبه أيضا كما يجب تواتره في أصله أي وفي الفتوحات البسملة من القرآن بلا شك عند العلماء بالله وتكرارها في السورة كتكرار ما تكرر في القرآن من سائر الكلمات وهو بظاهره يؤيد ما ذهب إليه إمامنا من أنها آية من أول كل سورة ومحتمل لما قاله السهيلي حيث قال نقول إنها آية من كتاب الله مقترنة مع السورة
وفي كلام أبي بكر بن العربي وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة وما سبقه إلى هذا القول أحد فإنه لم يعدها أحد آية من سائر السور
ونقل عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أنها آية من أول الفاتحة دون بقية السور فعن الربيع قال سمعت الشافعي يقول أول الحمد بسم الله الرحمن الرحيم وأول البقرة ألم قال بعضهم وهو يدل على أن البسملة آية من أول الفاتحة دون بقية السور فإنها ليست آية من أولها بل هي آية في أولها إعادة لها وتكريرا لها وربما يوافق ذلك قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم بالبسملة والفاتحة هذا كلامه وكونه خص بالبسملة يخالف قوله في الإتقان عن الدارقطني إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري بسم الله الرحمن الرحيم كما سيأتي وسيأتي ما فيه
قيل وإنما تركت البسملة أول براءة لعدم المناسبة بين الرحمة التي تدل عليها البسملة والتبري الذي يدل عليه أول براءة ورده في الفتوحات بأنها جاءت في أوائل السور المبدوءة بويل قال وأين الرحمة من الويل
وذكر بعضهم أن الأنفال وبراءة سورة واحدة أي فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال سألت عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه لم لم يكتبوا بين براءة والأنفال سطر بسم الله الرحم الرحيم فقال كانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل بالمدينة وكانت قصتها شبيهة بالأخرى فظننت أنهما سورة واحدة
وفي كلام بعض المفسرين عن طاوس وعمر بن عبدالعزيز أنهما كانا يقولان إن الضحى وألم نشرح سورة واحدة فكانا يقرآنهما في ركعة واحدة ولا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم وذلك لأنهما رأيا أن أولها مشبه لقوله { ألم يجدك يتيما } وليس كذلك لأن تلك حال إغتامه صلى الله عليه وسلم بإيذاء الكفار فهي حال محنة وضيق وهذه حال إنشراح الصدر وتطييب القلب فكيف يجتمعان هذا كلامه
وذكر أئمتنا أنه يكفي في وجوب الإتيان بالبسملة في الفاتحة في الصلاة الظن المفيد له خبر الآحاد ولعدم التواتر بذلك لا يكفر من نفى كونها آية من الفاتحة بإجماع المسلمين وقد جهر بها صلى الله عليه وسلم كما رواه جمع من الصحابة قال ابن عبد البر بلغت عدتهم أحدا وعشرين صحابيا
وأما ما رواه مسلم عن أنس قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم أجيب عنه بأنه لم ينف إلا السماع ويجوز أنهم تركوا الجهر بها في بعض الأوقات بيانا للجواز ويؤيده قول بعضهم كانوا يخفون البسملة
وأما ما رواه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين فمعناه بسورة الحمد لا بغيرها من القرآن لا يبعد هذا الحمل ما في رواية عبدالله بن مغفل أنه قال سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال أي بني إياك والحدث فإني صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يقوله فإذا قرأت فقل الحمد لله رب العالمين فإنه لما لم يسمع فهم أنهم لم يأتوا بها رأسا فقال ذلك وكذا يقال فيما روى
كانوا لا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم فعلى تقدير ثبوت تلك الرواية وصحتها يجوز أن يكون الراوي فهم مما تقدم ترك البسملة فروي بالمعنى فأخطأ
ومما استدل به على أن البسملة ليست آية من الفاتحة ما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى قسمت الصلاة أي الفاتحة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال مجدني عبدي وإذا قال مالك يوم الدين قال فوض إلي عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فيقول عبدي اهدنا الصراط المستقيم إلى آخرها
قال أبو بكر بن العربي المالكي فانتفى بذلك أن تكون بسم الله الرحمن الرحيم آية منها من وجهين أحدهما أنه لم يذكرها في القسمة والثاني أنها إن صارت في القسمة لما كانت نصفين بل يكون ما لله فيها أكثر مما للعبد لأن بسم الله ثناء على الله تعالى لا شيء للعبد فيه ثم ذكر أن التعبير بالصلاة عن الفاتحة يدل على أن الفاتحة من فروضها وأطال في ذلك وسيأتي في الحديبية أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب بإسم اللهم موافقة للجاهلية قيل كتب ذلك في أربعة كتب وأول من كتبها أمية بن أبي الصلت فلما نزل { بسم الله مجراها ومرساها } كتب بسم الله ثم لما نزل { ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } كتب بسم الله الرحمن ثم نزلت إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم كتب بسم الله الرحمن الرحيم كذا نقل عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم حتى نزلت سورة النمل وهذا يفيد أن البسملة لم تنزل قبل ذلك في شيء من أوائل السور ويؤيده قول السهيلي ثم كان بعد ذلك أي بعد نزل { وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة أي تمييزا لها عن غيرها وقد ثبت في سواد المصحف الإجماع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم على ذلك هذا كلامه فليتأمل ما فيه فإنه قد يدل للقول بأن البسملة ليست من أوائل السور وإنما هي للفصل فقد علمت أن البسملة نزلت أول الفاتحة على ما في بعض الروايات
ونقل أبو بكر التونسي إجماع علماء كل أمة على أن الله سبحانه وتعالى افتتح جميع كتبه ببسم الله الرحمن الرحيم
وفي الإتقان عن الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض الصحابة لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري بسم الله الرحمن الرحيم وبهذا يعلم ما في الخصائص الصغرى أن البسملة من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقوله صلى الله عليه وسلم على نبي بعد سليمان غيري يشكل عليه أن عيسى بين سليمان وبينه صلى الله عليه وسلم وكتابه الإنجيل وهو من جملة كتب الله المنزلة
وعن النقاش أن البسملة لما نزلت سبحت الجبال فقالت قريش سحر محمد الجبال قال السهيلي إن صح ما ذكره فإنما سبحت الجبال خاصة لأن البسملة إنما نزلت على آل داود وقد كان الجبال تسبح مع داود والله أعلم
ثم لم يلبث ورقة أن توفى قال سبط ابن الجوزي وهو آخر من مات في الفترة ودفن بالحجون فلم يكن مسلما ويؤيده ما جاء في الرواية في سندها ضعف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ما ت على نصرانيته وهذا يدل على أن من أدرك النبوة وصدق بنبوته صلى الله عليه وسلم ولم يدرك الرسالة بناء على تأخرها لا يكون مسلما بل من أهل الفترة فلما توفى ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد رأيت القس يعني ورقة في الجنة وعليه ثياب حرير أي والقس بكسر القاف رئيس النصارى وبفتحها تتبع الشي
هذا وفي القاموس القس مثلث القاف تتبع الشيء وطلبه كالتقسس وبالفتح صاحب الإبل الذي لا يفارقها ورئيس النصارى في العلم وفي رواية أبصرته في بطنان الجنة وعليه السندس وفي رواية قد رأيته فرأيت عليه ثيابا بيضا وأحسبه أي أظنه لو كان من أهل النار لم تكن عليه ثياب بيض
أقول صريح الرواية الثالثة أنه لم يره في الجنة فقد تعددت الرؤية وأما الرواية الثانية فلا تخالف الرواية الأولى لأن السندس من أفراد الحرير فلا دلالة في ذلك على التعدد والله أعلم وفي رواية لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين لأنه آمن بي وصدقني أي قبل الدعوة التي هي الرسالة وحينئذ يكون معنى قوله له جنة أو جنتين هيئت له جنة أو جنتين ولا مانع أن يكون بعض أهل الفترة من أهل الجنة إذ لو كان مسلما حقيقة بأن أدرك الدعوة وصدق به لم يقل فيه صلى الله عليه وسلم وأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض وجزم ابن كثير بإسلامه
قال بعضهم وهو الراجح عند جهابذة الأئمة أي بناء على أنه أدرك الدعوة إلى الله تعالى التي هي الرسالة
ففي الإمتاع أن ورقة مات في السنة الرابعة من المبعث ويوافقه ما يأتي عن سيرة ابن إسحاق وعن كتاب الخميس وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم لأنه آمن بي وصدقني واضحا لكن ينازع في ذلك قوله وأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض وسيأتي عن الذهبي ما يخالفه
ويخالفه أيضا ما تقدم عن سبط ابن الجوزي أنه من أهل الفترة وعن يحيى بن بكير قال سألت جابر بن عبدالله يعني عن ابتداء الوحي فقال لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جاودة بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا فنظرت عن يساري فلم أر شيئا فنظرت من خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فرأيت شيئا بين السماء والأرض أي وفي رواية فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي زاد في رواية متربعا عليه وفي لفظ على عرش بين السماء والأرض فرعبت منه فأتيت خديجة فقلت دثروني دثروني أي وفي رواية زملوني زملوني وصبوا على ماء باردا فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت هذه الآية { يا أيها المدثر } أي الملتف بثيابه { قم فأنذر وربك فكبر } ولم يقل بعد فأنذر وبشر لأنه كما بعث بالنذارة بعث بالبشارة لأن البشارة إنما تكون لمن آمن ولم يكن أحد آمن قبل وهذا يدل على أن هذه الآية أول ما نزل أي قبل اقرأ وأن النبوة والرسالة مقترنان
قال الإمام النووي والقول بأن أول ما نزل { يا أيها المدثر } ضعيف باطل وإنما نزلت بعد فترة الوحي أي ومما يدل على ذلك قوله فإذا الملك الذي جاءني بحراء ومما يدل على ذلك أيضا ما في البخاري أن في رواية جابر أنه صلى الله عليه وسلم حدث عن فترة الوحي أي لا عن ابتداء الوحي فما تقدم من قول بعضهم يعني عن إبتداء الوحي فيه نظر وكذا في قول الراوي عن جابر جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت لأن جواره بحراء كان قبل فترة الوحي إلا أن يقال جابر جاء عنه روايتان واحدة في ابتداء الوحي وأخرى في فترة الوحي وبعض الرواة خلط فإن صدر الرواية يدل على أن ذلك كان عند ابتداء الوحي وعجزها يدل على أن ذلك كان في فترة الوحي
هذا ويجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم جاور بحراء في مدة فترة الوحي ويؤيد ذلك ما في البيهقي عن مرسل عبيد بن عمير أنه صلى الله عليه وسلم كان يجاور في كل سنة شهرا وهو رمضان وكان ذلك في مدة فترة الوحي وسيأتي الجمع بين الروايات في أول ما نزل وعن إسماعيل بن أبي حكيم مولى الزبير أنه حدث عن خديجة رضي الله تعالى عنها أنه قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك قال نعم أي وذلك قبل أن يأتيه بالقرآن أي بشيء منه وهو { اقرأ باسم ربك } بناء على أنه أول ما نزل ولا ينافي ذلك قولها هذا الذي يأتيك إذا جاءك لأن المعنى الذي يتراءى لك إذا رأيته فجاءه جبريل عليه الصلاة والسلام فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خديجة هذا جبريل قد جاءني أي قد رأيته لكن سيأتي عن ابن حجر الهيتمي أن ذلك كان بعد البعثة قالت قم ياابن عمي فاجلس على فخذي فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذها قالت هل تراه قال نعم قالت فتحول فاجلس في حجري فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في حجرها قالت هل تراه قال نعم فألقت خمارها و رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها ثم قالت هل تراه قال لا قالت يا ابن عمي اثبت وأبشر فوالله إنه لملك ما هذا بشيطان وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله ** وأتاه في بيتها جبرئيل ** ولذى اللب في الأمور ارتياء ** ** فأماطت عنها الخمار لتدرى ** أهو الوحي أم هو الإغماء ** ** فاختفى عند كشفها الرأس حبري ** ل فما عاد أو أعيد الغطاء ** ** فاستبانت خديجة أنه الكن ** ز الذي حاولته والكيمياء **
أي وأتاه قال ابن حجر أي بعد البعثة أي النبوة واجتماعه به في بيتها حامل الوحي جبريل ولصاحب العقل الكامل في الأحوال التي قد تشتبه استبصار فبسبب كمال استبصارها أزالت عن رأسها ما يغطى به الرأس لتعلم عين اليقين أن هذا الذي يعرض له صلى الله عليه وسلم هل هو حامل الوحي الذي كان يأتي به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله أو هو الإغماء الذي هو بعض الأمراض الجائزة عليهم عليهم الصلاة والسلام
وفيه أنه ينبغي أن يكون المراد به الإغماء الناشئ عن لمة الجن فيكون من الكهان لا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذي قال بسببه لخديجة لقد خشيت على نفسي وسيأتي
أنه كان يعتريه وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن ما كان يعتريه عند نزول الوحي عليه أي من الإغماء إلى آخره فبسبب إزالتها ما تغطى به رأسها عنها اختفى فلم يعد إلى أن أعادت غطاء رأسها عليه فاستبانت علمت علم اليقين أن ما يعرض له صلى الله عليه وسلم هو الوحي أي لا الجني لأن الملك لا يرى الرأس المكشوف من المرأة بخلاف الجنى وشبه الناظم ذلك بالشيء النفيس والأمر العظيم لأن كلا من الكنز والكيمياء لا يظفر به إلا القليل من الناس لعزتهما
أقول وفي الخصائص الكبرى ما يدل لما قلناه من أن أول ما فعلته خديجة كان عند ترائيه له صلى الله عليه وسلم وقبل اجتماعه به
وقول بعضهم إن ذلك من خديجة كان بإرشاد من ورقة فإنه قال لها اذهبي إلى المكان الذي رأى فيه ما رأى فإذا رآه فتحسري فإن لم يكن من عند الله لا يراه أي فتراءى له وهو في بيت خديجة ففعلت قالت فلما تحسرت تغيب جبريل فلم يره فرجعت فأخبرت ورقة فقال إنه ليأتيه الناموس الأكبر
وفي فتح الباري أن في سيرة ابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال رضي الله تعالى عنه وهو يعذب وذلك يقتضى أنه تأخر إلى زمن الدعوة وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام أي وفي كلام صاحب كتاب الخميس في الصحيحين أن الوحي تتابع في حياة ورقة وأنه آمن به وتقدم أنه الموافق لما في الإمتاع من أنه مات في السنة الرابعة من البعثة وتقدم أنه مخالف لما تقدم عن سبط ابن الجوزي ومخالف أيضا لقول الذهبي الأظهر أنه مات بعد النبوة وقبل الرسالة أي بناء على تأخرها ويدل لتأخرها ما تقدم من قول ورقة يا ليتني فيها جذع فقد تقدم أن المراد يا ليتني أكون في زمن الدعوة أي ومن أدرك النبوة ولم يدرك البعثة لا يكون مسلما بل هو كما تقدم من أهل الفترة لأن الإيمان النافع عند الله تعالى الذي يصير به الشخص مستحقا لدخول الجنة ناجيا من الخلود في النار التصديق بالقلب بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم أي بما أرسل به وإن لم يقر بالشهادتين مع التمكن من ذلك حيث لم يطلب منه ذلك ويمتنع
وقيل لا بد مع ذلك من الإقرار بالشهادتين للتمكن من وحيث أدرك الرسالة فقد أسلم وحينئذ يكون صحابيا
ونقل بعضهم عن الحافظ ابن حجر أنه في الإصابة تردد في ثبوت الصحبة لورقة بن نوفل قال لكن المفهوم من كلامه في شرح النخبة ثبوتها وأنه يفرق بينه وبين بحيرا بأن ورقة أدرك البعثة وأنه لم يدرك الدعوة بخلاف بحيرا وهو ظاهر والتعريف السابق يشمله هذا كلامه
وتعريفه السابق للصحابي هو من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا وعبارة شرح النخبة هل يخرج أي من تعريف الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به من لقيه مؤمنا بأنه سيبعث ولم يدرك البعثة محل نظر
ولا يخفى عليك أن ما في شرح النخبة لا يدل لهذا البعض على أنه تقدم أن ابن حجر في الإصابة قال في بحيرا ما أدرى أدرك البعثة أم لا
ولا يخفى عليك أن ما تقدم عن ابن حجر من أن ورقة أدرك البعثة وأنه لم يدرك الدعوة فإنه يقتضى أن البعثة عبارة عن النبوة لا عن الرسالة وأن الرسالة هي الدعوة لا البعثة
وروى ابن إسحاق عن شيوخه أنه صلى الله عليه وسلم كان يرقى من العين وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن فلما نزل عليه القرآن أصابه نحو ما كان يصيبه قبل ذلك هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصيبه قبل نزول القرآن ما يشبه الإغماء بعد حصول الرعدة وتغميض عينيه وتربد وجهه ويغط كغطيط البكر فقالت له خديجة أوجه إليك من يرقيك قال أما الآن فلا ولم أقف على من كان يرقيه ولا على ما كان يرقى به
واشتهر على بعض الألسنة أن آمنة يعنى أمه صلى الله عليه وسلم رقت النبي من العين ولعل مستند ذلك ما تقدم عن أمه أنها لما كانت حاملا به جاءها الملك وقال لها قولي إذا ولدتيه أعيذه بالواحد من شر كل حاسد والظاهر أنها قالت ذلك
وعن أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها أنها قالت يا رسول الله إن ابني جفعر أي ولديها من جعفر بن أبي طالب تصيبهما العين أفنسترقى لهما قال نعم لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين
فإن قيل بهذه الأمور علم صلى الله عليه وسلم أن جبريل ملك لا جنى فمن أين علم أنه يتكلم عن الله تعالى أجيب بأنه على تسليم أن قول ورقة المذكور وما تقدم عنه لا يفيده العلم فقد يقال خلق الله تعالى فيه صلى الله عليه وسلم علما ضروريا بعد ذلك علم به أنه
جبريل وأنه يتكلم عن الله تعالى كا خلق في جبريل علما ضروريا بأن الموحى إليه هو الله
وقد ذكر بعض المفسرين أنه صلى الله عليه وسلم كان له عدو من شياطين الجن يقال له الأبيض كان يأتيه في صورة جبريل واعترض بأنه يلزم عليه عدم الوثوق بالوحي
وأجيب عنه بمثل ما هنا وهو أن الله تعالى جعل في النبي صلى الله عليه وسلم علما ضروريا بميز به بين جبريل عليه السلام وبين هذا الشيطان ولعل هذا الشيطان غير قرينه الذي أسلم
وفي كلام ابن العماد وشيطان الأنبياء يسمى الأبيض والأنبياء معصومون منه وهذا الشيطان هو الذي أغوى به برصيصا الراهب العابد بعد عبادته خمسمائة سنة وهو المعنى بقوله تعالى { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك } هذا كلامه والله أعلم
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كان من الأنبياء من يسمع الصوت أي ولا يرى مصوتا فيكون بذلك نبيا قال بعضهم يحتمل أن يكون صوتا خلقه الله تعالى في الجو أي ليس من جنس الكلام وخلق لذلك النبي فهم المراد منه عند سماعه
ويحتمل أن يكون من جنس الكلام المعهود يتضمن كون ذلك الشخص صار نبيا
قال صلى الله عليه وسلم وإن جبريل يأتيني فيكلمني كما يأتي أحدكم صاحبه فيكلمه ويبصره من غير حجاب أي وفي رواية كنت أراه أحيانا كما يرى الرجل صاحبه من وراء الغربال
ولا يخفى أن هاتين الحالتين كل منهما حالة من حالات الوحي وحينئذ إما أن يكون جبريل عليه السلام على صورة دحية الكلبي وهو بكسر الدال المهملة على المشهور وحكى فتحها أو على صورة غيره ومنه ما وقع في حديث عمر رضي الله تعالى عنه بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد الحديث ورواية البخاري تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يعرفه إلا في آخر الأمر وورد ما جاءني يعني جبريل في صورة لم أعرفها إلا في هذه المرة
وفي صحيح ابن حبان والذي نفسي بيده ما اشتبه على منذ أتاني قبل مرته هذه وما عرفته حتى ولى وبهذا يعلم ما في كلام الإمام السبكي حيث قسم الوحي إلى ثلاثة أقسام حيث قال في تائيته ** ولازمك الناموس إما بشكله ** وإما بنفث أو بحلية دحية **
فليتأمل قيل وكان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة فإن قيل إذا جاء جبريل عليه السلام على صورة الآدمي دحية أو غيره هل هي الروح تتشكل بذلك الشكل وعليه هل يصير جسده الأصلي حيا من غير روح أو يصير ميتا
أجيب بأن الجائي يجوز أن لا يكون هو الروح بل الجسد لأنه يجوز أن الله تعالى جعل في الملائكة قدرة على التطور والتشكل بأي شكل أرادوه كالجن فيكون الجسد واحدا ومن ثم قال الحافظ ابن حجر إن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لم يخاطبه والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط
وأخذ من ذلك بعض غلاة الشيعة أنه لا مانع ولا بعد أن الحق سبحانه وتعالى يظهر في صورة علي رضي الله تعالى عنه وأولاده أي الأئمة الإثنى عشر وهم الحسن والحسين وابن الحسين زين العابدين وابنه محمد الباقر وابن محمد الباقر جعفر الصادق وابن جعر الصادق موسى الكاظم وابن موسى الكاظم على الرضا وابن علي الرضا محمد الجواد وابن محمد الجواد على التقي والحادي عشر حسن العسكري والثاني عشر ولد حسن العسكري وهو المهدي صاحب الزمان وهو حي باق إلى أن يجتمع بسيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام على ما فيه فقد قال عبدالله بن سبأ يوما لعلي رضي الله تعالى عنه أنت أنت يعني أنت الإله فنفاه على إلى المدائن وقال لا تساكني في بلد أبدا وكان عبدالله بن سبأ هذا يهوديا كان من أهل صنعاء وأمه يهودية سوداء ومن ثم كان يقال له ابن السوداء وكان أول من أظهر سب الشيخين ونسبهما للإفتيات على سيدنا علي رضي الله تعالى عنه
ولما قيل لسيدنا علي لولا أنك تضمر ما أعلن به هذا ما اجترأ على ذلك فقال علي معاذ الله أنى أضمر لهما ذلك لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل فأرسل إلى ابن سبأ فأظهر الإسلام في أول خلافة عثمان وقيل في أول خلافة عمر وكان قصده بإظهار الإسلام بوار الإسلام وخذلان أهله
وكان يقول قبل إظهاره الإسلام في يوشع بن نون بمثل ما قال في علي وكان يقول في علي إنه حي لم يقتل وإن فيه الجزء الإلهي وإنه يجئ في السحاب والرعد صوته والبرق سوطه وإنه ينزل بعد ذلك إلى الأرض فيملؤها عدلا كما ملئت جورا وظلما وعبدالله هذا كان يظهر أمر الرجعة أي أنه صلى الله عليه وسلم يرجع إلى الدنيا كما يرجع عيسى وكان يقول العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع إلى الدنيا ويكذب برجعة محمد وقد قال الله تعالى { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } فمحمد أحق بالرجوع من عيسى وأظهر أمر الوصية أي أن عليا رضي الله تعالى عنه أوصى له صلى الله عليه وسلم بالخلافة وكان هو السبب في إثارة الفتنة التي قتل فيها عثمان رضي الله تعالى عنه كما سيأتي
ومن غلاة الشيعة من قال بألوهية أصحاب الكساء الخمسة محمد صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم
ومنهم من قال بألوهية جعفر الصادق وألوهية آبائه وهم الحسين وابنه زين العابدين وابن زين العابدين محمد الباقر وهؤلاء الشيعة موافقون في ذلك لمن يقول بالحلول وهم الحلاجية أصحاب حسين بن منصور الحلاج كانوا إذا رأوا صورة جميلة زعموا أن معبودهم حل فيها
وممن زعم الحلول حتى ادعى الألوهية المقنع عطاء الخراساني وذلك في سنة ثلاث وستين ومائة ادعى أن الله عزوجل في صورة آدم ثم في صورة نوح ثم إلى أن حل في صورته هو فاقتنن به خلق كثير بسبب التمويهات التي أظهرها لهم فإنه كان يعرف شيئا من السحر والنيرنجيات فقد أظهر قمرا يراه الناس من مسافة شهرين من موضعه ثم يغيب ولما اشتهر أمره ثار عليه الناس وقصدوه ليقتلوه وجاءوا إلى القعلة التي كان متحصنا بها فلما علم ذلك أسقى أهله سما فماتوا ومات ودخل الناس تلك القلعة فقتلوا من بقى حيا بها من أتباعه
والقول بالإتحاد كفر فقد قال العز بن عبدالسلام من زعم أن الإله يحل في شيء من أجسام الناس أو غيرهم فهو كافر وأشار إلى أنه كافر إجماعا من غير خلاف وأنه لا يجرى فيه الخلاف الذي جرى في تكفير المجسمة ومن ثم ذكر القاضي عياض في الشفاء أن من ادعى حلول الباري في أحد الأشخاص كان كافرا بإجماع المسلمين
وقول بعض العارفين وهو أبو يزيد البسطامي سبحاني ما أعظم شأني وقوله { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } وقوله وأنا ربي الأعلى وقوله أنا الحق وهو أنا وأنا هو ليس من دعوى الحلول في شيء وإنما قوله سبحاني إني أنا الله محمول على الحكاية أي قال ذلك على لسان الحق من باب حديث إن الله تعالى قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده وقوله أنا ربي الأعلى وأنا الحق الخ إنما قال ذلك لأنه انتهى سلوكه إلى الله تعالى بحيث استغرق في بحر التوحيد بحيث غاب عن كل ما سواه سبحانه وصار لا يرى في الوجود غيره سبحانه وتعالى الذي هو مقام الفناء ومحو النفس وتسليم الأمر كله له تعالى وترك الإرادة منه والإختيار
فالعارف إذا إلى هذا المقام وصل ربما قصرت عبارته عن بيان ذلك الحال الذي نازله فصدرت عنه تلك العبارة الموهمة للحلول
وقد اصطلحوا على تسمية هذا المقام الذي هو مقام الفناء بالإتحاد ولا مشاحة في الإصطلاح لأنه اتحد مراده بمراد محبوبه فصار المرادان واحدا لفناء إرادة المحب في مراد المحبوب فقد فنى عن هوى نفسه وحظوظها فصار لا يحب إلا لله ولا يبغض إلالله ولا يوالى إلالله ولا يعادي إلالله ولا يعطى إلا لله ولا يمنع إلا لله ولا يرجو إلا لله ولا يستعين إلا بالله فيكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما
وفي كلام سيدي علي رضي الله تعالى عنه حيث أطلق القول بالإتحاد في كلام القوم في الصوفية فمرادهم فناء مرادهم في مراد الحق جل وعلا كما يقول بين فلان وفلان اتحاد إذا عمل كل منهما على وفق مراد الآخر { ولله المثل الأعلى } هذا كلامه رضي الله تعالى عنه ورضى عنا به وهذا مقام غير مقام الوحدة المطلقة الخارجة عن دائرة العقل التي ذكر السعد والسيد أن القول بها باطل وضلال أي لأنه يلزم عليها القول بالجمع بين الضدين
فقد قال بعض العلماء حضرة الجمع عبارة عن شهود اجتماع الرب والعبد في حال فناء العبد فيكون موجودا في آن واحد ولا يدرك ذلك إلا من أشهده الله الجمع بين الضدين ومن لم يشهد ذلك أنكره ويجوز أن يكون الجسد للملك متعددا وعليه فمن الممكن أن يجعل الله لروح الملك قوة يقدر بها على التصرف في جسد آخر غير جسدها المعهود مع تصرفها في ذلك الجسد المعهود كما هو شأن الأبدال لأنهم يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم شبحا آخر مشبها لشبحهم الأصلي بدلا عنه
وقد ذكر ابن السبكي في الطبقات أن كرامات الأولياء أنواع وعد منها أن يكون لهم أجساد متعددة قال وهذا الذي تسميه الصوفية بعالم المثال ومنه قصة قضيب البان وغيره أي كواقعة الشيخ عبدالقادر الطحطوطي نفعنا الله تعالى به
فقد ذكر الجلال السيوطي رحمه الله تعالى أنه رفع إليه سؤال في رجل حلف بالطلاق أن ولى الله الشيخ عبدالقادر الطحطوطي بات عنده ليلة كذا فحلف آخر بالطلاق أنه بات عنده تلك الليلة بعينها فهل يقع الطلاق على أحدهما قال فأرسلت قاصدي إلى الشيخ عبدالقادر فسأله عن ذلك فقال ولو قال أربعة إني بت عندهم لصدقوا فأفتيت أنه لا حنث على واحد منهما لأن تعدد الصور بالتخيل والتشكل ممكن كما يقع ذلك للجان
وقد قيل في الأبدال إنهم إنما سموا أبدالا لأنهم قد يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم الأول شبحا آخر شبيها بشبحهم الأصلي بدلا عنه ويقال عالم المثال كما تقدم فهو عالم متوسط بين عالم الأجساد وعالم الأرواح فهو الطف من عالم الاجساد وأكثف من عالم الأرواح فالأرواح تتجسد وتظهر في صور مختلفة من عالم المثال قال وهذا الجواب أولى مما تكلفه بعضهم في الجواب عن جبريل بأنه كان يندمج بعضه في بعض أي الذي أجاب به الحافظ ابن حجر
ومما يدل على وجود المثال رؤيته صلى الله عليه وسلم للجنة والنار في عرض الحائط وقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى { لولا أن رأى برهان ربه } بأنه مثل له يعقوب بمصر وهو بالشام
ومن ذلك ما اشتهر أن الكعبة شوهدت تطوف ببعض أولياء في غير مكانها وممن وقع له ذلك أبو يزيد البسطامي والشيخ عبدالقادر الجيلي والشيخ إبراهيم المتبولي نفعنا الله تعالى ببركاتهم ولعل مجئ جبريل على صورة دحية كان في المدينة بعد إسلام دحية وإسلامه كان بعد بدر فإنه لم يشهدها وشهد المشاهد بعدها إذ يبعد مجيئه على صورة دحية قبل إسلامه
قال الشيخ الأكبر رضي الله تعالى عنه دحية الكلبي كان أجمل أهل زمانه وأحسنهم صورة فكان الغرض من نزول جبريل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في صورته إعلاما من الله تعالى أنه ما بيني وبينك يا محمد سفير إلا صورة الحسن والجمال وهي التي لك عندي فيكون ذلك بشرى له ولا سيما إذا أتى بأمر الوعيد والزجر فتكون
تلك الصورة الجميلة تسكن منه ما يحركه ذلك الوعيد والزجر هذا كلامه وهو واضح لو كان لا يأتيه إلا على تلك الصورة الجميلة إلا أن يدعى أن من حين أتاه على صورة دحية لم يأته على صورة آدمي غيره وتكون واقعة سيدنا عمر سابقة على ذلك لكن تقدم أنه كان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة أي لا بالوعيد والزجر فليتأمل
وفي البرهان للزركشي في التنزيل أي تلقى القرآن طريقان
أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل أي لأن الأنبياء يحصل لهم الإنسلاخ من البشرية إلى الملكية بالفطرة الإلهية من غير إكتساب فيما هو أقرب من لمح البصر
والثاني أن الملك من الملكية البشرية إلى حتى أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه هذا كلامه والراجح أن المنزل اللفظ والمعنى تلقفه جبريل من الله تعالى تلقفا روحانيا أو أن الله تعالى خلق تلك الألفاظ أي الأصوات الدالة عليها في الجو وأسمعها جبريل وخلق فيه علما ضروريا أنها دالة على ذلك المعنى القديم القائم بذاته تعالى وأوحاه إليه صلى الله عليه وسلم كذلك أو حفظه جبريل من اللوح المحفوط ونزل به
واعلم أن من حالات الوحي النفث أي أنه كان ينفث في روعه الكلام نفثا قال صلى الله عليه وسلم إن روح القدس أي المخلوق من الطهارة يعنى جبريل نفث أي ألقى
والنفث في الأصل النفخ اللطيف الذي لا ريق معه في روعي بضم الراء أي قلبي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ورزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب أي عاملوا بالجميل في طلبكم وتتمته ولا يحملنكم إستبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله أي كالكذب فإن ما عند الله لن ينال إلا بطاعته
وفي كلام ابن عطاء الله الإجمال في الطلب يحتمل وجوها كثيرة
منها أن لا يطلبه مكبا عليه مشتغلا عن الله تعالى به ومنها أن يطلبه من الله تعالى ولا يعين قدرا ولا وقتا لأن من طلب وعين قدرا أو وقتا فقد تحكم على ربه وأحاطت الغفلة بقلبه ومنها أن يطلب وهو شاكر لله إن أعطى وشاهد حسن إختياره إذا منع ومنها أن يطلب من الله تعالى ما فيه رضاه ولا يطلب ما فيه حظوظ دنياه
ومنها أن يطلب ولا يستعجل الإجابة وفي حديث ضعيف اطلبوا الحوائج بعزة النفس فإن الأمور تجرى بالمقادير
ومن حالات الوحي أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس وهي أشد الأحوال عليه صلى الله عليه وسلم أي لما قيل إنه كان يأتيه في هذه الحالة بالوعيد والنذارة
أقول روى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه وهو أخو أبو جهل لأبويه وكان يضرب به المثل في السودد حتى قال الشاعر ** أحسبت أن أباك حين تسبنى ** في المجد كان الحارث بن هشام ** ** أولى قريش بالمكارم والندى ** في الجاهلية كان والإسلام **
أسلم يوم الفتح وسيأتي أنه استجار في ذلك اليوم بأم هانئ أخت علي بن أبي طالب وأراد علي قتله فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ وحسن إسلامه وشهد حنينا وكان من المؤلفة كما سيأتي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي أي حامله الذي هو جبريل قال أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيقصم بالفاء أي يقلع عني وقد وعيت ما قال وفي رواية يأتيني أحيانا له صلصلة كصلصلة الجرس وأحيانا يتمثل لي الملك الذي هو حامل الوحي رجلا أي يتصور بصورة الرجل وفي رواية في صورة الفتي فيكلمني فأعي ما يقول وروى أنه في الحالة الثانية ينفلت منه ما يعيه بخلاف الحالة الأولى
ونص هذا الرواية كان الوحي يأتيني على نحوين يأتيني جبريل فيلقيه على كما يلقى الرجل على الرجل فذلك ينفلت مني ويأتيني في شيء مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي فذاك الذي لا ينفلت مني
قيل وإنما كان ينفلت منه في الحالة الأولى لشدة تأنسه بحامله لأنه يأتي إليه في صورة يعهدها ويخاطبه بلسان يعهده فلا يثبت فيما ألقى إليه بخلافه في الحالة الثانية لأن سماع مثل هذاالصوت الذي يفزع منه القلب مع عدم رؤية أحد يخاطبه إذا علم أنه وحي واضطر إلى التثبيت في ذلك وقولنا أي حامله يخالف قول الحافظ ابن حجر حيث ذكر أن قوله مثل صلصة الجرس بين بها صفة الوحي لا صفة حامله
وفيه أن ذلك لا يناسب قوله وقد وعيت ما قال وقول بعضهم الصلصلة المذكورة
هي صوت الملك بالوحي وقوله يأتيني أحيانا له كصلصلة الجرس وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا وكان صلى الله عليه وسلم يجد ثقلا عند نزول الوحي ويتحدر جبينه عرقا في البرد كأنه الجمان وربما غط كغطيط البكر محمرة عيناه
وعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه كان إذا نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقل لذلك ومرة وقع فخذه على فخذي فوالله ما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وربما أوحى إليه وهو على راحلته فترعد حتى يظن أن ذراعها ينفصم وربما بركت
أي وجاء أنه لما نزلت سورة المائدة عليه صلى الله عليه وسلم كان على ناقته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها
وفي رواية فاندق كتف راحلته العضباء من ثقل السورة ولا يخالفه ما قبله لأنه جاز أن يكون حصل لها ذلك فكان سببا لنزوله ثم رأيت في رواية ما يصرح بذلك
وجاء ما من مرة يوحى إلى إلا ظننت أن نفسي تقبض منه وعن أسماء بنت عميس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يكاد يغشى عليه وفي رواية يصير كهيئة السكران
أقول أي يقرب من حال المغشى عليه لتغيره عن حالته المعهودة تغيرا شديدا حتى تصير صورته صورة السكران أي مع بقاء عقله وتمييزه
ولا ينافى ذلك قول بعضهم ذكر العلماء أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤخذ عن الدنيا لأنه يجوز أن يكون مع ذلك على عقله وتمييزه على خلاف العادة وهذا هو اللائق بمقامه صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا ينتقض وضوؤه
ثم رأيت صاحب الوفاء قال فإن قال قائل ما كان يجرى عليه صلى الله عليه وسلم من البرحاء حين نزول الوحي هل ينتقض وضوؤه
والجواب لا لأنه صلى الله عليه وسلم كان محفوظا في منامه تنام عيناه ولا ينام قلبه فإن كان النوم الذي يسقط فيه الوكاء لا ينقض وضوءه فالحالة التي أكرم فيها بالمسارة وإلقاء الهدى إلى قلبه أولى لكون طباعه فيها معصومة من الأذى هذا كلامه وما ذكرناه أولى لما تقرر أن الإغماء أبلغ من النوم فليتأمل
وفي كلام الشيخ محيى الدين ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم وجميع من يأتيه الوحي
من الأنبياء كان إذا جاءه الوحي يستلقى على ظهره حيث قال سبب أضطجاع الأنبياء على ظهورهم عند نزول الوحي إليهم أن الوارد الإلهي الذي هو صفة القيومية إذا جاءهم اشتغل الروح الإنساني عن تدبيره فلم يبق للجسم من يحفظ عليه قيامه ولا قعوده فرجع إلى أصله وهو لصوقه بالأرض
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي صدع فيغلف رأسه بالحناء قيل وهو محمل قول بعض الصحابة إنه صلى الله عليه وسلم كان يخضب بالحناء وإلا فهو عليه الصلاة والسلام لم يخضب لأنه لم يبلغ سنا يخضب فيه
وفيه أنه أمر بالخضاب للشباب فقد جاء اختضبوا بالحناء فإنه يزيد في شبابكم وجمالكم ونكاحكم وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي لم يستطع أحد منا يرفع طرفه إليه حتى ينقضى الوحي وفي لفظ كان إذا نزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي استقبلته الرعدة وفي رواية كرب لذلك وتربد له وجهه وغمض عينيه وربما غط كغطيط البكر
وعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم السورة الشديدة أخذه من الشدة والكرب على قدر شدة السورة وإذا أنزل عليه السورة اللينة أصابه من ذلك على قدر لينها
وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوى النحل
وذكر الحافظ ابن حجر أن دوى النحل لا يعارض صلصلة الجرس أي المتقدم ذكرها لأن سماع الدوى بالنسبة للحاضرين والصلصلة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالراوي شبه بدوي النحل والنبي صلى الله عليه وسلم شبه بصلصلة الجرس أي فالمراد بهما شيء واحد والله أعلم
ومن حالاته أي حالات الوحي أي حامله أنه كان يأتيه على صورته التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح
أقول فيوحى إليه في تلك الحالة كما هو المتبادر وفيه أنه جاء عن عائشة وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل على صورته التي خلقه الله
عليها إلا مرتين حين سأله أن يريه نفسه فقال وددت أني رأيتك في صورتك أي وذلك بحراء أوائل البعثة بعد فترة الوحي بالأفق الأعلى من الأرض وهذه المرة هي المعنية بقوله تعالى { ولقد رآه بالأفق المبين } وبقوله تعالى { فاستوى وهو بالأفق الأعلى } طلع جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب فخر النبي صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه فنزل جبريل عليه السلام في صورة الآدميين وضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه الحديث والأخرى ليلة الإسراء المعنية بقوله تعالى { ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى } وسيأتي الكلام على ذلك
وفي الخصائص الصغرى خص صلى الله عليه وسلم برؤيته جبريل في صورته التي خلقه الله عليها أي لم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم
وذكر السهيلي أن المراد بالأجنحة في حق الملائكة صفة الملكية وقوة روحانية وليست كأجنحة الطير ولا ينافى ذلك وصف كل جناح منها بأنه يسد ما بين المشرق والمغرب هذا كلامه فليتأمل
ولعله لا ينافيه ما تقدم عن الحافظ ابن حجر من أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه
والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط والله اعلم
ومن حالات الوحي أي نفسه أي الموحى به لا حامله الذي هو جبريل أن الله تعالى أوحى إليه صلى الله عليه وسلم بلا وساطة ملك بل من وراء حجاب يقظة أو من غير حجاب بل كفاحا وذلك ليلة المعراج واسم الإشارة يحتمل أن يكون لنوعين وقع كل منهما ليلة الإسراء
ويحتمل أن يكون نوعا واحدا وأن الأول بناء على القول بعدم الرؤية والثاني بناء على القول بالرؤية وحينئذ لا يناسب عد ذلك نوعين كما فعل الشامي ومن ثم نسب ابن القيم هذاالنوع الثاني لبعضهم كالمتبرئ منه حيث قال وقد زاد بعضهم مرتبة ثانية وهي تكليم الله تعالى له صلى الله عليه وسلم كفاحا بغير حجاب هذا كلامه لأن ابن القيم ممن لا يقول بوجود الرؤية فما زاده بعضهم بناء على القول بوجود الرؤية كما علمت وحينئذ يكون هذا ليلة المعراج وعلى هذا جاء قوله تعالى { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا }
وقول ابن القيم السادسة أي من حالات الوحي ما أوحاه الله تعالى إليه وهو فوق السموات من فرض الصلوات وغيرها لأن ذلك إنما هو ليلة المعراج بغير واسطة ملك وهذا يحتمل لأن يكون من غير حجاب وأن يكون من وراء الحجاب فهي لم تخرج عما تقدم
وكذا قوله السابعة أي من حالات الوحي كلام الله تعالى منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم موسى أي من وراء حجاب فهي لم تخرج عما تقدم وحينئذ يكون كلمه صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج بواسطة الملك وكلمه بغير واسطة الملك من وراء حجاب ومشافهة من غير حجاب وصاحب المواهب نقل عن الولي العراقي كلاما فيه الإعتراض على ابن القيم بغير ما ذكر والجواب عنه وأقره مع ما في ذلك الكلام من النظر الظاهر الذي لا يكاد يخفى والله أعلم
قال الحافظ السيوطي وليس في القرآن من هذاالنوع أي مما شافهه به الحق تعالى من غير حجاب شيء فيما أعلم
نعم يمكن أن يعد منه آخر سورة البقرة أي آمن الرسول إلى آخر الآيات لأنها نزلت كما في الكامل للهذلي بقاب قوسين
وروى الديلمي قيل يا رسول الله أي آية في كتاب الله تحب أن تصيبك وأمتك قال آخر سورة البقرة فإنها من كنز الرحمن من تحت العرش ولم تترك خيرا في الدنيا والآخرة إلا اشتملت عليه ولعل هذا لا يعارض ما جاء في فضل آية الكرسي من قوله صلى الله عليه وسلم وقد قيل له يا رسول الله أي آية في كتاب الله تعالى أعظم قال آية الكرسي أعظم وما جاء عن الحسن رضي الله تعالى عنه مرسلا افضل القرآن البقرة وأفضل آية الكرسي وفي رواية أعظم آية فيها آية الكرسي وفي الجامع الصغير آية الكرسي ربع القرآن
ونزل في ذلك الموطن الذي هو قاب قوسين بعض سورة الضحى وبعض سورة ألم نشرح قال صلى الله عليه وسلم سألت ربي مسألة وودت أني لم أكن سألته سألت ربي اتخذت إبراهيم خليلا وكلمت موسى تكليما فقال يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك وضالا فهديتك وعائلا فأغنيتك وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك ورفعت لك ذكرك فلا أذكر إلا وتذكر معي انتهى
أقول قد يقال لا يلزم من النزول في قاب قوسين أن يكون مشافهة من غير حجاب وقوله فقال يا محمد ألم أجدك إلى آخره ليس هذا نص التلاوة وإن هذا ظاهر في أن المتلو الدال على ما ذكر نزل قبل ذلك وأن هذا تذكير به والله أعلم
ومن حالات الوحي أنه أوحى إليه بلا واسطة ملك مناما كما في حديث معاذ أتاني ربي وفي لفظ رأيت ربي في أحسن صورة أي خلقة فقال فيما يختصم الملأ الأعلى يا محمد قلت أنت أعلم أي رب فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديى فعلمت ما في السماء والأرض أي وفي كلام الشيخ محيى الدين بن العربي رضي الله تعالى عنه فهذا علم حاصل لا عن قوة من القوى الحسية أو المعنوية وهذا لا يبعد أن يقع مثله للأولياء بطريق الإرث أي تجلى له الحق بالتجلي الخاص الذي ما ذكر عبارة عنه وفي رواية فعلمت علم الأولين والآخرين أي ومن حالات الوحي رؤيا النوم قال صلى الله عليه وسلم رؤيا الأنبياء وحي كما تقدم
ومن حالاته العلم الذي يلقيه الله تعالى في قلبه عند الإجتهاد في الأحكام بناء على ثبوته لا بواسطة ملك وبذلك فارق النفث في الروع
وبذكر هذه الأنواع للوحي يعلم أن ما تقدم من حصره في الحالتين المذكورتين عند سؤال الحارث له صلى الله عليه وسلم أغلبي أو أن ما عداهما وقع بعد سؤال الحارث له
وفي ينبوع الحياة عن ابن جرير مانزل جبريل بوحي قط إلا وينزل معه من الملائكة حفظة يحيطون به وبالنبي الذي يوحى إليه يطردون الشياطين عنهما لئلا يسمعوا ما يبلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الغيب الذي يوحيه إليه فيلقوه إلى أوليائهم ثم رأيته في الإتقان ذكر أن من القرآن ما نزل معه ملائكة مع جبريل تشيعه من ذلك سورة الأنعام شيعها سبعون ألف ملك وفاتحة الكتاب شيعها ثمانون ألف ملك وآية الكرسي شيعها ثمانون ألف ملك وسورة يس شيعها ثلاثون ألف ملك { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } شيعها عشرون ألف ملك ولعل هذا لا ينافى ما تقدم من أن الغرض من تساقط النجوم عند البعثة حراسة السماء من استراق الشياطين لما يوحى لجواز أن يكون هذا لحفظ ما يوحى من إستراقه في الأرض وبين السماء والأرض
وعن النخعي إن أول سورة أنزلت عليه صلى الله عليه وسلم { اقرأ باسم ربك }
قال الإمام النووي وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف هذا كلامه ولا يخفى أن مراد النخعي بالسورة هنا القطعة من القرآن أي أول آيات أنزلت فلا ينافى ما تقدم من رواية عمرو بن شرحبيل مما يدل على أن أول سورة أنزلت فاتحة الكتاب لأن المراد أول سورة كاملة نزلت لا في شأن الإنذار فلا ينافي ما تقدم من رواية جابر ما يقتضى أن أول ما نزل { يا أيها المدثر } لأن المراد بذلك أول سورة كاملة نزلت في شأن الإنذار بعد فترة الوحي أي فإنها نزلت قبل تمام نزول سورة اقرأ وهذا الجمع تقدم الوعد به أي لكن يشكل عليه ما في الكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مانزل علي القرآن إلا آية آية وحرفا حرفا ما خلا سورة براءة وقل هو الله أحد فإنهما أنزلتا علي ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة فإن هذاالسياق يدل على أنه لم ينزل عليه صلى الله عليه وسلم سورة كاملة إلا براءة { قل هو الله أحد } ويخالفه ما في الإتقان أن مما نزل جملة سورة الفاتحة وسورة الكوثر وسورة تبت وسورة لم يكن وسورة النصر والمرسلات والأنعام لكن ذكر ابن الصلاح أن هذا روى بسند فيه ضعف قال ولم أر له إسنادا صحيحا
وقد روى ما يخالفه ولم يذكر في الإتقان مما نزل جملة سورة براءة وذكر أن المعوذتين نزلتا دفعة واحدة وحينئذ يكون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم إلا آية آية وحرفا حرفا أي كلمة والمراد بها ما قابل السورة وإلا فقد أنزل عليه ثلاث آيات وأربع آيات وعشر آيات كما أنزل آية وبعض آية فقد صح نزول { غير أولي الضرر } منفردة وهي بعض آية
وفي الإتقان عن جابر بن زيد قال أول ما أنزل الله تعالى من القرآن بمكة أقرأ { باسم ربك } ثم { ن والقلم } ثم { يا أيها المزمل } ثم { يا أيها المدثر } ثم الفاتحة إلى آخر ما ذكر
ثم قال قلت هذا السياق غريب وفي هذا الترتيب نظر وجابر بن زيد من علماء التابعين هذا كلامه وذكر بعض المفسرين أن سورة التين أول ما نزل من القرآن والله أعلم وما تقدم من أن نزول { يا أيها المدثر } كان في شأن الإنذار بعد فترة الوحي لأنه كان بعد نزول جبريل عليه باقرأ باسم ربك مكث مدة لا يرى جبريل
أي وإنما كان كذلك ليذهب ما كان يجده من الرعب وليحصل له التشوف إلى العود
ومن ثم حزن لذلك حزنا شديدا حتى غدا مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال فكلما وافى بذروة كي يلقى نفسه منها تبدي له جبريل عليه السلام فقال يامحمد إنك رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه أي قلبه وتقر نفسه ويرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا وافى ذروة جبل تبدى له مثل ذلك قال وفي رواية أنه لما فتر الوحي عنه صلى الله عليه وسلم حزن حزنا شديدا حتى كان يغدو إلى ثبير مرة وإلى حراء مرة أخرى يريد أن يلقى نفسه منه فكلما وافى ذروة جبل منهما كي يلقى نفسه تبدي له جبريل فقال يا محمد أنت رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه ويرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي عاد لمثل ذلك وكانت تلك المدة أربعين يوما وقيل خمسة عشر يوما وقيل اثنى عشر يوما وقيل ثلاثة أيام قال بعضهم وهو الأشبه بحاله عند الله تعالى انتهى
أقول ويبعد هذا الأشبه قوله فإذا طالت عليه فترة الوحي والله أعلم وفي الأصل وهذه الفترة لم يذكر لها ابن إسحاق مدة معينة
أقول في فتح الباري أن ابن إسحاق جزم بأنها ثلاث سنين والله أعلم
قال أبو القاسم السهيلي وقد جاء في بعض الأحاديث المسندة أن مدة هذه الفترة كانت سنتين ونصف سنة أي وفي كلام الحافظ ابن حجر وهذا الذي اعتمده السهيلي لا يثبت وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مدة الفترة كانت أياما أي وأقلها ثلاثة أي وتقدم ما فيه قال قال بعض الحفاظ والظاهر والله أعلم أنها أي مدة الفترة كانت بين اقرأ و { يا أيها المدثر } هي المدة التي اقترن معه فيها إسرافيل كما قال الشعبي انتهى
أقول ويوافق ذلك ما في الإستيعاب لإبن عبد البر أن الشعبي قال أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين وقرن بنبوته إسرافيل عليه الصلاة والسلام ثلاث سنين وقد تقدم ذلك
وفي الأصل عن الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي ولم ينزل القرآن أي شيء منه على لسانه ثم وكل به جبريل فجاءه بالوحي والقرآن وهو موافق في ذلك لما في سيرة شيخه الحافظ الدمياطي حيث قال قال بعض العلماء وقرن به إسرافيل ثم قرن به جبريل وهو
ظاهر في أن اقتران إسرافيل به كان بعد النبوة ويؤيده قوله ويأتيه بالكلمة من الوحي ومحتمل لأن يكون ذلك قبل النبوة فيوافق ما تقدم عن الماوردي لكن تقدم أنه كان يسمع حسه ولا يرى شخصه إلا أن يقال لا يلزم من كونه يتراءى له أن يراه وقوله يأتيه بالكلمة من الوحي هو معنى قوله يأتيه بالشيء بعد الشيء ثم رأيت الواقدي أنكر على الشعبي كون إسرافيل قرن به أولا وقال لم يقترن به من الملائكة إلا جبريل أي بعد النبوة ويحتمل مطلقا قال بعضهم ما قاله الشعبي هو الموافق لما هو المشهور المحفوظ الثابت في الأحاديث الصحيحة وخبر الشعبي مرسل أو معضل فلا يعارض ما في الأحاديث الصحيحة هذا كلامه
ثم رأيت الحافظ ابن حجر نظر في كلام الواقدي بأن المثبت مقدم على النافي إلا أن صحب النافي دليل نفيه فيقدم هذا كلامه
لا يقال قد وجد الدليل فقد جاء بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالس وعنده جبريل إذ سمع نغيضا أي هده من السماء فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال يا محمد هذا ملك قد نزل لم ينزل إلى الأرض قط قال جماعة من العلماء إن هذا الملك إسرافيل لأنا نقول هذا مجرد دعوى لا دليل عليها ولا يحسن أن يكون مستندهم في ذلك ما في الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد هبط على ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي ولا يهبط على أحد بعدي وهو إسرافيل فقال أنا رسول ربك الحديث
ومن ثم عد السيوطى من خصائصه صلى الله عليه وسلم هبوط إسرافيل عليه إذ ليس في ذلك دليل على أن إسرافيل لم يكن نزل إليه قبل ذلك حتى يكون دليلا على أن اقتران جبريل به سابق على اقتران إسرافيل به
هذا وفي كلام الحافظ السيوطي أن مجئ إسرافيل كان بعد ابتداء الوحي بسنتين قال كما يعرف ذلك من سائر طرق الأحاديث وهو بظاهره يرد ما في سفر السعادة أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغ تسع سنين أمر الله تعالى إسرافيل أن يقوم بملازمته
ولما بلغ إحدى عشرة سنة أمر جبريل بملازمته صلى الله عليه وسلم فلازمه تسعا وعشرين سنة فليتأمل
وعن يحيى بن بكير قال ما خلق الله خلقا في السموات أحسن صوتا من إسرافيل فإذا قرأ في السماء يقطع على أهل السماء ذكرهم وتسبيحهم
ثم رأيت في فتح الباري ليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين أي على ما تقدم ما بين نزول اقرأ ويا أيها المدثر عدم مجئ جبريل إليه بل تأخر نزول القرآن عليه فقط هذا كلامه أي فكان جبريل يأتى إليه بغير قرآن بعد مجيئة إليه باقرأ ولم يجئ إليه بالقرآن الذي هو يا أيها المدثر إلا بعد الثلاث سنين على ما تقدم ثم في تلك المدة مكث أياما لا يأتيه أصلا ثم جاءه بيا أيها المدثر فكان قبل تلك الأيام يختلف إليه هو وإسرافيل وهذا السياق كما لا يخفى يؤخذ منه عدم المنافاة بين كون مدة فترة الوحي ثلاث سنين كما يقول ابن إسحاق وسنتين ونصفا كا يقول السهيلي وسنتين كما يقول الحافظ السيوطى وبين كونها أياما أقلها ثلاثة وأكثرها أربعون كما تقدم عن ابن عباس لأن تلك الأيام هي التي كانت لا يرى فيها جبريل أصلا على ما تقدم أي ولا يرى فيها إسرافيل أيضا وفي غير تلك الأيام كان يأتيه بغير القرآن وحينئذ لا يحسن رد الحافظ فيما سبق على السهيلي وينبغي أن تكون تلك الأيام التي لا يرى فيها جبريل وإسرافيل هي التي يريد فيها أن يلقى نفسه من رءوس شواهق الجبال وهذا السياق أيضا يدل على أن النبوة سابقة على الرسالة بناء على أن الرسالة كانت بيا أيها المدثر ويصرح به ما تقدم من قول بعضهم نبأه بقوله { اقرأ باسم ربك } وأرسله بقوله { يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر } وأن بينهما فترة الوحي وعليه أكثر الروايات
وقيل النبوة والرسالة مقترنان ولعل من يقول بتلك يقول يا أيها المدثر دلت على طلب الدعوة إلى الله تعالى وهذا غير إظهار الدعوة والمفاجأة بها الذي دل عليه قوله تعالى { فاصدع بما تؤمر } فليتأمل
وذكر السهيلي أن من عادة العرب إذا قصدت الملاطفة أن تسمى المخاطب بإسم مشتق من الحالة التي هو عليها فلاطفه الحق سبحانه وتعالى بقوله { يا أيها المدثر } فبذلك علم رضاه الذي هو غاية مطلوبه وبه كان يهون عليه تحمل الشدائد ومن هذه الملاطفة قوله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وقد نام وترب جنبه قم يا أبا تراب وقوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة في غزوة أحد وقد نام إلى الإسفار قم يا نومان
وذكر الشيخ محيى الدين بن العربي في قوله تعالى { يا أيها المدثر قم فأنذر } أعلم أن التدثر إنما يكون من البرودة التي تحصل عقب الوحي وذلك أن الملك إذا ورد على النبي صلى الله عليه وسلم بعلم أو حكم تلقى ذلك الروح الإنساني وعند ذلك تشتعل الحرارة الغريزية فيتغير الوجه لذلك وتنتقل الرطوبات إلى سطح البدن لاستيلاء الحرارة فيكون من ذلك العرق فإذا سرى عنه ذلك سكن المزاج وانقشعت تلك الحرارة وانفتحت تلك المام وقبل الجسم الهواء من خارج فيتحلل الجسم فيبرد المزاج فتأخذه القشعريرة فتزاد عليه الثياب ليسخن هذا ملخص كلامه
وذكر بعضهم في تفسير قوله تعالى { وثيابك فطهر } أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي نفعنا الله تعالى ببركاته قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقال يا أبا الحسن طهر ثيابك من الدنس تحظ بمدد الله تعالى في كل نفس فقلت يا رسول الله وما ثيابي قال إن الله كساك حلة التوحيد وحلة المحبة وحلة المعرفة قال ففهمت حينئذ قوله تعالى { وثيابك فطهر }
وجاء في وصف إسرافيل في بعض الأحاديث لا تفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة فإن خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى وقد مرق رأسه من سبع سموات وإنه ليتضاءل من عظمة الله تعالى حتى يصير كأنه الوصع فهو عند نزوله يكون حاملا لزاوية العرش أو يخلفه غيره من الملائكة في ذلك & باب ذكر وضوئه وصلاته صلى الله عليه وسلم أول البعثة
أي أول الإرسال إليه باقرأ
أقول في المواهب أنه روى أن جبريل عليه الصلاة والسلام بدا له صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة وأطيب رائحة فقال له يا محمد إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول لك أنت رسول الله إلى الجن والإنس فادعهم إلى قول لا إله إلا الله ثم ضرب برجله
الأرض فنبعت عين ماء فتوضأ منها جبريل ثم أمره أن يتوضأ وقام جبريل يصلى وأمره أن يصلى معه فعلمه الوضوء والصلاة الحديث
وقوله فعلمه الوضوء يحتمل أن يكون بفعله المذكور ويحتمل أن يكون علمه بقوله افعل كذا في وضوئك وصلاتك ويدل للأول ما سيأتي
وفيه أن قول جبريل المذكور إنما كان عند أمره بإظهار الدعوة والمفاجأة بها إلى الله تعالى بعد فترة الوحي كما سيأتي فالجمع بينه وبين قوله ثم ضرب برجله الأرض إلى آخره لا يحسن لأنه سيأتي أن ذلك كان في يوم نزوله له { اقرأ باسم ربك } ولعله من تصرف بعض الرواة والله أعلم
فعن ابن إسحاق حدثني بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على النبي صلى الله عليه وسلم أي قبل الإسراء أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل و رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ليريه كيف الطهور أي الوضوء للصلاة أي فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه وغسل رجليه إلى الكعبين كما في بعض الروايات أي وفي رواية فغسل كفيه ثلاثا ثم تمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثم غسل يديه إلى المرفقين ثم مسح رأسه ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ مثل وضوئه
أقول وبهذه الرواية يرد قول بعضهم إن النبي صلى الله عليه وسلم زاد في الوضوء التسمية وغسل الكفين والمضمضة والإستنشاق ومسح جميع الرأس والتخليل ومسح الأذنين والتثليث إلا أن يقال مراد هذا البعض أن ما ذكر زاده على ما في الآية وفي كلام بعضهم كانت العرب في الجاهلية يغتسلون من الجنابة ويداومون على المضمضة والإستنشاق والسواك والله أعلم
ثم قام جبريل فصلى به صلى الله عليه وسلم ركعتين يحتمل أن تلك الصلاة كانت بالغداة قبل طلوع الشمس ويحتمل أنها كانت بالعشي أي قبل غروب الشمس وفي الإمتاع وإنما كانت الصلاة قبل الإسراء صلاة بالعشي أي قبل غروب الشمس ثم صارت صلاة بالغداة وصلاة بالعشي ركعتين أي ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى والعشى هو العصر
ففي كلام بعض أهل اللغة العصر والعشاء والعصران الغداة والعشى وكانت صلاته
صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة واستقبل الحجر الأسود أي جعل الحجر الأسود قبالته وهذا يدل على أنه لم يستقبل في تلك الصلاة بيت المقدس لأنه لا يكون مستقبلا لبيت المقدس إلا إذا صلى بين الركنين الأسود واليماني كما كان يفعل بعد فرض الصلوات الخمس وهو بمكة كما سيأتي أنه كان يصلي بين الركنين الركن اليماني والحجر الأسود ويجعل الكعبة بينه وبين الشام أي بينه وبين بيت المقدس أي صخرته إلا أن يقال يجوز أن يكون عند صلاته إلى الكعبة كان بينهما إلا أنه كان إلى الحجر الأسود أقرب منه إلى اليماني فقيل استقبل الحجر الأسود فلا مخالفة لكن سيأتي ما قد يفيد أنه لم يستقبل بيت المقدس إلا في الصلوات الخمس أي بعد الإسراء وقبل ذلك كان يستقبل الكعبة إلى أي جهة من جهاتها ولما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة جبريل قال جبريل هكذا الصلاة يا محمد ثم انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة وأخبرها فغشي عليها من الفرح فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه حبريل فتوضأت كما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صلى به جبريل عليه الصلاة والسلام
وفي سيرة الحافظ الدمياطي ما يفيد أن ذلك كان في يوم نزول جبريل عليه الصلاة والسلام له ب { اقرأ باسم ربك } حيث قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين وصلى فيه وصلت خديجة آخر يوم الإثنين ويوافقه ظاهر ما جاء أتاني جبريل في أول ما أوحى إلي فعلمني الوضوء والصلاة فلما فرغ الوضوء أخذ غرفة من الماء فنضح بها فرجه أي رش بها فرجه أي محل الفرج من الإنسان بناء على أنه لا فرج له وكون الملك لا فرج له لو تصور بصورة الإنسان استدل عليه بأنه ليس ذكر أو لا أنثى وفيه نظر لأنه يجوز أن يكون له آلة ليست كآلة الذكر ولا كآلة الأنثى كما قيل بذلك في الخنثى ويقال لذلك فرج
وبعض شراح الحديث حمل الفرج على ما يقابل الفرج من الإزار وبذلك استدل أئمتنا على أنه يستحب لمن استنجى بالماء أن يأخذ بعض الإستنجاء كفا من ماء ويرش في ثيابه التي تحاذى فرجه حتى إذا خيل له أن شيئا خرج ووجد بلللا قدر أنه من ذلك الماء ولعل هذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم علمني جبريل الوضوء وأمرني أن أنضح تحت ثوبي مما يخرج من البول بعد الوضوء أي دفعا لتوهم خروج شيء من البول بعد الوضوء لو وجد بلل بالمحل
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان ينضح سراويله حتى يبلها وما جاء أنه لما أقرأه باسم ربك قا له جبريل انزل عن الجبل فنزل معه إلى قرار الأرض قال فأجلسني عن درنوك بالدال المهملة والراء والنون أي وهو نوع من البسط ذو خمل ثم ضرب برجله الأرض فنبعت عين ماء فتوضأ منها جبريل الحديث فمشروعية الوضوء كانت مع مشروعية الصلاة التي هي غير الخمس وإن ذلك كان في يوم نزول جبريل باقرأ وهو مخالف لقول ابن حزم لم يشرع الوضوء إلا بالمدينة
ومما يرد ما قاله ابن حزم نقل ابن عبدالبر اتفاق أهل السير على أنه لم يصل صلى الله عليه وسلم قط إلا بوضوء قال وهذا مما لا يجهله عالم هذا كلامه إلا أن يقال مراد ابن حزم أنه لم يشرع وجوبا إلا في المدينة وهو الموافق لقول بعض المالكية إنه كان قبل الهجرة مندوبا أي وإنما وجب بالمدينة بآية المائدة { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم } الآية
ويرده ما في الإتقان أن هذه الآية مما تأخر نزوله عن حكمه يعنى قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } إلى قوله { لعلكم تشكرون } فالآية مدنية إجماعا وفرض الوضوء كان بمكة مع فرض الصلاة أي فالوضوء على هذا مكي بالفرض مدني بالتلاوة
قال والحكمة في ذلك أي في نزول الآية بعد تقدم العمل لما يدل عليه أن تكون قرآنيته متلوة هذا كلامه
وقوله مع فرض الصلاة يحتمل أن المراد صلاة الركعتين بناء على أنهما كانتا واجبتين عليه صلى الله عليه وسلم وهو الموافق لما تقدم عن ابن إسحاق ويحتمل أن المراد الصلاة الخمس أي ليلة الإسراء وهو الموافق لما اقتصر عليه شيخنا الشمس الرملي حيث قال وكان فرضه مع فرض الصلاة قبل الهجرة بسنة هذا كلامه وحينئذ يكون قبل ذلك مندوبا حتى في صلاة الليل
وقول صاحب المواهب ما ذكر من أن جبريل عليه الصلاة والسلام علمه الوضوء وأمره به يدل على أن فرضية الوضوء كانت قبل الإسراء فيه نظر ظاهر إذ لا دلالة في ذلك على الفرضية إذ يحتمل أي يكون اللفظ الصادر من جبريل له أمرتك أن تفعل كفعلي وصيغة أمره مشتركة بين الوجوب والندب
وذكر بعضهم أن الغرض من نزول آية المائدة بيان أن من لم يقدر على الوضوء والغسل لمرض أو لعدم الماء يباح له التيمم أي ففرضية الوضوء والغسل سابقة على نزولها ويؤيد ذلك قول عائشة رضي الله تعالى عنها في الآية فانزل الله تعالى آية التيمم ولم تقل آية الوضوء وهي هي لأن الوضوء كان مفروضا قبل أن توجد تلك الآية ويوافقه ما ذكره ابن عبد البر من اتفاق أهل السير على أن الغسل من الجنابة فرض عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ما يقتضى أن فرض الغسل كان مع فرض الصلوات ليلة الإسراء فقد جاء عنه كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرات فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعل الصلاة خمسا والغسل من الجنابة مرة قال بعض فقهائنا رواه أبو داود ولم يضعفه وهو إما صحيح أو حسن قال ذلك البعض ويجوز أن يكون المراد بها أي الغرض من نزولها فرض غسل الرجلين في قراءة من قرأ { وأرجلكم } بالنصب فإن حديث جبريل ليس فيه إلا مسحهما أي وهو أن جبريل أول ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي توضأ فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح رأسه ورجليه إلى الكعبين وسجد سجدتين أي ركع ركعتين مواجهة البيت ففعل النبي صلى الله عليه وسلم كما يرى جبرل يفعله هذا كلامه وفيه نظر لأن أكثر الروايات وغسل رجليه كما تقدم فرجليه في هذه الرواية معطوفة على وجهه كما أن أرجلكم في الآية على قراءة الجر معطوفة على الوجوه وإنما جر للمجاورة وإن كان الجر للمجاورة في غير النعت قليلا أو عبر عن الغسل الخفيف بالمسح
وفي كلام الشيخ محيى الدين مسح الرجلين في الوضوء بظاهر الكتاب وغسلهما بالسنة المبينة للكتاب قال ويحتمل العدول عن الظاهر بناء على أن المسح فيه يقال للغسل فيكون من الألفاظ المترادفة وفتح أرجلكم لايخرجها عن الممسوح فإن هذه الواو قد تكون واو المعية
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة أي عملا بظاهر قوله تعالى { إذا قمتم إلى الصلاة } الآية فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد فقال له سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال عمدا فعلته
يا عمر أي للإشارة إلى جواز الإقتصار على وضوء واحد للصلوات الخمس وجواز ذلك ظاهر في نسخ وجوب الوضوء عليه لكل صلاة ويوافقه قول بعضهم قيل كان ذلك الوضوء لكل صلاة واجبا عليه ثم نسخ هذا كلامه أي ويؤيده ذلك ظاهر ما جاء أنه أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر فلما شق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم وضع عنه الوضوء إلا من حدث أي ويكون وقت المشقة يوم فتح مكة لما علمت أنه لم يترك الوضوء لكل صلاة إلا حينئذ وهذا السياق يدل على أن وجوب الوضوء لكل صلاة كان من خصوصياته صلى الله عليه وسلم
ويدل لذلك ما روى عن أنس رضي الله تعالى عنه كان رسول الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة قيل لهم كيف تصنعون أي هل كنتم تفعلون كفعله صلى الله عليه وسلم قال يجزى أحدنا الوضوء ما لم يحدث أي فوجب الوضوء لكل صلاة كان من خصوصياته صلى الله عليه وسلم وذكر فقهاؤنا أن الغسل كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم لكل صلاة فنسخ بالنسبة للحدث الأصغر تخفيفا فصار الوضوء بدلا عنه ثم نسخ الوضوء لكل صلاة فظاهر سياقهم يقتضى أن وجوب الغسل ثم الوضوء لكل صلاة كان عاما في حقه صلى الله عليه وسلم وحق أمته ويحتاج إلى بيان وقت نسخ وجوب الغسل في حقه صلى الله عليه وسلم وحق أمته وبيان وقت نسخ وجوب الوضوء لكل صلاة في حق الأمة ومنه يعلم أن نسخ وجوب الوضوء لكل صلاة يكون بالنسبة للأمة ثم بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا يشكل قول فقهائنا الآية تقتضي وجوب الطهر بالماء أو التراب لكل صلاة خرج الوضوء بالسنة أي بماتقدم من فعله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وبتجويزه صلى الله عليه وسلم للأمة أن يصلى الواحد منهم الصلوات بوضوء واحد وبقى التيمم على مقتضى الآية فقد وقع النسخ أولا بالنسبة للأمة ثم ثانيا بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم ولعل وجوب الغسل لكل صلاة كان بوحي غير قرآن أو بإجتهاد
ولا يخفى أن كون ظاهر الآية يقتضى وجوب الوضوء والتيمم لكل صلاة إنما هو بقطع النظر عما نقله إمامنا رضي الله تعالى عنه عن زيد بن أسلم أن الآية فيها تقديم وحذف وأن التقدير { إذا قمتم إلى الصلاة } من النوم { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء } { فاغسلوا وجوهكم } الآية والله أعلم
وعن مقاتل بن سليمان فرض الله تعالى في أول الإسلام الصلاة ركعتين بالغداة أي قبل طلوع الشمس وركعتين بالعشى أي قبل غروب الشمس
أقول إن كان المراد بأول الإسلام نزول جبريل عليه بأقرأ يرد ما تقدم عن الإمتاع أن أول ما وجب ركعتان بالعشي ثم صارت صلاة بالغداة وصلاة بالعشي ركعتين إلا أن يراد الأولية الإضافية
وفي بعض الأحاديث ما يدل على أن وجوب الركعتين كان خاصا به صلى الله عليه وسلم دون أمته
منها قوله صلى الله عليه وسلم أول ما افترض الله على أمتي الصلوات الخمس وفيه أنه افترض عليها قبل ذلك صلاة الليل ثم نسخ بالصلوات الخمس
وفي الإمتاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الكعبة أول النهار فيصلى صلاة الضحى وكانت صلاة لا تنكرها قريش وكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فرادى ومثنى أي فيصلون صلاة العشي وكانوا يصلون الضحى والعصر ثم نزلت الصلوات الخمس هذا كلامه وهو يفيد أن الركعتين الأوليين كان يصليهما وقت الضحى لا قبل الشمس فليتأمل والله أعلم ثم فرضت الخمس ليلة المعراج
وذهب جمع إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة أي لا عليه ولا على أمته إلا ما وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد أي بقوله تعالى { فاقرؤوا ما تيسر } أي صلوا
أقول وهو الناسخ لما وجب قبل ذلك من التحديد في أول السورة الحاصل بقوله { قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه } وقد نسخ قيام الليل بالصلوات الخمس ليلة الإسراء ولم يذكر أئمتنا وجوب صلاة الركعتين عليه صلى الله عليه وسلم بل قالوا أول ما فرض عليه الإنذار والدعاء إلى التوحيد ثم فرض عليه قيام الليل المذكور في أول سورة المزمل ثم نسخ بما في آخرها ثم نسخ بالصلوات الخمس وهو مخالف لما تقدم عن ابن إسحاق من وجوب صلاة الركعتين عليه ويوافقه قول ابن كثير في قولهم ماتت خديجة قبل أن تفرض الصلوات مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء
قال بعضهم وإنما قال ذلك لأن أصل الصلاة في حياة خديجة الركعتين بالغداة والركعتين بالعشي
وفي كلام ابن حجر الهيتمي لم يكلف الناس إلا بالتوحيد فقط ثم استمر على ذلك مدة مديدة ثم فرض عليهم من الصلاة ما ذكر في سورة المزمل ثم نسخ ذلك كله بالصلوات الخمس ثم لم تكثر الفرائض وتتابع إلا بالمدينة ولما ظهر الإسلام وتمكن في القلوب وكان كلما زاد ظهورا وتمكن ازدادت الفرائض وتتابعت هذا كلامه
ولم أقف على ما كان يقرأ في صلاة الركعتين قبل فترة الوحي وبعدها وقبل نزول الفاتحة بناء على تأخر نزولها عن ذلك كما هو الراجح ثم رأيته في الإتقان ذكر أن جبريل حين حولت القبلة أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفاتحة ركن في الصلاة كما كانت بمكة هذا كلامه وينبغى حمله على الصلوات الخمس وحينئذ يكون ما تقدم من قول بعضهم لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة محمولا على ذلك أيضا وقد تقدم ذلك والله أعلم & باب ذكر أول الناس إيمانا به صلى الله عليه وسلم
أي بعد البعثة أي الرسالة وهي المرادة عند الإطلاق بناء على أنها مقارنة للنبوة
لا يخفى أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث أخفى أمره وجعل يدعو إلى الله سرا وابتعه ناس عامتهم ضعفاء من الرجال والنساء وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم إن هذا الدين بدا غريبا وسيعود كما بدا فطوبى للغرباء ولا يخفى أن أهل الأثر وعلماء السير على أن أول الناس إيمانا به صلى الله عليه وسلم على الإطلاق خديجة رضي الله تعالى عنها
أقول نقل الثعلبي المفسر إتفاق العلماء عليه وقال النووي إنه الصواب عند جماعة من المحققين وقال ابن الأثير خديجة أول خلق الله تعالى أسلم بإجماع المسلمين لم يتقدمها رجل ولا امرأة
وفيه أن بناته الأربع كن موجودا عند البعثة ويبعد تأخر إيمانهن إلا أن يقال خديجة تقدم لها إشراك بخلافهن أخذا مما يأتي
وعن ابن إسحاق أن خدجة كانت أول من آمن بالله ورسوله وصدقت ما جاء به عن الله تعالى وكان لا يسمع شيئا يكرهه من قومه إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها فأخبرها به
ثم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ففي المرفوع عن سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أول هذه الأمة ورودا على الحوض أولها إسلاما علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وجاء أنه لما زوجه فاطمة قال لها زوجتك سيدا في الدنيا والآخرة وإنه لأول صحابي إسلاما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما وكان لم يبلغ الحلم كما سيأتي حكاية الإجماع عليه كان سنه ثمان سنين وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه يطعمه ويقوم بأمره لأن قريشا كان أصابهم قحط شديد وكان أبو طالب كثير العيال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال والناس فيما ترى من الشدة فانطلق بنا إليه فلنخفف من عياله تأخذ واحدا وأنا واحدا فجاءا إليه وقالا إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما أبو طالب إذا تركتما لي عقيلا قيل وطالبا فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله تعالى عنه فضمه إليه وأخذه العباس جعفرا فضمه إليه وتركا له عقيلا وطالبا فلم يزل علي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي خصائص العشرة للزمخشري أن النبي صل الله عليه وسلم تولى تسميته بعلي وتغذيته أياما من ريقه المبارك بمصه لسانه فعن فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله تعالى عنها أنا قالت لما ولدته سماه عليا وبصق في فيه ثم إنه ألقمه لسانه فما زال يمصه حتى نام قالت فلما كان من الغد طلبنا له مرضعة فلم يقبل ثدي أحد فدعونا له محمدا صلى الله عليه وسلم فألقمه لسانه فنام فكان كذلك ما شاء الله عز وجل هذا كلامه فليتأمل
وعنها رضي الله تعالى عنها أنها في الجاهلية أرادت أن تسجد لهبل وهي حامل بعلي فتقوس في بطنها فمنعها من ذلك وكان علي رضي الله تعالى عنه أصغر إخوته فكان بينه وبين أخيه جعفر عشر سنين وبين جعفر وبين أخيه عقيل كذلك وبين عقيل وأخيه طالب ذلك أيضا فكل أكبر من الذي بعده بعشر سنين فأكبرهم طالب ثم عقيل ثم جعفر ثم علي أي وكلهم أسلموا إلا طالبا فإنه اختطفته الجن فذهب ولم يعلم إسلامه
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لعقيل لما أسلم يا أبا يزيد إني أحبك حبين حبا لقرابتك مني وحبا لما كنت أعلم لحب عمي إياك
وكان عقيل أسرع الناس جوابا وأبلغهم في ذلك قال له معاوية يوما أين ترى عمك أبا لهب من النار فقال إذا دخلتها يا معاوية فهو على يسارك مفترضا عمتك حمالة الحطب والراكب خير من المركوب
ولما وفد على معاوية وقد غضب من أخيه علي لما طلب منه عطاءه وقال له اصبر حتى يخرج عطاؤك مع المسلمين فأعطيك فقال له لأذهبن إلى رجل هو أوصل إلى منك فذهب إلى معاوية فأعطاه مائة ألف درهم ثم قال له معاوية اصعد المنبر فاذكر ما أولاك علي وما أوليتك فصعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إني أخبركم أني أردت عليا على دينه فاختار دينه وإني أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه وفي رواية أن معاوية قال لجماعة يوما بحضرة عقيل هذا أبو يزيد يعنى عقيلا لولا علمه بأني خير له من أخيه لما أقام عندنا وتركه فقال عقيل أخي خير لي في ديني وأنت خير لي في دنياي وأسأل الله تعالى خاتمه الخير توفى عقيل في خلافة معاوية
قال وسبب إسلام على كرم الله وجهه أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه خديجة وهما يصليان سرا فقال ماهذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دين الله الذي اصطفاه لنفسه وبعث به رسله فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وإلى الكفر باللات والعزى فقال علي هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم فلست بقاض أمرا حتى أحدث أبا طالب وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره فقال له يا علي إذا لم تسلم فاكتم هذا فمكث ليلته ثم إن الله تبارك وتعالى هداه للإسلام فأصبح غاديا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم اه
أقول وذلك في اليوم الثاني من صلاته صلى الله عليه وسلم هو وخديجة وهو يوم الثلاثاء كما في سيرة الدمياطي أي لأنه تقدم أن صلاته صلى الله عليه وسلم مع خديجة كانت آخر يوم الإثنين وهذا إنما يأتي على القول بأن النبوة والرسالة تقارنتا لا على أن الرسالة تأخرت عن النبوة وأن بينهما فترة الوحي على ما تقدم
وفي أسد الغابة أن أبا طالب رأى النبي صلى الله عليه وسلم وعليا يصليان وعلي على يمينه فقال لجعفر رضي الله الله تعالى عنه صل جناح ابن عمك فصلى عن يساره وكان إسلام جعفر بعد إسلام أخيه علي بقليل قال بعضهم وإنما صح إسلام علي أي مع أنهم أجمعوا على أنه لم يكن بلغ الحلم أي ومن ثم نقل عنه أنه قال
** سبقتكمو إلى الإسلام طرا ** صغيرا ما بلغت أوان حملي **
أي كان عمره ثمان سنين على ما سبق لأن الصبيان كانوا إذ ذاك مكلفين لأن القلم إنما رفع عن الصبي عام خيبر
وعن البيهقي أن الأحكام إنما تعلقت بالبلوغ في عام الخندق وفي لفظ في عام الحديبية وكانت قبل ذلك منوطة بالتمييز
هذا وقد ذكر أنه لم يحفظ عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال شعرا وقيل لم يقل إلا بيتين أي ولعل أحدهما ما تقدم ثم رأيت عن القاموس أن البيتين هما قوله ** تلكم قريش تمنانى لتقتلني ** فلا وربك ما بروا ولا ظفروا ** ** فإن هلكت فرهن مهجتي لهمو ** بذات ودقين لا تبقى ولا تذر **
وذات ودقين هي الداهية وقد ذكر أن الزبير بن العوام أسلم وهو ابن ثمان سنين وقيل ابن خمس عشرة سنة وقيل ابن اثنتي عشرة سنة وقيل ابن ست عشرة سنة
ومما يدل للأول ما جاء عن بعضهم كان علي والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص ولدوا في عام واحد
ومن العجب أن الزمخشري في خصائص العشرة اقتصر على أن سن الزبير حين أسلم ست عشرة سنة وذكر بعد ذلك بأسطر أنه أول من سل سيفا في سبيل الله وهو ابن اثنتي عشرة سنة مقتصرا على ذلك
ومما يدل للأول أيضا ما جاء في كلام بعض آخر أسلم علي بن أبي طالب والزبير ابن العوام وهما ابنا ثمان سنين وإجماعهم على أن عليا لم يكن بلغ الحلم يرد القول بأن عمره كان إذ ذاك عشر سنين أي بناء على أن سن إمكان الإحتلام تسع سنين كما تقول به أئمتنا
ويوافقه ما حكاه بعضهم أن الراشد بالله وهو الحادي والثلاثون من خلفاء بني العباس لما كان عمره تسع سنين وطئ جارية حبشية فحملت منه فولدت ولدا حسنا ويرد القول بأن سنه إذا ذاك كان ثلاث عشرة أو خمس عشرة أو ست عشرة سنة
أقول قال بعض متأخري أصحابنا وإنما صحت عبادة الصبي المميز ولم يصح إسلامه لأن عبادته نفل والإسلام لا يتنفل به وعلى هذا مع ما تقدم يشكل ما في الإمتاع وأما
على بن أبي طالب فلم يكن مشركا بالله أبدا لأنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفالته كأحد أولاده يتبعه في جميع أموره فلم يحتج أن يدعى للإسلام فيقال أسلم هذا كلامه فليتأمل فإن عليا كان تابعا لأبيه في دينه ولم يكن تابعا له صلى الله عليه وسلم كأولاده
وقوله فلم يحتج أن يدعى للإسلام يرده ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم له أدعوك إلى الله وحده إلى آخره
ثم رأيت في الحديث ما يدل لما في الإمتاع وهو ثلاثة ما كفروا بالله قط مؤمن آل يس وعلي بن أبي طالب وآسية أمرأة فرعون
والذي في العرائس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين حزقيل مؤمن آل فرعون وحبيب النجار صاحب يس وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم وهو أفضلهم إلا أن يراد بعدم كفرهم أنهم لم يسجدوا لصنم وفيه أنه قد يخالف ذلك قوله صلى الله عليه وسلم له وأدعوك إلى الكفر باللات والعزى وأنه قيل أيضا إن أبا بكر لم يسجد لصنم قط
وقد عد ابن الجوزي من رفض عبادة الأصنام الجاهلية أي لم يأت بها أبا بكر الصديق وزيد بن عمرو بن نفيل وعبيدالله بن جحش وعثمان بن الحويرث وورقة بن نوفل ورباب بن البراء وأسعد بن كريب الحميري وقس بن ساعدة الإيادي وأبا قيس ابن صرمة ولا يخفى أن عدم السجود للأصنام لا ينافي الحكم بالكفر على من لم يسجد لها لكن في كلام السبكي الصواب أن يقال الصديق لم يثبت عنه حال كفر بالله تعالى فلعل حاله قبل البعث كحال زيد بن عمرو بن نفيل وأضرابه فلذلك خص الصديق بالذكر عن غيره من الصحابة هذا كلامه وهو واضح إذا لم يكن أحد من جميع من ذكر أسلم
وفي كلام الحافظ ابن كثير الظاهر أن أهل بيته صلى الله عليه وسلم آمنوا قبل كل أحد خديجة وزيد وزوجة زيد أم أيمن وعلي رضي الله تعالى عنهم فليتأمل قوله آمنوا قبل كل أحد وكذا يتأمل قول ابن إسحاق أما بناته صلى الله عليه وسلم فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن
وعن ابن إسحاق ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا
حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه على مستخفيا من قومه فيصليان فيهما فإذا أمسيا رجعا كذلك ثم إن أبا طالب عثر أي اطلع عليهما يوما وهما يصليان أي بنخلة المحل المعروف فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا ابن أخي ما هذا الذي أراك تدين به فقال هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين أبينا إبراهيم بعثني الله به رسولا إلى العباد وأنت أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني إلى الله تعالى وأعانني عليه فقال أبو طالب إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه وفي رواية انه قال له ما بالذي تقول من بأس ولكن والله لا تعلوني أستى أبدا وهذا كما لا يخفى ينبغي أن يكون صدر منه قبل ما تقدم من قوله لإبنه جعفر صل جناح ابن عمك وصل على يساره لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وعليا علي يمينه لكن يروى أن عليا رضي الله تعالى عنه ضحك يوما وهو على المنبر فسئل عن ذلك فقال تذكرت أبا طالب حين فرضت الصلاة ورآني أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة فقال ما هذا الفعل الذي أرى فلما أخبرناه قال هذا حسن ولكن لا أفعله أبدا إني لا أحب أن تعلوني أستى فلما تذكرت الآن قوله ضحكت وقوله حين فرضت الصلاة يعني الركعتين بالغداة والركعتين بالعشي وهذا يؤيد القول بأن ذلك كان واجبا
وذكر أن أبا طالب قال لعلي أي بني ما هذا الذي أنت عليه فقال يا أبت آمنت بالله ورسوله وصدقت ما جاء به ودخلت معه واتبعته فقال له أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه
أي ويذكر أنه كان يقول إني لأعلم أن ما يقوله ابن أخي لحق ولولا أني أخاف أن تعيرني نساء قريش لأتبعته
وعن عفيف الكندي رضي الله تعالى عنه قال كنت امرأ تاجرا قدمت للحج وأتيت العباس بن عبدالمطلب لأبتاع منه بعض التجارة وكان العباس لي صديقا وكان يختلف إلى اليمن يشتري العطر ويبيعه أيام الموسم فبينما أنا عند العباس بمنى أي وفي لفظ بمكة في المسجد إذا رجل مجتمع أي بلغ أشده خرج من خباء قريب منه فنظر إلى الشمس فلما رآها مالت توضأ فأسبع الوضوء أي أكمله ثم قام يصلى أي إلى الكعبة كما في بعض الروايات ثم خرج غلام مراهق أي قارب البلوع فتوضأ ثم قام إلى جنبه
يصلي ثم جاءت امرأة من ذلك الخباء فقامت خلفهما ثم ركع الرجل وركع الغلام وركعت المرأة ثم خر الرجل ساجدا وخر الغلام وخرت المرأة فقلت ويحك يا عباس ما هذا الدين فقال هذا دين محمد بن عبدالله أخي يزعم أن الله بعثه رسولا وهذا ابن أخي علي بن أبي طالب وهذه امرأته خديجة قال عفيف بعد أن أسلم يا ليتني كنت رابعا أي ولعل زيد بن حارثة لم يكن موجودا عندهم في ذلك الوقت فلا ينافي أنه كان يصلي معهم أو أن ذلك كان قبل إسلامه لأنه سيأتي قريبا أن إسلامه بعد إسلام علي وكذا أبو بكر لم يكن موجودا عندهم بناء على أن إسلامه كان قبل إسلام علي ويؤيده ما قيل أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر لكن في الإستيعاب لإبن عبد البر أن العباس قال لعفيف الكندي لما قال له ما هذا الذي يصنع قال يصلى وهو يزعم أنه نبي ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الغلام
وفيه أن عليا قال لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة خمس سنين أي ولعل المراد أنه عبده بغير الصلاة
وقوله في هذا الحديث فنظر إلى الشمس فلما رآها مالت توضأ وصلى قد يخالف ما تقدم من أن فرض الصلاة كان ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي قبل غروب الشمس فقط
أقول قد يقال لامخالفة لأنه يجوز أن تكون صلاته في الوقت ليست مما فرض عليه والجماعة في ذلك جائزة وقد فعلها صلى الله عليه وسلم في النفل المطلق وهذا يدل على أن الجماعة كانت مشروعة بمكة حتى في صدر الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس
وفي كلام بعض فقهائنا أنها لم تشرع إلا في المدينة دون مكة لقهر الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلا أن يقال المراد بمشروعيتها طلبها فكانت في المدينة مطلوبة استحبابا أو وجوبا كفاية أو عينا على الخلاف عندنا في ذلك وفي مكة كانت مباحة لكن في كلام بعض آخر من فقهائنا أن الجماعة لم تفعل بمكة لقهر الصحابة وفيه أن القهر إنما ينافى إظهار الجماعة لا فعلها إلا أن يقال تركت حسما للباب وفيه أنه يبعد تركها وهم مستخفون في دار الأرقم فليتأمل والله أعلم
ثم بعد إسلام علي رضي الله تعالى عنه أسلم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم زيد بن حارثة بن شرحبيل
وقال ابن هشام شرحبيل مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له خديجة أي لما تزوجها صلى الله عليه وسلم أي وكان اشتراه لها ابن أخيها حكيم بن حزام ممن سباه من الجاهلية أي فإن عمته خديجة أمرته أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا فلما قدم سوق عكاظ وجد زيدا يباع أي وعمره ثمان سنين فإنه أسر من عند أخواله طى وعليه اقتصر السهيلي
فإن أمه لما خرجت به لتزيره أهلها فأصابته خيل فباعوه فاشتراه أي وقيل اشتراه من سوق حباشنة بأربعمائة درهم ويقال بستمائة درهم فلما رأته خديجة أعجبها فأخذته أي ولعل هذا مراد من قال فباعه من عمته خديجة أي اشتراه لها فلما تزوجها صلى الله عليه وسلم وهو عندها أعجب به فاستوهبه منها فوهبته له فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبناه قبل الوحي
أي وقيل اشتراه صلى الله عليه وسلم لها فإنه جاء إلى خديجة فقال رأيت غلاما بالبطحاء قد أوقفوه ليبيعوه ولو كان لي ثمنه لأشتريته قالت وكم ثمنه قال سبعمائة درهم قالت خذ سبعمائة درهم فاذهب فاشتره فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء به إليها وقال إنه لو كان لي لأعتقته قالت هو لك فأعتقه وقيل بل اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشام لخديجة حيث توجه مع ميسرة فوهبته له فليتأمل ذلك
وزعم أبو عبيدة أن زيد بن حارثة لم يكن أسمه زيدا ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سماه بذلك باسم جده قصي حين تبناه
ثم إنه خرج في إبل لأبي طالب إلى الشام فمر بأرض قومه فعرفه عمه فقام إليه وقال من أنت يا غلام قال غلام من أهل مكة قال من أنفسهم قال لا قال فحر أنت أم مملوك قال مملوك قال عربي أنت أم أعجمي قال بل عربي قال من أهلك قال من كلب قال من أي كلب قال من بني عبد ود قال ويحك ابن من أنت قال ابن حارثة بن شرحبيل قال وأين أصبت قال في أخوالي قال ومن أخوالك قال طي قال ما اسم أمك قال سعدى فالتزمه وقال ابن حارثة
ودعا أباه فقال يا حارثة هذا ابنك فأتاه حارثة فلما نظر إليه عرفه قال كيف صنع مولاك إليك قال يؤثرني على أهله وولده ورزقت منه حبا فلا أصنع إلا ما شئت فركب معه أبوه وعمه وأخوه
وفي رواية أن ناسا من قومه حجوا فرأوا زيدا فعرفوه وعرفهم فانطلقوا وأعلموا أباه ووصفوا له مكانه فجاء أبوه وعمه
وقد يقال لا مخالفة لجواز أن يكون إجتماعه بعمه وأبيه كان بعد إخبار أولئك الناس فلما جاء أهله في طلبه ليفدوه خيره النبي صلى الله عليه وسلم بين المكث عنده والرجوع إلى أهله فاختار المكث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقد ذكر أنهم لما جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم قالوا يابن عبد المطلب يابن سيد قومه أي وفي لفظ لما قدم أبوه وعمه في فدائه سألا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل هو في المسجد فدخلا عليه فقالا يابن عبدالمطلب يا بن هاشم يا ابن سيد قومه أنتم أهل حرم الله وجيرانه تفكون الأسير العاني وتطعمون الجائع جئناك في ولدنا عندك فامنن علينا وأحسن في فدائه فإنا سندفع لك فقال وما ذاك قال زيد بن حارثة فقال أو غير ذلك قالوا وما هو قال ادعوه فخيروه فإن اختاركم فهو لكم من غير فداء وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على الذي اختارني فداء فقالوا زدت على النصف وفي لفظ زدتنا على النصف وأحسنت فدعاه فقال تعرف هؤلاء قال نعم أبي وعمي ولعل سكوته عن أخيه لإستصغاره بالنسبة لأبيه وعمه على أن أكثر الروايات الإقتصار على مجئ أبيه وعمه
وفي كلام السهيلي أن زيدا لما جاء قال صلى الله عليه وسلم له من هذان فقال هذا أبي حارثة بن شرحبيل وهذا كعب بن شرحبيل عمي فعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم له أنا من علمت وقد رأيت صحبتي لك فاخترني أو أخترهما فقال زيد ما أنا بالذي أختار عليك أحدا أنت مني مكان الأب والعم فقالا ويحك يا زيد تختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك قال نعم ما أنا بالذي أختار عليه أحدا فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ما رأى أخرجه إلى الحجر أي الذي هو محل جلوس قريش فقال إن زيدا ابني أرثه ويرثني فطابت أنفسهما وانصرفا
وفي كلام ابن عبدالبر أنه حين تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سنة ثمان
سنين وأنه حين تبناه طاف به على حلق قريش يقول هذا ابني وارثا وموروثا ويشهدهم على ذلك وكان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول دمى دمك وهدمي هدمك وثأري ثأرك وحربي حربك وسلمى سلمك ترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عني وأعقل عنك فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف أي من حالفه فنسخ ذلك وهذا الذي ذكره ابن عبدالبر من أنه صلى الله عليه وسلم حين تبناه كان عمره ثمان سنين يدل على أن ذلك كان عقب ملكه صلى الله عليه وسلم له قبل الوحي وأن ذلك كان قبل مجئ أبيه وعمه وحينئذ يكون عتقه وتبنيه بعد مجئ أبيه وعمه إظهارا لما تقدم فليتأمل
وفي أسد الغابة أن حارثة أسلم وفي كلام بعضهم لم يثبت إسلام حارثة إلا المنذري ولما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا كان يقال له زيد بن محمد ولم يذكر في القرآن من الصحابة أحد بإسمه إلا هو كما سيأتي قال ابن الجوزي إلا ما يروى في بعض التفاسير أن السجل الذي في قوله تعالى { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } اسم رجل كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم
أي وقد أبدى السهيلي حكمة لذكر زيد بإسمه في القرآن وهي أنه لما نزل قوله تعالى { ادعوهم لآبائهم } وصار يقال له زيد بن حارثة ولا يقال له زيد بن محمد ونزع منه هذا التشريف شرفه الله تعالى بذكر اسمه في القرآن دون غيره من الصحابة فصار إسمه يتلى في المحاريب
ولا يخفى أنه يأتي في زيد ما تقدم في علي ولم تذكر في القرآن امرأة بإسمها إلا مريم ولزيد أخ اسمه جبلة أسن منه
سئل جبلة من أكبر أنت أم زيد فقال زيد أكبر مني وأنا ولدت قبله أي لأن زيدا أفضل منه لسبقه للإسلام
ثم أسلم من الصحابة أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال بعضهم في سبب إسلامه إنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر غشيانه في منزله ومحادثته وكان سمع قول ورقة له لما ذهب معه إليه كما تقدم فكان متوقعا لذلك فهو مع حكيم بن حزام في بعض الأيام إذ جاءت مولاة لحكيم وقالت له إن عمتك خديجة تزعم في هذا اليوم أن زوجها نبي مرسل مثل موسى فانسل أبو بكر حتى أتى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن خبره فقص قصته المتضمنة لمجئ الوحي له بالرسالة فقال صدقت بأبي أنت وأمي وأهل الصدق أنت أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فيقال إنه سماه يومئذ الصديق وهذا السياق ربما يدل على أن إسلام أبي بكر تأخر إلى نزل { يا أيها المدثر } بعد فترة الوحي بناء على ما تقدم وكونه سماه يومئذ الصديق لا ينافى ما سيأتي أنه سمى بذلك صبيحة الإسراء لما صدقه وقد كذبته قريش لجواز أنه لم يشتهر بذلك إلا حينئذ
وقد جاء في تفسير قوله تعالى { والذي جاء بالصدق وصدق به } أن الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي صدق به أبو بكر قال ولما سمعت خديجة مقالة أبي بكر خرجت وعليها خمار أحمر فقالت الحمدلله الذي هداك يابن أبي قحافة واسمه عبدالله أي سماه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان اسمه قبل ذلك عبد الكعبة فأبو بكر رضي الله تعالى عنه أول من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه ولقبه عتيق لحسن وجهه أو لأنه عتق من الذم والعيب أي أو نظر إليه صلى الله عليه وسلم فقال هذا عتيق من النار فهو أول لقب وجد في الإسلام
وقيل سمته بذلك أمه لأنه كان لا يعيش لها ولد فلما ولدته استقبلت به الكعبة ثم قالت اللهم هذا عتيقك من الموت فهبه لي فعاش قيل ويدل له ما ذكر بعضهم أن أمه كانت إذا هزته تقول عتيق وما عتيق ذو المنظر الأنيق
وفي كلام ابن حجر الهيتمي وصح أن الملقب له به النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه في بيت عائشة وأنه غلب عليه من يومئذ قال وبه يندفع أن الملقب له أبوه وزعم أنه أمه هذا كلامه وليتأمل قوله في بيت عائشة مع ما تقدم وما في كلامه السهيلي
وقيل وسمى عتيقا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين أسلم أنت عتيق من النار
وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه صدرا معظما في قريش على سعة من المال وكرم الأخلاق من رؤساء قريش ومحط مشورتهم وكان من أعف الناس كان رئيسا مكرما سخيا يبذل المال محببا في قومه حسن المجالسة وكان من أعلم الناس بتعبير الرؤيا ومن ثم قال ابن سيرين وهو المقدم في هذاالعلم اتفاقا كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكان أعلم الناس بأنساب العرب
فقد جاء عن جبير بن مطعم البالغ النهاية في ذلك أنه قال إنما أخذت النسب من أبي بكر لا سيما أنساب قريش فإنه كان أعلم قريش بأنسابها وبما كان فيها من خير وشر وكان لا يعد مساويهم فمن ثم كان محببا فيهم بخلاف عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فإنه كان بعد أبي بكر أعلم قريش بأنسابها وبآبائها وما فيها من خير وشر لكن كان مبغضا إليهم لأنه كان يعد مساويهم وكان عقيل يجلس إليه في المسجد النبوي لأخذ علم الأنساب وأيام العرب ووقائعهم
وفي كلام بعضهم كان أبو بكر عند أهل مكة من خيارهم يستعينون به فيما يأتيهم وكانت له بمكة ضيافات لا يفعلها أحد
قال الزمخشري ولعله كنى بأبي بكر لإبتكاره الخصال الحميدة وكان نقش خاتمه نعم القادر الله وكان نقش خاتم عمر رضي الله تعالى عنه كفى بالموت واعظا يا عمر وكان نقش خاتم عثمان آمنت بالله مخلصا وكان نقش خاتم علي الملك لله وكان نقش خاتم أبي عبيدة بن الجراح الحمد لله
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عند كبوة أي وقفة وتأخر وتردد إلا ما كان من أبي بكر
وفي رواية ما كلمت أحدا في الإسلام إلا أبي علي وراجعني في الكلام إلا ابن أبي قحافة فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله واستقام عليه أي ومن ثم كان أسد الصحابة رأيا وأكملهم عقلا لخبر تمام أتاني جبريل فقال لي إن الله أمرك أن تستشير أبا بكر ونزل فيه وفي عمر { وشاورهم في الأمر } كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه بمكان الوزير من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يشاوره في أموره كلها
وقد جاء إن الله تعالى أيدني بأربعة وزراء أثنين من أهل السماء جبريل ومكائيل واثنين من أهل الأرض أبي بكر وعمر وفي حديث رواته ثقات إن الله يكره أن يخطأ أبو بكر وفي رواية إن الله يكره في السماء أن يخطأ أبو بكر الصديق في الأرض
وجاء الحسن بن علي وهو صغير إلى أبي بكر وهو يخطب على المنبر فقال له انزل عن مجلس أبي فقال مجلس أبيك والله لا مجلس ابي فأجلسه في حجره وبكى فقال علي والله ما هذا عن رأيى فقال والله ما اتهمتك
ووقع نظير ذلك لسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه مع سيدنا الحسين فإنه قال له
وهو يخطب انزل عن منبر أبي فقال له منبر أبيك لا منبر أبي من أمرك بهذا فقام علي فقال له ما أمره بهذا أحد ثم قال للحسين لأوجعنك يا غدر فقال لا توجع ابن أخي صدق منبر أبيه
قال وسبب مبادرته إلى التصديق ما علمه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم وبراهين صدق دعوته قبل دعوته ولرؤيا رآها قبل ذلك رآى القمر نزل إلى مكة فدخل في كل بيت منه شعبة ثم كان جميعه في حجره فقصها على بعض أهل الكتاب فعبرها له بأنه يتبع النبي المنتظر الذي قد ظل زمانه وأنه يكون أسعد الناس به ولعل هذا الذي من أهل الكتاب هو بحيرا فقد رأيت أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه رأى رؤيا فقصها على بحيرا فقال له إن صدقت رؤياك فإنه سيبعث نبي من قومك تكون أنت وزيره في حياته وخليفته بعد مماته
أي وأخرج أبو نعيم عن بعض الصحابة أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة أي علم أنه النبي المنتظر لما مر عن بحيرا الراهب ولما سمعه من شيخ عالم من الأزد قد قرأ الكتب نزل به في اليمن فقال له أحسبك حرميا فقال أبو بكر نعم فقال له أحسبك قرشيا قال نعم فقال له أحسبك تيميا قال نعم قال له بقيت لي فيك واحدة قال وما هي قال له تكشف لي عن بطنك فقال له لا أفعل أو تخبرني لم ذلك فقال أجد في العلم النجيح الصادق أن نبيا يبعث في الحرم يعاون على أمره فتى كهل فأما الفتى فخواص غمرات ودفاع معضلات وأما الكهل فأبيض نحيف على بطنه شامة وعلى فخذه اليسرى علامة أي مع كونه حرميا قرشيا تيميا بدليل قوله أحسبك حرميا أحسبك قرشيا أحسبك تيميا وما عليك أن تريني ما سألتك فقد تكاملت فيك الصفة أي كونه حرميا قرشيا تيميا أبيض نحيفا إلا ما خفى علي فقال أبو بكر فكشفت له عن بطني فرأى شامة بيضاء أو سواداء فوق سرتي أي ورأى العلامة على الفخذ الأيسر فقال أنت هو ورب الكعبة قال أبو بكر فلما قضيت أربى من اليمن أتيته لأودعه فقال أحافظ عني أبياتا من الشعر قلتها في ذلك النبي قلت نعم فذكرله أبياتا قال أبو بكر فقدمت مكة وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم فجاءني صناديد قريش كعقبة بن أبي معيط وشيبة بن ربيعة وأبي جهل وأبي البختري فقالوا يا أبا بكر يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي ولولا إنتظارك ما انتظرنا به فإذا قد جئت فأنت الغاية
والكفاية أي لأن أبا بكر كما تقدم كان صديقا له صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر فصرفتهم على أحسن شيء ثم جئته صلى الله عليه وسلم فقرعت عليه الباب فخرج إلي وقال لي يا أبا بكر إني رسول الله إليك وإلى الناس كلهم فآمن بالله فقلت وما دليلك على ذلك قال الشيخ الذي أفادك الأبيات فقلت ومن أخبرك بهذا يا حبيبي قال الملك العظيم الذي يأتي الأنبياء قبلى قلت مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه فانصرفت وما بين لابتيها أشد سرورا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي وفي لفظ اشد سرورا مني بإسلامي ولا مانع من صدور الأمرين منه رضي الله تعالى عنه
ويحتاج للجمع بين هذا وبين ما تقدم من أنه كان مع حكيم بن حزام يوما إلى آخره على تقدير صحة الروايتين وما جاء من شعر حسان رضي الله تعالى عنه من أن أبا بكر أول الناس إسلاما حيث يقول فيه ** وأول الناس منهم صدق الرسلا **
وأنه صلى الله عليه وسلم سمع ذلك منه ولم ينكره بل قال صدقت بإحسان كما سيأتي عند الكلام على الهجرة وقول بعض الحفاظ إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أول الناس إسلاما هو المشهور عند الجمهور من أهل السنة لا ينافي ما تقدم من أن عليا أول الناس إسلاما بعد خديجة ثم مولاه زيد بن حارثة لأن المراد أول رجل بالغ ليس من الموالي أسلم أبو بكر
أي وعبارة ابن الصلاح والأورع أن يقال أول من أسلم من الرجال الأحرار أي غير الموالي أبو بكر ومن الصبيان علي ومن النساء خديجة ومن الموالي زيد بن حارثة وهذا وما قبله يدل على أن إسلام زيد بن حارثة كان بعد البلوغ وإلا فلا حاجة لزيادة ليس من الموالي تأمل
أو أن مراد من قال إن أبا بكر سبق عليا في الإسلام أي في إظهار الإسلام لأنه حين أسلم أظهر إسلامه بخلاف علي فقد جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه سبقني إلى أربع وعد منها إظهار الإسلام قال وأنا أخفيته ولعله لا ينافي ذلك ما جاء بسند حسن أن أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب لأن ذلك كان عند اختفائه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في دار الأرقم كما سيأتي فالأولية في إظهار الإسلام إضافية
قال ابن كثير وورد عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال أنا أول من أسلم
ولا يصح إسناد ذلك إليه قال وقد روى في هذا المعنى أحاديث أوردها ابن عساكر كثيرة منكرة كلها لا يصح شيء منها هذا كلامه وعلى تقدير صحتها مراده أول من أسلم من الصبيان فالأولية إضافية
ومما يؤثر عن علي رضي الله تعالى عنه لاتكن ممن يرجو بغير عمل ويؤخر التوبة لطول الأمل يحب الصاليحن ولا يعلم بأعمالهم البشاشة فخ المودة والصبر قبر العيوب والغالب بالظلم مغلوب العجب ممن يدعو ويستبطئ الإجابة وقد سد طرقها بالمعاصي
وأول من أسلم من النساء بعد خديجة رضي الله تعالى عنها أم الفضل زوج العباس وأسماء بنت أبي بكر وأم جميل فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب
وينبغي أن تكون أم أيمن سابقة في الإسلام على أم الفضل على ما تقدم وقول السراج البلقيني موافقة للزين العراقي إن أول رجل أسلم ورقة بن نوفل لقوله للنبي صلى الله عليه وسلم أنا أشهد أنك الذي بشر بك عيسى ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى وأنك نبي مرسل قد علمت ما فيه وأنه إنما كان من أهل الفترة كما صرح به الحافظ الذهبي وهو يرد القول المتقدم بأن وفاة ورقة تأخرت عن البعثة فورقة ونحوه كبحيرا ونسطورا من أهل الفترة لا من أهل الإسلام ويؤيده ما تقدم أنه بإجماع المسلمين لم يتقدم خديجة في الإسلام لا رجل ولا امرأة لكن هؤلاء من القسم الذي تمسك بدين قبل نسخه وآمن وصدق بأنه صلى الله عليه وسلم الرسول المنتظر وذلك نافع له في الآخرة ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لما توفى ورقة لقد رأيت القس يعني ورقة في الجنة وعليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني إلى آخر ما تقدم
وعلى تسليم أنه لا يشترط في المسلم أن يؤمن ويصدق برسالته صلى الله عليه وسلم بعد وجودها بل يكفي ولو قبل ذلك فليس ورقة بصحابي لأن الصحابي من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة مؤمنا بما جاء به عن الله تعالى أي محكوما بإيمانه
ومن ثم رد الحافظ الذهبي على ابن منده أي ومن وافقه كالزين العراقي في عده له من الصحابة أي كما عد منهم بحيرا ونسطورا بقوله الأظهر أن من مات بعد النبوة وقبل الرسالة فهو من أهل الفترة هذا كلام الحافظ الذهبي والمراد بالرسالة نزول { يا أيها المدثر } لاإظهارها ونزول قوله تعالى { فاصدع بما تؤمر } بناء على تأخر الرسالة
وحين أسلم ابو بكر رضي الله تعالى عنه دعا إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من وثق به من قومه فأسلم بدعائه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس
أي ولما أسلم عثمان رضي الله تعالى عنه أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية والد مروان فأوثقه كتافا وقال ترغب عن ملة آبائك إلى دين محمد والله لا أحلك أبدا حتى تدع ما أنت عليه فقال عثمان والله لا أدعه أبدا ولا أفارقه فلما رأى الحكم صلابته في الحق تركه وقيل عذبه بالدخان ليرجع فما رجع
وفي كلام ابن الجوزي أن المعذب بالدخان ليرجع عن الإسلام الزبير بن العوام هذا كلامه ولا مانع من تعدد ذلك وجاء لكل نبي رفيق في الجنة ورفيقي فيها عثمان ابن عفان
وأسلم بدعاء أبي بكر أيضا الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه وكان عمره ثمان سنين على ما تقدم وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه أي وكان اسمه في الجاهلية عبد عمر وقيل عبد الكعبة وقيل عبدالحارث فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن قال وكان أمية بن خلف لي صديقا فقال لي يوما أرغبت عن اسم سماك به أبوك فقلت نعم فقال لي إني لاأعرف الرحمن ولكن أسميك بعبد الإله فكان يناديني بذلك
قال وسبب إسلام عبدالرحمن بن عوف ما حدث به قال سافرت إلى اليمن غير مرة وكنت إذا قدمت نزلت على عسكلان بن عواكف الحميري فكان يسألني هل ظهر فيكم رجل له نبأ له ذكر هل خالف أحد منكم عليكم في دينكم فأقول لا حتى كانت السنة التي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت اليمن فنزلت عليه إلى آخر القصة
وعن علي رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعبد الرحمن بن عوف أنت أمين في أهل الأرض أمين في أهل السماء وجاء أنه وصفه بالصادق الصالح البار
وأسلم بدعاية أبي بكر رضي الله تعالى عنه أيضا سعد بن أبي وقاص أي فإن أبا بكر لمادعاه إلى الإسلام لم يبعد وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن أمره فأخبره به فأسلم وكان عمره تسع عشرة سنة وهو رضي الله تعالى عنه من بني زهرة ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم وقد أقبل عليه سعد خالي فليرني امرؤ خاله
وفي كلام السهيلي أنه عم آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم وكرهت أمه إسلامه وكان بارا بها فقالت له ألست تزعم أن الله يأمرك بصلة الرحم وبر الولدين قال فقلت نعم فقالت والله لا أكلت طعاما ولا شربت شرابا حتى تكفر بما جاء به محمد أي وتمس إسافا ونائلة فكانوا يفتحون فاها ثم يلقون فيه الطعام والشراب فأنزل الله تعالى { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما } الآية وفي رواية أنها مكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت وقد خمدت ثم مكثت يوم وليلة لا تأكل ولا تشرب قال سعد فلما رأيت ذلك قلت لها تعلمين والله يا أمه لو كان لك مائة نفس تخرج فسا ما تركت دين هذا النبي صلى الله عليه وسلم فكلي إن شئت أو لا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت
وفي الأنساب للبلاذري عن سعد قال أخبرت أمي أني كنت أصلي العصر أي الركعتين اللتين كانوا يصلونهما بالعشي فجئت فوجدتها على بابها تصيح ألا أعوان يعينوني عليه من عشيرتي أو عشيرتي فأحبسه في بيت وأطبق عليه بابه حتى يموت أو يدع هذا الدين المحدث فرجعت من حيث جئت وقلت لا أعود إليك ولا أقرب منزلك فهجرتها حينا ثم أرسلت إلى أن عد إلى منزلك ولا تتضيفن فيلزمنا عار فرجعت إلى منزلي فمرة تلقاني بالبشر ومرة تلقاني بالشر وتعيرني بأخي عامر وتقول هي البر لا يفارق دينه ولا يكون تابعا فلما أسلم عامر لقى منها مالم يلق أحد من الصياح والأذى حتى هاجر إلى الحبشة ولقد جئت والناس مجتمعون على أمي وعلى أخي عامر فقلت ما شأن الناس فقالوا هذه أمك قد أخذت أخاك عامرا وهي تعطى الله عهدا لا يظلها نخل و لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا حتى يدع صبأته فقلت لها والله يا أمه لا تستظلين ولا تأكلين ولا تشربين حتى تتبوئى مقعدك من النار
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم أمر سعد بن أبي وقاص أن يأتي الحارث بن كلدة طبيب العرب ليستوصفه في مرض نزل بسعد وكان ذلك في حجة الوداع فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود عبدالرحمن بن عوف لمرض نزل به فوجد عند الحارث فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالرحمن إني لأرجو أن يشفيك الله حتى يضر بك قوم وينتفع بك آخرون ثم قال للحارث بن كلدة عالج سعدا مما به وكان سعد بالمجلس فقال والله إني لأرجو شفاءه فيما ينفعه من رجله هل معك من هذه الثمرة العجوة شيء قال نعم فخلط ذلك الثمر بحلبة ثم أوسعها سمنا ثم أحساه إياها فكأنما نشط من عقال وهذا استدل
به على إسلام الحارث بن كلدة لأن حجة الوداع لم يحج فيها مشرك فهو معدود من الصحابة وأنكر بعضهم إسلامه وجعله دليلا على جواز استشارة أهل الكفر في الطب إذا كانوا من أهله
وممن أسلم بدعاية أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أيضا طلحة بن عبدالله التيمي فجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجاب له فأسلم
أي ولما تظاهر أبو بكر وطلحة بالإسلام فأخذهما نوفل بن العدوية وكان يدعى أسد قريش فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم ولذلك سمى أبو بكر وطلحة القرينين ولشدة ابن العدوية وقوة شكيمته كان صلى الله عليه وسلم يقول اللهم اكفنا شر ابن العدوية
أقول سبب إسلام طلحة بن عبيدالله رضي الله تعالى عنه ما تقدم أنه قال حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول سلوا أهل هذا الموسم هل ثم من أهل الحرم أحد فقلت نعم أنا قال هل ظهر أحد بعد قلت ومن أحمد قال ابن عبدالله بن عبدالمطلب هذا شهره الذي يخرج فيه وهو آخر الأنبياء مخرجه من الحرم ومهاجره إلى أرض ذات نخل وسباخ فإياك أن تسبق إليه قال طلحة فوقع في قلبي ما قال فخرجت سريعا حتى قدمت مكة فقلت هل كان من حدث قالوا نعم محمد بن عبدالله الأمين يدعو إلى الله وقد تبعه ابن أبي قحافة فخرجت حتى دخلت على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فأخبرته بما قال الراهب فخرج أبو بكر حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فسر بذلك وأسلم طلحة
وطلحة هذا هو أحد العشرة المبشرين بالجنة وقد شاركه رجل آخر في اسمه واسم أبيه ونسبه وهو طلحة بن عبيد الله التيمي وهو الذي نزل فيه قوله تعالى { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه } الآية لأنه قال لئن مات محمد رسول الله لأتزوجن عائشة وفي لفظ يتزوج محمد بنات عمنا ويحجبهن عنا لئن مات لأتزوجن عائشة من بعده فنزلت الآية
قال الحافظ السيوطي وقد كنت في وقفة شديدة من صحة هذا الخبر لأن طلحة أحد العشرة أجل مقاما من أن يصدر عنه ذلك حتى رأيت أنه رجل آخر شاركه في إسمه وإسم أبيه ونسبه هذا كلامه
والحاصل أن أبا بكر أسلم على يده خمسة من العشرة المبشرين بالجنة وهم عثمان وطلحة بن عبيدالله ويقال له طلحة الفياض وطلحة الجود والزبير وسعد ابن أبي وقاص وعبدالرحمن بن عوف وزاد بعضهم سادسا وهو أبو عبيدة بن الجراح وكان كل من أبي بكر وعثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف وطلحة بزازا وكان الزبير جزارا وكان سعد بن أبي وقاص يصنع النبل والله أعلم ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء
وذكر في الأصل جماعة من السابقين للإسلام منهم عبدالله بن مسعود وأن سبب إسلامه ما حدث به قال كنت في غنم لآل عقبة بن أبي معيط فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر بن أبي قحافة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل عندك لبن فقلت نعم ولكني مؤتمن قال هل عندك من شاة لم ينز عليها الفحل قلت نعم فأتيته بشاة شصوص لا ضرع لها فمسح النبي صلى الله عليه وسلم مكان الضرع فإذا ضرع حافل مملوء لبنا كذا في الأصل وفي الصحاح كما في النهاية الشصوص التي ذهب لبنها وحينئذ يكون قول الأصل لا ضرع لها أي لا لبن لها ويدل لذلك قول ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين فمسح ضرعها وقول ابن مسعود فمسح مكان الضرع أي محل اللبن فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بصخرة منقورة فاحتلب النبي صلى الله عليه وسلم فسقى أبا بكر وسقاني ثم شرب ثم قال للضرع اقلص فرجع كما كان أي لا وجود له على ظاهر ما في الأصل أو لا لبن فيه على ما في النهاية كالصحاح وإلى ذلك أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله ** ورب عناق مانزا الفحل فوقها ** مسحت عليها باليمين فدرت **
قال ابن سمعود فما رأيت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يارسول الله علمني فسمح رأسي وقال بارك الله فيك فإنك غلام معلم
أقول فإن قيل قول ابن مسعود ولكني مؤتمن وعدوله صلى الله عليه وسلم عن ذات اللبن إلى غيرها يخالف ما سيأتي في حديث المعراج والهجرة أن العادة كان جارية بإباحة مثل ذلك اللبن لابن السبيل إذا احتاج إلى ذلك فكان كل راع مأذونا له في ذلك وإذا كان ذلك أمرا متعارفا مشهورا يبعد خفاؤه
قلنا قد يقال لا مخالفة لأن ابن السبيل المسافر وجاز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر رضي الله تعالى عنه لم يكونا مسافرين لجواز أن تكون تلك الغنم التي كان فيها ابن مسعود ببعض نواحي مكة القريبة منها التي لا يعد قاصدها مسافرا ولعله لا ينافى ذلك ما سيأتي أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أبيح له أخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج صلى الله عليه ولم إليهما وأنه يجب على مالكهما بذل ذلك له
وكان عبدالله بن مسعود يعرف بأمه وهي أم عبد وكان قصيرا جدا طوله نحو ذراع خفيف اللحم ولما ضحكت الصحابة رضي الله تعالى عنهم من دقة رجليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل عبدالله في الميزان أثقل من أحد وقال صلى الله عليه وسلم في حقه رضيت لأمتي ما رضى لها ابن ام عبد وسخطت لها ما سخط لها ابن أم عبد
وقوله لرجل عبدالله في الميزان يدل للقول بأن الموزون الإنسان نفسه لا عمله وكان صلى الله عليه وسلم يكرمه ويدنيه ولا يحجبه فلذلك كان كثير الولوج عليه صلى الله عليه وسلم وكان يمشي أمامه صلى الله عليه وسلم ومعه ويستره إذا اغتسل ويوقظه إذا نام ويلبسه نعليه إذا قام فإذا جلس أدخلهما في ذراعيه ولذلك كان مشهورا بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنه صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ولم أقف على أنه أسلم حين أجفلت الشاة لكن قول العلامة ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين أسلم قديما بمكة لما مر به صلى الله عليه وسلم وهو يرعى غنما إلى آخره يدل على أنه أسلم حينئذ ومما يؤثر عنه الدنيا كلها هموم فما كان فيها من سرور فهو ربح والله أعلم
وذكر في الأصل أن من السابقين أبا ذر الغفاري واسمه جندب بن جنادة بضم الجيم فيهما قال وسبب إسلامه ما حدث به قال صليت قبل أن ألقى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين لله أتوجه حيث يوجهني ربي فبلغنا أن رجلا خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي أنيس انطلق إلى هذا الرجل فكلمه وأتني بخبره فلما جاء أنيس قلت له ما عندك فقال والله رأيت رجلا يأمر بخير وينهى عن الشر وفي رواية رأيتك على دينه يزعم أن الله أرسله ورأيته يأمر بمكارم الأخلاق قلت فما يقول الناس فيه قال يقولون شاعر كاهن ساحر والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون فقلت اكفني حتى أذهب فانظر قال نعم وكن على حذر من أهل مكة فحملت جرابا وعصا ثم
أقبلت حتى أتيت مكة فجعت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه فمكثت في المسجد ثلاثين ليلة ويوما وما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على بطني سحنة جوع والسحنة بالتحريك قيل حرارة يجدها الإنسان من الجوع ففي ليلة لم يطف بالبيت أحد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه جاءا فطافا بالبيت ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى صلاته أتيته فقلت السلام عليك يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فرأيت الإستبشار في وجهه ثم قال من الرجل قلت من غفار بكسر المعجمة قال متى كنت قال كنت من ثلاثين ليلة ويوما ههنا قال فمن كان يطعمك قلت ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما أجد على بطني سحنة جوع قال مبارك إنها طعام طعم وشفاء سقم أي وجاء ماء زمزم لما شرب له إن شربته لتشفى شفاك الله وإن شربته لتشبع أشبعك الله وإن شربته لتقطع ظمأك قطعه الله وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسمعيل وجاء التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق وجاء آية ما بيننا وبين المنافق أنهم لا يتضلعون من ماء زمزم
وذكر أن أبا ذر أول من قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم السلام عليك التي هي تحية الإسلام فهو أول من حيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يأخذه في الله لومة لائم وعلى أن يقول الحق ولو كان مرا ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أظلت الخضراء أي السماء ولا أقلت الغبراء أي الأرض أصدق من أبي ذر وقال صلى الله عليه وسلم في حقه أبو ذر يمشي في الأرض على زهد عيسى ابن مريم وفي الحديث أبو ذر أزهد أمتي وأصدقها وقد هاجر أبو ذر إلى الشام بعد وفاة أبي بكر واستمر بها إلى أن ولى عثمان فاستقدمه من الشام لشكوى معاوية منه وأسكنه الربذة فكان بها حتى مات فإن أبا ذر صار يغلظ القول لمعاوية ويكلمه بالكلام الخشن
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن لقيا أبي ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان بدلالة علي رضي الله تعالى عنه وأنه قال له ما أقدمك هذه البلدة فقال له أبو ذر إن كتمت علي أخبرتك وفي رواية إن أعطيتني عهدا وميثاقا أن ترشدني أخبرتك ففعل قال أبو ذر فأخبرته فأرشدني وأوصلني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلمت
وفي الإمتاع أن عليا استضاف أبا ذر ثلاثة أيام لا يسأله عن شيء وهو لا يخبره ثم في الثالث قال له ما أمرك وما أقدمك هذه البلدة قال له إن كتمت علي أخبرتك قال فإني أفعل قال له بلغنا أنه خرج هنا رجل يزعم أنه نبي فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر فأردت أن ألقاه فقال له أما إنك قد رشدت هذا وجهي أي خروجي إليه فاتبعني أدخل حيث أدخل فإن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي وفي لفظ كأني أريق الماء فامض أنت قال أبو ذر فمضى ومضيت حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له أعرض علي الإسلام فعرضه علي فأسلمت مكاني الحديث
وما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم له من كان يطعمك وجواب أبي ذر له صلى الله عليه وسلم بقوله ماكان لي طعام إلا ماء زمزم يبعد أن يكون علي رضي الله تعالى عنه أضاف أبا ذر ولم يأكل عنده وكذا يبعده ما جاء أن أبا بكر قال يا رسول لله ائذن لي في إطعامه الليلة قال أبو ذر فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فانطلقت معهما ففتح أبو بكر بابا فجعل يفيض لنا من زبيب الطائف فكان ذلك أول طعام أكلته إلا أن يحمل الطعام على خصوص الزبيب
ويمكن التوفيق بين الروايتين أي رواية دخوله على النبي صلى الله عليه وسلم مع علي فأسلم ورواية إجتماعه به في الطواف فأسلم بأن يكون أبو ذر دخل عليه أولا مع علي ثم لقيه في الطواف ويكون المراد حينئذ بإسلامه الثاني الثبات عليه بتكرير الشهادتين وعذره في عدم إجتماعه به في المسجد مدة ثلاثين يوما عدم خلو المطاف كما يرشد لذلك قوله ففي ليلة لم يطف بالبيت أحد إلى آخره وإلا فيبعد أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يدخل المسجد للطواف مدة ثلاثين يوما
ويبعد هذا الجمع قوله صلى الله عليه وسلم له من الرجل إلى آخره ثم قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر يا أبا ذر اكتم هذا الأمر وارجع إلى قومك فأخبرهم يأتوني فإذا بلغك ظهورنا فأقبل فقلت والذي بعثك بالحق لأصرخن بهذا بين ظهرانيهم قال وكنت في أول الإسلام خامسا وفي رواية رابعا ولعل المراد من الإعراب فلا ينافي ما يأتي في وصف خالد بن سعيد فلما اجتمعت قريش بالمسجد ناديت بأعلى صوتي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ فضربت
لأموت وفي لفظ فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي فأكب علي العباس ثم قال لهم ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجارتكم عليهم فخلوا عني قال فجئت زمزم فغسلت عني الدماء فلما أصبحت الغداة رجعت لمثل ذلك فصنع بي مثل ما صنع وأدركني العباس وكان منه كالأمس فخرجت وأتيت أنيسا فقال ما صنعت فقلت قد أسلمت وصدقت فقال ما لي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت فأتينا أمنا فقالت ما لي رغبة عن دينكما فإني أسلمت وصدقت ثم أتينا قومنا غفارا فأسلم نصفهم وقال نصفهم إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا فلما جاء المدينة أسلم نصفهم الثاني أي لأنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر إني وجهت إلى أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب فهل أنت مبلغ قومك عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم وجاءت أسلم القبيلة المعروفة فقالوا يا رسول الله نسلم على الذي أسلم عليه إخواننا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله
أي وقد ذكر أن أبا ذر وقف يوما عند الكعبة أي في حجة حجها أو عمرة اعتمرها فأكتنفه الناس فقال لهم لو أن أحدكم أراد سفرا أليس يعد زادا فقالوا بلى فقال سفر القيامة أبعد مما تريدون فخذوا ما يصلحكم قالوا وما يصلحنا قال حجوا حجة لعظائم الأمور وصوموا يوما شديدا حره ليوم النشور وصلوا في ظلمة الليل لوحشة القبور
وممن أسلم خالد بن سعيد بن العاص رضي لله تعالى عنه قيل كان حين أسلم رابعا وقيل خامسا وهو أول من أسلم من إخوته ويمكن أن يكون ذلك محمل قول ابنته أم خالد أول من أسلم أبي أي من إخوته
وسبب إسلامه أنه رأى في النوم النار ورأى من فظاعتها وأهوالها أمر مهولا ورأى أنه على شفيرها وأن أباه يريد أن يلقيه فيها ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا بحجزته يمنعه من الوقوع فيها فقام من نومه فزعا وقال أحلف بالله أن هذه الرؤيا حق وعلم أن نجاته من النار تكون على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى أبا بكر فذكر له ذلك فقال له أريد بك خير هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه فأتاه فقال يا محمد إلام تدعو قال أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده
ورسوله وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع فأسلم خالد
وفي الوفاء عن أم خالد بنت خالد بن سعيد أنها قالت كان خالد بن سعيد ذات ليلة نائما قبيل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رأيت كأنه غشيت مكة ظلمة حتى لا يبصر امرؤ كفه فبينما هو كذلك إذ خرج نور أي من زمزم ثم علا في السماء فأضاء في البيت ثم أصاب مكة كلها ثم تحول إلى يثرب فأصابها حتى أني لأنظر إلى اليسر في النخل فاستيقظت فقصصتها على أخي عمرو بن سعيد وكان جزل الرأي فقال يا أخي إن هذا الأمر يكون في بني عبدالمطلب ألا ترى أنه خرج من حفر أبيهم ثم إنه ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعد مبعثه فقال يا خالد أنا والله ذلك النور وأنا رسول الله وقص عليه ما بعثه الله به فأسلم خالد وعلم أبوه بذلك أبوه وهو سعيد أبو أجيحة وكان من عظماء قريش كان إذا أعتم لم يعتم قرشي إعظاما له ومن ثم قال فيه القائل ** أبا أجيحة من يعتم عمته ** يضرب وإن كان ذا مال وذا عدد **
وعند إسلام ولده خالد أرسل في طلبه فانتهره وضربه أي بمقرعة كانت في يده حتى كسرها على رأسه ثم قال اتبعت محمدا وأنت ترى خلافه لقومه وما جاء به من عيب آلهتهم وعيب من مضى من آبائهم فقال والله تبعته على ما جاء به فغضب أبوه وقال أذهب يالكع حيث شئت وقال والله لأمنعنك القوت قال إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به فأخرجه وقال لبنيه ولم يكونوا أسلموا لا يكلمه أحد منكم إلا صنعت به فانصرف خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يلزمه ويعيش معه ويغيب عن أبيه في نواحي مكة حتى خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية فكان خالد أول من هاجر إليها
وذكر عن والده سعيد أنه مرض فقال إن رفعني الله من مرضي هذا لا يعبد إله ابن أبي كبشة بمكة أبدا فقال خالد عند ذلك اللهم لا ترفعه فتوفى في مرضه ذلك وخالد هذا أول من كتب بسم الله الرحمن الرحيم وأسلم أخوه عمرو بن سعيد بن العاص رضي الله تعالى عنه
قيل وسبب إسلامه أنه رأى نورا خرج من زمزم أضاءت له منه نخل المدينة حتى
رأى البسر فيها فقص رؤياه فقيل له هذه بئر بني عبدالمطلب وهذا النور منهم يكون فكان سببا لإسلامه وتقدم قريبا أن هذا الرؤيا وقعت لخالد فكانت سبب إسلامه وأنه قصه على أخيه عمرو المذكورة فهو من خلط بعض الرواة إلا أن يقال لا مانع من تعدد هذه الرؤية لخالد ولأخيه عمرو وأنها كانت سببا لإسلامهما وأسلم من بني سعيد أيضا أبان والحكم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله
أي ومن السابقين للإسلام صهيب كان أبوه عاملا لكسرى أغارت الروم عليهم فسبت صهيبا وهو غلام صغير فنشأ في الروم حتى كبر ثم ابتاعه جماعة من العرب وجاءوا به إلى سوق عكاظ فابتاعه منهم بعض أهل مكة أي وهو عبداله بن جدعان فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مر صهيب على دار رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى عمار بن ياسر فقال له عمار بن ياسر أين تريد يا صهيب قال أريد أن أدخل إلى محمد فأسمع كلامه وما يدعو إليه قال عمار وأنا أريد ذلك فدخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما بالجلوس فجلسا وعرض عليهما الإسلام وتلا عليهما ما حفظ من القرآن فتشهدا ثم مكثا عنده يومهما ذلك حتى أمسيا خرجا مستخفيين فدخل عمار على أمه وأبيه فسألاه أين كان فأخبرهما بإسلامه وعرض عليهما الإسلام وقرأ عليهما ما حفظ من القرآن في يومه ذلك فأعجبهما فأسلما على يده فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميه الطيب المطيب
وأسلم أيضا حصين والد عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما بعد إسلام والده عمران
وسبب إسلامه أن قريشا جاءت إليه وكانت تعظمه وتجله فقالوا له كلم لنا هذا الرجل فإنه يذكر آلهتنا ويسبها فجاءوا معه حتى جلسوا قريبا من باب النبي صلى الله عليه وسلم ودخل حصين فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال أوسعوا للشيخ وعمران وولده في الصحابة فقال حصين ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا وتذكرها فقال يا حصين كم تعبد من إله قال سبعة في الأرض وواحد في السماء فقال فإذا أصابك الضر لمن تدعو قال الذي في السماء قال فإذا هلك المال من تدعو قال الذي في السماء قال فيستجيب له وحده وتشرك معه أرضيته في الشرك يا حصين أسلم تسلم فأسلم فقام إليه ولده عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه فبكى
صلى الله عليه وسلم وقال بكيت من صنع عمران دخل حصين وهو كافر فلم يقم إليه عمران ولم يلتفت ناحيته فلما أسلم وفي حقه فدخلني من ذلك الرقة فلما أراد حصين الخروج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه شيعوه إلى منزله فلما خرج من سدة الباب أي عتبته رأته قريش قالوا قد صبا وتفرقوا عنه & باب استخفائه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في دار الأرقم ابن الأرقم رضي الله تعالى عنهما ودعائه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام جهرة وكلام قريش لأبي طالب في أن يخلى بينهم وبينه وما لقى هو وأصحابه من الأذى وإسلام عمه حمزة رضي الله تعالى عنه
عن ابن اسحاق أن مدة ما أخفى صلى الله عليه وسلم أمره أي المدة التي صار يدعو الناس فيها خفية بعد نزول { يا أيها المدثر } ثلاث سنين أي فكان من أسلم إذا أراد الصلاة يذهب إلى بعض الشعاب يستخفى بصلاته من المشركين أي كما تقدم فبينما سعد ابن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة إذا ظهر عليه نفر من المشركين وهم يصلون فناكروهم وعابوا عليه ما يصنعون حتى قاتلوهم فضرب سعد بن أبي وقاص رجلا منهم بلحى بعير فشجه فهو أول دم أهريق في الإسلام ثم دخل صلى الله عليه وسلم وأصحابه مستخفين في دار الأرقم أي بعد هذه الواقعة فإن جماعة أسلموا قبل دخوله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم ودار الأرقم هي المعروفة الآن بدار الخيزران عند الصفا أشتراها الخليفة المنصور وأعطاها ولده المهدي ثم أعطاها المهدي للخيزران أم ولديه موسى الهادي وهرون الرشيد ولا يعرف أمرأة ولدت خليفتين إلا هذه وولادة جارية عبدالملك بن مروان فإنه أم الوليد وسليمان
وقد روت الخيزران عن زوجها المهدي عن أبيه عن جده عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتقى الله وقاه كل شيء
فكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقيمون الصلاة بدار الأرقم ويعبدون الله تعالى فيها إلى أن أمره الله تعالى بإظهار الدين
أي وهذا السياق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم استمر مستخفيا هو وأصحابه في دار الأرقم إلى أن أظهر الدعوة وأعلن صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة أي وقيل مدة استخفائه صلى الله عليه وسلم أربع سنين وأعلن في الخامسة وقيل أقاموا في تلك الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون وقد يقال الإقامة شهرا مخصوصة بالعدد المذكور فلا منافاة وإعلانه صلى الله عليه وسلم كان في الرابعة أو الخامسة بقوله تعالى { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين } وبقوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } أي أظهر ما تؤمر به من الشرائع وادع إلى الله تعالى ولا تبال بالمشركين وخوف بالعقوبة عشيرتك الأقربين وهم بنو هاشم وبنو المطلب أي وبنو عبد شمس وبنو نوفل أولاد عبد المطلب بدليل ما يأتي قال بعضهم آية { فاصدع بما تؤمر } اشتملت على شرائط الرسالة وشرائعها وأحكامها وحلالها وحرامها
وقال بعضهم إنما أمر بالصدع لغلبة الرحمة عليه صلى الله عليه وسلم قال ذكر بعضهم أنه لما نزل عليه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين } اشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وضاق به ذرعا أي عجز عن إحتماله فمكث شهرا أو نحوه جالسا في بيته حتى ظن عماته أن شاك أي مريض فدخلن عليه عائدات فقال صلى الله عليه وسلم ما اشتكيت شيئا لكن الله أمرني بقوله { وأنذر عشيرتك الأقربين } فأريد أن اجمع بني عبدالمطلب لأدعوهم إلى الله تعالى قلن فادعهم ولا تجعل عبدالعزى فيهم يعنين عمه أبا لهب فإنه غير مجيبك إلى ما تدعوه إليه وخرجن من عنده صلى الله عليه وسلم أي وكنى عبد العزى بأبي لهب لجمال وجهه ونضاره لونه كأنه وجهه وجبينه ووجنتيه لهب النار أي خلافا لما زعمه بعضهم أن ولده عقير الأسد أو ولد آخر غيره كان اسمه لهبا
قال وفي الإتقان ليس في القرآن من الكنى غير أبي لهب ولم يذكر اسمه وهو عبدالعزى أي الصنم لأنه حرام شرعا هذا كلامه وفيه أن الحرام وضع ذلك لا إستعماله
وفي كلام بعضهم ما يفيد أن الإستعمال حرام أيضا إلا أن يشتهر بذلك كما في الأوصاف المنقصة كالأعمش
وفي كلام القاضي وإنما كناه والكنية تكرمه أي بالعدول عن الإسم إليها لإشتهاره بكنيته ولأن اسمه عبدالعزى هو الصنم فاستكره ذكره ولأنه لما كان من أصحاب النار كانت الكنية أوفق بحاله في الآخرة فهي كنية تفيد الذم
فاندفع ما يقال هذا يخالف قولهم ولا يكنى كافر وفاسق ومبتدع إلا لخوف فتنة أو تعريف لأن ذلك خاص بالكنية التي تفيد المدح لا الذم ولم يشتهر بها صاحبها
قال فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني عبدالمطلب فحضروا وكان فيهم أبو لهب فلما أخبرهم بما أنزل الله عليه أسمعه ما يكره قال تبا لك ألهذا جمعتنا أي وأخذ حجرا ليرميه به وقال له ما رأيت أحدا قط جاء بني أبيه وقومه بأشر ما جئتهم به فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم في ذلك المجلس انتهى
أي وفي الإمتاع أن أبا لهب ظن أنه صلى الله عليه وسلم يريد أن ينزع عما يكرهون إلى ما يحبون فقال له هؤلاء عمومتك وبنو عمومتك فتكلم بما تريد واترك الصبأة واعلم أنه ليس لقومك بالعرب طاقة وإن أحق من أخذك وحبسك أسرتك وبنوا أبيك إن أقمت على أمرك فهو أيسر عليك من أن تتب عليك بطون قريش وتمدها العرب فما رأيت يا ابن أخي أحدا قط جاء بني أبيه وقومه بشر ما جئتهم به وعند ذلك أنزل الله تعالى { تبت } أي خسرت وهلكت { يدا أبي لهب وتب } أي خسر وهلك بجملته أي والمراد بالأول جملته عبر عنها باليدين مجازا والمراد به الدعاء وبالثاني الخبر على حد قولهم أهلكه الله وقد هلك
أي ولما قال أبو لهب عند نزول { تبت يدا أبي لهب وتب } إن كان ما يقوله محمد حقا افتديت منه بمالي وولدي نزل { ما أغنى عنه ماله وما كسب } أي وأولاده لأن الولد من كسب أبيه أي وفي رواية وهي في الصحيحين أنه دعا قريشا فاجتمعوا فخص وعم فقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار أي وفيه أنه إنما أمر بالإنذار لعشريته الأقربين ثم قال صلى الله عليه وسلم يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد زهرة أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يافاطمة أنقذي نفسك من النار يا صفية عمة محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا وفي لفظ لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من
الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله أي لا تبقوا على كفركم إتكالا على قرابتكم مني فهو حث لهم على صالح الأعمال وترك الإتكال غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها أي أصلها بالدعاء أي والبلال بالفتح كقطام ما يبل الحلق من الماء أو اللبن وبل رحمه إذا وصلها وبلوا أرحامكم ندوها بالصلة وفي الحديث بلوا أرحامكم ولو بالسلام أي وصلوها أي وقد ذكر أئمتنا صابط الصلة
وفي تخصيصه صلى الله عليه وسلم فاطمة من بين بناته مع أنها أصغرهن وقيل أصغر بناته رقية وتخصيصه صلى الله عليه وسلم صفية من بين عماته حكمة لا تخفى ومن الغريب ما في الكشاف من زيادة يا عائشة بنت أبي بكر يا حفصة بنت عمر
عندي أن ذكر عائشة وحفصة بل وفاطمة هنا من خلط بعض الرواة وأن هذا ذكره صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فذكره بعض الرواة هنا فإن المراد بالإنقاذ من النار الإتيان بالإسلام بدليل قوله صلى الله عليه وسلم إلى أن تقولوا لا إله إلا الله مع أنه تقدم أن بناته عليه الصلاة والسلام لم يكن كفارا فليتأمل
ثم مكث صلى الله عليه وسلم أياما ونزول عليه جبريل وأمره بإمضاء أمر الله تعالى فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانيا وخطبهم ثم قال لهم إن الرائد لا يكذب أهله والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعملون ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا والله يابني عبدالمطلب ما أعلم شابا جاء قومه بأفضل مما جئتكم به إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة فتكلم القوم كلاما لينا غير أبي لهب فإنه قال يا بني عبدالمطلب هذه والله السوأة خذوا على يديه قبل أن يأخذ على يديه غيركم فإن أسلمتموه حينئذ ذللتم وإن منعتموه قتلتم فقالت له أخته صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنها أي أخي أيحسن بك خذلان ابن أخيك فوالله ما زال العلماء يخبرون أنه يخرج من ضئضئ أي أصل عبدالمطلب نبي فهو هو قال هذا والله الباطل والأماني وكلام النساء في الحجال إذا قامت بطون قريش وقامت معها العرب فما قوتنا بهم فوالله ما نحن عندهم إلا أكلة رأس فقال أبو طالب والله لنمنعنه ما بقينا ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم جميع قريش وهو قائم على الصفا وقال إن أخبرتكم
أن خيلا تخرج من سنح بالنون والحاء المهملة أي أصل وفي لفظ سفح بالفاء والحاء المهملة هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم تكذبوني قالوا ما جربنا عليك كذبا فقال يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئا إني لكم نذير مبين بين يدي عذاب شديد أي وفي لفظ إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشى أن يسبقوه إلى أهله فجعل يهتف يا صباحاه يا صباحاه أتيتم أتيتم
ومن أمثاله صلى الله عليه وسلم أنا النذير العريان أي الذي ظهر صدقه من قولهم عرى الأمر إذا ظهر وقولهم الحق عار أي ظاهر وقيل الذي جرده العدو فأقبل عريانا ينذر بالعدو وعن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل
واختلفت الروايات في محل وقوفه ففي رواية وقف على الصفا كما تقدم وفي رواية وقف على أضمة من جبل فعلا أعلاها حجرا يهتف يا صباحاه فقالوا من هذا الذي يهتف قالوا محمد فاجتمعوا إليه فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا الحديث وفي رواية صاح على ابي قبيس يا آل عبد مناف إني نذير وروى أنه لما نزل قوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين } جمع بني عبدالمطلب في دار أبي طالب وهم أربعون وفي الإمتاع خمسة وأربعون رجلا وامرأتان فصنع لهم علي طعاما أي رجل شاة مع مد من البر وصاعا من لبن فقدمت فهم الجفنة وقال كلوا بسم الله فأكلوا حتى شبعوا وشربوا حتى نهلوا وفي رواية حتى رووا وفي رواية قال ادنوا عشرة عشرة فدنا القوم عشرة عشرة ثم تناول القعب الذي فيه اللبن فجزع منه ثم ناولهم وكان الرجل منهم يأكل الجذعة وفي رواية يشرب العس من الشراب في مقعد واحد فقهرهم ذلك فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم بدره أبولهب بالكلام فقال لقد سحركم صاحبكم سحرا عظيما وفي رواية محمد وفي رواية ما رأينا كالسحر اليوم فتفرقوا ولم يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان الغد قال يا علي عد لنا بمثل ما صنعت بالأمس من الطعام والشراب قال علي ففعلت ثم جمعتهم له صلى الله عليه وسلم فأكلوا حتى شبعوا وشربوا حتى نهلوا ثم قال لهم يا بني عبدالمطلب إن الله قد بعثني إلى الخلق كافة وبعثني إليكم خاصة فقال { وأنذر عشيرتك الأقربين } وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان شهادة أن لا إله
إلا الله وأني رسول الله فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويوازرني أي يعاونني على القيام به قال علي أنا يا رسول الله وأنا أحدثهم سنا وسكت القوم زاد بعضهم في الرواية يكن أخي ووزيرا وورثى وخليفتي من بعدي فلم يجبه أحد منهم فقام علي وقال أنا يا رسول الله قال اجلس ثم أعاد القول على القوم ثانيا فصمتوا فقام علي وقال أنا يا رسول الله فقال اجلس ثم أعاد القول على القوم ثالثا فلم يجبه أحد منهم فقام علي فقال أنا يا رسول الله فقال اجلس فأنت أخي ووزيري ووصيى ووارثي وخليفتي من بعدي
قال الإمام أبو العباس بن تيمية أي في الزيادة المذكورة أنها كذب وحديث موضوع من له أدنى معرفة في الحديث يعلم ذلك وقد رواه أي الحديث مع زيادته المذكورة ابن جرير والبغوي بإسناد فيه أبو مريم الكوفي وهو مجمع على تركه وقال أحمد إنه ليس بثقة عامة أحاديثه بواطيل وقال ابن المديني كان يضع الحديث وفي رواية عن علي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خديجة فصنعت له طعاما ثم قال لي ادع لي بني عبدالمطلب فدعوت أربعين رجلا الحديث ولا مانع من تكرر فعل ذلك ويجوز أن يكون علي فعل ذلك عند خديجة وجاء به إلى بيت أبي طالب ولعل جمعهم هذا كان متأخرا عن جمعهم مع غيرهم المتقدم ذكره ويشهد له السياق فعل ذلك حرصا على إسلام أهل بيته فلما دعا قومه ولم يردوا عليه ولم يجيبوه أي وفي رواية صار كفار قريش غير منكرين لما يقول فكان صلى الله عليه وسلم إذ مر عليهم في مجالسهم يشيرون إليه إن غلام بني عبد المطلب ليكلم من السماء وكان ذلك دأبهم حتى عاب آلهتهم أي وسفه عقولهم وضلل آباءهم أي حتى أنه مر يوما وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام فقال يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم فقالوا إنما نعبد الأصنام حبا لله لتقربنا إلى الله فانزل الله تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } فتناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم وجاءوا إلى أبي طالب وقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا أي عقولنا ينسبنا إلى قلة العقل وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلى بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر دين الله ويدعو إليه لا يرده عن ذلك شيء وإلى أشار صاحب الهمزية بقوله
** ثم قام النبي يدعو إلى الله ** وفي الكفر شدة وإباء ** ** أمما أشربت قلوبهم الكف ** ر فداء الضلال فيهم عياء **
أي ثم قام صلى الله عليه وسلم يدعو جماعتهم إلى الله تعالى بأن يقولوا لا إله إلا الله حسبما أمر فقدجاء أن جبريل تبدى له صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة وأطيب رائحة وقال يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول لك أنت رسول الله إلى الجن والإنس فادعهم إلى قول لا إله إلا الله فدعاهم والحال أن في أهل الكفر قوة تامة وإمتناعا عن اتباعه اختلط الكفر بقلوبهم وتمكن فيها حبه حتى صارت لا تقبل غيره وبسبب ذلك صار داء الضلال أي داء هو الضلال فيهم عضال يعيى الأطباء مداواته وحصول شفائه ثم شرى الأمر أي الشين المعجمة وكسر الراء وفتح المثناة تحت كثر وتزايد وانتشر بينهم وبينه حتى تباعد الرجال وتضاغنوا أي أضمروا العداوة والحقد وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وتذامروا عليه بالذال المعجمة وحض أي حث بعضهم بعضا على حربه وعداوته ومقاطعته ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد طلبنا منك أن تنهى ابن أخيك فلم تنهه عنا وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا أي عقولنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ثم أنصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا بأن يخذل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله وأنه ضعف عن نصرته والقيام معه فقال له يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله تعالى أو أهلك فيه ما تركته ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أي حصلت له العبرة التي هي دمع العين فبكى ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب فقال أقبل يا ابن أخي فأقبل عليه فقال اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك وأنشد أبياتا منها ** والله لن يصلوا إليك بجمعهم ** حتى أوسد في التراب دفينا **
وحكمة تخصيص الشمس والقمر بالذكر وجعل الشمس في اليمين والقمر في اليسار لا تخفى لأن الشمس النير الأعظم واليمين أليق به والقمر النير الممحو واليسار أليق به
وخص النيرين حيث ضرب المثل بهما لأن الذي جاء به نور قال تعالى { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره }
ومن غريب التعبير أن رجلا كان عاملا لسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فقال لسيدنا عمر إني رأيت في المنام كأن الشمس والقمر يقتتلان ومع كل واحد منهما نجوم فقال له عمر مع أيهما كنت قال مع القمر قال كنت مع الآية الممحوة اذهب فلا تعمل لي عملا فاتفق أن هذا الرجل كان مع معاوية يوم صفين وقتل ذلك اليوم
فلما عرفت قريش أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد بن المغيرة أنهد أي أشد وأقوى فتى في قريش وأحمله فخذه لك ولدا أي بأن تتبناه وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله فإنما هو رجل كرجل فقال لهم أبو طالب والله لبئس ما تسومونني أتعطوني إبنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه هذا والله لا يكون أبدا أي وقال أرأيتم ناقة تحن إلى غير فصيلها قال المطعم بن عدي والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مماتكره فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا فقال له أبو طالب والله ما أنصفوني ولكن قد أجمعت أي قصدت خذلاني ومظاهرة القوم أي معاونتهم علي فاصنع ما بدالك أي وقد مات عمارة بن الوليد هذا على كفره بأرض الحبشة بعد أن سحر وتوحش وسار في البراري والقفار كما سيأتي ومات المطعم بن عدي المذكور على كفره أيضا فعند عدم قبول أبي طالب ما أرادوه اشتد الأمر
ولما رأى أبو طالب من قريش ما رأى دعا بني هاشم وبني عبدالمطلب إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه فأجابوه غلى ذلك غير أبي لهب فكان من المجاهرين بالظلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل من آمن به وتوالى الأذى من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى من أسلم معه
فما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذية ما حدث به عمه العباس رضي الله تعالى عنه قال كنت يوما في المسجد فأقبل أبو جهل فقال لله علي إن رأيت محمد ساجدا أن أطأ عنقه فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول أبي جهل فخرج غضبان حتى دخل المسجد فعجل أن يدخل من الباب فاقتحم من الحائط وقرأ { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق } حتى بلغ شأن أبي جهل كلا
{ إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } إلى أن بلغ آخر السورة سجد فقال إنسان لأبي جهل يا أبا الحكم هذا محمد قد سجد فأقبل إليه ثم نكص راجعا فقيل له ذلك فقال أبو جهل ألا ترون ما أرى لقد سد أفق السماء علي وفي رواية رأيت بيني وبينه خندقا من نار وسيأتي أن قوله تعالى { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى } إلى آخر السورة نزل في أبي جهل
ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال ذكر أن أبا جهل بن هشام قال يوما لقريش يا معشر قريش إن محمدا قد أتى إلى ما ترون من عيب دينكم وشتم آلهتكم وتسفيه أحلامكم وسب آبائكم إني أعاهد الله لأجلس له يعنى النبي صلى الله عليه وسلم غدا بحجر لا أطيق حمله فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه فأسلموني عند ذلك أو امنعوني فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدالهم قالوا والله لا نسلمك لشيء أبدا فامض لما تريد فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو إلى الصلاة أي وكانت قبلته صلى الله عليه وسلم إلى الشام إلى صخرة بيت المقدس فكان يصلى بين الركن اليماني والحجر الأسود ويجعل الكعبة بينه وبين الشام على ما تقدم وقريش جلوس في أنديتهم وهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه أي متغيرا بالصفرة مع الكدرة من الفزع وقد يبست يداه على حجره حتى قذفه من يده أي بعد أن عالجوا فكه من يده فلم يقدروا كما سيأتي وقامت إليه رجال من قريش وقالوا مالك يا أبا الحكم قال قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة فلما دنوت منه عرض لي فحل من الإبل والله ما رأيت مثله قط هم بي أن يأكلني فلما ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذاك جبريل لودنا لأخذه وإلى ذلك يشير صاحب الهمزية بقوله ** وأبو جهل إذ رأى عنق الفح ** ل إليه كأنه العنقاء **
أي وأبو جهل الذي هو أشد الأعداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت أن هم أن يلقى الحجر عليه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد أبصر عنق الفحل وقد برزت إليه كأنه الدهية العظيمة أي فرجع عن ذلك الرمى بذلك الحجر أي وفي رواية أن أبا جهل قال رأيت بيني وبينه كخندق من نار ولا مانع أن يكون وجد الأمرين معا
وذكر في سبب نزول قوله تعالى { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون } أي إنا جعلنا أيديهم متصلة بأعناقهم واصلة إلى أذقانهم ملصقة بها رافعون رءوسهم لا يستطيعون خفضها من أقمح البعير رفع رأسه { وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } أن الآية الأولى نزلت في أبي جهل لما حمل الحجر ليرضخ به رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعه أثبتت يداه إلى عنقه ولزق الحجر بيده فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم فلم يفكوا الحجر من يده إلا بعد تعب شديد والآية الثانية نزلت في آخر لما رأى ما وقع لأبي جهل قال أنا ألقى هذا الحجر عليه فذهب إليه صلى الله عليه وسلم فلما قرب منه عمى بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه فرجع إليهم فأخبرهم بذلك
وعن الحكم بن أبي العاص أي ابن مروان بن الحكم أن ابنته قالت له ما رأيت قوما كانوا أسوأ رأيا وأعجز في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم يا بني أمية فقال لها لا تلومينا يا بنية إني لا أحدثك إلا ما رأيت لقد أجمعنا ليلة على اغتياله صلى الله عليه وسلم فلما رأيناه يصلى ليلا جئنا خلفه فسمعنا صوتا ظننا أنه ما بقى بتهامة جبل إلاتفتت علينا أي ظننا أنه يتفتت وأنه يقع علينا فما عقلنا حتى قضى صلاته صلى الله عليه وسلم ورجع إلى أهله ثم تواعدنا ليلة أخرى فلما جاء نهضنا إليه فرأينا الصفا والمروة التصقتا إحداهما على الأخرى فحالتا بيننا وبينه ويتأمل هذا لأن صلاته صلى الله عليه وسلم إنما تكون عند الكعبة وليست بين الصفا والمروة
وفي رواية كان صلى الله عليه وسلم يصلى فجاءه أبو جهل فقال ألم أنهك عن هذا فأنزل الله تعالى { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى } إلى آخر السورة
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما انصرف من صلاته زأره أبو جهل أي انتهره وقال إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني فأنزل الله تعالى { فليدع ناديه سندع الزبانية } قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لودعا ناديه لأخذته زبانية الله أي قال يوما ولقد لقى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للنبي صلى الله عليه وسلم لقد علمت أني أمنع أهل البطحاء وأنا العزيز الكريم فأنزل الله تعالى فيه { ذق إنك أنت العزيز الكريم } كذا قاله الواحدي أي تقول له الزبانية عند إلقائه في النار ما ذكر توبيخا له
ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال لما أنزل الله تعالى سورة { تبت يدا أبي لهب }
جاءت امرأة أبي لهب وهي أم جميل وإسمها العوراء وقيل اسمها أروى بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب ولها ولولة وفي يدها فهر أي بكسر الفاء وسكون الهاء حجر يملأ الكف فيه طول يدق به في الهاون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فلما رآها قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها امرأة بذية أي تأتي بالفحش من القول فلو قمت لتؤذيك فقال صلى الله عليه وسلم إنها لن تراني فجاءت فقالت يا أبا بكر صاحبك هجاني أي وفي لفظ ما شأن صاحبك ينشد في الشعر قال لا وما يقول الشعر أي ينشئه وفي لفظ لا ورب هذا البيت ماهجاك والله ما صاحبي بشاعر وما يدري ما الشعر أي لا يحسن إنشاءه قال له أنت عندي تصدق وانصرفت أي وهي تقول ما علمت قريش أني بنت سيدها أي تعني عبد مناف جد أبيها ومن كان عبد مناف أباه لا ينبغي لأحد أن يتجاسر على ذمه قلت يا رسول الله لم لم ترك قال لم يزل ملك يسترني بجناحه أي فقد جاء في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر قل لها هل ترين عندي أحدا فسألها أبو بكر فقالت أتهزأ بي والله ما أرى عندك أحدا
أقول وفي الإمتاع أنها جاءت وهو صلى الله عليه وسلم في المسجد معه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وفي يدها فهر فلما وقفت على النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الله على بصرها فلم تره ورأت أبا بكر وعمر فأقبلت على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقالت أين صاحبك قال وما تصنعين به قالت بلغني أنه هجاني والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فمه فقال عمر رضي الله تعالى عنه ويحك إنه ليس بشاعر فقالت إني لا أكلمك يابن الخطاب أي لما تعلمه من شدته ثم أقبلت على أبي بكر لما تعلمه من لينه وتواضعه فقالت والثواقب أي النجوم إنه لشاعر وإني لشاعرة أي فكما هجاني لأهجونه وانصرفت فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنها لن تراك فقال إنها لن تراني جعل بيني وبينها حجاب أي لأنه قرأ قرآنا اعتصم به كما قال تعالى { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا } وفي رواية أقبلت ومعها فهران وهي تقول ** مذمما أبينا ** ودينه قلينا ** وأمره عصينا **
فقالت أين الذي هجاني وهجا زوجي والله لئن رأيته لأضربن أنثييه بهذين
الفهرين قال أبو بكر فقلت لها يا أم جميل والله ما هجاك ولا هجا زوجك قالت والله ما أنت بكذاب وإن الناس ليقولون ذلك ثم ولت ذاهبة فقلت يارسول الله إنها لم ترك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حال بيني وبينها جبريل ولعل مجيئها قد تكرر فلا منافاة بين ما ذكر وكذا ما يأتي وكما يقال في الحمد محمد يقال في الذم مذمم لأنه لا يقال ذلك إلا لمن ذم مرة بعد أخرى كما أن محمدا لا يقال إلا لمن حمد مرة بعد أخرى كما تقدم وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال ألا تعجبون كيف يصرف الله تعالى عني شتم قريش ولعنهم يشتمون مذمما ويلعنون مذمما وأنا محمد
وفي الدر المنثور أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في الملأ فقالت يا محمد علام تهجوني قال إني والله ما هجوتك ماهجاك إلا الله قالت رأيتني أحمل حطبا أو رأيت في جيدي حبلا من مسد وهذا مما يؤيد ماقاله بعض المفسرين أن الحطب عبارة عن النميمة يقال فلان يحطب على أي ينم لأنها كانت تمشي بين الناس بالنميمة وتغرى زوجها وغيره بعداوته صلى الله عليه وسلم وتبلغهم عنه أحاديث لتحثهم بها على عداوته صلى الله عليه وسلم وأن الحبل عبارة عن حبل من نار محكم
وعن عروة بن الزبير مسد النار سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا والله أعلم وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله ** وأعدت حمالة الحطب الفهر وجاءت كأنها الورقاء ** ** ثم جاءت غضبى تقول أفى مثلي من أحمد يقال الهجاء ** ** وتولت وما رأته ومن أين ترى الشمس مقلة عمياء **
أي وهيأت حمالة الحطب الفهر ولقبت بذلك كانت تحتطب أي تجمع الحطب وتحمله لبخلها ودناءة نفسها أو كانت تحمل الشوك والحسك وتطرحه في طريقه صلى الله عليه وسلم ولا مانع من إجتماع الأوصاف الثلاثة لكن استفهامها يبعد الوصفين الأخيرين والفهر الحجر الذي يملأ الكف كما تقدم لتضرب به النبي صلى الله عليه وسلم والحال أنها جاءت في غاية السرعة والعجلة كأنها في شدة السرعة الحمامة الشديدة الإسراع حالة كونها غضبى من شدة ما سمعت من ذمها في سورة تبت يدا أبي لهب نقول أفي مثلي وأنا بنت سيد بني عبد شمس يقال الهجاء والسب حالة كونه من أحمد وتولت والحال أنها ما رأته وكيف ترى الشمس عين عمياء
أقول في ينبوع الحياة أنها لما بلغها سورة { تبت يدا أبي لهب } جاءت إلى أخيها أبي سفيان في بيته وهي مضطرمة أي منحرقة غضبى فقالت له ويحك يا أحمس أي يا شجاع أما تغضب أن هجاني محمد فقال سأكفيك إياه ثم أخذ سيفه وخرج ثم عاد سريعا فقالت هل قتلته فقال لها يا أخية أيسرك أن رأس أخيك في فم ثعبان قالت لا والله قال فقد كان ذلك يكون الساعة أي فإنه رأى ثعبانا لو قرب منه صلى الله عليه وسلم لالتقم رأسه
ولما نزلت هذه السورة التي هي { تبت يدا أبي لهب } قال أبو لهب لأبنه عتبة أي بالتكبير رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم يوم الفتح كما سيأتي رأسي من رأسك حرام إن لم تفارق ابنة محمد يعني رقية رضي الله تعالى عنها فإنه كان تزوجها ولم يدخل بها ففارقها ووقع في كلام بعضهم طلقها لما أسلم فليتأمل
وكان أخوه عتبة بالتصغير متزوجا ابنته صلى الله عليه وسلم أم كلثوم ولم يدخل بها فقال أي وقد أراد الذهاب إلى الشام لآتين محمدا فلأوذينه في ربه فأتاه فقال يا محمد هو كافر بالنجم أي وفي لفظ برب النجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى ثم بصق في وجه النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه ابنته وطلقها فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم سلط وفي رواية الله ابعث عليه كلبا من كلابك وكان أبو طالب حاضرا فوجم لها أبو طالب وقال ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة فرجع عتيبة إلى أبيه أبي لهب فأخبره بذلك ثم خرج هو وأبوه إلى الشام في جماعة فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من دير فقال لهم إن هذه الأرض مسبعة فقال أبو لهب لأصحابه إنكم قد عرفتم نسبي وحقي فقالوا أجل يا أبا لهب فقال أعينونا يا معشر قريش هذه الليلة فإني أخاف على ابني دعوة محمد فأجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ثم افرشوا لإبني عليه ثم افرشوا حوله ففعلوا ثم جمعوا جمالهم وأناخوها حولهم وأحدقوا بعتيبة فجاء الأسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتيبة فقتله وفي رواية فضخ رأسه وفي رواية ثنى ذنبه ووثب وضربه بذنبه ضربة واحدة فخدشه فمات مكانه وفي رواية فضغمه ضغمة فكانت إياها فقال وهو بآخر رمق ألم أقل لكم إن محمدا أصدق الناس لهجة ومات فقال أبوه قد عرفت والله ما كان ليفلت من دعوة محمد أقول وحلفه بالنجم إلى آخره يدل على ذلك كان بعد الإسراء والمعراج
ووقع مثل ذلك لجعفر الصادق قيل له هذا فلان ينشد الناس هجاءكم يعني أهل البيت بالكوفة فقال لذلك القائل هل علقت من قوله بشيء قال نعم قال فأنشد ** صلبنا كمو زيدا على رأس نخلة ** ولم أر مهديا على الجذع يصلب ** ** وقستم بعثمان عليا سفاهة ** وعثمان خير من علي وأطيب **
فعند ذلك رفع جعفر يديه وقال اللهم إن كان كاذبا فسلط عليه كلبا من كلابك فخرج ذلك الرجل فافترسه الأسد وإنما سمي الأسد كلبا لأنه يشبه الكلب في أنه إذا بال رفع رجله ومن ثم قيل إن كلب أهل الكهف كان أسدا وقيل كان رجلا منهم جلس عند الباب طليعة لهم فسمى باسم الكلب لملازمته للحراسة ووصف ببسط الذراعين لأن ذلك من صفة الكلب الذي هو الحيوان
وقد جاء أنه ليس في الجنة من الحيوان إلا كلب أهل الكهف وحمار العزير وناقة صالح والله أعلم
ومما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذية ما حدث به عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو يصلى وقد نحر جزور وبقى فرثه أي روثه في كرشه فقال أبو جهل ألا رجل يقوم إلى هذا القذر يلقيه على محمد أي وفي رواية قال قائل ألا تنظرون إلى هذا المرائى أيكم يقوم إلى جزور بني فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجئ به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه وفي رواية أيكم يأخذ سلى جزور بني فلان لجزور ذبحت من يومين أو ثلاثة فيضعه بين كتفيه إذا سجد فقام شخص من المشركين وفي لفظ أشقى القوم وهو عقبة بن أبي معيط وجاء بذلك الفرث فألقاه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد أي فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض أي من شدة الضحك قال ابن مسعود فهبنا أي خفنا أن نلقيه عنه صلى الله عليه وسلم وفي لفظ وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة لطرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها أي بعد أن ذهب إليها إنسان وأخبرها بذلك واستمر صلى الله عليه وسلم ساجدا حتى ألقته عنه واستمراره في الصلاة عند فقهائنا لعدم علمه بنجاسة ما ألقى عليه ولما ألقته عنه أقبلت عليهم تشتمهم فقام النبي صلى الله عليه وسلم
فسمعته يقول وهو قائم يصلى اللهم اشدد وطأتك أي عقابك الشديد على مضر سنين كسنى يوسف اللهم عليك بأبي الحكم بن هشام يعني أبا جهل وعتبة بن ربيعة وعقبة ابن أبي معيط وأمية بن خلف زاد بعضهم وشيبة بن أبي ربيعة والوليد بن عبتة بالمثناة فوق لا بالقاف كما وقع في رواية مسلم
فقد اتفق العلماء على أنه غلط لأنه لم يكن ذلك الوقت موجودا أو كان صغيرا جدا وعمارة بن الوليد أي وهو المتقدم ذكره الذي أرادوا أن يجعلوه عوضا عنه صلى الله عليه وسلم
أقول والذي في المواهب فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم عليك بقريش ثم سمى اللهم عليك بعمرو بن هشام إلى آخر ماتقدم ذكره وفي الإمتاع فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع يديه ثم دعا عليهم وكان إذا دعا دعا ثلاثا ثم قال اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش فلما سمعوا صوته ذهب منهم الضحك وهابوا دعوته ثم قال اللهم عليك بأبي جهل بن هشام الحديث وإن ابن مسعود قال والله لقد رأيتهم وفي رواية رأيت الذي سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر
واعترض بأن عمارة بن الوليد مات بالحبشة كافرا كما تقدم ويأتي وبأن عقبة بن أبي معيط لم يقتل ببدر وإنما أخذ أسيرا منها وقتل بعرق الظبية كما سيأتي وبأن أمية بن خلف لم يطرح بالقليب وأجيب بأن قول ابن مسعود رأيتهم أي رأيت أكثرهم
وقد يقال لا مانع أن يكون صلى الله عليه وسلم أتى بهذا الدعاء وهو قائم يصلى وبعد الفراغ من الصلاة فلا منافاة والله أعلم
والمراد بسنى يوسف بتخفيف الياء ويروى سنين بإثبات النون مع الإضافة القحط والجدب أي فاستجاب الله دعاءه فأصابتهم سنة أكلوا فيها الجيف والجلود والعظام والعلهز وهو الوبر والدم أي يخلط الدم بأوبار الإبل ويشوى على النار وصار الواحد منهم يرى ما بينه وبين السماء كالدخان من الجوع وجاءه صلى الله عليه وسلم جمع من المشركين فيهم أبو سفيان قالوا يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث فاطبقت عليهم سبعا فشكا الناس كثرة المطر فقال اللهم حوالينا ولا علينا فانحدرت السحابة
وجاء أنهم قالوا { ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } أي لا نعود لما كنا عليه فلما كشف عنهم ذلك عادوا أي وفيه أن هذا إنما كان بعد الهجرة فسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم مكث شهرا إذا رفع رأسه من ركوع الركعة الثانية من صلاة الفجر بعد قوله سمع الله لمن حمده يقول اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين بمكة اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف وربما فعل ذلك بعد رفعه من الركعة الأخيرة من صلاة العشاء وسيأتي ما فيه
وقد يقال لا مانع أن يكون حصل لهم ذلك قبل الهجرة وبعد الهجرة مرة أخرى سيأتي الكلام عليها
ثم رأيت في الخصائص الكبرى ما يوافق ذلك حيث قال قال البيهقي قد روى في قصة أبي سفيان ما دل على أن ذلك كان بعد الهجرة ولعله كان مرتين أي وسيأتي في السرايا أن ثمامة لما منع عن قريش الميره أن تأتي من اليمن حصل لهم مثل ذلك وكتبوا في ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي البخاري لما استعصمت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسنى يوسف فبقيت السماء سبع سنين لا تمطر وفي رواية فيه أيضا لما أبطئوا على النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام قال اللهم اكفنيهم بسبع كسبع يوسف فأصابتهم سنة حصت كل شيء الحديث وفي رواية اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد فأنزل الله تعالى { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم } فأتى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله استسق لمضر فإنها قد هلكت فاستسقى صلى الله عليه وسلم فسقوا فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله { يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } يعني يوم بدر
ومن ذلك ما حدث به عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويده في يد أبي بكر وفي الحجر ثلاثة نفر جلوس عقبة ابن أبي معيط وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
عليه فلما حاذاهم اسمعوه بعض ما يكره فعرف ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فدنوت منه حتى وسطته أي جعلته وسطا فكان صلى الله عليه وسلم بين وبين أبي بكر وأدخل أصابعه في أصابعي وطفنا جميعا فلما حاذاهم قال أبو جهل والله لا نصالحك ما بل بحر صوفة وأنت تنهى أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ذلك ثم مشى عنهم فصنعوا به في الشوط الثالث مثل ذلك حتى إذا كان الشوط الرابع ناهضوه أي قاموا له صلى الله عليه وسلم ووثب أبو جهل يريد أن يأخذ بمجامع ثوبه صلى الله عليه وسلم فدفعت في صدره فوقع على أسته ودفع أبو بكر أمية بن خلف ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط ثم انفرجوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف ثم قال أما والله لا تنتهون حتى يحل بكم عقابه أي ينزل عليكم عاجلا قال عثمان فوالله ما منهم رجل إلا وقد أخذته الرعدة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بئس القوم أنتم لنبيكم ثم انصرف إلى بيته وتبعناه حتى انتهى إلى باب بيته ثم أقبل علينا بوجهه فقال أبشروا فإن الله عز وجل مظهر دينه ومتمم كلمته وناصر نبيه إن هؤلاء الذين ترون مما يذبح الله على أيديكم عاجلا ثم انصرفنا إلى بيوتنا فوالله لقد ذبحهم الله بأيدينا يوم بدر
أقول ولا يخالف ذلك كون عقبة بن أبي معيط حمل أسيرا من بدر وقتل بعرق الظبية صبرا وهم راجعون من بدر ولا كون عثمان بن عفان لم يحضر بدرا والله أعلم
وفي رواية أن عقبة بن أبي معيط وطئ على رقبته صلى الله عليه وسلم الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان
أي وفي رواية دخل عقبة بن أبي معيط الحجر فوجده صلى الله عليه وسلم يصلي فيه فوضع ثوبه على عنقه صلى الله عليه وسلم وخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم }
أي وفي البخاري عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال قلت لعبدالله بن عمرو بن العاص أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ
بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأخذ بمنكبيه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث ولعل أشدية ذلك باعتبار ما بلغ عبدالله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أو ما رآه
وعنه رضي الله تعالى عنه قال ما رأيت قريشا أصابت من عداوة أحد ما أصابت من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد حضرتهم يوما وقد اجتمع ساداتهم وكبراؤهم في الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ما صبرنا لأمر كصبرنا لأمر هذا الرجل قط ولقد سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا لقد صبرنا منه على أمر عظيم فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر طائفا بالبيت فلما مر بهم لمزوه ببعض القول فعرفنا ذلك من وجهه ثم مر بهم الثانية فلمزوه بمثلها فعرفنا ذلك من وجهه ثم مر بهم الثالثة فلمزوه فوقف عليهم وقال أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح فارتعبوا لكلمته صلى الله عليه وسلم تلك وما بقى رجل منهم إلا كأنما على رأسه طائرا واقع فصاروا يقولون يا أبا القاسم انصرف فوالله ما كنت جهولا فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان الغد اجتمعوا في الحجر وأما معهم فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا ناداكم بما تكرهون تركتموه فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به وهم يقولون أنت الذي تقول كذا وكذا يعني عيب آلهتم ودينهم فقال نعم أنا الذي أقول ذلك فأخذ رجل منهم بمجمع ردائه عليه الصلاة والسلام فقام أبو بكر دونه وهو يبكى ويقول { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله } فأطلقه الرجل ووقعت الهيبة في قلوبهم فانصرفوا عنه فذلك أشد ما رأيتهم نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي رواية ألست تقول في آلهتنا كذا وكذا قال بلى فتشبثوا به بأجمعهم فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقيل له أدرك صاحبك فخرج أبو بكر حتى دخل المسجد فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس مجتمعون عليه فقال ويلكم { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم } فكفوا عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأقبلوا على أبي بكر يضربونه قالت بنته أسماء فرجع إلينا فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا أجابه وهو يقول تباركت يا ذا الجلال والإكرام
وجاء أنهم جذبوا رأسه صلى الله عليه وسلم ولحيته حتى سقط أكثر شعره فقام أبو بكر دونه وهو يقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله أي وهو يبكى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهم يا أبا بكر فوالذي نفسي بيده إني بعثت إليهم بالذبح ففرجوا عنه صلى الله عليه وسلم
وعن فاطمة رضي الله تعالى عنها قالت اجتمعت مشركو قريش في الحجر فقالوا إذا مر محمد فليضربه كل واحد منا ضربة فسمعت فدخلت على أبي فذكرت ذلك له أي قالت له وهي تبكي تركت الملأ من قريش قد تعاقدوا في الحجر فحلفوا باللات والعزى ومناة وإساف ونائلة إذا هم رأوك يقومون إليك فيضربونك بأسيافهم فيقتلونك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بنية اسكتي وفي لفظ لا تبكي ثم خرج صلى الله عليه وسلم أي بعد أن توضأ فدخل عليهم المسجد فرفعوا رءوسهم ثم نكسوا فاخذ قبضة من تراب فرمى بها نحوهم ثم قال شاهت الوجوه فما أصاب رجلا منهم إلا قتل ببدر أي وكان بجواره صلى الله عليه وسلم جماعة منهم أبو لهب والحكم بن أبي العاص ابن أمية والد مروان وعقبة بن أبي معيط فكانوا يطرحون عليه صلى الله عليه وسلم الأذى فإذا طرحوه عليه أخذه وخرج به ووقف على بابه ويقول يا بني عبد مناف أي جوار هذا ثم يلقيه في الطريق ولم يسلم ممن ذكر إلى الحكم وكان في إسلامه شيء وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم نفاه إلى وج الطائف وأنه سيأتي السبب في نفيه وأشار صاحب الهمزية إلى أن هذه الأذية له صلى الله عليه وسلم لا يظن ظان أنها منقصة له صلى الله عليه وسلم بل هي رفعة له ودليل على فخامة قدره وعلو مرتبته وعظيم رفعته ومكانته عند ربه لكثرة صبره وحلمه وإحتماله مع علمه باستجابة دعائه ونفوذ كلمته عند الله تعالى وقد قال صلى الله عليه وسلم أشد الناس بلاء الأنبياء وذلك سنة من سنن النبيين السابقين عليهم الصلاة والسلام بقوله ** لا تخل جانب النبي مضاما ** حين مسته منهم الأسواء ** ** كل أمر ناب النبيين فالشدة ** فيه محمودة والرخاء ** ** لو يسمى النضار هو من النا ** ر لما اختير للنضار الصلاء **
أي لا تظن أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل له الضيم وقت مسته الأذيات حالة كونها صادرة منهم لأن كل أمر من الأمور العظيمة أصاب النبيين فالشدة التي تحصل لهم منه محمودة لأنه لرفع الدرجات والضيقة التي تحصل لهم أيضا محمودة لأنه لو كان يمس الذهب هوان من إدخاله النار لما أختير له العرض على النار فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالذهب والشدائد التي تصيبهم كالنار التي يعرض عليها الذهب فإن ذلك لا يزيد الذهب إلا حسنا فكذلك الشدائد لا تزيد الأنبياء إلا رفعة
قال ومما وقع لأبي بكر رضي الله تعالى عنه من الأذية ما ذكره بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل دار الأرقم ليعبدالله تعالى ومن معه من أصحابه فيها سرا أي كما تقدم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألح أبو بكر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور أي الخروج إلى المسجد فقال يا أبا بكر إنا قليل فلم يزل به حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه إلى المسجد وقام أبوبكر في الناس خطيبا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ودعا إلى الله ورسوله فهو أول خطيب دعا إلى الله تعالى وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين يضربونهم فضربوهم ضربا شديدا ووطئ أبو بكر بالأرجل وضرب ضربا شديدا وصار عتبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بنعلين مخصوفتين أي مطبقتين ويحرفهما إلى وجهه حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه فجاءت بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر وحملوه في ثوب إلى أن أدخلوه منزله ولا يشكون في موته أي ثم رجعوا فدخلوا المسجد فقالوا والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة ثم رجعوا إلى أبي بكر وصار والده أبو قحافة وبنو تيم يكلمونه فلا يجيب حتى إذا كان آخر النهار تكلم وقال ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعذلوه فصار يكرر ذلك فقالت أمه والله مالي علم بصاحبك فقال اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب أخت عمر ابن الخطاب أي فإنها كانت أسلمت رضي الله تعالى عنها كما تقدم وهي تخفى إسلامها فأساليها عنه فخرجت إليها وقالت لها إن أبا بكر يسأل عن محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم فقال لا أعرف محمدا ولا أبا بكر ثم قالت لها تريدين أن أخرج معك قالت نعم فخرجت معها إلى أن جاءت أبا بكر رضي الله تعالى عنه فوجدته صريعا فصاحت وقالت إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وإني لأرجو أن ينتقم الله
منهم فقال لها أبو بكر ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له هذه أمك تسمع قال فلا عين عليك منها ألا أنها لا تفشي سرك قالت سالم فقال أين هو فقال في دار الأرقم فقال والله لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت أمه فأمهلناه حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس فخرجنا به يتكئ علي حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق له رقة شديدة وأكب عليه يقبله وأكب عليه المسلمون كذلك فقال بأبي وأمي أنت يا رسول الله ما بي من بأس إلا ما نال الناس من وجهي وهذه أمي برة بولدها فعسى الله أن ينقذها بك من النار فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الإسلام فأسلمت انتهى
هذا وذكر الزمخشري في كتابه خصائص العشرة أن هذه الواقعة خصلت لأبي بكر لما أسلم وأخبر قريشا بإسلامه فليتأمل فإن تعدد الواقعة بعيد
ومما وقع لإبن مسعود رضي الله تعالى عنه من الأذية أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا يوما فقال والله ما سمعت قريش القرآن جهرا إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فيكم يسمعهم القرآن جهرا فقال عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنا فقالوا نخشى عليك منهم إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم فقال دعوني فإن الله سيمنعني منهم ثم إنه قام عند المقام وقت الشمس وقريش في أنديتهم فقال { بسم الله الرحمن الرحيم } رافعا صوته { الرحمن علم القرآن } واستمر فيها فتأملته قريش وقالوا ما بال ابن أم عبد فقال بعضهم يتلو بعض ما جاء به محمد ثم قاموا إليه يضربون وجهه وهو مستمر في قراءته حتى قرأ غالب السورة ثم انصرف إلى أصحابه وقد أدمت قريش وجهه فقال له أصحابه هذا الذي خشينا عليك منه فقال والله ما رأيت أعداء الله أهون على مثل اليوم ولو شئتم لأتيتهم بمثلها غدا قالوا لا قد أسمعتهم ما يكرهون
ومما وقع له صلى الله عليه وسلم من الأذية أنه كان إذا قرأ القرآن تقف له جماعة من يمينه وجماعة من يساره ويصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار لأنهم تواصوا { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } حتى كان من أراد منهم سماع القرآن أتى خفية واسترق السمع خوفا منهم
ومما وقع له صلى الله عليه وسلم من الأذية ما كان سببا لإسلام عمه حمزة رضي الله تعالى عنه وهو ما حدث به ابن إسحاق قال حدثني به رجل من أسلم أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا أي وقيل عند الحجون فآذاه وشتمه ونال منه ما يكرهه أي وقيل إنه صب التراب على رأسه أي وقيل ألقى عليه فرثا ووطئ برجله على عاتقه فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاة لعبدالله بن جدعان في سكن لها تسمع ذلك وتبصره ثم انصرف أبو جهل إلى نادي قريش أي محل تحدثهم في المسجد فجلس معهم فلم يلبث حمزة أن أقبل متوشحا بسيفه راجعا من قنصه أي من صيده وكان من عادته إذا رجع من قنصه لا يدخل إلى أهله إلا بعد أن يطوف بالبيت فمر على تلك المولاة فأخبرته الخبر أي فقالت له يا أبا عمارة لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد صلى الله عليه وسلم آنفا من أبي الحكم بن هشام تعني أبا جهل وجده ههنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد صلى الله عليه وسلم أي وقيل الذي أخبرته مولاة أخته صفية بنت عبدالمطلب قالت له إنه صب التراب على رأسه وألقى عليه فرثا ووطئ برجله على عاتقه وعلى إلقاء الفرث عليه اقتصر أبو حيان في النهر فقال لها حمزة أنت رأيت هذا الذي تقولين قالت نعم
وفي رواية فلما رجع من صيده إذا امرأتان تمشيان خلفه فقالت إحداهما لو علم ما صنع أبو جهل بابن أخيه أقصر عن مشيته فالتفت إليهما فقال ماذاك قالت أبو جهل فعل بمحمد كذا وكذا ولا مانع من تعدد الأخبار من المرأتين والمولاتين فاحتمل حمزة الغضب ودخل المسجد فرأى أبا جهل جالسا في القوم فأقبل نحوه حتى قام على رأسه رفع القوس وضربه فشجه شجة منكرة ثم قال أتشتمه فأنا على دينه أقول ما يقول فرد على ذلك إن استطعت
أي وفي لفظ أن حمزة لما قام على رأس أبي جهل بالقوس صار أبو جهل يتضرع إليه ويقول سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا قال ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقامت رجال من بني مخزوم أي من عشيرة أبي جهل إلى حمزة لينصروا أبا جهل فقالوا ما نراك إلا قد صبأت فقال حمزة وما يمنعني وقد استبان لي منه أنا أشهد أنه رسول الله
وأن الذي يقوله حق والله لا أنزع فامنعوني إن كنت صادقين فقال لهم أبو جهل دعوا أبا عمارة أي ويكنى أيضا بأبي يعلى اسم ولد له أيضا فإني والله لقد أسمعت ابن أخيه شيئا قبيحا وتم حمزة على إسلامه أي استمر أي بعد أن وسوس له الشيطان فقال لنفسه لما رجع إلى بيته أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابي وتركت دين آبائك الموت خير لك مما صنعت ثم قال اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا فبات بليلة ثم لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان حتى أصبح فغذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ياابن أخي إن قد وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه وإقامة مثلي على ما لا أدري أرشد هو أم غي شديد فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ووعظه وخوفه وبشره فألقى الله تعالى في قلبه الإيمان بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أشهد أنك لصادق فأظهر يابن أخي دينك
وقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن هذه الواقعة سبب لنزول قوله تعالى { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس } يعني حمزة { كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } يعنى أبا جهل وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلام حمزة سرورا كبيرأ لأنه كان أعز فتى في قريش واشدهم شكيمة أي أعظمهم في عزة النفس وشهامتها ومن ثم لما عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز كفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على بعض أصحابه بالأذية سيما المستضعفين منهم الذين لا جوار لهم أي لا ناصر لهم فإن كل قبيلة غدت على من أسلم منها تعذبه وتفتنه عن دينه بالحبس والضرب والجوع والعطش وغير ذلك أي حتى إن الواحد منهم ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي به وكان أبو جهل يحرضهم على ذلك وكان إذا سمع بأن رجلا أسلم وله شرف ومنعة جاء إليه ووبخه وقال له ليغلبن رأيك وليضعفن شرفك وإن كان تاجرا قال والله لتكسدن تجارتك ويهلك مالك وإن كان ضعيفا أغرى به حتى أن منهم من فتن عن دينه ورجع إلى الشرك كالحارث بن ربيعة بن الأسود وأبي قيس بن الوليد بن المغيرة وعلى بن أمية بن خلف والعاص بن منبه بن الحجاج وكل هؤلاء قتلوا على كفرهم يوم بدر
وممن فتن عن دينه وثبت عليه ولم يرجع للكفر بلال رضي الله تعالى عنه وكان مملوكا
لأمية بن خلف فعن بعضهم أن بلالا كان يجعل في عنقه حبل يدفع إلى الصبيان يلعبون به ويطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد بالرفع والتنوين أو بغير تنوين أي الله أحد أو يا أحد فهو إشارة لعدم الإشراك وقد أثر الحبل ف عنقه
وعن ابن إسحاق أن أمية بن خلف كان يخرج بلالا إذا حميت الظهيرة بعد أن يجيعه ويعطشه يوما وليلة فيطرحه على ظهره في الرمضاء أي الرمل إذا اشتدت حرارته لو وضعت عليه قطعة لحم لنضجت ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوصع على صدره ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى فيقول أحد أحد أي أنا لا أشرك بالله شيئا أنا كافر باللات والعزى
أي وقيل كان بلال مولدا من مولدي مكة وكان لعبدالله بن جدعان التيمي وكان من جملة مائة مملوك مولدة له فلما بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أمر بهم فأخرجوا من مكة أي خوف إسلامهم فأخرجوا إلا بلالا فإنه كان يرعى غنمه فأسلم بلال وكتم إسلامه فسلح بلال يوما على الأصنام التي حول الكعبة
ويقال إنه صار يبصق عليها ويقول خاب وخسر من عبدكن فشعرت به قريش فشكوه إلى عبدالله وقالوا له أصبوت قال ومثلي يقال له هذا فقالوا له إن أسودك صنع كذا وكذا فأعطاهم مائة من الإبل ينحرونها للأصنام ومكنهم من تعذيب بلال فكانوا يعذبونه بما تقدم أي ويجوز أن يكون ابن جدعان بعد ذلك ملكه لأمية بن خلف فلا يخالفه ما تقدم من أن أمية بن خلف كان يتولى تعذيبه وما يأتي من أن أبا بكر رضي الله عنه اشتراه منه ويقال إنه صلى الله عليه وسلم مر عليه وهو يعذب فقال سينجيك أحد أحد
أي وقيل مر عليه ورقة بن نوفل وهو يقول أحد أحد فقال نعم أحد أحد والله يا بلال ثم أتى إلى أمية وقال له والله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا أي لأتخذن قبره منسكا ومسترحما لأنه من أهل الجنة وتقدم أن هذا يدل على أن ورقة أدرك البعثة التي هي الرسالة وتقدم ما فيه فكان بلال بقوله أحد أحد يمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان
وقد وقع له رضي الله تعالى عنه أنه لما احتضر وسمع امرأته تقول واحزناه صار يقول واطرباه غدا ألقى الأحبة محمدا وحزبه فكان بلال يمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء وقد ذكر بعضهم أن هذا قاله أبو موسى الأشعري ومن معه لما وفدوا عليه صلى الله
عليه وسلم وهو في خيبر أي صاروا يقولون غدا نلقى الأحبة محمد وحزبه
ومر به أبو بكر رضي الله تعالى عنه يوما وهو ملقى على ظهره في الرمضاء وعلى ظهره تلك الصخرة فقال لأمية بن خلف ألا تتقي الله تعالى في هذا المسكين حتى متى تعذبه قال أنت أفسدته فأنقذه مما ترى قال أبو بكر عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى أي على دينك أعطيكه به قال قبلت قال هو لك فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذ بلالا فأعتقه
وفي تفسير البغوي قال سعيد بن المسيب بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في بلال حين قال أتبيعنيه قال نعم أبيعه بقسطاس يعني عبدا لأبي بكر رضي الله تعالى عنه كان صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش وكان مشركا يأبى الإسلام فاشتراه أبو بكر به هذا كلامه
وفي الإمتاع لما ساوم أبو بكر أمية بن خلف في بلال قال أمية لأصحابه لألعبن بأبي بكر لعبة ما لعبها أحد بأحد ثم تضاحك وقال له أعطني عبدك قسطاس فقال أبو بكر إن فعلت تفعل قال نعم قال قد فعلت فتضاحك وقال لا والله حتى تعطيني معه امرأته قال إن فعلت تفعل قال نعم قال قد فعلت ذلك فتضاحك وقال لا والله حتى تعطيني ابنته مع امرأته قال إن فعلت تفعل قال نعم قال قد فعلت ذلك فتضاحك وقال لا والله حتى تزيدني معه مائتي دينار فقال أبو بكر رضي الله عنه أنت رجل لا تستحي من الكذب قال لا واللات والعزى لأن أعطيتني لأفعلن فقال هي لك فأخذه هذا كلامه
وقيل اشتراه بتسع وقيل بخمس أواق أي ذهبا أي وقيل ببردة وعشرة أواق من فضة وفي رواية برطل من ذهب
ويروى أن سيده قال لأبي بكر لو أبيت إلا أوقية أي لو قلت لا أشتريه إلا بأوقية لبعناكه فقال لو طلبت مائة أوقية لأخذته بها
ولما قال المشركون إنما أعتق أبو بكر بلالا ليد كانت له عنده ليكافئه بها انزل الله تعالى { والليل إذا يغشى } السورة فالأتقى أبو بكر رضي الله تعالى عنه والأشقى أمية بن خلف
قال الإمام فخر الدين أجمع المفسرون هنا على أن المراد بالأتقى أبو بكر وذهب
الشيعة إلى أن المراد به علي رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه ويرده وصف الأتقى بقوله تعالى { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } لأن هذا الوصف لا يصدق على علي رضي الله تعالى عنه لأنه كان في تربية النبي صلى الله عليه وسلم أي كما تقدم فكان صلى الله عليه وسلم منعما عليه نعمة يجب عليه جزاؤها أي نعمة دنيوية لأنها التي يجازى عليها بخلاف أبي بكر فإنه لم يكن له صلى الله عليه وسلم نعمة دنيوية وإنما كان له نعمة الهداية وهي نعمة لا يجازي عليها قال الله تعالى { قل لا أسألكم عليه أجرا } فتعين حمل الآية على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فيلزم من ذلك أن يكون أبو بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل الخلق لأن الله تعالى يقول { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } والأكرم هوالأفضل وبين ذلك الفخر الرازي بأن الأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد النبي صلى الله عليه وسلم إما أبو بكر وإما على فلا يمكن حمل الآية على علي لما تقدم فتعين حملها على أبي بكر
وذكر بعض أهل المعاني أي المبينين لمعاني القرآن كالزجاج والفراء والأخفش أن الراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي فأوقع أفعل التفضيل موضع فعيل فهو عام في أمية ابن خلف وأبي بكر وغيرهما وإن كان السبب خاصا والذي بخل واستغنى المراد به أبوسفيان لأنه كان عاتب أبا بكر في إنعامه وإعتاقه وقال له أضعت مالك والله لا تصيبه أبدا وقيل المراد به أمية بن خلف
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر اشترى بلالا قال له الشركة يا أبا بكر فقال قد أعتقته يا رسول الله أي لأن بلالا قال لأبي بكر حين اشتراه إن كنت اشتريتني لنفسك فأمسكني وإن كنت إنما اشتريتني لله عز وجل فدعني لله فأعتقه
هذا وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لقى أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقال لو كان عندنا مال اشتريت بلالا فانطلق العباس رضي الله تعالى عنه فاشتراه فبعث به إلى أبي بكر أي ملكه له فاعتقه فليتأمل الجمع بين هذا وماتقدم
وقد اشترى أبو بكر رضي الله تعالى عنه جماعة آخرين ممن كان يعذب في الله منهم حمامة أم بلال ومنهم عامر بن فهيرة فإنه كان يعذب في الله تعالى حتى لا يدرى ما يقول وكان لرجل من بني تيم من ذوي قرابة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ومنهم أبو فكيهة كان عبدا لصفوان بن أمية أسلم حين أسلم بلال فمر به أبوبكر رضي الله تعالى عنه وقد
أخذه أمية أبو صفوان وأخرجه نصف النهار في شدة الحر مقيدا إلى الرمضاء فوضع على بطنه صخرة فخرج لسانه وأخو أمية يقول له زده عذابا حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره فاشتراه أبو بكر رضي الله تعالى عنه ومنهم امرأة وهي زنيرة بزاي فنون مشددة مكسورتين فمثناة تحتية ساكنة وهي في اللغة الحصاة الصغيرة عذبت في الله تعالى حتى عميت قال لها يوما أب جهل إن اللات والعزى فعلا بك ما ترين فقالت له كلا والله لا تملك اللات والعزى نفعا ولا ضرا هذا أمر من السماء وربي قادر على أن يرد علي بصري فأصبحت تلك الليلة وقد رد الله تعالى عليها بصرها فقالت قريش إن هذا من سحر محمد صلى الله عليه وسلم فاشتراها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأعتقها أي وكذا ابنتها
وفي السيرة الشامية أم عنيس بالنون أو الباء الموحدة فمثناة تحتية فسين مهملة أمة لبني زهرة كان الأسود بن عبد يغوث يعذبها ولم يصفها بأنها بنت زنيرة فاشتراها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأعتقها وكذا النهدية وابنتها وكانتا للوليد بن المغيرة وكذا امرأة يقال لها لطيفة وكذا أخت عامر بن فهيرة أو أمه كانت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قبل أن يسلم
فقد جاء أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه مر على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو يعذب جارية أسلمت استمر يضربها حتى مل قبل أن يسلم ثم قال لها إني أعتذر إليك فإني لم أتركك حتى مليت فقالت له كذلك يعذبك ربك إن لم تسلم فاشتراها منه وأعتقها
وفي السيرة الشامية وصفها بأنها جارية بني المؤمل بن حبيب وكان يقال لها لبينة فجملة هؤلاء تسعة
وممن فتن عن دينه فثبت عليه خباب بن الأرت بالمثناة فوق فإنه سبى في الجاهلية فاشترته أم أنمار أي وكان قينا أي حدادا وكان صلى الله عليه وسلم يألفه ويأتيه فلما أسلم وأخبرت بذلك مولاته صارت تأخذ الحديدية وقد أحمتها بالنار فتضعها على رأسه فشكا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اللهم انصر خبابا فاشتكت مولاته رأسها فكانت تعوي مع الكلاب فقيل لها اكتوي فكان خباب يأخذ الحديدة وقد أحماها فيكوي رأسها
وفي البخاري عن خباب قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة ولقد لقينا معاشر المسلمين من المشركين شدة شديدة فقلت يا رسول الله ألا تدعو الله لنا فقعد صلى الله عليه وسلم محمرا وجهه فقال إنه كان من قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على فرق رأس أحدهم فيشق ما يصرفه ذلك عن دينه وليظهرن الله تعالى هذاالأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه
قال وعن خباب رضي الله تعالى عنه أنه حكى عن نفسه قال لقد رأيتني يوما وقد أوقدوا لي نارا ووضعوها على ظهري فما أطفأها إلا ودك ظهري أي دهنه
وممن فتن عن دينه فثبت عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه كان يعذب بالنار وفي كلام ابن الجوزي كان صلى الله عليه وسلم يمر به وهو يعذب بالنار فيمر يده على رأسه ويقول يانار كونى بردا وسلاما على عمار كما كنت على إبراهيم هذا كلامه
ثم إن عمارا كشف عن ظهره فإذا هو قد برص أي صار أثر النار أبيض كالبرص ولعل حصول ذلك كان قبل دعائه صلى الله عليه وسلم بأن النار تكون بردا وسلاما عليه وعن أم هانئ رضي الله تعالى عنها أن عمار بن ياسر وأباه ياسر وأخاه عبدالله وسمية أم عمار رضي الله تعالى عنهم كانوا يعذبون في الله تعالى فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم صبرا آل ياسر صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة أي وفي رواية صبرا يا آل ياسر اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت فمات يا سر في العذاب وأعطيت سمية لأبي جهل أي أعطاها له عمه أبو حذيفة بن المغيرة فإنها كانت مولاته فطعنها في قلبها فماتت أي بعد أن قال لها إن آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا لأنك عشقتيه لجماله ثم طعنها بالحربة في قبلها حتى قتلها فهي أو شهيدة في الإسلام اه
أي وعن بعضهم كان أبو جهل يعذب عمار بن ياسر وأمه ويجعل لعمار درعا من حديد في اليوم الصائف فنزل قوله تعالى { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون }
وجاء أن عمار بن ياسر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقد بلغ منا العذاب
كل مبلغ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم صبرا أبا اليقظان ثم قال اللهم لا تعذب أحدا من آل عمار بالنار
قال بعضهم وحضر عمار بدرا ولم يحضرها من أبواه مؤمناه إلا هو أي من المهاجرين فلا ينافى أن بشر بن البراء بن معرور الأنصاري حضر بدرا وأبواه مؤمنان
ومما أوذى به أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ما روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت لما ابتلى المسلمون بأذى المشركين أي وحصروا بني هاشم والمطلب في شعب أبي طالب وأذن صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة وهي الهجرة الثانية خرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد بالغين المعجمة موضع بأقاصي هجر وقيل موضع وراء مكة بخمسة أميال أي وفي رواية حتى إذا سار يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة بفتح الدال وكسر الغين المعجمة وتخفيف النون وهو سيد القارة اي وهو اسمه الحارث والقارة قبيلة مشهورة كان يضرب بهم المثل في قوة الرمى ومن ثم قيل لهم رماة الحدق لا سيما ابن الدغنة والقارة أكمة سوداء نزلوا عندها فسموا بها قال له أي تريد يا أبا بكر قال أبو بكر أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي قال ابن الدغنة فإن ملثلك يا أبا بكر قال ابو بكر أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي قال ابن الدغنة فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلدك فرجع مع ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة في أشراف قريش وقال لهم إن ابا بكر لا يخرج مثله أتخرجون رجلا يكسب المعدوم 6 ويصل الرحم ويحمل الكل ويقرى الضيف ويعين على نوائب الحق وهو في جواري فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة أي لم يرد جواره وقالوا لإبن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذنا بذلك ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ابن الدغنة ذلك لأبي بكر رضي الله تعالى عنه فمكث ايو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ثم ابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلى فيه ويقرأ القرآن وكان رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن فكانت نساء قريش يزدحمن عليه فأفزع ذلك كثيرا من أشراف قريش أي مع المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا إنا اجرنا أبابكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة
والقراءة وإنا قد خشينا أن يفتن نساؤنا وأبناءنا بهذا فإن أحب أن يقتصر على عبادة ربه في داره فعل وإن رأى أن يعلن بذلك فاسأله أن يرد إليك ذمتك فأنا قد كرهنا أن نخفرك أي نزل خفارتك أي ننقض جوارك ونبطل عهدك فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال قد علمت الذي قد عاقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت أي أزيلت خفارتي في رجل عقدت له فقال له أبو بكر فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله تعالى قال ولما رد جوار ابن الدغنة لقيه بعض سفهاء قريش وهو عابر إلى الكعبة فحثى على رأسه ترابا فمر عليه بعض كبراء قريش من المشركين فقال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه ألا ترى ما صنع هذا السفيه فقال له أنت فعلت بنفسك فصارأبو بكر يقول رب ما أحلمك قال ذلك ثلاثا انتهى
أي وفي كلام بعضهم وينبغي لك أن تتأمل فيما وصف به ابن الدعنة أبا بكر بين أشراف قريش بتلك الأوصاف الجليلة المساوية لما وصفت به خديجة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يطعنوا فيها مع ما هم متلبسون به من عظيم بغضه ومعاداته بسبب اسلامه فإن هذا منهم اعتراف أي اعتراف بإن أبا بكر كان مشهورا بينهم بتلك الأوصاف شهرة تامة بحيث لا يمكن أحد أن ينازع فيها ولا أن يجحد شيئا منها وإلا لبادوا إلى جحدها بكل طريق أمكنهم لما تحلوا به من قبيح العداوة له بسبب ما كانوا يرون منه من صدق موالاته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعظيم محبته له
ومما يؤثر عنه رضي الله عنه صنائع المعروف تقي مصارع السوء ثلاث من كن فيه كن عليه البغي والنكث والمكر
باب عرض قريش عليه صلى الله عليه وسلم أشياء من خوارق العادات وغير العادات ليكف عنهم لما رأوا المسلمين يزيدون ويكثرون وسؤالهم له أشياء من خوارق العادات معينات وغير معينات وبعثهم إلى أحبار يهود المدينة يسألونهم عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم وعما جاء به ومن حديث الزبيدي وحديث المستهزئين به صلى الله عليه وسلم ومن حديثهم حديث الأراشي ومن قصد أذيته صلى الله عليه وسلم فرد خائبا
حدث محمد بن كعب القرظي قال حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا مطاعا في قريش قال يوما وهو جالس في نادي قريش أي متحدثهم والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده يا معشر قريش ألا أقوم لمحمد صلى الله عليه وسلم وأكلمه وأعرض عليه أمور لعله يقبل بعضها فنعطيه إياها ويكف عنا قالوا يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه قال وفي رواية أخرى أن نفرا من قريش اجتمعوا وفي أخرى أشراف قريش من كل قبيلة اجتمعوا وقالوا ابعثوا إلى محمد حتى تعذروا فيه فقالوا انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يريد فقالوا لا نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة انتهى
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب أي من الوسط أي الخيار حسبا ونسبا وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم قال زاد بعضهم أنه قال أيضا أنت خير أم عبدالله أنت خير أم عبدالمطلب أي فسكت إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبدت وإن كنت تزعم أنك خير منهم فقل يسمع لقولك لقد أفضحتنا في العرب حتى طار فيهم أن في قريش ساحرا وأن في قريش كاهنا
ما تريد إلا أن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى انتهى فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل يا أبا الوليد أسمع فقال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا أي فيصير لك الأمر والنهى فهو أخص ما قبله وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه قال لقد فرغت يا أبا الوليد قال نعم قال فاسمع مني قال أفعل قال { بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون } ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقرأها عليه وقد أنصت عتبة لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } فأمسك عتبة على فيه صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم أن يكف عن ذلك ثم انتهى إلى السجدة فيها فسجد ثم قال قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض يحلف لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها لي خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه قال هذا رأيى فيه فاصنعوا ما بدالكم قال وفي رواية أن عتبة لما قام من عند النبي صلى الله عليه وسلم أبعد عنهم ولم يعد عليهم فقال أبو جهل والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأعجبه كلامه فانطلقوا بنا إليه فأتوه فقال أبو جهل والله يا عتبة ما جئناك إلا أنك قد صبوت إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأعجبك أمره فقص عليهم القصة فقال والله الذي
تصبها بنية يعني الكعبة ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسكت بفيه فأنشدته الرحم أن يكف وقد علمت أن محمدا صلى الله عليه وسلم إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب فقالوا له ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ماقال قال والله ما سمعت مثله والله ما هو بالشعر إلى آخر ماتقدم فقالوا والله سحرك يا أبا الوليد قال هذا رأيي فيكم فاصنعوا ما بدا لكم اه
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قريشا أي أشرافهم وشيختهم منهم الأسود بن زمعة والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان والنضر بن الحارث وأبو جهل
وفي الينبوع أتى الوليد بن المغيرة في أربعين رجلا من الملأ أي من السادات منزل أبي طالب وسألوه أن يحضر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمره بإشكائهم ما يشكون منه أي أن يزيل شكواهم منه ويجيبهم إلى أمر فيه الألفة والإصلاح فأحضره وقال يا بن أخي هؤلاء الملأ من قومك فأشكهم وتألفهم فعاتبوا النبي صلى الله عليه وسلم على تسفيه أحلامهم وأحلام آبائهم وعيب آلهتهم الحديث أي قالوا له يا محمد إنا بعثنا إليك لنكلمك فإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعيبت الدين وسببت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة ولم يبق أمر قبيح إلا أتيته فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا فنحن نسودك ونشرفك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك تابعا من الجن قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طبك
وفي رواية أنهم لما اجتمعوا ودعوه صلى الله عليه وسلم فجاءهم مسرعا طمعا في هدايتهم حتى جلس إليهم وعرضوا عليه الأموال والشرف والملك فقال صلى الله عليه وسلم ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم وأن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم
وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دعت قريش النبي صلى الله
عليه وسلم إلى أن يعطوه مالا فيكون به أغنى رجل بمكة ويزوجوه ما أراد من النساء ويكف عن شتم آلهتهم ولا يذكرها بسوء فقد ذكر أن عتبة بن ربيعة قال له إن كان أن ما بك الباءة فاختر أي نساء قريش فنزوجك عشرا وقالوا له ارجع إلى ديننا واعبد آلهتنا واترك ما أنت عليه ونحن نتكفل لك بكل ما تحتاج إليه في دنياك وآخرتك وقالوا له إن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة ولك فيها صلاح قال وماهي قال تعبد آلهتنا اللات والعزى سنة ونعبد إلهك سنة فنشترك نحن وأنت في الأمر فإن كان الذي تعبده خيرا مما نعبد كنت أخذت منه بحظك وإن كان الذي نعبد خيرا مما تعبد كما قد أخذنا منه بحظنا فقال لهم حتى أنظر ما يأتي من ربي فجاء الوحي بقوله تعالى { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم } السورة
وعن جعفر الصادق أن المشركين قالوا له اعبد معنا آلهتنا يوما نعبد معك إلهك عشرة واعبد معنا آلهتنا شهرا نعبد معك إلهك سنة فنزلت اي لا أعبد ما تعبدون يوما ولا أنتم عابدون ما أعبد شهرا ولا أنا عابد ما عبدتم شهرا ولا أنتم عابدون ما أعبد سنة روى ذلك التقدير جعفر ردا على بعض الزنادقة حيث قالوا له طعنا في القرآن لو قال امرؤ القيس ** قفا نبك من ذكري حبيب منزل ** وكرر ذلك أربع مرات في نسق أما كان عيبا فكيف وقع في القرآن { قل يا أيها الكافرون } السورة وهي مثل ذلك وقوله { لكم دينكم ولي دين } نسخ بآية القتال وبقوله تعالى { أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } { بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } ولما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أنزل لما كرهتموه القرآن قالوا أئت بقرآن غير هذا فأنزل الله تعالى { ولو تقول علينا } الآيات
وقد يقال المناسب للرد عليهم قوله تعالى { قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي } الآية ثم رأيت في الكشاف ما يوافق ذلك وهو لما غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأصنام والوعيد الشديد قالوا ائت بقرآن آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك أو بدله بأن تجعل مكان آية عذاب رحمة وتسقط ذكر الآلهة وذم عبادتها نزل قوله تعالى { قل ما يكون لي أن أبدله } الآية
قال وجلس أي صلى الله عليه وسلم مجلسا فيه ناس من وجوه قريش منهم أبو جهل
ابن هشام وعتبة بن ربيعة أي وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة فقال لهم أليس حسنا ما جئت به فيقولون بلى والله وفي لفظ هل ترون بما أقول بأسا فيقولون لا فجاء عبدالله بن أم مكتوم وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين وهوممن أسلم بمكة قديما والنبي صلى الله عليه وسلم مشتغل بأولئك القوم وقد رأى منهم مؤانسة وطمع في إسلامهم فصار يقول يا رسول الله علمني مما علمك الله وأكثر عليه فشق عليه صلى الله عليه وسلم ذلك فأعرض عن ابن أم مكتوم ولم يكلمه انتهى
أي وفي رواية أشار صلى الله عليه وسلم إلى قائد ابن أم مكتوم بأن يكفه عنه حتى يفرغ من كلامه فكفه القائد فدفعه ابن أم مكتوم فعبس صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه مقبلا على من كان يكلمه فعاتبه الله تعالى في ذلك بقوله { عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك } السورة أي والمجئ مع الأعمى ينشأ عن مزيد من الرغبة وتجشم الكلفة والمشقة في المجئ ومن كان هذا شأنه فحقه الإقبال عليه لا الإعراض عنه فكان بعد ذلك إذا جاءه يقول مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويبسط له رداءه قال وبهذا يسقط ما للقاضي أبي بكر ابن العربي هنا انتهى
أقول لعل الذي له هو ما ذكره تلميذه السهيلي وهو أن ابن أم مكتوم لم يكن أسلم حينئذ وإلا لم يسمعه بالإسم المشتق من العمر دون الإسم المشتق من الإيمان لو كان دخل في الإيمان قبل ذلك وإنما دخل فيه بعد نزول الآية ويدل على ذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم استدنني يا محمد وليم يقل استدنني يا رسول الله ولعل في قوله تعالى { لعله يزكى } ما يعطى الترجى والإنتظار ولو كان إيمانه قد تقدم قبل هذا لخرج عن حد الترجي والإنتظار للتزكي هذا كلامه
وعن الشعبي قال دخل رجل على عائشة رضي الله تعالى عنها وعندها ابن أم مكتوم وهي تقطع له الأترج وتجعله في العسل وتطعمه فقيل لها في ذلك فقالت ما زال هذا له من آل محمد منذ عاتب الله عز وجل فيه نبيه صلى الله عليه وسلم والله أعلم
وفي فتاوي الجلال السيوطي من جملة أسئلة رفعت إليه فأجاب عنها بأنها باطلة أن أبا جهل قال يا محمد إن أخرجت لنا طاوسا من صخرة في داري آمنت بك فدعا ربه عز وجل فصارت الصخرة تئن كأنين المرأة الحبلى ثم انشقت عن طاوس صدره من ذهب
ورأسه من زبرجد وجناحاه من ياقوتة ورجلاه من جوهر فلما رأى ذلك أبو جهل أعرض ولم يؤمن
ومما سألوه صلى الله عليه وسلم من الآيات غير المعينات على ما رواه الشيخان أو معينة كما في رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وسيأتي ما يعلم منه أنهم سألوه صلى الله عليه وسلم أولا آية غير معينة ثم عينوها فلا مخالفة
فقد ذكر ابن عباس أن قريشا سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية
أي رواية عن ابن عباس اجتمع المشركون اي بمنى منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والعاص بن هشام والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والنضر بن الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان وقيل يكون نصفه بالمشرق ونصفه الآخر بالمغرب وكانت ليلة أربعة عشر أي ليلة البدر فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فعلت تؤمنوا قالوا نعم فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعطيه ما سألوا فانشق القمر نصفا على ابي قبيس ونصفا على قعيقعان وفي لفظ فانشق القمر فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه ولعل الفرقة التي كانت فوق الجبل كانت جهة المشرق والتي كانت دون الجبل كانت جهة المغرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشهدوا اشهدوا ولا منافاة بين الروايتين ولا بينهما وبين ما جاء في رواية فانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة قدر ما بين العصر إلى الليل ينظر إليه ثم غاب أي ثم إن كان الإنشقاق قبل الفجر فواضح وإلا فمعجزة أخرى لأن القمر ليلة أربعة عشر يستمر جميع الليل وسيأتي عن زين المعمر أنه عاد بعد غروبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهدوا والفرقتان هما المرادتان بالمرتين في بعض الروايات التي أخذ بظاهرها بعضهم كالزين العراقي فقال إنه انشق مرتين لأن المرة قد تستعمل في الأعيان وإن كان أصل وضعها الأفعال فقد قال ابن القيم كون القمر انشق مرتين مرة بعد مرة في زمانين من له خبرة بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته يعلم أنه غلط وأنه لم يقع الإنشقاق إلا مرة واحدة وعند ذلك قال كفار قريش سحركم ابن أبي كبشة أي وهو أبو كبشة أحد أجداده صلى الله عليه وسلم من قبل أمه لأن وهب بن عبد مناف
ابن زهرة جد أبي آمنة أمه يكنى أبا كبشة أو هو من قبل مرضعته حليمة لأن والدها أو جدها كان يكنى بذلك أو كان لها بنت تسمى كبشة فكان زوجها الذي هو أبوه من الرضاعة يكنى بتلك البنت كما تقدم في الرضاع
وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم فقال حدثني حاضني أبو كبشة أنهم لما أرادوا دفن سلول وكان سيدا معظما حفروا له فوقعوا على باب مغلق ففتحوه فإذا سرير وعليه رجل وعليه حلل عدة وعند رأسه كتاب أنا أبو شهر ذو النون مأوى المساكين ومستفاد الغارمين أخذني الموت غصبا وقد أعيى الجبابرة قيل قال صلى الله عليه وسلم كان ذو النون هذا هو سيف بن ذي يزن الحميري وقيل أبو كبشة جده صلى الله عليه وسلم لأبيه لأن أبا أم جده عبدالمطلب كان يدعى أبا كبشة وكان يعبد النجم الذي يقال له الشعرى وترك عبادة الأصنام مخالفة لقريش فهم يشيرون بذلك إلى أن له في مخالفته سلفا
وقيل الذي عبد الشعرى وترك الأصنام رجل من خزاعة فشبهوه صلى الله عليه وسلم به في مخالفته لهم في عبادة الأصنام أي ومما قد يؤيد هذا الأخير ما في الإتقان حيث مثل بهذا الآية للنوع المسمى بالتنكيت وهو أن يخص المتكلم شيئا من بين الأشياء بالذكر لأجل نكتة كقوله تعالى { وأنه هو رب الشعرى } خص الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم وهو سبحانه وتعالى رب كل شيء لأن العرب كان ظهر فيهم رجل يعرف بابن أبي كبشة عبدالشعرى ودعا خلقا إلى عبادتها فأنزل الله تعالى { وأنه هو رب الشعرى } التي ادعيت فيها الربوبية هذا كلامه وكبشة ليس مؤنث كبش لأن مؤنث كبش ليس من لفظه فقال رجل منهم إن محمدا إن كان سحر القمر أي بالنسبة إليكم فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها أي جميع أهل الأرض وفي رواية لئن كان سحرنا ما يستطيع أن يسحر الناس كلهم فاسألوه من يأتيكم من بلد آخر هل رأوا هذا فسألوهم فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك وفي رواية أن أبا جهل قال هذا سحر فسألوا أهل الآفاق وفي لفظ انظروا ما يأتيكم به السفار حتى تنظروا هل رأوا ذلك أم لا فأخبروا أهل الآفاق وفي لفظ فجاء السفار وقد قدموا من كل وجه فأخبروهم أنهم رأوه منشقا فعند ذلك قالوا هذا سحر مستمر أي مطرد فهو إشارة إلى ذلك وإلى ما قبله من الآيات وفي لفظ قالوا هذا سحر أسحر
السحرة فأنزل الله تعالى { اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } أي مطرد كما تقدم أو محكم أو قوي شديد أو مار ذاهب لا يبقى وهذا الكلام كما لا يخفى يدل على أنه لم يختص برؤية القمر منشقا أهل مكة بل جميع أهل الآفاق وبه يرد قول بعض الملاحدة لو وقع إنشقاق القمر لاشترك أهل الأرض كلهم في معرفته ولم يختص بها أهل مكة ولا يحسن الجواب عنه بأنه طلبه جماعة خاصة فاختصت رؤيته بمن اقترح وقوعه ولا بأنه قد يكون القمر حينئذ في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض ولا بقول بعضهم إن انشقاق القمر آية ليلية جرى مع طائفة في جنح ليلة ومعظم الناس نيام
وفي فتح الباري حنين الجذع وإنشقاق القمر نقل كلا منهما نقلا مستفيضا يفيد القطع عند من يطلع على طرق الحديث
أقول وإلى إنشقاق القمر أشار صاحب الهمزية بقوله ** شق عن صدره وشق له البد ** ر ومن شرط كل شرط جزاء **
أي شق عن صدره صلى الله عليه وسلم وفي نسخة قلبه وكل منهما صحيح لأنه شق صدره أولا ثم شق قلبه ثانيا وشق لأجله القمر ليلة أربعة عشر وإنما شق له صلى الله عليه وسلم لأن من شرط كل شرط جزاء لأنه لما شق صدره صلى الله عليه وسلم جوزى على ذلك بأعظم مشابه له في الصورة وهو شق القمر الذي هو من أظهر المعجزات بل أعظمها بعد القرآن وقد أشار إلى ذلك أيضا الإمام السبكي في تائيته بقوله ** وبدر الدياجى انشق نصفين عندما ** أرادت قريش منك إظهار آية **
أي فإنهم ائتمروا فيما بينهم فاتفقوا على أن يقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم إنشقاق القمر الذي هو بعيد عن الأطماع في غاية الإمتناع أي فقد سألوه أولا آية غير معينة ثم عينوها
وفي الإصابة عن بعضهم قال وأنا ابن تسع عشرة سنة سافرت مع أبي وعمي من خراسان إلى الهند في تجارة فلما بلغنا أوائل بلاد الهند وصلنا إلى شيعة من الضياع فعرج أهل القافلة نحوها فسألناهم عن ذلك فقالوا هذه ضيعة الشيخ زين الدين المعمر فرأينا شجرة خارج الضيعة تظل خلقا كثيرا وتحتها جمع عظيم من أهل تلك الضيعة فلما رأونا رحبوا بنا فرأينا زنبيلا معلقا في بعض أغصان تلك الشجرة فسألناهم فقالوا في هذا
الزنبيل الشيخ زين الدين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بطول العمر ست مرات فبلغ ستمائة سنة كل دعوة بمائة سنة فسألناهم أن ينزلوا الشيخ لنسمع كلامه وحديثه فتقدم شيخ منهم فأنزل الزنبيل فإذا هو مملوء بالقطن والشيخ في وسط القطن وهو كالفرخ فوضع فمه على أذنه وقال يا جداه هؤلاء قوم قد قدموا من خراسان وقد سألوا أن تحدثهم كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وماذا قال لك فعند ذلك تنفس الشيخ وتكلم بصوت كصوت النحل بالفارسية ونحن نسمع فقال سافرت مع أبي وأنا شاب من هذه البلاد إلى الحجاز في تجارة فلما بلغنا بعض أودية مكة وكان المطر قد ملأ الأودية فرأيت غلاما حسن الشمائل يرعى إبلا في تلك الأودية وقد حالت السيل بينه وبين إبله وهو يخشى من خوض الماء لقوة السيل فعلمت حاله فأتيت إليه وحملته وخضت به السيل إلى عند إبله من غير معرفة سابقة فلما وضعته عند إبله نظر إلي ودعا لي ثم عدنا إلى بلادنا وتطاولت المدة ففي ليلة ونحن جلوس في ضيعتنا هذه في ليلة مقمرة ليلة البدر والبدر في كبد السماء إذ نظرنا إليه قد انشق نصفين فغرب نصف في المشرق ونصف في المغرب وأظلم الليل ساعة ثم طلع النصف من المشرق والثاني من المغرب إلى أن ألتقيا في وسط السماء كما كان أول مرة فتعجبنا من ذلك غاية العجب ولم نعرف لذلك سببا فسألنا الركبان عن سببه فأخبرونا أن رجلا هاشميا ظهر بمكة وادعى أنه رسول الله إلى كافة العالم وأن أهل مكة سألوه معجزة واقترحوا عليه أن يأمر لهم القمر فينشق في السماء ويغرب نصفه في المشرق ونصفه في المغرب ثم يعود إلى ما كان عليه ففعل لهم ذلك فاشتقت إلى رؤياه فذهبت إلى مكة وسألت عنه فدلوني على موضعه وأتيت إلى منزله واستأذنت فأذن لي في الدخول فدخلت عليه فلما سلمت عليه نظر إلي وتبسم وقال ادن مني وبين يديه طبق فيه رطب فتقدمت وجلست وأكلت من الرطب وصار يناولني إلى أن ناولني ست رطبات ثم نظر إلي وتبسم وقال لي ألم تعرفني قلت لا فقال ألم تحملني في عام كذا في السيل ثم قال امدد يدك فصافحني وقال قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقلت ذلك فسر أي وقال عند خروجي من عنده بارك الله في عمرك قال ذلك ست مرات فبارك الله لي عمري بكل دعوه مائة سنة فعمري اليوم ستمائة سنة أي في المائة السادسة مشرف على تمامها تأمل
وسئل الحافظ السيوطي عن مثل هذا الحديث وهو الحديث الذي رواه معمر الذي يزعم أنه صحابي وأنه يوم الخندق صار ينقل التراب بغلقين وبقية الصحابة بغلق واحد فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفه الشريف بين كتفيه أربع ضربات وقال له عمرك الله يا معمر فعاش بعد ذلك أربعمائة سنة ببركة الضربات التي ضربها بين كتفيه كل ضربة مائة سنة وقال له بعد أن صافحه من صافحك إلى ست أو سبع لم تمسه النار هل هو صحيح أم كذب وإفتراء لا تجوز روايته فأجاب بأنه باطل وأن معمرا هذا كذاب دجال لأنه ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال قبل موته بشهر أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد وقد قال أهل الحديث وغيرهم إن من ادعى الصحبة بعد مائة سنة من وفاته صلى الله عليه وسلم فهو كذاب ومعلوم أن آخر الصحابة مطلقا موتا أبو الطفيل مات سنة عشر ومائة من الهجرة ثبت ذلك في صحيح مسلم واتفق عليه العلماء فمن ادعى الصحبة بعد أبي الطفيل فهو كذاب
ومما سألوه صلى الله عليه وسلم من الآيات المعينات ما حدث به بعضهم قال إن قريشا قالت له صلى الله عليه وسلم سل ربك يسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ويبسط لنا بلادنا وليخرق فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن بعث لنا قصي بن كلاب فإنه كان شيخ صدق فنسأله عما تقول أحق هو أم باطل قال زاد في رواية فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا منزلتك من الله تعالى وأنه بعثك إلينا رسولا كما تقول فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهذا بعثت لكم إنما جئتكم من الله بما بعثني به اه
ثم قالوا له واسأل ربك يبعث معك ملكا يصدقك فيما تقول ويراجعنا عنك أي وفي لفظ قالوا له لم لا ينزل علينا الملائكة فتخبرنا بأن الله أرسلك أو نرى ربنا فيخبرنا بأنه أرسلك فنؤمن حينئذ بك وقال آخر يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه أي فلا بد أن تتميز عنا حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا أي وفي لفظ قالوا إن محمدا يأكل الطعام كما نحن نأكل ويمشي في الأسواق ويلتمس المعاش كما نلتمس نحن فلا يجوز
أن يمتاز عنا بالنبوة فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وأنزل الله تعالى { وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } ولما قالوا الله أعظم أن يكون رسوله بشرا منا أنزل الله تعالى { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس } ثم قالوا وأسقط السماء علينا كسفا أي قطعا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل وقد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا والله لن نؤمن بالرحمن أبدا أي وقد عنوا بالرحمن مسيلمة وقيل عنوا كاهنا كان لليهود باليمامة وقد رد الله تعالى عليهم بأن الرحمن المعلم له هو الله تعالى بقوله { قل هو } أي الرحمن { ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب } أي توبتي ورجوعي وعند ذلك قام صلى الله عليه وسلم حزينا آسفا على ما فاته من هدايتهم التي طمع فيها وقال له عبدالله بن عمته عاتكة بنت عبدالمطلب قبل أن يسلم رضي الله تعالى عنه يا محمد قد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبل ثم سألوك أن تعجل بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل والله لن نؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك أي كتاب معه أربعة من الملائكة يشهدون أنك كما تقول وأيم الله إنك لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك فأنزل الله تعالى عليه الآيات التي فيها شرح هذه المقالات في سورة الإسراء وفيها الإشارة إلى أنه تعالى خيره بين أن يعطيه جميع ما سألوا وأنهم إن كفروا بعد ذلك استأصلهم بالعذاب كالأمم السابقة وبين أن يفتح لهم باب الرحمة والتوبة لعلهم يتوبون وإليه يرجعون فاختار الثاني لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم من كثير منهم العناد وأنهم لا يؤمنون وإن حصل ما سألوا فيستأصلون بالعذاب لأن الله تعالى يقول { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة }
وعن محمد بن كعب ما حاصله أن الملأ من قريش أقسموا للنبي صلى الله عليه وسلم بالله عز وجل أنهم يؤمنون به إذا صار الصفا ذهبا فقام يدعو الله تعالى أن يعطيهم ما سألوه فأتاه جبريل فقال له إن شئت كان ذلك ولكني لم آت قوما بآية اقترحوها فلم يؤمنوا بها إلا أمرت بتعذيبهم وفيه أنه حينئذ يشكل رواية سؤالهم إنشقاق القمر
وفي رواية أتاه جبريل فقال يامحمد إن ربك يقرئك السلام ويقول إن شئت
أن يصبح لهم الصفا ذهبا فإن لم يؤمنوا أنزلت عليهم العذاب عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وإن شئت لا تصير الصفا ذهبا وفتحت لهم باب الرحمة والتوبة فقال لا بل أن تفتح لهم باب الرحمة والتوبة
وفي رواية وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم فقال صلى الله عليه وسلم بل حتى يتوب تائبهم وأيضا وافق على فتح باب الرحمة والتوبة لأنه صلى الله عليه وسلم علم أن سؤالهم لذلك جهل لأنه خفيت عليهم حكمة إرسال الرسل وهي إمتحان الخلق وتعبدهم بتصديق الرسل ليكون إيمانهم عن نظر وإستدلال فيحصل الثواب لمن فعل ذلك ويحصل العقاب لمن أعرض عنه إذ مع كشف الغطاء يحصل العلم الضروري فلا يحتاج إلى إرسال الرسل ويفوت الإيمان بالغيب
وأيضا لو يسألوا من تلك الآيات إلا تعنتا وإستهزاء لا على جهة الإسترشاد ودفع الشك وإلى سؤالهم تلك الآيات وإرتيابهم في القرآن وقولهم فيه إنه سحر وإفتراء أي سحر يأثره أي يأخذه عن مثله وعن أهل بابل يفرق به بين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته { إن هذا إلا قول البشر } من قول أبي اليسر وهوعبد لبني الحضرمي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجالسه وإلى قول أبي جهل أيضا تزاحمنا نحن وبنو عبدالمطلب الشرف حتى صرنا كفرسى رهان قالوا منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزل قوله تعالى { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } وإلى هذا أشار صاحب الهمزية بقوله ** عجبا للكفار زادوا ضلالا ** بالذي فيه للعقول اهتداء ** ** والذي يسألون منه كتاب ** منزل قد أتاهم وإرتقاء **
أي أعجب عجبا من حال الكفار حالة كونهم زادوا ضلالا بالقرآن الذي فيه إهتداء للعقول وأعجب عجبا أيضا من الأمر الذي يطلبونه منه صلى الله عليه وسلم وهو كثير من جملته كتاب منزل معه عليهم من السماء وهو القرآن ** أو لم يكفهم من الله ذكر ** فيه للناس رحمة وشفاء ** ** أعجز الإنس آية منه والجن ** فهلا يأتي به البلغاء ** ** كل يوم يهدى إلى سامعيه ** معجزات من لفظه القراء ** ** تتحلى به المسامع والأفواه ** فهو الحلى والحلواء ** **
رق لفظا وراق معنى فجاءت ** في حلاها وحليها الخنساء ** ** وأرتنا فيه غوامض فضل ** رقة من زلاله وصفاء ** ** إنما تجتلي الوجوه إذا ما ** جليت عن مرآتها الأصداء ** ** سور منه أشبهت صورا منا ** ومثل النظائر النظراء ** ** والأقاويل عندهم كالتماثيل ** فلا يوهمنك الخطباء ** ** كم أبانت آياته عن علوم ** من حروف أبان عنها الهجاء ** ** فهي كالحب والنوى أعجب الزرا ** ع منها سنابل وزكاء ** ** فأطالوا فيه التردد والريب فقالوا سحر وقالوا افتراء ** وإذا البينات لم تغن شيئا ** فالتماس الهدى بهن عناء ** ** وإذا ضلت العقول على علم ** فماذا تقوله الفصحاء **
أي أو لم يكفهم عما سألوه عنادا ذكر واصل إليهم حالة كونه من الله تعالى رحمة وشفاء للناس والجن والملائكة أعجز الإنس والجن آية منه فهلا يأتي بتلك الآية أهل البلاغة كل وقت يهدى قراؤه إلى سامعيه معجزات من لفظه ولذلك تتحلى بسماعه المسامع من التحلية التي هي لبس الحلي وتتحلى بألفاظه الأفواه من الحلواء فهو الحلى والحلواء حسن من جهة اللفظ وتصفى من شوائب النقص من جهة المعنى فأرتنارقة من زلاله وصفاء من ذلك الزلال خبايا فضل فيه وهي العلوم المستنبطة منه وإنما تظهر الوجوه ظهورا واضحا لا خفاء معه بوجه إذا قوبلت بمرآة وقت جلاء الأصداء عن تلك المرآة سور منه أشبهت صورا منا من حيث إشتمال كل صورة منا على عقل وفهم وخلق لا يشاركه فيه غيره والأقاويل الصادرة من الكفار في القرآن كالصور التي يصورها المصورون فإنه لا وجود لها في الحقيقة فما قالوه في القرآن باطل قطعي البطلان فاحذر الخطباء أن توقع في وهمك أن ما تأتي به يقارب القرآن كم أوضحت آياته علوما حالة كونها متولدة من حروف قليلة كشف عنها التهجي كالحب الذي يلقيه الزارع والنوى الذي يلقيه الغارس أعجب الزراع والغراس منها أي من تلك الحبوب والنوى سنابل وثمار وتمر فاق الحصر فأطالوا في تلك السور الشك فقالوا سحر وتمويه لا حقيقة له وقالوا مرة أخرى أساطير الأولين وإذا كانت الحجج والبراهين لم تفدهم شيئا من الهدى فطلب الهدى منهم بتلك الحجج تعب لا يفيد شيئا وإذا ضلت العقول
عن طرق الحق مع علم منها بتلك الطرق فأي قول يقوله الفصحاء أي وقال الوليد ابن المغيرة يوما أينزل القرآن على محمد وأترك أنا وأنا كبير قريش وسيدنا ويترك أبو مسعود الثقفي سيد ثقيف ونحن عظماء القريتين أي مكة والطائف فأنزل الله تعالة { وقالوا لولا } أي هلا { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } أي أعظم وأشرف من محمد صلى الله عليه وسلم فرد الله تعالى عليهم بقوله { أهم يقسمون رحمة ربك } الآية
وفي لفظ قال بعضهم كان الأحق بالرسالة الوليد بن المغيرة من أهل مكة أو عروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف ثم لا يخفى أن كفار قريش بعثوا مع النضر بن الحارث عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهما اسالاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول أي التوراة لأنه قبل الإنجيل وعندهم علم ليس عندنا فخرجا حتى قدما المدينة وسألا أحبار يهود أي قالا لهم أتيناكم لأمر حدث فينا منا غلام يتيم حقير يقول قولا عظيما يزعم أنه رسول الله وفي لفظ رسول الرحمن قالوا صفوا لنا صفته فوصفوا قالوا فمن يتبعه منكم قالوا سفلتنا فضحك حبر منهم وقالوا هذا النبي الذي نجد نعته ونجد قومه أشد الناس له عداوة
قالت لهم أحبار اليهود سلوه عن ثلاث فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول أي وهم أهل الكهف ما كان من أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها أي وهو ذو القرنين ما كان نبؤه وسلوه عن الروح ما هي فإذا أخبركم بذلك أي بحقيقة الأولين وبعارض من عوارض الثالث وهو كونها من أمر الله فاتبعوه فإنه نبي فرجع النضر وعقبة إلى قريش وقالا لهم قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد وأخبراهم الخبر فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن ذلك فقال لهم عليه الصلاة والسلام أخبركم غدا ولم يستثن أي لم يقل إن شاء الله تعالى وانصرفوا فمكث صلى الله عليه وسلم خمسة عشرة يوما وقيل ثلاثة أيام وقيل أربعة أيام لا يأتيه الوحي وتكلمت قريش في ذلك بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إن محمدا قلاه ربه وتركه أي ومن جملة من قال ذلك له صلى الله عليه وسلم أم جميل امرأة عمه أبي لهب قالت له ما أرى صاحبك إلا وقد ودعك وقلاك أي تركك
وبغضك وفي رواية قالت امرأة من قريش أبطأ عليه شيطانه وشق عليه صلى الله عليه وسلم ذلك منهم ثم جاءه جبريل بسورة الكهف وفيها خبر الفتية الذين ذهبوا وهم أهل الكهف
ويروى أنهم يكونون مع عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إذا نزل ويحجون البيت وخبر الرجل الطواف وهو ذو القرنين أي وهو إسكندر ذو القرنين كان له قرنان صغيران من لحم تواريهما العمامة
وفي لفظ كان له شبه القرنين في رأسه وقيل غديرتان من شعر وقيل لأنه قرن ما بين طلوع الشمس ومغربها أي بلغ قطرى المشرق والمغرب وقيل ضرب على قرن رأسه فمات ثم أحيى ثم ضرب على قرنه الآخر فمات ثم أحيى وقيل لأنه ملك الروم وفارس وقيل لأنه انقرض في زمنه قرنان من الناس والقرن زمان مائة سنة وكان ذو القرنين رجلا صالحا من أهل مصر من ولد يونن وفي لفظ يونان بن يافث بن نوح وكان من الملوك العادلة وكان الخضر صاحب لوائه الأكبر وقيل كان نبيا قاله الضحاك
وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل بالجواب عن الروح المذكور ذلك في سورة الإسراء وهو أن الروح من أمر الله أي قل لهم الروح من أمر ربي أي من علمه لا يعلمه إلا هو أي وكان في كتبهم أن الروح من أمر الله أي مما استأثر الله تعالى بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه ومن ثم جاء في بعض الروايات ما تقدم إن أجابكم عن حقيقة الروح فليس بنبي وإلا بأن أجابكم عنها بأنها من أمر الله فهو نبي ولعل هذا هو المراد كما جاء في بعض الروايات سلوه عن الروح مما استأثر الله تعالى بعلمه كيف يسألونه فيخبرهم بذلك إلا أن يقال المراد إن أجابكم بغير قوله من أمر ربي فاعلموا أنه غير نبي فإنه يحاول أن يخبركم عن حقيقتها وحقيقتها لا يعلمها إلا الله تعالى
ويوافقه ما في مأثور التفسير { من أمر ربي } من علم ربي لا علم لي به وفي بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سلوه عن الروح التي نفخ الله تعالى في آدم فإن قال لكم من الله تعالى فقولوا له كيف يعذب الله في النار شيئا هو منه
وحاصل الجواب الذي أشارت إليه الآية أن الروح أمر بمعنى مأمور أي مأمور
من مأموراته وخلق من خلقه لا أنها جزء منه والله أعلم أي وهذا يدل على أن المسئول عنه روح الإنسان التي هي سبب في إفادة الحياة للجسد
وفي كلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى أن الروح روحان حيواني وهي التي تسميه الأطباء المزاج وهو جسم لطيف بخاري معتدل سار في البدن الحامل لقواه من الحواس الظاهرة والقوى الجسمانية وهذه الروح تفنى بفناء البدن وتنعدم بالموت وروح روحاني وهي التي يقال لها النفس الناطقة ويقال لها اللطيفة الربانية ويقال لها العقل ويقال لها الروح ويقال لها القلب من الألفاظ الدالة على معنى واحد لها تعلق بقوى النفس الحيواني وهذه الروح لا تفنى بفناء البدن وتبقى بعد الموت هذا كلامه
وفي كلام بعضهم والروح عند أكثر أهل السنة جسم لطيف مغاير للأجسام ماهية وهيئة متصرف في البدن حال فيه حلول الدهن في الزيتون يعبر عنه بأنا وأنت وإذا فارق البدن مات
وذهب جمع منهم الغزالي والإمام الرازي وفاقا للحكماء والصوفية إلى أنه جوهر مجرد غير حال بالبدن يتعلق به تعلق العاشق بالمعشوق يدبره أمره على وجه لا يعلمه إلا الله اه
ورأيت في كلام الشيخ الأكبر أن الإمام ركن الدين السمرقندي لما فتح المسلمون بلاد الهند خرج بعض علمائها ليناظر المسلمين فسأل عن العلماء فأشاروا إلى الإمام ركن الدين السمرقندي فقال له الهندي ما تعبدون قالوا نعبد الله بالغيب قال من أنبأكم قالوا محمد صلى الله عليه وسلم قال فما الذي قال في الروح قال هو من أمر ربي فقال صدقتم فأسلم وليس المراد بالروح خلق من الملائكة على صورة بني آدم أو ملك عظيم عرض شحمة أذنه خمسمائة عام إلى غير ذلك مما قيل قال بعضهم قلت كذا في هذه الرواية أنهم سألوه أي مشركو مكة عن الروح وحديث ابن مسعود يدل على أن السؤال عن الروح ونزول الآية كان بالمدينة أي من اليهود هذا كلامه
وفيه أنه سيأتي جواز تكرار السؤال وتكرر نزول الآية إلى آخر ما يأتي وبه يعلم ما في الإتقان حيث تعقب حيث تعقب قول بعضهم إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم سألوه عن الروح وعن ذي القرنين بقوله قلت السائل عن الروح وذي القرنين مشركو مكة أو اليهود كما في أسباب النزول لا الصحابة
وفي الإتقان قد يعدل عن الجواب اصلا إذا كان السائل قصده التعنت نحو { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } قال صاحب الإفصاح إنما سأل اليهود تعجيزا وتغليظا إذا كان الروح يقال بالإشتراك على روح الانسان والقرآن وعيسى وجبريل وملك آخر وصنف من الملائكة فقصد اليهود أن يسألوه صلى الله عليه وسلم فبأي مسمى أجابهم قالوا ليس هو فجاءهم الجواب مجملا وكان هذا الإجمال كيدا يرد به كيدهم وفي سورة الكهف أيضا { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت } أي إذا أردت أن تقول سأفعل شيئا فيما يستقبل من الزمان تقول إن شاء الله فإذا نسيت التعليق بذلك ثم تذكرت تأتي بها فذكرها بعد النسيان كذكرها بعد القول قال جمع منهم حسن مادام في المجلس أي وظاهره وإن طال الفصل
وفي الخصائص الكبرى أن هذا أي الإتيان بالمشيئة بعد التذكر من خصائصه صلى الله عليه وسلم ليس لأحد منا أن يستثني أي يأتي بالمشيئة إلا في صلة يمينه
أقول كان ينبغي أن يقول في صلة إخباره لأن مساق الآية في الإخبار لافي الحلف
فإن قيل هي علامة في الخبر ة الحلف قلنا كان ينبغي أن يقول حينئذ في صلة كلامه وحينئذ يقتضي كلامه أنا نشاركه في الخبر دون الحلف والله أعلم
ثم لا يخفى أنه قيل سبب احتباس الوحي أنه لم يقل إن شاء الله تعالى وهو مشهور وقيل لإنه كان في بيته كلب وفي لفظ كان تحت سريره جرو ميت فقد جاء أنه لما صلى الله عليه وسلم عاتب جبريل في احتباسه قال أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أي أنه صلى الله عليه وسلم قال لخادمته خولة يا خولة ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل لا يأتيني قالت فقلت في نفسي لو كنست البيت فأهوبت بالمكنسة تحت السرير فأخرجت الجرو الميت
أقول قال ابن كثير قد ثبت في الحديث المروي في الصحاح والسنن والمسانيد من حديث جماعة من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب وقد أورد بعض الزنادقة سؤالا وهو
إذا كانت الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو صورة أي صورة التماثيل التي فيها الأرواح يلزم أن لا يموت من عنده كلب أو صورة وأن لا يكتب عمله
وأجيب عنه بأن المراد لا تدخل الملائكة ذلك البيت دخول إكرام لصاحبه وتحصيل بركة فلا ينافي دخولهم لكتابة الأعمال وقبض الأرواح والله أعلم
وقيل لأنه صلى الله عليه وسلم زجر سائلا ملحا وقد كان قبل ذلك يرد السائل بقوله آتاكم الله من فضله أي ربما سكت فقد روى الشيخان ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقال لا قال الحافظ بن حجر المراد بذلك أنه لا ينطق بالرد بل إن كان عنده شيئ أعطاه وإلا سكت وهذا هو المراد بما جاء أنه صلى الله عليه وسلم ما رد سائلا قط أي ما شافهه بالرد
وقد حكى بعضهم قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت يا رسول الله استغفر لي فسكت فقلت يا رسول الله إن ابن عيينة حدثنا عن جابر أنك ما سئلت شيئا قط فقلت لا فتبسم صلى الله عليه وسلم واستغفر لي أي فكان يأتي بالأول حيث لا يكون المقام يقتضي الاقتصار على السكوت ولعل هذا في غير رمضان
فلا يخالف ما رواه البزار عن أنس رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان اطلق كل أسير وأعطى كل سائل وبين الشيخ ابن الجوزي فبي النشر سبب إلحاح هذا السائل فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إليه قطف عنب قبل أوانه فهم أن يأكل منه فجاءه سائل فقال أطعموني مما رزقكم الله فسلم إليه ذلك القطف فلقيه بعض أصحابه فاشتراه منه وأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد السائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأعطاه إياه فلقيه رجل آخر من الصحابة فاشتراه منه وأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد السائل فسأله فانتهره وقال إنك ملح قال وهذا سياق غريب جدا وهو معضل
وقيل سبب ذلك غير ذلك من ذلك الغير أن جبريل عليه السلام لما قال له صلى الله عليه وسلم ما حبسك في قال كيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم و لا تنقون براجمكم ولا تأخذون شعوركم و لا تستاكون
أقول واختلاف هذه الأسباب ظاهر في أن الواقعة متعددة ولا ينافيه قوله ونزلت أي سورة الضحى ردا عليهم في قولهم إن محمداقلاه ربه وتركه وهي
{ ما ودعك ربك وما قلى } أي ما قطعك قطع المودع وما أبغضك لأنه لا يجوز أن يكون مما تكرر نزوله لاختلاف سببه
ويمكن أن يقال يجوز أن تكون الواقعة واحدة وتعددت أسبابها ولا ينافيه إخبار جبريل عليه السلام تارة بأن سبب احتباسه عدم قص الأظفار وما ذكر معه وتارة بأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب وتارة بقوله { وما نتنزل إلا بأمر ربك } كما يأتي قريبا وكما سيأتي في قصة الإفك لكن فال الحافظ بن حجر قصة إبطال جبريل بسبب الجرو مشهورة لكن كونها سبب نزول الآية أي { ما ودعك ربك وما قلى } غريب فالمعتمد ما في الصحيح هذا كلامه
أقول ومما يدل على أن واقعة الجرو كانت بالمدينة مافي بعض التفاسير أن هذا الجرو كان للحسن والحسين رضي الله عنهما ومارواه مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في ساعة أن يأتيه فجاء تلك الساعة ولم يأته فيها قالت وكان بيده عصا فطرحها من يده وهو يقول ما يخلف الله وعده ولا رسله ثم التفت فإذا كلب تحت السرير فقال متى دخل هذا الكلب فقلت والله مادريت به فأمر به فأخرج فجاء جبريل عليه الصلاة والسلام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدتني فجلست لك ولم تأت فقال منعني الكلب الذي كان في بيتك إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة
وفي زيادة الجامع الصغير أتاني جبريل فقال لي إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان على الباب تماثيل وكان في البيت ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب فأمر صلى الله عليه وسلم برأس التمثال الذي في البيت فليقطع فيصير كهيئة الشجرة وأمر بالستر فليقطع فيجعل منه وسادتين منبوذتين توطآن وأمر بالكلب فأخرج ومعلوم أن مجئ جبريل له صلى الله عليه وسلم إكرام وتشريف له صلى الله عليه وسلم فلا ينافي ما تقدم فليتأمل
لما نزلت السورة المذكورة كبر صلى الله عليه وسلم فرحا بنزول الوحي واستمر صلى الله عليه وسلم لا يجاهر قومه بالدعو حتى نزل { وأما بنعمة ربك فحدث } فعند ذلك كبر صلى الله عليه وسلم أيضا وكان ذلك سببا للتكبير في افتتاح السورة التي بعدها وفي ختمها إلى آخر القرآن وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أنه قرأ كذلك على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أمره له بذلك وأنه كان كلما ختم سورة وقف وقفة ثم قال الله أكبر
هذا وقيل ابتداء التكبير من أول ألم نشرح لا من أول والضحى وقيل إن التكبير إنما هو لآخر السورة وابتداؤه من آحر سورة الضحى إلى آخر { قل أعوذ برب الناس } والأتيان بالتكبير في الأول والآخر جمع بين الروايتين والرواية التي جاءت بأنه كبر في أول السورة المذكورة والرواية الأخرى أنه كبر في آخرها
ومما يدل على أن التكبير أول سورة الضحى ما جاء عن عكرمة بن سليمان قال قرأت على اسماعيل بن عبد ربه فلما بلغت الضحى قال كبر فإني قرأت على عبد الله بن كثير أحد القراء السبعة فلما بلغت والضحى قال لي كبر حتى تختم وأخبري ابن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك وأخبره أن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أمره بذلك وأخبره ابن عباس أن أبي بن كعب أمره بذلك أخبره أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك قال بعضهم حديث غريب
ونقل عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال لآخر إذا تركت التكبير من الضحى إلى الحمد في الصلاة وخارجها فقد تركت سنة من سنن نبيك صلى الله عليه وسلم لكن في كلام الحافظ ابن كثير ولم يرد ذلك أي التكبير عند نزول سورة الضحى باسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف
وقد ذكر الشيخ أبو المواهب الشاذلي رضي الله تعالى عنه عن شيخه أبي عثمان أنه قال إنما نزلت سورة ألم نشرح عقب قوله { وأما بنعمة ربك فحدث } إشارة إلى أن من حدث بنعمة الله فقد شرح الله صدره قال كأنه تعالى يقول إذا حدثت بنعمتي ونشرتها بين عبادي فقد شرحت صدرك
وعن ابن اسحاق ذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا وفي لفظ ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فقال له جبريل { وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا } أي لا ننتقل من مكان إلى مكان ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته على مقتضى حكمته وما كان ربك تاركا لك كما زعم الكفار بل كان ذلك لحمكة رآها
================================
==========ج5. كتاب:السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون
المؤلف:علي بن برهان الدين الحلبي
وأما حديث الزبيدي فقد حدث بعضهم قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه من الصحابة إذا رجل من زبيد يطوف على حلق قريش حلقة بعد أخرى وهو يقول يا معشر قريش كيف تدخل عليكم المارة أو يجلب إليكم جلب أو يحل بضم الحاء أي ينزل بساحتكم تاجر وأنتم تظلمون من دخل عليكم في حرمكم حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه فقال له صلى الله عليه وسلم ومن ظلمك فذكر أنه قدم بثلاث أجمال خيرة إبله أي أحسنها فسامه بها أبو جهل ثلث أثمانها ثم لم يسمه بها لأجله سائم قال فأكسد علي سلعتي فظلمني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأين جمالك قال هذه هي بالحزورة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام أصحابه فنظروا إلى الجمال فرأى جمالا حسانا فساوم ذلك الرجل حتى ألحقه برضاه وأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فباع جملين منها بالثمن وأفضل بعيرا باعه وأعطى أرامل بني عبد المطلب ثمنه وكل ذلك وأبو جهل جالس في ناحية من السوق ولم يتكلم ثم أقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له إياك يا عمرو أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الرجل فترى مني ما تكره فجعل يقول لا أعود يا محمد لا أعود يا محمد فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل على أبي جهل أمية بن خلف ومن معه من القوم فقالوا له ذللت في يد محمد فإما أن تكون تريد أن تتبعه وإما رعب دخلك منه فقال لهم لا أتبعه أبدا إن الذي رأيتم مني لما رأيته رأيت معه رجالا عن يمينه ورجالا عن شماله معهم رماح يشرعونها إلي لو خالفته لكانت إياها أي لأتوا على نفسي
ونظير ذلك أن أبا جهل كان وصيا على يتيم فأكل ماله وطرده فاستغاث اليتيم بالنبي صلى الله عليه وسلم على أبي جهل فمشى معه إليه ورد عليه ماله فقيل له في ذلك فقال خفت من حربة عن يمينه وحربة عن شماله لو امتنعت أن أعطيه لطعنني
وأما حديث المستهزئين فمما استهزئ به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدث به بعضهم أن أبا جهل بن هشام ابتاع من شخص يقال له الإراشي بكسر الهمزة نسبة إلى إراشة بطن من خثعم أجمالا فمطله بأثمانها فدلته قريش على النبي صلى الله عليه وسلم لينصفه من أبي جهل استهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم لعلمهم بأنه لا قدرة له على أبي جهل أي بعد أن وقف على ناديهم فقال يا معشر قريش من رجل يعينني على أبي الحكم بن هشام فإني غريب وابن سبيل وقد غلبي على حقي فقالوا له أترى ذلك
الرجل يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب إليه فهو يعينك عليه فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له حاله مع أبي جهل أي قال له يا أبا عبد الله إن أبا الحكم بن هشام غلبني على حق لي قبله وأنا غريب وابن سبيل وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يأخذ لي بحقي منه فأشاروا إليك فخذ حقي منه يرحمك الله فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجل إلى أبي جهل وضرب عليه بابه فقال من هذا قال محمد فخرج إليه وقد انتقع لونه أي تغير وصار كلون النقع الذي هو التراب وهو الصفرة مع كدرة كما تقدم فقال له أعط هذا حقه قال نعم لا تبرح حتى أعطيه الذي له فدفعه إليه قال ثم إن الرجل أقبل حتى وقف على ذلك المجلس فقال جزاه الله خيرا يعني النبي صلى الله عليه وسلم فقد والله أخذ لي بحقي وقد كانوا أرسلوا رجلا ممن كان معهم خلف النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له انظر ماذا يصنع فقالوا لذلك الرجل ماذا رأيت قال رأيت عجبا من العجب والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج إليه وما معه روحه فقال أعط هذا حقه فقال نعم لا تبرح حتى أخرج إليه حقه فدخل فخرج إليه بحقه فأعطاه إليه فعند ذلك قالوا لأبي جهل ويلك ما رأينا مثل ما صنعت قال ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب علي بابي وسمعت صوته فملئت رعبا ثم خرجت إليه وإن فوق رأسي فحلا من الإبل ما رأيت مثله قط لو أبيت أو تأخرت لأكلني وإلى هذه القصة أشار صاحب الهمزية بقوله ** واقتضاه النبي دين الإراشي ** وقد ساء بيعه والشراء ** ** ورأى المصطفى أتاه بما لم ** ينج منه دون الوفاء النجاء ** ** هو ما قد رآه من قبل لكن ** ما على مثله يعد الخطاء **
أي وطلب صلى الله عليه وسلم من أبي جهل أن يؤدي دين الإراشي وقد ساء بيعه وشراؤه مع ذلك الرجل ورأى المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد أتاه بفحل من الإبل لم ينج منه دون الوفاء لذلك الدين كثير النجاء وذلك الذي أتاه به هو الفحل الذي قد رآه من قبل أي لما أراد عدو الله أن يلقي عليه صلى الله عليه وسلم الحجر وهو ساجد كما تقدم لكن ما على مثله فضلا عنه يعد الخطأ لأن خطأه لا ينحصر
أي ومن استهزاء أبي جهل بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه في بعض الأوقات سار
خلف النبي صلى الله عليه وسلم يخلج بأنفه وفمه يسخر به فاطلع عليه صلى الله عليه وسلم فقال له كن كذلك فكان كذلك إلى أن مات
قال ابن عبدالبر وكان من المستهزئين الذين قال الله تعالى فيهم { إنا كفيناك المستهزئين } أبو جهل وأبو لهب وعقبة بن أي معيط والحكم بن العاص بن أمية وهو والد مروان بن الحكم عم عثمان بن عفان والعاص بن وائل فمن استهزاء أبي جهل ما تقدم
ومن استهزاء أبي لهب به صلى الله عليه وسلم أنه كان يطرح القذر على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ومر يوما من الأيام فرآه أخوه حمزة رضي الله تعالى عنه قد فعل ذلك فأخذه وطرحه على رأسه فجعل أبو لهب ينفض رأسه ويقول صابئ أحمق
ومن استهزاء عقبة بن أبي معيط به صلى الله عليه وسلم أنه كان يلقى القذر أيضا على بابه صلى الله عليه وسلم كما تقدم وقد قال صلى الله عليه وسلم كنت بين شر جارين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط إن كانا يأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي كما تقدم
ومن استهزائه أنه بصق في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فعاد بصاقه على وجهه وصار برصا أي فإنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر مجالسة عقبة بن أبي معيط فقدم عقبة يوما من سفر فصنع طعاما ودعا الناس من أشراف قريش ودعا النبي صلى الله عليه وسلم فلما قرب إليهم الطعام أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل فقال ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله فقال عقبة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله فأكل صلى الله عليه وسلم من طعامه وانصرف الناس وكان عقبة صديقا لأبي بن خلف فأخبر الناس أبيا بمقالة عقبة فأتى إليه وقال يا عقبة صبوت قال والله ما صبوت ولكن دخل منزلي رجل شريف فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له فطعم والشهادة ليست في نفسي فقال له أبي وجهي ووجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأه وتبزق في وجهه وتلطم عينه فقال له عقبة لك ذلك ثم إن عقبة لقى النبي صلى الله عليه وسلم ففعل به ذلك قال الضحاك لما بزق عقبة لم تصل البزقة إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل وصلت إلى وجهه هو كشهاب نار فاحترق مكانها وكان أثر الحرق في وجهه إلى الموت وحينئذ يكون المراد بقوله فيما تقدم فعاد بصاقه برصا في وجهه أي صار
كالبرص وأنزل الله تعالى في حقه { ويوم يعض الظالم على يديه } أي في النار يأكل إحدى يديه إلى المرفق ثم يأكل الأخرى فتنبت الأولى فيأكلها وهكذا
ومن استهزاء الحكم بن العاص أنه كان صلى الله عليه وسلم يمشى ذات يوم وهو خلفه يخلج بفمه وأنفه يسخر بالنبي صلى الله عليه وسلم فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له كن كذلك فكان كذلك أي كما تقدم نظير ذلك لأبي جهل واستمر الحكم بن العاص يخلج بأنفه وفمه بعد أن مكث شهرا مغشيا عليه حتى مات أسلم يوم فتح مكة وكان في إسلامه شيء اطلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب بيته وهو عند بعض نسائه بالمدينة فخرج إليه صلى الله عليه وسلم بالعنزة أي وقيل بمدرى في يده والمدرى كالمسلة يفرق به شعر الرأس وقال من عذيرى من هذه الوزغة لو أدركته لفقأت عينه ولعنه وما ولد وغربه عن المدينة إلى وج الطائف فلم يزل حتى ولى ابن أخيه عثمان رضي الله تعالى عنه الخلافة فدخل المدينة بعد أن سأل عثمان أبا بكر في ذلك فقال لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سأل عمر لما ولى الخلافة فقال له مثل ذلك ولما أدخله عثمان نقم عليه الصحابة بسبب ذلك فقال أنا كنت شفعت فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعدني برده أي أني أرده ولا ينافى ذلك سؤال عثمان لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم في ذلك كما لا يخفى لأنه يحتمل أن يرده عثمان إما بنفسه أو بسؤاله وسيأتي ذلك في جملة أمور نقمها عليه الصحابة
وعن هند ابن خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالحكم فجعل يغمز بالنبي صلى الله عليه وسلم فرآه فقال اللهم اجعل به وزغا فرجف وأرتعش مكانه والوزغ الإرتعاش وفي رواية فما قام حتى ارتعش
وعن الواقدي استأذن الحكم بن العاص على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف صوته فقال ائذنوا له لعنه الله ومن يخرج من صلبه إلا المؤمنين منه وقليل ما هم ذو مكر وخديعة يعطون الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق وكان لا يولد لأحد ولد بالمدينة إلا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأتى إليه بمروان لما ولد فقال هو الوزغ بن الوزغ الملعون ابن الملعون وعلى هذا فهو صحابي إن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه لأنه يحتمل أنه أتى به إليه صلى الله عليه وسلم فلم يأذن بإدخاله عليه وربما يدل ذلك قوله هو الوزغ إلى آخره
وفي كلام بعضهم أن مروان ولد بمكة وفي كلام بعض آخر أنه ولد بالطائف بعد أن نفى أبوه إلى الطائف أي ولم يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو ليس بصحابي ومن ثم قال البخاري مروان بن الحكم لم ير النبي صلى الله عليه وسلم وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لمروان نزل في أبيك { ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم } وقالت له سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبيك وجدك الذي هو العاص بن أمية إنهم الشجرة الملعونة في القرآن ولى مروان الخلافة تسعة أشهر
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لمروان بن الحكم حيث قال لأخيها عبدالرحمن بن أبي بكر لما بايع معاوية لولده قال مروان سنة أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فقال عبدالرحمن بل سنة هرقل وقيصر وامتنع من البيعة ليزيد بن معاوية فقال له مروان أنت الذي أنزل الله فيك { والذي قال لوالديه أف لكما } فبلغ ذلك عائشة فقالت كذب والله ما هو به ثم قالت له أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أباك وأنت في صلبه
وعن جبير بن مطعم كنا مع رسول الله صلى لله عليه وسلم فمر الحكم بن العاص فقال النبي صلى الله عليه وسلم ويل لأمتي مما في صلب هذا قال بعضهم وكون النبي صلى الله عليه وسلم مع ما هو عليه من الحلم والإغضاء على ما يكره فعل بالحكم ذلك يدل على أمر عظيم ظهر له في الحكم وأولاده
وعن حمران بن جابر الجعفي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ويل لبني أمية ثلاث مرات أي وقد ولى منهم الخلافة أربعة عشر رجلا أولهم معاوية بن أبي سفيان وآخرهم مروان بن محمد وكان مدة ولايتهم ثنتين وثمانين سنة وهي ألف شهر وقال بعضهم لا يزيد ذلك يوما ولا ينقص يوما قال ابن كثير وهذا غريب جدا وفيه نظر لأن معاوية حين تسلم الخلافة من الحسن كان ذلك سنة أربعين أو إحدى وأربعين واستمر الأمر في بني أمية إلى أن انتقل إلى بني العباس سنة ثنتين وثلاثين ومائة ومجموع ذلك ثنتان وتسعون سنة وألف شهر تعدل ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر هذا كلامه
ومن استهزاء العاص بن وائل أنه كان يقول غر محمد نفسه وأصحابه أن وعدهم أن يحيوا بعد الموت والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والأحداث
أي ومن استهزائه أن خباب بن الأرت رضي الله تعالى عنه كان قينا بمكة أي حدادا يعمل السيوف وقد كان باع للعاص سيوفا فجاءه يتقاضى ثمنها فقال له يا خباب أليس يزعم محمد هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم أو ولد قال خباب بلى قال فانظرني إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هناك حقك ووالله لا تكونن أنت وصاحبك آثر عندالله مني ولا أعظم حظا في ذلك
وفي لفظ أن العاص قال له لا أعطيك حتى تكفر بمحمد فقال والله لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم يبعثك قال فذرني حتى أموت ثم أبعث فسوف أوتى مالا وولدا فأقضيك فأنزل الله تعالى فيه { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا }
وفي كلام ابن حجر الهيتمي وفي البخاري من عدة طرق أن خبابا رضي الله تعالى عنه طلب من العاص بن وائل السهمي دينا له عليه قال لا أعطيك حتى تكفر بمحمد فقال لا أكفربه حتى يميتك الله ثم يبعثك
وفيه أن هذا تعليق للكفر بممكن أي وتعليق الكفر ولو بمحال عادي وكذا شرعي أو عقلي على إحتمال كفر لأنه ينافى عقد التصميم الذي هو شرط في الإسلام
وأجيب بأنه لم يقصد التعليق قطعا وإنما أراد تكذيب ذلك اللعين في إنكار البعث ولا ينافيه قوله حتى لأنها تأتي بمعنى إلا المنقطعة فتكون بمعنى لكن الذي صرحوا بأن ما بعدها كلام مستأنف وعليه خرج ابن هشام الخضراوي حديث كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه أي لكن أبواه
وعد بعضهم من المستهزئين الحارث بن عيطلة ويقال ابن عيطل ينسب إلى أمه وكان من استهزائه ما تقدم عن العاص بن وائل وأبي جهل من الإختلاج خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعد منهم الأسود بن عبد يغوث وهو ابن خال النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المسلمين قال لأصحابه استهزاء بالصحابة قد جاءكم ملوك الأرض الذي يرثون كسرى
وقيصر أي لأن الصحابة كانوا متقشفين ثيابهم رثة وعيشهم خشن ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم أما كلمت اليوم من السماء يا محمد وما أشبه هذا القول
وعد منهم الأسود بن عبدالمطلب ومن استهزائه أنه كان هو وأصحابه يتغامزون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويصفرون إذا رأوهم
وعد منهم النضر بن الحارث فهلك غالبهم قبيل الهجرة بضروب من البلاء
أقول والذي ينبغي أن يكون المراد بالمستهزئين في الآية وهي { إنا كفيناك المستهزئين } الوليد بن المغيرة والد خالد وعم أبي جهل فإنه كان من عظماء قريش وكان في سعة من العيش ومكنة من السيادة كان يطعم الناس أيام منى حيسا وينهى أن توقد نار لأجل طعام غير ناره وينفق على الحاج نفقة واسعه وكان الأعراب تثنى عليه كانت له البساتين من مكة إلى الطائف وكان من جملتها بستان لا ينقطع نفعه شتاء ولا صيفا وببركته صلى الله عليه وسلم أصابته الجوائح والآفات في أمواله حتى ذهبت بأسرها ولم يبق له في أيام الحج ذكر وكان المقدم في قريش فصاحة وكان يقال له ريحانة قريش ويقال له الوحيد أي في الشرف والسودد والجاه والرياسة قال بعضهم بل هو وحيد في الكفر والخبث والعناد
والعاص بن وائل والد عمرو بن العاص والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث والحارث بن عيطلة وفي لفظ ابن الطلاطلة في اللغة الداهية قال بعضهم وهو إشتباه لأن ابن الطلاطلة اسمه مالك لا حارث
والحارث بن العيطلة كان أحد أشراف قريش في الجاهلية وإليه كانت الحكومة والأموال التي تجعل للآلهة وذكره ابن عبدالبر في الصحابة قال في أسد الغابة لم أر أحدا ذكره في الصحابة إلا أبا عمرو يعني ابن عبد البر والصحيح أنه كان من المستهزئين وهؤلاء الخمسة هم الذين اقتصر عليهم القاضي البيضاوي لما يروى أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد أي يطوف بالبيت وقال له أمرت أن أكفيكهم فلما مر الوليد بن المغيرة قال له يا محمد كيف تجد هذا فقال بئس عبدالله فأومأ إلى ساق الوليد وقال كفيته ومر العاص بن وائل فقال كيف تجد هذا يا محمد قال عبد سوء فأشار إلى أخمصه وقال كفيته ثم مر الأسود بن المطلب فقال كيف تجد هذا يا محمد قال عبد سوء فأومأ إلى عينه وقال كفيته ثم مر الأسود بن عبد يغوث
فقال كيف تجد هذا يامحمد قال عبد سوء فأومأ إلى رأسه وقال كفيته ثم مر الحارث بن عيطلة فقال كيف تجد هذا يا محمد قال عبد سوء فأومأ إلى بطنه وقال كفيته وحينئذ يكون معنى كفاية هذا له صلى الله عليه وسلم أنه لم يسع ولم يتكلف في تحصيل ذلك وإلى هذا أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله ** وجبريل لما استهزأت فرقة الردى ** أشار إلى كل بأقبح ميتة **
والله أعلم قال وروى الزهري أن الأسود بن عبد يغوث خرج من عند أهله فاصابته السموم فاسود وجهه فأتى أهله فلم يعرفوه وأقفلوا دونه الباب وسلط عليه العطش فلا زال يشرب الماء حتى انشق بطنه وهذا يناسب ما سيأتي عن الهمزية ولا يناسب أن جبريل عليه الصلاة والسلام أشار إلى رأسه وف يكلام البلاذري عن عكرمة أن جبريل أخذ بعنق الأسود بن عبد يغوث فحنى ظهره حتى احقوقف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خالي خالي أي لأنه كما تقدم ابن خاله فهو إما على حذف المضاف أو لأجل مراعاة أبيه أي يراعى لأجل أبيه الذي هو خالي فقال جبريل يا محمد دعه وفي رواية قال له جبريل خل عنك ثم حثاه حتى قتله وهذا لا يناسب كون جبريل أشار إلى رأسه
والمناسب لذلك ما ذكره بعضه أنه امتخض رأسه قيحا ثم لم يزل يضرب برأسه أصل شجرة حتى مات وكذا الحارث بن عيطلة أي وفي كلام القاضي حارث ابن قيس
وفي تكملة الجلال السيوطي عدي بن قيس فقد أكل حوتا مملحا فلم يشرب عليه الماء حتى انقد بطنه وهذا المناسب لما ذكر هنا أن جبريل أشار إلى بطنه لكن لا يناسب ما قاله القاضي البيضاوي أنه أشار إلى أنفه فامتخض قيحا
وأما الأسود بن المطلب فقد عمى بصره فقد ذكر أنه خرج ليستقبل ولده وقد قدم من الشام فلما كان ببعض الطريق جلس في ظل شجرة فنجعل جبريل يضرب وجهه وعينيه بورقة من ورقها حتى عمى فجعل يستغيث بغلامه فقال له غلامه لا أحد يصنع بك شيئا أي وقيل ضربه بغصن فيه شوك فسالت حدقتاه وصار يقول ها هو ذا طعن بالشوك في عيني فيقال له ما نرى شيئا وقيل أتى شجرة فجعل ينطح رأسه بها حتى خرجت عيناه أي وفعل ذلك لا ينافي ما ورد فأشار أي جبريل إلى وجهه فعمى بصره
في الحال لجواز أن يراد بالحال الزمن القريب وفي رواية أنه كان يقول دعا علي محمد بالعمى فاستجيب له ودعوت عليه بأن يكون طريدا شريدا فاستجيب لي وسيأتي عن بعضهم في غزوة بدر أنه صلى الله عليه وسلم دعا على الأسود بن المطلب بالعمى وفقد أولاده فعجل له العمى وفقد أولاده ببدر وأما الوليد بن المغيرة فمر بشخص يعمل النبل فتعلق بثوبه سهم فلم ينقلب لينحيه تعاظما فعدا فأصاب السهم عرقا في ساقه فقطعه فمات وأما العاص بن وائل فدخلت شوكة في أخمصه فانتفخت رجله حتى صارت كالرحا ومات وإلى الخمسة الذين ذكرنا أنهم المرادون بقوله تعالى { إنا كفيناك المستهزئين } أشار صاحب الهمزية بقوله ** وكفاه المستهزئين وكم سا ** ء نبيا من قومه استهزاء ** ** خمسة كلهم أصيبوا بداء ** والردى من جنوده الأدواء ** ** فدهى الأسود بن مطلب ** أي عمى ميت به الأحياء ** ** ودهى الأسود بن عبد يغوث ** أن سقاه كأس الردى استسقاء ** ** وأصاب الوليد خدشة سهم ** قصرت عنها الحية الرقطاء ** ** وقضت شوكة على مهجة العا ** ص فلله النقعة الشوكاء ** ** وعلى الحارث القيوح وقد سا ** ل بها رأسه وسال الوعاء ** ** خمسة طهرت بقطعهم الأر ** ض فكف الأذى بهم شلاء **
أي وكفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم المستهزئين به ومرات كثيرة أحزن نبينا صلى الله عليه وسلم كغيره من الأنبياء استهزاء قومه به وهؤلاء المستهزئون به صلى الله عليه وسلم خمسة كلهم أصيبوا بداء عظيم والهلاك من جملة جنوده الأمراض
فأهلك الأسود بن المطلب عمى عظيم الأحياء أموات بسببه وهو المناسب لكون جبريل أشار إلى عينيه ودهى أيضا الأسود بن عبد يغوث استسقاء سقاه كأس الموت وهذا لا يناسب كون جبريل أشار إلى رأسه وأصاب الوليد أثر سهم في ساقه قصرت عنه الحية الرقطاء أي سمها وقضت شوكة على مهجة العاص دخلت في رجله فلله هذا النقعة الخشنة اللمس وقضت على الحارث القيوح والحال أنه قد سال رأسه وفسد ذلك الوعاء لتلك القيوح وهذا هو المناسب لكون جبريل أشار إلى أنفه
لا لقول بعضهم إنه أشار إلى بطنه خمسة طهرت بهلاكهم الأرض فكف الأذى بهم شلاء فاقدة الحركة
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هؤلاء الخمسة هلكوا في ليلة واحدة فعلم أن هؤلاء هم المرادون بقوله تعالى { إنا كفيناك المستهزئين } كما ذكرنا وإن كان المستهزئون غير منحصرين فيهم فلا ينافى عد منبه ونبيه ابنى الحجاج منهم
فقد قيل كانا ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانا يليقيانه فيقولان له أما وجد الله من يبعثه غيرك إن ها هنا من هو أسن منك وأيسر فإن كنت صادقا فأتنا بملك ليشهد لك ويكون معك وإذا ذكر لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا معلم مجنون يعمله أهل الكتاب ما يأتي به ولا ينافي عد أبي جهل وغيره منهم كما تقدم
وفي سيرة ابن المحدث قال عليه الصلاة والسلام من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه
ومن استهزاء أبي جهل أيضا بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوما لقريش يا معشر قريش يزعم محمد أن جنود الله الذي يقذفونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر وأنتم أكثر الناس عددا فيعجز كل مائة رجل منكم عن واحد منهم
أي وفي رواية أن بعض قريش وكان شديدا قوي البأس بلغ من شدته أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدمه فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه قال له أنا أكفيك سبعة عشر واكفوني أنتم إثنين ويقال إن هذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصارعة وقال له يامحمد إن صرعتني آمنت بك فصرعه اليب صلى الله عليه وسلم مرارا فلم يؤمن
أي وفي رواية أن أبا جهل قال أنا أكفيكم عشرة فاكفوني تسعة فأنزل الله تعالى { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } أي لا يطاقون كما تتوهمون { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة } ضلالا { للذين كفروا } الآيات أي بأن يقولوا ما ذكر أو يقولوا لم كانوا تسعة عشرة وماذا أراد الله بهذا العدد أي وهذا العدد لحكمة استأثر الله تعالى بعلمها وقد أبدى بعض المفسرين لذلك حكما تراجع
وقد جاء في وصف تلك الملائكة أن أعينهم كالبرق الخاطف وأنيابهم كالصياصى
أي القرون ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة وفي رواية ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب لأحدهم قوة مثل قوة الثقلين نزعت الرحمة منهم
وأخرج العتبى في عيون الأخبار عن طاوس إن الله خلق مالكا وخلق له أصابع على عدد أهل النار فما من أهل النار معذب إلا ومالك يعذبه بأصبع من أصابعه فوالله لو وضع مالك أصبعا من أصابعه على السماء لأذابها وهؤلاء التسعة عشرة هم الرؤساء ولكل واحد أتباع لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى قال تعالى { وما يعلم جنود ربك إلا هو } أي وهؤلاء الأتباع منهم
وأخرج هناد عن كعب قال يؤمر بالرجل إلى النار فيبتدره مائة ألف ملك أي والمتبادر أن هؤلاء من خزنتها
وفي كلام بعضهم لم يثبت لملائكة النار عدد معين سوى ما في قوله تعالى { عليها تسعة عشر } وإنما ذلك لسقر التي هي إحدى دركات النار لقوله تعالى قبل ذلك { سأصليه سقر } وقد يكون على كل واحدة منها مثل هذا العدد أو أكثر قيل وبسم الله الرحمن الرحيم عدد حروفها على عدد هؤلاء الزبانية التسعة عشر فمن قرأها وهو مؤمن دفع الله تعالى عنه بكل حرف منها واحد منهم
أقول ومن استهزاء أبي جهل أيضا أنه قال يوما لقريش وهو يهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من الحق يا معشر يخوفنا محمد بشجرة الزقوم يزعم أنها شجرة في النار يقال لها شجرة الزقوم والنار تأكل الشجر إنما الزقوم التمر والزبد
وفي لفظ العجوة تترب بالزبد هاتوا تمرا وزبدا تزقموا فأنزل الله تعالى { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم } أي منبتها في أصل جهنم ولا تسلط لجهنم عليها أما علموا أن من قدر على خلق من يعيش في النر ويلتذ بها فهو أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق بها
وقد قال ابن سلام رضي الله تعالى عنه إنها تحيا باللهب كما يحيا شجر الدنيا بالمطر وثمر تلك الشجرة مر له زفرة وأخرج الترمذي وصححه النسائي والبيهقي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن تكون
طعامه أي وقال يا محمد لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي تعبد فأنزلها الله تعالى { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } فكف عن سب آلهتهم وجعل يدعوهم إلى الله عز وجل
ثم رأيت في الدر المنثور في تفسير { إنا كفيناك المستهزئين } قيل نزلت في جماعة مر النبي صلى الله عليه وسلم بهم فجعلوا يغمزون في قفاه ويقولون هذا الذي يزعم أنه نبي ومعه جبريل فغمز جبريل عليه الصلاة والسلام بأصبعه في أجسادهم فصارت جروحا وأنتنت فلم يستطع أحد يدنو منهم حتى ماتوا فلينظر الجمع على تقدير الصحة
وقد يدعى أنهم طائفة آخرون غير من ذكر لأنهم المستهزئون ذلك الوقت أي فقد تكرر نزول الآية والله أعلم
قال ومن استهزاء النضر بن الحارث أنه كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا يحدث فيه قومه ويحذرهم ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله تعالى خلفه في مجلسه ويقول لقريش هلموا فإني والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه يعني النبي صلى الله عليه وسلم ثم يحدثهم عن ملوك فارس لأنه كان يعلم أحاديثهم ويقول ما حديث محمد إلا أساطير الأولين
ويقال إنه الذي { قال سأنزل مثل ما أنزل الله } فانتهى أي لأنه ذهب إلى الحيرة واشترى منها أحاديث الأعاجم ثم قدم بها مكة فكان يحدث بها ويقول هذه كأحاديث محمد عن عاد وثمود وغيرهم ويقال إن ذلك كان سببا لنزول قوله تعالى { ومن الناس من يشتري لهو الحديث }
قال في الينبوع والمشهور أنها نزلت في شراء المغنيات وقال ولا بعد في أن تكون الآية نزلت فيهما ليتحقق العطف في قوله تعالى { وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا } أي فإن هذا الوصف الثاني إنما يناسب النضر فليتأمل ولما تلا عليهم صلى الله عليه وسلم نبأ الأولين قال النضر بن الحارث لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين فأنزل الله تعالى تكذيبا له { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } أي معينا له
وجاء أن جماعة من بني مخزوم منهم أبو جهل والوليد بن المغيرة تواصوا على قتله صلى الله عليه وسلم فبينما النبي صلى الله عليه وسلم قائما يصلى سمعوا قراءته فأرسلوا
الوليد ليقتله فانطلق حتى أتى المكان الذي يصلى فيه فجعل يسمع قراءته ولا يراه فانصرف إليهم وأعلمهم بذلك فأتوه فلما سمعوا قراءته قصدوا الصوت فإذا الصوت من خلفهم فذهبوا إليه فسمعوه من أمامهم ولا زالوا كذلك حتى انصرفوا خائبين فانزل الله تعالى قوله { وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } وتقدم في سبب نزولها غير ذلك ويمكن أن يدعى أنها نزلت لوجود الأمرين فليتأمل
وجاء أن النضر بن الحارث رأى النبي صلى الله عليه وسلم منفردا أسفل ثنية الحجون فقال لا أجده أبدا أخلى منه الساعة فاغتاله فدنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليغتاله فرأى أسود تضرب بأذنابها على رأسه فاتحة أفواهها فرجع على عقبه مرعوبا فلقى أبا جهل فقال من أين فأخبره النضر الخبر فقال أبو جهل هذا بعض سحره
ومما تعنتوا به أنه لما نزل قوله تعالى { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } أي وقودها وحصب بالزنجية حطب أي حطب جهنم وقد قرأتها عائشة رضي الله تعالى عنها كذلك { أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون } شق على كفار قريش وقالوا لعبدالله بن الزبعري قد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا حصب جهنم فقال ابن الزبعري أنا أخصم لكم محمدا ادعوه لي فدعوه له فقال يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله فقال بل لكل من عبد من عبد دون الله فقال ابن الزبعري أخصمت ورب هذه البنية يعني الكعبة ألست تزعم يا محمد أن عيسى عبد من دون الله وكذا عزير والملائكة عبدت النصارى عيسى واليهود عزيرا وبنوا مليح الملائكة فضج الكفار وفرحوا فأنزل الله تعالى { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } يعنى عيسى وعزيرا والملائكة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تم بعون الله الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله
باب الهجرة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم & باب الهجرة الاولى الى أرض الحبشة وسبب رجوع من هاجر اليها من المسلمين الى مكة واسلام عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه
لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نزل بالمسلمين من توالى الاذى عليهم من كفار قريش مع عدم قدرته على انقاذهم مما هم فيه قال لهم تفرقوا فى الارض فان الله تعالى سيجمعكم قالوا الى أين نذهب قال هاهنا وأشار بيده الى جهة أرض الحبشة قال وفى رواية قال لهم أخرجوا الى جهة أرض الحبشة فان بها ملكا لا يظلم عنده احد اي وهى أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه انتهى أى ويجوز أن يكون قال ذلك عند استفساره صلى الله عليه وسلم عن محل اشارته فقد جاء فى الحديث من فر بدينه من أرض الى ارض وان كان شبرا من الارض استوجب له الجنة وكان رفيق أبيه ابراهيم خليل الله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم فهاجر اليها ناس ذو عدد مخافة الفتنة وفرارا الى الله تعالى بدينهم ومنهم من هاجر بأهله ومنهم من هاجر بنفسه فممن هاجر بأهله عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه هاجر ومعه زوجته رقية بنت النبى صلى الله عليه وسلم وكان أول خارج وقيل أول من هاجر الى الحبشة حاطب بن أبي عمرو وقيل سليط بن عمرو ولا ينافيهما قوله صلى الله عليه وسلم ان عثمان لاول من هاجر بأهله بعد لوط أى حيث قال انى مهاجر الى ربى فهاجر الى عمه ابراهيم الخليل ثم هاجرا عليهما الصلاة والسلام حتى أتيا حران ثم هاجرا الى أن نزل ابراهيم عليه الصلاة والسلام فلسطين ونزل لوط عليه الصلاة والسلام المؤتفكة
ووجه عدم المنافى أن كلا من حاطب وسليط يجوز أن يكون هاجر بغير أهله وكان مع رقية أم أيمن حاضنته صلى الله عليه وسلم وكانت رقية رضى الله تعالى عنها ذات جمال بارع وكذا عثمان رضى الله تعالى عنه ومن ثم كان النساء يغنينهما بقولهن ** أحسن شىء قد يرى انسان ** رقية وبعدها عثمان **
ومن ثم ذكر أنه صلى الله عليه وسلم بعث رجلا الى عثمان ورقية رضى الله تعالى عنهما فاحتبس عليه الرسول فلما جاء اليه قال له صلى الله عليه وسلم ان شئت أخبرتك ما حبسك قال نعم قال وقفت تنظر الى عثمان ورقية تعجب من حسنهما أى ومعلوم أن ذلك كان قبل اية الحجاب
ويذكر أن نفرا من الحبشة كانوا ينظرون اليها فتأذت من ذلك فدعت عليهم فقتلوا جميعا وقد جاء فى وصف حسن عثمان رضى الله تعالى عنه قوله صلى الله عليه وسلم قال لى جبريل ان أردت أن تنظر من أهل الارض شبيه يوسف الصديق فانظر الى عثمان بن عفان وسيأتى ذلك مع زيادة
وأبو سلمة هاجر ومعه زوجته أم سلمة أى وقيل هو أول من هاجر بأهله وهو مخالف للرواية السابقة أن عثمان أول من هاجر بأهله ويمكن أن تكون الاوليه فيه اضافية فلا ينافى ما سبق عن عثمان
وعامر بن ربيعة هاجر ومعه امرأته ليلى أى وعنها رضى الله تعالى عنها كان عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه من أشد الناس علينا فى اسلامنا فلما ركبت بعيرى أريد أن أتوجه الى أرض الحبشة اذا أنا بعمر بن الخطاب فقال لى الى أين يا أم عبدالله فقلت قد اذيتمونا في ديننا نذهب فى أرض الله حيث لا نؤذى فقال صحبكم الله ثم ذهب فجاء زوجى عامر فأخبرته بما رأيت من رقة عمر فقال ترجين أن يسلم عمر والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب أى استبعادا لما كان يرى من قسوته وشدته على أهل الاسلام وهذا دليل على أن اسلام عمر كان بعد الهجرة الاولى للحبشة وهو كذلك أى خلافا لمن قال انه كان تمام الاربعين من المسلمين أى ممن أسلم
وفيه أن المهاجرين الى أرض الحبشه كانوا فوق ثمانين كما قاله بعضهم اللهم الا أن يقال انه كان تمام الاربعين بعد خروج المهاجرين الى أرض الحبشة وربما يدل لذلك قول عائشة رضى الله تعالى عنها فى قصة الصديق وفى ضرب قريش له رضى الله تعالى عنه
لما قام خطيبا في المسجد الحرام وقد تقدمت حيث قالت وكان المسلمون تسعة وثلاثين رجلا لكن فى الرواية أنهم قاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون رجلا وقد كان حمزة بن عبدالمطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر فليتأمل
وفى لفظ عن أم عبد الله زوج عام قالت انا لنرحل الى أرض الحبشة وقد ذهب عامر تعنى زوجها الى بعض حاجته اذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف على وكنا نتقى منه الاذى والبلاء والشدة علينا فقال انه لخروج يا أم عبدالله فقلت والله لنخرجن الى أرض فقد اذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجا وفرجا فقال صحبكم الله ورأيت له رقة لم أكن أراها ثم انصرف وتفرست فيه حزنا لخروجنا وقلت لعامر يا أبا عبدالله لو رأيت ما وقع من عمر وذكرت ما تقدم
وممن هاجر أبو سبرة وهو أخو أبى سلمة رضى اله تعالى عنهما لامه أمهما برة بنت عبدالمطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر ومعه امرأته أم كلثوم
وممن هاجر بنفسه عبدالرحمن بن عوف وعثمان بن مظعون رضى الله تعالى عنهما أى وكان أميرا عليهم كما قيل وجزم به ابن المحدث فى سيرته وقال الزهرى لم يكن لهم أمير وسهيل بن البيضاء أى والزبير بن العوام وعبدالله بن مسعود رضى الله تعالى عنهم وقيل انما كان عبدالله بن مسعود فى الهجرة الثانية فخرجوا سرا أى متسللين منهم الراكب ومنهم الماشى حتى انتهوا الى البحر فوفق الله تعالى لهم سفينتين للتجار حملوهم فيهما بنصف دينار أى وفى المواهب وخرجوا مشاة الى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار هذا كلامه فليتأمل
وكان مخرجهم فى رجب من السنة الخامسة من النبوة فخرجت قريش فى اثارهم حتى جاءوا الى البحر لم يجدوا أحدا منهم ولعل خروجهم سرا لا ينافيه ما تقدم عن ليلى امرأة عامر بن ربيعة من سؤال عمر لها واخبارها له بأنها تريد أرض الحبشة فلما وصلوا الى أرض الحبشة نزلوا بخير دار عند خير جار فمكثوا فى أرض الحبشة بقية رجب وشعبان الى رمضان فلما كان شهر رمضان قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين سورة { والنجم إذا هوى } أى وقد أنزلت عليه فى ذلك الوقت ففى كلام بعضهم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما مع المشركين وأنزل الله تعالى عليه سورة { والنجم إذا هوى } فقرأها عليهم حتى اذا بلغ { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى }
وسوس اليه الشيطان بكلمتين فتكلم بهما ظانا أنهما من جملة ما أوحى اليه وهما تلك الغرانيق العلى أى الاصنام وان شفاعتهن لترتجى وفى لفظ لهى التى ترتجى شبهت الاصنام بالغرانيق التى هى طير الماء جمع غرنوق بكسر الغين المعجمه واسكان الراء ثم نون مفتوحة أو غرنوق بضم الغين والنون أيضا أو غرنوق بضم الغين وفتح النون وهو طير طويل العنق وهو الكركى أو يشبهه ووجه الشبه بين الاصنام وتلك الطيور أن تلك الطيور تعلو وترتفع فى السماء فالاصنام شبهت بها فى علو القدر وارتفاعه ثم مضى يقرأ السورة حتى بلغ السجدة فسجد وسجد القوم جميعا أى المسلمون والمشركون
أقول قال بعضهم ولم يكن المسلمون سمعوا الذى ألقى الشيطان وانما سمع ذلك المشركون فسجدوا لتعظيم الهتهم ومن ثم عجب المسلمون من سجود المشركين معهم من غير ايمان
قال بعضهم والنجم هى أول سورة نزل فيها سجدة أى أول سورة نزلت جملة كاملة فيها سجدة فلا ينافى أن { اقرأ باسم ربك } سورة نزلت فيها سجدة لان النازل منها أوائلها كما علمت
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قرأ يوما { اقرأ باسم ربك } فسجد في اخرها وسجد معه المؤمنون فقام المشركون على رءوسهم يصفقون
وقد روى أبو هريرة رضى الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم سجد في النجم أى غير سجدته المتقدمة التى سجد معه المشركون ومجموع ذلك يرد حديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لم يسجد فى شىء من المفصل قبل أن يتحول الى المدينة لان سورة النجم من المفصل لان عند أئمتنا أن أول المفصل الحجرات على الراجح من أقوال عشرة
لا يقال لعل ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ممن يرى أن النجم ليس من المفصل لانا نقول { اقرأ باسم ربك } من المفصل اتفاقا وعلى ما قال أئمتنا يكون فى المفصل ثلاث سجدات في النجم والانشقاق { اقرأ باسم ربك } وهى أى النجم أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة
وذكر الحافظ الدمياطى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رأى من قومه كفا عنه أى تركا وعدم تعرض له فجلس خاليا فتمنى فقال ليته لم ينزل على شىء ينفرهم عنى وفى رواية تمنى أن ينزل عليه ما يقارب بينه وبينهم حرصا على اسلامهم وقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ودنا منهم ودنوا منه فجلس يوما مجلسا فى ناد من تلك الاندية حول الكعبة فقرأ عليهم { والنجم إذا هوى } الى اخر ما تقدم والله أعلم
ومن جملة من كان مع المشركين حينئذ الوليد بن المغيرة لكنه رفع ترابا الى جبهته فسجد عليه لانه كان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود
وقيل الذى فعل ذلك سعيد بن العاص ويقال كلاهما فعل ذلك وقيل الفاعل لذلك أمية بن خلف وصحح وقيل عتبة بن ربيعة وقيل أبو لهب وقيل المطلب
وقد يقال لا مانع أن يكونوا فعلوا ذلك جميعا بعضهم فعل ذلك تكبرا وبعضهم فعل ذلك عجزا وممن فعل ذلك تكبرا أبو لهب فقد جاء وفيها سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والانس غير أبى لهب فانه رفع حفنة من تراب الى جبهته وقال يكفى هذا
ولا يخالف ذلك مانقل عن ابن مسعود ولقد رأيت الرجل أى الفاعل لذلك قتل كافرا لانه يجوز أن يكون المراد بقتل مات فعند ذلك قال المشركون له صلى الله عليه وسلم قد عرفنا أن الله تعالى يحيى ويميت ويخلق ويرزق ولكن الهتنا هذه تشفع لنا عنده فأما اذا جعلت لنا نصيبا فنحن معك فكبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس فى البيت
وفيه أنه كيف يكبر عليه صلى الله عليه وسلم ذلك مع أنه موافق لما تمناه من أن الله ينزل عليه ما يقارب بينه وبين المشركين حرصا على اسلامهم المتقدم ذلك عن سيرة الدمياطى الا أن يقال هذا كان بعد ما عرض السورة على جبريل وقال له ما جئتك بهاتين الكلمتين المذكور ذلك فى قولنا فلما أمسى صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فعرض عليه السورة وذكر الكلمتين فيها فقال له جبريل ما جئتك بهاتين الكلمتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت على الله ما لم يقل أى فكبر عليه ذلك فأوحى الله تعالى اليه ما فى سورة الاسراء { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره } بموافقتك لهم على مدح الهتهم بما لم نرسل به اليك { وإذا } لو فعلت أى دمت عليه { لاتخذوك خليلا } الى قوله { ثم لا تجد لك علينا نصيرا } أى مانعا يمنع العذاب عنك وهذا يدل لما تقدم أنه تكلم بذلك ظانا أنه من جملة ما أوحى اليه
وقيل نزل ذلك لما قال له اليهود حسدا له صلى الله عليه وسلم على اقامته بالمدينة لئن كنت نبيا فالحق بالشام لانها أرض الانبياء حتى نؤمن بك فوقع ذلك فى قلبه فخرج برحله فنزلت فرجع أى بدليل ما بعدها وقيل ان التى بعدها نزلت فى أهل مكة
وقيل ان اية { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك } نزلت في ثقيف قالوا لاندخل فى أمرك حتى تعطينا خلالا نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا ننحنى في صلاتنا وكل ربا لنا فهو لنا وكل ربا علينا فهو موضوع عنا وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة فان قالت العرب لم فعلت ذلك فقل ان الله أمرنى
وقيل نزلت فى قريش قالوا لا نمكنك من استلام الحجر حتى تلم بالهتنا وتمسها بيدك
وقد يدعى أن هذا مما تعدد أسباب نزوله والقاضى البيضاوى اقتصر على ما عدا الاول والله أعلم
قال وقيل ان هاتين الكلمتين لم يتكلم بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وانما ارتصد الشيطان سكتة عند قوله الاخرى فقالهما محاكيا نغمته صلى الله عليه وسلم فظنهما النبى صلى الله عليه وسلم كما فى شرح المواقف ومن سمعه أنهما من قوله صلى الله عليه وسلم أى حتى قال قلت على الله ما لم يقل وتباشر بذلك المشركون وقالوا ان محمدا قد رجع الى ديننا أى دين قومه حتى ذكر أن الهتنا لتشفع لنا وعند ذلك أنزل الله تعالى قوله { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } أى قراءته ما ليس من القران أى مما يرضاه المرسل اليهم وفى البخارى اذا حدث ألقى الشيطان فى حديثه فينسخ الله ما يلقى الشيطان يبطله ثم يحكم الله اياته أى يثبتها والله عليم بالقاء الشيطان ما ذكر حكيم فى تمكينه من ذلك يفعل ما يشاء ليميز به الثابت على الايمان من المتزلزل فيه ولم أقف على بيان أحد من الانبياء والمرسلين وقع له مثل ذلك
وفيه كيف يجترىء الشيطان على التكلم بشىء من الوحى ومن ثم قيل هذه القصة طعن فى صحتها جمع وقالوا انها باطلة وضعها الزنادقة أى ومن ثم أسقطها القاضى البيضاوى ومن جملة المنكرين لها القاضى عياض فقد قال هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل وانما أولع به المفسرون المؤرخون المولعون بكل غريب أى وقال البيهقى رواة هذه القصة كلهم مطعون فيهم وقال الامام النووى نقلا عنه
وأما ما يرويه الاخباريون والمفسرون أن سبب سجود المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جرى على لسانه من الثناء على الهتهم فباطل لا يصح منه شىء لا من جهة النقل ولا من جهة العقل لان مدح اله غير الله كفر ولا يصح نسبة ذلك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يقوله الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يصح تسليط الشيطان على ذلك أى وألا يلزم عدم الوثوق بالوحى
وقال الفخر الرازى هذه القصة باطلة موضوعة لا يجوز القول بها قال الله تعالى { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } أى الشيطان لايجترىء أن ينطق بشىء من الوحى وقال بصحتها جمع منهم خاتمة الحفاظ الشهاب ابن حجر وقال رد عياض لافائدة فيه ولا يعول عليه هذا كلامه وفشا أمر تلك السجدة فى الناس حتى بلغ أرض الحبشة أن أهل مكة أى عضماءهم قد سجدوا وأسلموا حتى الوليد بن المغيرة وسعيد بن العاص
وفى كلام بعضهم والناقل لاسلامه أنه لما رأى المشركين قد سجدوا متابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقد أنهم أسلموا واصطلحوا معه ولم يبق نزاع معهم فطار الخبر بذلك وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة فظنوا صحة ذلك فقال المهاجرون بها من بقي بمكة اذا أسلم هؤلاء عشائرنا أحب الينا فخرجوا أى خرج جماعة منهم من أرض الحبشة راجعين الى مكة أى وكانوا ثلاثة وثلاثين رجلا منهم عثمان بن عفان والزبير ابن العوام وعثمان بن مظعون وذلك فى شوال حتى اذا كانوا دون مكة ساعة من نهار لقوا ركبا فسألوهم عن قريش فقال الركب ذكر محمد الهتهم بخير فتابعه الملاء ثم عاد لشتم الهتهم وعادوا له بالشر وتركناهم على ذلك فائتمر القوم فى الرجوع الى أرض الحبشة ثم قالوا قد بلغنا مكة فندخل ننظر مافيه قريش ويحدث عهدا من أراد بأهله ثم نرجع فدخلوا مكة أى بعضهم بجوار وبعضهم مستخفيا
قال فى الامتاع ويقال ان رجوع من كان مهاجرا بالحبشة الى مكة كان بعد الخروج من الشعب هذا كلامه وفيه نظر ظاهر ويرشد اليه التبرى لانهم مكثوا فى الشعب ثلاث سنين او سنتين ومكث هؤلاء عند النجاشى حينئذ كان دون ثلاثة أشهر كما علمت وأيضا الهجرة الثانية للحبشة انما كانت بعد دخول الشعب كما سيأتى
قال فى الاصل ولم يدخل أحد مهم الا بجوار الا ابن مسعود فانه مكث يسيرا ثم رجع الى أرض الحبشة
أى وهذا من صاحب الاصل تصريح بأن ابن مسعود كان فى الهجرة الاولى وهو موافق فى ذلك لشيخه الحافظ الدمياطى لكن الحافظ الدمياطى جزم بأن ابن مسعود كان فى الهجرة الاولى ولم يحك خلافا وصاحب الاصل حكى خلافا أنه لم يكن فيها وبه جزم ابن اسحاق حيث قال ان ابن مسعود انما كان فى الهجرة الثانية فكان ينبغى للاصل أن يقول على ما تقدم
هذا وفى كلام بعضهم فلم يدخل أحد منهم مكة الا مستخفيا ولكهم دخلوا مكة الا عبدالله بن مسعود فانه رجع الى أرض الحبشة
وقد يقال لما لم يطل مكث ابن مسعود بمكة ظن به أنه لم يدخلها فلا ينافى ما سبق ويجوز أن يكون أكثرهم دخل مكة بلا جوار فأطلقوا على الكل أنهم دخلوا مستخفين فلا يخالف ماسبق أيضا ولما رجعوا لقوا من المشركين أشد ما عهدوا
قال وممن دخل بجوار عثمان بن مظعون دخل فى جوار الوليد بن المغيره ولما رأى ما يفعل بالمسلمين من الاذى قال والله ان غدوى ورواحى امنا بجوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل دينى يلقون من الاذى فى الله مالا يصيبنى لنقص كبير فمشى الى الوليد فقال يا أبا عبدشمس وفت ذمتك وقد رددت اليك جوارك قال له يا ابن أخى لعله اذاك أحد من قومى وأنت فى ذمتى فأكفيك ذلك قال لا والله ما اعترض لى أحد ولا اذانى ولكن أرضى بجوار الله عز وجل وأريد أن لا أستجير بغيره قال انطلق الى المسجد فاردد الى جوارى علانية كما أجرتك علانية فانطلقا حتى أتيا المسجد فقال الوليد هذا عثمان قد جاء يرد على جوارى فقال عثمان صدق وقد وجدته وفيا كريم الجوار ولكنى لا أستجير بغير الله عزوجل قد رددت عليه جواره فقال الوليد أشهدكم أنى برىء من جواره الا أن يشاء ثم انصرف عثمان ولبيد بن ربيعة بن مالك فى مجلس من قريش ينشدهم قبل اسلامه فجلس عثمان معهم فقال لبيد ألا كل شىء ما خلا الله باطل فقال عثمان صدقت فقال لبيد وكل نعيم لا محالة زائل فقال عثمان كذبت نعيم الجنة لا يزول فقال لبيد يا معشر قريش ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم فقال رجل من القوم ان هذا سفيه فمن سفاهته فارق ديننا فلا
تجدن فى نفسك من قوله فرد عليه عثمان فقام ذلك الرجل فلطم عينه والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان فقال أما والله يا ابن أخى كانت عينك عما أصابها لغنية ولقد كنت فى ذمة منيعة فخرجت منها وكنت عن الذى لقيت غنيا فقال عثمان رضى الله تعالى عنه بل كنت الى الذى لقيت فقيرا والله ان عينى الصحيحة التى لم تلطم لفقيرة الى مثل ما أصاب أختها فى الله عز وجل ولى فيمن هو أحب الى منكم أسوة وانى لفى جوار من هو أعز منك انتهى فعثمان فهم أن لبيدا أراد بالنعيم ما هو شامل لنعيم الاخرة ومن ثم قال له نعيم الجنة لا يزول لا يقال لولا أن لبيدا يريد مطلق النعيم الشامل لنعيم الاخرة لما تشوش من الرد عليه لانا نقول يجوز أن يكون تشوشه من مشافهة عثمان له بقوله كذبت
على أن هذا السياق دال على أن لبيدا قال هذا الشعر قبل اسلامه ويؤيده ما قيل أكثر أهل الاخبار على أن لبيدا لم يقل شعرا منذ أسلم وبه يرد ما فى الاستيعاب أن هذا أى قوله أ لا كل شىء الى اخره شعر حسن فيه ما يدل على أنه قاله فى الاسلام وكذلك قوله ** وكل امرىء يوما سيعلم سعيه ** اذا كشفت عند الاله المحاصل **
وقد يقال لا يلزم من قوله المذكور الذى لا يصدر غالبا الا عن مسلم أن يكون قاله فى حال اسلامه كما وقع لامية بن أبى الصلت حيث قال فى شعره ما لايقوله الا مسلم مع كفره ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم فيه امن شعره وكفر قلبه وفى رواية كاد يسلم
وذكر محيى الدين بن العربى فى قوله صلى الله عليه وسلم أصدق بيت قالته العرب وفى رواية أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد ألا كل شىء ما خلا الله باطل
اعلم أن الموجودات كلها وان وصفت بالباطل فهى حق من حيث الوجود ولكن سلطان المقام اذا غلب على صاحبه يرى ما سوى الله تعالى باطلا من حيث انه ليس له وجود من ذاته فحكمه حكم العدم وهذا معنى قول بعضهم قوله باطل أى كالباطل لان العالم قائم بالله تعالى لا بنفسه فهو من هذا الوجه باطل والعارف اذا وصل الى مقامات القرب فى بداية عرفانه ربما تلاشت هذه الكائنات وحجب عن شهودها بشهود الحق لا أنها زالت من الوجود بالكلية ثم اذا كمل عرفانه يشهد الحق تعالى
والخلق معا فى ان واحد وما كل أحد يصل الى هذا المقام فان غالب الناس ان شهد الحق لم يشهد الخلق وان شهد الخلق لم يشهد الحق كما تقدم عند الكلام على الوحدة أنه لا يدركها الا من أدرك اجتماع الضدين ولعل من المشهد الاول قول الاستاذ الشيخ أبى الحسن البكرى رضى الله تعالى عنه أستغفر الله مما سوى الله لان الباطل يستغفر من اثبات وجوده لذاته
ويوافق قول أكثر أهل الاخبار قول السهيلى وأسلم لبيد وحسن اسلامه وعاش فى الاسلام ستين سنة لم يقل فيها بيت شعر فسأله عمر رضى الله تعالى عنه أى فى خلافته عن تركه للشعر فقال ما كنت لاقول شعرا بعد أن علمنى الله تعالى البقرة وال عمران فزاده عمر فى عطائه خمسمائة من أجل هذا القول فكان عطاؤه ألفين وخمسمائة وقيل انه قال بيتا واحدا فى الاسلام وهو ** الحمد لله الذى لم يأتنى أجلى ** حتى اكتسيت من الاسلام سربالا ** قال وممن دخل بجوار أبو سلمة بن عبد الاسد ابن عمته صلى الله عليه وسلم فانه دخل فى جوار خاله أبى طالب ولما أجاره مشى اليه رجال من بنى مخزوم فقالوا يا أبا طالب منعت منا ابن أختك فمالك ولصاحبنا تمنعه منا فقال انه استجار بى وهو ابن أختى وأنا ان لم أمنع ابن أختى لم أمنع ابن أخى فقام أبو لهب على أولئك الرجال وقال لهم يا معشر قريش لا تزالون تعارضون هذا الشيخ فى جواره من قومه والله لتنتهن أو لاقومن معه فى كل مقام يقوم فيه حتى يبلغ ما أراد قالوا بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة أى لانه كان لهم وليا وناصرا على رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى أى وطمع أبو طالب فى أبى لهب حيث سمعه يقول ما ذكر ورجا أن يقوم معه فى شأنه صلى الله عليه وسلم وأنشد أبياتا يحرضه فيها على نصرته صلى الله عليه وسلم
وممن أوذى فى الله بعد اسلامه ووقع له نظير ما وقع لعثمان بن مظعون رضى الله عنه عمر بن الخطاب
وسبب اسلامه على ما حدث به بعضهم قال قال لنا عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه أتحبون أن أعلمكم كيف كان بدء اسلامى أى ابتداؤه والسبب فيه قلنا نعم قال كنت من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا أنا فى يوم حار شديد الحر بالهاجرة فى بعض طرق مكة اذ لقينى رجل من قريش أى وهو نعيم بن عبدالله
النحام بالحاء المهملة قيل له ذلك لانه صلى الله عليه وسلم قال فيه لقد سمعت نحمته فى الجنة أى صوته وحسه كان يخفى اسلامه خوفا من قومه وأخبرنى أن أختى يعنى أم جميل واسمها فاطمة كما تقدم وقيل زينب وقيل امنة قد صبئت أى أسلمت وكذا زوجها وهو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وهو ابن عم عمر وكانت أخت سعيد عاتكة تحت عمر فرجعت مغضبا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الرجل والرجلين اذا أسلما عند الرجل به قوة يكونان معه يصيبان من طعامه وقد ضم الى زوج أختى رجلين ممن أسلم أى أحدهما خباب بن الارت بالمثناة فوق والاخر لم أقف على اسمه
وفى السيرة الهشامية الاقتصار على خباب وأنه كان يختلف اليهما ليعلمهما القران فجئت حتى قرعت الباب فقيل لى من بالباب قلت ابن الخطاب وكان القوم جلوسا يقرءون صحيفة معهم فلما سمعوا صوتى تبادروا أى واستخفوا ونسوا الصحيفة فقامت المراة يعنى أخته ففتحت لى فقلت لها يا عدوة نفسها قد بلغنى أنك قد صبوت وضربتها بشىء كان فى يدى فسال الدم فلما رات الدم بكت وقالت يا ابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت فدخلت وجلست على السرير فنظرت فاذا بالصحيفة فى ناحية من البيت فقلت ما هذا الكتاب اعطينيه أى فان عمر كان كاتبا فقالت لا أعطيكه لست من أهله أنت لا تغتسل من الجنابة و لا تتطهر وهذا لا يمسه الا المطهرون فلم أزل حتى أعطتنيه أى بعد أن اغتسل كما فى بعض الروايات وفي بعض الروايات قالت له يا أخى انك نجس على شركك فانه لا يمسه الا المطهرون وقولها لا تغتسل من الجنابة ربما يخالف قول بعضهم ان أهل الجاهلية كانوا يغتسلون من الجنابة وكون عمر كان يخالفهم فى ذلك من البعيد وكون هذا منها يحمل على أنه لم يغتسل غسلا يعتد به يخالفه ما تقدم عن بعض الروايات أنه لما اغتسل دفعت له تلك الرقعة وفى لفظ قالت له انا نخشاك عليها قال لا تخافى وحلف لها بالهته ليردنها اذا قرأها فدفعتها له أى وطمعت فى اسلامه فاذا فيها { بسم الله الرحمن الرحيم } قال فلما مررت على { بسم الله الرحمن الرحيم } ذعرت أى فزعت ورميت الصحيفة من يدى ثم رجعت الى نفسى فأخذتها فاذا فيها { سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } فكلما مررت باسم من أسمائه عزوجل ذعرت أى فألقيها ثم ترجع الى نفسى
فاخذها حتى بلغت { آمنوا بالله ورسوله } الى قوله تعالى { إن كنتم مؤمنين } فقلت أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله فخرج القوم يتبادرون بالتكبير استبشارا بما سمعوا منى وحمدوا الله عزوجل ثم قالوا يا ابن الخطاب أبشر فان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فقال اللهم أعز الاسلام وفى لفظ أيد الاسلام بأحد الرجلين اما بأبي جهل بن هشام واما بعمر بن الخطاب أى وفى لفظ بأحب هذين الرجلين اليك أبى الحكم عمرو بن هشام يعنى أبا جهل وعمر بن الخطاب أى وفى غير ما رواية بعمر ابن الخطاب من غير ذكر أبى جهل
وعن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت انما قال صلى الله عليه وسلم اللهم أعز عمر بالاسلام لان الاسلام يعز ولا يعز ولعل قول عائشة ما ذكر نشأ عن اجتهاد منها بدليل تعليلها واستبعادها أن يعز الاسلام بعمر فليتأمل وكان دعاؤه صلى الله عليه وسلم بذلك يوم الاربعاء فأسلم عمر يوم الخميس قال عمر رضى الله تعالى عنه فلما عرفوا منى الصدق قلت لهم أخبرونى بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا هو فى بيت بأسفل الصفا ووصفوه أى وهى دار الارقم فخرجت وفى رواية أن عمر قال ياخباب انطلق بنا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام خباب وابن عمه سعيد معه قال عمر لما قرعت الباب قيل من هذا قلت ابن الخطاب فما اجترأ أحد أن يفتح لى الباب لما عرفوه من شدتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعلموا اسلامى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم افتحوا له فان يرد الله به خيرا يهده وفى لفظ يهديه باثبات الياء وهى لغة ففتحوا لى أى والذى أذن فى دخوله حمزة بن عبدالمطلب رضى الله تعالى عنه فان اسلام عمر كان بعد اسلام حمزة بثلاثة أيام وقيل بثلاثة أشهر وكان اسلام عمر وهو ابن ست وعشرين سنة قال وأخذ رجلان بعضدى حى دنوت من النبى صلى الله عليه وسلم فقال أرسلوه فارسلونى فجلست بين يديه صلى الله عليه وسلم فاخذ بمجامع قميصى فجذبني اليه ثم قال أسلم يا ابن الخطاب اللهم اهده فقلت أشهد أن لا اله الا الله وأنك رسول الله فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بطرف مكة
أى وفى الاوسط للطبرانى ورواه الحاكم باسناد حسن عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب صدر عمر بيده حين أسلم ثلاث مرات وهو يقول اللهم
أخرج ما فى صدر عمر من غل وأبدله ايمانا أى ولعل خبابا وسعيدا لم يدخلا معه والا لبشرا باسلام عمر
وفى رواية لما ضرب الباب وسمعوا صوته قام رجل فنظر من خلل الباب فراه متوشحا سيفه أى ولم ير معه خبابا ولا سعيدا فرجع الى النبى صلى الله عليه وسلم وهو فزع فقال يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحا سيفه نعوذ بالله من شره فقال حمزه بن عبدالمطلب فائذن له فان كان جاء يريد خيرا بذلنا له وان كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه
وفى لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال ان جاء بخير قبلناه وان جاء بشر قتلناه وفى لفظ ان يرد بعمر خير يسلم وان يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ائذن له فاذن له الرجل ونهض اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه فى صحن الدار فأخذ بحجزته وجذبه جذبة شديدة وقال ما جاء بك يا بان الخطاب فو الله ما أدرى أن تنتهى حتى ينزل الله بك قارعة وفى لفظ أخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه وقال ما أنت منته ياعمر حتى ينزل الله بك من الخزى والنكال ما أنزل الله بالوليد بن المغيرة أى أحد المستهزئين به صلى الله عليه وسلم كما تقدم فقال يارسول الله جئت لأومن بالله ورسوله أشهد أنك رسول الله وفى رواية ( أشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيره عرفت وفى رواية سمعها أهل المسجد
وفى رواية لما جاء دفع الباب فوجد بلالا وراء الباب فقال بلال من هذا فقال عمر بن الخطاب فقال حتى أستأذن لك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بلال يا رسول الله عمر بالباب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يرد الله به خيرا أدخله فى الدين فقال لبلال افتح له وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضبعه فهزه
وفى رواية أخذ ساعده وانتهره فارتعد عمر هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس وفى لفظ أخذ بمجامع ثيابه ثم نتره نترة فما تمالك عمر أن وقع على ركبتيه فقال صلى الله عليه وسلم الله اللهم هذا عمر بن الخطاب اللهم أعز الاسلام بعمر بن الخطاب ما الذى تريد وما الذى جئت له فقال عمر اعرض على الذى تدعو اليه
فقال تشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فأسلم عمر مكانه
أقول ولا ينافى هذا ما تقدم من اسلامه واتيانه بالشهادتين فى بيت اخته قبل خروجه اليه صلى الله عليه وسلم وقوله ولم يعلموا اسلامى لانه يجوز أن يكون مراده بقوله جئت لأومن جئت لاظهر ايمانى عندك وعند أصحابك وعند ذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم يا ابن الخطاب الى اخره وقوله للنبى صلى الله عليه وسلم اعرض على الذى تدعو اليه يجوز أن يكون عمر جوز أن الذى يدعو اليه ويصير به المسلم مسلما أخص مما نطق به من الشهادتين والله أعلم قال عمر وأحببت أن يظهر اسلامى وأن يصيبنى ما يصيب من أسلم من الضرر والاهانة فذهبت الى خالى وكان شريفا فى قريش وأعلمته أنى صبوت أى وهو أبو جهل
وقد جاء فى بعض الروايات قال عمر لما أسلمت تذكرت أى أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة حتى اتيه فأخبره أنى قد أسلمت فذكرت أبا جهل فجئت له فدققت عليه الباب فقال من بالباب قلت عمر بن الخطاب فخرج الى فقال مرحبا وأهلا يا ابن أختى ما جاء بك قلت جئت لاخبرك وفى لفظ لابشرك ببشارة فقال أبو جهل وما هى يا ابن أختى فقلت انى قد امنت بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وصدقت ما جاء به فضرب الباب فى وجهى أى أغلقه وهو بمعنى أجاف الباب كما فى بعض الروايات وقال قبحك الله وقبح ما جئت به أى وانما كان أبو جهل خال عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه قيل لان أم عمر أخت أبى جهل وقيل لان أم عمر بنت هشام بن المغيرة والد أبى جهل فأبو جهل خال أم عمر وقيل ان أم عمر بنت عم أبى جهل وصححه ابن عبد البر وعصبة الام أخوال الابن قال عمر وجئت رجلا اخر من عظماء قريش وأعلمته أنى صبوت فم يصبنى منها شىء فقال لى رجل تحب أن يعلم اسلامك قلت نعم قال اذا جلس الناس يعنى قريشا فى الحجر واجتمعوا فائت فلانا لشخص كان لا يكتم السر وهو جميل بن معمر رضى الله عنه أسلم يوم الفتح وشهد مع النبى صلى الله عليه وسلم حنينا وكان يسمى ذا القلبين وفيه نزلت { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } ومات فى خلافة عمر رضى الله تعالى عنه وحزن عليه عمر حزنا شديدا فقل له فيما بينك وبينه اني قد صبوت قال فلما اجتمعت الناس فى الحجر جئت الرجل فدنوت منه واخبرته فرفع صوته بأعلاه فقال
الا ان عمر بن الخطاب قد صبأ فما زال الناس يضربونى وأضربهم فقام خالى يعنى أباجهل على الحجر فأشار بكمه وقال ألا انى أجرت ابن اختى فانكشف الناس عنى فصرت أى بعد ذلك أرى الواحد من المسلمين يضرب وأنا لا أضرب فقلت ما هذا بشىء حتى يصيبنى ما يصيب المسلمين فأمهلت حتى جلس الناس فى الحجر وصلت الى خالى وقلت له جوارك عليك رد فقال لا تفعل يا ابن أختى فقلت بل هو ذاك فمازلت أضرب وأضرب حتى أعز الله الاسلام
أى وفى السيرة الهشامية بينما القوم يقاتلونه ويقاتلهم اذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليه أى وهو العاص بن وائل فقال ويلكم ما شأنكم قالوا صبأ عمر قال فمه رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون أترون بنى عدى بن كعب مسلمين لكم صاحبهم هكذا خلوا عن الرجل فانفرجوا عنه كأنهم ثوب كشط عنه
أى وفى البخارى لما أسلم عمر اجتمع الناس عند داره وقالوا صبأ عمر فبينما عمر في داره خائفا اذ جاءه العاص بن وائل فقال له مالك قال زعم قومك أنهم سيقتلونى ان أسلمت أى اذ أسلمت قال أمنت لا سبيل اليك فخرج العاص فلقى الناس قد سال بهم الوادى فقال أين تريدون فقالوا نريد هذا عمر بن الخطاب الذى صبأ قال لا سبيل اليه فأنا له جار فكسر الناس وتصدعوا عنه أى ويذكر أن عتبة بن ربيعة وثب عليه فالقاه عمر الى الارض وبرك عليه وجعل يضربه وأدخل أصبعيه في عينيه فجعل عتبة يصيح وصار لا يدنو منه أحد الا أخذ بشرا سيفه وهى أطراف أضلاعه
وعن عمر رضى الله تعالى عنه فى سبب اسلامه قال خرجت أتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقنى الى المسجد فقمت خلفه فاستفتح بسورة الحاقة فجعلت أتعجب من تأليف القران فقلت هذا والله شاعر كما قالت قريش فقرأ { إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون } قال قلت كاهن علم ما فى نفسى فقرأ { ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون } الى اخر السورة فوقع الاسلام فى قلبى كل موقع
أى ومن ذلك ما فى السيرة الهشامية عن عمر رضى الله تعالى عنه قال جئت المسجد
أريد أن أطوف بالكعبة فاذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى وكان اذا صلى استقبل الشام أى صخرة بيت المقدس وجعل الكعبة بينه وبين الشام فكان مصلاه بين الركن الاسود والركن اليمانى أى لانه لايكون مستقبلا لبيت المقدس الا حينئذ كما تقدم قال فقلت حين رأيته صلى الله عليه وسلم لو أنى استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول قال فقلت لئن دنوت منه أستمع لاروعنه فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابها يعنى الكعبة فجعلت أمشى رويدا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى فقرأ صلى الله عليه وسلم الرحمن حتى قمت فى قبلته مستقبله ما بينى وبينه الا ثياب الكعبة فلما سمعت القران رق له قلبى فبكيت ودخلنى الاسلام فلم أزل قائما فى مكانى ذلك حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته ثم انصرف فتبعته فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حسى عرفنى وظن أنما تبعته لاوذيه فنهمنى أى زجرني ثم قال ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة قلت جئت لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله وفى رواية ضرب أختى المخاض ليلا فخرجت من البيت فدخلت فى أستار الكعبة فجاء النبى صلى الله عليه وسلم فدخل الحجر فصلى فيه ماشاء الله ثم انصرف فسمعت شيئا لم أسمع مثله فخرج فاتبعته فقال من هذا قلت عمر قال ياعمر ماتدعنى لا ليلا ولا نهارا فخشيت أن يدعو على فقلت أشهد أن لا اله الا الله وأنك رسول الله فقال يا عمر أتسره قلت لا والذى بعثك بالحق لاعلننه كما أعلنت الشرك فحمد الله تعالى ثم قال هداك الله يا عمر ثم مسح صدرى ودعا لى بالثبات ثم انصرفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بيته
أى ويحتاج للجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها ثم رأيت العلامة ابن حجر الهيتمى قال ويمكن الجمع بتعداد الواقعة قبل اسلامه هذا كلامه ليتأمل مافيه
قال ومن ذلك أى مما كان سببا لاسلام عمر أن أبا جهل بن هشام قال يا مشعر قريش ان محمدا قد شتم الهتكم وسفه أحلامكم وزعم أن من مضى من أسلافكم يتهافتون فى النار ألا ومن قتل محمدا فله على مائة ناقة حمراء وسوداء وألف أوقية من فضة أى وفى لفظ جعلوا لم يقتله كذا وكذا أوقية من الذهب وكذا كذا أوقية من الفضة وكذا كذا نافجة من المسك وكذا كذا ثوبا وغير ذلك فقال عمر أنا لها فقالوا له أنت لها ياعمر وتعاهد معهم على ذلك قال عمر فخرجت متقلدا سيفى متنكبا كنانتى
أى جعلتها فى منكبى أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررت على عجل يذبح فسمعت من جوفه صوتا يقول يا ال ذريح صائح يصيح بلسان فصيح يدعو الى شهادة أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله فقلت فى نفسى ان هذا الامر لا يراد به الا أنت وذريح اسم للعجل المذبوح وقيل له ذلك من أجل الدم لان الذريح شديد الحمرة يقال أحمر ذريحى أى شديد الحمرة ثم مر برجل أسلم وكان يكتم اسلامه خوفا من قومه يقال له نعيم أى ابن عبدالله النحام كما تقدم فقال له أين تذهب يا ابن الخطاب فقال أريد هذا الصابى الذى فرق أمر قريش وسفه أحلامها وسب الهتها فأقتله فقال له نعيم والله لقد غرتك نفسك أترى بنى عبدمناف تاركيك تمشى على وجه الارض وقد قتلت محمدا فلا ترجع الى أهل بيتك فتقيم أمرهم قال وأى أهل بيتى قال ختنك أى زوج أختك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأختك قد أسلما فعليك وانما فعل ذلك نعيم ليصرفه عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل الذى لقيه سعد بن أبى وقاص فقال له أين تريد يا عمر فقال أريد أن أقتل محمدا قال له أنت أصغر وأحقر من ذلك تريد أن تقتل محمدا وتدعك بنو عبدمناف أن تمشى على الارض فقال له عمر ما أراك الا وقد صبأت فأبدأ بك فاقتلك فقال سعد أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله فسل عمر سيفه وسل سعد سيفه وشد كل منهما على الاخر حتى كاد أن يختلطا ثم قال سعد لعمر مالك يا عمر لا تصنع هذا بختنك وأختك فقال صبا قال نعم فتركه عمر وسار الى منزل أخته أى ولا مانع أن يكون لقى كلا من نعيم وسعد بن أبى وقاس وقال له كل منهما ماذكر
وفى هذه الرواية وجد عندهم خباب بن الارت معه صحيفة فيها سورة طه يقرؤها عليهم وانه دق عليهم الباب فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب أى وترك الصحيفة فلما دخل قال لاخته ما هذه الهينمة التى سمعت قالت له ماسمعت شيئا غير حديث تحدثنا به بيننا قال بلى والله لقد أخبرت أنكما يخاطب أخته وزوجها بايعتما محمدا على دينه وبطش بزوج أخته فألقاه الى الارض وجلس على صدره وأخذ بلحيته فقامت اليه أخته لتكفه عن زوجها فضربها فشجها أى فلما رأت الدم قالت له ياعدو الله أتضربنى على أن أوحد الله تعالى لقد أسلمت على رغم أنفك فاصنع ما أنت صانع فلما رأى ما بأخته وما صنع بزوجها ندم وقال لاخته أعطنى هذه الصحيفة أنظر ما هذا الذى جاء
به محمد وكان عمر كاتبا قالت أخشاك عليها فحلف ليردنها اذا قرأها اليها فقالت له يا أخى أنت نجس ولا يمسه الا الطاهر فقام واغتسل أى وفى لفظ فذهب يغتسل فخرج اليها خباب وقال أتدفعين كتاب الله تعالى الى عمر وهو كافر قالت نعم انى أرجو أن يهدى الله أخى ورجع خباب الى محله ودخل عمر فأعطته تلك الصحيفة فلما قرأها عمر وبلغ { فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى } قال أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا عبده ورسوله أه أى وفى رواية أنه لما قرأ الصحيفة قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه أى وقيل انه لما انتهى الى قوله تعالى { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } قال ينبغى لمن يقول هذا أن لا يعبد معه غيره فلما سمع ذلك خباب خرج اليه فقال يا عمر انى لارجو أن يكون الله تعالى قد خصك بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فانى سمعته أمس وهو يقول اللهم أيد الاسلام بأبى الحكم ابن هشام أو بعمر بن الخطاب فالله الله يا عمر فقال له عند ذلك دلنى يا خباب على محمد حتى اتيه فأسلم أى عنده وعند أصحابه فلا ينافى ما فى الرواية الاولى أنه أسلم فقال له خباب هو فى بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه فعمد الى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث
أقول ويمكن الجمع بين هاتين الروايتين حيث كانت القصة واحدة ولم تتعدد بأنه يجوز أن يكون زوج أخته استخفى أولا مع خباب ورفيقه ثم ظهر فأوقع به وباخته ما ذكر وأنه فى الرواية الاولى اقتصر على ذكر أخته والصحيفة تعددت واحدة فيها { سبح لله ما في السماوات والأرض } والثانية فيها طه اقتصر فى الرواية الاولى على احداهما وهى التى فيها { سبح لله } وفى الرواية الثانية على الاخرى التى فيها { طه } وانه في الرواية الاولى أسلم وفى الرواية الثانية سكت عن ذلك والله أعلم
وعن ابن عباس أيضا رضى الله تعالى عنهما لما أسلم عمر رضى الله تعالى عنه قال المشركون لقد انتصف القوم منا
وعن ابن عباس أيضا رضى الله تعالى عنهما لما أسلم عمر رضى الله تعالى عنه نزل جبريل عليه السلام على النبى صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد استبشر أهل السماء باسلام عمر
قال وروى البخارى عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه مازلنا أعزة منذ أسلم
عمر اه وزاد بعضهم عن ابن مسعود والله لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلى بالكعبة أى عندها ظاهرين امنين حتى أسلم عمر فقاتلهم حتى تركونا فصلينا أى وجهروا بالقراءة وكانوا قبل ذلك لا يقرءون الا سرا كما تقدم وعن صهيب لما أسلم عمر جلسنا حول البيت حلقا
وفى كلام ابن الاثير مكث صلى الله عليه وسلم مستخفيا فى دار الارقم ومن معه من المسلمين الى أن كملوا أربعين بعمر بن الخطاب وعند ذلك خرجوا وتقدم ما فى ذلك
ومما يؤثر عن عمر رضى الله تعالى عنه من اتقى الله وقاه ومن توكل عليه كفاه السيد هو الجواد حين يسأل الحليم حين يستجهل أشقى الولاة من شقيت به رعيته أعدل الناس أعذرهم للناس
وفى مختصر تاريخ الخلفاء لابن حجر الهيتمى أن عمر أول من قال أطال الله تعالى بقاءك وأيدك الله قال ذلك لعلى رضى الله تعالى عنه وهو أول من استقضى القضاة فى الامصار
ويروى أن الارقم هذا لما كان بالمدينة بعد الهجرة تجهز ليذهب فيصلى فى بيت المقدس فلما فرغ من جهازه جاء الى النبى صلى الله عليه وسلم يودعه فقال له ما يخرجك أى من المدينة حاجة أم تجارة قال لا يا رسول الله بأبى أنت وأمى ولكن أريد الصلاة فى بيت المقدس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد الا المسجد الحرام فجلس الارقم ولم يذهب لبيت المقدس
ولما حضرته الوفاة أوصى أن يصلى عليه سعد بن أبى وقاص فلما مات كان سعد بالعقيق فقال مروان يحبس صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل غائب وأراد الصلاة عليه فأبى ولده ذلك على مروان ووقع بينهم كلام ثم جاء سعد وصلى على الارقم
أى وقيل لعمر رضى الله عنه ما سبب تسمية النبى صلى الله عليه وسلم لك بالفاروق قال لما أسلمت والنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه مختفون قلت يا رسول الله ألسنا على
الحق ان متنا وان حيينا قال بلى والذى نفسى بيده انكم على الحق ان متم وان حييتم فقلت ففيم الاختفاء والذى بعثك بالحق ما بقى مجلس كنت أجلس فيه بالكفر الا أظهرت فيه الاسلام غير هائب ولا خائف والذى بعثك بالحق لنخرجن فخرجنا فى صفين حمزة فى أحدهما وأنا فى الاخر له أى لذلك الجمع كديد ككديد الطحين أى لذلك الجمع غبار ثائر من الارض لشدة وطء الاقدام لان الكديد التراب الناعم اذا وطىء ثار غباره قال حتى دخلنا المسجد فنظرت قريش الى والى حمزة فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها أى فطاف صلى الله عليه وسلم بالبيت وصلى الظهر معلنا ثم رجع ومن معه الى دار الارقم فسمانى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق فرق الله بى بين الحق والباطل
أى وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم خرج فى صفين حمزة فى أحدهما وعمر فى الاخر لهم كديد ككديد الطحين
وفى رواية أن عمر رضى الله تعالى عنه قال له يارسول الله لا ينبغى أن تكتم هذا الدين أظهر دينك وفى رواية والله لا يعبد الله سرا بعد اليوم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المسلمون وعمر أمامهم معه سيفه يناى لا اله الا الله محمد رسول الله حتى دخل المسجد ثم صاح مسمعا لقريش كل من تحرك منكم لامكنن سيفى منه ثم تقدم أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف والمسلمون ثم صلوا حول الكعبة وقرءوا القران جهرا وكانوا كما تقدم لا يقدرون على الصلاة عند الكعبة ولا يجهرون بالقرآن
وفى المنتقى على ما نقله بعضهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر أمامه وحمزة بن عبدالمطلب رضى الله تعالى عنهما حتى طاف بالبيت وصلى الظهر معلنا ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الى دار الارقم
وفيه أن صلاة الظهر لم تكن فرضت حينئذ الا أن يقال المزاد بصلاة الظهر الصلاة التى وقعت فى ذلك الوقت أى ولعل المراد بها صلاة الركعتين اللتين كان يصليهما بالغداة صلاهما فى وقت الظهر
وعن عمر رضى الله عنه وافقت ربى فى ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام ابراهيم مصلى فنزلت { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وقلت يا رسول الله
ان نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن ان يحتجبن فنزلت اية الحجاب واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه فى الغيرة فقلت لهن عسى ربه ان طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت أى وقد قال له بعض نسائه صلى الله عليه وسلم يا عمر أما فى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ومنع رضى الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى على عبدالله بن أبى بن سلول
وفى البخارئ لما توفى عبدالله بن أبى جاء ولده عبدالله رضى الله عنه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه وهذا لا يخالف مافى تفسير القاضى البيضاوى من أن ابن أبى دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مرضه فلما دخل عليه فسأله أن يستغفر له ويكفنه فى شعاره الذى يلى جسده الشريف ويصلى عليه فلما ما أرسل له صلى الله عليه وسلم قميصه ليكفن فيه لانه يجوز أن يكون ارساله للقميص بسؤال ولده له صلى الله عليه وسلم بعد موت أبيه
قال فى الكشاف فان قلت كيف جازت له صلى الله عليه وسلم تكرمة المنافق وتكفينه فى قميصه
قلت كان ذلك مكافأة له على صنيع سبق له وذلك أن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذ أسيرا ببدر لم يجدوا له قميصا وكا رجلا طوالا فكساه عبدالله قميصه أى ولأن الضنة بارساله القميص سيما وقد سئل فيه مخل بالكرم وقال له المشركون يوم الحديبية انا لانأذن لمحمد ولكن نأذن لك فقال لا ان لى فى رسول الله أسوة حسنة فشكر رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك واكراما لابنه
وفى هذا تصريح بأن ابن أبى كان مع المسلمين فى بدر وفى الحديبية ثم ان ابنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى عليه فقال له أسألك أن تقوم على قبره لا تشمت به الاعداء أى وذلك بعد سؤال ولده له صلى الله عليه وسلم فى ذلك كما تقدم عن القاضى البيضاوى فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلى عليه فقام عمر رضى الله تعالى عنه فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله أتصلى عليه وقد نهاك ربك أن تصلى عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انما خيرت فقال { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } وسأزيده على السبعين وفى رواية أتصلى على ابن أبى وقد قال يوم كذا كذا وكذا أعد عليه
قوله فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أخر عنى ياعمر فلما أكثرت عليه قال انى خيرت لو أعلم أنى ان زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل الله تعالى { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } الى قوله { وهم فاسقون } ولينظر ما معنى التخيير فى الاية وما الجمع بين قوله سازيد علة السبعين وقوله ولو أعلم أنى ان زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها
ثم رأيت القاضى البيضاوى قال فى وجه التخيير وقوله سأزيد على السبعين انه صلى الله عليه وسلم فهم من السبعين العدد المخصوص لانه الاصل فجوز أن يكون ذلك حدا يخالفه حكم ما وراءه فبين له أى الحق سبحانه أن المراد به التكثير بقوله فى الاية الاخرى { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } هذا كلامه وحينئذ يشكل قوله لو أعلم أنى ان زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها فان هذا مقتض لعدم الصلاة عليه لا للصلاة عليه فليتأمل وقد قال على رضى الله تعالى عنه ان فى القران لقرانا من رأى عمر وما قال الناس فى شىء وقال فيه عمر الا جاء القران بنحو ما يقول عمر
وقد أوصل بعضهم موافقاته أى الذى نزل القران على وفق ما قال وما أراد الى أكثر من عشرين أى وقد أفردها بعضهم بالتأليف وقد سئل عنها الجلال السيوطي فأجاب عنها نظما
قال عبدالله بن عمر رضى الله تعالى عنهما ما نزل بالناس أمر فقال الناس وقال عمر الا نزل القران على نحو ما قال عمر
وعن مجاهد كان عمر يرى الرأى فينزل به القران وقد قال صلى الله عليه وسلم ان الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه ومن موافقاته ما سيأتى فى أسارى بدر
ومنها أنه لما سمع قوله تعالى { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } الاية قال { فتبارك الله أحسن الخالقين } فنزلت كذلك
ومنها أن بعض اليهود قال له ان جبريل الذى يذكره صاحبكم عدو لنا فقال { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين } فنزلت كذلك واستأذن رضى الله تعالى عنه النبى صلى الله عليه وسلم فى العمرة فأذن له وقال يا أخى
لا تنسنا من دعائك أى وفى رواية يا أخى أشركنا فى صالح دعائك ولا تنسنا قال عمر ما أحب أن لى بقوله يا أخى ما طلعت عليه الشمس وجاء أول من يصافحه الحق عمر بن الخطاب وأول من يسلم عليه وجاء ان الله وضع الحق على لسان عمر يقول به وجاء لو كان بعدى نبى لكان عمر بن الخطاب وممن نزل القران على وفق ما قال مصعب بن عمير أيضا رضى الله تعالى عنه كان اللواء بيده يوم أحد وسمع الصوت أن محمدا قد قتل فصار يقول { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } فنزلت = باب اجتماع المشركين على منابذة بنى هاشم وبنى المطلب ابنى عبدمناف وكتابة الصحيفة
قد اجتمع كفار قريش على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا قد أفسد علينا أبناءنا ونساءنا وقالوا لقومه خذوا منا دية مضاعفة ويقتله رجل من قريش وتريحونا وتريحون أنفسكم فأبى قومه فعند ذلك اجتمع رأيهم على منابذة بنى هاشم وبنى المطلب واخراجهم من مكة الى شعب أبى طالب
فيه تصريح بأن شعب أبى طالب كان خارجا عن مكة والتضييق عليهم بمنع حضور الاسواق وأن لا يناكحوهم وأن لايقبلوا لهم صلحا أبدا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل أى وفى لفظ لا تنكحوهم ولا تنكحوا اليهم ولا تبيعوهم شيئا ولا تبتاعوا منهم شيئا ولا تقبلوا منهم صلحا الحديث وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها فى الكعبة أى توكيدا على أنفسهم وقيل كانت عند خالة أبى جهل
وقد يجمع بأنه يجوز أن تكون كانت عندها قبل أن تعلق فى الكعبة على أنه سيأتى أنه يجوز أن الصحيفة تعددت وكان اجتماعهم وتخالفهم فى خيف بنى كنانة بالابطح ويسمى محصبا وهو بأعلى مكى عند المقابر فدخل بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم الشعب الا أبا لهب فانه ظاهر عليهم قريشا وكان سنه صلى الله عليه وسلم حين دخل الشعب ستة وأربعين سنة وفى الصحيح أنهم فى الشعب جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر
وفى كلام السهيلى كانوا اذا قدمت العير مكة يأتى أحدهم السوق ليشترى شيئا من
الطعام يقتاته فيقوم أبو لهب فيقول يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا شيئا معكم فقد علمتم مالى ووفاء ذمتى فيزيدون عليهم فى السلعة قيمتها أضعافا حتى يرجع الى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس فى يده شىء يعللهم به فيغدو التجار على أبى لهب فيربحهم هذا كلامه
ولا منافاة بين خروج أحدهم السوق اذا جاءت العير بالميرة الى مكة وكونهم منعوا من الاسواق والمبايعة لهم كما لا يخفى
وكان دخولهم الشعب هلال المحرم سنة سبع من النبوة وحينئذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة من المسلمين أن يخرجوا الى الحبشة
أقول وفى رواية أن خروج بنى هاشم وبنى المطلب الى الشعب لم يكن اخراج قريش لهم وانما خرجوا اليه لان قريشا لما قدم عليهم عمرو بن العاص من عند النجاشى خائبا وردت معه هديتهم وفقد صاحبه الذى هو عمارة بن الوليد وبلغهم اكرام النجاشى لجعفر ومن معه من المسلمين أى كما سيأتى وظهور الاسلام فى القبائل كبر ذلك عليهم واشتد أذاهم على المسلمين واجتمع رأيهم على أن يقتلوا النبى صلى الله عليه وسلم علانية فلما رأى أبو طالب ذلك جمع بنى هاشم والمطلب مؤمنهم وكافرهم وأمرهم أن يدخلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم الشعب ويمنعوه ففعلوا فبنو هاشم وبنو المطلب كانوا شيئا واحدا لم يفترقوا حتى دخلوا معهم فى الشعب وانخزل عنهم بنو عميهم عبد شمس ونوفل ولهذا يقول أبو طالب فى قصيدته ** جزى الله عنا عبدشمس ونوفلا ** عقوبة شر عاجلا غير اجل **
وقال فى قصيدة أخرئ ** جزى الله عنا عبدشمس ونوفلا ** وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما **
فلما علمت قريش ذلك أجمع رأيهم على أن يكتبوا عهودا ومواثيق على أن لا يجالسوهم الحديث
وفيه أنه سيأتى أن خروج عمرو بن العاص الى الحبشة انما كان بعد الهجرة الثانية وهى بعد دخول بنى هاشم والمطلب الى الشعب والله أعلم
= باب الهجرة الثانية الى الحبشة
لا يخفى أنه لما وقع ماذكر انطلق الى الحبشة عامة من امن بالله ورسوله أى غالبهم فكانوا عند النجاشى ثلاثة وثمانين رجلا وثمانى عشرة امراة وهذا بناء على أن عمار بن ياسر كان منهم وقد اختلف فى ذلك وكلام الاصل يميل الى ذلك وكان من الرجال جعفر ابن ابى طالب ومعه زوجته أسماء بنت عميس والمقداد بن الاسود وعبدالله بن مسعود وعبيدالله بالتصغير بن جحش ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان فتنصر هناك ثم مات على النصرانية أى وبقيت أم حبيبة رضى الله تعالى عنها على اسلامها وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سياتى
وعن أم حبيبة رضى الله تعالى عنها قالت رأيت فى المنام كأن عبيدالله بن جحش زوجى بأسواء حال وتغيرت صورته فاذا هو يقول حين أصبح يا أم حبيبة انى نظرت فى هذا الدين فلم أر دينا خيرا من دين النصرانية وقد كنت دنت بها ثم دخلت فى دين محمد ثم خرجت الى دين النصرانية قالت فقلت والله ماخير لك وأخبرته بما رأيته له لم يحفل بذلك وأكب على الخمر يشربه حتى مات فرأيت فى المنام كأن اتيا يقول لى يا أم المؤمنين ففزعت وأولتها بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجنى فكان كذلك
أى وذكر ابن اسحاق ان أبا موسى الاشعرى هاجر الى الحبشة ومراده أنه هاجر اليها من اليمن لامن مكة كما فهم الواقدى فاعترض عليه في ذلك فعن أبى موسى أنه بلغه مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو باليمن فخرج هو ونحو خمسين رجلا فى سفينة مهاجرين اليه صلى الله عليه وسلم فألقتهم السفينة الى النجاشى بالحبشة فوجدوا جعفرا وأصحابه فأمرهم جعفر بالاقامة واستمروا كذلك حتى قدموا عليه صلى الله عليه وسلم هم وجعفر عند فتح خيبر كما سيأتى
وبهذا يندفع قول بعضهم ما ذكره ابن اسحق من أن أبا موسى الاشعرى هاجر من مكة الى الحبشة من الغريب جدا ولعله مدرج من بعض الرواة فأقاموا بخير دار عند خير جار فبعثت قريش خلفهم عمرو بن العاص ومعه عمارة بن الوليد بن المغيرة التى أرادت قريش دفعه لابى طالب ليكون بدلا عن النبى صلى الله عليه وسلم اذا قتلوه بهدية
الى النجاشى والهدية فرس وجبة ديياج أى وأهدوا لعظماء الحبشة هدايا ليرد من جاء اليه من المسلمين فلما دخلا عليه سجدا له وقعد واحد عن يمينه والاخر عن شماله
وفى كلام بعضهم فأجلس عمرو بن العاص على سريره وقبل هديتهما فقالا ان نفرا من بنى عمنا نزلوا أرضك فرغبوا عنا وعن الهتنا أى ولم يدخلوا فى دينكم بل جاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا انتم وقد بعثنا الى الملك فيهم أشراف قريش لتردوهم اليهم قال وأين هم قالوا بأرضك فأرسل فى طلبهم أى وقال له عظماء الحبشة ادفعهم اليهما فهما أعرف بحالهم فقال لا والله حتى أعلم على أى شىء هم فقال عمرو هم لا يسجدون للملك أى وفى لفظ لايخرون لك ولا يحيونك بما يحييك الناس اذا دخلوا عليك رغبة عن سنتكم ودينكم فلما جاءوا قال لهم جعفر رضى الله تعالى عنه أنا خطيبكم اليوم أى فانه لما جاءهم رسول النجاشى يطلبهم اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل اذا جئتموه قال جعفر ما ذكر وقال انما نقول ما علمنا وما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ودع يكون ما يكون وقد كان النجاشى دعا أساقفته وأمرهم بنشر مصاحفهم حوله فلما جاء جعفر وأصحابه صاح جعفر وقال جعفر بالباب يستأذن ومعه حزب الله فقال النجاشى نعم يدخل بأمان الله وذمته فدخل عليه ودخلوا خلفه فسلم فقال له الملك مالك لا تسجد
وفى لفظ ان عمرا قال لعمارة ألا ترى كيف يكتنون بحزب الله وما أجابهم به وان عمرا قال للنجاشى ألا ترى أيها الملك أنهم مستكبرون لم يحيوك بتحيتك فقال النجاشى ما منعكم أن لا تسجدوا وتحيونى بتحيتى التى أحيى بها فقال جعفر انا لا نسجد الا لله عزوجل قال ولم ذلك قال لان الله تعالى أرسل فينا رسولا وأمرنا أن لا نسجد الا لله عز وجل وأخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام فحييناك بالذى يحيى به بعضنا بعضا أى وعرف النجاشى ذلك لانه كذلك فى الانجيل كما قيل أى وأمرنا بالصلاة أى غير الخمس لانها لم تكن فرضت بل التى هى ركعتان بالغداة وركعتان بالعشى أى ركعتان قبل طلوع الشمس وركعتان قبل غروبها على ما تقدم والزكاة أى مطلق الصدقة لازكاة المال لانها انما فرضت بالمدينة أى فى السنة الثانية ومراده بالزكاة الطهارة قال عمرو بن العاص للنجاشى فانهم يخالفونك فى ابن مريم ولا يقولون انه ابن الله عز وجل وعلا قال فما تقولون فى ابن مريم وأمه قال نقول كما قال الله عز وجل
روح الله وكلمته ألقاها الى مريم العذراء أى البكر البتول أى المنقطعة عن الازواج التى لم يمسها بشر ولم يفرضها أى يشقها ويخرج منها ولد أى غير عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم فقال النجاشى يامعشر الحبشة والقسيسين والرهبان ما يزيدون على ما تقولون أشهد أنه رسول الله وأنه الذى بشر به عيسى فى الانجيل أى ومعنى كونه روح الله أنه حاصل عن نفخه روح القدس الذى هو جبريل ومعنى كونه كلمة الله تعالى أنه قال له كن فكان أى حصل فى حال القول
وفى لفظ أن النجاشى قال لمن عنده من القسيسين والرهبان أنشدكم الله الذى أنزل الانجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا مرسلا أى صفته ما ذكر هؤلاء فقالوا اللهم نعم قد بشرنا به عيسى فقال من امن به فقد امن بى ومن كفر به فقد كفر بى فعند ذلك قال النجاشى والله لولا ما أنا فيه من الملك لاتيته فأكون أنا الذى أحمل نعله وأوضئه أى أغسل يديه وقال للمسلمين انزلوا حيث شئتم سيوم بأرضى أى امنون بها وأمر لهم بما يصلحهم من الرزق وقال من نظر الى هؤلاء الرهط نظرة تؤذيهم فقد عصانى
وفى لفظ ثم قال اذهبوا فأنتم امنون من سبكم غرم قالها ثلاثا أى أربع دراهم وضعفها كما جاء فى بعض الروايات وأمر بهدية عمرو ورفيقه فردت عليهما
وفى لفظ أن النجاشى قال ما أحب أن يكون لى ديرا من ذهب أى جبلا وأن أوذى رجلا منكم ردوا عليهم هداياهم فلا حاجة لى بها فو الله ما أخذ الله تعالى منى الرشوة حين رد على ملكى فاخذ الرشوة وما أطاع الناس فى فأطيعهم فيه
وكان النجاشى أعلم النصارى بما أنزل على عيسى وكان قيصر يرسل اليه علماء النصارى لتأخذ عنه العلم
أى وقد بينت عائشة رضى الله تعالى عنها السبب فى قول النجاشى ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكى وهو أن والد النجاشى كان ملكا للحبشة فقتلوه وولوا أخاه الذى هو عم النجاشى فنشأ النجاشى فى حجر عمه لبيبا حازما وكان لعمه اثنا عشر ولدا لا يصلح واحد منهم للملك فلما رأت الحبشة نجابة النجاشى خافوا أن يتولى عليهم فيقتلهم بقتلهم لابيه فمشوا لعمه فى قتله فأبى وأخرجه وباعه ثم لما كان عشاء تلك الليلة مرت على عمه صاعقة فمات فلما رأت الحبشة أن لا يصلح امرها الا النجاشى ذهبوا
وجاءوا به من عند الذي اشتراه وعقدوا له التاج وملكوه عليهم فسار فيهم سيرة حسنة
وفى رواية ما يقتضى أن الذى اشتراه رجل من العرب وأنه ذهب به الى بلاده ومكث عنده مدة ثم لما مرج أمر الحبشة وضاق عليهم ماهم فيه خرجوا فى طلبه وأتوا به من عند سيده ويدل لذلك ما سيأتى عنه أنه عند وقعة بدر أرسل خلف من عنده من المسلمين فدخلوا عليه فاذا هو قد لبس مسحا وقعد على التراب والرماد فقالوا له ما هذا أيها الملك انا نجد فى الانجيل أن الله سبحانه وتعالى اذا أحدث بعبده نعمة وجب على العبد أن يحدث لله تواضعا وان الله تعالى قد أحدث الينا واليكم نعمة عظيمة هى أن محمدا صلى الله عليه وسلم التقى هو وأعداؤه بواد يقال له بدر كثير الاراك كنت أرعى فيه الغنم لسيدى وهو من بنى ضمرة وان الله تعالى قد هزم أعداءه فيه ونصر دينه
وذكر السهيلى أن بكاءه عند ما تليت عليه سورة مريم أى كما سيأتى حتى أخضل لحيته يدل على طول مكثه ببلاد العرب حتى تعلم من لسان العرب مافهم به تلك السورة
قال وعن جعفر بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا خير جار وأمنا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا رجلين جلدين وأن يهدوا للنجاشى هدايا مما يستظرف من متاع مكة وكان أعجب ما يأتيه منها الادم فجمعوا له أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته بطريقا الا أهدوا له هدية أى هيئوا له هدية ولا يخالف ما تقدم من أن الهدية كانت فرسا وجبة ديباج لانه يجوز أن يكون بعض الادم ضم الى تلك الفرس والجبة للملك وبقية الادم فرق على أتباعه ليعاونوهما على ما جاء بصدده والاقتصار على الفرس والجبة فى الرواية السابقة لان ذلك خاص بالملك ثم بعثوا عمارة بن الويد وعمرو ابن العاص يطلبان من النجاشى أن يسلمنا لهم أى قبل أن يكلمنا وحسن له بطارقته ذلك لانهما لما أوصلا هداياهم اليهم قالوا لهم اذا نحن كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم لنا قبل أن يكلمهم أى موافقة لما وصت عليه قريش فقد ذكر أنهم قالوا لهما ادفعوا لكل بطريق هدية قبل أن تكلما النجاشى فيهم ثم قدما للنجاشى هداياه ثم اسألاه أن يسلمهم اليكما قبل أن يكلمهم فلما جاءا الى الملك
قالا له أيها الملك انه قد صبا الى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا فى دينك وجاءوا بدين مبتدع لانعرفه نحن ولا أنت أى جاءهم به رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتبعه منا الا السفهاء وقد بعثنا اليك فيهم أشراف قومهم من ابائهم وأعمامهم وعشائرهم ليردوهم اليهم فهم أعلم بما عابوا عليهم فقال بطارقته صدقوا أيها الملك قومهم أعلم بهم فأسلمهم لهما ليرداهم الى بلادهم وقومهم فغضب النجاشى وقال لا ها الله أى لا والله لا أسلمهم ولا يكاد قوم يجاورونى ونزلوا بلادى واختارونى على من سواى حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان من أمرهم فان كان كما يقولان سلمتهم اليهما والا منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاورونى ثم أرسل لنا ودعانا فلما دخلنا سلمنا فقال من حضره مالكم لا تسجدون للملك قلنا لانسجد الا لله عز وجل فقال النجاشى ما هذا الدين الذى فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا فى دينى ولا فى دين أحد من الملل فقلنا أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الاصنام ونأكل الميتة ونأتى الفواحش ونقطع الارحام ونسىء الجوار ويأكل القوى الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله لنا رسولا كما بعث الرسل الى من قبلنا وذلك الرسول منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا الى الله تعالى لنوحده ونعبده ونخلع أى نترك ما كان يعبد اباؤنا من دونه من الحجارة والاوثان وأمرنا أن نعبد الله تعالى وحده وأمرنا بالصلاة أى ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى والزكاة أى مطلق الصدقة والصيام أى ثلاثة أيام من كل شهر أى وهى البيض أو أى ثلاثة على الخلاف فى ذلك وامرنا بصدق الحديث وأداء الامانة وصلة الارحام وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء أى ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة فصدقناه وامنا به واتبعناه على ما جاء به فعدا علينا قومنا ليردونا الى عبادة الاصنام واستحلال الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا الى بلادك واخترناك على من سواك ورجوناك أن لانظلم عندك يا أيها الملك فقال النجاشى لجعفر هل عندك مما جاء به شىء قلت نعم قال فقرأه على فقرأت عليه صدرا من كهيعص فبكى والله النجاشى حتى أخضل أى بل لحيته وبكت أساقفته وفى لفظ هل عندك مما جاء به عن الله تعالى شىء فقال جعفر نعم قال فاقرأه على قال البغوى فقرأ عليه سورة
العنكبوت والروم ففاضت عيناه وأعين أصحابه بالدمع وقالوا زدنا يا جعفر من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف فقال النجاشى هذا والله الذى جاء به موسى أى وفى رواية ان هذا والذى جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة أى وهذا كما قيل يدل على أن عيسى كان مقررا لما جاء به موسى وفى رواية بدل موسى عيسى ويؤيده ما فى لفظ أنه قال ما زاد هذا على ما فى الانجيل الا هذا العود لعود كان فى يده أخذه من الارض
وفى لفظ أن جعفرا قال للنجاشى سلهما أعبيد نحن أم أحرار فان كنا عبيدا أبقنا من أربابنا فأرددنا اليهم فقال عمروا بل أحرار فقال جعفر سلهما هل أهرقنا دماء بغير حق فيقتص منا هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤه فقال عمروا لا فقال النجاشى لعمرو وعمارة هل لكما عليهما دين قالا لا قال انطلقا فو الله لا أسلمهم اليكما أبدا زاد فى رواية ولو أعطيتمونى ديرا من ذهب أى جبلا من ذهب ثم غدا عمرو الى النجاشى أى أتى اليه فى غد ذلك اليوم وقال له انهم يقولون فى عيسى قولا عظيما أى يقولون انه عبد الله أى وانه ليس ابن الله
أى وفى لفظ أن عمرا قال للنجاشى أيها الملك انهم يشتمون عيسى وأمه فى كتابهم فاسألهم فذكر له جعفر ما تقدم فى الرواية الاولى
هذا وعن عروة بن الزبير انما كان يكلم النجاشى عثمان بن عفان وهو حصر عجيب فليتأمل
وروى الطبرانى عن أبى موسى الاشعرى بسند فيه رجال الصحيح أن عمرو ابن العاص مكر بعمارة بن الوليد أى للعداوة التى وقعت بينه وبينه فى سفرهما أى من أن عمرو بن العاص كان معه زوجته وكا قصيرا دميما وكان عمارة رجلا جميلا فتن امرأة عمرو وهوته فنزل هو واياه فى السفينة فقال له عمارة مر امرأتك فلتقبلنى فقال له عمرو ألا تستحى فأخذ عمارة عمرا ورمى به فى البحر فجعل عمرو يصيح وينادى أصحاب السفينة ويناشد عمارة حتى أدخله السفينة وأضمرها عمرو في نفسه ولم يبدها لعمارة بل قال لامرأته قبلى ابن عمك عمارة لتطيب بذلك نفسه فلما أتيا أرض الحبشة مكر به عمرو فقال أنت رجل جميل والنساءيحببن الجمال فتعرض لزوجه النجاشى لعلها أن تشفع لنا عنده ففعل عمارة ذلك وتكرر تردده عليها حتى أهدت اليه
من عطرها أى ودخل عندها فلما رأى عمرو ذلك أتى النجاشى وأخبره بذلك أى فقال له ان صاحبى هذا صاحب نساء وانه يريد أهلك وهو عندها الان فاعلم علم ذلك فبعث النجاشى فاذا عمارة عند امرأته فقال لولا أنه جارى لقتلته ولكن سأفعل به ما هو شر من القتل فدعا بساحر فنفخ فى احليله نفخة طار منها هائما على وجهه مسلوب العقل حتى لحق بالوحوش فى الجبال الى أن مات على تلك الحال اه
أى ومن شعر عمرو بن العاص يخاطب به عمارة بن الوليد ** اذا المرء لم يترك طعاما يحبه ** ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما ** ** قضى وطرا منه وغادر سبة ** اذا ذكرت أمثالها تملا الفما ** ولا زال عمارة مع الوحوش الى أن كان موته فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه وان بعض الصحابة وهو ابن عمه عبدالله بن أبى ربيعة فى زمن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه قد استأذنه فى المسير اليه لعله يجده فأذن له عمر رضى الله تعالى عنه فسار عبدالله الى أرض الحبشة وأكثر النشدة عنه والفحص عن أمره حتى أخبر أنه فى جبل يرد مع الوحوش اذا وردت ويصدر معها اذا صدرت فجاء اليه ومسكه فجعل يقول له أرسلنى والا أموت الساعة فلم يرسله فمات من ساعته وسيأتى بد غزوة بدر أنهم أرسلوا للنجاشى عمرو بن العاص أيضا وعبدالله بن أبى ربيعة
هذا وكان اسمه قبل أن يسلم بجيرا فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله وأبوه ربيعة الذى هو أبو عبدالله كان يقال له ذو الرمحين وأم عبدالله هى أم أبى جهل بن هشام فهو أخو أبى جهل لامه أرسلوهما اليه ليدفع لها من عنده من المسلمين ليقتلوهم فيمن قتل ببدر
ومن العجب أن صاحب المواهب ذكر أن ارسال قريش لعمرو بن العاص وعبدالله ابن أبى ربيعة ومعهما عمارة بن الويد في الهجرة الاولى للحبشة وانما كان عمرو وعمارة فى الهجرة الثانية وابن أبى ربيعة انما كان مع عمرو بعد بدر كما علمت وان كان يمكن أن يكون عبدالله بن أبى ربيعة أرسلته قريش مرتين الا أنه بعيد
ويرده قول بعضهم ان قريشا أرسلت فى أمر من هاجر الى الحبشة مرتين الاولى أرسلت عمرو بن العاص وعمارة والثانية أرسلت عمرو بن العاص وعبدالله بن أبى ربيعة فليتأمل
ومكث بنو هاشم فى الشعب ثلاث سنين وقيل سنتين فى أشد ما يكون من البلاء وضيق العيش وولد عبدالله بن عباس فى الشعب فمن قريش من سره ذلك ومنهم من ساءه وقالوا انظروا ما أصاب كاتب الصحيفة أى من شلل يده كما تقدم وصار لا يقدر أحد أن يوصل اليهم طعاما ولا أدما حتى أن أبا جهل لقى حكيم بن حزام ومعه غلام يحمل قمحا يريد عمته خديجة زوج النبى صلى الله عليه وسلم وهى معه فى الشعب فتعلق به وقال أتذهب بالطعام الى بنى هاشم والله لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة فقال له أبو البخترى بن هشام مالك وماله فقال أبو جهل انما يحمل الطعام لبنى هاشم فقال أبو البحترى طعام كان لعمته عنده أفتمنعه أن يأتيها خل سبيل الرجل فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه فأخذ أبو البحترى لحى بعير أى العظم الذى تنبت عليه الاسنان فضربه فشجه ووطئه وطئا شديدا وأبو البحترى بالحاء المهملة وفى مختصر أسد الغابة بالخاء المعجمة ممن قتل ببدر كافرا وحتى ان هاشم بن عمرو بن الحارث العامرى رضى الله تعالى عنه فانه أسلم بعد ذلك أدخل عليهم فى ليلة ثلاثة أجمال طعاما فعلمت بذلك قريش فمشوا اليه حين أصبح وكلموه فى ذلك فقال انى غير عائد لشىء خالفكم ثم أدخل عليه ثانيا جملا وقيل جملين فعلمت به قريش فغالظته أى أغلظت له القول وهمت به فقال أبو سفيان بن حرب دعوه وصل رحمه أما انى أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل كان أحسن بنا وكان أبو طالب فى كل ليلة يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتى فراشه ويضطجع به فاذا نام الناس أقامه وأمر أحد بنيه أو غيرهم أى من اخوته أو بنى عمه ان يضطجع مكانه خوفا عليه أن يغتاله أحد ممن يريد به السوء أى وفى الشعب ولد عبدالله بن عباس رضى الله تعالى عنهما ثم أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على أن الارضة أى وهى سوسة تأكل الخشب اذا مضى عليها سنة نبت لها جناحان تطير بهما وهى التى دلت الجن على موت سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام أكلت ما فى الصحيفة من ميثاق وعهد أى الالفاظ المتضمنة للظلم وقطيعة الرحم ولم تدع فيها اسما لله تعالى الا أثبتته فيها وفى رواية ولم تترك الارضة فى الصحيفة اسما لله عز وجل الا لحسته وبقى ما فيها من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم أى والرواية الاولى أثبت من الثانية
قال وجمع بين الروايتين بأنهم كتبوا نسخا فأكلت الارضة من بعض النسخ اسم
الله تعالى وأكلت من بعض النسخ ما عدا اسم الله تعالى لئلا يجتمع اسم الله تعالى مع ظلمهم انتهى أى والتى علقت فى الكعبة هى التى لحست تلك الدابة ما فيها من اسم الله تعالى كما يدل عليه ما يأتى فذكر ذلك لعمه أبة طالب فقال له عمه والثواقب أى النجوم لانها تثقب الشياطين وقيل التى تضىء لانها تثقب الظلام بضوئها وقيل الثريا خاصة لانها أشد النجوم ضوءا ما كذبتنى قط أى ما حدثتنى كذبا وفى رواية أنه قال له أربك أخبرك بهذا الخبر قال نعم فانطلق فى عصابة أى جماعة من قومه أى من بنى هاشم وبنى المطلب
أى وفى رواية أن أبا طالب لما ذكر لاهله قالوا له فما ترى قال أرى أن تلبسوا أحسن ثيابكم وتخرجوا الى قريش فتذكروا ذلك لهم قبل أن يبلغهم الخبر فخرجوا حتى أتوا المسجد على خوف من قريش فلما رأتهم قريش ظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل فتكلم معهم أبو طالب وقال جرت أمور بيننا وبينكم فأتوا بصحيفتكم التى فيها مواثيقكم فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح أى مخرج يكون سببا للصلح وانما قال أبو طالب ذلك خشية أن ينظروا فى الصحيفة قبل أن ياتوا بها أى فلا يأتون بها فأتوا بصحيفتهم لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع اليهم أى لانه الذى وقعت عليه العهود والمواثيق فوضعوها بينهم وقالوا لابى طالب أى توبيخا له ولمن معه قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم فقال أبو طالب انما أتيتكم فى أمر نصف بيننا وبينكم أى أمر وسط لا حيف فيه علينا ولا عليكم ان ابن أخى أخبرنى أن هذه الصحيفة التى فى أيديكم قد بعث الله تعالى عليها دابة لم تترك فيها اسما من أسماء الله تعالى الا لحستة وتركت فيها غدركم وتظاهركم علينا بالظلم
أقول هذه على الرواية الثانية وأما على الرواية الاولى التى هى أثبت فيكون قوله لم تترك اسما الا أثبتته ولحست مواثيقكم وعهدكم
ثم رأيت ابن الجوزى ذكر ذلك فقال ان أبا طالب قال ان ابن أخى قد أخبرنى ولم يكذبنى قط أن الله تعالى قد سلط على صحيفتكم التى كتبتم الارضة فلحست كل ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم وبقى فيها كل ما ذكر به الله تعالى
وفى الينبوع أن أبا طالب قال لما حضرت الصحيفة ان صحيفتكم هذه صحيفة اثم وقطيعة
رحم وان ابن أخى أخبرنى أن الله تعالى سلط عليها الارضة لم تدع ما كتبتم الا باسمك اللهم والله أعلم قال أبو طالب فان كان الحديث كما يقول فأفيقوا أى وفى رواية نزعتم أى رجعتم عن سوء رأيكم أى وان لم ترجعوا فوالله لا نسلمه حتى نموت من عند اخرنا وان كان الذى يقول باطلا دفعنا اليكم صاحبنا فقتلتم أو استحييتم فقالوا قد رضينا بالذى تقول أى وفى رواية أنصفتنا ففتحوا الصحيفة فوجدوا الامر كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فلما رأت قريش صدق ما جاء به أبو طالب قالوا أى قال أكثرهم هذا سحر ابن أخيك وزادهم ذلك بغيا وعدوانا وبعضهم ندم وقال هذا بغى منا على اخواننا وظلم لهم
أى وقد جاء أن أبا طالب قال لهم أى بعد أن وجدوا الامر كما أخبر به صلى الله عليه وسلم يامعشر قريش علام نحصر ونحبس وقد بان الامر وتبين أنكم أولى بالظلم والقطيعة والاساءة ودخلوا بين أستار الكعبة وقالوا اللهم انصرنا على من ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم عليه منا ثم انصرفوا الى الشعب وعند ذلك مشى طائفة منهم وهم خمسة فى نقض الصحيفة أى ما تضمنته وهم هشام بن عمرو بن الحارث وزهير بن أمية ابن عمته صلى الله عليه وسلم عاتكة بنت عبدالمطلب وقد أسلم بعد ذلك كالذى قبله كما تقدم والمطعم بن عدى مات كافرا كماتقدم وأبو البحترى بن هشام قتل ببدر كافرا كما تقدم وزمعة بن الاسود قتل ببدر كافرا
واختلف فى كاتب الصحيفة فعند ابن سعد أنه بغيض بن عامر فشلت يده ولم يعرف له اسلام وعند ابن اسحاق أن الكاتب لها هشام بن عمرو المتقدم ذكره
قال وقيل ان الكاتب لها منصور بن عكرمة أى فشلت يده فيما يزعمون كذا فى النور نقلا عن سيرة ابن هشام وقيل النضر بن الحارث فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت بعض أصابعه وهو ممن قتل على كفره عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من بدر وقيل الكاتب لها طلحة بن أبى طلحة العبدرى قال ابن كثير رحمه الله والمشهور أنه منصور
ويجمع بين هذه الاقوال باحتمال أن يكون كتب بها نسخ أى فكل كتب نسخة أنتهى أى وينبغى أن يكون الذى شلت يده هو كاتب الصحيفة التى علقت فى الكعبة ولعلها هى التى كتبت أولا والى أكل الارضة الصحيفة والى عد الخمسة الذين سعوا فى نقض الصحيفة أشار صاحب الهمزية بقوله
** فديت خمسة الصحيفة بالخمسة اذ كان للكرام فداء ** ** فتية بيتوا على فعل خير ** حمد الصبح أمره والمساء ** ** بالامر أتاه بعد هشام ** زمعة انه الفتى الاتاء ** ** وزهير والمطعم بن عدى ** وأبو البحترى من حيث شاءوا ** ** نقضوا مبرم الصحيفة اذ شد ** دت عليه من العدا الانداء ** ** أذكرتنا بأكلها أكل منسا ** ة سليمان الارضة الخرساء ** ** وبها أخبر النبى وكم أخرج خبا له الغيوب خباء **
أى فديت خمسة الصحيفة أى الناقضين لها بالخمسة المستهزئين السابق ذكرهم فتية ثبتوا وتراودوا واشتوروا بالحجون ليلا على فعل خير وهو نقض الصحيفة حمد الصباح والمساء منهم ذلك الفعل بالامر عظيم وهو نقض الصحيفة أتاه بعد هشام زمعة بن الاسود وانه الكريم فى قومه الاتاء أى المبالغ فى ايتاء الخير وأتاه زهير وأتاه المطعم بن عدى وأتاه أبو البحترى من المكان الذى قصدوه فنقضوا مبرم الصحيفة أى الامر الذى أبرمته أذكرتنا الارضة الخرساء بأكلها تلك الصحيفة منساة أى عصى سليمان وبأكلها للصحيفة أخبر النبى صلى الله عليه وسلم ومرات كثيرة أخرج صلى الله عليه وسلم شيئا مخبأ الغيوب له ساترة والمراد أن كل واحد من هؤلاء الخمسة الذين نقضوا الصحيفة فدى بأولئك الخمسة المستهزئين من الاذى الذى أصابهم المتقدم ذكره فلا ينافى أن بعض هؤلاء الذين نقضوا الصحيفة مات كافرا
قال جاء أن هشام بن عمرو بن الحارث رضى الله تعالى عنه فانه أسلم بعد ذلك كما تقدم مشى الى زهير بن أمية بن عاتكة بنت عبدالمطلب رضى الله تعالى عنه فانه أسلم بعد ذلك أيضا كما تقدم فقال له يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وأخوالك قد علمت لا يبايعون ولا يبتاعون فقال ويلك يا هشام فماذا أصنع انما أنا رجل واحد والله لو كان معى رجل اخر لقمت لانقضها يعنى الصحيفة قال وجدت رجلا قال من هو قال أنا فقال زهير ابغنا رجلا ثالثا فذهب الى المطعم بن عدى فقال له يا مطعم أرضيت أن يهلك بطنان من بنى عبد مناف يعنى بنى هشام وبنى المطلب وأنت شاهد على ذلك فقال له ويحك ماذا أصنع انما أنا رجل واحد قال وجدت ثانيا قال من هو قلت أنا قال ابغنا رجلا ثالثا قال قد فعلت قال
من هو قلت زهير بن أمية قال ابغنا رابعا فذهبت الى أبى البحترى بن هشام فقلت له نحوا مما قلت للمطعم فقال وهل معين على هذا الامر قلت نعم قال من هو قلت زهير بن أمية والمطعم بن عدى وأنا معك قال ابغنا خامسا فذهبت الى زمعة بن الاسود فكلمته فقال وهل من أحد يعين على ذلك فسميت له القوم
ثم ان هؤلاء اجتمعوا ليلا عند الحجون وأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام فى نقض الصحيفة حتى ينقضوها وقال زهير أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم فلما أصبحوا غدوا الى أنديتهم وغدا زهير وعليه حلة فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس فقال يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم أى والمطلب هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة فقال أبو جهل كذبت والله لا تشق قال زمعة بن الاسود أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت قال أبو البحترى صدق زمعة قال المطعم صدقتما وكذب من قال غير ذلك نبرأ الى الله تعالى منها ومما كتب فيها وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك فقال أبو جهل هذا أمر قضى بالليل فقام المطعم بن عدى الى الصحيفة فشقها انتهى
أى وهذا يدل للرواية الدالة على أن الارضة لحست اسم الله تعالى وأثبتت ما فيها من العهود والمواثيق والا فبعد امحاء ذلك منها لا معنى لشقها
وفى كلام بعضهم يحتمل أن أبا طالب انما أخبرهم بعد سعيهم فى نقضها قال ابن حجر الهيتمى ويبعده أن الاخبار بذلك حينئذ ليس له كبيرجدوى وقام هؤلاء الخمسة ومعهم جماعة ولبسوا السلاح ثم خرجوا الى بنى هاشم وبنى المطلب فأمروهم بالخروج الى مساكنهم ففعلوا = باب ذكر خبر وفد نجران
ثم قدم عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وفد نجران وهم قوم من النصارى ونجران بلدة بين مكة واليمن على نحو من سبع مراحل من مكة كانت منزلا للنصارى وكانوا نحوا من عشرين رجلا حين بلغهم خبره ممن هاجر من المسلمين الى الحبشة فوجدوه صلى الله عليه وسلم في المسجد فجلسوا اليه سالوه وكلموه ورجال من قريش فى أنديتهم
حول الكعبة ينظرون اليهم فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أرادوا دعاهم رسول اله صلى الله عليه وسلم الى الله تعالى وتلا عليهم القران فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له وامنوا به وعرفوا منه ما هو موصوف به في كتابهم فلماقاموا عنه اعترضهم أبو جهل فى نفر من قريش فقالوا لهم خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون أى تنظرون الاخبار لهم لتاتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم فصدقتموه بما قال لا نعلم ركبا أحمق أى أقل عقلا منكم فقالوا لهم سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه ويقال نزل فيهم قوله تعالى { الذين آتيناهم الكتاب } الى قوله { لا نبتغي الجاهلين } ونزل قوله تعالى { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق }
وذكر فى الوفاء وفود ضماد الازدى عليه صلى الله عليه وسلم فقال عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن ضمادا قدم مكة وكان من أزد شنوءة وكان يرقى من الريح أى ولعل المراد به اللمة من الجن فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون ان محمدا مجنون فقال لو أنى رأيت هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدى قال فأتيته فقلت يا محمد انى أرقى من الريح فان الله يشفى على يده من شاء فهل لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الحمد لله نحمده ونستعينه من يهدى الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادى له وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فقال ضماد أعد على كلماتك هؤلاء فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء هات يدك أبايعك على الاسلام فبايعه وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قومك قال وعلى قومي
= باب ذكر وفاة أبي طالب وزوجته صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله الله تعالى عنها
لتعلم أنهما ماتا في عام واحد أي بعد خروج بني هاشم والمطلب من الشعب بثمانية وعشرين يوما وإلى موتهما في عام واحد أشار صاحب الهمزية بقوله ** وقضى عمه أبو طالب والد ** دهر فيه السراء والضراء ** ** ثم ماتت خديجة ذلك العا ** م ونالت من أحمد المناء **
وذلك قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنين وبعد مضى عشر سنين من بعثته صلى الله عليه وسلم أي من مجيء جبريل عليه السلام بالوحي وهو يرد قول ابن اسحاق ومن تبعه أن خديجة رضي الله تعالى عنها عنها ماتت بعد الاسراء
وأفاد كلام صاحب الهمزية أن موت خديجة كان بعد موت أبي طالب وقيل كانت وفات خديجة رضى الله عنها قبل أبى طالب بخمس وثلاثين ليلة وقيل بعده بثلاثة أيام ويؤيد ما في الهمزية قول الحافظ عماد الدين بن كثير المشهور أنه مات قبل خديجة رضي الله تعالى عنها أي بثلاثة أيام ودفنت بالحجون ونزل صلى الله عليه وسلم في حفرتها ولها من العمر خمس وستون سنة ولم تكن الصلاة على الجنازة شرعت
وذكر الفكهاني المالكي في شرح الرسالة أن صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة لكن ذكر ما يخالفه في الشرح المذكور حيث قال وروى أن آدم عليه الصلاة والسلام لما توفي أتى بحنوط وكفن من الجنة ونزلت الملائكة فغسلته وكفنته في وتر من الثياب وحنطوه وتقدم ملك منهم فصلى عليه وصلت الملائكة خلفه ثم أقبروه وألحدوه ونصبوا اللبن عليه وابنه شيث عليه الصلاة والسلام الذي هو وصيه معهم فلما فرغوا قالوا له هكذا فاصنع بولدك وإخوتك فإنهم سنتكم هذا كلامه أي ويبعد أنه لم يفعل ذلك بعد القول المذكور له ويحتمل أن المراد بالصلاة مجرد الدعاء لا هذه الصلاة المعروفة المشتملة على التكبير لكن يبعده مافي العرائس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آدم لما مات قال ولده شيث لجبريل صل عليه فقال له جبريل بل أنت تقدم فصل على أبيك فصلى عليه وكبر ثلاثين تكبيرة وقد أخرج الحاكم نحوه مرفوعا وقال صحيح الإسناد
ومنه تعلم أن الغسل والتكفين والصلاة والدفن واللحد من الشرائع القديمة بناء على أن المراد بالصلاة الصلاة المشتملة على التكبير لا مجرد الدعاء
وحينئذ لا يحسن القول بأن صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة إلا أن يقال لا يلزم من كونها من الشرائع القديمة أن تكون معروفة لقريش إذ لو كانت كذلك لفعلوا ذلك وسيأتي عنهم أنهم لم يفعلوا ذلك
وأيضا لو كانت معروفة لهم لصلى صلى الله عليه وسلم على خديجة ومن مات قبلها من المسلمين كالسكران ابن عم سودة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما الذي هو زوجها وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم الى المدينة وجد البراء بن معرور قد مات فذهب هو وأصحابه فصلى على قبره وأنها أول صلاة صليت على الميت في الإسلام ومعرور معناه في الأصل مقصود
لا يقال يجوز أن يكون المراد بتلك الصلاة مجرد الدعاء لأنا نقول قد جاء أنه كبر في صلاته أربعا وقد روى هذه الصلاة تسعة من الصحابة ذكرهم السهيلي وسيأتي عن الإمتاع لم أجد في شيء من السير متى فرضت صلاة الجنازة ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم على أسعد بن زرارة وقد مات في السنة الأولى ولا على عثمان بن مظعون وقد مات في السنة الثانية
وفي كلام بعضهم صلاة الجنازة فرضت في السنة الأولى من الهجرة وأول من صلى عليه صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة فليتأمل
وفي كلام بعضهم كانوا في الجاهلية يغسلون موتاهم وكانوا يكفنونهم ويصلون عليهم وهو أن يقوم ولى الميت بعد أن يوضع على سريره ويذكر محاسنه كلها ويثنى عليه ثم يقول عليك رحمة الله ثم يدفن أي وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى ذلك العام عام الحزن ولزم بيته وأقل الخروج وكانت مدة إقامتها معه صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة على الصحيح
ويذكر أنه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة رضي الله تعالى عنها وهي مريضة فقال لها يا خديجة أتكرهين ما أرى منك وقد يجعل الله في الكره خيرا أشعرت أن الله قد أعلمني أنه سيزوجني وفي رواية أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم ابنة عمران وكلثم أخت موسى وهي التي علمت ابن عمها قارون الكيمياء وآسية امرأة فرعون فقالت آ لله أعلمك بهذا يا رسول الله وفي رواية آ لله فعل ذلك
يا رسول الله قال نعم قالت بالرفاء والبنين زاد في رواية أنه صلى الله عليه وسلم أطعم خديجة من عنب الجنة وقولها بالرفاء والبنين هو دعاء كان يدعى به فى الجاهلية عند التزويج والمراد منه الموافقة والملايمة مأخوذ من قولهم رفأت الثوب ضممت بعضه إلى بعض ولعل هذا كان قبل ورود النهى عن ذلك
هذا وفي الإمتاع أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى مجلس المهاجرين الأولين في الروضة فقال رفئوني فقالوا ماذا يا أمير المؤمنين قال تزوجت أم كلثوم بنت على هذا كلامه ولعل النهى لم يبلغ هؤلاء الصحابة حيث لم ينكروا قوله كما لم يبلغ سيدنا عمر رضي الله تعالى عنهم
وفي الشهر الذي ماتت فيه خديجة رضي الله تعالى عنها وهو شهر رمضان بعد موتها بأيام تزوج سودة بنت زمعة وكانت قبله عند السكران ابن عمها وهاجر بها إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية ثم رجع بها إلى مكة فمات عنها فلما انقضت عدتها تزوجها صلى الله عليه وسلم وأصدقها أربعمائة درهم
وقد كانت رأت فى نومها أن النبي صلى الله عليه وسسلم وطىء عنقها فأخبرت زوجها فقال إن صدقت رؤياك أموت أنا ويتزوجك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رأت فى ليلة أخرى أن قمرا انقض عليها من السماء وهي مضطجعة فأخبرت زوجها فقال لا ألبث حتى أموت فمات من يومه ذلك
وعقد صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست أو سبع سنين في شوال فعن خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون قالت قلت لما ماتت خديجة يا رسول الله ألا تتزوج قال من قلت إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا قال فمن البكر قلت أحق خلق الله بك بنت أبى بكر رضى الله عنهما قال ومن الثيب قلت سودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول قال فاذهبي فاذكريهما علي قالت فدخلت على سودة بنت زمعة فقلت لها ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة قالت وما ذاك قالت أرسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك عليه قالت وددت ادخلي على أبى فاذكرى ذلك له وكان شيخا كبيرا فدخلت عليه وحيته بتحية الجاهلية فقال من هذه قلت خولة بنت حكيم قال فما شأنك قلت أرسلنى محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة قال كفء كريم
قال ما تقول صاحبتك قالت تحب ذلك قال ادعيها الى فدعوتها قال أى بنية إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك وهو كفء كريم أتحبين أن أزوجك منه قالت نعم قال ادعيه لى فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه إياها ولما قدم أخوها عبد بن زمعة وقد بلغه ذلك صار يحثى على رأسه التراب ولما أسلم قال لقد كدنى السفه يوم أحثى على رأسى التراب إذ تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة يعنى أخته وذهبت خولة إلى أم رومان أم عائشة فقالت لها ماذا أدخل الله عليكم من البركة والخير قد أرسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم اخطب عليه عائشة قالت انتظرى ابا بكر حتى ياتى فجاء ابو بكر فقلت له يا ابابكرماذاادخل عليكم من الخيروالبركة قال وما ذاك قلت قد ارسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة قال وهل تصلح أى تحل له إنما هي بنت أخيه فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال ارجعى إليه فقولي له أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لى أي تحل فرجعت فذكرت ذلك له قالت أم رومان رضي الله عنها إن مطعم بن عدى قد كان ذكرها على ابنه جبير ووعده والله ما وعد وعدا قط فأخلفه تعنى أبا بكر فدخل أبو بكر على مطعم وعنده امرأته أم ابنه المذكور فكلمت أبا بكر بما أوجب ذهاب ما كان فى نفسه من عدته لمطعم فإن المطعم لما قال له أبو بكر ما تقول في أمر هذه الجارية أقبل المطعم على امرأته وقال لها ماذا تقولين يا هذه فأقبلت على أبى بكر وقالت له لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى إليكم تصيبه وتدخله في دينك الذى أنت عليه فأقبل أبوبكر على المطعم وقال له ماذا تقول أنت فقال إنها لتقول ما تسمع فقام أبو بكر وليس في نفسه من الوعد شيء فرجع فقال لخولة ادعى لى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعته فزوجه إياها وعائشة حينئذ بنت ست سنين وقيل سبع سنين وهو الأقرب
فعلم أن العقد على سودة تقدم على العقد على عائشة لأن العقد على سودة كان في رمضان الشهر الذي ماتت فيه خديجة رضي الله تعالى عنها وعلى عائشة كان فى شوال ومعلوم أن الدخول بسودة كان بمكة وعلى عائشة كان بالمدينة
ثم رأيت بعضهم ذكر أن خولة ذهبت إلى طلب عائشة وأن النبي صلى الله عليه وسلم
عقد عليها قبل ذهابها لسودة وعقده عليها ولا تخفى المخالفة إلا أن يراد بالعقد على سودة الدخول بها وفيه أنه لا يحسن ذلك مع قوله قبل ذهابها لسودة
ولما اشتكى أبو طالب أى مرض وبلغ قريشا ثقله أى اشتداد المرض به قال بعضهم لبعض إن حمزة وعمر قد أسلما وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها فانطلقوا بنا إلى أبى طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا أى يسلبونه ومنه قولهم من عز بز أى من غلب أخذ السلب ووهو الثياب التي هي البز وفي لفظ إنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا شيء أي قتل محمد كما فى بعض الروايات فتعيرنا العرب ويقولون تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه فمشى إليه أشرافهم منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعه وأبو جهل وأمية بن خلف وأبو سفيان رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم ليلة الفتح كما سيأتى وأرسلوا رجلا يدعى المطلب فاستأذن لهم على ابى طالب فقال هؤلاء شيخة قومك وسرواتهم يستأذنون عليك قال أدخلهم فدخلوا عليه فقالوا يا أبا طالب أنت منا حيث قد علمت وفى لفظ قالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك وقد علمت الذى بيننا وبين ابن أخيك فادعه وخذ له منا وخذ لنا منه لينكف عنا وننكف عنه وليدعنا وديننا وندعه ودينه فبعث إليه صلى الله عليه وسلم أبو طالب فجاءه ولما دخل صلى الله عليه وسلم على أبي طالب وكان بين أبي طالب وبين القوم فرجة تسع الجالس فخشى أبو جهل أن يجلس النبي صلى اله عليه وسلم في تلك الفرجة فيكون أرقى منه فوثب أبو جهل فجلس فيها فلم يجد النبي صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب أبى طالب فجلس عند الباب انتهى
وفى الوفاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم خلوا بينى وبين عمى فقالوا ما نحن بفاعلين وما أنت بأحق به منا إن كانت لك قرابة فإن لنا قرابة مثل قرابتك فقال أبو طالب لرسول الله عليه وسلم يا ابن أخى هؤلاء أشراف قومك وفى لفظ هؤلاء شيخة قومك وسرواتهم وقد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك وفي لفظ سألوك النصف وفى لفظ أعط سادات قومك ما سألوك فقد أنصفوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك فقال رسول الله عليه وسلم أرأيتكم
إن أعطيتكم ما سألتم هل تعطونى كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم أى تطيع وتخضع فقال أبو جهل نعم وآتيك عشر كلمات وفى لفظ لنعطيكها وعشرا معها فما هى قال تقولون لا إله إلا الله وتقلعون عما تعبدون من دونه فصفقوا بأيديهم ثم قالوا يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا إن أمرك لعجب فأنزل الله تعالى ص والقرآن ذى الذكر إلى آخر الآيات وفى لفظ قالوا أيسع لحاجاتنا جميعا إله واحد وفى لفظ قالوا سلنا غير هذه الكلمة وفى لفظ أن أبا طالب قال يا ابن أخى هل من كلمة غيرها فإن قومك قد كرهوها قال يا عم ما أنا بالذى يقول غيرها ثم قال صلى الله عليه وسلم لو جئتمونى بالشمس حتى تضعوها فى يدى ما سألتكم غيرها ثم قال بعضهم لبعض والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه ثم تفرقوا وفى لفظ قالوا عند قيامهم والله لنشتمك وإلهك الذى يأمرك بهذا أى وفى لفظ لتكفن عن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذى أمرك بهذا
قال فى الينبوع وهذه العبارة أحسن من الأولى لأنهم كانوا يعرفون أنه يعبد الله وما كانوا ليسبوا الله عالمين لكنهم ما كانوا يعرفون أن الله أمره بذلك وذكره أن ذلك سبب نزول قوله تعالى { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم }
هذا وفى النهر أن سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا لأبى طالب إما أن تنهى محمداعن سب آلهتنا والنقص منها وإما أن نسب إلهه ونهجوه قال فيه وحكم هذه الآية باق فى هذه الأمة فإذا كان الكافر فى منعة وخيف أن يسب الإسلام أو الرسول فلا يحل للمسلم ذم دين الكافر ولا يتعرض لما يؤدى إلى ذلك لأن الطاعة إذا كانت تؤدى إلى مفسدة خرجت عن أن تكون طاعة فيجب النهى عنها كما ينهى عن المعصية هذا كلامه
وعند ذلك قال أبو طالب لرسول الله عليه وسلم والله يا ابن أخى ما رأيتك سألتهم شحطا أى بالحاء والطاء المهملتين أمرا بعيدا فلما قال ذلك طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فجعل يقول أى عم فأنت فقلها أستحل بها الشفاعة يوم القيامة أى لو ارتكبت ذنبا بعد قولها وإلا فالاسلام يجب ما قبله فلما رأى حرص رسول الله عليه وسلم قال له والله يا ابن أخى لولا مخافة السبة أى العار عليك
وعلى بنى أبيك من بعدى وأن تظن قريش أنى إنما قلتها جزعا أى بالجيم والزاى خوفا من الموت وهذا هو المشهور وقيل بالخاء المعجمة والراء أى ضعفا لقلتها وفى رواية لأقررت بها عينك لما أرى من شدة وجدك لكنى أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف فأنزل الله تعالى إنك لا تهدى من أحببت الآية
أى وعن مقاتل أن أبا طالب قال عند موته يا معشر بنى هاشم أطيعوا محمدا وصدقوه تفلحوا وترشدوا فقال له النبى صلى الله عليه وسلم ياعم تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك قال فما تريد يا ابن أخى قال أريد أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله تعالى فقال يا ابن أخي قد علمت أنك صادق لكنى أكره أن يقال الحديث قال فى الهدى وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه لما فى ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها أى وكذا أقرباؤه وبنو عمه تأخر إسلاتم من أسلم منهم ولو أسلم أبو طالب وبادر أقرباؤه وبنو عمه تأخر إسلام من أسلم منهم ولو أسلم أبو طالب وبادر وبنو عمه إلى الإيمان به لقيل قوم أرادوا الفخر برجل منهم وتعصبوا له فلما بادر إليه الأباعد وقاتلوا على حبه من كان منهم حتى إن الشخص منهم يقتل أباه وأخاه علم أن ذلك إنما هو عن بصيرة صادقة ويقين ثابت
وذكر أنه لما تقارب من أبى طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فاصغى إليه بأذنه فقال يا ابن أخى والله لقد قال أخى الكلمة التى أمرته بقولها فقال رسول الله عليه وسلم لم أسمع وفيه أنه لم يثبت ن العباس ذكر ذلك بعد الإسلام وأيضا نزول الآية حيث ثبت أن نزولها فى حق أبى طالب يرد ذلك
ويرده أيضا ما فى الصحيحين عن العباس رضى الله تعالى عنه أنه قال قلت يا رسول الله إن أبا طالب كان يحيطك وينصرك فهل ينفعه ذلك قال نعم وجدته أى كشف لى عن حاله وما يصير إليه يوم القيامة فوجدته فى غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح أى وفى لفظ آخر قال نعم هو أى يوم القيامة فى ضحضاح من النار لولا أنا لكان فى الدرك الأسفل من النار ولو كانت الشهادة المذكورة عند العباس ما سأل هذا السؤال ولأداها بعد الإسلام إذ لو أداها لقبلت
وقد يقال إنما سأل هذا السؤال ولم يعد الشهادة بعد الإسلام لأنه لما قال له صلى الله عليه وسلم أولا لم أسمع فهم أنه حيث لم يسمعها صلى الله عليه وسلم لم يعتد بها سأل هذا السؤال وفهم أن إعادة الشهادة بعد إسلامه لا تفيد شيئا
ويرده أيضا ما جاء فى رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما كرر على أبى طالب أن يقول كلمة الشهادة وهو يأبى إلى أن قال هو على دين عبد المطلب قال صلى الله عليه وسلم أما والله لأستغفرن لك مالم أنه عن ذلك أى عن الاستغفار لك فأنزل الله عز وجل ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم أى وتقدم أن سبب نزول هذه الآية طلب استغفاره لأمه عند زيارة قبرها أن يقال لا مانع من تكرر سبب نزولها لجواز أنه صلى الله عليه وسلم جوز الفرق بين أمه وعمه لأن أمه لم تدع للإسلام بخلاف عمه وفى منع استغفاره لأمه ما تقدم ولا يشكل على ذلك قوله يوم أحد اللهم اغفر لقومى لأن ذلك أى غفران الذنوب مشروط بالتوبة أى الإسلام فكأنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالتوبة التى هى الإسلام ويؤيده رواية اللهم اهد قومى أى للإسلام قال وأيضا جاء فى صحيح ابن حيان عن على رضى الله تعالى عنه قال لما مات أبو طالب أتيت رسول الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات قال اذهب فواره قال على رضى الله تعالى عنه فلما واريته جئت إليه فقال لى اغتسل
أقول لأنه غسله وبه وبقوله صلى الله عليه وسلم من غسل ميتا فليغتسل استدل أئمتنا على أن من غسل ميتا مسلما أو كافرا استحب له أن يغتسل
وروى البيهقى خبر أن عليا رضى الله تعالى عنه غسله بأمر النبى صلى الله عليه وسلم له بذلك لكن ضعفه وفى رواية عن على رضى الله تعالى عنه لما أخبرت النبى صلى اله عليه وسلم بموت أبى طالب بكى وقال اذهب فاغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه
وأما ما روى عنه أنه صلى الله عليه وسلم عارض جنازة عمه أبى طالب فقال وصلتك رحم وجزيت خيرا يا عم فقال الذهبى إنه خبر منكر والله أعلم
وجاء أيضا أنه ذكر عنده عمه أبو طالب فقال إنه ستنفعه شفاعتى وفى رواية لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار أى مقدار ما يغطى بطن قدميه وفى روايه فى ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منها دماغه وفى لفظ عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة شفعت لأبى وأمى وعمى أبى طالب وأخ لى كان فى الجاهلية يعنى أخاه من حليمة كما فى رواية تأتى
أقول يجوز أن يكون ذكر شفاعته لأبويه كان قبل إحيائهما وإيمانهما به كما قدمناه جوابا عن نهيه عن الإستغفار لهما والله أعلم
وفى لفظ آخر شفعت فى أبى وعمى أبى طالب وأخى من الرضاعة يعنى من حليمة ليكوونوا من بعد البعث هباء
ومما يستأنس به لإيمان أبيه ما جاء أنه صلى لله عليه وسلم قال لابنته فاطمة رضى الله تعالى عنها وقد عزت قوما من الأنصار فى ميتهم لعلك بلغت معهم الكدى بالدال المهملة أو الكرا بالراء يعنى القبور فقالت لا فقالت لو كنت بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك يعنى عبد المطلب ولم يقل جدك يعنى أباه الذى هو عبد الله وتقدم القول بأن حليمة وأولادها أسلموا
وعليه فيجوز أن يكون هذا منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم أخوه من الرضاعة كما تقدم مثل ذلك فى أبيه وأمه وفى رواة الحديث الأول من هو منكر الحديث وفى الثانى من هو ضعيف وقال فيه ابن الجوازى إنه موضوع بلا شك أى وهذا أى قبول شفاعته صلى الله عليه وسلم فى عمه أبى طالب عد من خصائصه صلى الله عليه وسلم فلا يشكل بقوله تعالى فما تنفعهم شفاعة الشافعين أو لا تنفعهم شفاعة الشافعين فى الإخراج من النار بالكلية أى وفى هذا الثانى أنه لا يناسب أن شفاعته لهم أن يكونوا من بعد البعث هباء أى فى صيرورتهم هباء إلا أن يقال إنه لم يستجب له فى ذلك
قال وجاء أيضا عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن رسول الله عليه وسلم قال إن أهون أهل النار أى وهم الكفار عذابا أبو طالب وهو ينتعل بنعلين يغلى منهما دماغه أى وفى رواية كما يغلى الماء فى المرجل أى القدر من النحاس حتى يسيل دماغه على قدميه وفى رواية كما يغلى المرجل بالقمقم قيل والقمقم بكسر القافين البسر الأخضر يطبخ فى المرجل استعجالا لنضجه يفعل ذلك أهل الحاجة
وذكر السهيلى الحكمة فى اختصاص قدميه بالعذاب وزعم بعض غلاة الرافضة أن أبا طالب أسلم واستدل له بأخبار واهية ردها الحافظ ابن حجر فى الإصابة
أى وقد قال وقفت على جزء جمعه بعض أهل الرفض أكثر من الأحاديث الواهية الدالة على إسلام أبى طالب ولم يثبت من ذلك شيء
وروى أبو طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال حدثني محمد أن الله أمره بصلة
الأرحام وأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه غيره وقال سمعت ابن أخى الأمين يقول اشكر ترزق ولا تكفر تعذب انتهى
وفى المواهب عن شرح التنقيح للقرافى أن أبا طالب ممن آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع لأنه كان يقول إنى لا أعلم ما يقوله ابن أخى لحق ولولا أنى أخاف أن يعيرنى نساء قريش لأتبعته فهذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان غير أنه لم يذعن للأحكام هذا كلامه وفيه أن الإيمان باللسان الإتيان بلا إله إلا الله ولم يوجد ذلك منه كما علمت وتقدم أن الإيمان النافع عند الله الذى يصير به الشخص مستحقا لدخول الجنة ناجيا من الخلود فى النار التصديق بالقلب بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يقر بالشهادتين مع التمكين من ذلك ويمتنع وأبو طالب طلب منه ذلك وامتنع
وقد روى الطبرانى عن أم سلمة أن الحارث بن هشام أى أخا أبى جهل بن هشام أتى النبى صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع فقال إنك تحث عل صلة الرحم والإحسان إلى الجار وإيواء اليتيم وإطعام الضيف وإطعام المسكين وكل هذا مما يفعله هشام يعنى والده فما ظنك به يا رسول الله فقال رسول الله صى الله عليه وسلم كل قبر لا يشهد صاحبه أن لا إله إلا الله فهو جذوة من النار وقد وجدت عمى أبا طالب فى طمطام من النار فأخرجه الله لمكانه منى وإحسانه إلى فجعله فى ضحضاح من النار
وذكر أن أبا طالب لما حضرته الوفاة جمع إليه وجهاء قريش فأوصاهم وكان من وصيته أن قال يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب فيكم المطاع وفيكم المقدم الشجاع والواسع الباع لم تتركوا للعرب فى المآثر نصيبا إلا أحرزتموه ولا شرفا إلا أدركتموه فلكم بذلك على الناس الفضيلة ولهم به إليكم الوسيلة أوصيكم بتعظيم هذه البنية أى الكعبة فإن فيها مرضاة للرب وقواما للمعاش صلوا أرحامكم ولاتقطعوها فإن فى صلة الرحم منسأ أى فسحة في الأجل وزيادة فى العدد واتركوا البغى والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم أجيبوا الداعى وأعطوا السائل فإن فيهما شرف الحياة والممات وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة فإن فيهما محبة فى الخاص ومكرمة فى العام وإنى أوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين فى قريش أى وهو الصديق فى العرب وهو الجامع لكل ما أوصيكم به وقد جاء بأمر قبله الجنان
وأنكره اللسان مخافة الشنآن أى البغض وهو لغة فى الشنآن وايم الله كأنى أنظر إلى صعاليك العرب وأهل البر فى الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته وعظموا أمره فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ودورها خرابا وضعفاؤها أربابا وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه وأبعدهم منه أحظاهم عنده قد محضته العرب ودادها وأعطته قيادها دونكم يا معشر قريش كونوا له ولاة ولحزبه حماة والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا رشد ولا يأخذ حد بهديه إلا سعد
وفى لفظ آخر أنه لما حضرته الوفاة دعا بنى عبد المطلب فقال لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره فأطيعوه ترشدوا
ولما مات أبو طالب نالت قريش من النبى صلى الله عليه وسلم من الأذى مالم تكن تطمع فيه فى حياة أبى طالب حتى إن بعض سفهاء قريش نثنر على رأس النبى صلى الله عليه وسلم التراب فدخل صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه فقامت إليه بعض بناته وجعلت تزيله عن رأسه وتبكى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها لا تبكى لا تبكى يا بنية فإن الله تعالى مانع أباك وكان صلى الله عليه وسلم يقول مانالت قريش منى شيئا أكرهه أى أشد الكراهة حتى مات أبو طالب وتقدم وسيأتى بعض ما أوذوى به
قال ولما رأى قريشا تهجموا قال يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك ولما بلغ أبا لهب ذلك قام أبو لهب بنصرته أياما وقال له يا محمد امض لما أردت وما كنت صانعا إذا كان أبو طالب حيا فاصنعه لا واللات والعزى لا يوصل إليك حتى أموت
واتفق أن ابن العطيلة أى وهو أحد المستهزئين المتقدم ذكرهم سب النبى صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه ابو لهب ونال منه فولى وهو يصيح يا معشر قريش صبا أبو عتبة يعنى أبا لهب فأقبلت قريش على أبى لهب وقالوا له أفارقت دين عبد المطلب فقال ما فارقت وفى لفظ قالوا له أصبوت قال ما فارقت دين عبد المطلب ولكن أمنع ابن أخى أن يضام حتى يمضى لما يريد قالوا قد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك أياما لا يتعرض له أحد من قريش وهابوا أبا لهب إلى أن جاء أبو جهل وعقبة بن أبى معيط إلى أبى لهب فقالا له أخبرك
ابن أخيك أين مدخل أبيك أى المحل الذى يكون فيه يزعم أنه فى النار فقال له أبو لهب يا محمدأيدخل عبد المطلب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم ومن مات على مثل ما مات عليه عبد المطلب دخل النار فقال أبو لهب لا برحت لك عدوا وأنت تزعم أن عبد المطلب فى النار فاشتد عليه هو وسائر قريش انتهى
وفى لفظ قال له يا محمد أين مدخل عبد المطلب قال مع قومه فخرج أبو لهب إلى أبى جهل وعقبة فقال قد سألته فقال مع قومه فقالا يزعم أنه فى النار فقال يا محمد أيدخل عبد المطلب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم الحديث ولا يخفى أن عبد المطلب من أهل الفترة وتقدم الكلام عليهم والله أعلم = باب ذكر خروج النبى صلى الله عليه وسلم الى الطائف
سميت بذلك لأن رجلا من حضرموت نزلها فقال لأهلها ألا أبنى لكم حائطا يطيف ببلدكم فبناه فسمى الطائف وقيل غير ذلك
لما مات أبو طالب ونالت قريش من النبى صلى الله عليه وسلم مالم تكن نالته منه فى حياته كما تقدم خرج إلى الطائف اى وهو مكروب مشوش الخاطر مما لقى من قريش وقرابته وعترته خصوصا من أبى لهب وزوجته أم جميل حمالة الحطب من الهجو والسب والتكذيب
وعن على رضى الله تعالى عنه أنه قال بعد موت أبى طالب لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش تتجاذبه وهم يقولون له صلى الله عليه وسلم أنت الذى جعلت الآلهة إلها واحدا قال فوالله مادنا منا أحد إلا أبو بكر فصار يضرب هذا ويدفع هذا وهو يقول أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله
وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان فى شوال سنة عشر من النبوة وحده وقيل معه مولاه زيد بن حارثة يلتمس من ثقيف الإسلام رجاء أن يسلموا وأن يناصروه
على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه قال فى الإمتاع لأنهم كانوا أخواله قال بعضهم ومن ثم أى من أجل أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى الطائف عند ضيق صدره وتعب خاطره جعل الله الطائف مستأنسا على من ضاق صدره من أهل مكة كذا قال
وفى كلام غيره ولا جرم جعل الله الطائف مستأنسا لأهل الإسلام ممن بمكة إلى يوم القيامة فهى راحة الأمة ومتنفس كل ذى ضيق وغمة سنة الله فى الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا فليتأمل
فلما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى سادات ثقيف وأشرافهم وكانوا إخوة ثلاثة أحدهم عبد يا ليل أى واسمه كنانة لم يعرف له إسلام وأخوه مسعود أى وهو عبد كلال بضم الكاف وتخفيف اللام لم يعرف له إسلام أيضا وحبيب قال الذهبى فى صحبته نظر أى وهم أولاد عمرو بن عمير بن عوف الثقفى وجلس صلى الله عليه وسلم إليهم وكلمهم فيما جاءهم به أى من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه فقال أحدهم هو يمرط ثياب الكعبة أى ينتفها ويقطعها أى وقيل يسرقها إن كان الله أرسلك وقال له آخر ما وجد الله أحدا يرسله غيرك وقال له الثالث والله لا أكلمك أبدا ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغى لى أن أكلمك فقام صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد أيس من خير ثقيف وقال لهم اكتموا على وكره صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه ذلك فيشتد أمرهم عليه وقالوا له أخرج من بلدنا والحق بمنجاتك من الأرض وأغروا به أى سلطوا عليه سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وقعدوا له صفين على طريقه فلما مر صلى الله عليه وسلم بين الصفين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا أرضخوهما أى دقوهما بالحجارة تى أدموا رجليه صلى الله عليه وسلم
وفى لفظ حتى اختضبت نعلاه بالدماء وكان صلى الله عليه وسلم إذا أزلقته الحجارة أى وجد ألمها قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه فإذا مشى رجموه وهم يضحكون كل ذلك وزيد بن حارثة أى بناء على أنه كان معه صلى الله عليه وسلم يقيه بنفسه حتى لقد شج رأسه شجاجا فلما خلص منهم رجلاه يسيلان دما
عمد إلى حائط من حوائطهم أى بستان من بساتينهم فاستظل فى حبلة أى بفتح الباء الموحدة وتسكينها غير معروف شجرة كرم وقيل لها حبلة لأنها تحمل بالعنب وقد فسر نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة ببيع العنب قبل أن يطيب قال السهيلي وهو غريب لم يذهب إليه أحد فى تأويل الحديث فجاء إلى ذلك المحل وهو مكروب موجع أى وقد جاء النهى عن أن يقال لشجر العنب الكرم فى قوله صلى الله عليه وسلم لا يقولن أحدكم الكرم فإن الكرم قلب المؤمن ولكن قولوا حدائق العنب قال وسبب النهى عن تسميتها كرما لأن الخمر تتخذ من ثمرتها وهو يحمل على الكرم فاشتقوا لها اسما من الكرم
وفى لفظ ثم إن هؤلاء الثلاثة أى عبد ياليل وإخوته أغروا عليه سفهاءهم وعبيدهم فصاروا يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابنى ربيعة فلما دخل الحائط رجعوا عنه
قال وذكر أنه صلى الله عليه وسلم دعا بدعاء منه اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربى إلى من تكلنى إن لم يكن بك غضب على فلا أبالى أهوإذا فى الحائط أى البستان عتبة وشيبة ابنا ربيعة أى وقد رأيا ما لقى من سفهاء أهل الطائف فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله فلما رأياه وما لقى تحركت له رحمهما فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس معدود فى الصحابة مات قبل الخروج إلى بدر فقالا خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه أي وهذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه أي وهذا لا ينافى كون زيد بن حارثة كان معه كما لا يخفى ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له كل فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده الشريفة قال بسم الله ثم أكل أى لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع يده فى الطعام قال بسم الله ويأمر الآكل بالتسمية وأمر من نسى التسمية أوله أن يقول بسم الله أوله وآخره فنظر عداس فى وجهه وقال والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أى البلاد أنت وما دينك يا عداس قال نصرانى وأنا من أهل نينوى بكسر النون الأولى وفتح الثانية وقيل بضمها قرية على شاطىء دجلة فى أرض الموصل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
من أهل قرية أى وفى رواية من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى اسم ابيه أى كما فى حديث ابن عباس رضى الله عنهما وفى تاريخ حماة أنه اسم أمه قال ولم يشتهر باسم أمه غير عيسى ويونس عليهما الصلاة والسلام
أى وفى مزيل الخفاء فان قيل قد ورد فى الصحيح لا تفضلونى على يونس بن متى ونسبه إلى أبيه وهو يقتضى أن متى أبوه لا أمه
أجيب بأن متى مدرج فى الحديث من كلام الصحابى لبيان يونس بما اشتهر به لا من كلام النبى صلى الله عليه وسلم
ولما كان ذلك موهما أن الصحابى سمع هذه النسبة من النبى صلى الله عليه وسلم دفع الصحابى ذلك بقوله ونسبه إلى أبيه لا إلى أمه هذا كلامه
وعند ذلك قال عداس له صلى الله عليه وسلم وما يدريك ما يونس بن متى فإنى والله لقد خرجت منها يعنى نينوى وما فيها عشرة يعرفون ما متى فمن أين عرفت ابن متى وأنت أمى وفى أمة أمية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك أخى كان نبيا وأنا نبى أمى وفى رواية أنا رسول الله والله أخبرنى خبره وما وقع له مع قومه أى حيث وعدهم العذاب بعد أربعين ليلة لما دعاهم فأبوا أن يجيبوا وخرج عنهم وكانت عادة الأنبياء إذا واعدت قومها العذاب خرجت عنهم فلما فقدوه قذف الله تعالى فى قلوبهم التوبة أى الإيمان بما دعاهم إليه يونس
وقيل كما فى الكشاف إنه قال لهم يونس أنا أؤجلكم أربعين ليلة فقالوا إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك فلما مضت خمس وثلاثون ليلة أطبقت السماء غيما أسود يدخن دخانا شديدا ثم يهبط حتى يغشى ودينتهم فعند ذلك لبسوا المسموح وأخرجوا المواشى وفرقوا بين النساء وأولادها وبين كل بهيمة وولدها فلما أقبل عليهم العذاب جأروا إلى الله تعالى وبكى الناس والولدان ورغت الإبل وفصلانها وخارت البقر وعجاجيلها وثغت الغنم وسخالها وقالوا يا حي حيث لا حي ويا حي يحيى الموتى ويا حى لا إله إلا أنت
وعن الفضيل أنهم قالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله
وفى الكشاف أنهم عجوا أربعين ليلة وعلم الله تعالى منهم الصدق فتاب عليهم وصرف عنهم العذاب بعد أن صار بينه وبينهم قدر ميل فمر رجل على يونس فقال له ما فعل قوم يونس فحدثه بما صنعوا فقال لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم قيل وكان فى شرعهم أن من كذب قتل فانطلق مغاضبا لقومه وظن أن لن نقضى عليه بما قضى به عليه أى من الغم وضيق الصدر قال تعالى { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه } أى لن نضيق عليه وكانت التوبة عليهم يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة
أى وفى كلام بعضهم كشف العذاب عن قوم يونس يوم عاشوراء وأخرج فيه يونس من بطن الحوت وهو يؤيد القول بأنه نبذ من يومه وهو قول الشعبى التقمه ضحوة ونبذه عشية أى بعد العصر وقاربت الشمس الغروب وذكر أن الحوت لم يأكل ولم يشرب مدة بقاء يونس فى بطنه لئلا يضيق عليه
وقال السدى مكث أربعين يوما وقال جعفر الصادق سبعة أيام وقال قتادة ثلاثة أيام وذلك بعد أن نزل السفينة فلم تسر فقال لهم إن معكم عبدا آبقا من ربه وإنها لا تسير ححتى تلقوه فى البحر وأشار إلى نفسه فقالوا لا نلقيك يا نبى الله أبدا قال فاقترعوا فخرجت القرعة عليه ثلاث مراتفألقوه فالتقمه الحوت وقيل قائل ذلك بعض الملاحين وحين خرجت القرعة عليه ثلاثا ألقى نفسه فى البحر وهذا السياق يدل على أن رسالته كانت قبل أن يلتقمه الحوت وقيل إنما أرسل بعد نبذ الحوت له وفيه كيف يدعوهم ويعدهم العذاب وهو غير مرسل لهم
وعن وهب بن منبه وقد سئل عن يونس فقال كان عبدا صالحا وكان فى خلقه ضيق فلما حملت عليه أثقال النبوة تفسخ تحتها فألقاها عنه وخرج هاربا أى فقد تقدم أن للنبوة أثقالا لا يستطيع حملها إلا أولو العزم من الرسل وهم نوح وهود وإبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم
أما نوح فلقوله يا قوم إن كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله الآية وأما هود فلقوله إنى أشهد الله واشهدوا أنى برىء مما تشركون من دونه الآية وأما ابراهيم فلقوله هو والذين آمنوا معه إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله الآية وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلقول الله تعالى له فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل فصبر صلى الله عليه وسلم
فعند ذلك أكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه أى فقال أحدهما أى عتبة وشيبة للآخر أما غلامك فقد أفسده عليك فلما جاءهما عداس قال له أحدهما ويلك مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه قال يا سيدي ما فى الأرض شيء خير من هذا لقد أعلمنى بأمر لا يعلمه إلا نبى قال ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك
أقول وفى رواية قال له وما شأنك سجدت لمحمد وقبلت قدميه ولم نرك فعلته بأحدنا قال هذا رجل صالح أخبرنى بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متى فضحكنا به وقالا لا يفتننك عن نصرانيتك فإنه رجل خداع ودينك خير من دينه وقد تقدم فى بعض الروايات أن خديجة رضى الله تعالى عنها قبل أن تذهب بالنبى صلى الله عليه وسلم لورقة بن نوفل ذهبت به الى عداس وكان نصرانيا من أهل نينوى قرية سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام وتقدم أنه غير هذا خلافا لمن اشتبه عليه به
وفى كلام الشيخ محيى الدين بن العربى قد اجتمعت بجماعة من قوم يونس سنة خمس وثمانين وخمسمائة بالأندلس حيث كنت فيه وقست أثر رجل واحد منهم فى الأرض فرأيت طول قدمه ثلاثة أشبار وثلثى شبر والله أعلم
وفى الصحيح عن عائشة رضى الله تعالى عنها إنها قالت للنبى صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يوم أشد من أحد قال لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت يوم العقبة إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن كلال أى والمناسب لما سبق إسقاط لفظ ابن الأولى والإتيان بواو العطف موضع ابن الثانية أى فيقال عبد ياليل وكلال أى وعبد كلال ويكون خصهما بالذكر دون أخيهما حبيب لأنهما كانا أشرف وأعظم منه أو لأنهما كانا المحبين له صلى الله عليه وسلم بالقبيح دون حبيب إلا إن ثبت أن آباء هؤلاء الثلاثة شخصا يقال له عبد ياليل وعبد كلال وحينئذ يكون المراد هؤلاء الثلاثة لأن ابن مفرد مضاف ثم رأيته فى النور ذكر ما يفيد أن لفظ ابن ثابت فى الصحيح
والذى فى كلام ابن اسحاق وأبى عبيد وغيرهما إسقاطه ثم رأيت الشمس الشامى
قال الذى ذكره أهل المغازى أن الذى كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد ياليل نفسه لا ابنه
وعند أهل السير أن عبد كلال أخوه لا أبوه أى أبو أبيه كما لا يخفى فلم يجبنى إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهى فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب أى ويقال له قرن المنازل وهو ميقات أهل نجد الحجاز أو اليمن بينه وبين مكة يوم وليلة وفى لفظ وهو موضع على ليلة من مكة وراء قرن بسكون الراء ووهم الجوهرى فى تحريكها وفى قوله إن أويسا القرنى منسوب إليه وإنما هو منسوب إلى قرن قبيلة من مراد كما ثبت فى مسلم فرفعت رأسى فإذا أنا بالسحابة قد أظلتنى فنطرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فنادى فقال قد سمع قول قومك لك أى أهل ثقيف كما هو المتبادر وماردوا عليك به وقد بعثت إليك بملك الجبال فتأمره بما شئت فيهم فناداه صلى الله عليه وسلم ملك الجبال وسلم عليه وقال له إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت أى وهما جبلان يضافان تارة إلى مكة وتارة إلى منى فمن الأول قوله وهما قبيس وقعيقعان وقيل الجبل الأحمر الذى يقابل أبا قبيس المشرف على قعيقعان ومن الثانية الجبلان اللذان تحث العقبة بمنى فوق المسجد
وفيه أن ثقيفا ليسوا بينهما بل الجبلان خارجان عنهم فكيف يطبقهما عليهم وفى لفظ إن شئت خسفت بهم الأرض أو دمدمت عليهم الجبال أى التى بتلك الناحية
ثم رأيت الحافظ ابن حجر قال المراد بقوم عائشة فى قوله لقد لقيت من قومك قريش أى لا أهل الطائف الذين هم ثقيف لأنهم كانوا هم السبب الحامل على ذهابه صلى الله عليه وسلم لثقيف ولأن ثقيفا ليسوا قوم عائشة رضى الله تعالى عنها وعليه فلا إشكال ويوافقه قول الهدى فأرسل ربه تبارك وتعالى إليه صلى الله عليه وسلم ملك الجبال يستأمره أن يطبق على أهل مكة الأخشبين وهما جبلاها التى هى بينهما
وعبارة الهدى فى محل آخر وفى طريقه صلى الله عليه وسلم أرسل الله تعالى إليه ملك الجبال فأمره بطاعته صلى الله عليه وسلم وأن يطبق على قومه أخشبى مكة وهما جبلاها إن أراد هذا كلامه
ولا يخفى أن هذا خلاف السياق إذ قوله وكان أشد مالقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسى إلى آخره وقول جبريل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك به ظاهر فى أن
المراد بهم ثقيف لا قريش ويوافق هذا الظاهر قول ابن الشحنة فى شرح منظومة ده بعد أن ساق دعاءه صلى الله عليه وسلم المتقدم بعضه فأرسل الله عز وجل جبريل ومعه ملك الجبال فقال إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين وحينئذ يكون المراد إطباقهما عليهم بعد نقلهما من محلها إلى محل ثقيف الذى هو الطائف لأن القدرة صالحة وعند قول ملك الجبال له ما ذكر قال النبى صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله تعالى وفي رواية أستأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله تعالى لا يشرك به شيئا وعند ذلك قال له ملك الجبال أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم قال الحافظ ابن حجر ولم أقف على اسم ملك الجبال وإلى حلمه وإغضائه صلى الله عليه وسلم أشار صاحب الهمزية بقوله ** جهلت قومه عليه فأغضى ** وأخو الحلم دأبه الإغضاء ** ** وسع العالمين علما وحلما ** فهو بحر لم تعيه الأعباء **
أى جهلت قومه صلى اله عليه وسلم عليه فآذوه أذية لا تطاق فأغضى عنهم حلما وأخو الحلم أى وصاحب عدم الانتقام شأنه التغافل فإن علمه وسع لوم العالمين ووسع حلمه حلمهم فهو واسع العلم والحلم لم تعيه الأعباء أي لم تتعبه الأثقال لكن تقييده بقومه السياق يدل على أن المراد به ثقيف وقد علمت ما فيه فليتأمل
وعند منصرفه صلى الله عليه وسلم المذكور من الطائف نزل نخلة وهى محلة بين مكة والطائف فمر به نفر سبعة وقيل تسعة من جن نصيبين أى وهى مدينة بالشام وقيل باليمن أثنى عليها صلى الله عليه وسلم بقوله رفعت إلى نصيبين حتى رأيتها فدعوت الله تعالى أن يعذب نهرها وينضر شجرها ويكثر مطرها وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل أى وسطه يصلى وفى رواية يصلى صلاة الفجر وفى رواية هبطوا على النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلعله كان يقرأ فى الصلاة والمراد بصلاة الفجر الركعتان اللتان كان يصليهما قبل طلوع الشمس ولعله صلاهما عقب الفجر وذلك ملحق بالليل وفى قوله جوف الليل تجوز من الراوى أو صلى صلاتين صلاة في جوف الليل وصلاة بعد الفجر وقرأ فيهما أو جمع بين القراءة والصلاة وأن الجن استمعوا للقراءتين وإطلاق صلاة الفجر على الركعتين المذكورتين سائغ وبهذا
يندفع قول بعضهم صلاة الفجر لم تكن وجبت وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الجن وفيه أى فى الصحيحين أن سورة الجن إنما نزلت بعد استماعهم
وقد يقال سيأتى ما يعلم منه أنه ليس المراد بالاستماع الاستماع المذكور هنا بل استماع سابق على ذلك وهو المذكور في رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الآتية ورواية صلاة الفجر هنا ذكرها الكشاف كالفخر وإلا فالروايات التى وقفت عليها فيها الاقتصار على صلاة الليل وصلاة الفجر كانت فى ابتداء البعث فى بطن نخلة عند ذهابه وأصحابه إلى سوق عكاظ كما سيأتى عن ابن عباس رضى الله عنهما فآمنوا به وكانوا يهودا لقولهم إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ولم يقواوا من بعد عيسى إلا أن يكون ذلك بناء على أن شريعة عيسى مقررة لشريعة موسى لا ناسخة لها ولا يخفى أنهم غلبوا ما نزل من الكتاب على مالم ينزل لأنهم لم يسمعوا جميع الكتاب ولا كان كله منزلا قال وأنكر ابن عباس رضى الله تعالى عنهما اجتماع النبى صلى الله عليه وسلم بالجن أى بأحد منهم
ففى الصحيحين عنه قال ما قرأ رسول الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم انطلق رسول الله عليه وسلم فى طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ أى وكان بين الطائف ونخلة كان لثقيف وقيس عيلان كما تقدم وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب ففزعت الشياطين إلى قومهم فقالوا مالكم قالوا قد حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا وما ذاك إلا من شيء قد حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فمن النفر جماعة أخذوا نحو تهامة فإذا هم بالنبى صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم قل أوحى إلى أى قل أخبرت بالوحى من الله تعالى أنه استمع لقراءتى نفر من الجن أى جن نصيبين
أقول تقدم أن إطلاق الفجر على الركعتين اللتين كان يصليهما قبل طلوع الشمس سائغ فإن ذلك باعتبار الزمان لا لكونهما إحدى الخمس المفترضة ليلة الإسراء وقوله بأصحابه يجوز أن تكون الباء بمعنى مع ويجوز أن يكون صلى بهم إماما لأن الجماعة فى ذلك جائزة
ولا يخفى أن هذه القصة التى تضمنتها رواية ابن عباس غير قصة انصرافه صلى الله عليه وسلم من الطائف يدل لذلك قوله انطلق فى طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظظ لأنه فى تلك القصة التي هى قصة الطائف كان وحده أو معه مولاه زيد بن حارثة على ماتقدم وكان مجيئه صلى الله عليه وسلم من الطائف قاصدا مكة وفى هذه كان ذهابه من مكة قاصدا سوق عكاظ وأنه قرأ فى تلك أى مجيئه من الطائف سورة الجن وفى هذه قرأ غيرها ثم نزلت تلك السورة وأن هذه القصة تضمنتها رواية ابن عباس سابقة على تلك لأن قصة ابن عباس كانت فى ابتداء الوحى لأن الحيلولة بين الجن وبين خبر السماء بالشهب كانت فى ذلك الوقت وتلك كانت بعد ذلك بسنين عديدة
وسياق كل من القصتين يدل على أنه لم يجتمع الجن به صلى الله عليه وسلم ولا قرأ عليهم وإنما استمعوا قراءته من غير أن يشعر بهم وقد صرح به ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فى هذه وصرح به الحافظ الدمياطى فى تلك حيث قال فى سيرته فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا إلى مكة ونزل نخلة قام يصلى من الليل فصرف إليه نفر من الجن سبعة من أهل نصيبين فاستمعوا له صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة الجن ولم يشعر بهم رسول الله عليه وسلم حتى نزل عليه وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن هذا كلامه ونزول ما ذكر كان بعد انصرافهم
فقد قال ابن إسحاق فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا به وأجابوا إلى ماسمعوا فقص الله تعالى خبرهم على النبى صلى الله عليه وسلم وبهذا يعلم مافى سفر السعادة
ولما وصل صلى الله عليه وسلم فى رجوعه إلى نخلة جاءه الجن وعرضوا إسلامهم عليه وكذا يعلم مافى المواهب من قوله ولما انصرف صلى الله عليه وسلم عن أهل الطائف ونزل نخلة صرف إليه سبعة من جن نصيبين إلى أن قال وفي الصحيح أن الذي آذنه صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة الجن شجرة وأنهم سألوه الزاد فقال كل عظم إلى آخره لأن سؤالهم له صلى الله عليه وسلم الزاد فرع اجتماعهم وقد ذكر هو أنهم لم يؤذنه صلى الله عليه وسلم إلا شجرة هناك وعلى جواز أن الشجرة آذنته بهم قبل انصرافهم أى أعلمته بوجودهم وأن ذلك كان سببا لاجتماعهم به صلى الله عليه وسلم وأن دعوى
ذلك لا ينافى أنه صلى الله عليه وسلم لم يشعر باجتماعهم للقرآن إلا مما نزل عليه من القرآن فسسؤالهم له صلى الله عليه وسلم الزاد كان فى قصة اأخرى غير هاتين القصتين كانت بمكة سيأتى الكلام عليها
ثم رأيت عن ابن جرير أنه تبين من الأحاديث أن الجن سمعوا قراءة النبى صلى الله عليه وسلم بنخلة وأسلموا فأرسلهم صلى الله عليه وسلم إلى قومهم منذرين إذ لا جائز أن يكون ذلك فى أول البعث لمخالفته لما تقدم عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وحينئذ يؤيد الاحتمال الثانى الذى ذكرناه من أنه يجوز أنهم اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم بعد أن آذنته بهم الشجرة وقوله فأرسلهم إلى قومهم منذرين لم أقف فى شىء من الروايات على ما هو صريح فى ذلك أى أن إرساله لهم كان من نخلة عند رجوعه من الطائف ولعل قائله فهم ذلك من قوله تعالى ولوا إلى قومهم منذرين
وغاية ما رأيت أن ابن جرير والطبرانى رويا عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن الجن الذين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم وهذا ليس صريحا فى أنه صلى الله عليه وسلم كان عند رجوعه من الطائف
لا يقال يعنى ذلك إنكار ابن عباس رضى الله تعالى عنهما اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالجن المرة الأولى التى كانت عند البعث لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم كان فى بطن نخلة فى مرة أخرى ثالثة
ثم رأيت فى النور ما يخالف ما تقدم عن ابن عباس من قوله إنه لم يجتمع صلى الله عليه وسلم بهم بالجن حين خروجه إلى سوق عكاظ حيث قال الذى فى الصحيح وغيره أنه اجتمع بهم وهو خارج من مكة إلى سوق عكاظ ومعه أصحابه فليتأمل
قال وذكر أنه صلى الله عليه وسلم أقام بنخله أياما بعد أن أقام بالطائف عشرة أيام وشهرا لا يدع أحدا من أشرافهم أي زيادة على عبد ياليل وأخويه إلا جاء إليه وكلمه لم يجبه أحد فلما أراد الدخول إلى مكة قال له زيد بن حارثة كيف تدخل عليهم يعنى قريشا وهم قد أخرجوك أى كانوا سببا لخروجك وخرجت تستنصر فلم تنصر فقال يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه فسار صلى الله عليه وسلم إلى حراء ثم بعث إلى الأخنس بن شريق أى رضى الله تعالى
عنه فإنه أسلم بعد ذلك ليجيره أى ليدخل صلى الله عليه وسلم مكة فى جواره فقال أنا حليف والحليف لا يجير أى فى قاعدة العرب وطريقتهم واصطلاحهم فبعث صلى الله عليه وسلم إلى سهيل بن عمرو رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك أيضا فقال إن بنى عامر لا تجير على بنى كعب وفيه أنه هـلو كان كذلك لما سألهما صلى الله عليه وسلم وكونه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف هذا الإصطلاح بعيد إلا أن يقال جوز صلى الله عليه وسلم مخالفة هذه الطريقة فبعث صلى الله عليه وسلم إلى المطعم بن عدى أى وقد مات كافرا قبل بدر بنحو سبعة أشهر يقول له إنى داخل مكة فى جوارك فأجابه إلى ذلك وقال له قل له فليأت فرجع إليه صلى الله عليه وسلم فأخبره فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ثم تسلح المطعم بن عدى وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد فقام المطعم بن عدى على راحلته فنادى يا معشر قريش إنى قد أجرت محمدا فلا يؤذه أحد منكم ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ادخل فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وطاف بالبيت وصلى عنده ثم انصرف إلى منزله أى والمطعم بن عدى وولده مطيفون به صلى الله عليه وسلم قال وذكر أنه صلى الله عليه وسلم بات عنده تلك الليلة فلما أصبح خرج مطعم وقد لبس سلاحه هو وبنوه وكانوا ستة أو سبعة وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم طف واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف مدة طوافه صلى الله عليه وسلم وأقبل أبو سفيان على المطعم فقال أمجير أم تابع فقال بل مجيز فقال إذن لا تخفر أى لا تزال خفارتك أى جوارك قد أجرنا من أجرت فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه اه
أى ولا بدع فى دخوله صلى الله عليه وسلم فى أمان كافر لأن حكمة الحكيم القادر قد تخفى وهذا السياق يدل على أن قريشا كانوا أزمعوا على عدم دخوله صلى الله عليه وسلم مكة بسبب ذهابه إلى الطائف ودعائه لأهله أى ولهذا المعروف الذى فعله المطعم قال صلى الله عليه وسلم فى أسارى بدر لو كان المطعم بن عدى حيا ثم كلمنى فى هؤلاء النتنى لتركتهم له
ورأيت فى أسد الغابة أن جبيرا ولد المطعم رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم بين الحديبية والفتح وقيل يوم الفتح جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم وهو كافر فسأله
فى أسارى بدر فقال لو كان الشيخ أبوك حيا فأتانا فيهم لشفعناه فيهم كما سيأتى أى لأنه فعل معه صلى الله عليه وسلم هذا الجميل وكان من جملة من سعى فى نقض الصحيفة كما تقدم
قال وعن كعب الأحبار رضى الله تعالى عنه لما انصرف النفر السبعة من أهل نصيبين من بطن نخلة جاءوا قومهم منذرين ثم جاءوا مع قومهم وافدين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وهم ثلثمائة فانتهوا إلى الحجون فجاء واحد من أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن قومنا قد حضروا بالحجون يلقونك فوعده رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة من الليل بالحجون اه
وعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه قال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنى أمرت أن أقرأ على إخوانكم من الجن فليقم معى رجل منكم ولا يقم رجل فى قلبه مثقال حبة خردل من كبر فقمت معه أى بعد أن كرر ذلك ثلاثا ولم يجبه أحد منهم ولعلهم فهموا أن من الكبر ماليس منه وهو محبة الترفع فى نحو الملبس الذى لا يكاد يخلو منه أحد
وقد بين صلى الله عليه وسلم الكبر فى الحديث ببطر الحق وغمص الناس أى استصغارهم وعدم رؤيتهم شيئا بعد أن قالوا له يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا قال إن الله جميل يحب الجمال الكبر من بطر الحق وغمط الناس بالطاء المهملة كما فى رواية أبى داود وجاء لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار أحد فى قلبه مثقال حبة خردل من إيمان قال الخطابى المراد بالكبر هنا أى فى هذه الرواية كبر الكفر لأنه قابله بالإيمان قال ابن مسعود وذهب صلى الله عليه وسلم فى بعض نواحى مكة أى بأعلاها بالحجون فلما برز خط لى خطا أى برجله وقال لا تخرج فإنك إن خرجت لم ترنى ولم أرك إلى يوم القيامة وفى رواية لا تحدثن شيئا حتى آتيك لا يروعنك أى لا يخوفنك ويفزعنك ولا يهولنك أى لا يعظم عليك شىء تراه ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رجال سود كأنهم رجال الزط وهم طائفة من السودان الواحد منهم زطى وكانوا كما قال الله تعالى كادوا يكونون عليه أى لازدحامهم لبدا أى كاللبد فى ركوب بعضهم بعضا حرصا على سماع القرآن منه صلى الله عليه وسلم فأردت أن أقوم فأذب
عنه فذكرت عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمكثت ثم إنهم تفرقوا عنه صلى الله عليه وسلم فسمعتهم يقولون يا رسول الله إن شفتنا أى أرضنا التى نذهب إليها بعيدة ونحن منطلقون فزودونا أى لأنفسنا ودوابنا ولعله كان نفد زادهم وزاد دوابهم فقال كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع فى يد أحدكم أوفر ما كان لحما رواه مسلم
وفى رواية إلا وجد عليه لحمه الذى كان عليه يوم أكل وكل بعر علف دوابكم وعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أنهم لما سألوه صلى الله عليه وسلم الزاد قال لهم لكم كل عظم عراق ولكم كل روثة خضرة والعراق بضم العين وفتح الراء جمع عرق بفتح العين وسكون الراء العظم الذى أخذ عنه اللحم وقيل الذى أخذ عنه معظم اللحم قلت يا رسول الله وما يغنى ذلك عنهم أى عن أنفسهم وعن دوابهم بدليل قوله فقال إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت وفى رواية وجدوه أى الروث والبعر شعيرا فهذه الرواية تدل على أن الروثة مطعوم دوابهم ويوافقه ما جاء أن الشعير يعود خضرا لدوابهم ويحتاج للجمع بين كون الروث كالبعر يعود حبا يوم أكل وبين كونه يعود شعيرا وبين كونه يعود خضرا
هذا وفى رواية لأبى نعيم أن الروث يعود لهم تمرا وهى تدل على أن الروث من مطعومهم ويحتاج إلى الجمع وجمع ابن حجر الهيتمى بأن الروث يكون تارة علفا لدوابهم وتارة يكون طعاما لهم أنفسهم أى وفى لفظ سألونى المتاع فمتعتهم كل عظم حائل وكل روثة وبعرة والحائل البالى بمرور الزمن لأنه لم يخرج بذلك عن كونه مطعوما كما يخرج بذلك عن كونه مطعوما لهم لهم لو حرق وصار فحما ولعل الغرض من ذكر الحائل الإشارة إلى أن زادهم العظم ولو كان حائلا لا أنه لم يمنعهم إلا الحائل وقوله إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل يدل على أن المراد عظم المذكاة وبدليل ذكر اسم الله تعالى عليه فلا يأكلون مالم يذكر اسم الله تعالى عليه من عظم أى وكذا من طعام الإنس سرقة كما جاء فى بعض الأخبار هذا ولكن فى رواية أبى داود كل عظم لم يذكر اسم الله تعالى عليه قال السهيلى وأكثر الأحاديث تدل على معنى رواية أبى داود
وقال بعض العلماء رواية ذكر اسم الله عليه فى الجن المؤمنين ورواية لم يذكر اسم الله تعالى عليه فى حق الشياطين منهم وهذا قول صحيح يعضده الأحاديث هذا
كلامه أى التى من تلك الأحاديث أن إبليس قال يا رب لليس أحد من خلقك إلا وقد جعلت له رزقا ومعيشة فما رزقى قال كل مالم يذكر عليه اسمى ومعلوم أن إبليس أبو الجن وأن مالم يذكر اسم الله عليه يشمل عظم الميتة
ومقابلة الشياطين بالمؤمنين تدل على أن المراد بهم فسقتهم لا الكفار منهم لأن فى كون الكفا رمن الجن اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين وأن كلا الفريقين سأله الزاد وأنه خاطب كلا بما يليق به فيه بعد لا سيما مع ما تقدم عن ابن مسعود ومايأتى من قوله إخوانكم من الجن ومن ثم قال بعضهم إن السائلين له صلى الله عليه وسلم الزاد كانوا مسلمين فليتأمل
ولما ذكر صلى الله عليه وسلم لهم العظم والروث قالوا يا رسول الله إن الناس يقذرونهما علينا فنهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم أو بروثه بقوله فلا يستنقين أحدكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة لأنه زاد إخوانكم من الجن
وفى رواية قالوا له صلى الله عليه وسلم انه أمتك عن الاستنجاء بهما فإن الله تعالى قد جعل لنا فيهما رزقا فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء بالعظم والبعر أى وحرمه نحو البول أو التغوط عليهما تعلم من ذلك بالأولى ومنه يعلم أن مرادهم بالتقذير التنجيس لا ما يشمل التقذير بالطاهر كالبصاق والمخاط
وعن جابر بن عبد الله رضى الله تعالى عنهما قال بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمشى إذ جاءت حية فقامت إلى جنبه صلى الله عليه وسلم وأدنت فاها من أذنه وكأنها تناجيه فقال النبى صلى الله عليه وسلم نعم فانصرفت قال جابر فسألته فأخبرنى أنه رجل من الجن وأنه قال له مر أمتك لا يستنجوا بالروث ولا بالرمة أى العظم لأن الله تعالى جعل لنا فى ذلك رزقا ولعل هذا الرجل من الجن لم يبلغه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ولا يخفى أن سؤال الزاد يقتضى أن ذلك لم يكن زادهم وزاد دوابهم قبل ذلك وحينئذ يسأل ماكان زادهم قبل ذلك وقد يقال هو كل مالم يذكر اسم الله عليه من طعام الآدميين وحينئذ يكون ماتقدم فى خبر إبليس المراد يمالم يذكر اسم اله عليه غير العظم فليتأمل والنهى عن الاستنجاء يدل على أن ذلك لا يختص بحالة السفر بل هو زادهم بعد ذلك دائما وأبدا
وقصة جابر هذه سيأتي فى غزوة تبوك نظيرها وهو أن حية عظيمة الخلق عارضتهم فى الطريق فانحاز الناس عنها فأقبلت حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته طويلا والناس ينظرون إليها ثم التوت حتى اعتزلت الطريق فقامت قائمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون من هذا قالوا الله ورسوله أعلم قال هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا إلى يستمعون القرآن قال فى المواهب وفى هذا رد على من زعم أن الجن لا تأكل ولا تشرب أى وإنما يتغذون بالشم
أقول ذكرت فى كتابى عقد المرجان فيما يتعلق بالجان أن فى أكل الجن ثلاثة أقوال قيل يأكلون بالمضغ والبلع ويشربون بالازدراد والثانى لا يأكلون ولا يشربون بل يتغذون بالشم والثالث أنهم صنفان صنف يأكل ويشرب وصنف لا يأكل ولا يشرب وإنما يتغذون بالشم وهو خلاصتهم والله أعلم
قال ابن مسعود فلماولوا قلت من هؤلاء قال هؤلاء جن نصيبين وفى رواية فتوارى عنى حتى لم أره فلما سطع الفجر أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لى أراك قائما فقلت ماقعدت فقال ماعليك لو فعلت أى قعدت قلت خشيت أن أخرج منه فقال أما إنك لو خرجت لم ترنى ولم أرك إلى يوم القيامة أى وفى رواية لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم وفيه أن الخروج لا ينشأ عن القعود حتى يخشى منه الخروج وفى رواية قال لي أنمت فقلت لا والله يا رسول الله ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس أى لما تراكموا عليك وسمعت منهم لغطا شديدا حتى خفت عليك إل أن سمعتك تقرعهم بعصاك وتقول اجلسوا وسأله عن سبب اللغط الشديد الذى كان منهم فقال إن الجن تداعت فى قتيل قتل بينهم فتحاكموا إلى فحكمت بينهم بالحق
وفى رواية عن سعيد بن جبير أنه أى ابن مسعود قال له أولئك جن نصيبين وكانوا اثنى عشر ألفا والسورة التى قرأها عليهم اقرأ باسم ربك أى ولا ينافى ذلك ما جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه افتتح القرآن لأن المراد بالقرآن القراءة زاد ابن مسعود على ما فى بعض الروايات ثم شبك أصابعه فى أصابعى وقال إنى وعدت أن تؤمن بى الجن والإنس أما الإنس فقد آمنت وأما الجن فقد رأيت
أقول وفى هذا أن ابن مسعود لم يخرج من الدائرة التى اختطها له صلى الله عليه وسلم
وفى السيرة الهشامية ما يقتضى أنه خرج منها حيث قال عن ابن مسعود فجئتهم فرأيت الرجال ينحدرون عليه صلى الله عليه وسلم من الجبال فازدحمواعليه إلى آخره فليتأمل
فعلم أن هذه القصة بعد كل من قصة ابن عباس وقصة رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف فإن قصة ابن عباس رضى الله تعالى عنهما كانت فى أول البعث وقصة رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف بعدها بمدة مديدة كما علمت وهذه القصة كانت بعدهما بمكة والله أعلم ثم قال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود هل معك وضوء أى ماء نتوضأ به قلت لا فقال ما هذه الإداوة أى وهى إناء من جلد قلت فيها نبيذ قال ثمرة طيبة وماء طهور صب على فصببت عليه فتوضأ وأقام الصلاة وصلى
أقول وهو محمول عند أئمتنا معاشر الشافعية على أن الماء لم يتغير بالتمر تغيرا كثيرا يسلب اسم الماء ومن ثم قال ماء طهور وقول ابن مسعود رضى الله تعالى عنه فيها نبيذ أى منبوذ الذى هو التمر وسماه نبيذا باعتبار الأول على حد قوله تعالى إنى أرانى اعصر خمرا وهذا بناء على فرض صحة الحديث وإلا فقد قال بعضهم حديث النبيذ ضعيف باتفاق المحدثين
وفى كلام الشيخ محيى الدين بن العربى رضى الله تعالى عنه الذى أقول به منع التطهر بالنبيذ لعدم صحة الخبر المروى فيه ولو أن الحديث صح لم يكن نصا فى الوضوء به فإنه صلى الله عليه وسلم قال ثمرة طيبة وماء طهور أى قليل الامتزاج والتغير عن وصف الماء وذلك لأن الله تعالى ما شرع الطهارة عند فقد الماء إلا بالتيمم بالتراب خاصة
قال ومن شرف الإنسان أن الله تعالى جعل له التطهر بالتراب وقد خلقه الله من تراب فأمره بالتطهر أيضا به تشريفا له وعند أحمد ومسلم والترمذى عن علقمة قلت لابن مسعود هل صحب النبى صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد فقال ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا استطير أو اغتيل وطلبناه فلم نجده فبتنا بشر ليلة فلما أصبحنا إذ هو جاء من قبل الحجون وفى لفظ من قبل حراء فقلنا يا رسول الله إنا فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة فقال إنه أتانى داعى الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وهذه القصة
يجوز أت تكون هى المنقولة عن كعب الأحبار المتقدم ذكرها وهى سابقة على القصة التى كان فيها ابن مسعود ويجوز أن تكون غيرها وهى المرادة بقول عكرمة إنهم كانوا اثنى عشر ألفا جاءوا من جزيرة الموصل لأن المتقدم فى تلك عن كعب الأحبار رضى الله تعالى عنه أنهم كانوا ثلثمائة من جن نصيبين
وحينئذ يحتمل أن تكون هذه القصة سابقة على القصة التى كان بها ابن مسعود ويحتمل أن تكون متأخرة عنها وعلى ذلك يكون اجتماع الجن به صلى الله عليه وسلم فى مكة ثلاث مرات مرة كان فيها معه ابن مسعود ومرتين لم يكن معه ابن مسعود فيهما
قال فى الأصل ويكفى فى أمر الجن ما فى سورة الرحمن وسورة قل أوحى إلى وسورة الأحقاف
أقول فعلم أن الجن سمعوا قراءته صلى الله عليه وسلم ولم يجتمعوا به ولا شعر بهم فى المرة الأولى وهو ذاهب من مكة إلى سوق عكاظ فى ابتداء البعث المتقدمة عن ابن عباس على ما تقدم ولا فى المرة الثانية عند منصرفه من الطائف بنخلة على ما قدمنا فيه وعلم أن الروايات متفقة على استماعهم لقراءته صلى الله عليه وسلم فى المرتين وبه يعلم ما فى المواهب عن الحافظ ابن كثير أن كون الجن اجتمعوا له صلى الله عليه وسلم فى نخلة عند منصرفه من الطائف فيه نظر وإنما استماعهم له كان فى ابتداء البعث كما يدل عليه حديث ابن عباس أى من أن ذلك كان عند ذهابه إلى سوق عكاظ وعلم أنهم اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم وآمنوا به فى مكة مرتين أو ثلاثة بعد ذلك والله أعلم
وقد أخرج البيهقى فى شعب الإيمان عن قتادة أنه قال لما أهبط إبليس قال أى رب قد لعنته فما علمه قال السحر قال فما قراءته قال الشعر قال فما كتابته قال الوشم قال فما طعامه قال كل ميتة وما لم يذكر اسم الله عليه أى من طعام الإنس يأخذه سرقة قال فما شرابه قال كل مسكر قال فأين مسكنه قال الحمام قال فأين محله قال فى الأسواق قال فما صوته قال المزمار قال فما مصايده قال النساء فالحمام محل أكثر إقامته والسوق محل تردده فى بعض الأوقات والظاهر أن مثل إبليس فيما ذكر كل من لم يؤمن من الجن
= باب ذكر خبر الطفيل بن عمرو الدوسى وإسلامه رضى الله تعالى عنه
كان الطفيل بن عمرو الدوسى شريفا فى قومه شاعرا نبيلا قدم مكة فمشى إليه رجال من قريش فقالوا يا أبا الطفيل كنوه بذلك تعظيما ل فلم يقولوا يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل بين أظهرنا قد أعضل أمره بنا اى اشتد وفرق جماعتنا وشتت أمرنا وإنما قوله كالسحر يفرق به بين المرء وأخيه وبين الرجل وزوجته وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما دخل علينا فلا تكلمه ولا تسمع منه قال الطفيل فو الله ما زالوا بى حتى أجمعت أى قصدت وعزمت على أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه أى حتى حشوت فى أذنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا وهو بضم الكاف وسكون الراء ثم سين مهملة مضمومة ثم فاء أى قطنا فرقا أى خوفا من أن يبلغنى شىء من قوله فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى عند الكعبة فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن أسمع بعض قوله أى فسمعت كلاما حسنا فقلت فى نفسى أنا ما يخفى على الحسن من القبيح فما يمنعنى من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول فإن كان الذى يأتى به حسنا قبلت وإن كان قبيحا تركت فمكثت حتى انصرف إلى بيته فقلت يا محمد إن قومك قالوا لى كذا وكذا حتى سددت أذنى بكرسف حتى لا أسمع قولك فاعرض على أمرك فعرض عليه الإسلام وتلا عليه القرآن أى قرأ عليه قل هو الله أحد إلى آخرها و قل أعوذ برب الفلق إلى آخرها وقل أعوذ برب الناس إلى آخرها
وفيه أنه سيأتى أن نزول قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس كان بالمدينة عند ما سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يقال يجوز أن يكون ذلك مما تكرر نزوله فقال والله ماسمعت قط قولا أحسن من هذا ولا أمرا أعدل منه فأسلمت فقلت يا نبى الله إنى امرؤ مطاع فى قومى وأنا راجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام فادع الله أن يكون لى عونا عليهم قال اللهم اجعل له آيه فخرجت حتى إذا كنت بثنية تطلعنى على الحاضر أى وهم النازلون المقيمون على الماء لا يرحلون عنه وكان ذلك فى ليلة مظلمة وقع نور بين عينى مثل المصباح فقلت اللهم فى غير وجهى فإنى أخشى أن
يظنوا أنه مثله فتحول فى رأس سوطى فجعل الحاضر يتراءون ذلك كالقنديل المعلق أى ومن ثم عرف بذى النور وإلى ذلك أشار الإمام السبكى فى تائيته بقوله ** وفى جبهة الدوسى ثم بسوطه ** جعلت ضياء مثل شمس منيرة **
قال فأتانى أبى فقلت له إليك عنى يا أبت فلست منى ولست منك فقال لم يا بنى قلت قد أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم فقال أى بنى دينى دينك فأسلم أى بعد أن قال له اغتسل وطهر ثيابك ففعل ثم جاء فعرض عليه الإسلام ثم أتتنى صاحبتى فذكرت لها مثل ذلك أى قلت لها إليك عنى فلست منك ولست منى قد أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم قالت فدينى دينك فأسلمت ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطأوا على ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله قد غلبنى دوس وفى رواية قد غلبنى على دوس الزنا فادع الله عليهم فقال الهم اهد دوسا قال زاد فى رواية وأت بهم فقال الطفيل فرجعت فلم أزل بأرض قومى أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق اه فأسلموا قال فقدمت بمن أسلم من قومى عليه صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر سبعين أو ثمانين بيتا من دوس أى ومنهم أبو هريرة فأسهم لنا مع المسلمين أى مع عدم حضورهم القتال اه
أقول قال فى النور وفى الصحيح ما ينفى هذا وأنه لم يعط أحدا لم يشهد القتال إلا أهل السفينة الجائين من أرض الحبشة جعفرا ومن معه أى ومنهم الأشعريون أبو موسى الأشعرى وقومه فقد تقدم أنهم هاجروا من اليمن إلى الحبشة ثم جاءوا إلى المدينة
وفيه أنه سيأتى أنه صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه أن يشركوهم معهم فى الغنيمة ففعلوا وسيأتى أنه إنما أعطى أهل السفينة أى والدوسيين على ما علمت من الحصنين اللذين فتحا صلحا فقد أعطاهما مما أفاء الله عليه لا من الغنيمة وسؤال أصحابه فى إعطائهم من المشهورة العامة المأمور بها فى قوله تعالى وشاورهم فى الأمر لا لاستنزالهم عن شىء من حقهم والله أعلم
= باب ذكر الإسراء والمعراج وفرض الصلوات الخمس
أعلم أنه لا خلاف فى الإسراء به صلى الله عليه وسلم إذ هو نص القرآن عل سبيل الإجمال وجاءت بتفصيله وشرح أعاجيبه أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة من الرجال والنساء نحو ثلاثين أي ومن ثم ذهب الحاتمي الصوفي إلى أن الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم ثلاثين مرة فجعل كل حديث إسراء واتفق العلماء على أن لإسراء كان بعد البعثة اه أى الاسراء الذى كان فى اليقظة بجسده صلى الله عليه وسلم فلا ينافى حديث البخارى عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه أن الإسراء كان قبل أن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم لأن ذلك كان فى نومه بروحه فكان هذا الإسراء توطئه له وتيسيرا عليه كما كان بدء نبوته صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة
وفى كلام الشيخ عبد الوهاب الشعرانى أن إسراءاته صلى الله عليه وسلم كانت أربعا وثلاثين واحد بجسمه صلى الله عليه وسلم والباقى بروحه وتلك الليلة أى التى كانت بجسمه صلى الله عليه وسلم كانت ليلة سبع عشرة وقيل سبع وعشرين خلت من شهر ربيع الأول وقيل ليلة تسع وعشرين خلت من رمضان أي وقيل سبع وعشرين خلت من ربيع الآخر الآخر وقيل من رجب واختار هذا الأخير الحافظ عبد الغنى المقدسى وعليه عمل الناس وقيل فى شوال وقيل فى ذى الحجة
وفى كلام الشيخ عبد الوهاب ما يفيد أن إسرءاته صلى الله عليه وسلم كلها كانت فى تلك الليلة التى وقع فيها هذا الخلاف فليتأمل وذلك قبل الهجرة قيل بسنة وبه جزم ابن حزم وادعى فيه الإجماع وقيل بسنتين وقيل يثلاث سنين وكل من الإسراء والمعراج كان بعد خروجه صلى الله عليه وسلم للطائف كما دل عليه السياق وعن ابن إسحاق أن ذلك كان قبل خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وفيه نظر ظاهر
واختلف فى اليوم الذى يسفر عن ليلتهما قيل الجمعه وقيل السبت وقال ابن دحية يكون يوم الاثنين إن شاء الله تعالى ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة أى لأنه صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين وبعث يوم الإثنين وخرج من مكة يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين ومات يوم الإثنين فليتأمل
عن أم هانىء بنت أبى طالب رضى الله تعالى عنها أى واسمها على الأشهر فاختة وسأتى فى فتح مكة أنها أسلمت يوم الفتح وهرب زوجها هبيرة إلى نجران ومات بها على كفره قالت دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلس أى فى لظلام بعيد الفجر وأنا على فراشى فقال أشعرت أى علمت أنى نمت الليلة فى المسجد الحرام أي عند البيت أو فى الحجر وهو المراد بالحطيم الذى وقع فى بعض الروايات وفى رواية فرج سقف بيتى
قال الحافظ ابن حجر يحتمل أن يكون السر فى ذلك أى فى انفراج السقف التمهيد لما يقع من شق صدره صلى الله عليه وسلم فكأن الملك أراه بانفراج السقف والتئامه فى الحال كيفية ما سيصنع به لطفا به وتثبيتا له صلى الله عليه وسلم أي زيادة تمهيد وتثبيت له وإلا فشق صدره صلى الله عليه وسلم تقدم له غير مرة وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم نام فى بيت أم هانىء قالت فقدته من الليل فامتنع منى النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش
أى وحكى ابن سعد أن النبى صلى الله عليه وسلم فقد تلك الليلة فتفرقت بنو عبد المطلب يلتمسونه ووصل العباس إلى ذى طوى وجعل يصرخ يا محمد فأجابه لبيك لبيك فقال يا بن أخى عنيت قومك فأين كنت قال ذهبت إلى بيت المقدس قال من ليلتك قال نعم قال هل أصابك إلا خير قال ما أصابنى إلا خير ولعله صلى الله عليه وسلم نزل عن البراق فى ذلك المحل
وعن أم هانىء رضى الله تعالى عنها قالت ما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو فى بيتى نائم عندى تلك الليلة فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا فلما كان قبل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أقامنا من نومنا ومن ثم جاء في رواية نبهنا فلما صلى الصبح وصلينا معه قال يا أم هانيء لقد صليت معك العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين الحديث
والمراد أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاته التى كان يصليها وهى الركعتان فى الوقتين المذكورين وإلا فصلاة العشاء وصلاة الصبح التى هى صلاة الغداة لم يكونا فرضا وفى قولها وصلينا معه نظر لما تقدم ويأتى أنها لم تسلم إلا يوم الفتح ثم رأيت فى مزيل
الخفاء وأما قولها يعنى أم هانىء وصلينا فأرادت به وهيأنا له ما يحتاج إليه فى الصلاة كذا أجاب
وأقرب منه أنها تكلمت على لسان غيرها أو أنها لم تظهر إسلامها إلا يوم الفتح فليتأمل فقال صلى الله عليه وسلم إن جبريل أتانى وفى رواية أسرى به من شعب أبى طالب قال الحافظ ابن حجر والجمع بين هذه الروايات أنه صلى الله عليه وسلم نام فى بيت أم هانىء وبيتها عند شعب أبى طالب ففرج عن سقف بيته الذى هو بيت أم هانىء لأنه صلى الله عليه وسلم كان نائما به فنزل الملك وأخرجه إلى المسجدوكان به أثر النعاس أى فاضطجع فيه عند الحجر فيصح قوله صلى الله عليه وسلم نمت الليلة فى المسجد الحرام إلى آخره
وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر أى وهو مضطجع فى المسجد فى الحجر بين عمه حمزه وابن عمه جعفر رضى الله تعالى عنهما فقال أحدهم خذوا سيد القوم الأوسط بين الرجلين فاحتملوه حتى جاءوا به زمزم فاستقلوه على ظهره فتولاه منهم جبريل فشق من ثغرة نحره وهو الموضع المنخفض بين الترقوتين إلى أسفل بطنه أى وفى رواية إلى مراق بطنه وفى رواية إلى شعرته أى أشار إلى ذلك فانشق فلم يكن الشق فى المرات كلها بآلة ولم يسل منه دم ولم يجد لذلك ألما كما تقدم التصريح به فى بعض الروايات لأنه من خرق العادات وظهور المعجزات ثم قال جبريل لميكائيل ائتنى بطشت من ماء زمزم كيما أطهر قلبه وأشرح صدره فاستخرج قلبه أى فشقه فغسله ثلاث مرات ونزع ما كان فيه من أذى وهذا الأذى يحتمل أن يكون من بقايا تلك العلقة السوداء التى نزعت منه صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع فى بنى سعد بناء على تجزئتها كما تقدم فى المرة الثانية وهو ابن عشر سنين والثالث عند البعث فلا يخالف أن العلقة السوداء نزعت منه صلى الله عليه وسلم فى المرة الأولى وهو مسترضع فى بنى سعد ويستحيل تكرار إخراجها وإلقائها والذى ينبغى أن يكون نزع الملك العلقة إنما هو فى المرة الأولى والواقع فى غيرها إنما هو إخراج الأذى وأنه غير تلك العلقة وأن المراد به مايكون في الجبليات البشرية وتكرر إخراج ذلك الأذى استئصاله ومبالغة فيه وذكر العلقة في المرة الأولى وقول الملك هذا حظ الشيطان وهم من بعض الرواة
واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسات من ماء زمزم ثم أتى بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا أى نفس الحكمة والإيمان لأن المعانى قد تمثل بالأجسام أو فيه ما هو سبب لحصول ذلك والمراد كما لهما فلا ينافى ما تقدم فى قصة الرضاع أنه ملىء حكمة وإيمانا ووضعت فيه السكينة ثم أطبقه ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوة وتقدم فى قصة الرضاع أن فى رواية أن الختم كان فى قلبه وفى أخرى أنه كان فى صدره وفى أخرى أنه كان بين كتفيه وتقدم الكلام على ذلك وأنكر القاضى عياض شق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وقال إنما كان وهو صلى الله عليه وسلم صبى فى بنى سعد وهو يتضمن إنكار شقه عند البعثة أيضا أي والتي قبلها وعمره صلى الله عليه وسلم عشر سنين ورده الحافظ ابن حجر بأن الروايات تواردت بشق صدره صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة وعند البعثة أى زيادة على الواقع له صلى الله عليه وسلم فى بنى سعد وأبدى لكل من الثلاثة حكمة وتقدم أنه شق صدره صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشر سنين وأنه صلى الله عليه وسلم شق صدره وهو ابن عشرين سنة وتقدم ما فيه
أقول ويمكن أن يكون إنكار القاضى عياض لشق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج على الوجه الذى جاء فى بعض الروايات أنه أخرج من قلبه علقة سوداء وقال الملك هذا حظ الشيطان منك لأن هذا إنما كان وهو صلى الله عليه وسلم مسترضع فى بنى سعد ويستحيل تكرر إلقاء تلك العلقة وحمل ذلك على بعض بقايا تلك العلقة السوداء كما قدمناه ينافى قول الملك هذا حظ الشيطان منك إلا أن يقال المراد أنه من حظ الشيطان أى بعض حظ الشيطان أى بعض حظ الشيطان فليتأمل ذلك والأولى ماقدمناه فى ذلك ثم لا يخفى أنه ورد غسل صدرى وفى رواية قلبى
وقد يقال الغسل وقع لهما معا كما وقع الشق لهما معا فأخبر صلى الله عليه وسلم بإحداهما مرة وبالأخرى أخرى أى وتقدم فى مبحث الرضاع فى رواية شق بطنه صلى الله عليه وسلم ثم قلبه وفى أخرى شق صدره ثم قلبه وفى اخرى الاقتصار على شق صدره وفى أخرى الاقتصار على شق قلبه وتقدم أن المراد بالبطن الصدر وليس المراد بإحدهما القلب
وفى كلام غير واحد ما يقتضى أن المراد بالصدر القلب ومن ثم قيل هل شق صدره وغسله مخصوص به صلى الله عليه وسلم أو وقع لغيره من الأنبياء
وأجيب بأنه جاء فى قصة تابوت بنى اسرائيل الذى أنزله الله تعالى على آدم حين أهبطه إلى الأرض فيه صور الأنبياء من أولاده وفيه بيوت بعدد الرسل وآخر البيوت بيت محمد صلى الله عليه وسلم وهو من ياقوتة حمراء ثلاثة أذرع فى ذراعين وقيل كان من نوع من الخشب تتخذ منه الأمشاط مموها بالذهب فكان عند آدم إلى أن مات ثم عند شيث ثم توارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم كان عند اسماعيل ثم عند ابنه قيدار فنازعه ولد اسحاق ثم أمر من السماء أن يدفعه الى ابن عمه يعقوب إسرائيل الله فحمله إلى أن أوصله له ثم وصل إلى موسى عليه الصلاة والسلام فوضع فيه التوراة وعصاه وعمامة هارون ورضاض الألواح التى تكسرت لما ألقاها وأنه كان فيه الطشت طشت من ذهب الجنة الذى غسل فيه قلوب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك مقتض لعدم الخصوصية وكان هذا التابوت إذا اختلفوا فى شىء سمعوا منه ما يفصل بينهم وما قدموه أمامهم فى حرب إلا نصروا وكان كل من تقدم عليه من الجيش لا بد أن يقتل أو ينهزم الجيش
وفى الخصائص للسيوطى ومما اختص به صلى الله عليه وسلم عن جميع الأنبياء ولم يؤتها نبى قبله شق صدره فى أحد القولين وهو الأصح وجمع بعضهم بحمل الخصوصية على تكرر شق الصدر لأن تكرر شق صدره الشريف ثبت فى الأحاديث وشق صدر غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما أخذ من قصة التابوت وليس فيها تعرض للتكرار ولو جمع بأن شق الصدر مشترك وشق القلب وإخراج العلقة السوداء مختص به صلى الله عليه وسلم ويكون المراد بالقلب في قصة التابوت الصدر وبالصدر فى كلام الخصائص القلب لم يكن بعيدا إذ ليس فى قصة التابوت مايدل على أن تلك العلقة السوداء أخرجت من غير قلب نبينا صلى الله عليه وسلم ولم أقف على أثر يدل على ذلك وغسل قلب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس من لازمة الشق بل يجوز أن يكون غسله من خارج وقد أحلنا على هذا الجمع فى بحث الرضاع وبهذا يرد ما قدمناه من قول الشمس الشامى الراجح المشاركة ولم أر لعدم المشاركة ما يعتمد عليه بعض الفحص الشديد فليتأمل
ثم رأيته ذكر أنه جمع جزءا سماه نور البدر فيما جاء فى شق الصدر ولم أقف عليه والله أعلم
قال فأتانى جبريل عليه الصلاة والسلام فذهب بى إلى باب المسجد أى وعن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا أنا نائم فى الحجر جاءنى جبريل عليه الصلاة والسلام فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاني الثانية فهمزنى بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فأخذ بعضدى فقمت معه فخرج بى ألى باب المسجد
وفيه أنه إذا لم يجد شيئا من أخذ بعضديه إلا أن يقال ثم رآه عند أخذه بعضديه فإذا دابة أبيض أى ومن ثم قيل له البراق بضم الموحدة لشدة بريقه وقيل قيل له ذلك لسرعته أى فهو كالبرق وقيل لأنه كان ذا لونين أبيض وأسود أى يقال شاة برقاء إذا كان خلال صوفها الأبيض طاقات سوداء أى وهى العفراء ومن ثم جاء فى الحديث أبرقوا فإن دم عفراء عند الله أذكى من دم سوداوين أى ضحوا بالبلقاء وهى العفراء لكن فى الصحاح الأعفر الأبيض وليس بالشديد البياض وشاة عفراء يعلو بياضها حمرة ولغلبة بياض شعره على سواده أو حمرته قيل أبيض ولعل سواد شعره لم يكن حالكا بل كان قريبا من الحمرة فوصف بأنه أحمر وهذا لا يتم إلا لو كان البراق كذلك أي شعره أبيض داخله طاقات سود أو حمر ولعله كان كذلك ويدل له قول بعضهم إنه ذو لونين أى بياض وسواد والسواد كما علمت إذا صفا شبه بالأحمر وهذه الرواية طوى فيها ذكر أنه كان بين حمزة وجعفر وأنه جاءه جبريل وميكائيل وملك آخر وأنهم احتملوه إلى زمزم وشق جبريل صدره إلى آخر ما تقدم وذلك البراق فوق الحمار ودون البغل مضطرب الأذنين أى طويلهما أى وكان مسرجا ملجما كما فى بعض الروايات فركبته فكان يضع حافره مد بصره أى حيث ينتهى بصره
وفى رواية ينتهى خفها حيث ينتهى طرفها إذا أخذ فى هبوط طالت يداه وقصرت رجلاه وإذا أخذ فى صعود طالت رجلاه وقصرت يداه أى وقد ذكره هذا الوصف فى فرس فرعون موسى فقد قيل كان لفرعون أربع عجائب فذكر منها أن لحيته كانت خضراء ثمانية أشبار وقامته سبعة أشبار فكانت لحيته أطول منه بشبر وكان لهه فرس وقيل برذون إذا صعد الجبل قصرت يداه وطالت رجلاه وإذا انحدر يكون على ضد ذلك وفى رواية أن البزاق خطوه مد البصر قال ابن المنير فعلى هذا يكون قطع من الأرض إلى السماء فى خطوة واحدة لأن بصر الذى فى الأرض يقع على السماء فبلغ أعلى السموات فى سبع خطوات انتهى أى لأن بصر من يكون فى سماء الدنيا يقع
على السماء فوقها وهكذا وهذا بناء على أنه عرج به صلى الله عليه وسلم على المعراج راكب البراق وسيأتى ما فيه
قال صلى الله عليه وسلم فلما دنوت منه اشمأز أى نفر وفى رواية فاستصعب ومنع ظهره أن يركب فقال جبريل اسكن فما ركبك أحد أكرم على الله من محمد وفى رواية فى فخذيها أى تلك الدابة التى هى البراق جناحان تحفز بهما أى تدفع بهما رجليها ففى اللغة الحفز الحث والإعجال فلما دنوت لأركبها شمست أى نفرت ومنعت ظهرها وفى رواية شمس وفى رواية صرت أذنيها أى جمعتهما وذلك شأن الدابة إذا نفرت فوضع جبريل يده على معرفتها ثم قال ألا تستحين يا براق مما تصنعين والله ما ركب عليك أحد وفى رواية عبد الله قبل محمد صلى الله عليه وسلم أكرم على الله منه فاستحيت حتى ارفضت عرقا أى كثر عرقها وسال ثم قرت حتى ركبها أى وفى رواية فقال جبريل مه يا براق فوالله ماركبك مثله من الأنبياء أى لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانت تركبها قبله صلى الله عليه وسلم
ففى البيهقى وكانت الأنبياء تركبها قبلى وعند النسائى وكانت تسخر للأنبياء قبلى وبعد عليها العهد من ركوبهم لأنها لم تكن ركبت فى الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كما ذكره ابن بطال وهو يقتضى أنه لم يركبه أحد ممن كان بين عيسى ومحمد من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وجاء التصريح بذلك فى بعض الروايات أى والمتبادر منها أنها التى بينه وبين عيسى عليهما الصلاة والسلام فيكون عيسى ممن ركبها دون من بعده من الأنبياء عليهما الصلاة والسلام على تقدير ثبوت وجود أنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد عيسى وتقدم عن النهر أنه كان بينهما ألف نبى
وقوله لأن الأنبياء ظاهرة يدل على أن جميع الأنبياء أى عيسى ومن قبله ركبوه قال الإمام النووى القول باشتراك جميع الأنبياء فى ركبوها يحتاج إلى نقل صحيح هذا كلامه
ومما يدل على أن الأنبياء كانت تركبه قبله صلى الله عليه وسلم ما تقدم وظاهر ما سيأتى فى بعض الروايات فربطه بالحلقة التى توثق بها الأنبياء وإنما قلنا ظاهر لأنه لم يذكر الموثق بفتح المثلثة إذ يحتمل أن الأنبياء كانت تربط غير البراق من دوابهم بها ثم رأيت فى رواية البيهقى فأوثقت دابتى يعنى البراق التى كانت الأنبياء تربطها فيه
ومن ثم قال الشيخ عبد الوهاب الشعرانى رحمه الله مامن رسول إلا وقد أسرى به راكبا على ذلك البراق هذا كلامه وقد تقدم أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حمل هو وهاجر وولدهما يعنى إسماعيل على البراق إلى مكة
وفى تاريخ الأزرقى وكان إبراهيم يحج كل سنة على البراق فعن سعيد بن المسيب وغيره أن البراق هو دابة إبراهيم عليه الصلاة والسلام التى كان يزور عليها البيت الحرام وعلى تسليم أنه لم يركب البراق أحد قبله صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن دحية ووافقه الإمام النووى فقول جبريل عليه الصلاة والسلام ما ركبك ونحوه لا ينافيه لأن السالبة تصدق بنفى الموضوع ومن ثم قال فى الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم بركوب البراق فى أحد القولين أى وقيل إن الذى خص به هو ركوبه مسرجا ملجما
وفى المنتقى أن البراق وإن كان يركبه الأنبياء إلا أنه لم يكن يضع حافره عند منتهى طرفه إلا عند ركوب النبى صلى الله عليه وسلم وجاء فى غريب التفسير أن البراق لما شمس قال له جبريل لعلك يا محمد مسيت الصفر اليوم وهو صنم كان بعضه من ذهب وبعضه من نحاس كسره صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال له صلى الله عليه وسلم ما مسيته إلا أنى مررت به وقلت تبا لمن يعبدك من دون الله فقال جبريل وما شمس إلا لذلك أى لمجرد مرورك عليه وهذا حديث موضوع كما نقل عن الإمام أحمد
وقال الحافظ ابن حجر إنه من الأخبار الواهية وقال مغلطاى لا ينبغى أن يذكر ولا يعزى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال فرس شموس أى صعبة ولا يقال شموسة وذكر لاستصعاب البراق غير ذلك من الحكم لانطيل بذكره
قال وعن الثعلبى بسند ضعيف فى صفة البراق عن ابن عباس له خد كخد الإنسان وعرف كعرف الفرس وقوائم كالإبل وأظلاف وذنب كالبقر أى وحينئذ يكون إطلاق الخف على ذلك فى الرواية السابقة ينتهى خفها حيث ينتهى طرفها مجازا لأن مع كونها لها قوائم كقوائم الإبل لا خف لها بل ظلف وهو الحافر
وفى كلام بعضهم فى صفة البراق وجهه كوجه الإنسان وجسده كجسد الفرس وقوائمه كقوائم الثور وذنبه كذنب الغزال لا ذكر ولا أنثى اه ومن وصف بوصف المذكر تارة وبوصف المؤنث أخرى فهى حقيقة ثالثة ويكون خارجا من
قوله تعالى ومن كل شىء خلقنا زوجين كما خرجت من ذلك الملائكة فإنهم ليسوا ذكورا ولا إناثا
وذكر بعضهم أن أذنيها كأذنى الفيل وعنقها كعنق البعير وصدرها كصدر الفيل كأنه من ياقوت أحمر لها جناحان كجناح النسر فيهما من كل لون قوائمها كقوائم الفرس وذنبها كذنب البعير ويحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات على تقدير الصحة
قال صلى الله عليه وسلم ثم سرت وجبريل عليه الصلاة والسلام لا يفارقنى أى وفى رواية أنه ركب معه البراق وفى الشفاء مازايلا ظهر البراق حتى رجعا وفى رواية ركبت البراق خلف جبريل أى وفى صحيح ابن حبان وحمله جبريل على البراق رديفا له
قال وفى الشرف كان الآخذ بركابه جبريل وبزمام البراق ميكائيل وفى رواية جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره اه
أقول لا منافاة لجواز أن يكون جبريل تارة ركب مردفا له صلى الله عليه وسلم وتارة أخذ بركابه من جهة اليمين وميكائيل تارة أخذ بالزمام وتارة لم يأخذه وكان جهة يساره أو كان آخذ بالزمام من جهة اليسار ولا يخالف هذا الجمع قول الشفاء مازايلا ظهر البراق لإمكان حمله على غالب المسافة هذا وفى حياة الحيوان الظاهر عندى أن جبريل لم يركب مع النبى صلى الله عليه وسلم البراق ليلة الإسراء لأنه المخصوص بشرف الإسراء هذا كلامه فليتأمل والله أعلم
قال صلى الله عليه وسلم ثم انتهيت إلى بيت المقدس فأوثقته بالحلقة التى بالباب أى باب المسجد التى كانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام توثق أى تربط بهاأى تربطه بها على ما تقدم عن رواية البيهقى وفى رواية أن جبريل خرق بأصبعه الحجر أى الذى هو الصخرة وفى كلام بعضهم فأدخل جبريل يده في الصخرة فخرقها وشد به البراق
أقول لا منافاة لجواز أن يكون المراد وسع الخرق بأصبعه أو فتحه لعروض انسداده وأن هذا الخرق هو المراد بالحلقة التى فى الباب لأن الصخرة بالباب وقيل لهذا الخرق حلقة لاستدارته
وفى الإمتاع وعادت صخرة بيت المقدس كهيئة العجين فربط دابته فيها والناس يلتمسون ذلك الموضع إلى اليوم هذا كلامه
وجمع بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم ربطه بالحلقة خارج باب المسجد الذى هو مكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تأدبا فأخذه جبريل فربطه فى زاوية المسجد فى الحجر الذى هو الصخرة التى خرقها بأصبعه وجعله داخلا عن باب المسجد فكأنه يقول له إنك لست ممن يكون مركوبه على الباب بل يكون داخلا
وفى حديث أبى سفيان قبل إسلامه لقيصر أنه قال لقيصر يحط من قدره صلى الله عليه وسلم ألا أخبرك أيها الملك عنه خبرا تعلم منه أنه يكذب قال وما هو قال إنه يزعم أنه خرج من أرضنا أرض الحرم فجاء مسجدكم هذا ورجع إلينا فى ليلة واحدة فقال بطريق أنا أعرف تلك الليلة فقال له قيصر ما علمك بها قال إنى كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كها غير باب واحد أى وهو الباب الفلانى غلبنى فاستعنت عليه بعمالى ومن يحضرنى فلم نقدر فقالو إن البناء نزل عليه فاتركوه إلى غد حتى يأتى بعض النجارين فيصلحه فتركته مفتوحا فلما أصبحت غدوت فإذا الحجر الذى من زاوية الباب مثقوب أى زيادة على ماكان عليه على ماتقدم وإذا فيه أثر مربط الدابة أى التى هى البراق أى ولم أجد بالباب مايمنعه من الإغلاق فعلمت أنه إنما امتنع لأجل ما كنت أجده فى العلم القديم أن نبيا يصعد من بيت المقدس إلى السماء وعند ذلك قلت لأصحابى ماحبس هذا الباب الليلة إلا هذا الأمر وسيأتى ذلك عند الكلام على كتابه صلى الله عليه لقيصر ولا يخفى أن المراد بالصخرة الحجر الذي بالباب لا الصخرة المعروفة كما هو المتبادر من بعض الروايات وهي فأتى جبريل الصخرة التى فى بيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها فشد بها البراق لأن الذى فى بابه يقال إنها فيه ولا يخفى أن عدم انغلاق الباب إنما كان آية وإلا فجبريل عليه الصلاة والسلام لا يمنعه باب مغلق ولا غيره
وفى رواية عن شداد بن أوس أنه قال ثم انطلق بى أى جبريل حتى دخلنا المدينة يعنى مدينة بيت المقدس من بابها اليمانى فأتى قبلة المسجد فربط فيها دابته
قد يقال لا يخالفه لأنه يجوز أن يكون ذلك الباب كان بجانب قبلة المسجد ولعل هذا الباب هو اليمانى الذى فيه صورة الشمس والقمر ففى رواية ودخل المسجد من باب فيه تمثال الشمس والقمر أى مثالهما فيه والله أعلم
وأنكر حذيفة رضى الله تعالى عنه رواية ربط البراق وقال لم يفر منه وقد سخره له
عالم الغيب والشهادة ورد عليه بأن الأخذ بالحزم لا ينافى صحة التوكل فعن وهب ابن منبه رضى الله عنه الإيمان بالقدر لا يمنع الحازم من توقى المهالك قال وهب وجدته فى سبعين من كتب الله عزوجل القديمة اى ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم اعقلها وتوكل وقد كان صلى الله عليه وسلم يتزود فى أسفاره ويعد السلاح فى حروبه حتى لقد ظاهر بين درعين فى غزوة أحد قال وفى رواية فلما استوى النبى صلى الله عليه وسلم فى صخرة المسجد قال جبريل يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين قال نعم قال جبريل فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن فرددن عليه السلام فقال من أنتن قلن خيرات حسان قوم أبرار نقلوا فلم يدرنوا وأقاموا فلم يظنعوا وخلدوا فلم يموتوا اه
أقول فى كلام بعضهم أنه لم يختلف أحد أنه صلى الله عليه وسلم عرج به من عند القبة التى يقال لها قبة المعراج من عند يمين الصخرة وقد جاء صخرة بيت المقدس من صخور الجنة وفى لفظ سيدة الصخور صخرة بيت المقدس وجاء صخرة بيت المقدس على نخلة والنخلة على نهر من أنهار الجنة وتحت النخلة آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران ينظمان سموط أهل الجنة إلى يوم القيامة قال الذهبى إسناده مظلم وهو كذب ظاهر
قال الإمام أبو بكر بن العربى فى شرحه لموطا مالك صخرة بيت المقدس من عجائب الله تعالى فإنها صخرة قائمة شعثاء فى وسط المسجد الأقصى قد انقطعت من كل جهة لا يمسكها إلا الذى يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه فى أعلاها من جهة الجنوب قدم النبى صلى الله عليه وسلم حين ركب البراق وقد مالت من تلك الجهة لهيبته صلى الله عليه وسلم وفى الجهة الأخرى أصابع الملائكة التى أمسكتها لما مالت ومن تحتها المغارة التى انفصلت من كل جهة أى فهى معلقة بين السماء والأرض وامتنعت لهيبتها من أن أدخل تحتها لأنى كنت أخاف أن تسقط على بالذنوب ثم بعد مدة دخلتها فرايت العجب العجاب تمشى فى جوانبها من كل جهة فتراها منفصلة عن الأرض لا يتصل بها من الأرض شىء ولا بعض شىء وبعض الجهات أشد انفصالا من بعض وهذا الذى ذكره ابن العربى أن قدمه صلى الله عليه وسلم أثر فى صخرة بيت المقدس حين ركب البراق وأن الملائكة أمسكتها لما مالت قال به الحافظ ناصر الدين الدمشقى حيث قال فى معراجه المسجع ثم توجها نحو صخرة بيت المقدس وعماها فصعد من جهة الشرق
أعلاها فاضطربت تحت قدم نبينا صلى الله عليه وسلم ولانت فأمسكتها الملائكمة لما تحركت ومالت
وقول ابن العربى حين ركب البراق يقتضى أنه عرج به على البراق وسيأتى الكلام فيه وتقدم أن الجلال السيوطى سئل عن غوص قدمه صلى الله عليه وسلم فى الحجر هل له أصل فى كتب الحديث فأجاب بأنه لم يقف فى ذلك على أصل ولا رأى من خرجه فى شىء من كتب الحديث وتقدم مافيه
وفى العرائس قال أبى بن كعب ما من ماء عذب إلا وينبع من تحت الصخرة ببيت المقدس ثم يتفرق فى الأرض والله سبحانه وتعالى أعلم
قال صلى الله عليه وسلم فنشر لى بضم النون وكسر الشين المعجمة أى أحيي لى بعد الموت رهط من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأن نشر الميت إحياؤه والرهط مادون العشرة من الرجال فيهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام أى وحكمة تخصيص هؤلاء بالذكر لا تخفى فصليت بهم وكلمتهم أى فالمراد نشروا عند دخوله صلى الله عليه وسلم المسجد وصلى بهم ركعتين ووصفهم بالنشور واضح فى غير عيسى عليه الصلاة والسلام لأنه لم يمت ووصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالإحياء بعد الموت سيأتى فى قصة بدر فى الكلام على أصحاب القليب ما يعلم منه أن المراد بإحياء الأنبياء بعد الموت شدة تعلق أرواحهم بأجسادهم حتى انهم فى البرزخ بسبب ذلك أحياء كحياتهم فى الدنيا وقد ذكرنا هناك الكلام على صلاتهم فى البرزخ وحجهم وغير ذلك وفى رواية ثم صلى صلى الله عليه وسلم هو وجبريل كل واحد ركعتين فلم يلبثا إلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثير أى مع أولئك الرهط فلا مخالفة بين الروايتين فعرف النبيين من بين قائم وراكع وساجد ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة
أقول ذكر ابن حبيب أن آية واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا الآية نزلت ببيت المقدس ليلة الإسراء ويجوز أن يكون قوله واقيمت الصلاة من عطف التفسير فالمراد بالأذان الإقامة وليس المراد بالإقامة الألفاظ المعروفة الآن لما سيذكر فى الكلام على مشروعية الأذان والإقامة بالمدينة وعلى أنه من عطف المغاير ويدل له مافى بعض الروايات فلما استوينا فى المسجد أذن مؤذن ثم أقام الصلاة فليس من لازم ذلك أن يكون كل من التأذين والإقامة باللفظين المعروفين الآن لأنهما كما علمت لم يشرعا إلا فى المدينة أى فى السنة الأولى من الهجرة وقيل فى الثانية كما سيأتى
وحديث لما أسرى بالنبى صلى الله عليه وسلم إلى السماء أوحى الله تعالى إليه بالأذان فنزل به فعلمه بلالا قال الحافظ ابن رجب موضوع وحديث علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان ليلة أسرى به فى إسناده متهم وفى الخصائص الكبرى أنه صلى الله عليه وسلم علم الإقامة ليلة الإسراء فقد جاء لما أراد الله عزوجل أن يعلم رسوله الأذان أى الإقامة عرج به إلى أن انتهى إلى الحجاب الذى يلى الرحمن أى عرشه خرج ملك من الحجاب فقال الله أكبر الله أكبر فقيل من وراء الحجاب صدق عبدى أنا أكبر أما أكبر ثم قال الملك أشهد أن لا إله إلا الله فقيل من وراء الحجاب صدق عبدى لا إله إلا أنا فقال الملك أشهد أن محمدا رسول الله فقيل من وراء احجاب صدق عبدى أنا أرسلت محمدا فقال الملك حى على الصلاة حى على الفلاح قد قامت الصاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله فأخذ الملك بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقدمه يؤم بأهل السموات قال فى الشفاء والحجاب إنما هو فى حق المخلوق لا فى حق الخالق فهم المحجوبون قال فإن صح القول بان محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فيحتمل أنه فى غير هذا الموطن بعد رفعالحجاب عن بصره حتى رآه
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن ذلك فقال جبريل إن هذا الملك ما رأيته قبل ساعتي هذه وفي لفظ والذي بعثك بالحق إني لأقرب الخلق مكانا وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتى هذه وفيه أن هذا يقتضى أن جبريل عليه السلام كان معه صلى الله عليه وسلم فى هذا المكان وسيأتى أنه تخلف عنه عند سدرة المنتهى فليتأمل والله أعلم
ولما أقيمت الصلاة ببيت المقدس قاموا صفوفا ينتظرون من يؤمهم فأخذ جبريل بيده صلى الله عليه وسلم فقدمه فصلى بهم ركعتين
أى وأما حديث لما أسرى بى أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلى بهم فقدمنى فصليت بالملائكة قال الذهبى منكر بل موضوع والغرض من تلك الصلاة الإعلام بعلو مقامه صلى الله عليه وسلم وأنه المقدم لا سيما فى الإمامة
وفى رواية ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا أى دفعوا حتى قدموا محمد صلى الله عليه وسلم أى ولا مخالفة لأنه يجوز أن يكون جبريل قدمه صلى الله عليه وسلم بعد دفعهم وتقديمهم له صلى الله عليه وسلم وفى رواية فأذن جبريل أى أقام الصلاة ونزلت
الملائكة من السماء وحشر الله له المرسلين أى جميعهم وقد نزلت الملائكة وحشر له الأنبياء أى جميعهم بدليل مافى بعض الروايات بعث له آدم فمن دونه فهو تعميم بعد تخصيص بناء على أن الرسول أخص من النبى لا بمعناه وهذا هو المراد بقوله الخصائص الصغرى ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم إحياء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وصلاته إماما بهم وبالملائكة لأن الأنبياء أحياء
وفيه إذا كان الأنبياء أحياء فما معنى إحيائهم له ليصلى بهم وقد علمت معنى إحيائهم فلما انصرف صلى الله عليه وسلم قال جبريل يا محمد أتدرى من صلى خلفك قال لا قال كل نبى بعثه الله تعالى أى والنبى غير الرسول بعثه الله تعالى إلى نفسه
أقول ولا يخاللف ما سبق من أنه عرف النبيين منه بين قائم وراكع وساجد لجواز أن يكون المراد عرف معظمهم أو أنه عرفهم بعد هذا القول
وذكر القرطبى فى تفسيره عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس جمع الله له الأنبياء آدم فمن دونه وكانوا سبعة صفوف ثلاثة صفوف من الأنبياء المرسلين وأربعة من سائر الأنبياء وكان خلف ظهره إبراهيم الخليل وعن يمينه إسمعيل وعن يساره إسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والله أعلم وفى رواية ثم دخل أى مسجد بيت فصلى مع الملائكة فلما قضيت الصلاة قالوا يا جبريل من هذا الذى معك قال هذا محمد رسول االع صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين قالوا وقد أرسل إليه أي للمعراج بناء على أنه كان في ليلة الإسراء قال نعم قالوا حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة وهذه الرواية قد يقال لا تخالف ماسبق من أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالملائكة مع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لأنه يجوز أن يكون إنما أفردهم بالذكر لسؤالهم
وفيه أن سؤالهم يدل على أن نزولهم من السماء لبيت المقدس لم يكن لأجل الصلاة معه صلى الله عليه وسلم
قال القاضى عياض والأظهر أن صلاته صلى الله عليه وسلم بهم يعنى بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فى بيت المقدس كانت قبل العروج أى كما يدل على
ذلك سياق القصة وقال الحافظ ابن كثير صلى بهم فى بيت المقدس قبل العروج وبعده فإن فى الحديث مايدل على ذلك ولا مانع منه
قال ومن الناس من يزعم أنه إنما أمهم فى السماء أى لا فى بيت المقدس أى وهذا الزاعم هو حذيفة فإنه أنكر صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فى بيت المقدس قال بعضهم والذى تظافرت به الروايات صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ببيت المقدس
والظاهر أنه بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم إليه أى فلم يصل فى بيت المقدس إلا مرة واحدة وإنها بعد نزوله صلى الله عليه وسلم لأنه لما مر بهم فى منازلهم جعل يسأل جبريل عنهم واحدا واحدا وهو يخبره بهم أى ولو كان صلى بهم أولا لعرفهم بل تقدم أنه صلى الله عليه وسلم عرف النبيين مابين قائم وراكع وساجد وما بالعهد من قدم وهذا هو اللائق لأنه صلى الله عليه وسلم أولا كان مطلوبا إلى الجناب العلوى أى بناء على أن المعراج كان فى ليلة الإسراء وحيث كان مطلوبا لذلك اللائق أن لا يشتغل بشىء عنه فلما فرغ من ذلك اجتمع هو صلى الله عليه وسلم وإخوته من النبيين ثم أظهر شرفه عليهم فقدمه فى الإمامة هذا كلامه
أقول بحث أن صلاته صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس ولم تكن إلا بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من العروج والاستدلال على ذلك بسؤاله صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء عليهم الصلاة واللام واحدا واحدا فى السماء وأن ذلك هو اللائق فيه نظر ظاهر لأنه لا بحث مع وجود النقل بخلافه ومجرد الاستحسان العقلى لا يرد النقل فقد تقدم عن الحافظ ابن كثير أنه ثبت فى الحديث مايدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم ببيت المقدس قبل العروج وبعده وكونه سأل عن الأنبياء فى السماء لا ينافى صلاته بهم أولا وأنه عرفهم بناء على تسليم أن معرفته لهم كانت عند صلاته بهم أولا وأنه عرفهم كلهم لا معظمهم على ما قدمناه لأنه يجوز أن يكونوا فى السماء على صور لم يكونوا عليها ببيت المقدس لأن البرزخ عالم مثال كما تقدم
وبهذا يعلم مافى قول بعضهم رؤيته صلى الله عليه وسلم للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فى السماء محمولة على رؤية أرواحهم إلا عيسى وإدريس عليهما الصلاة والسلام ورؤيته صلى الله عليه وسلم لهم فى بيت المقدس يحتمل أن المراد أرواحهم ويحتمل
أجسادهم ويدل للثانى وبعث له أدم فمن دونه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفى رواية فنشر لى الأنبياء من سمى الله ومن لم يسم فصليت بهم صلى الله عليه وسلم وعليهم والاشتغال عن الجناب العلوى المدعو له بما فيه تأنيس وهو اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصلاته بهم مناسب لائق بالحال والله أعلم
واختلف فى هذه الصلاة فقيل العشاء أى الركعتان اللتان كان صلى الله عليه وسلم يصليهما بالعشاء بناء على أنه صلى ذلك قبل العروج
وفيه أنه صلى تينك الركعتين اللتين كان يصليهما بالغداة أى وهذا يدل على أن الفجر طلع وهو صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس بعد العروج وتقدم وسيأتى أنه صلى الغداة بمكة وعليه تكون معادة بمكة
قال والذى يظهر والله أعلم أنها كانت من النفل المطلق انتهى أى ولا يضر وقوع الجماعة فيها وبقولنا أى الركعتان إلى آخره يسقط ماقيل القول بأنها العشاء أو الصبح ليس بشيء لأن أول صلاة صلاها من الخمس مطلقا الظهر ومن حمل الأولية على مكة أى ويكون صلى الصبح ببيت المقدس فعليه الدليل أى دليل يدل على أن تلك الصلاة إحدى الصلوات الخمس
وفى زين القصص كان زمن ذهابه صلى الله عليه وسلم ومجيئه ثلاث ساعات وقيل أربع ساعات أى بقيت من تلك الليلة لكن فى كلام السبكى أن ذلك كان فى قدر لحظة حيث قال فى تائيته وعدت وكل الأمر فى قدر لحظة أى ولا بدع لأن الله تعالى قد يطيل الزمن القصير كما يطوى الطويل لمن يشاء وقد فسح الله فى الزمن القصير لبعض أولياء أمته ما يستغرق الأزمنة الكثيرة وفى ذلك حكايات شهيرة
قال صلى الله عليه وسلم وأتيت بإنائين أحمر وأبيض فشربت الأبيض فقال لى جبريل شربت اللبن وتركت الخمر لو شربت الخمر لارتدت أمتك أى غوت واتهمكت فى الشرب بدليل الرواية الأخرى وهى رواية البخارى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به بإيليا بقدحين من خمر ولبن فنظر إليهما فاخذ اللبن فقال جبريل الحمد لله الذى هداك للفطرة اى الإستقامة لو أخذت الخمرة غوت
أمتك ولم يتبعك منهم إلا القليل أى يكونوا على ما أنت عليه من ترك ذلك فالمراد بالارتداد الرجوع عما هو الصواب وإتيانه بذلك وهو فى المسجد ببيت المقدس وسيأتى ما يدل على أنه أتى له صلى الله عليه وسلم بذلك أيضا بعد خروجه صلى الله عليه وسلم منه قبل العروج
قال صلى الله عليه وسلم واستويت على ظهر البراق فما كان بأسرع من أن أشرفت على مكة ومعى جبريل فصليت به الغداة ثم قال صلى الله عليه وسلم لأم هانىء بعد أن أخبرها بذلك أنا أريد ان أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت قالت أم هانىء فعلقت بردائه صلى الله عليه وسلم وقلت أنشدك الله أى بفتح الهمزة أسألك بالله ابن عم أى يا ابن عم أن تحدث أى لا تحدث بهذا قريشا فيكذبك من صدقك وفى رواية إنى أذكرك الله عز وجل أنك تأتى قوما يكذبونك وينكرون مقالتك فأخاف أن يسطوا بك فضرب بيده الشريفة على ردائه فانتزعه من يدى فارتفع على بطنه صلى الله عليه وسلم فنظرت إلى عكنه أى طبقات بطنه من السمن فوق ردائه صلى الله عليه وسلم وكأنه طى القراطيس أى الورق وإذا نور ساطع عند فؤاده كاد يخطف بفتح الطاء وربما كسرت بصرى فخررت ساجدة فلما رفعت رأسى إذ هو قد خرج فقلت لجاريتى نبعة أى وكانت حبشية معدودة فى الصحابة رضى الله عنها اتبعيه وانظرى ماذا يقول فلما رجعت أخبرتنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى نفر من قريش فى الحطيم هو مابين باب الكعبة والحجر الأسود وفى كلام بعضهم بين الركن والمقام سمى بذلك لأن الناس يحطم بعضهما بعضا فيه من الازدحام لأنه من مواطن إجابة الدعاء قيل ومن حلف فيه آثما عجلت عقوبته وربما أطلق كما تقدم على الحجر بكسر الحاء وأولئك النفر الذين انتهى صلى الله عليه وسلم إليهم فيهم المطعم بن عدى وأبو جهل بن هشام والوليد ابن المغيرة فقال صلى الله عليه وسلم إنى صليت الليلة العشاء أى أوقعت صلاة فى ذلك الوقت فى هذا المسمجد وصليت به الغداة أى أوقعت صلاة فى ذلك الوقت وإلا فصلاة العشاء لم تكن فرضت وكذا صلاة الغداة التى هى الصبح لم تكن فرضت كما تقدم وأتيت فيما بين ذلك بيت المقدس
أى لا يقال كان المناسب لذلك أن يقول وأتيت فى لحظة أو ساعات وعلى ما تقدم فيما بين ذلك ببيت المقدس ولم يوسع لهم الزمن لأنا نقول وسع لهم الزمن لأن الطباع لا تنفر منه نفرتها من تلك فليتأمل
قال وجاء أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد قطع وعرف أن الناس تكذبه أى وما أحب أن يكتم ما هو دليل على قدرة الله تعالى وما هو دليل على علو مقامه صلى الله عليه وسلم الباعث على اتباعه فقعد صلى الله عليه وسلم حزينا فمر به عدو الله أبو جهل فجاء حتى جلس إليه صلى الله عليه وسلم فقال كالمستهزىء هل كان من شيء قال نعم أسرى بى الليلة قال إلى أين قال إلى بيت المقدس قال ثم أصبحت بين ظهرانينا قال نعم قال فلم ير أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه قال أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم ما حدثتنى قال نعم قال يا معشر بنى كعب بن لؤى فانقضت إليه المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما فقال حدث قومك بما حدثتنى به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنى أسرى بى الليلة قالوا إلى أين قال إلى بيت المقدس الحديث انتهى فنشر لى رهط من الأنبياء منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام وصليت بهم وكلمتهم فقال أبو جهل كالمستهزىء صفهم لى فقال صلى الله عليه وسلم أما عيسى عليه الصلاة والسلام ففوق الربعة ودون الطويل أى لا طويل ولا قصير عريض الصدر ظاهر الدم أى لونه أحمر وفى رواية يعلوه حمرة كأنما يتحادر من لحيته الجمان وفى رواية كأنه خرج من ديماس أى من حمام وأصله الكن الذى يخرج منه الإنسان وهو عرقان وأصله الظلمة يقال ليل دامس والحمام لفظ عربى وأول واضع له الجن وضعته لسيدنا سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام وقيل الواضع له بقراط وقيل شخص سابق على بقراط استفاده من رجل كان به تعقيد العصب فوقع في ماء حار في جب فسكن فصار يستعمله حتى برىء
وجاء من طرق عديدة كلها ضعيفة لكن يقوى بعضها بعضا إن سليمان عليه الصلاة والسلام لما دخله ووجد حره وغمه قال أواه من عذاب الله لان دخول الحمام يذكر النار لأن الحمام أشبه شىء بجهنم لان النار أسفله والسواد والظلمة أعلاه وقد قيل خير الحمام ماقدم بناؤه واتسع فناؤه وعذب ماؤه قال بعضهم ويصير قديما بعد سبع سنين قال بعضهم ولم يعرف الحمام فى بلاد الحجاز قبل البعثة وإنما عرفه الصحابة بعد موته صلى الله عليه وسلم بعد أن فتحوا بلا د العجم
وفيه أن فى البخارى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون بيتا يقال له الحمام قالوا يا رسول الله إنه يذهب بالدرن وينفع المريض
قال فاستتروا وفى رواية أنه لما قال صلى الله عليه وسلم اتقوا بيتا يقال له الحمام فقالوا يا رسول الله إنه يذهب بالدرن وينفع المريض الوسخ ويذكر النار قال إن كنتم لا بد فاعلين فمن دخله فليستتر وهو صريح فى أن الصحابة رضى الله تعالى عنهم عرفوه فى زمنه صلى الله عليه وسلم إلا أن يقال جاز أن يكونوا عرفوه من غيرهم بهذا الوصف لهم والمنفى فى كلام هذا البعض معرفتهم له بالدخول فيه ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم بيتا يقال له الحمام وقوله صلى الله عليه وسلم ستفتح عليكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتا يقال لها الحمامات
وأما ما جاء عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم دخل حمام الجحفة فلا يرد لأنه على تقدير صحته فالمراد به أنه محل للاغتسال فيه لا بالهيئة المخصوصة وكذا لا يرد مافى معجم الطبرانى الكبير عن أبى رافع أنه قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بموضع فقال نعم موضع الحمام هذا فبنى فيه حمام لجواز أن يكون بنى ذلك بعد موته صلى الله عليه وسلم فهو من أعلام نبوته قال بعضهم ولعله قال ذلك لقبح الموضع أى فقول بعضهم ويكفى ذلك فى فضيلة الحمام ليس فى محله
وفيه أن هذا البعض لم يعول فى الفضيلة على هذا فقط بل عليه وعلى ما رواه البخارى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما الذى فيه لأنه يذهب بالدرن وينفع المريض
ولايرد أيضا مافى مسند أحمد عن أم الدرداء رضى الله تعالى عنها أنها خرجت من الحمام فلقيها رسول اله صلى الله عليه وسلم فقال لها من أين يا أم الدرداء قالت من الحمام لأن فى سنده ضعيفا ومتروكا ولأنه يجوز أن يكون المراد به أنه محل الاغتسال لا أنه المبنى على الهيئة المخصوصة كما تقدم وبه يجاب أيضا عما فى مسند الفردوس إن صح عن ابن عمر رضى اله تعالى عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما وقد خرجا من الحمام طاب حمامكما
قال ابن القم ولم يدخل المصطفى صلى الله عليه وسلم حماما قط ولعله ما رآه بعينيه هذا كلامه وعن فرقد السنجى أنه ما دخل الحمام نبى قط ويشكل عليه ماتقدم عن سليمان عليه الصلاة والسلام
واعترض بعضهم قول ابن القيم لعله صلى الله عليه وسلم مارأى الحمام بعينه بأنه صلى الله عليه وسلم دخل الشام وبها حمامات كثيرة فيبعد أنه ما رأها نعم لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم دخل شيئا منها
وفيه أنه قد يقال هو صلى الله عليه وسلم لم يدخل بلاد الشام إلا بصرى وجاز أن لا يكون بها حمام حين دخوله صلى الله عليه وسلم إليها
وفى الطبرانى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما مرفوعا شر البيوت الحمام تعلو فيه الأصوات وتكشف فيه العورات فمن دخله لا يدخله إلا مستترا ورجاله رجال الصحيح إلا شخص منهم فيه مقال وما أحسن قول الإمام الغزالى ورد نعم البيت الحمام يطهر البدن ويذهب الدرن ويذكر النار وبئس البيت الحمام يبدى العورة ويذهب الحياء فهذا تعرض لأنفه وذلك تعرض لفائدته ولا بأس بطلب الفائدة مع التحرز عن الآفة
والحاصل أن الحمام تعتريه الأحكام الخمسة فيكون واجبا وحراما ومندوبا ومكروها ومباحا والاصل فيه عندنا معاشر الشافعية الإباحة للرجال مع ستر العورة مكروه للنساء مع ستر العورة حيث لا عذر وهو محمل ما جاء من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم فلا يدخل الحمامات ومع عدم ستر العورة حرام وهو محمل ما جاء الحمام حرام على نساء أمتى
وأول من اتخذ الحمام فى القاهرة العزيز ابن المعز العبيدى أحد الفواطم قال بعضهم ليس فى شأن الحمام ما يعول عليه إلا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم فى صفة عيسى عليه الصلاة والسلام كأنما خرج من ديماس
وقال غيره أصح حديث فى هذا الباب حديث اتقوا بيتا يقال له الحمام فمن دخله فليستتر وقال ابن عمر فى وصف عيسى عليه الصلاة والسلام إنما هو آدم وحلف بالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل فى عيسى إنه أحمر وإنما قال آدم وإنما اشتبه على الراوى وأجاب الإمام النووى بأن الراوى لم يرد حقيقة الحمرة بل ما قاربها أى والحمرة المقاربة لها أى للأدمة يقال لها أدمة أى كما يقال لها حمرة فلا منافاة قال صلى الله عليه وسلم جاعد الشعر أى فى شعره تثن وتكسر
أقول ينبغى حمل جعد الذى جاء فى بعض الروايات وإذا هو بعيسى جعد على هذا ثم رأيت النووى قال قال العلماء المراد بالجعد هنا جعوده الجسم وهو اجتماعه واكتنازه وليس المراد جعودة الشعر فليتأمل والله أعلم تعلوه صهبة أى يعلو شعره
شقرة كأنه عروة بن مسعود الثقفى أى رضى الله تعالى عنه فإنه بعد انصرافه صلى الله عليه وسلم من الطائف لحق به قبل أن يدخل المدينة وأسلم ثم جاء إلى قومه ثقيف يدعوهم إلى الإسلام فقتلوه وقال صلى الله عليه وسلم فى حقه إن مثله فى قومه كصاحب يس كما سيأتى ذلك
وأما موسى عليه الصلاة والسلام فضخم آدم أى أسمر ومن ثم كان خروج يده بيضاء مخالفا لونها لسائر لون جسده آية طويل كأنه من رجال شنوءة طائفة من اليمن أى ينسبون إلى شنوءة وهو عبد الله بن كعب من أولاد الأزد لقب بذلك لشنآن كان بينه وبين اهله وقيل لأنه كان فيه شنوءة وهو التباعد من الأدناس وفى رواية كأنه من رجال أزدعمان هو أبو حى من اليمن وعمان هذه بضم العين المهملة وتخفيف الميم بلدة باليمن سميت بذلك لأنه نزلها عمان بن سنان من ولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام زأما عمان بفتح العين وتشديد الميم فيلدة بالشام سميت بذلك لأن عمان بن لوط كان سكنها وكما يقال أزدعمان يقال أزد شنوءة ورجال الأزدمعروفون بالطول
قال صلى الله عليه وسلم كثير الشعر غائر العينين متراكم الأسنان مقلص الشفتين خارج اللثة أى وهو اللحم الذى حول الأسنان عابس وأما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فوالله إنه لأشبه الناس بى خلقا وخلقا وفى رواية لم أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه يعنى نفسه صلى الله عليه وسلم فضجوا وأعظموا ذلك وصار بعضهم يصفق وبعضهم يضع يده على رأسه تعجبا فقال المطعم بن عدى إن أمرك قبل اليوم كان أمما أى يسيرا غير قولك اليوم وأنا أشهد أنك كاذب نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا شهرا ومنحدرا شهرا أتزعم أنك أتيته فى ليلة واحدة واللات والعزى لا أصدقك وما كان هذا الذى تقول قط وقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه يا مطعم بئس ماقلت لابن أخيك جبهته أى استقبلته بالمكروه وكذبته أنا أشهد أنه صادق وفى رواية حين حدثهم بذلك ارتد ناس كانوا أسلموا أى وحينئذ فقول المواهب فصدقه الصديق وكل من آمن بالله فيه نظر إلا أن يراد من ثبت على الإسلام
وفى رواية سعى رجال من المشركين إلى أبى بكر رضى الله تعالى عنه فقالوا هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس قال أوقد قال ذلك
قالوا نعم قال لئن قال ذلك لقد صدق قالوا تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح قال نعم إنى لاصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه فى خبر السماء فى غدوته أى وهى ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس وروحة أى وهى اسم للوقت من الزوال إلى الليل أى وهذا تفسير لهما بحسب الأصل وإلا فالمراد أنه ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض فى ساعة واحدة من ليل أو نهار فأصدقه فهذا أى مجىء الخبر له من السماء بواسطة الملك أبعد مما تعجبون منه أى وحينئذ يجوز أن يكون قول أبى بكر للمطعم ما تقدم كان بعد هذا القول أى قاله بعد أن اجتمع به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقود بلغته مقالته فلا مخالفة بين الروايتين وإلى إسرائه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وتحديثه قريشا بذلك أشار صاحب الهمزية بقوله ** حظى المسجد الحرام بممشا ** هـولم ينس حظه إيلياء ** ** ثم وافى يحدث الناس شكرا ** إذ أتته من ربه النعماء **
أى جميع المسجد الحرام حصل له الحظ الأوفر بممشاه صلى الله عليه وسلم فيه ففضل سائر البقاع ولم ينس حظه من ممشاه صلى الله عليه وسلم بيت المقدس بل شرفه الله تعالى بمشيه فيه أيضا ففضل على ما عدا المسجدين أى مسجد مكة ومسجد المدينة ثم وافى صلى الله عليه وسلم مكة يحدث الناس لأجل قيامه بالشكر لله تعالى أو حال كونه شاكرا له تعالى وقت أو لأجل أن أتته من ربه النعماء فى تلك الليلة
ثم قال المطعم يا محمد صف لنا بيت المقدس أراد بذلك إظهار كذبه وقيل القائل له ذلك أبو بكر قال له صفه لى فإنى قد جئته أراد بذلك إظهار صدقه صلى الله عليه وسلم لقوله فقال دخلته ليلا وخرجت منه ليلا فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فصوره فى جناحه أى جاء بصورته ومثاله فى جناحه فجعل صلى الله عليه وسلم يقول باب منه كذا فى موضع كذا وباب منه كذا فى موضع كذا وأبو بكر رضى الله تعالى عنه يقول صدقت أشهد انك رسول الله حتى أتى على أوصافه أى ومعلوم أن من ذهب بيت المقدس من قريش يصدق على ذلك أيضا
وفى رواية لما كذبتنى قريش أى وسألتنى عن اشياء تتعلق ببيت المقدس لم أثبتها أى قالوا له كم للمسجد من باب فكربت كربا شديدا لم أكرب مثله قط قمت فى الحجر
فجلى الله عزوجل لى بيت المقدس أى وجلى بتشديد اللام وربما خففت كشفه لى أى بوجود صورته ومثاله فى جناح جبريل
وفى رواية فجىء بالمسجد أى بصورته وأنا أنظر إليه حتى وضع أى بوضع محله الذى هو جناح جبريل فلا مخالفة بين الروايات وهذا من باب التمثيل ومنه رؤية الجنة والنار فى عرض الحائط لا من باب طى المسافة وزوى الأرض ورفع الحجب المانعة من الاستطراق الذى ادعى الجلال السيوطى أنه أحسن ما يحمل عليه حديث رفع بيت المقدس حتى رآه النبى صلى الله عليه وسلم بمكة حال وصفه إياه لقريش صبيحة الإسراء إذ ذلك لا يجامع مجىء صورته فى جناح جبريل وإنما قلنا إن ذلك من باب التمثيل لأن من المعلوم أن أهل بيت المقدس لم يفقدوه تلك الساعة من بلدهم فرفعه إنما هو برفع محله الذى هو جناح جبريل
ثم رأيت ابن حجر الهيتمى قال الأظهر أنه رفع بنفسه كما جىء بعرش بلقيس إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فى اسرع من طرفة عين ولك أن تتوقف فيه فان عرش بلقيس فقد بخلاف بيت المقدس وكان ذلك التجلى عند دار عقيل وتقدم أنها عند الصفا وأنها استمرت فى يد أولاد عقيل إلى أن آلت إلى يوسف أخى الحجاج وأن زبيدة أو الخيزران جعلتها مسجدا لما حجت كما تقدم وتقدم مافيه قال صلى الله عليه وسلم فطفقت أى جعلت أخبرهم عن آياته أى علاماته وأنا أنظر إليه أى وذلك قبل أن تحول الأبنية بين الحجرتلك الدار أى لقوله صلى الله عليه وسلم فقمت فى الحجر وهم يصدقونه صلى الله عليه وسلم على ذلك
ومن ثم قيل إن حكمة تخصيص الإسراء إلى المسجد الأقصى أن قريشا تعرفه فيسألونه عنه فيخبرهم بما يعرفونه مع علمهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيت المقدس قط فتقوم الحجة عليهم وكذلك وقع
وأما قول المواهب ولهذا لم يسألوه صلى الله عليه وسلم عما رأى أى فى السماء لأنهم لا عهد لهم بذلك يقتضى سياقه أنه أخبرهم بالمعراج عند إخباره لهم بالإسراء وسيأتى ما يخالفه على أنه سيأتى أنه قيل إن المعراج كان بعد الإسراء فى ليلة أخرى وقيل فى حكمة ذلك أيضا أن باب السماء الذى يقال له مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس فيحصل العروج مستويا من غير تعويج
قال الحافظ ابن حجر وفيه نظر لورود أن فى كل سماء بيتا معمورا وأن الذى فى السماء الدنيا حيال الكعبة فكان المناسب أن يصعد من مكة ليصل إلى البيت المعمور من غير تعويج هذا كلامه ويقال عليه وإن سلم ذلك لكن لم يكن الباب فى تلك الجهة فإن ثبت أن فى السماء بابا يقابل الكعبة اتجه سؤاله
قالت نبعة جارية أم هانىء فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ يا أبا بكر إن الله تعالى قد سماك الصديق أى ومن ثم كان على رضى الله تعالى عنه يحلف بالله تعالى إن الله تعالى أنزل اسم أبى بكر من السماء الصديق
وأما ما رواه إسحاق بن بشر بسنده إلى أبى ليلى الغفارى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سيكون بعدى فتنة فإذا كان ذلك فالزموا على بن أبى طالب فإنه أول من يرانى وأول من يصافحنى يوم القيامة وهو الصديق الأكبر وهو فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل وهو يعسوب المؤمنين والمال يعسوب المنافقين قال فى الاستيعاب إسحاق بن بشر لا يحتج بنقله إذا انفرد لضعفه ونكارة أحاديثه هذا كلامه وفى مسند البزار بسند ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلى بن أبى طالب أنت الصديق الأكبروأنت الفاروق الذى يفرق بين الحق والباطل
وفى رواية أن كفار قريش لما أخبرهم صلى الله عليه وسلم بالإسراء إلى بيت المقدس ووصفه لهم قالوا له ما آية ذلك يا محمد أى ما العلامة الدالة على هذا الذى أخبرت به فإنا لم نسمع بمثل هذا قط أى هل رأيت فى مسراك وطريقك ما نستدل بوجوده على صدقك أى لأن وصفك لبيت المقدس يحتمل أن تكون حفظته عمن ذهب إليه قال صلى الله عليه وسلم آية ذلك أنى مررت بعير بنى فلان بوادى كذا فأنفرهم أى أنفر عيرهم حس الدابة يعنى البراق فند لهم بعير أى شرد فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام ثم أقبلت حتى إذا كنت بمحل كذا مررت بعير بنى فلان فوجدت القوم نياما ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه وشربت مافيه ثم غطيت عليه كما كان أى وفى كلام بعضهم فعثرت الدابة يعنى البراق فقلب بحافره القدح الذى فيه الماء الذى كان يتوضأ به صاحبه فى القافلة وشرب الماء الذى للغير جائز لأنه كان عند العرب كاللبن مما يباح لكل مجتاز من أبناء السبيل على أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن له أن يأخذ ما يحتاج إليه من مالكه المحتاج إليه ويجب على مالكه حينئذ بذله وأما الجواب عن ذلك
بأنه مال حربى غير صحيح لأن هذا كان قبل مشروعية الجهاد ومع عدم مشروعيته لا يحل مال أهل الحرب كما لا يحل قتالهم لأن الواجب حينئذ مسالمتهم ولاتتم إلا بترك التعرض لأموالهم كنفوسهم قاله ابن حجر فى شرح الهمزية لكن فى قطعة التفسير للجلال المحلى فى تفسير قوله تعالى فرددناه إلى أمه كى تقر عينها أن أمه أرضعته بأجرة وساغ لها أخذها لأنها مال حربى أى من مال فرعون إلا أن يقال ذاك أى أخذ مال الكافر كان جائزا فى شريعتهم قال صلى الله عليه وسلم وآية ذلك أى علامته المصدقة لما أخبر به صلى الله عليه وسلم أن عيرهم الآن تصوب من الثنية يقدمها جمل أورق وهو ما بياضه إلى سواد وهو أطيب الإبل لحما عند العرب وأخسها عملا عندهم أي ليس بمحمود عندهم في عمله وسيره عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء أى فيها بياض وسواد كما تقدم فابتدر القوم الثنية فأول مالقيهم الجمل الأورق عليه الغرارتان فسألوهم عن الإناء وعن نفار العير وعن ند البعير وعن الشخص الذى دلهم عليه فصدقوا قوله
أقول قد علم أن العير التى نفرت وند منها البعير ودلهم عليه مر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى الشام والعير التى كان بها الإناء الذى شربه صلى الله عليه وسلم مر عليها وهو راجع إلى مكة وهى التى صوبت من الثنية وحينئنذ لا يحسن سؤال أهلها عما وقع لأهل تلك العير تصديقهم له صلى الله عليه وسلم فيما أخبر إلا أن يقال يجوز أن تكون هذه العير التى مر عليها صلى الله عليه وسلم فى العود اجتمعت فى عودها بتلك العير الذاهبة إلى الشام وأخبروهم بما ذكر والله تعالى أعلم
وفى رواية قالوا يا مطعم دعنا نسأله عما هو أغنى لنا عن بيت المقدس أى فقولهم ذلك كان بعد أن أخبرهم بيت المقدس يا محمد أخبرنا عن عيرنا أى عيراتنا الذاهبة والآتية هل لقيت منها شيئا فقال نعم أتيت على عير بنى فلان بالروحاء أى وهو محل قريب من المدينة أى بينه وبين المدينة ليلتان قد أضلوا ناقة لهم فانطلقوا فى طلبها فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد وإذا قدح ماء فشربت منه فاسألوهم عن ذلك فقالوا هذه واللات والعزى آية أى علامة
أقول وهذه العير هو التى مر صلى الله عليه وسلم عليها فى العود وهى قادمة إلى مكة وفى هذه الرواية زيادة أنهم أضلوا ناقة وتقدم فى تلك الرواية أنه صلى الله عليه
وسلم وجدهم نياما وفى هذه الرواية إنه ليس بها منهم أحد وقد يقال لا مخالفة بين الروايتين لأنه يجوز أن يكون الراوى أسقط منها هذه الزيادة وهى إضلال الناقة وأن قوله صلى الله عليه وسلم ليس بها منهم أحد أى مستيقظ بل بعضهم ذهب فى طلب تلك الناقة وبعضهم كان نائما لكن فى هذه الرواية انه صلى الله عليه وسلم مر عليها وهى بالروحاء وهو لا يناسب قوله فى تلك إنها الآن تصوب من الثنية لأن كونها تأتى من الروحاء إلى مكة فى ليلة واحدة من أبعد البعيد إلا أن يقال إن الروحاء مشتركة بين المحل المعروف المتقدم ذكره ومحل آخر قريب من مكة والله أعلم
ثم قال صلى الله عليه وسلم فانتهيت إلى عير بنى فلان فنفرت منها أى من الدابة التى هى البراق الإبل أى التى هى العير وبرك منها جمل أحمر عليه جوالق مخطط ببياض لا أدرى أكسر البعير أم لا وهذه الرواية يحتمل أنها ثالثة ويمكن أن تكون هى الأولى أسقط من تلك قوله فى هذه وبرك منها جمل إلى آخره كما أسقط من هذه قوله فى تلك فند لهم بعير
وفى رواية ثم انتهيت إلى عير بنى فلان بمكان كذا وكذا فيها جمل عليه غرارتان غرارة سوداء وغرارة بيضاء فلما حاذت العير نفرت وصرع ذلك البعير وانكسر أى وأضلوا بعير لهم قد جمعه فلان أى بدلالتى لهم عليه فسلمت عليهم فقال بعضهم هذا صوت محمد فاسألوهم عن ذلك فعلم أن هذه الرواية والتى قبلها هى الأولى غاية الأمر أن زيد فى هذه قوله فسلمت عليهم فقالوا هذه واللات والعزى آية قال صلى الله عليه وسلم ثم انتهيت إلى عير بنى فلان بالأبواء أى وهو كما تقدم غير مرة أنه محل بين مكة والمدينة يقدمها جمل أورق أى بياضه إلى سواد كما تقدم هاهى تطلع عليكم من الثنية فانطلقوا لينظروا فوجدوا الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم فقالوا صدق الوليد فيما قال أى فى قوله إنه ساحر وأنزل الله تعالى وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس وهذا يدل على أن المراد رؤيا الإسراء وأنها رؤيا العين وأنه يقال في مصدرها رؤيا كما يقال رؤية بالتاء خلافا لمن أنكر ذلك إذ لو كان رؤيا الإسراء مناما لما أنكر عليه فى ذلك أى وقيل نزلت وقد رأى النبى صلى الله عليه وسلم ولد الحكم بن أبى العاص أبى مروان وهم بنو أمية على منبره كأنهم القردة وقد ورد رأيت بنى مروان يتعاورون منبرى وفى لفظ ينزلون على منبرى نزو القردة زاد وفى رواية فما استجمع
صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى مات وأنزل الله تعالى فى ذلك وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس وفى رواية فنزل إنا أعطيناك الكوثر وفى رواية فنزل إنا أنزلناه فى ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر قال بعضهم أى خير من ألف شهر يملكها بنو أمية فإن مدة ملك بنى أمية كانت أثنتين وثمانين سنة وهى ألف أشهر وكان جميع من ولى الخلافة منهم أربعة عشر ر جلا أولهم معاوية وآخرهم مروان بن محمد
وقد قيل لبعضهم ما سبب زوال ملك بنى أمية مع كثرة العدد والعدد والأموال والموالى فقال أبعدوا أصدقائهم ثقة بهم وقربوا أعداءهم جهلا منهم فصار الصديق بالإبعاد عدوا ولم يصر العدو صديقا بالتقريب له وحديث رأيت بنى مروان إلى آخره قال الترمذى هو حديث غريب وقال غيره منكر قال صلى الله عليه وسلم ورأيت بنى العباس يتعاورون منبرى فسرنى ذلك وقيل إن هذه الآية أى آية وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس إنما نزلت فى رؤيا الحديبية حيث راى النبى صلى الله عليه وسلم أنه وأصحابه يدخلون المسجد محلقين رؤوسهم ومقصرين ولم يوجد ذلك بل صدهم المشركون وقال بعض الصحابة له صلى الله عليه وسلم ألم تقل إنك تدخل مكة آمنا قال بلى أفقلت لكم من عامى هذا قالوا لا قال فهو كما قال جبريل عليه الصلاة والسلام كما سيأتى ذلك فى قصة الحديبية
وقيل إنما نزلت هذه الآية فى رؤيا وقعة بدر حيث أراه جبريل مصارع القوم ببدر فأرى النبى صلى الله عليه وسلم الناس مصارعهم فتسامعت بذلك قريش فخروا منه أى ولا مانع من تعدد نزول هذه الآية لهذه الأمور فقد يتعدد نزول الآية لتعدد أسبابها
قال ابن حجر الهيتمى إن اتحاد النزول لا ينافى تعدد أسبابه أى وذلك ذا تقدمت الأسباب ويروى أنه عين لهم اليوم الذى تقدم فيه العير أى قالوا له متى تجىء قال لهم يأتوكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل أورق عليه مسح آدم وغرارتان فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون ذلك وقد ولى النهار ولم تجىء حتى كادت الشمس أن تغرب أى دنت للغروب فدعا الله تعالى فحبس الشمس عن الغروب حتى قدم العير أى كما وصف صلى الله عليه وسلم
أقول يجوز أن يكون هذا بالنسبة لبعض العيرات التى مر عليها فلا يخالف ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال فى بعض العيرات إنها الآن تصوب من الثنية وإلى حبس الشمس عن المغيب أشار الإمام السبكى فى تائيته بقوله ** وشمس الضحى وقت مغيبها ** فما غربت بل وافقتك بوقفة **
وجاء فى بعض الروايات أنها حبست له صلى الله عليه وسلم عن الطلوع ففى رواية أن بعضهم قال له أخبرنا عن عيرنا قال مررت بها بالتنعيم قالوا فما عدتها وأحمالها وعدة من فيها وقال تطلع عند طلوع الشمس فحبس الله تعالى الشمس عن الطلوع حتى قدمت العير
فلما خرجوا لينظروا فإذا قائل يقول هذه الشمس قد طلعت وقال آخر وهذه العير قد أقبلت فيها فلان وفلان كما أخبر محمد صلى الله عليه وسلم وعلى تقدير صحة هذه الروايات يجاب عنها بمئل ما تقدم والله أعلم وحبس الشمس وقوفها عن السير أى عن الحركة بالكلية وقيل بطء حركتها وقيل ردها إلى ورائها قالوا ولم تحبس له صلى الله عليه وسلم إلا ذلك اليوم وما قيل إنها حبست له صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن الغروب أيضا حتى صلى العصر معارض بأنه صلى الله عليه وسلم صلى العصر بعد غروب الشمس وقال شغلونا عن الصلاة الوسطى كما سيأتى ثم رأيت فى كلام بعضهم ما يؤخذ منه الجواب وهو أن وقعة الخندق كانت أياما فحبست الشمس فى بعض تلك الأيام إلى الإحمرار والاصفرار وصلى حينئذ وفى بعضها لم تحبس بل صلى بعد الغروب قال ذلك البعض ويؤيده أن راوى التأخير إلى الغروب غير راوى التأخير إلى الحمرة والصفرة
وجاء فى رواية ضعيفة أن الشمس حبست عن الغروب لداود عليه الصلاة السلام وذكرى البغوى أنها حبست كذلك لسليمان عليه الصلاة والسلام
أى فعن على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه أن الله أمر الملائكة الموكلين بالشمس حتى ردوها على سليمان حتى صلى العصر فى وقتها وهذا رد لها لا حبس لها عن غروبها الذى الكلام فيه والذى فى كلام بعضهم إنما ضرب سيدنا سليمان سوق خيله واعناقها حيث عرضها عليه عن صلاة العصر حتى كادت الشمس أن تغرب ولم يتصدق بها مبادرة
لتعظيم أمر الله تعالى بالصلاة فى وقتها لأن التصديق يحتاج إلى صرف زمن في دفعها وأخذها وحبست كذلك ليوشع ابن أخت موسى عليه الصلاة والسلام وهو ابن نون بن يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام أى وهو الذى قام بالأمر بعد موسى لأن موسى عليه الصلاة والسلام لما وعده الله تعالى أن يورثه وقومه بنى إسرائيل الأرض المقدسة التى هى أرض الشام وكان سكنها الكنعانيون الجبارون وأمر بمقاتلة أولئك الجبارين وهم العماليق سار بمن معه وهم ستمائة ألف مقاتل حتى نزل قريبا من مدينتهم أريحا فبعث إليهم اثنى عشر رجلا من كل سبط واحدا ليأتوه بخبر القوم فدخلوا المدينة فرأوا أمرا هائلا من عظم أجسادهم فقد ذكر بعضهم أنه رأى فى فجاج أى نقرة عين رجل منهم ضبعة رابضة أى جالسة هى وأولادها حولها والفجاج فى الأصل الطريق الواسع واستظل سبعون رجلا من قوم موسى فى قحف رجل منهم أى فى عظم أم رأسه وفى العرائس وكان لا يحمل عنقود عنبهم الا خمسة أنفس منهم ويدخل فى قشرة الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربعة وإن رجلا من العماليق أخذ الاثنى عشر ووضعهم فى كمه مع فاكهة كانت فيه وجاء بهم إلى ملكهم فسألهم فقالوا نحن عيون موسى فقال ارجعوا وأخبروه وفى العرائس أنه عوج بن عنق إحدى بنات آدم عليه السلام من صلبه ويقال إنها أول بغى فى الأرض
وفى العرائس أنه لما لقيهم كان على رأسه حزمة حطب وأخذ الاثنى عشر فى حجره وانطلق بهم لامرأته وقال انظرى إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها وقال لها ألا أطحنهم برجلى فقالت امرأته لا ولكن خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل ذلك فلما رجعوا أخبروا موسى عليه الصلاة والسلام فقال اكتموا خوفا من بنى إسرائيل أن يفشلوا ويرتدوا عن موسى فلم يفعلوا وأخبر كل واحد سبطه بشدة ما رآه من أمرهم الهائل ففشلوا وجنبوا عن القتال إلا رجلان لم يخبرا سبطيهما وهما يوشع بن نون من سبط يوسف وكالب بن يوقنا من سبط بنيامين وقالوا لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون فدعا عليهم وقال رب إنى لا املك إلا نفسى وأخى أى فإنه لم يبق معه موافق يثق به غير أخيه هرون وكالب ويوشع وهما المذكوران بقوله تعالى قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون لأن الله منجز وعده وإنا قد
خبرناهم فوجدنا أجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة فلا تخشوهم { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } وحينئذ يكون مراد موسى بقوله وأخى من واخاه ووافقه لا خصوص هرون ثم دعا بقوله فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين اى باعد بيننا وبينهم فضرب عليه التيه فتاهوا أى تحيروا فى ستة فراسخ من الأرض يمشون النهار كله ثم يمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا وأنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى لأنهم شغلوا عن المعاش وأبقيت عليهم ثيابهم لا تخلق ولا تتسخ وتطول مع الصغير إذا طال وظلل عليهم الغمام من الشمس ولما رأى موسى عليهم الصلاة والسلام ما بهم من التعب ندم على دعائه عليهم
وفى حياة الحيوان لما عبد بنو إسرائيل العجل أربعين يوما عوقبوا بالتيه أربعين سنة لكل يوم سنة فأوحى الله تعالى له فلا تأس أى لا تحزن على القوم الفاسقين أى الذين فسقوا أى خرجوا عن أمرك
قال في أنس الجليل وفى زمن الاسلام منزل حكام الشرطة فإنها الآن قرية من قرى بيت المقدس ثم مات وهرون بالتيه مات هرون أولا ثم موسى بعد سنتين وفى ذلك رد على من قال إن قبر هرون أخى موسى بأحدكما سيأتى وفيه رد أيضا على من يقول موسى مات قبل هرون وأنه دفنه وقيل إن هرون رأى سريرا فى بعض الكهوف فقام عليه فمات وإن بنى إسرائيل قالوا قتل موسى هرون حسدا له على محبة بنى إسرائيل له فقال لهم موسى ويحكم كان أخى ووزيرى أفترنى أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا فنزل السرير الذى قام عليه فمات حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه وعلى الأول أن موسى انطلق ببنى إسرائيل إلى قبره ودعا الله أن ينجيه فأحياه الله تعالى وأخبرهم أنه مات ولم يقتله موسى وعند ذلك قام بالأمر يوشع بن نون المذكور أى فإن موسى لما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبى وإن الله أمره بقتال الجبارين فسار بهم يوشع وقاتل الجبارين وكان يوم الجمعة ولما كاد أن يفتحها كادت الشمس أن تغرب فقال للشمس أيتها الشمس إنك مأمورة وأنا مأمور بحرمتى عليك إلا ركدت أى مكثت ساعة من النهار
وفى رواية قال اللهم احبسها على فحبسها الله تعالى حتى افتتح المدينة أى قال
ذلك خوفا من دخول السبت المحرم عليهم فيه المقاتلة وقد عبر الإمام السبكى عن حبسها ليوشع نردها فى قوله ** وردت عليك الشمس بعد مغيبها كما أنها قدما ليوشع ردت **
ولولا قوله بعد مغيبها لما أشكل وأمكن أن يراد بالرد وقوفها وعدم غروبها ومن ثم ذكر ابن كثير فى تاريخه أن فى حديث رواه الإمام أحمد وهو على شرط البخارى إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع عليه السلام ليالى سار إلى بيت المقدس وفيه دلالة على أن الذى فتح بيت المقدس هو يوشع بن نون لا موسى وأن حبس الشمس كان في فتح بيت المقدس لا في فتح أريحا هذا كلامه وهو خلاف السياق
وفى العرائس أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يمت فى التيه بل سار ببنى إسرائيل إلى أريحا وعلى مقدمته يوشع فدخل يوشع وقتل الجبارين ثم دخلها موسى عليه الصلاة والسلام ببنى إسرائيل فأقام فيها ما شاء الله ثم قبض ولا يعلم موضع قبره من الخلق أحد قال وهذا أولى الأقاويل بالصدق وأقربها إلى الحق وذكر بعد ذلك أن موسى لما حضرته الوفاة قال يا رب أدننى من الأرض المقدسة برمية حجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أنى عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر
قال ابن كثير قوله صلى الله عليه وسلم لم تحبس لبشر يدل على أن هذا من خصائص يوشع عليه الصلاة والسلام فيدل على ضعف الحديث الذى رويناه أن الشمس رجعت أى بعد مغيبها فى خيبركما سنذكره هنا حتى صلى علي بن أبى طالب العصر بعد ما فاتته بسبب نوم النبى صلى الله عليه وسلم على ركبته وهو حديث منكر ليس فى شئ من الصحاح ولا الحسان وهو مما تتوفر الدواعى على نقله وتفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها هذا كلامه وسيأتى قريبا ما فيه على أن قوله صلى الله عليه وسلم لم تحبس لبشر أى غيره صلى الله عليه وسلم وقد علمت أن الحبس لها يكون منعا لها عن مغيبها والرد لها يكون بعد مغيبها فليتأمل
وفى كلام سبط ابن الجوزى إن قيل حبسها ورجوعها مشكل لأنها لو تخلفت أو ردت لاختلت الأفلاك ولفسد النظام قلنا حبسها وردها من باب المعجزات ولا مجال للقياس فى خرق العادات
وذكر أنه وقع لبعض الوعاظ ببغداد إذ قعد يعظ بعد العصر صم أخذ فى ذكر فضائل
آل البيت فجاءت سحابة غطت الشمس فظن وظن الناس الحاضرون عنده أن الشمس غابت فأرادوا الانصراف فأشار إليهم أن لا يتحركوا ثم أدار وجهه إلى ناحية الغرب وقال ** لا تغربى يا شمس حتى ينتهى مدحى لآل المصطفى ولنجله ** **
إن كان للمولى وقوفك فليكن هذا الوقوف لولده ولنسله **
فطلعت الشمس فلا يحصى ما رمى عليه من الحلى والثياب هذا كلامه
ولما افتتحوا المدينة التى هى أريحا أصابوا بها أموالا عظيمة وكانوا أى الأمم السابقة إذا أصابوا الغنائم قربوها فتجئ النار تأكلها أى إذا لم يكن فيها غلول كما تقدم فمجئ النار وأكلها دليل على قبولها ولم تحل إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم كما سيأتى فلما أصابوا تلك الغنائم قربوها فلم تجئ إليها النار فقالوا له يا نبى الله ما لها لا تأكل قرباننا قال فيكم الغلول فدعا رأس كل سبط وصافحه فلصق كف واحد منهم فى كف يوشع عليه السلام فقال الغلول فى سبطك فقال كيف أعلم ذلك قال تصافح واحدا بعد واحد فلصقت كفه بكف واحد منهم فسئل فقال نعم رأيت رأس بقرة من ذهب عيناها من ياقوت وأسنانها من لؤلؤ فأعجبتنى فغللتها فجاء بها ووضعها فى الغنيمة فجاءت النار فأكلتها
وذكر البغوى أن الشمس حبست عن الطلوع لموسى عليه الصلاة والسلام كما حبست كذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم وكذا القمر حبس لموسى عليه الصلاة والسلام عن الطلوع له فعن عروة بن الزبير رضى الله تعالى عنه قال إن الله تعالى حين أمر موسى عليه الصلاة والسلام بالمسير ببنى إسرائيل إلى بيت المقدس أمره أن يحمل معه عظام يوسف عليه الصلاة والسلام وأن لا يخلفها بأرض مصر وأن يسير بها حتى يضعها بالأرض المقدسة أى وفاء بما أوصى به يوسف عليه الصلاة والسلام
فقد ذكر أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما أدركته الوفاة أوصى أن يحمل إلى مقابر آبائه فمنع أهل مصر أولياءه من ذلك فسأل موسى عليه الصلاة والسلام عمن يعرف موضع قبر يوسف فما وجد أحدا يعرفه إلا عجوزا من بنى إسرائيل فقالت له يا نبى الله أنا أعرف مكانه وأدلك عليه إن أنت أخرجتنى معك ولم تخلفنى بأرض مصر قال أفعل وفى لفظ إنها قالت أكون معك فى الجنة فكأنه ثقل عليه ذلك فقيل له أعطها طلبتها فأعطاها
وقد كان موسى عليه الصلاة والسلام وعدبنى إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع القمر فدعا ربه أن يؤخر طلوعه حتى يفرغ من أمر يوسف عليه الصلاة والسلام ففعل فخرجت به العجوز حتى أرته أيلة فى ناحية من النيل وفى لفظ فى مستنقعة ماء أى وتلك المستنقعة فى ناحية من النيل فقالت لهم أنضبوا عنها الماء أى ارفعوه عنها ففعلوا قالت احفروا فحفروا وأخرجوه وفى لفظ أنها انتهت به إلى عمود على شاطئ النيل أى فى ناحية منه فلا يخالفه ما سبق فى أصله سكة من حديد فيها سلسلة أى ويجوز أن يكون حفرهم الواقع فى تلك الرواية كان على إظهار تلك السكة فلا مخالفة ووجدوه فى صندوق من حديد وسط النيل فى الماء فاستخرجه موسى عليه الصلاة والسلام وهو فى صندوق من مرمر أى داخل ذلك الصندوق الذى من الحديد فاحتمله
وفى أنس الجليل أن موسى عليه الصلاة والسلام جاءه شيخ له ثلثمائة سنة فقال له يا نبى الله ما يعرف قبر يوسف إلا والدتى فقال له موسى قم معى إلى والدتك فقام الرجل ودخل منزله وأتى بقفة فيها والدته فقال لها موسى ألك علم بقبر يوسف فقالت نعم ولا أدلك على قبره إلا إن دعوت الله تعالى أن يرد على شبابى إلى سبع عشرة سنة ويزيد فى عمرى مثل ما مضى فدعا موسى لها وقال لها كم عمرك قالت له تسعمائة سنة فعاشت ألفا وثمانمائة سنة فأرته قبر يوسف وكان فى وسط نيل مصر ليمر النيل عليه فيصل إلى جميع مصر فيكونون شركاء فى بركته
وأما عود الشمس بعد غروبها فقد وقع له صلى الله عليه وسلم فى خيبر فعن أسماء بنت عميس أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ورأسه فى حجر على ولم يسر عن النبى صلى الله عليه وسلم حتى غربت الشمس وعلى لم يصل العصر أى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أصليت العصر فقال لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إنه كان فى طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس
قالت أسماء فرأيتها طلعت بعد ما غربت
قال بعضهم لا ينبغى لمن سبيله العلم أن يتخلف عن حفظ هذا الحديث لأنه من أجل أعلام النبوة وهو حديث متصل وقد ذكر فى الإمتاع أنه جاء عن أسماء من خمسة طرق وذكرها وبه يرد ما تقدم عن ابن كثير بأنه تفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها وبه يرد على ابن الجوزى حيث قال فيه إنه حديث موضوع بلا شك
لكن فى الامتاع ذكر فى خامس الطرق أن عليا اشتغل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قسمة الغنائم يوم خيبر حتى غابت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا على صليت العصر قال لا يا رسول الله فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس فى المسجد فتكلم بكلمتين أو ثلاثة كأنها من كلام الحبش فارتجعت الشمس كهيئتها فى العصر فقام على فتوضأوصلى العصر ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما تكلم به قبل ذلك فرجعت إلى مغربها فسمعت لها صريرا كالمنشار فى الخشب وذلك مخالف لسائر الطرق إلا أن هذه الطريق فيها حذف والأصل اشتغل مع النبى صلى الله عليه وسلم فى قسمة غنائم خيبر ثم وضع رأسه فى حجر على فما استيقظ حتى غابت الشمس فلا مخالفة
قال وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قبل وصوله إلى بيت المقدس ساروا حتى بلغوا أرضا ذات نخل فقال له جبريل انزل فصل هنا ففعل ثم ركب فقال أتدرى أين صليت قال لا قال صليت بطيبة وإليها المهاجرة وسيأتى ما فيه فى الكلام على الهجرة فانطلق البراق يهوى يضع حافره حيث أدرك طرفه حتى إذا بلغ أرضا فقال له جبريل انزل فصل ههنا ففعل ثم ركب فقال له جبريل أتدرى أين صليت قال لا قال صليت بمدين أى وهى قرية تلقاء غزة عند شجرة موسى سميت باسم مدين بن إباهيم لما نزلها ثم ركب فانطلق البراق يهوى به ثم قال انزل فصل ففعل ثم ركب فقال له أتدرى أين صليت قال لا قال صليت ببيت لحم أى وهى قرية تلقاء بيت المقدس حيث ولد عيسى عليه الصلاة والسلام أى وفى الهدى وقيل إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه ولا يصح عنه ذلك البتة وبينا هو يسير على البراق إذ رأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار كلما التفت رآه فقال له جبريل ألا أعلمك كلمات تقولهن إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه فقال صلى الله عليه وسلم بلى فقال جبريل قل أعوذ بوجه الله الكريم وبكلمات الله التامات التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ماذرأ فى الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن فتن الليل والنهار ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن أي فقال ذلك فانكب لفيه وطفئت شعلته ورأى حال المجاهدين في سبيل الله أى كشف له عن حالهم فى دار الجزاء بضرب مثاله فرأى قوما يزرعون فى يوم أى فى وقت ويحصدونه فى يوم
أى فى ذلك الوقت كما يرشد إليه الحال كلما حصدوا عاد كما كان فقال يا جبريل ما هذا قال هؤلاء المجاهدون فى سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف وما انفقوا من خير فهو يخلفه هذا الثانى هو المناسب لحالهم دون الأول فالأولى الاقتصار عليه إلا أن يدعى أنه صلى الله عليه وسلم شاهد الحصاد والعود العدد المذكور الذى هو سبعمائة مرة على أن المضاعفة المذكورة لا تختص بالمجاهدين فقد جاء كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا أن يقال المراد تكرر الجزاء العدد المذكور للمجاهدين أمر مؤكد لا يكاد يتخلف وفى غيرهم بخلافه
ووجد صلى الله عليه وسلم ريح ماشطة بنت فرعون ووجد داعى اليهود وداعى النصارى فأما الأول فقد رأى عن يمينه داعيا يقول يا محمد انظرنى أسالك فلم يجبه فقال ما هذا يا جبريل فقال داعى اليهود أما إنك لو أجبته لتهودت أمتك أى لتمسكوا بالتوراة والمراد غالب الأمة وأما الثانى فقد رأى عن يساره داعيا يقول يا محمد انظرنى أسألك فلم يجبه فقال ما هذا يا جبريل قال هذا داعى النصارى أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك أى لتمسكت بالإنجيل وحكمة كون داعى اليهود على اليمين وداعى النصارى على اليسار لاتخفى
ورأى صلى الله عليه وسلم حال الدنيا أى كشف له عن حالتها بضرب مثال فرأى امرأة حاسرة عن ذراعيها كأن ذلك شأن المقتص لغيره وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى أى ومعلوم أن النوع الواحد من الزينة يجذب القلوب إليه فكيف بوجود سائر أنواع الزينة فقالت يا محمد انظرنى أسألك فلم يلتفت إليها فقال من هذه يا جبريل قال تلك الدنيا أما إنك لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة ورأى عجوزا على جانب الطريق فقالت يا محمد انظرنى أسالك فلم يلتفت إليها فقال من هذه يا جبريل فقال إنه لم يبق من عمر الدنيا إلا ما بقى من عمر تلك العجوز أى فزينتها لا ينبغى الالتفات إليها لأنها على عجوز شوهاء لم يبق من عمرها إلا القليل ولينظر لم لم يقل تلك الدنيا ولم يبق من عمرها إلى آخره
وفى كلام بعضهم الدنيا قد يقال لها شابة وعجوز بمعنى يتعلق بذاتها وبمعنى يتعلق بغيرها الأول وهو حقيقة أنها من أول وجود هذا النوع الإنسانى إلى أيام إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه سبعة بعدها تسمى الدنيا شابة وفيما بعد ذلك إلى بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم كهلة ومن بعد ذلك إلى يوم القيامة تسمى عجوزا
واعترض بأن الأئمة صرحوا بأن الشباب ومقابله إنما يكون فى الحيوان ويجاب بأن الغرض من ذلك التمثيل
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يقبل الأمانة مع عجزه عن حفظها بضرب مثال فأتى على رجل قد جمع حزمة حطب عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها فقال ما هذا يا جبريل قال هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها ويريد أن يتحمل عليها
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يترك الصلاة المفروضة فى دار الجزاء فأتى على قوم ترضح رءوسهم كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شئ فقال يا جبريل ما هؤلاء قال هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة المكتوبة أى المفروضة عليهم
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يترك الزكاة الواجبة عليه ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ويأكلون الضريع وهو اليابس من الشوك والزقوم ثمر شجر مر له زفرة قيل إنه لايعرف بشجر الدنيا وإنما هو لشجرة من النار وهى المذكورة فى قوله تعالى { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم } أى منبتها فى أصل الجحيم وتقدم الكلام عليها عند الكلام على المستهزئين ويأكلون رضف جهنم أى حجاراتها المحماة لآن الرضف بالضاد المعجمة الحجارة المحماة التى يكوى بها فقال من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم المفروضة عليهم
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال الزناة بضرب مثال ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج فى قدور ولحم نئ أيضا فى قدور خبيث فجعلوا يأكلون من ذلك النئ الخبيث ويدعون النضيج الطيب فقال ما هذا يا جبريل قال هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب فيأتى امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح والمرأة تقوم من عنده زوجها حلالا طيبا فتأتى رجلا خبيثا فتبيت عنده حتى تصبح
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يقطع الطريق بضرب مثال ثم أتى على خشبة لا يمر بها ثوب ولا شئ إلا خرقته فقال ما هذه يا جبريل قال هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه وتلا ولا تقعدوا بكل صراط توعدون
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يأكل الربا أى حالته التي يكون عليها فى دار الجزاء فرأى رجلا يسبح فى نهر من دم يلقم الحجارة فقال له من هذا قال آكل الربا وقد شبهه الله تعالى فى القرآن بقوله { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أى إذا بعث الناس يوم القيامة خرجوا مسرعين من قبورهم إلا أكلة الربا فإنهم لا يقومون من قبورهم إلا مثل قيام الذى يصرعه الشيطان فكلما قاموا سقطوا على وجوههم وجنوبهم وظهورهم كما أن المصروع حاله ذلك أى فهذه حالته فى الذهاب إلى المحشر زيادة على حالته المتقدمة التى تكون فى دارالجزاء
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يعظ ولا يتعظ ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شيء فقال من هؤلاء يا جبريل فقال هؤلاء خطباء الفتنة خطباء أمتك يقولون مالا يفعلون
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال المغتابين للناس فمر على قوم لهم أظفار من نجاس يخدشون وجوههم وصدورهم فقال من هؤلاء يا جبريل فقال هؤلاء الذين يأكلون لحوم لحوم الناس ويقعون فى أعراضهم وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يتكلم بالفحش بضرب مثال فأتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث يخرج فلا يستطيع فقال ما هذا الرجل يا جبريل فقال هذا الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من أحوال الجنة فأتى على واد فوجد ريحا طيبة باردة وريح المسك وسمع صوتا فقال يا جبريل ما هذا قال هذا صوت الجنة تقول يا رب ائتنى بما وعدتنى أى لأنه يجوز أن يكون محل الجنة من السماء السابعة مقابلا لذلك الوادى
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من أحوال النار فأتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا خبيثة فقال ما هذا يا جبريل قال هذا صوت جهنم تقول يا رب ائتنى بما وعدتنى أى وليست جهنم بذلك الوادى كما سيأتى أن الوادى التى هى به هو الذى ببيت المقدس ولعل هذا الوادى مقابل لذلك الوادى وينبغى أن لا يكون هذا هو المراد بما فى الخصائص الصغرى للسيوطى
وخص صلى الله عليه وسلم باطلاعه على الجنة والنار بل المراد بذلك رؤية ذلك فى المعراج وعند وصوله صلى الله عليه وسلم إلى الوادى الذى ببيت المقدس بالنسبة للنار ورأى صلى الله عليه وسلم الدجال شبيها بعبد العزى بن قطن أى وهو ممن هلك فى الجاهلية أى قبل البعثة
ومر صلى الله عليه وسلم على شخص متنحيا على الطريق يقول هلم يا محمد قال جبريل سر يا محمد قال من هذا قال هذا عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه اه
وفى رواية لما وصلت بيت المقدس وصلت فيه ركعتين أى إماما بالأنبياء والملائكة أخذنى العطش أشد ما أخذنى فأتيت بإناءين فى إحداهما لبن وفى الأخرى عسل فهدانى الله تعالى فأخذت اللبن فشربت وبين يدى شيخ متكئ على منبر له فقال أى مخاطبا لجبريل أخذ صاحبك الفطرة إنه لمهدى فلما خرجت منه جائنى جبريل عليه الصلاة والسلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل اخترت الفطرة أى الاستقامة التى سببها الإسلام ومنه كل مولود يولد على الفطرة أى على الإسلام
وفى رواية أخرى فأتى بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها فأتى بإناء منها فيه ماء فشرب منه قليلا وفى رواية أنه لم يشرب منه شيئا وأنه قيل له لو شربت الماء أى جميعه أو بعضه لغرقت أمتك أى وفى رواية أنه سمع قائلا يقول إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته ثم رفع إليه إناء آخر فيه لبن فشرب منه حتى روى
أى وفى روايه سمع قائلا يقول إن أخذ اللبن هدى وهديت أمته ثم رفع إليه إناء فيه خمر فقيل له اشرب فقال لا أريده فقد رويت فقال له جبريل إنها ستحرم على أمتك أى بعد إباحتها لهم
وفى رواية أنه قيل له لو شربت الخمر لغويت أمتك ولم تتبعك أى لايكون على طريقتك منهم إلا قليل أى وفى رواية أنه سمع قائلا يقول إن أخذ الخمر غوى وغويت أمته
أقوم وهذه الرواية محتملة لأن تكون وهو فى بيت المقدس ولأن تكون وهو خارج عنه ومن هذا كله تعلم أنه تكرر عليه عرض اللبن والخمر داخل بيت المقدس
وخارجه ولا مانع من تكرر عرض آنيتى الخمر واللبن قبل خروجه من بيت المقدس وبعد خروجه منه قبل العروج
ولا تعارض بين الإخبار بأن إحداهما كان فيه عسل مع اللبن وبين الإخبار بأن إحداهما كان فيه خمر مع اللبن ولا بين الإخبار بإناءين والإخبار بأوانى ثلاثة لأنه يجوز أن يكون بعض الرواة اقتصر على إناءين ولا بين كون الإناء الثالث كان فيه عسل أو ماء لأنه يجوز أن يكون إحدى الأوانى الثلاثة كان فيها عسل ثم جعل فيها الماء بدل العسل أو مزج العسل به وغلب الماء على العسل أو تكون الأوانى أربعة وبعض الرواة اقتصر
وقد قال ابن كثير مجموع الأوانى أربعة فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التى تخرج من أصل سدرة المنتهى ولكن لم يسقط اللبن وفى رواية بخلاف غيره فإنه تارة ذكر معه الخمر فقط وتارة ذكر معه العسل فقط وتارة ذكر معه الماء والخمر
وعلى الاحتمال الأول يسأل عن سر عدم ذكر جبريل عليه الصلاة والسلام حكمة عدم الشرب من العسل والله أعلم
قال ومر على موسى عليه الصلاة والسلام وهو يصلى فى قبره عند الكثيب الأحمر وهو يقول برفع صوته أكرمته فضلته اه
وفى رواية سمعت صوتا وتذمرا هو بالذال المعجمة الحدة فسلم عليه فرد عليه السلام فقال يا جبريل من هذا قال هذا موسى بن عمران قال ومن يعاتب قال يعاتب ربه فيك قال أو يرفع صوته على ربه والعتاب مخاطبة فيها إدلال وهذا يدل على أن الصوت الذى سمعه كان مشتملا على عتاب وتذمر مع رفعه وفى رواية على من كان تذمره أى حدته قال على ربه قلت أعلى ربه قال جبريل إن الله عز وجل قد عرف له حدته وهذا كما علمت كان كالذى بعده قبل وصوله إلى مسجد بيت المقدس والله أعلم
وجاء وليلة أسرى بى مر بى جبريل على قبر أبى إبراهيم فقال انزل فصل ركعتين قال ومر على شجرة تحتها شيخ وعياله فقال ومن هذا فقال هذا أبوك إبراهيم عليه الصلاة والسلام فسلم عليه فرد عليه السلام فقال من هذا الذى معك يا جبريل فقال هذا ابنك أحمد قال مرحبا بالنبى العربى الأمى ودعا له بالبركة أى فموسى
عرفه فلم يسأل عنه وإبراهيم لم يعرفه فسأل عنه لكن فى السيرة الهاشمية أن موسى سأل عنه أيضا فقال من هذا يا جبريل فقال هذا أحمد فقال مرحبا بالنبى العربى الذى نصح أمته ودعا له بالبركة وقال اسأل لأمتك اليسير والظاهر أن قبر إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان تحت تلك الشجرة أو قريبا منها فلا مخالفة بين الروايتين
وسار صلى الله عليه وسلم حتى أتى الوادى الذى فى بيت المقدس فإذا جهنم تنكشف عن مثل الزرابى أى وهى النمارق أى الوسائد فقيل يا رسول الله كيف وجدتها قال مثل الحممة أى الفحمة اه
قال صلى الله عليه وسلم ثم عرج بنا إلى السماء أى من الصخرة كما تقدم أى على المعراج بكسر الميم وفتحها الذى تعرج أرواح بنى آدم فيه وهو كما فى بعض الروايات سلم له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب أى عشر مراقى وهو المراد بقول بعضهم وكانت المعاريج ليلة الإسراء عشرة سبع إلى السماوات والثامن إلى سدرة المنتهى والتاسع إلى المستوى والعاشر إلى العرش والرفرف أى فأطلق على كل مرقاة معراجا وهذا المعراج لم ير الخلائق أحسن منه أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحا إلى السماء أى بعد خروج روحه فإن ذلك عجبه بالمعراج الذى نصب لروحه لتعرج عليه وذلك شامل للمؤمن والكافر إلا أن المؤمن يفتح لروحه إلى السماء دون الكافر فترد بعد عروجها تحسيرا وندامة وتبكيتا له وذلك المعراج أتى به من جنة الفردوس وإنه منضد بالؤلؤ أى جعل فيه اللؤلؤ بعضه على بعض عن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة فصعد هو وجبريل عليهما الصلاة والسلام قال الحافظ ابن كثير ولم يكن صعوده على البراق كما توهمه بعض الناس أي ومنهم صاحب الهمزية كما يأتي عنه حتى انتهى إلى باب من أبواب سماء الدنيا أى ويقال له باب الحفظة عليه ملك يقال له إسمعيل أى وهذا يسكن الهواء لم يصعد إلى السماء قط ولم يهبط إلى الأرض قط إلا مع ملك الموت لما نزل لقبض روحه الشريفة وتحت يده اثنا عشر ألف ملك
أى وفى رواية أن تحت يده سبعين ألف ملك تحت يد كل ملك سبعون ألف ملك فاستفتح جبريل فقيل من أنت وفى رواية فضرب بابا من أبوبها فناداه أهل سماء الدنيا أى حفظتها من هذا قال جبريل فقيل ومن معك أى فإنهم رأوهما ولم يعرفوهما ولعل جبريل لم يكن على الصورة التى يعرفونه بها قال محمد وفى رواية قال معك
أحد يجوز أن يكون هذا القائل لم يرهما ويكون الرائى له معظم الحفظة قال نعم معى محمد قيل وقد بعث إليه أى للإسراء والعروج أى لأنه كان عندهم علم بأنه سيعرج به إلى السموات بعد الإسراء به إلى بيت المقدس وإلا فبعثه صلى الله عليه وسلم ورسالته إلى الخلق يبعد أن تخفى على أولئك الملائكة إلى هذه المدة وأيضا لو كان هذا مرادهم لقالوا أو قد بعث ولم يقولوا إليه
فإن قيل قد جاء فى حديث أنس إن ملائكة سماء الدنيا قالت لجبريل أو قد بعث قلنا تقدم أن حديث أنس كان قبل أن يوحى إليه وأنه كان مناما لا يقظة قال السهيلى ولم نجد فى رواية من الروايات أن الملائكة قالوا وقد بعث إلا فى هذا الحديث
وفى رواية بدل بعث إليه أرسل إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا قال صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بآدم فرحب بى ودعا لى بخير
واختلف فى لفظ آدم فقيل أعجمى ومن ثم منع الصرف وقيل عربى لأنه مشتق من الأدمة التى هى السمرة والمراد بها هنا لون بين البياض والحمرة حتى لا ينافى كونه أحسن الناس أو هو مشتق من أديم الأرض أى وجهها لأنه مخلوق منه وعلى أنه عربى يكون منع صرفه للعلمية ووزن الفعل
وفي رواية تعرض عليه أرواح بنيه فيسر بمؤمنها أي عند رؤيته ويعبس بوجهه عند رؤية كافرها
قال وفى رواية فإذا فيها آدم كيوم خلقه الله تعالى على صورته أى على غاية من الحسن والجمال فإذا هو تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول روح طيبة ونفس طيبة خرجت من جسد طيب اجعلوها فى عليين وتعرض عليه أرواح ذريته الكفار فيقول روح خبيثة ونفس خبيثة خرجت من جسد خبيث اجعلوها فى سجين
أقول وهذا وإن اقتضى كون أرواح العصاة من المؤمنين فى عليين كأرواح الطائفين منهم لكن لا يقتضى تساويهما فى الدرجة كما لا يخفى
وفى رواية تعرض عليه أعمال ذريته وهو إما على حذف المضاف أى صحف أعمالهم التى وقعت منهم وهى التى فى صحف الحفظة أو التى ستقع منهم وهى ما فى صحف الملائكة غير الحفظة أو تعرض عليه نفس أعمال تجسمت لما سيأتى أن المعانى تجسم ففى كل من الروايتين اقتصار والله أعلم
وفى رواية سندها ضعف كما قاله الحافظ ابن حجر وعن يمينه أسودة وباب يخرج منه ريح طيبة وعن شماله أسودة وباب يخرج منه ريح خبيثة فإذا نظر عن يمينه أى إلى تلك الأسودة ضحك واستبشر وإذا نظر عن شماله أى إلى تلك الأسودة حزن وبكى فسلم عليه صلى الله عليه وسلم فقال مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح فقال النبى صلى الله عليه وسلم من هذا فقال هذا أبوك آدم أى وزاد فى الجواب قوله وهذه الأسودة نسم أى أرواح بنيه فأهل اليمين أهل الجنة وأهل الشمال أهل النار فإذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر وإذا نظر عن شماله حزن وبكى وزاد فى الجواب أيضا قوله وهذا الباب الذى عن يمينه باب الجنة إذا نظر من سيدخله من ذريته ضحك واستبشر والباب الذي عن شماله باب جهنم إذا نظر من سيدخله من ذريته حزن وبكى اه أى إذا نظر إلى أرواح من سيدخلهما وفيه أن الجنة فوق السماء السابعة والنار فى الأرض السابعة وهى محيطة بالدنيا فكيف يكون بابهما فى السماء الدنيا وأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء كما تقدم
وأجيب عن الثانى بأن عرضها أى أرواح ذريته الكفار عليه نظرة إليها وهى دون السماء لأنها شفافة أو من ذلك الباب أى وكونها عن يساره الذى أخبر به صلى الله عليه وسلم أى فى جهة يساره
ويجاب عن الأول بأن الباب الذى على يمينه يجوز أن يكون محاذيا لموضع الجنة من السماء السابعة ولهذا قيل له باب الجنة وكذا يقال فى باب جهنم لأن الإضافة تأتى لأدنى ملابسة وبما أجبنا به عن كون أرواح ذريته الكفار عن جهة يساره يعلم أنه لا حاجة فى الجواب عن ذلك إلى قول الحافظ ابن حجر ويحتمل أن يقال إن النسم المرئية هى الأرواح التى لم تدخل الأجساد بعد أى الآن ومستقرها عن يمين آدم وشماله وقد أعلم بما سيصيرون إليه بناء على أن الأرواح مخلوقة قبل أجسادها على أنه لا يناسب قوله روح طيبة ونفس طيبة خرجت من جسد طيب إلى آخره
ولا حاجة لما نقل عن القرطبى فى الجواب عن ذلك من أن الكفار التى لا يفتح لها أبواب السماء المشركون دون الكفار من أهل الكتاب فيجوز أن تكون تلك الأسودة أرواح كفار أهل الكتاب إذ هو يقتضى أن المراد بأرواح بنيه فى الرويتين السابقتين الأرواح التى خرجت من أجسادها
قال صلى الله عليه وسلم ورأيت رجالا لهم مشافر كمشافرالإبل أى كشفاه الإبل أى وفى أيديهم قطع من نار كالأفهار أى الحجارة التى كل واحد منها ملء الكف يقذفونها فى أفواههم تخرج من أدبارهم قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما وهؤلاء لم تتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم فى الارض أى ولعل المراد بالرجال الأشخاص أو خصوا بذلك لأنهم أولياء الأيتام غالبا قال صلى الله عليه وسلم ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط وفى رواية أمثال البيوت زاد فى رواية فيها حيات ترى من خارج البطون بسبيل أى طريق آل فرعون يمرون عليهم كالإبل المهيومة حين يعرضون على النار ولا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك أى فتطؤهم آل فرعون الموصوفون بما ذكر المقتضى لشدة وطئهم لهم والمهيومة التى أصابها الهيام وهو داء ياخذ الإبل فتهيم فى الأرض ولا ترعى وفى كلام السهيلى الإبل المهيومة العطاش والهيام شدة العطش أى وفى رواية كلما نهض أحدهم خر أى سقط قال قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة الربا وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم فى الأرض لا بهذا الوصف بل إن الواحد منهم يسبح فى نهر من دم يلقم الحجارة أى ولا مانع من اجتماع الوصفين لهم أى فيخرجون من ذلك النهر ويلقون فى طريق من ذكر وهكذا عذابهم دائما
قال صلى الله عليه وسلم ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم خبيث منتن يأكلون من الغث أى الخبيث المنتن ويتركون السمين الطيب قال قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن أى وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم أي الرجال والنساء في الأرض بنحو هذا الوصف
وفي رواية رأى أخونة عليها لحم طيب ليس عليها أحد وأخرى عليها لحم منتن عليها ناس يأكلون قال جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام أي من الأموال أعم مما قبله أي وهؤلاء لم تتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم فى الأرض
قال صلى الله عليه وسلم ثم رأيت نساء متعلقات بثديهن فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء اللاتى أدخلن على الرجال ما ليس من أولادهم أى بسبب زناهن أى وهؤلاء لم يتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهن فى الأرض والذى تقدم رؤيته لهن الزانيات لا بهذا القيد وهو إدخالهن على أزواجهن ما ليس من أولادهم على أنه يجوز أن يكون المراد مطلق الزانيات لأن الزنا سبب فى حصول ما ذكر غالبا ولا مانع من اجتماع الوصفين لهن
قال ثم مضى هنيهة فإذا هو بأقوام يقطع اللحم من جنوبهم فيلقمونه فيقال له أى لكل واحد منهم كل كما كنت تأكل لحم أخيك قال يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون أى المغتابون للناس النمامون لهم اه أى وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم للمغتابين فى الأرض بغير هذا الوصف أى وروى أنه صلى الله عليه وسلم رأى فى هذه السماء النيل والفرات يطردان أن يجريان وعنصرهما أى أصلهما وهو يخالف ما يأتى أنه صلى الله عليه وسلم رأى في أصل سدرة المنتهى أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران وأن الظاهرين النيل والفرات
وأجيب بأنه يجوز أن يكون منبعهما من تحت سدرة المنتهى ومقرهما وهو المراد بعنصرهما الذى هو أصلهما فى السماء الدنيا أى بعد مرورهما فى الجنة ومن سماء الدنيا ينزلان إلى الأرض فقد جاء فى تفسير قوله تعالى { وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض } أنهما النيل الفرات أنزلا من الجنة من أسفل درجة منها على جناح جبريل عليه الصلاة والسلام فأودعهما بطون الجبال ثم إن الله سبحانه وتعالى سير فعهما ويذهب بهما عند رفع القرآن وذهاب الإيمان وذلك قوله تعالى وإنا على ذهاب به لقادرون وذكره السهيلى وفى زيادة الجامع الصغير أن النيل ليخرج من الجنة ولو التمستم فيه حين يسبح لوجدتم فيه من ورقها
قال صلى الله عليه وسلم ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل عليه الصلاة والسلام فقيل من أنت قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل قد بعث إليه قال نعم قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابنى الخالة عيسى ابن مريم ويحيى ابن زكريا صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما أى شبيه أحدهما بصاحبه ثيابهما وشعرهما ومعهما نفر من قومهما فرحبا بى ودعوا لى بخير وفى بعض الروايات التى حكم عليها بالشذوذ أنهما فى السماء الثالثة وقد ذكرها الجلال السيوطى فى أوائل الجامع الصغير وذكر بعضهم أنها رواية الشيخين عن أنس والشذوذ لا ينافى الصحة المطلقة
======================
============ج6. كتاب:السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون
المؤلف:علي بن برهان الدين الحلبي
فقد قال سيخ الإسلام فى شرح ألفية العراقى عند قوله من غير ما شذوذ خرج الشاذ وهو ما خالف فيه الراوى من هو أرجح منه ولا يرد عليه الشاذ الصحيح عند بعضهم لأن التعريف للصحيح المجمع على صحته لا مطلقا هذا كلامه
وفى كلام السخاوى نقلا عن شيخه ابن حجر أن من تأمل الصحيحين وجد فيهما أمثلة من ذلك أى من الصحيح الموصوف بالشذوذ
أقول وكونهما ابنى الخالة أى أن أم كل خالة الآخر هو المشهور وعليه قال ابن السكيت يقال ابنا خالة ولا يقال ابنا عمة ويقال ابنا عم ولا يقال ابنا خال لكن فى عيون المعارف للقضاعى أن يحيى إنما هو ابن خالة مريم أم عيسى لا ابن خالة عيسى لأن أم يحيى أخت أم مريم لا أخت مريم
وكذا فى كلام ابن إسحاق أن عمران وزكريا كلاهما من ذرية سليمان عليهم الصلاة والسلام وأنهما تزوجا أختين فزوجة زكريا ولدت يحيى قبل عيسى بستة أشهر ثم ولدت مريم عيسى وزوجة عمران ولدت مريم فأم يحيى أخت أم مريم فعيسى ابن بنت خالة يحيى وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بابنى الخالة على التجوز وكذا قول عيسى ليحيى يا ابن الخالة كما فى تفسير التسترى على التجوز
ففيه حكى عن يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام أنهما خرجا يمشيان فصدم يحيى امرأة فقال له عيسى يا ابن الخالة لقد أخطأت اليوم خطيئة ما أرى الله عز وجل يغفرها لك قال وما هى قال صدمت امرأة قال والله ما شعرت بها قال عيسى سبحان الله بدنك معى فأين قلبك قال معلق بالعرش ولو أن قلبى اطمأن إلى جبريل صلوات الله وسلامه عليه طرفة عين لظننت أنى ما عرفت الله عز وجل ووجه التجوز أنه أطلق على بنت الأخت لفظ الأخت وقال بعضهم وهو كثير شائع فى كلامهم
ثم رأيت المولى أبا السعود ذكر ما يجمع به بين القولين وهو أنه قيل إن أم يحيى أخت أم مريم من الأم وأخت مريم من الأب فليتأمل تصويره بناء على تحريم نكاح المحارم لأن أم مريم حينئذ بنت موطوءة أبيها لأنها ربيبته إلا أن يكون فى شريعتهم جواز ذلك
ثم رأيت بعضهم ذكر ذلك حيث قال لا يبعد أن عمران تزوج أولا أم حنة فولدت
أشياع أى التى هى أم يحيى ثم تزوج حنة بعد ذلك التى هى ربيبته بنت موطوءته فجاء منها بمريم بناء على جواز ذلك فى شريعتهم
وفيه أنه تقدم أن نوحا عليه الصلاة والسلام بعث بتحريم نكاح المحارم إلا أن يقال المراد محارم النسب دون المصاهرة ولم يسم أحد يحيى بعد يحيى هذا إلا يحيى بن خلاد الأنصارى جيء به للنبى صلى الله عليه وسلم يوم ولد فحنكه بتمرة وقال لأسمينه باسم لم يسم به بعد يحيى بن زكريا فسماه يحيى
ومما يدل على شرف سيدنا يحيى بن زكريا ما فى الكشاف عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما كنا فى المسجد نتذاكر فضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فذكرنا نوحا بطول عبادته وإبراهيم بخلته وموسى بتكليم الله تعالى إياه وعيسى برفعته إلى السماء وقلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منهم بعث إلى الناس كافة وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو خاتم الأنبياء أى فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيم أنتم فذكرنا له فقال لا ينبغى لأحد أن يكون خيرا من يحيى بن زكريا فذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولا هم بها أى ففى الحديث مامن أحد إلا ويلقى الله عز وجل وقد هم بمعصية عملها إلا يحيى بن زكريا فإنه لم يهم بها ولم يعملها فليتأمل ما فى ذلك
وقد ذكر أن والد زكريا لامه على كثرة العبادة والبكاء فقال له أنت أمرتنى بذلك يا أبت ألست أنت القائل إن بين الجنة والنار عقبة لا يجوزها إلا البكاءون من خشية الله عز وجل فقال بلى فجد واجتهد
وقد جاء فى الحديث أن يحيى هو الذى يذبح الموت يوم القيامة يضجعه ويذبحه بشعرة تكون فى يده والناس ينظرون إليه أى فإن الموت يكون فى صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ويقال لأهلهما أتعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت أى يلقى الله عز وجل معرفته فى قلوبهم وتجسم المعانى جاء به الحديث الصحيح
على أنه جاء فى تفسير قوله تعالى خلق الموت والحياة أن الموت فى صورة كبش لايمر على أحد إلا مات وخلق الحياة فى صورة فرس لا يمر على شيء إلا حيى وهو بدل على أن الموت جسم وأن الميت يشاهد حلول الموت به
وقيل الذى يذبح الموت جبريل عليه الصلاة والسلام وقيل إن فى هذه السماء الثانية إدريس وهو قول شاذ وقيل يوسف جاءت به رواية ذكرها الجلال السيوطى فى أوائل
والجامع الصغير وذكر فيها أن ابنى الخالة فى السماء الثالثة كما تقدم وتقدم أن بعضهم ذكر أنها رواية الشيخين عن أنس
قال أبو حيان وعيسى لفظ أعجمى والظاهر أن مثله يحيى هذا كلامه وفى كلام غيره أن يحيى عربى ومنع صرفه العلمية ووزن الفعل
وقيل فى عيسى إنه عربى مشتق من العيس وهو بياض يخالطه صفرة وعلى أنه أعجمى قيل عبرانى وقيل سريانى
ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم أى ومعه نفر من قومه وإذا هو أعطى شطر الحسن أى وفى رواية صورته صورة القمر ليلة البدر والمراد بشطر الحسن نصف الحسن الذى أعطيه الناس
وفى الحديث أعطى يوسف وأمه ثلث حسن الدنيا وأعطى الناس الثلثين ويحتاج للجمع بينها وبين ما جاء فى رواية قسم الله ليوسف من الحسن والجمال ثلثى حسن الخلق وقسم بين سائر الخلق الثلث وعن وهب بن منبه الحسن عشرة أجزاء تسعة منها ليوسف وواحد منها بين الناس
وفى كلام بعضهم كان فضل يوسف فى الحسن على الناس كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء وكان إذا سار فى أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يتلألأ نور الشمس وضوء القمر على الجدران والمراد بالناس غير نبينا صلى الله عليه وسلم لأن حسن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يشارك فى شئ منه كما أشار إليه صاحب البردة بقوله فجوهر الحسن فيه غير منقسم خلافا لابن المنير حيث ادعى أن يوسف أعطى شطر الحسن الذى أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم وتبعه على ذلك شارح تائية الإمام السبكى
وعبارته فإذا هو أى يوسف عليه الصلاة والسلام أعطى شطر الحسن الذى أعطيه كله صلى الله عليه وسلم
هذا وقد قيل إن يوسف ورث الحسن من إسحاق الذى هو جده وإسحاق ورث الحسن من سارة التى هى أمه وسارة أعطيت سدس الحسن ورثت ذلك من حواء
أى وفى رواية وصف يوسف وإنه أحسن ما خلق الله تعالى قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب أى كفضل القمر ليلة البدر على بقية الكواكب الليلية والمراد بخلق الله تعالى وبالناس غير نبينا صلى الله عليه وسلم لما علمت أنه أعطى شطر الحسن الذى لغير نبينا صلى الله عليه وسلم ولأن المتكلم لا يدخل فى عموم خطابه على ما فيه
وقد جاء إن يوسف أعطى نصف حسن آدم وفى رواية ثلث حسن آدم وقد جاء كان يوسف يشبه آدم يوم خلقه ربه
وفى الخصائص الصغرى للسيوطى وخص بأنه صلى الله عليه وسلم أوتى كل الحسن ولم يعط يوسف إلا شطره فلينظر الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها
وقد حاء ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه وحسن الصوت وكان نبيكم أحسنهم وجها أحسنهم صوتا
قال فرحب بى ودعا لى بخير وفى بعض الروايات إن فى هذه السماء الثالثة ابنى الخالة يحيى وعيسى كما مر ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بى ودعا لى بخير وفى رواية قال مرحبا بالأخ الصالح
وفي رواية قتادة مرحبا بالابن الصالح قال بعضهم وهو القياس لأنه جده الأعلى لأنه من ولد شيث بينه وبين شيث أربعة آباء أرسل بعد موت آدم بمائتي سنة وهو أول من أعطى الرسالة من ولد آدم وهو يقتضي أن شيئا لم يكن رسولا ونوح من ولده بينه وبينه ابنان فإدريس في عمود نسبه صلى الله عليه وسلم وحينئذ قوله بالأخ الصالح فى تلك الرواية محمول على التواضع منه خلافا لمن تمسك بذلك
على أن إدريس ليس جدا لنوح ولا هو من آباء النبى صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل ورفعناه مكانا عليا أى حال حياته لأنه رفع إلى السماء قيل من مصر بعد أن خرج منها وجار الأرض كلها وعاد إليها ودعا الخلائق إلى الله تعالى باثنتين وسبعين لغة خاطب كل قوم بلغتهم وعلمهم العلوم
وهو أول من استخرج علم النجوم أى علم الحوادث التى تكون فى الأرض باقتران الكواكب
قال الشيخ محيى الدين بن العربى وهو علم صحيح لا يخطيء فى نفسه وإنما الناظر فى ذلك هو الذى يخطيء لعدم استيفاء النظر ودعوى إدريس عليه السلام الخلائق يدل على أنه كان رسولا وفى كلام الشيخ محيى الدين لم يجئ نص فى القرأن برسالة إدريس بل قيل فيه صديقا نبيا
وأول شخص افتتحت به الرسالة نوح عليه الصلاة والسلام ومن كانوا قبله إنما كانوا أنبياء كل واحد على شريعة من ربه فمن شاء دخل معه فى شرعه ومن شاء لم يدخل فمن دخل ثم رجع كان كافرا
ومما يؤثر عنه عليه الصلاة والسلام حب الدنيا والآخرة لايجتمعان فى قلب أبدا الناس اثنان طالب لايجد وواجد لا يكتفى من ذكر عار الفضيحة هان عليه لذتها خير الإخوان من نسى ذنبك ومعروفه عندك وقد قبضت روحه فى هذه السماء الرابعة فصلت عليه الملائكة ومدفنه بها تصلى عليه الملائكة كلما هبطت وحينئذ لا يقال من كان فى السماء الخامسة والسادسة والسابعة أرفع منه على أنه قيل لما مات أحياه الله تعالى وأدخله الجنة وهو فيها الآن أي غالب أحواله في الجنة فلا ينافي وجوده في السماء المذكورة فى تلك الليلة لأنها الجنة أرفع من السموات لأنها فوق السماء السابعة ولا ما جاء فى الحديث أنه فى السماء حى كعيسى عليهما الصلاة والسلام وفى بعض الروايات أن فى هذه السماء الرابعة هرون
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهرون أى ونصف لحيته بيضاء ونصف لحيته سوداء تكاد تضرب إلى سرته من طولها وحوله قوم من بنى إسرائيل وهو يقص عليهم فرحب بى ودعالى بخير أى وفى رواية فقال يا جبريل من هذا قال هذا الرجل المحبب فى قومه هرون بن عمران أى لأنه كان ألين لهم من موسى عليه الصلاة والسلام لإن موسى عليه الصلاة والسلام كان فيه بعض الشدة عليهم ومن ثم كان له منهم بعض الإيذاء
ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل
ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى صلى الله عليه وسلم فرحب بى ودعا لى بخير أى وفى رواية جعل يمر بالنبى والنبيين معهم القوم والنبى والنبيين ليس معهم أحد ثم مر بسواد عظيم فقال من هذا قيل موسى وقومه المناسب هذا قوم موسى كما لا يخفى لكن ارفع رأسك فإذا هو بسواد عظيم قد سد الأفق من ذا الجانب ومن ذا الجانب فقيل هؤلاء أمتك هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب أى منهم بدليل ما جاء فى رواية قيل لى هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وهم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقال عكاشة بن محصن أنا منهم قال نعم ثم قال رجل آخر أنا منهم قال صلى الله عليه وسلم سبقك بها عكاشة لأن هذا الرجل كان منافقا فلم يقل له صلى الله عليه وسلم لست منهم لأنك منافقا بل أجابه بما فيه ستر عليه والقول بأن ذلك الرجل هو سعد بن عبادة مردود وهذا تمثيل أى مثل له صلى الله عليه وسلم أمته أى وأمة موسى أيضا إذ يبعد وجودها حقيقة فى السماء السادسة وهذا السياق يدل على أن الذى مر بهم من النبى والنبيين فى السماء السادسة فلما خلصا أى جاوزا ما ذكر من النبى والنبيين والسواد العظيم فإذا موسى بن عمران رجل آدم طوال كأنه من رجال شنوءة كثير الشعر أى مع صلابته لو كان عليه قمصان لنفذ الشعر منهما أى وكان إذا غضب يخرج شعر من رأسه من قلنسوته وربما اشعتلت قلنيونه نارا لشدة غضبه
وفى كلام بعضهم كان إذا غضب خرج شعره من مدرعته كسل النخل ولشدة غضبه لما فر الحجر بثوبه صار يضربه حتى ضربه ست ضربات أو سبعا مع أنه لا إدراك له ووجه بأنه لما فر صار كالدابة والدابة إذا جمحت بصاحبها يؤدبها بالضرب فسلم عليه النبى صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام ثم قال مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح ثم دعا له ولأمته بخير وقال يزعم الناس أنى أكرم على الله من هذا بل هذا أكرم على الله منى فلما جاوزه بكن فقيل له ما يبكيك فقال أبكى لأن غلاما بعث بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل الجنة من أمتى أى وبل من سائر الأمم
فقد ذكر الجلال السيوطى فى الخصائص الصغرى أن مما اختص به صلى الله عليه وسلم
فى أمته فى الآخرة أن أهل الجنة أى من الأمم مائة وعشرون صفا هذه الأمة منها ثمانون وسائر الأمم أربعون
وجاء فى المرفوع كل أمة بعضها فى الجنة وبعضها فى النار إلا هذه الأمة فإنها كلها فى الجنة
وفى العرائس عن أبى هريرة رضى الله عنه لما كلم الله عز وجل موسى كان بعد ذلك سيمع دبيب النملة السوداء فى الليلة الظلماء على الصفا من مسيرة عشرة فراسخ
وفى الحديث ليس أحد يدخل الجنة إلا جرد مرد إلا موسى بن عمران فإن لحيته إلى سرته ثم عرج بنا إلى السماء السابعة واسمها عريبا واسم الأرض السابعة جريبا
روى الخطيب بإسناد صحيح أن وهب بن منبه قال من قرأ البقرة وأل عمران يوم الجمعة كان له ثواب يملأ ما بين عريبا وجريبا فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال نعم قد بعث إليه ففتح لنا فإذا بإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أى رجل أشمط وفى لفظ كهل ولا ينافى ذلك ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم فى وصفه إنه أشبه بصاحبكم يعنى نفسه صلى الله عليه وسلم خلقا وخلقا جالس عند باب الجنة أى فى جهتها كما تقدم وإلا فالجنة فوق السماء السابعة على كرسى مسندا ظهره إلى البيت المعمور أى وهو من عقيق ويقال له الضراح بضم الضاد المعجمة وتخفيف الراء وفى آخره حاء مهملة من ضرح إذا بعد ومنه الضريح
أى وفى كلام الحافظ ابن حجر يقال له الضراح والضريح وجاء إنه مسجد بحذاء الكعبة لو خر لخر عليها أى فهو فى تلك السماء فى محل يحاذى الكعبة أى وقيل فى السماء الرابعة وبه جزم فى القاموس وقيل فى السادسة وقيل فى الأولى وتقدم أن فى كل سماء بيتا معمورا وأن كل بيت منها بحيال الكعبة وإذا هو يدخله كل يوم ألف ملك لا يعودون إليه
أقول عن بعضهم أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك وفى رواية سبعون وجيها مع كل وجيه سبعون ألف ملك والوجيه الرئيس ولعله صلى الله عليه وسلم علم ذلك بإعلام جبريل وإلا فرؤيته صلى الله عليه وسلم له تلك الليلة لا تقتضى ذلك
ثم رأيت الشيخ عبدالوهاب الشعرانى أشار إلى ذلك حيث قال وسما له البيت المعمور فنظر إليه وركع فيه ركعتين وعرفه أي جبريل أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك من الباب الواحد ويخرجون من الباب الآخر فالدخول من باب مطالع الكواكب والخروج من باب مغاربها والظاهر أن دخول هؤلاء الملائكة خاص بالذى فى السماء السابعة
وقال السهيلى وقد ثبت فى الصحيح أن أطفال المؤمنين والكافرين فى كفالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل حين رأهم مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أولاد المؤمنين الذين يموتون صغارا قال له وأولاد الكافرين قال له وأولاد الكافرين خرجه البخارى فى الحديث الطويل فى كتاب الجنائز وخرجه فى موضع آخر فقال فيه أولاد الناس
وقد روى فى أطفال الكافرين أيضا أنهم خدم أهل الجنة هذا كلامه وجاء فى حديث مرفوع لكن سنده ضعيف إن فى السماء الرابعة نهرا يقال له الحيوان يدخله جبريل كل يوم أى سحرا كما فى بعض الروايات فينغمس ثم يخرج فينتقض فيخرج منه سبعون ألف قطرة يخلق الله تعالى من كل قطرة ملكا وفى لفظ يخلق الله عز وجل من كل قطرة كذا وكذا ألف ملك يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور يصلون فيه فهم الذين يصلون في البيت المعمور ثم لا يعودون إليه أبدا يولى عليهم أحدهم يؤمر أن يقف بهم فى السماء موقفا يسبحون الله عز وجل إلى أن تقوم الساعة وذكر الشيخ عبد الوهاب الشعرانى أن جبريل أخبره بذلك فى تلك الليلة والله أعلم وفى رواية وإذا أنا بأمتى شطرين شطرا عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس وشطرا عليهم ثياب رمدة فدخلت البيت المعمور ودخل معى الذين عليهم الثياب البيض وحجب الآخرون الذين عليهم الثياب الرمدة فصليت أنا ومن معى فى البيت المعمور أى والظاهر أنه ليس المراد بالشطر النصف حتى يكون العصاة من أمته بقدر الطائعين منهم وإن الصلاة محتملة للدعاء ولذات الركوع والسجود ويناسبه ما تقدم من قوله ركعتين وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال له يا نبى الله إنك لاق ربك الليلة وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها فإن استطعت أن تكون حاجتك فى أمتك فافعل
وفى السيرة الشامية أن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال له صلى الله عليه وسلم
ذلك فى الأرض قبل وصول بيت المقدس وقال له هنا مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة فقال له وما غراس الجنة فقال لا حول ولا قوة إلا بالله وفى رواية أخرى أقرئ أمتك منى السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
وقد يقال لا مخالفة بين الروايتين لأنه يجوز أن يكون غراس الجنة مجموع ما ذكر وأن بعض الرواة اقتصر
قال صلى الله عليه وسلم واستقبلتنى جارية لعساء وقد أعجبتنى فقلت لها يا جارية أنت لمن قالت لزيد بن حارثة أى ولعل تلك الجارية خرجت من الجنة فيكون استقبالها له صلى الله عليه وسلم بعد مجاوزة السماء السابعة لكن فى رواية فرأيت فيها أى فى الجنة جارية الحديث
وقد يقال يجوز أن يكون رأها مرتين خارج الجنة وداخلها فيكون سؤالها فى المرة الأولى واللعس لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا وذلك مستملح قاله فى الصحاح
وفى رواية فلما انتهى إلى السماء السابعة رأى فوقه رعدا وبرقا وصواعق أى وهذه الرواية ظاهرة فى أنه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك فى السماء السابعة محتملة لأن يكون رآه قبل دخوله فيها وحينئذ يكون قوله ثم أتى بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل على الاحتمالين المذكورين
وعند عرض تلك الأوانى عليه صلى الله عليه وسلم أخذ اللبن فقال جبريل أصبت الفطرة أى بأخذك اللبن الذى هو الفطرة أصاب الله عز وجل بك أمتك على الفطرة أى أوجدهم على الفطرة ببركتك وفى رواية هذه الفطرة التى أنت عليها وأمتك أي وتقدم أن المراد بها الإسلام
وورد أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام فى السماء السادسة وموسى فى السماء السابعة وهذه الرواية فى البخارى عن أنس وتقدم أن ذلك كان فى الإسراء بروحه صلى الله عليه وسلم لا بجسده وفيه أن رؤيا الأنبياء حق
فالأولى الجمع بين الروايات بالانتقال وأن بعض الأنبياء نزل من محله إلى ما تحته لملاقاته صلى الله عليه وسلم عند صعوده وبعضهم خرج عن محله وصعد إلى
ما فوقه لملاقاته صلى الله عليه وسلم عند هبوطه فأخبر صلى الله عليه وسلم عنه تارة بأنه فى سماء كذا وتارة بأنه في سماء كذا والحافظ ابن حجر لايرى الجمع بل يحكم على ما خالف أصح الروايات بأنه لا يعمل به قال والجمع إنما هو مجرد استرواح لا ينبغى المصير إليه هذا كلامه
وعندى فيه نظر ظاهر والجمع أولى من إثبات المعارضة لاسيما بين الأصح والصحيح وإن كان الصحيح شاذا لأنا لا نقدم الأصح أو الصحيح على غيره إلا حيث تعذر الجمع فليتأمل
وعلى المشهور من الروايات الذى صدرنا به أبدى بعضهم لاختصاص هؤلاء الأنبياء بملاقاته صلى الله عليه وسلم واختصاص كل واحد منهم بالسماء الذى لقيه فيها حكمة يطول ذكرها
قال صلى الله عليه وسلم ثم ذهب بى أى جبريل إلى سدرة المنتهى وإذا أوراقها كآذان الفيلة وفى رواية مثل آذان الفيول وفى رواية الورقة منها تظل الخلق وفى رواية تكاد الورقة تغطى هذه الأمة وفى رواية لو أن الورقة الواحدة ظهرت لغطت هذه الدنيا وحينئذ يكون المراد بكونها كآذان الفيلة فى الشكل وهو الاستدارة لا فى السعة وإذا ثمرها كالقلال وفى رواية كقلال هجر قرية بقرب المدينة والواحدة من قلالها تسع قربتين ونصفا من قرب الحجاز والقربة تسع من الماء مائة رطل بغدادى فلما غشيها من أمر الله عز وجل ما غشيها تغيرت أى صار لها حالة من الحسن غير تلك الحالة التى كانت عليها فما أحد من خلق الله عز وجل يستطيع أن ينعتها من حسنها أى لأن رؤية الحسن تدهش الرائى وهذا السياق يدل على أن سدرة المنتهى فوق السماء السابعة أى وهو قول الأكثر وفى بعض الروايات أن أغصانها تحت الكرسى وعن وهب أن العرش والكرسى فوق السماء السابعة قال ويسأل هل ثمرة سدرة المنتهى كالثمار المأكولة فى أنه يزول ويعقبه غيره هذا الزائل يؤكل أو يسقط أى فلا يؤكل انتهى
قال صلى الله عليه وسلم ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ أى بالمعجمة قباب اللؤلؤ وفى لفظ حبائل اللؤلؤ المعقود والقلائد وإذا ترابها المسك ورمانها كالدلاء وطيرها كالبخت فدخوله صلى الله عليه وسلم للجنة كان قبل عروجه للسحابة
وفى الحديث ما فى الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهى فى الجنة حتى الحنظل والذى نفس محمد بيده لا يقطف رجل ثمرة من الجنة فتصل إلى فيه حتى يبدل الله مكانها خيرا منها وهذا القسم يرشد إلى أن ثمرة الجنة كلها حلوة تؤكل وأنها تكون على صورة ثمرة الدنيا المرة
وفى كلام الشيخ محيى الدين بن العربى فاكهة الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة أى تؤكل من غير قطع أى يؤكل منها فالأكل موجود والعين باقية فى غصن الشجرة وليس المراد أن الفاكهة غير مقطوعة فى شتاء ولا صيف أو يخلق مكان قطعها أخرى على الفور كما فهمه بعضهم فعين ما يأكل العبد هو عين ما يشهد وأطال فى ذلك وكأنه لم يقف على هذا الحديث أو لم يثبت عنده فليتأمل
قال ويخرج من أصل تلك الشجرة أربعة أنهار نهران باطنان أى يبطنان ويغيبان فى الجنة بعد خروجهما من أصل تلك الشجرة ونهران ظاهران أى يستمران ظاهرين بعد خروجهما من أصل تلك الشجرة فيجاوزان الجنة فقال ما هذه أى الأنهار يا جبريل قال أما الباطنان ففى الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات انتهى
أقول قول جبريل أما الباطنان ففى الجنة لا يحسن أن يكون جوابا عن هذا السؤال أى الذى هو سؤال عن بيان الحقيقة ويحصل بذكر اسمها فكان المناسب بحسب الظاهر أن يقول وأما الباطنان فنهر كذا ونهر كذا وهذا السياق يدل على أن النيل والفرات يمران فى الجنة ويجاوزانها وأن ما عداهما كسيحان وجيحان بناء على أنهما ينبعان من أصل شجرة المنتهى يغيبان فيها ولا يجاوزانها والنيل نهر مصر والفرات نهر الكوفة ويحتمل أن النهرين اللذين هما ما عدا النيل والفرات بناء على أنهما سيحان وجيحان يبطنان فى الجنة ولا يظهران إلا بعد خروجهما منها لوجودهما فى الخارج بخلاف النيل والفرات فإنهما يستمران ظاهرين فيها إلى أن يخرجا منها
وقد جاء فى حديث ما من يوم إلا وينزل ماء من الجنة فى الفرات قال بعضهم ومصداقه أن الفرات مد فى بعض السنين فوجد فيه رمان كل واحدة مثل البعير فيقال إنه رمان الجنة وهذا الحديث ذكره ابن الجوزى فى الأحاديث الواهية وفى حديث موقوف على ابن عباس إذا حان خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل فرفع من الأرض هذه الأنهار والقرآن والعلم والحجر والمقام وتابوت موسى بما فيه إلى السماء
هذا وفى بعض الروايات ما يدل على أن سيحان وجيحان لا ينبعان من أصل شجرة المنتهى فليسا هما المراد بالباطنين
وعن مقاتل الباطنان السلسبيل والكوثر أى ومعنى كونهما باطنين أنهما لم يخرجا من الجنة أصلا ومعنى كون النيل والفرات ظاهرين أنهما يخرجان منها
وفى السيرة الشامية لم يثبت فى سيحان وجيحان أنهما ينبعان من أصل شجرة المنتهى فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك وأما الباطنان المذكوران أى فى الحديث فهما غير سيحان وجيحان قال القرطبى ولعل ترك ذكرهما أى سيحان وجيحان فى حديث الإسراء كونهما ليسا أصلا برأسهما وإنما يحتمل أن يتفرعا عن النيل والفرات هذا كلامه ولعل المراد أنهما يتفرعان عنهما بعد خروجهما من الجنة فهما لم يخرجا من أصل السدرة ولا يبطنان فى الجنة أصلا
قال وإذا فيها فى تلك الشجرة عين أى فى أصلها أيضا يقال لها السلسبيل فينشق منها نهران أحدهما الكوثر والآخر يقال له نهر الرحمة فاغتسلت منه فغفر لى ما تقدم من ذنبى وما تأخر انتهى أى فهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى لكن لا من المحل الذى يخرج منه النيل والفرات وحينئذ يحسن القول بأنه يخرج من أصل تلك الشجرة أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان وفى جعل الكوثر قسما من السلسبيل يخالفه جعله قسيما كما تقدم عن مقاتل فالباطنان الكوثر ونهر الرحمة فالأنهار التى تخرج من أصل سدرة المنتهى أربعة بناء على أن سيحان وجيحان لا يخرجان منها أو ستة بناء على أنهما يخرجان منها
وعلى الأول لا ينافى قول القرطبى ما فى الجنة نهر إلا ويخرج من أصل سدرة المنتهى لأن المراد إما خروجه بنفسه أو أصله الذى يتفرع منه بناء على ما تقدم من أن سيحان وجيحان يتفرعان عن النيل والفرات
ولا ينافى ما عند مسلم يخرج من أصلها يعنى سدرة المنتهى أربعة أنهار من الجنة وهى النيل والفرات وسيحان وجيحان ولا ما عند الطبرانى سدرة المنتهى يخرج من أصلها أربعة أنهار من ماء غير آسن ومن لبن لم يتغير طعمه ومن خمر لذة للشاربين ومن عسل مصفى وعن كعب الأحبار إن نهر العسل نهر النيل أى ويدل لذلك قول بعضهم لولا دخول بحر النيل فى البحر الملح الذى يقال له البحر الأخضر قبل أن يصل
إلى بحيرة الزنج ويختلط بملوحته لما قدر أحد على شربه لشدة حلاوته ونهر اللبن نهر جيحان ونهر الخمر نهر الفرات ونهر الماء نهر سيحان لأن غاية ذلك سكوتهما عن النهرين الآخرين وهما الكوثر ونهر الرحمة ومعنى كونها تخرج من أصل سدرة المنتهى من الجنة أنه يحتمل أن تكون سدرة المنتهى مغروسة فى الجنة والأنهار تخرج من أصلها فصح أنها من الجنة هكذا ذكره العارف ابن أبى جمرة ولم أقف على ما يدل على ثبوت هذا الاحتمال أى أن سدرة المنتهى مغروسة فى الجنة ولا حاجة لهذا الاحتمال فى تصحيح هذه الرواية لأن المعنى أن تلك الأنهار تخرج من أصل تلك الشجرة ثم تكون خارجة من الجنة ثم لايخفى أن فى كلام القاضى عياض أن سيحان يقال فيه سيحون وجيحان يقال فيه جيحون
ويخالفه قول صاحب النهاية اتفقوا كلهم على أن جيحون غير جيحان وسيحون غير سيحان ومن ثم أنكر الإمام النووى على القاضى عياض حيث قال الثانى أى من وجوه الإنكار على القاضى قوله سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون فجعل الأسماء مترادفة وليس كذلك فسيحان وجيحان غير سيحون وجيحون هذا كلامه
وذكر صاحب النهاية أن جيحون نهر وراء خراسان عند بلخ وسكت عن بيان سيحون فليتأمل
قال والذى غشى الشجرة فراش من ذهب والفراش هو الحيوان الذى يلقى نفسه فى السراج ليحترق وملائكته على كل ورقة ملك يسبح الله تعالى وملائكه أى آخرون يغشونها كأنهم الغربان يأوون إليها متشوقين إليها متبركين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة انتهى
ورأى صلى الله عليه وسلم جبريل عند تلك السدرة على الصورة التى خلقه الله عز وجل عليها له ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق يتناثر من أجنحته تهاويل الدر والياقوت مما لا يعلمه إلا الله عز وجل وغشيت تلك السدرة سحابة فتأخر جبريل عليه الصلاة والسلام ثم عرج به صلى الله عليه وسلم أى فى تلك السحابة حتى ظهر لمستوى سمع فيه صرير الأقلام وفى رواية صريف أى صوت حركتها حال الكتابة أى ما تكتبه الملائكة من الأقضية وهذا السياق يدل على أن جبريل لم يتعد سدرة المنتهى ويدل
على ما تقدم من أن سدرة المنتهى فوق السماء السابعة إلى آخر ما تقدم وهو الموافق لقول بعضهم إنها على يمين العرش
وفى رواية ثم انطلق بى أى جبريل إلى ظهر السماء السابعة حتى انتهى إلى نهر عليه خيام الياقوت واللؤلؤ والزبرجد وعليه طير أخضر نعم الطير رأيت قال جبريل هذا الكوثر الذى أعطاك الله فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجرى على رضاض من الياقوت والزمرد بالذال المعجمة كما تقدم وماؤه أشد بياضا من اللبن فأخذت من آنيته واغترفت من ذلك فشربت فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك
أقول قد تقدم أن هذا النهر من العين التى تخرج من سدرة المنتهى التى يقال لها السلسبيل أى فهو يخرج من تلك الشجرة ويمر على ما ذكر ثم يدخل الجنة ويستقر بها فلا ينافى كون الكوثر نهرا فى الجنة وأن السلسبيل عين فى الجنة لأن السلسبيل على ما تقدم أصل الكوثر والله أعلم
وفى رواية إنها أى سدرة المنتهى فى السماء السادسة وإليها ينتهى ما يعرج من الأرض فيفيض منها وإليها ينتهى ما يهبط من فوقها فيفيض منها وعندها تقف الحفظة وغيرهم فلا يتعدونها ومن ثم سميت سدرة المنتهى
وعن تفسير ابن سلام عن بعض السلف قال إنما سميت سدرة المنتهى لأن روح المؤمن ينتهى بها إليها فتصلى عليها هناك الملائكة المقربون وجمع وجمع الحافظ ابن حجر بين كون سدرة المنتهة فى السادسة وكونها فى السابعة بأن أصلها فى السادسة وأغصانها فى السابعة أى فوق السابعة أى جاوزت السابعة فلا ينافى القول بأنها فوق السابعة على ما تقدم وهذا الحمل المقتضى لكون أصلها فى السادسة لا يناسب كون الأنهار تخرج من أصلها إلى آخر ما تقدم
ويروى أن جبريل لما وصل إلى مقامه وهو سدرة المنتهى فوق السماء السابعة قال له صلى الله عليه وسلم ها أنت وربك هذا مقامى لا أتعداه فزج بى فى النور أى لما غشيته تلك السحابة ويعبر عن تلك السحابة بالرفوف قال الشيخ عبدالوهاب الشعرانى وهو نظير المحفة عندنا
وفى تاريخ الشيخ العينى شارح البخارى عن مقاتل بن حيان قال انطلق بى جبريل حتى انتهى إلى الحجاب الأكبر عند سدرة المنتهى قال جبريل تقدم يا محمد قال
فتقدمت حتى انتهيت إلى سرير من ذهب عليه فراش من حرير الجنة فنادى جبريل من خلفى يل محمد إن الله يثنى عليك فاسمع وأطع ولا يهولنك كلامه فبدأت بالثناء على الله عز وجل الحديث أى وفى ذلك النور المستوى الذى يسمع فيه صريف الأقلام ثم العرش والرفوف والرؤية وسماع الخطاب
وفى رواية أنه لما وقف جبريل قال له صلى الله عليه وسلم فى مثل هذا المقام يترك الخليل خليله قال إن تجاوزت احترقت بالنار فقال النبى صلى الله عليه وسلم يا جبريل هل لك من حاجة إلى ربك قال يا محمد سل الله عز وجل لى أن أبسط جناحى على الصراط لأمتك حتى يجوزوا عليه قال ثم زج بى فى النور فخرق بى إلى سبعين الف حجاب ليس فيها حجاب يشبه حجابا غلظ كل حجاب خمسمائة عام وانقطع عنى حس كل ملك فلحقنى عند ذلك استيحاش فعند ذلك نادى مناد بلغة أبى بكر رضى الله تعالى عنه قف إن ربك يصلى فبينما أنا أتفكر فى ذلك أى فى وجود أبى بكر فى هذا المحل وفى صلاة ربى فأقول هل سبقنى ابو بكر وكيف يصلى ربى وهو غنى عن أن يصلى كما يدل على ذلك ما يأتى فإذا النداء من العلى الأعلى ادن يا خير البرية ادن يا أحمد ادن يا محمد فأدنانى ربى حتى كنت كما قال عز وجل { ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى }
وفى الخصائص الصغرى وخص بالإسراء وما تضمنه اختراق السموات السبع والعلو إلى قاب قوسين ووطئه مكانا ما وطئه نبى مرسل ولا ملك مقرب وهذه الرواية ككلام الخصائص تدل على أن فاعل دنا وتدلى واحد وكان هو صلى الله عليه وسلم وحينئذ يكون معنى تدلى زاد فى القرب وجعل بعض العلماء من جملة ما خالف شريك فيه المشهور من الروايات أنه جعل فاعل دنا فتدلى الحق سبحانه وتعالى أى دنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان من محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى ثم رأيت الحافظ ابن حجر ذكر عن البيهقى أنه روى بسند حسن ما يوافق ما ذكر شريك ومعلوم أم معنى الدنو والتدلى الواقعين من الله سبحانه وتعالى كمعنى النزول منه فى ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير وهو أى ذلك عند أهل الحقائق من مقام التنزل بمعنى أنه تعالى يتلطف بعباده ويتنزل فى خطابه لهم فيطلق على نفسه ما يطلقونه على أنفسهم فهو فى حقهم حقيقة وفى حقه تعالى مجاز
ورأيت بعضهم ذكر أن فاعل دنا جبريل وفاعل تدلى محمد صلى الله عليه وسلم أى سجد لربه سبحانه وتعالى شكرا على ما أعطى من الزلفى
ورأيت بعضا آخر ذكر أن فاعل تدلى الرفرف وفاعل دنا محمد صلى الله عليه وسلم أى تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم حتى جلس عليه ثم دنا محمد صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه وتعالى أى قرب قرب منزلة وتشريف لا قرب مكان تعالى الله عز وجل عن ذلك
قال صلى الله عليه وسلم وسألنى ربى فلم أستطع أن أجيبه عز وجل فوضع يده عز وجل بين كتفى بلا تكييف ولا تحديد أى يد قدرته تعالى لأنه سبحانه منزه عن الجارحة فوجدت بردها فأورثنى علم الأولين والآخرين وعلمنى علوما شتى فعلم أخذ على كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله غيرى وعلم خيرنى فيه وعلم أمرنى بتبليغه إلى العام والخاص من أمتى وهى الإنس والجن أى وكذلك الملائكة على ما تقدم
أقول هذا التفصيل يدل على أن العلوم الشتى هى هذه العلوم الثلاثة إلا أن يقال كل علم من هذه الثلاثة يشتمل على أنواع من العلوم والله أعلم
قال صلى الله عليه وسلم ثم قلت اللهم إنه لما لحقنى استيحاش سمعت مناديا ينادى بلغة تشبه لغة أبى بكر فقال لى قف فإن ربك يصلى فعجبت من هاتين هل سبقنى أبو بكر إلى هذا المقام وإن ربى لغنى أن يصلى فقال تعالى أنا الغنى عن أن أصلى لأحد وإنما أقول سبحانى سبحانى سبقت رحمتى غضبى اقرأ يا محمد { هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما } فصلاتى رحمة لك ولأمتك وأما أمر صاحبك يا محمد فإن أخاك موسى كان أنسه بالعصا فلما أردنا كلامه قلنا وما تلك بيمينك يا موسى قال هى عصاى وشغل بذكر العصا عن عظيم الهيبة وكذلك أنت يا محمد لما كان أنسك بصاحبك أبى بكر خلقنا ملكا على صورته ينادى بلغته ليزول عنك الاستيحاش لما يلحقك من عظم الهيبة
أقول لعل المراد خلقنا صورة على صورة صوته لأنه ليس فى الرواية أنه رأى ذلك الملك على صورة أبى بكر وإنما سمع صوته والله أعلم
ثم قال الله عز وجل يا محمد وأين حاجة جبريل فقلت اللهم إنك أعلم فقال يا محمد قد أجبته فيما سأل ولكن فيمن أحبك وصحبك
أقول لعل المراد بمن صحبك من كان تابعا لك فى دينك عاملا بسنتك أى وهو مراد جبريل بأمته صلى الله عليه وسلم فى قوله أن أبسط جناحى لأمتك على الصراط والله أعلم
وفى رواية إنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الحق سبحانه وتعالى خر ساجدا قال صلى الله عليه وسلم فأوحى الله عز وجل إلى ما أوحى
وقد ذكر الثعلبى والقشعرى فى تفسير قوله تعالى { فأوحى إلى عبده ما أوحى } أن من جملة ما أوحى إليه إن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك قال القشيرى وأوحى إليه خصصتك بحوض الكوثر فكل أهل الجنة أضيافك بالماء ولهم الخمر واللبن والعسل ففرض على خمسين صلاة فى كل يوم وليلة
أقول تقدم أن من جملة ما أوحى إليه فى هذا الموطن من القرآن خواتيم سورة البقرة وبعض سورة الضحى وبعض ألم نشرح وقد تقدم ذلك عند الكلام على أنواع الوحى وقدمنا أنه يضم لذلك هو الذى يصلى عليكم وملائكته الآية على ما تقدم
هذا وفى حديث رواته ثقات لما وصلت إلى السماء السابعة قال لى جبريل عليه السلام رويدا أى قف قليلا فإن ربك يصلى قلت أهو يصلى وفى لفظ كيف يصلى وفى لفظ أخر قلت يا جبريل أيصلى ربك قال نعم قلت وما يقول قال يقول سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبقت رحمتى غضبى ولا مانع من تكرر وقوع ذلك له صلى الله عليه وسلم من جبريل ومن غيره فى السماء السابعة وفيما فوقها لكن يبعد تعجبه صلى الله عليه وسلم من كونه عز وجل يصلى فى المرة الثانية وما بعدها
وورد أن بنى إسرائيل سألوا موسى هل يصلى ربك فبكى موسى عليه الصلاة والسلام لذلك فقال الله تعالى يا موسى ما قالوا لك فقال قالوا الذى سمعت قال أخبرهم أنى أصلى وأن صلاتى تطفئ غضبى والله أعلم
قال صلى الله عليه وسلم فنزلت إلى موسى أى وفى رواية ثم انجلت تلك السحابة أى عند وصوله إلى سدرة المنتى الذى هو المحل الذى وقف فيه جبريل فأخذ بيده جبريل فانصرف سريعا فأتى على إبراهيم فلم يقل شيئا ثم أتى على موسى وهذا
يدل على ما هو المشهور فى الروايات أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان فى السابعة وموسى كان فى السادسة لا على غير المشهور أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان فى السادسة وموسى كان فى السابعة كما تقدم
ولما أتى إلى موسى عليه الصلاة والسلام قال له ما فرض ربك عليك أى وفى لفظ بم أمرت قال خمسين صلاة قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك فإنى بلوت بنى إسرائيل وخبرتهم أى وفى البخارى إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم وإنى والله قد جربت الناس قبلك وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة أى فإنه فرض عليهم صلاتان فما قاموا بهما أى ركعتان بالغداة وركعتان بالعشى وقيل فرض ركعتان عند الزوال أى فما قاموا بذلك
وفى تفسير البيضاوى أن الذى فرض على بنى إسرائيل خمسون صلاة فى اليوم والليلة وسيأتى ذكر ذلك فى بعض الروايات
ويرده قولهم إن سبب طلب التخفيف أنه استكثر الخمس التى هى المرة الأخيرة فهو إنما يناسب ما تقدم
ثم رأيت القاضى البيضاوى قال فى تفسير قوله تعالى { ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } أن من ذلك الإصر الذى كلفت به بنو إسرائيل خمسون صلاة فى اليوم والليلة وكتب عليه الجلال السيوطى فى الحاشية أن كون بنى إسرائيل كلفوا بخمسين صلاة فى اليوم والليلة باطل وبسط الكلام على ذلك
ثم قال موسى فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك أى وإنما كانت أمته مأمورة بما أمر به ومفروض عليها ما فرض عليه لأن الفرض عليه صلى الله عليه وسلم فرض على أمته والأمر له صلى الله عليه وسلم أمر لها لأن الأصل أن ما ثبت فيه حق كل نبى ثبت فى حق أمته إلا أن يقوم الدليل على الخصوصية
قال فرجعت إلى ربى أى انتهى إلى الشجرة فغشيته السحابة وخر ساجدا فقلت يا رب خفيف عن أمتى فحط عنى خمسا فرجعت إلى موسى فقلت حط عنى خمسا قال إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك واسأله التخفيف قال فلم أزل أرجع بين ربى تبارك وتعالى وبين موسى صلى الله عليه وسلم حتى قال الله تعالى يا محمد إنهن خمس صلوات فى كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة ومن هم
بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له سيئة واحدة قال صلى الله عليه وسلم فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فقلت قد رجعت إلى ربى حتى استحييت منه أى وفي رواية أنه وضع عنه عشر صلوات عشر صلوات إلى أن أمر بخمس صلوات وجاء في الحديث أكثروا من الصلاة على موسى فما رأيت أحدا من الأنبياء أحوط على أمتى منه
أقول فى الوفاء أن رواية وضعت خمس صلوات من أفراد مسلم ورواية وضع عنه عشر صلوات أصح لأنه قد أتفق البخارى ومسلم عليها والرواية التى فيها حط خمسا خمسا غلط من الرواة هذا كلامه فليتأمل
والمتبادر من قوله إلى أن مر بخمس صلوات أنه رفع التعلق بجمع الخمسين وأثبت تعلقا جديدا بخمس ليست من الخمسين فالمنسوخ جميع الخمسين
ويحتمل أنه رفع التعلق بجملة الخمسين مع إثبات التعلق بخمسة منها التى هى بعضها فيكون المنسوخ ما عدا الخمس من الخمسين قيل وفى هذا وقوع النسخ قبل البلاغ وقد اتفق أهل السنة والمعتزلة على منعه
ورد بأن هذا وقع بعد البلاغ بالنسبة للنبى صلى الله عليه وسلم لأنه كلف بذلك ثم نسخ فقد قال شيخ الإسلام زكريا الأنصارى رحمه الله تعالى وما قيل إن الخمس فى ليلة الإسراء ناسخة للخمسين إنما هو فى حقه صلى الله عليه وسلم لبلوغه له لافى حق الأمة أى لعدم بلوغه لهم هذا كلامه وإذا نسخ فى حقه صلى الله عليه وسلم نسخ فى حق أمته كما هو الأصل إلا أن تثبت الخصوصية بدليل صحيح وهذا يرد ما فى الخصائص الصغرى للسيوطى رحمه الله تعالى من أن وجوب الخمسين لم ينسخ فى حقه صلى الله عليه وسلم وإنما نسخ فى حق الأمة ولعل مستنده فى ذلك رواية فرض الله على أمتى ليلة الإسراء خمسين صلاة فلم أزل أراجعه وأسأله التخفيف حتى جعلها خمسا فى كل يوم وليلة أى على الأمة كما هو المتبادر وقول موسى عليه الصلاة والسلام له صلى الله عليه وسلم إن أمتك لا تطيق ذلك وربما يوافق ذلك قول الإمام السبكى فى تائيته
** وقد كان رب العالمين مطالبا بخمسين فرضا كل يوم وليلة ** **
فأبقيت أجر الكل ما اختل ذرة وخففت الخمسون عنا بخمسة **
وفيه النسخ قبل التمكن من الفعل وهو يرد قول المعتزلة القائلين بأنه لا يجوز النسخ قبل التمكن من الفعل ودخول وقته
والظاهر من الخمسين التى فرضت أولا أن كل صلاة من الخمس تكرر عشر مرات فما زاد على الخمس مساولها
ويحتمل أن تكون صلوات أخر مغايرة لتلك الخمس ولم أقف على بيان تلك الصلوات
وعلى أن الخمسين لم تنسخ فى حقه صلى الله عليه وسلم لم أقف على ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلاها ولا على كيفية صلاته صلى الله عليه وسلم صلاها ولا على كيفية صلاته صلى الله عيله وسلم لها وإلى عروجه صلى الله عليه وسلم ورجوعه أشار صاحب الهمزية بقوله ** وطوى الأرض سائرا والسموات العلا فوقها له إسراء ** **
فصف الليلة التى كان للمختا ر فيها على البراق استواء ** ** وترقى به إلى قاب قوسين وتلك السيادة القعساء ** **
رتب تسقط الأمانى حسرى دونها ما وراءهن وراء ** ** وتلقى من ربه كلمات كل علم فى شمسهن هباء ** **
زاخرات البحار يغرق فى قط رتها العالمون والحكماء **
أى وطوى الأرض حالة كونه صلى الله عليه وسلم سائرا عليها إلى المدينة عند الهجرة كما طويت له صلى الله عليه وسلم قبل ذلك السموات العلا لما كان له صلى الله عليه وسلم فوقها إسراء أى ليلة الإسراء إلى أن جاوزها جميعها فى أسرع وقت فصف تلك الليلة التى كان للمختار فيها على البراق استواء واستقرار وصعد به ذلك البراق إلى مقدار قاب قوسين وتلك الرتبة التى وصل إليها صلى الله عليه وسلم هى السعادة الثابتة التى لا يعتريها نقص ولا زوال وهذه رتب تسقط دونها الأمانى حسرى ذات إعياء وتعب ما قدامهن قدام أى ليس بعدها من رتبة ينالها أحد غيره صلى الله عليه وسلم وتلقى من ربه كلمات ما عداها بالنسبة إليها كالهباء وهو ما يرى فى ضوء الشمس وبث سبحانه
وتعالى إليه علوما لا يدرك العلماء الحكماء شذرة منها وكونه صلى الله عليه وسلم صعد السموات على البراق يوافقه ما فى حياة الحيوان
إن قيل لم عرج بالنبى صلى الله عليه وسلم إلى السماء على البراق ولم ينزل عند منصرفه عليه فالجواب أنه عرج به إلى دار الكرامة ولم ينزل به عليه إظهارا لقدرة الله تعالى هذا كلامه فليتأمل
وتقدم عن الحافظ ابن كثير إنكار صعوده صلى الله عليه وسلم على البراق وقد جاء كان موسى أشد على حين مررت عليه وخيرهم إلى حين رجعت ونعم الصاحب كان لكم أى فإنه صلى الله عليه وسلم كما تقدم لما جاوزه عند الصعود بكى فنودى ما يبكيك قال رب هذا غلام أى لأنه صلى الله عليه وسلم كان حديث السن بالنسبة لموسى صلى الله عليه وسلم هذا هو المناسب للمقام بعثته بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتى وفى رواية تزعم بنو إسرائيل أى وهو يعقوب بن إسحاق عليهما الصلاة والسلام ومعنى إسرائيل عبدالله وقيل صفوة الله وفى لفظ تزعم الناس أنه أكرم على الله منى ولو كان هذا وحده هان ولكن معه أمته وهم أفضل الأمم عند الله تعالى أى انضم إلى شرفه شرف أمته على سائر الأمم
أقول والغرض من هذا وما تقدم عنه عند مروره صلى الله عليه وسلم على قبره عليه الصلاة والسلام عند الكثيب الأحمر إظهار فضيلة نبينا صلى الله عليه وسلم وفضيلة أمته بأنه أفضل الأنبياء وأمته بأنها أفضل الأمم وفى رواية عن ابن عمر كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرات وغسل الثوب من البول سبع مرات ولم يزل صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا وغسل الجنابة مرة وغسل الثوب من البول مرة
قال وعن أنس رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسرى بى مكتوبا على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر فقلت لجبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة قال لأن السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة انتهى هذا والراجح عند أئمتنا أن درهم الصدقة أفضل من درهم القرض
وبيان كون درهم القرض بثمانية عشر درهما أن درهم القرض بدرهمين من دراهم
الصدقة كما جاء فى بعض الرويات ودرهم الصدقة بعشرة تصير الجملة عشرين ودرهم القرض يرجع للمقرض بدله وهو بدرهمين من عشرين يتخلف ثمانية عشر
وعرضت عليه صلى الله عليه وسلم النار فإذا فيها غضب الله تعالى أى نقمته لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتهما وفى هذه الرواية زيادة على ما تقدم وهى فإذا قوم يأكلون الجيف فقال صلى الله عليه وسلم من هؤلاء يا جبريل فقال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس أى وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم رأى هؤلاء فى الأرض وأن لهم أظفارا من حديد يخمشون بها وجوههم وصدورهم ورآهم فى السماء الدنيا وأنهم يقطعون اللحم من جنوبهم فيلقمونه ولينظر ولينظر ما الحكمة في تكرير رؤية هؤلاء دون غيرهم من بقية أهل الكبائر الذين رآهم الأرض وفى السماء الدنيا ولعل الحكمة فى ذلك المبالغة فى الزجر عن الغيبة لكثرة وقوعها
ورأى فيها رجلا أحمر أزرق فقال من هذا يا جبريل فقال هذا عاقر الناقة أى لعل دخول الجنة وعرض النار عليه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن تغشاه السحابة ويزج به فى النور ولا مانع من أن تعرض عليه النار وهو فوق السماء السابعة وهى فى الأرض السابعة
أقول ونقل القرطبى فى تفسيره عن الثعلبى عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسرى بى إلى السماء تحت العرش سبعين مدينة كل مدينة مثل دنياكم هذه سبعين مرة مملوآت من الملائكة يسبحون الله عز وجل ويقدسونه ويقولون فى تسبيحهم اللهم اغفر لمن شهد الجمعة أى صلاتها اللهم اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة أي لصلاتها وهذا يفيج أن هذه التسمية أي تسمية ذلك اليوم بيوم الجمعة معروفة عند الملائكة وعنده صلى الله عليه وسلم وهو يوافق ما قيل إن المسمى لها بذلك كعب بن لؤي كما تقدم ويخالف ما سيأتي من أن تسمية ذلك اليوم بيوم الجمعة هداية من الله عز وجل للمسلمين بالمدينة وأنه لما أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلوها فى ذلك اليوم لم يسمه بيوم الجمعة بل اقتصر على قوله اليوم الذى يليه اليوم الذى تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم أى فى أكثر الروايات وإلا فقد رأيت السهيلى ذكر حدثنا عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه سمى ذلك اليوم بيوم الجمعة ونصه كتب صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير أما بعد فانظر اليوم
الذى يليه اليوم الذى تجهرفيه اليهود بالزبور لسبتهم فاجمعو نساءكم وأبناءكم فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله تعالى فيه بركعتين فعلى أكثر الروايات يجوز أن يكون إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك هنا أى قصة المعراج كان بعد التسمية وصلاة الجمعة وعبر بهذه العبارة لكونها عرفت لهم فيكون الذى سمعه من الملائكة يوم العروبة مثلا والله أعلم
قال ورأى صلى الله عليه وسلم مالكا خازن النار فإذا هو رجل عابس يعرف الغضب فى وجهه فبدأ النبى صلى الله عليه وسلم أى بالسلام ثم أغلقت دونه انتهى
وفى الأصل وفى حديث أبى هريرة رضى الله تعالى عنه وقد رأيتنى أى يخبر أنه صلى الله عليه وسلم رأى نفسه فى جماعة من الأنبياء فحانت الصلاة أى حضرت إرادة الصلاة فأممتهم أى صليت بهم إماما قال قائل يا محمد هذا مالك خازن النار فسلم عليه فبدأنى بالسلام قال وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل مالى لم آت لأهل سماء إلا رحبوا بى وضحكوا إلا غير واحد سلمت عليه فرد على السلام ورحب بى ودعا لى ولم يضحك إلى قال ذلك مالك خازن النار لم يضحك منذ خلق ولو ضحك لأحد لضحك إليك انتهى
أقول وهذا السياق يدل على أن ضحك من لقيه من الأنبياء والملائكة فى السموات له صلى الله عليه وسلم سقط من جميع روايات المعراج إذ لم يذكر فى شيء منها على ما علمت ويدل على أن مالكا خازن النار وجده فى السماء السابعة وأنه مرة بدأ النبى صلى الله عليه وسلم بالسلام ومرة بدأه النبى صلى الله عليه وسلم بالسلام والمناسب أن يكون فى المرة الأولى هو الذى بدأ النبى صلى الله عليه وسلم وهو عند الباب ثم رأيت الطيبى صرح بذلك حيث قال إنما بدأ خازن النار بالسلام عليه ليزيل ما استشعره من الخوف منه لما ذكر من أنه رأى رجلا عابسا يعرف الغضب فى وجهه فلا ينافيه ما ذكره السهيلى من أنه صلى الله عليه وسلم لم يره على الصورة التى يراه عليها المعذبون فى الآخرة ولو رآه عليها لم يستطع أن ينظر إليه
وقوله صلى الله عليه وسلم لم آت أهل سماء إلى آخره قد يعارضه ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل مالى لم أر ميكائيل ضاحكا قال ما ضحك منذ خلقت النار وفيه أن هذا يفيد أن ميكائيل كان موجودا قبل خلق النار وإيجادها وهذا لا ينافى أن
ميكائيل ضحك بعد ذلك فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم تبسم فى الصلاة فسئل عن ذلك فقال رأيت ميكائيل راجعا من طلب القوم أى يوم بدر وعلى جناحه الغبار فضحك إلى فتبسمت إليه
ولعل هذا كان بعد ما أخرجه أحمد فى مسنده عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لجبريل إنى لم أر ميكائيل ضاحكا قط قال ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار ومما يدل على أن جبريل عليه الصلاة والسلام خلق قبل النار أيضا ما فى مسند أحمد عن أنس بن مالك قال قال صلى الله عليه وسلم لجبريل لم تأتنى إلا رأيتك صارا بين عينيك قال إنى لم أضحك منذ خلقت النار وهذا مع ما تقدم من رؤية الجنة والنار يرد على الجهمية وبعض المعتزلة كعبد الجبار وأبى هاشم حيث زعموا أن الله تعالى لم يخلق الجنة والنار وأنهما ليستا موجودتين الآن وإنما يخلقهما سبحانه وتعالى يوم الجزاء مستدلين بأنه لا يحسن من الحكيم أن يخلق الجنة دار النعمة والنار دار النقمة قبل خلق أهلهما وبأنهما لو كانا مخلوقتين فى السماء والأرض والأرض لفنيا بفنائهما
وأجيب عن الأول بأنه يحسن من الحكيم خلقهما قبل يوم الجزاء لأن الإنسان إذا علم ثوابا مخلوقا اجتهد فى العبادة لتحصيل ذلك الثواب وأذا علم عقابا مخلوقا اجتهد فى اجتناب المعاصى لئلا يصيبه ذلك الثواب وأذا علم عقابا مخلوقا اجتهد فى اجتناب المعاصى لئلا يصيبه ذلك العقاب فليتأمل
وأجيب عن الثانى بأن الله استثناهما من قوله تعالى { فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء }
وفيه أن هذه صعقة الموت ولا يتصف بالموت غير ذى الروح ولأن الجنة كما قيل ليست فى السماء السابعة بل فوقها والنار ليست فى الأرض السابعة بل تحتها وحينئذ يكون القول بأن الجنة فى السماء السابعة والنار فى الأرض السابعة فيه تجوز والله أعلم
قال واختلف فى رؤيته صلى الله عليه وسلم لربه تبارك وتعالى تلك الليلة فأكثر العلماء على وقوع ذلك أى أنه صلى الله عليه وسلم رآه عز وجل بعين رأسه واستدل له بحديث رأيت ربى فى أحسن صورة ورد بأن هذا الحديث مضطرب الإسناد والمتن
وقد قال بعض العارفين شاهد الحق سبحانه وتعالى القلوب فلم ير قلبا أشوق إليه
من قلب محمد صلى الله عليه وسلم فأكرمه بالمعراج تعجيلا للرؤية والمكالمة وأنكرتها عائشة رضى الله تعالى عنها وقالت من زعم أن محمد رأى ربه أى بعين رأسه فقد أعظم الفرية على الله عز وجل أى أتى بأعظم الافتراء والكذب على الله عز وجل ووافقها على ذلك من الصحابة ابن مسعود وأبو هريرة رضى الله تعالى عنهما وجمع من العلماء
ونقل عن الدارمى الحافظ أنه نقل إجماع الصحابة على ذلك ونظر فيه وذهب إلى الرؤية أى المذكورة أكثر الصحابة وكثير من المحدثين والمتكلمين بل حكى بعض الحفاظ على وقوع الرؤية له بعين رأسه الإجماع وإلى ذلك يشير صاحب الأصل بقوله ** ورآه وما رآه سواه رؤية العين يقظة لا المرائى **
واحتجت عائشة رضى الله عنها على منع الرؤية بقوله تعالى { لا تدركه الأبصار } قال وروى أن مسروقا قال لها ألم يقل الله عز وجل ولقد رآه نزلة أخرى أى مرة أخرى أي بناء على أن الضمير المستتر له صلى الله عليه وسلم والبارز له سبحانه وتعالى فقالت أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك فقال إنما رأيت جبريل منهبطا أي فالضمير البارز إنما هو لجبريل وفي رواية قال لها ذاك جبريل لم أره فى صورته التى خلق عليها إلا مرتين أى مرة فى الأرض ومرة فى السماء فى هذه الليلة كما تقدم وعلى ظاهر الآية أى من جعل الضمير المستتر له صلى الله عليه وسلم والبارز له سبحانه وتعالى وقطع النظر عن هذه الرواية التى جاءت عن عائشة رضى الله تعالى عنها يلزم أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى الحق سبحانه وتعالى ليلة المعراج مرتين مرة فى قاب قوسين ومرة عند سدرة المنتهى ولا مانع من ذلك ولعل ذلك هو المعنى بقول الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم برؤيته للبارى عز وجل مرتين وفيها وجمع له بين الكلام والرؤية وكلمه عند سدرة المنتهى وكلم موسى بالجبل
قال بعضهم يجوز أنه صلى الله عليه وسلم خاطب عائشة رضى اللع تعالى عنها بما ذكر أى بقوله إنما رأيت جبريل إلى آخره على قدر عقلها أى فى ذلك الوقت انتهى وأيد قولها بما روى عن أبى ذر رضى الله تعالى عنه قلت يا رسول الله هل رأيت ربك قال رأيت نورا أى حجبنى ومنعنى عن رؤيته عز وجل ومن ثم جاء فى رواية نور أنى أراه أى كيف أراه مع وجود النور لأن النور إذا غشى البصر حجبه عن رؤية
ما وراء أى وليس المراد أنه سبحانه وتعالى هو النور المرئى له خلافا لمن فهم ذلك وأيده بما روى نورانى أى لأن هذه الرواية كما قيل تصحيف ومن ثم قال القاضى عياض لم أرها فى أصل من الأصول ومحال أن تكون ذاته تعالى نورا لأن النور من جملة الأعراض أى لأنه كيفية تدركها الباصرة أولا وبواسطة تلك الكيفية تدرك سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما والله تعالى يتعالى عن ذلك أى فحجابه تعالى النور كما رواه مسلم أى ومن ثم قيل فى قوله تعالى { الله نور السماوات والأرض } أى ذو نور أو هو على المبالغة أى وجاء رأيته فى صورة شاب أمرد عليه حلة خضراء دونه ستر من لؤلؤ وجاء رأيت ربى فى أحسن صورة قال الكمال بن الهمام إن كان المراد به رؤية اليقظة فهو حجاب الصورة
قال وقيل رآه بفؤاده مرتين لابعينى رأسه فعن بعض الصحابة قلنا يا رسول الله هل رأيت ربك قال لم أره بعينى رأيته بفؤادى مرتين ثم تلا ثم دنا فتدلى الآية وهذا السياق يدل على أن فاعل دنا فتدلى الحق سبحانه وتعالى والمراد بالفؤاد القلب أى خلقت الرؤية فى القلب أو خلق الله لفؤاده بصرا رأى به انتهى
أقول وكون الفؤاد له بصر واضح لقوله تعالى { ما زاغ البصر وما طغى } وأجيب عما احتجت به عائشة رضى الله عنها من قوله تعالى { لا تدركه الأبصار } بأنه لا يلزم من الرؤية الإدراك أي الذي هو الإحاطة فالنور إنما منع الإحاطة به لا من أصل الرؤية وقد قال بعضهم للإمام أحمد بأى معنى تدفع قول عائشة رضى الله تعالى عنها من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفرية فقال يدفع بقول النبى صلى الله عليه وسلم رأيت ربى وقول النبى صلى الله عليه وسلم أكبر من قولها
هذا وقد قال أبو العباس بن تيمية الإمام أحمد إنما يعنى رؤية المنام فإنه لما سئل عن ذلك قال نعم رآه فإن رؤيا الأنبياء حق ولم يقل إنه رآه بعين رأسه يقظة ومن حكى عنه ذلك فقد وهم وهذه نصوصه موجودة ليس فيها ذلك
أقول وفيه أنه يبعد أن يكون الإمام أحمد يفهم عن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها تنكر رؤيا المنام حتى يرد عليها وقد ضعف حديث أبى ذر المتقدم وهو قلت يا رسول الله رأيت ربك فقال نور أنى أراه وهو من جملة الأحاديث التى فى مسلم التى نظر فيها والله أعلم
قال أبو العباس بن تيمية وأهل السنة متفقون على أن الله عز وجل لا يراه أحد بعينه فى الدنيا لا نبى ولا غير نبى ولم يقع النزاع إلا فى نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة مع أن أحاديث المعراج المعروفة ليس فى شئ منها أنه رآه وإنما روى ذلك باسناد موضوع باتفاق أهل الحديث
وفى صحيح مسلم وغيره عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وقد سأله موسى الرؤية فمنعها
وقد نقل القرطبى عن جماعة من المحققين القول بالوقف فى هذه المسألة لأنه لا دليل قاطع وغاية ما استدل به الفريقان ظواهر متعارضة قابلة للتأويل وهو من المعتقدات التى يكتفى فيها بخبر الآحاد الصحيح وهى فلا بد فيها من الدليل القطعي هذا كلامه
ونازع فيه السبكى بأنه ليس من المعتقدات التي يشترط فيها الدليل القطعي وهي التي تكلف فاعتقادها كالحشر والنشر بل من المعتقدات التى لم نكلف باعتقادها كما نحن فيه وفى الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم برؤيته من آيات ربه الكبرى وحفظه حتى ما زاغ البصر وما طغى وبرؤيته للبارى مرتين
وفى كلام ابن دحية خص صلى الله عليه وسلم بألف خصلة منها الرؤية والدنو والقرب قال بعضهم قد صحت الأحاديث عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فى إثبات الرؤية وحينئذ يجب المصير إلى إثباتها ولا يجترئ أحد أن يظن فى ابن عباس أن يتكلم فى هذه المسألة بالظن والاجتهاد
قال الإمام النووى والراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه أى وأما رؤيته عز وجل يوم القيامة فى الموقف فعامة لكل أحد من الخلق الإنس والجن من الرجال والنساء المؤمن والكافر والملائكة جبريل وغيره
وأما رؤيته عز وجل فقيل لا تراه الملائكة وقيل يراه منهم جبريل خاصة مرة واحدة قال بعضهم وقياس عدم رؤية الملائكة عدم رؤية الجن ورد ذلك واختلف في رؤية النساء من هذه الأمة له تعالى فى الجنة فقيل لا يرينه لأنهن
مقصورات أى محبوسات فى الخيام وقيل يرينه فى أيام الأعياد دون أيام الجمع بخلاف الرجال فإنهم يرونه فى كل يوم جمعة
فقد جاء أنه تعالى يتجلى فى مثل عيد الفطر ويوم النحر لأهل الجنة تجليا عاما ومن أهل الجنة مؤمن الجن على الراجح
وجاء إن كل يوم كان للمسلمين عيدا فى الدنيا فإنه عيد لهم فى الجنة يجتمعون فيه على زيارة ربهم ويتجلى لهم فيه ويدعى يوم الجمعة فى الجنة بيوم المزيد قال بعضهم هذا لعموم أهل الجنة وأما خواصهم فكل يوم لهم عيد يرون ربهم فيه بكرة وعيشا
وأما رؤية الله عز وجل فى النوم ففى الخصائص الصغرى ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يجوز له رؤية الله وعز وجل فى المنام ولا يجوز ذلك لغيره صلى الله عليه وسلم فى أحد القولين وهو اختيارى وعليه أبو منصور الماتريدى وفى كلام الإمام النووى قال القاضى عياض اتفق العلماء على صفة لا تليق بجلاله من صفات الأجساد لأن ذلك المرئى غير ذات الله تعالى والله أعلم
ثم لا يخفى أن أكثر العلماء على أن الإسراء إلى بيت المقدس ثم المعراج إلى السماء كانا فى ليلة واحدة أى وقيل كان الإسراء وحده فى ليلة ثم كان هو والمعراج فى ليلة أخرى
قال وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل إلى سماء الدنيا نظر إلى أسفل منه فإذا هو برهج ودخان وأصوات فقال ما هذا يا جبريل قال هذه الشياطين يحومون على أعين بنى آدم لا يتفكرون أى وذلك مانع لهم من التفكر فى ملكوت السموات والأرض أى لعدم نظرهم للعلامات الموصلة لذلك لولا ذلك لرأوا العجائب أى أدركوها
ثم ركب صلى الله عليه وسلم البراق منصرفا أى بناء على أنه لم يعرج على البراق فمر بعير لقريش إلى آخر ما تقدم انتهى
أقول ذكر بعضهم أن مما نزل عليه صلى الله عليه وسلم بين السماء والأرض أى عند نزوله من السماء قوله تعالى { وما منا إلا له مقام معلوم } الآيات الثلاث وقوله تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا الآية والآيتان من آخر سورة البقرة وتقدم أنهما نزلتا بقاب قوسين والله أعلم
واستدل على أن كلا من الإسراء والمعراج كان يقظة بجسده صلى الله عليه وسلم وروحه بقوله تعالى { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } لأن العبد حقيقة هو الروح والجسد قال تعالى { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى } وقال وأنه لما قام عبد الله يدعوه ولو كان الإسراء مناما لقال بروح عبده ولأن الدواب التى منها البراق لا تحمل الأرواح وإنما تحمل الأجساد
واستدل على أنه الرؤية كانت بعين بصره صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى { ما زاغ البصر وما طغى } لأن وصف البصر بعدم الإزاغة يقتضى أن ذلك يقظة ولو كانت الرؤية قلبية لقال ما زاغ قلبه
أقول فيه أن لقائل أن يقول يجوز أن يكون المراد بالبصر بصر قلبه لما تقدم أن الله تعالى خلق لقلبه بصرا والله أعلم
وقيل كان الإسراء بجسده والمعراج بروحه الشريفة أى بذاتها عرج بها حقيقة من غير إماتة للجسد وكان حالها فى ذلك أرقى منه كحالها بعد مفارقتها لجسدها بموته فى صعودها فى السموات حتى بين يدى الله تعالى وهذا أمر فوق ما يراه النائم وغيره صلى الله عليه وسلم لا تنال ذات روحه الصعود إلا بعد الموت لجسدها قيل ومن ثم لم يشنع كفار قريش إلا أمر الإسراء دون المعراج
أقول الظاهر أن إخباره صلى الله عليه وسلم بالمعراج لم يكن عند إخباره بالإسراء بل تأخر عن إخباره بالإسراء بناء على أنهما كان فى ليلة واحدة وإلا فقد ذكر بعضهم أن المعراج لم يكن ليلة الإسراء الذى أخبر به كفار قريش قال إذ لو كان أى فى تلك الليلة لأخبر به حين أخبرهم بالأسراء أى ولم يخبر به حينئذ إذ لو أخبر به حينئذ لنقل ولذكره سبحانه وتعالى مع الإسراء لأن المعراج أبلغ فى المدح والكرامة وخرق العادة من الإسراء إلى المسجد الأقصى
وأجيب عنه بأنه على تسليم أنه كان فى ليلة الإسراء الذى أخبر به قريشا هو صلى الله عليه وسلم استدرجهم إلى الإيمان بذكر الإسراء أولا فلما ظهرت لهم أمارات صدقه على تلك الآية الخارقة التى هى الإسراء أخبرهم بما هو أعظم منها وهو المعراج بعد ذلك أى وحيث أخبرهم بذلك لم ينكروه لذلك أى لثبوت صدقه صلى الله عليه وسلم فيما ادعاه من الإسراء وتقدم عن المواهب أنهم لم يسألوه عن علامات تدل على صدقه صلى الله
عليه وسلم فى ذلك لعدم علمهم ومعرفتهم بشئ فى السماء والحق سبحانه وتعالى أرشده إلى ذلك أى إلى أن يخبرهم بالإسراء أولا ثم بالمعراج ثانيا حيث لم ينزل قصة المعراج فى سورة الإسراء بل أنزل ذلك فى سورة النجم
ومما يؤيد أنهما كانا فى ليلة واحدة قول الإمام البخارى فى صحيحه باب كيف فرضت الصلاة ليلة الإسراء لأن من المعلوم أن فرض الصلاة أى الصلوات الخمس إنما هو فى المعراج
وأما إفراده كلا من الإسراء والمعراج بترجمة فلا يخالف ذلك لأنه إنما أفرد كلا منهما بترجمة لأن كلا منهما يشتمل على قصة منفردة وإن كانا وقعا معا
وقد خالف الحافظ الدمياطى فى سيرته فذكر أن المعراج كان فى رمضان والإسراء كان فى ربيع الأول والله أعلم
وقيل الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم أى بعد البعثة مرتين مناما أولا ويقظة ثانيا أى فكانت مرة المنام توطئة وتبشيرا لوقوعه يقظة وبذلك يجمع بين الاختلاف الواقع فى الأحاديث أى فبعض الرواة خلط الواقع له صلى الله عليه وسلم منامنا بالواقع له صلى الله عليه وسلم يقظة
وعلى هذا لا يشكل قول شريك فلما استيقظت لكنه قال إن مرة المنام كانت قبل البعثة ففى رواية وذلك قبل أن يوحى إلى وقد أنكر الخطابى عليه ذلك وعده من جملة أو هامه الواقعة فى حديث الإسراء والمعراج ورد على الخطابى الحافظ ابن حجر فى ذلك بما ينبغى الوقوف عليه
وقيل كان المعراج يقظة ولم يكن ليلا ولم ويكن من بيت المقدس بل كان من مكة وكان نهارا فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل ربه عز وجل أن يريه الجنة والنار فلما كان نائما ظهرا أتاه جبريل وميكائيل فقالا انطلق إلى ما سألت الله تعالى فانطلقا بى إلى ما بين المقام وزمزم فأتى بالمعراج فإذا هو أحسن شئ منظرا فعرجا بى إلى السموات سماء سماء الحديث ولا يخفى أن سياق هذا الحديث يدل على أن ذلك كان مناما فلا يحسن أن يكون دليلا على قوله يقظة
وقد جاء عن أبى ذر رضى الله تعالى عنه أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال فرج سقف بيتى وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدرى ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغهما فى صدرى ثم أخذ بيدى فعرج إلى السماء الحديث وقد يدعى أن فى رواية أبى ذر اختصارا وليس فيها أن ذلك كان مناما أو يقظة
أى وأما ما ادعاه بعضهم أن المعراج تكرر يقظة فغريب إذ كيف يتكرر يقظة سؤال أهل كل باب من أبواب السماء هل بعث إليه وكيف يتكرر سؤاله صلى الله عليه وسلم عن كل نبى وكيف يتكرر فرض الصلوات الخمس والمراجعة وأما مناما فلا بعد فى بكرر ذلك توطئة لوقوعه يقظة أى وهذا منشأ اختلاف الروايات أدخل بعض الرواة ما وقع فى المنام ما وقع فى اليقضة خلافا لمن زعمه ومن ثم قال الحافظ ابن كثير من جعل كل رواية خالفت الأخرى مرة واحدة بروحه وجسده يقظة والباقى بروحه رؤيا رآها أى ومن ذلك ما وقع له صلى الله عليه وسلم فى المدينة بعد الهجرة وهو محمل قول عائشة رضى الله تعالى عنها ما فقدت جسده الشريف
وفى صبيحة ليلة المعراج حين زالت الشمس من اليوم الذى يلى الليل التى فرضت فيها الصلوات الخمس كان نزول جبريل عليه الصلاة والسلام وإمامته بالنبى صلى الله عليه وسلم ليعلمه أوقات الصلوات أى وكيفيتها أى لأنه لا يلزم من علمه صلى الله عليه وسلم بكيفية صلاة الركعتين وصلاة قيام الليل علم كيفية الصلوات الخمس وإن قلنا بأن الرباعية منها فرضت ركعتين فأمر صلى الله عليه وسلم فصيح بأصحابه الصلاة جامعة فاجتمعوا فصلى به صلى الله عليه وسلم جبريل وصلى النبى صلى الله عليه وسلم بالناس فسميت تلك الصلاة الظهر لأنها أول صلاة ظهرت ولأنها فعلت عند قيام الظهيرة اى شدة الحر أو عند نهاية ارتفاع الشمس وهذا الحديث ظاهر بأن صلاته صلى الله عليه وسلم بالناس كانت بعد صلاته مع جبريل محتمل لأن يكون صلى الله عليه وسلم صلى بصلاة جبريل والناس صلوا بصلاته صلى الله عليه وسلم
ففى بعض الروايات لما نودى بالصلاة جامعة فزعوا لذلك واجتمعوا فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أربع ركعات لا يقرأ فيهنى علانية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدى الناس وجبريل بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتدى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل ثم يصلى كذلك فى العصر ولما غابت الشمس صلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب ثلاث ركعات يقرأ فى الركعتين علانية وركعة لا يقرأ فيها علانية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدى الناس وجبريل بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل
وفى كلام الإمام النووى قوله إن جبريل نزل فصلى إمام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بكسر الهمزة ويوضحه قوله فى الحديث نزل جبريل فأمنى واستدل بذلك بعضهم على جواز الاقتداء بمن هو مقتد بغيره لا كما يقوله أئمتنا من منع ذلك
وأجيب عنه من جانب أئمتنا بأن معنى كونه صلى الله عليه وسلم مقتديا بجبريل أنه متابع له فى الأفعال من غير نية اقتداء ولا إيقاف فعله على فعل جبريل فلا يشكل على أئمنتا نعم هذا حينئذ يشكل على أئمتنا القائلين بأنه لا بد من علم كيفية الصلاة قبل الدخول فيها ولا يكفى علمها بالمشاهدة
وقد يجاب بأنه يجوز أن يكون جبريل عليه الصلاة والسلام علمه صلى الله عليه وسلم كيفيتها بالقول ثم أتبع القول الفعل وهو صلى الله عليه وسلم علم أصحابه كذلك وبما تقرر يسقط الإستدلال بذلك على جواز الفرض خلف النفل لأن تلك الصلاة لم تكن واجبة على جبريل لأن الملائكة ليسوا مكلفين بذلك
وأجيب بأنها كانت واجبة على جبريل لأنه مأمور بتعليمها له صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا وكان ذلك عند البيت أي الكعبة مستقبلا بيت المقدس أى صخرته واستقباله صلى الله عليه وسلم لبيت المقدس قيل كان باجتهاد منه وقيل كان بأمر من الله تعالى له قيل بقرآن وقيل بغيره أى وعلى أنه بقرآن يكون مما نسخت تلاوته وقد قال أئمتنا ونسخ قيام الليل بالصلوات الخمس إلى بيت المقدس كما تقدم وكان صلى الله عليه وسلم إذا استقبل بيت المقدس يجعل الكعبة بينه وبينه فيصلى بين الركن اليمانى وركن الحجر الأسود أى كما صلى به جبريل الركعتين أول البعث كما تقدم
وحينئذ لا يخالف هذا قول بعضهم لم يزل صلى الله عليه وسلم يستقبل الكعبة حتى خرج منها أى من مكة أى لم يستدبرها فلما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة استقبل بيت المقدس أى تمحض استقباله واستدبر الكعبة وظاهر إطلاقهم أن هذا أى استقباله بيت المقدس وجعل الكعبة بينه وبينه كان شأنه صلى الله عليه وسلم غالبا وإن صلى خارج المسجد بمكة ونواحيها
والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك أدبا لا وجوبا وإلا فقد جاء أن صلاة جبريل به صلى الله عليه وسلم كانت عند باب الكعبة كما رواه إمامنا الشافعى رضى الله تعالى عنه فى الأم
وروى الطحاوى عند باب البيت مرتين أى وذلك فى المحل المنخفض الذى تسميه العامة المعجنة كما تقدم وصلاته صلى الله عليه وسلم عند باب الكعبة فى المحل المذكور لبيت المقدس لا يكون مستقبلا للكعبة بل تكون على يساره لأنه لا يتصور أن يستقبل بيت المقدس ويكون مستقبلا للكعبة أيضا إلا إذا صلى بين اليمانيين كما تقدم
وأيضا ذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم كان يسجد نحو بيت المقدس ويجعل الكعبة وراء ظهره وهو بمكة أى فى بعض الأوقات حتى لا يخالف ما سبق أنه صلى الله عليه وسلم كان يستقبلها لبيت المقدس
ولا ينافى ذلك ما فى زبدة الأعمال أقام صلى الله عليه وسلم بعد نزول جبريل ثلاث عشرة سنة وكان يصلى إلى بيت المقدس مدة إقامته بمكة يجعلها أى الكعبة بين يديه ولا يستدبرها لإمكان حمل مدة إقامته على غالبها
ومما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم مع الصحابة كانوا يصلون إلى بيت المقدس وهم بمكة ما سيأتى عن البراء بن معرور أنه لما عدل عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة قبل أن يهاجر صلى الله عليه وسلم وسأله عن ذلك قال له قد كنت على قبلة لو صبرت عليها
وأم به صلى الله عليه وسلم جبريل مرتين مرة أول الوقت ومرة آخر الوقت لكن الوقت الاختيارى بالنسبة للعصر والعشاء والصبح لا الآخر الحقيقى ليعلمه الوقت
أى ولما جاءه صلى الله عليه وسلم جبريل أمر مصيح بأصحابه الصلاة جامعة كما تقدم أى لأن الإقامة المعروفة للصلوات الخمس لم تشرع إلا بالمدينة على ما تقدم وسيأتى
قال فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم وصلى به فى أول يوم الظهر حين زالت الشمس كما تقدم أى عقب زوالها وصلى به العصر حين ظل كل شئ مثله أى زيادة على ظل الاستواء أو على الظل الحاصل عقب الزوال وصلى به المغرب حين أفطر الصائم أى دخل وقت فطره وهو غروب الشمس وصلى به العشاء حين غاب الشفق وصلى به أى فى غد ذلك وهو اليوم الثانى الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم أى حين دخل وقت حرمة ذلك وهو الفجر
أى فإن قيل صلاة جبريل به صلى الله عليه وسلم حينئذ لم يكن الصوم الذى هو رمضان فرض
أجيب بأنه على تسليم أنه لم يفرض عليه صوم قبل رمضان وهو صوم عاشوراء وثلاث أيام من كل شهر على ما سيأتى جاز أن يكون إخباره صلى الله عليه وسلم بهذه العبارة كل بعد فرض رمضان
وصلى به الظهر حين كان ظل الشئ مثله وصلى به العصر حين كان ظل الشئ مثليه وصلى به المغرب حين افطر الصائم وصلى به العشاء ثلث الليل الأول وصلى به الفجر أى فى اليوم الثالث فأسفر ثم التفت وقال يا محمد هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين اه
وأما رواية صلى بى الظهر إلى أن قال وصلى بى الفجر فلما كان الغد صلى بى الظهر المقتضى ذلك لأن يكون الفجر ليس من اليوم الثاني بل من تتمة ما قبله
ففيه دليل على أن اليوم من طلوع الشمس كما يقول الفلكيون أى ولا يخفى أن قوله والوقت ما بين هذين الوقتين محمول عند إمامنا الشافعى رضى الله عنه على الوقت الاختيارى بالنسبة للعصر والعشاء والفجر وإلا فوقت العصر لايخرج إلا بغروب الشمس ووقت العشاء لا يخرج إلا بطلوع الفجر ووقت الصبح لا يخرج إلا بطلوع الشمس خلافا للإصطخرى حيث ذهب إلى خروج وقت العصر بمصير ظل الشئ مثليه والعشاء بثلث الليل والصبح بالإسفار متمسكا بظاهر الحديث والبداءة بالظهر هو ما عليه أكثر الروايات وروى أن البداءة كانت بالصبح عند طلوع الفجر وعلى الأول إنما لم تقع البداءة بالصبح مع أنها أول صلاة تحضر بعد ليلة الإسراء لأن الإتيان بها يتوقف على
بيان علم كيفيتها المعلق عليه الوجوب كأنه قيل أوجبت عليه حيثما تبين كيفيته فى وقته والصبح لم تتبين كيفيتها فى وقتها فلم تجب فلا يقال هذا من تأخير البيان عن وقت الحاجة
وأجاب الإمام النووى بأنه حصل التصريح بأن أول وجوب الخمس من الظهر كانه قيل أوجبت ما عدا صلاة الصبح يوم هذه الليلة فعدم وجوبها ليس لعدم علم كيفيتها فهى غير واجبة وإن فرض علم كيفيتها
وفيه أنه يلزم حينئذ أن الخمس صلوات فى اليوم والليلة لم توجد إلا فيما عدا ذلك اليوم وليلته قال أبو بكر بن العربى ظاهر قوله هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك أن هذه الصلوات فى هذه الأوقات كانت مشروعة لكل واحد من الأنبياء قبلك وليس كذلك وإنما معناه أن وقتك هذا المحدود الطرفين مثل وقت الأنبياء قبلك فإنه كان محدود الطرفين وإلا فلم تكن هذه الصلوات الخمس على هذه المواقيت إلا لهذه الأمة خاصة وإن كان غيرهم قد شاركهم فى بعضها أى فقد جاء عن عائشة رضى الله عنها أن آدم لما تيب عليه كان ذلك عند الفجر فصلى ركعتين فصارت الصبح وفدى إسحاق عند الظهر أة يعلى القول بأنه الذبيح فصلى أربع ركعات فصارت الظهر وبعث عزير فقيل له كم لبثت قال لبثت يوما فلما رأى الشمس قريبة من الغروب قال أو بعض يوم فصلى أربع ركعات فصارت العصر وغفر لداود عند المغرب أى الغروب فقام يصلى أربع ركعات فجهد أى تعب فجلس فى الثالثة أى سلم منها فصارت المغرب ثلاثا وأول من صلى العشاء الآخرة نبينا صلى الله عليه وسلم فصلاتها من خصائصه
وفى شرح مسند إمامنا الشافعى رضى الله تعالى عنه للإمام الرافعى رحمه الله تعالى كانت الصبح صلاة آدم والظهر صلاة داود أى فقد اشترك داودوإسحاق فى صلاة الظهر والعصر صلاة سليمان فقد اشترك سليمان وعزير فى صلاة العصر صلاة يعقوب أى فقد اشترك يعقوب وداود فى صلاة المغرب والعشاء صلاة يونس وأورد فى ذلك خبرا وعليه فليست صلاة العشاء من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم والأصل أن ما ثبت فى حق أمته إلا أن يقوم الدليل على الخصوصية فليست من خصائص هذه الأمة
وذكر بعضهم أن المغرب كانت صلاة عيسى أى وكانت أربعا ركعتين عن نفسه وركعتين عن أمه أى فقد اشترك عيسى ويعقوب وداود فى صلاة المغرب
وفي كلام بعضهم أول من صلى الفجر آدم والظهر إبراهيم أي وعليه فقد اشترك إبراهيم وإسحاق وداود في صلاة الظهر وأول من صلى العصر و يونس أي وعليه فقد اشترك سليمان وعزيز ويونس في صلاة العصر أول من صلى المغرب عيسى وأول من صلى العتمة التي هي العشاء موسى أي وعليه فقد اشترك موسى ويونس ونبينا صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء
وفي الخصائص الكبرى خص صلى الله عليه وسلم بأنه أول من صلى العشاء ولم يصلها نبي قبله ومن لازمه انه لم يصلها أحد من الأمم وقد جاء التصريح به في بعض الروايات أنكم فضلتم بها أي العشاء على سائر آلام وعليه فهي من خصائصنا ومن خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم وقد تقدم عند بناء الكعبة أن جبريل صلى بإبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم الصلوات الخمس فليتأمل
قال قيل فرضت الصلوات في المعراج ركعتين ركعتين أي حتى المغرب ثم زيدت في صلاة الحضر فأكملت أربعا في الظهر أي في غير يوم الجمعة وأربعا في العصر والعشاء وثلاثا في المغرب وأقرت صلاة السفر على ركعتين أي حتى في المغرب
فعن عائشة رضي الله تعالى عنها فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين أي في الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء فلما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أي بعد شهر وقيل وعشرة أيام من الهجرة زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان وتركت صلاة الفجر أي لم يزد عليها شيء لطول القراءة أي فإنها يطلب فيها زيادة القراءة على الظهر والعصر المطلوب فيهما قراءة طوال المفصل وصلاة المغرب أي تركت صلاة المغرب فلم يزد فيها ركعتان بل ركعة فصارت ثلاثة لأنها وتر النهار أي كما في الحديث فتعود عليه بركة الوترية أن الله وتر يحب الوتر والمراد أنها وتر عقب صلاة النهار وتركت صلاة السفر فلم يزد فيها شيء أي في غير المغرب هذا هو المفهوم من كلام عائشة رضي الله تعالى عنها وهو يفيد أن صلاة السفر استمرت على ركعتين أي في غير المغرب أي وحينئذ يلزم أن يكون القصر في الظهر والعصر والعشاء عزيمة لأرخصة ولا يحسن ذلك مع قوله تعالى { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة }
وفي كلام الحافظ ابن حجر المراد بقول عائشة فأقرت صلاة السفر باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف أي لأنه لما استقر فرض الرباعية خفف منها أي في السفر
لأنه استقر أمرها بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر أو بأربعين يوما ثم نزلت آية القصر فى ربيع الأول من السنة الثانية إلا أنها استمرت منذ فرضت فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة
وقيل فرضت أى الصلوات الخمس فى المعراج أربعا إلا المغرب ففرضت ثلاثا وإلا الصبح ففرضت ركعتين أى وإلا صلاة الجمعة ففرضت ركعتين ثم قصرت لأربع فى السفر أى وهو المناسب لقوله تعالى { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ومن ثم قال بعضهم إن هذا هو الذى يقتضيه ظاهر القرآن وكلام جمهور العلماء
ويمكن أن يكون المراد من كلام عائشة رضى الله تعالى عنها أنها فرضت ركعتين بتشهد ثم ركعتين بتشهد وسلام
وفيه أن هذا لا يأتى فى الصبح والمغرب وقال بعضهم ويبعد هذا الحمل ما روى عنها كان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى أى الصلوات الخمس التى فرضت بالمعراج بمكة ركعتين ركعتين فلما قدم المدينة أى وأقام شهرا أو وعشرة أيام فرضت الصلاة أربعا أو ثلاثا وتركت الركعتان تماما أى تامة للمسافر
وعن يعلى بن أمية قال قلت لعمربن الخطاب { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } وقد أمن الناس قال عمر عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته أى فصار سبب القصر مجرد السفر لا الخوف
وهذا قد يخالف ما فى الإتقان سأل قوم من بنى النجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنا نضرب فى الأرض فكيف نصلى فأنزل الله عز وجل { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ثم انقطع الوحى فلما كان بعد ذلك غزا النبى صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر فقال المشركون لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم فقال قائل منهم إن لهم أخرى مثلها فى أثرها فأنزل الله عز وجل بين الصلاتين { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } إلى قوله { عذابا مهينا } فنزلت صلاة الخوف فتبين بهذا الحديث أن قوله { إن خفتم } شرط فيما بعده وهو صلاة الخوف إلا في صلاة القصر قال ابن جرير هذا تأويل فى الآية حسن لو لم يكن فى الآية إذا قال ابن الغرس يصح مع إذا على جعل الواو زائدة
قلت ويكون من اعتراض الشرط على الشرط وأحسن منه أن يجعل إذا زائدة بناء على قول من يجيز زيادتها هذا كلامه فليتأمل
وقيل فرضت أى الرباعية أربعا فى الحضر وركعتين فى السفر فعن عمررضى الله تعالى عنه صلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان وصلاة الغد ركعتان غير قصر أى تامة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أى وفيه بالنسبة لصلاة السفر ما تقدم
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فرضت فى الحضر أربعا وفى السفر ركعتين وفى الخوف ركعة أى وفيه فى صلاة السفر ما تقدم وقوله فى الخوف ركعة أى يصليها مع الإمام وينفرد بالأخرى وذلك فى صلاة عسفان حيث يحرم بالجميع ويسجد معه صف أول ويحرس الصف الثانى فإذا قاموا سجد من حرس ولحقه وسجد معه فى الركعة الثانية وحرس الآخرون فقد صلى كل صف مع الإمام ركعة فلا يقال إن فى كلام ابن عباس ما يفيد أن صلاة الفجر تقصر وفرض التشهد والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم متأخر عن فرض الصلاة
فعن ابن مسعود كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل السلام على ميكائيل السلام على فلان أى من الملائكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام وقال له بعض الصحابة كيف نصلى عليك إذا نحن صلينا عليك فى صلاتنا فقال قولوا اللهم صل على محمد إلى آخره ولم أقف على الوقت الذى فرض فيه التشهد والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فيه ولا على أن قولهم السلام على الله إلى إخره هل كان واجبا أو مندوبا
قال بعضهم والحكمة فى جعل الصلوات فى اليوم والليلة خمسا أن الحواس لما كانت خمسة والمعاصى تقع بواسطتها كانت كذلك لتكون ما حية لما يقع فى اليوم والليلة من المعاصى أى بسبب تلك الحواس وقد أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله أرأيتم لو كان بباب أحدكم نهر يغتسل منه فى اليوم والليلة خمس مرا ت أكان ذلك يبقى من درنه شيئا قالوا لا قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا
قيل وجعلت مثنى وثلاث ورباع ليوافق أجنحة الملائكة كأنها جعلت أجنحة للشخص يطير بها إلى الله تعالى
وسئل ابن عباس رضى الله تعالى عنهما هل تجد الصلوات الخمس فى كتاب الله تعالى فقال نعم وتلا قوله تعالى { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون } أراد بحين تمسون المغرب والعشاء وبحين تصبحون الفجر وبعشيا العصر وبحين تظهرون الظهر
وإطلاق التسبيح بمعنى الصلاة جاء فى قوله تعالى { فلولا أنه كان من المسبحين } قال القرطبى أى من المصلين وفى الكشاف عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما كل تسبيح فى القرآن فهو صلاة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب = باب عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل
من العرب ان يحموه ويناصروه على ما جاء به من الحق
أى لأنه صلى الله عليه وسلم أخفى رسالته ثلاث سنين ثم أعلن بها فى الرابعة على ما تقدم ودعا إلى الإسلام عشر سنين يوافى الموسم كل عام يتبع الحجاج فى منازلهم أى بمنى والموقف يسأل عن القبائل قبيلة قبيلة ويسأل عن منازلهم ويأتى إليهم في أسواق المواسم وهى عكاظ ومجنة وذو المجاز فقد تقدم أن العرب كانت إذا حجت تقيم بعكاظ شهر شوال ثم تجئ إلى سوق مجنة تقيم فيه عشرين يوما ثم تجئ سوق ذى المجاز فتقيم به إلى أيام الحج يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه
فعن جابر بن عبدالله رضى الله تعالى عنه قال كان النبى صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس فى الموقف ويقول ألا رجل يعرض على قومه فإن قريشا قد منعونى أن أبلغ كلام ربى وعن بعضهم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر إلى المدينة يطوف على الناس فى منازلهم أى بمنى يقول يا أيها الناس إن الله يأمركم أن تتركوا دين آبائكم فسألت من هذا الرجل فقيل أبو لهب يعنى عمه
وفى رواية عن أبى طارق رضى الله تعالى عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوق ذى المجاز يعرض نفسه على قبائل العرب يقول يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله
تفلحوا وخلفه له غديرتان أى ذؤابتان يرجمه بالحجارة حتى أدمى كعبه يقول يا أيها الناس لا تسمعوا منه فإنه كذاب فسألت عنه فقيل إنه غلام عبد المطلب فقلت ومن الرجل الذى يرجمه فقيل هو عمه عبد العزى يعنى أبا لهب
أى وفى السيرة الهشامية عن بعضهم قال إنى لغلام شاب مع أبى بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف فى منازل القبائل من العر ب فيقول يا بنى فلان إنى رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد وأن تؤمنوا بى وتصدقونى وتمنعونى حتى أبين عن الله عز وجل ما بعثنى به قال وخلفه رجل أحول وضئ له غديرتان عليه حلة عذنية فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله قال ذلك الرجل يابنى فلان إن هذا الرجل إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه فقلت لأبى من هذا الرجل الذى يتبعه يرد عليه ما يقول قال هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب
وذكر ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم عرض نفسه على كندة وكلب أى إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله فقال لهم إن الله قد أحسن اسم أبيكم أى عبد الله أى فقد قال صلى الله عليه وسلم أحب الأسماء إلى الله عز وجل عبد الله وعبد الرحمن ثم عرض عليهم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم وعرض على بنى حنيفة وبنى عامر بن صعصعة أى فقال له رجل منهم أرأيت إن نحن بإيعناك على أمرك ثم أظفرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك فقال الأمر إلى الله يضعه حيث شاء قال فقال له أنقاتل العرب دونك وفى رواية أنهدف نحورنا للعرب دونك أى نجعل نحورنا هدفا لنبلهم فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك وأبوا عليه فلما رجعت بنو عامر إلى منازلهم وكان فيهم شيخ أدركه السن حتى لا تقدر أن يوافى معهم الموسم فلما قدموا عليه سألهم عما كان فى موسمهم فقالوا جاءنا فتى من قريش أحد بنى عبد المطلب يزعم أنه بني يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال يا بنى عامر هل لها من تلاف أى تدارك هل لها من مطلب والذى نفس فلان بيده ما يقولها أى ما يدعى البنوة كاذبا أحد من بنى إسمعيل قط وإنها لحق وإن رأيكم غاب عنكم
وذكر الواقدى أنه صلى الله عليه وسلم أتى بنى عبس أى وبنى سليم وغسان وبنى محارب أى وفزارة وبنى نضر ومرة وعذرة والحضارمة فيردون عليه صلى الله عليه وسلم أقبح الرد ويقولون أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك ولم يكن أحد من العرب أقبح ردا عليه من بنى حنيفة أى وهم أهل اليمامة قوم مسيلمة الكذاب وقيل لهم بنو حنيفة لأن أمهم قيل لها ذلك لحنف كان فى رجلها وثقيف أى ومن ثم جاء شر قبائل العرب بنو حنيفة وثقيف
أى ودفع صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر رضى الله تعالى عنه إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلم وقال ممن القوم قالوا من ربيعة قال وأى ربيعة من هامتها أو من لهازمها قالوا بل الهامة العظمى قال من أيها قالوا من ذهل الأكبر قال منكم حامى الذمار ومانع الجار فلان قالوا لا قال منكم قاتل الملوك وسالبها فلان قالوا لا قال منكم صاحب العمامة الفردة فلان قالوا لا قال فلستم من ذهل الأكبر أنتم ذهل الأصغر فقال إليه شاب حين بقل وجهه أى طلع شعر وجهه فقال له إن على سائلنا أن نسأله يا هذا إنك قد سألتنا فأخبرناك فممن الرجل فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه أنا من قريش فقال الفتى بخ بخ أهل الشرف والرياسة فمن أى قريش أنت قال من ولد تيم بن مرة فقال الفتى أمكنت أمنكم قصى الذى كان يدعى مجمعا قال لا قال فمنكم هاشم الذى هشم الثريد لقومه قال لا قال فمنكم شبية الحمد عبد المطلب مطعم طير السماء الذى كأن وجهه القمر يضئ فى الليلة الظلماء قال لا واجتذب أبو بكر رضى الله تعالى عنه زمام ناقته ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له على رضى الله تعالى عنه لقد وقعت من الأعرابى على باقعة أى داهية أى ذى دهاء وهو فى الأصل اسم لطائر حذر يطير يمنة ويسرة قال أجل أبا حسن مامن طامة إلا فوقها طامة والبلاء موكل بالمنطق أى واستفهام الفتى توبيخى لا حقيقى لأن من المعلوم أن من ذكر ليسوا من تيم لأن أبا بكر كما تقدم إنما يجتمع مع النبى صلى الله عليه وسلم فى مرة ومرة جد لقصى فكأنه يقول له إن قبيلتكم لم تشمل على هؤلاء الأشراف أى كما أن قبيلتنا لم تشتمل على أولئك الأشراف
وعن عبد الله بن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لقى جماعة من
شيبان بن ثعلبة وكان معه أبو بكر وعلى رضى الله تعالى عنهما وأن أبا بكر سألهم ممن القوم فقالوا من شيبان بن ثعلبة فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بأبى أنت وأمى هؤلاء غرر أى سادات فى قومهم وفيهم مفروق بن عمرو وهانئ بالهمز ابن قبيصة بفتح القاف ومثنى بن حارثة والنعمان بن شريك وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالا ولسانا له غديرتان أى ذؤابتان من شعر وكان أدنى القوم أى أقرب مجلسا من أبى بكر رضى الله تعالى عنه فقال له أبو بكر كيف العدد فيكم قال مفروق إنا لنزيد على الألف ولن تغلب الألف من قلة والذى قاله صلى الله عليه وسلم لن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة قاله لما أراد أن يغزو هوزان وكان جيشه العدد المذكور كما سيأتى فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه كيف المنعة فيكم قال مفروق علينا الجهد أى بفتح الجيم وضمها أى الطاقة ولكل قوم جد بفتح الجيم أى حظ وسعادة أى علينا أن نجهد وليس علينا أن يكون لنا الظفر لأنه من عند الله يؤتيه من يشاء فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم فقال الفرق إنا لأشد ما يكون غضبا حين نلقى وإنا لأشد ما يكون لقاء حين نغضب وأنا لنؤثر الجياد أى من الخيل على الأولاد والسلاح على اللقاح أى ذوات اللبن من الإبل المهملة أى ينصرنا مرة ويديل علينا مرة أى ينصر علينا أخرى لعلك أخو قريش فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه أو قد بلغكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها هوذا فقال مفروق بلغنا أنه يذكر ذلك فإلام تدعو يا أخا قريش فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنى رسول الله وإلى أن تؤوونى وتنصرونى فإن قريشا قد تظاهرت أى تعاونت على أمر الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغنى الحميد قال مفروق وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } قال مفروق ما هذا من كلام أهل الأرض ولو كان من كلامهم عرفناه ثم قال وإلام
تدعو أيضا يا أخا قريش فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون }
وهذه الآيه ذكر العز بن عبد السلام أنها اشتملت على جميع الأحكام الشرعية وبين ذلك فى سائر الأبواب الفقهية وضمن ذلك كتابا سماه الشجرة فقال مفروق دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم أى صرفوا عن الحق كذبوك وظاهروا أى عاونوا عليك وكان مفروق أراد أن يشركه أى يشاركه فى الكلام هانئ بن قبيصة فقال هذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا فقال هانئ قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش وإنى أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لزلة فى الرأى وقلة نظر فى العاقبة وإنما تكون الزلة مع العجلة ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا ولكن نرجع وترجع وننظر وتنظر وكأنه أحب أن يشركه فى الكلام المثنى بن حارثه فقال هذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا فقال المثنى قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة فى تركنا ديننا واتباعنا دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر وإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلى مياه العرب دون ما يلى أنهار كسرى فعلنا فإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا وأن لا نؤوى محدثا وإنى أرى هذا الأمر الذى تدعونا إليه أنت هو مما تكرهه الملوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسأتم فى الرد إذ أفصحتم بالصدق وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من أحاط به من جميع جوانبه أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا ختى يورثكم الله أرضهم وأموالهم ويغرسكم نساءهم تسبحون الله وتقدسونه فقال النعمان بن شريك اللهم لك ذا فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وبشر المؤمنين } ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم أى وهؤلاء لم أقف على إسلام أحد منهم إلا أن فى الصحابة شخصا يقال له المثنى بن حارثة الشيبانى وكان فارس قومه وسيدهم والمطاع فيهم ولعله هو هذا لقول هانئ بن قبيصة فيه إنه صاحب حربنا
ورأيت بعضهم ذكر أن النعمان بن شريك له وفادة فيكون من الصحابة أى وفى
أسد الغابة أن مفروق بن عمرو من الصحابة ونقل عن أبى نعيم أنه قال لا أعرف لمفروق إسلاما
ولما قدمت بكر بن وائل مكة للحج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكرائتهم فاعرضنى عليهم فأتاهم فعرض عليهم فقال لهم كيف العدد فيكم قالوا كثيرا مثل الثرى قال فكيف المنعة قالوا لا منعة جاورنا فارس فنحن لا نمنع منهم ولا نجير عليهم قال فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم وتستنكحوا نساءهم وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين وتحمدوه ثلاثا وثلاثين وتكبروه ثلاثا وثلاثين قالوا ومن أنت قال أنا رسول الله ثم مر بهم أبو لهب فقالوا له هل تعرف هذا الرجل قال نعم فأخبروه بما دعاهم إليه وأنه زعم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم لا ترفعوا بقوله رأسا فإنه مجنون يهذى من أم رأسه فقالوا لقد رأينا ذلك حيث ذكر من أمر فارس ما ذكر
وفى رواية أنه لما سألهم قالوا له حتى يجئ شيخنا حارثة فلما جاء قال إن بيننا وبينك من الفرس حربا فإذا فرغنا عما بيننا وبينهم عدنا فنظرنا فيما تقول فلما التقوا مع الفرس قال شيخهم ما اسم الرجل الذى دعاكم إليه قالوا محمد قال فهو شعاركم فنصروا على الفرس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بى نصروا أى نصروا بذكرهم اسمى
ولا زال صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل فى كل موسم ويقول لا أكره أحدا على شئ من رضى الذى أدعوه إليه فذلك ومن كره لم أكرهه إنما أريد منعى من القتل حتى أبلغ رسالات ربى فلم يقبله أحد من تلك القبائل ويقولون قوم الرجل أعلم به ترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه
وعن ابن إسحاق لما أراد الله تعالى إظهار دينه وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم وإنجاز موعده له خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الموسم
وفى سيرة مغلطاى ومستدرك الحاكم أن ذلك كان فى شهر رجب يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع فى كل موسم فبينا هو عند العقبة التى تضاف إليها الجمرة فيقال جمرة العقبة أى وهى عند يسار الطريق لقاصد منى مكة وبها الآن مسجد يقال له مسجد البيعة إذ لقى بها رهطا من الخزرج أى لأن الأوس والخزرج كانوا يحجون
فيمن يحج من العرب أى والأوس فى الأصل أى اللغة العطية ويقال للذئب ويقال لرجل اللهو واللعب والخزرج فى الأصل الريح الباردة قيل هى الجنوب خاصة وكانوا ستة نفر وقيل ثمانية أراد الله تعالى بهم خيرا وقد عد الستة فى الأصل وبين الناس اختلاف فى ذكرهم فقال لهم من أنتم قالوا نفر من الخزرج فقال أمن موالى يهود أى من حلفاء يهود المدينة قريظة والنضير لأنهم تحالفوا معهم على التناصر والتعاضد على من سواهم وأن يأمن بعضهم من بعض وهذا كان فى أول أمرهم قبل أن تقوى شوكتهم على يهود قالوا نعم قال أفلا تجلسون أكلمكم قالوا بلى فجلسوا معه صلى الله عليه وسلم وفى لفظ وجدهم يحلقون رءوسهم فجلس إليهم فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام أى ورأوا أمارات الصدق عليه صلى الله عليه وسلم لائحة فقال بعضهم لبعض تعلمون والله أنه للنبى الذى يوعدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه لأن يهود كانوا إذا وقع بينهم وبينهم شئ من الشر قالوا لهم سيبعث نبى قد أظل أى قرب زمانه نتبعه نقتلكم معه قتلة عاد وإرم أى كما تقدم فى أخبار الأحبار والمراد نستأصلكم بالقتل فلما دعاهم إلى الإسلام أجابوه وصدقوه وأسلموا وقالوا له إنا تركنا قومنا يعنون الأوس والخزرج بينهم من العداوة والشر مابينهم أى فإن الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم فوقعت بينهما العداوة وتطاولت بينهما الحروب فمكثوا على المحاربة والمقاتلة أكثر من مائة سنة أى مائة وعشرين كما فى الكشاف فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك
أقول وفى رواية قالوا يا رسول الله إنما كانت بعاث أى بضم الموحدة ثم عين مهملة مخففة وفى آخره ثاء مثلثة وقيل بفتح الموحدة وبدل المهملة معجمة قيل وذكر المعجمة تصحيف فعن ابن دريد صحف الخليل بن أحمد يوم بغاث بالغين المعجمة وإنما هو بالمهملة وفى القاموس بالمهملة والمعجمة عام أول يوم من أيامنا اقتتلنا به ونحن كذلك لا يكون لنا عليك اجتماع حتى نرجع إلى غابرنا لعل الله أن يصلح ذات بيننا وندعوهم إلى ما دعوتنا فعسى الله أن يجمعهم عليك فإن اجتمعت كلمتهم عليك واتبعوك فلا أحد أعز منك وبعاث مكان قريب من المدينة على ليلتين منها عند بنى قريطة ويقال إنه حصن للأوس كان به القتال قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة بخمس سنين بين الأوس
والخزرج وسيد الأوس ورئيسهم حينئذ حضير والد أسيد وبه قتل مع من قتل من قومه وكان النصر فيهم أولا للخروج ثم صار للأوس
وسبب القتل أنه كان من قاعدنهم أن الأصيل لا يقتل بالحليف فقتل رجل من الأوس أى وهو سويد بن الصامت رجلا حليفا للخزرج أى وهو ذياد والد المحذر بن ذياد وذياد بالذال المعجمة مكسورة ومفتوحة وتخفيف المثناة تحت والمحذر بالذال المعجمة مشددة مفتوحة فأرادوا أن يقتلوا سويدا فيه فأبى عليه الأوس وذلك لأن سويدا هذا كان تسميه قومه الكامل لشرفه ونسبه وشعره وجلده كان ابن خالة عبد المطلب لأن أمه أخت سلمى أم عبد المطلب وكان قدم مكة حاجا أو معتمرا فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يسمع بقادم قدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله تعالى فدعا سويدا إلى الله عز وجل وإلى الإسلام فقال له سويد لعل الذى معك مثل الذى معى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الذى معك قال حكمة لقمان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اعرضها على فعرضها عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا الكلام حسن والذى معى أفضلا من هذا قرآن أنزله الله على هو هدى ونور فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال إن هذا القول حسن ثم انصرف وقدم المدينة فلم يلبث أن قتله الخزرج
وفى كلام بعضهم أنه آمن بالله ورسوله وسافر حتى دخل المدينة إلى قومه فشعروا بإيمانه فقتلته الخزرج بغتة وقيل القاتل له المحذر ولد ذياد الذى قتله سويد لأن سويدا كان قد شرب الخمر وجلس يبول وهو ممتلئ سكرا فضربه إنسان من الخزرج فخرج حتى أتى المحذر بن ذياد فقال هل لك فى الغنيمة الباردة قال ما هى قال سويد أعزل لأسلاح معه فخرج المحذر بالسيف مصلتا فلما أبصر سويدا قال له قد أمكن الله منك قال ما تريد منى قال قتلك فقتله فكان ذلك سبب الحرب بين الأوس والخزرج ببعاث فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم الحارث بن سويد والمحذر بن ذياد وشهدا بدرا فجعل الحارث بن سويد يطلب محذرا يقتله بأبيه فلم يقدر عليه حتى كان وقعة أحد قدر عليه فقتله غيلة كما سيأتى
وممن قتل فى هذه الحرب التى يقال لها بعاث شخص يقال له إياس بن معاذ قدم
مكة هو وشخص يقال له أبو الحيسر أنس بن رافع مع جماعة من قومهم يلتمسون الحلف من قريش على قومهم الخزرج فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إليهم وقال لهم هل لكم فى خير مما جئتم له قالوا وما ذاك قال أنا رسول الله بعثنى للعباد وأدعوهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وأنزل على الكتاب ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن فقال إياس بن معاذ وكان صغيرا أى قوم والله خير مما جئنا إليه فأخذ أبو الحيسر حفنة من تراب فضرب بها وجه إياس وانتهره وقال له دعنا منك لقد جئنا لغير هذا فسكت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فلما دنا موت إياس صار يحمد الله ويسبحه ويهلله ويكبره حتى مات والله أعلم ثم انصرف أولئك الرهط من الخزرج راجعين إلى بلادهم
قال وفى رواية أنهم لما آمنو به صلى الله عليه وسلم وصدقوه قالوا له إنا نشير عليك أن تمكث على رسلك أى على حالك باسم الله حتى نرجع إلى قومنا فنذكر لهم شأنك وندعوهم إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم لعل الله يصلح ذا ت بينهم ونواعدك الموسم من العام المقبل فرضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى أى فلم يقع لهؤلاء الستة أو الثمانية مبايعة ويسمى هذا ابتداء الإسلام للأنصار وربما سماه بعضهم العقبة الأولى فلما كان العام المقبل قدم من الأوس والخزرج اثنا عشر رجلا أى عشرة من الخزرج واثنان من الأوس وقيل كانوا أحد عشر رجلا منهم خمسة من الستة أو الثمانية الذين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم عند العقبة أولا فاجتمع بهم صلى الله عليه وسلم عند العقبة أيضا فبايعهم أى عاهدهم صلى الله عليه وسلم أى وسميت المعاهدة مبايعة تشبيها بالمعاوضة المالية وتلا عليهم آية النساء أى الآية التى نزلت بعد ذلك فى شأن النساء يوم الفتح لما فرغ من مبايعة الرجال وأراد مبايعة النساء
فعن عبادة بن الصامت بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة النساء أى كبيعة النساء أى كمبايعة للنساء التى كانت يوم فتح مكة وهى على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزنى ولا نقتل أولادنا أى لأن قتل الأولاد كان سائغا فيهم وهو وأد البنات قيل والبنين خوف الإملاق
وفى النهر كان جمهور العرب لا يئدون بناتهم وكان بعض ربيعة ومضر يئدونهن وهو دفنهن أحياء فبعضهم يئد خوف العيلة والافتقار وبعضهم خوف السبى قال ولا نأتى بهتان أى الكذب الذى يبهت صاحبه سامعه نفتريه بين أيدينا وأرجلنا أى فى الحال والاستقبال قيل وغير ذلك ولا نعصيه فى معروف أى ما عرف من الشارع حسنه نهيا وأمرا
قال الحافظ ابن حجر المبايعة المذكورة فى حديث عبادة بن الصامت على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة وإنما نص بيعة العقبة ما ذكر ابن إسحاق وغيره عن أهل المغازى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لمن حضر من الأنصار أبايعكم على أن تمنعونى ما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم فبايعوه على ذلك وعلى أن يرحل إليهم هو صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم ذكر جملة من الأحاديث وقال هذه أدلة صريحة فى أن هذه البيعة بعد نزول الآية بعد فتح مكة
أقول ليس فى كلام عبادة أن هذه البيعة بيعة العقبة إذ لم يقل بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة وإن كان السياق يقتضيه وحينئذ فلا يحسن أن يكون كلام عبادة شاهدا لمن قال وتلا عليهم آية النساء فلا يحسن التفريع المتقدم بل هو دليل على أن هذه المبايعة متأخرة عن يوم الفتح كما قال الحافظ والله أعلم
زاد بعضهم والسمع والطاعة فى اليسر والعسر والمنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول الحق حيث كنا لا نخاف فى الله لومة لائم ثم قال ومن وفى بالتخفيف والتشديد أى ثبت على العهد فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فى الدنيا فهو أى العقاب طهرة له أو قال كفارة له
واستشكل بأن أبا هريرة روى أنه صلى الله عليه وسلم لا أدرى الحدود كفارة لأهلها أولا وإسلام أبى هريرة تأخر عن بيعة العقبة بسبع سنين كما سيأتى فإنه كان عام خيبر سنة سبع
ويجاب بأن هذه البيعة التى ذكرها عبادة ليست بيعة العقبة بل بيعة غيرها وقعت بعد فتح مكة كما علمت
وحينئذ يكون ما رواه أبو هريرة رضى الله تعالى عنه كان قبل أن يعلم صلى الله عليه وسلم ذلك ثم علمه أى أن الحدود كفارة قال صلى الله عليه وسلم ومن أصاب من
ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى عز وجل إن شاء غفر له وإن شاء عذبه أى وكون الحدود كفارة وطهرة مخصوص بغير الشرك فقتل المريد لا يكون كفارة وطهرة له لأن الله لا يغفر أن يشرك به
وفى رواية فإن رضيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئا فأصبتم بحد فى الدينا فهو كفارة لكم فى الدنيا وإن سترتم عليه فأمركم إلى الله وإن شاء عذب وإن شاء غفر أى وفى هذا رد على من قال بوجوب التعذيب لمن مات بلا توبة وعلى من قال بكفر مرتكب الكبيرة
فلما انصرفوا راجعين إلى بلادهم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ابن أم مكتوم واسمها عاتكة واسمه عمرو وقيل عبدالله وهو ابن خال خديجة بنت خويلد أم المؤمنين رضى الله تعالى عنها
قال الشعبى غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة غزوة ما فيها غزوة إلا واستخلف ابن ام مكتوم على المدينة وكان يصلى بهم وليس له رواية ومصعب ابن عمير وضى الله تعالى عنهما يعلمان من أسلم منهم القرآن ويعلمانهم أى من أراد أن يسلم الإسلام ويفقهانهم فى الدين ويدعوان من لم يسلم منهم إلى الإسلام وهذا ما فى أكثر الروايات وهو يفيد أنه صلى الله عليه وسلم بعث بهما معا ويدل له ما روى عن البراء بن عازب رضى الله تعالى عنه أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرئان الناس القرآن أى وفى رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم مصعبا حين كتبوا إليه يبعث إليهم
وفى رواية ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن عفراء ورافع بن مالك رضى الله تعالى عنهما أن ابعث إلينا رجلا من قبلك يفقهنا ويدعو الناس بكتاب الله وفى رواية كتبوا إليه صلى الله عليه وسلم بذلك فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وكان يقال له المقرى وهو أول من تسمى بهذا الاسم وهذا يدل على أن مصعبا لم يكن معهم
أقول وقد يقال لا منافاة لأنه يجوز أن يكون كتبوا وأرسلوا إليه صلى الله عليه وسلم بذلك عند خروجهم من مكة وقبل أن ينصرفوا منها راجعين إلى المدينة والاقتصار على مصعب لا ينافى ما تقدم من ذكر ابن أم مكتوم معه
ثم رأيت ما يبعد الجمع الأول وهو عن ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعثه يعنى مصعب بن عمير بعدهم وإنما كتبوا إليه إن الإسلام قد فشا فينا فابعث إلينا رجلا من أصحابك يقرئنا القرآن ويفقهنا فى الإسلام ويعلمنا بسنته وشرائعه ويؤمنا فى صلاتنا فبعث مصعب بن عمير وما يبعد الجمع الثانى وهو ما نقل عن الواقدى أن ابن أم مكتوم قدم المدينة بعد بدر بيسير وفى كلام ابن قتيبة وقدم ابن أم مكتوم المدينة مهاجرا بعد بدر بسنتين
وقد يقال لا منافاة لأنه يجوز أن يكون كل من مصعب بن عمير وابن أم مكتوم رجعا إلى مكة بعد محبيئهما مع القوم وأن مكاتبتهم بأن الإسلام فشا فينا إلى آخره كانت وهم بالمدينة فجاء إليهم مصعب وتخلف ابن أم مكتوم فليتأمل ذلك والله تعالى أعلم وهذه المبايعة يقال لها العقبة الأولى لوجود تلك المبايعة عندها
ولما قدم مصعب المدينة نزل على أبى أمامة أسعد بن زرارة رضى الله تعالى عنه دون بقية رفقته وكان سالم مولى أبى حذيفة رضى الله تعالى عنه يؤم المهاجرين بقباء قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مصعب يؤم القوم أى الأوس والخزرج لأن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض وجمع بهم أول جمعة جمعت فى الإسلام قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة وقبل نزول سورة الجمعة الآمرة بها فإنها مدنية
وقال الشيخ أبو حامد فرضت الجمعة بمكة ولم يتمكن من فعلها قال الحافظ ابن حجر وهو غريب أى وعلى صحته فهو ما تقدم حكمه على تلاوته
وعند ابن إسحاق أن أول من جمع بهم أبو أمامة أسعد بن زرارة وكانوا أربعين رجلا أى فعن كعب بن مالك قال أول من جمع بنا فى المدينة أسعد بن زرارة قبل مقدم النبى صلى الله عليه وسلم فى نقيع الخضمان والنقيع بالنون قيل أو بالباء الموحدة لكن قال الخطابى إنه خطأ والخضمان جمع خضمة وهى الماشية التى تخضم أى تأكل بفمها كله مما فى ذلك المحل من الكلأ وهو اسم لقرية من قرى المدينة قال وكنا أربعين رجلا أى ولا مخالفة لأن مصعب بن عمير كان عند أبى أمامة أسعد بن زرارة كما علمت فكان هو المعاون على الجمع وكان الخطيب والمصلى مصعب بن عمير فنسب الجمع لكل منهما أى ويكون ما فى الرواية الآتية من أن أسعد بن زرارة هو الذى صلى بهم على التجوز أى جمعهم على الصلاة ويؤيده ما تقدم من أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض وأيضا المأمور بالتجميع مصعب بن عمير كما سياتى
قال السهيلى وتسميتهم أى الأنصار إياها بهذا الاسم أى تسميتهم اليوم بيوم الجمعة لاجتماعهم فيه هداية من الله تعالى لهم وإلا فكانت تسمى فى الجاهلية العروبة أى يسمى ذلك اليوم بيوم العروبة أى الرحمة وقال عليه الصلاة والسلام فى حق ذلك اليوم إنه اليوم الذى فرض عليهم أى على اليهود والنصارى أى طلب منهم تعظيمه والتفرغ للعبادة فيه كما فرض علينا أضلته اليهود والنصارى وهداكم الله تعالى له أى إن كلا من اليهود والنصارى أمر بذلك اليوم يعظمون فيه الحق سبحانه وتعالى يتفرغون فيه لعبادته واختار اليهود من قبل أنفسهم بدله السبت لأنهم يزعمون أنه اليوم السابع الذى استراح فيه الحق سبحانه وتعالى من خلق السموات والأرض وما فيهن من المخلوقات أى بناء على أن أول الأسبوع الأحد وأنه مبدأ الخلق قال بعضهم وهو الراجح
وفى كلام بعضهم أول الأسبوع الأحد لغة وأوله السبت عرفا أى فى عرف الفقهاء فى الإيمان ونحوها ويؤيد الأول أن السبت مأخوذ من السبات وهى الراحة قال تعالى { وجعلنا نومكم سباتا } أى راحة ظنا منهم أنه أولى بالتعظيم لهذه الفضيلة
واختارت النصارى من قبل أنفسهم بدل يوم الجمعة يوم الأحد أى بناء على أنه أول يوم ابتدأ الله فيه بإيجاد المخلوقات ظنا منهم أنه أولى بالتعظيم لهذه الفضيلة وحينئذ يكون معنى قوله أضلوه تركوه مع علمهم به ويؤيد ذلك ما جاء إن الله تعالى فرض على اليهود الجمعة فأبوا وقالوا ياموسى اجعل لنا يوم السبت فجعل عليهم وهدى الله تعالى المسلمين ليوم الجمعة أى وهداية المسلمين له تدل على أنهم لم يعلموا عينه وإنما اجتهدوا فيه فصادفوه
وفى سفر السعادة كان من عوائده الكريمة صلى الله عليه وسلم أن يعظم يوم الجمعة غاية التعظيم ويخصه بأنواع التشريف والتكريم
وجاء إن أهل الجنة يتباشرون في الجنة بيوم الجمعة كما تتباشر به أهل الدينا فى الدينا واسمه عندهم يوم المزيد كما تقدم لأن الله تعالى يتجلى عليهم فى ذلك اليوم ويعطيهم كل ما يتمنونه ويقول لهم لكم ما تمنيتم ولدينا مزيد فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير
وقد جاء فى المرفوع يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله تعالى فهو فى الأيام كشهر رمضان فى الشهور وساعة الإجابة فيه كليلة القدر فى رمضان
والذى فى البخارى ثم هذا أى يوم الجمعة يومهم الذى فرض عليهم أى على اليهود والنصارى فاختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد وقوله فاختلفوا فيه يدل على انهم لم يعلموا عينه ويوافقه ما نقل عن بعض أهل العلم أن اليهود أمروا بيوم من الأسبوع يعظمون الله تعالى فيه ويتفرغون لعبادته فاختاروا من قبل أنفسهم السبت فأكرموه فى شرعهم وكذلك النصارى أمروا على لسان عيسى بيوم الأسبوع فاختاروا من قبل أنفسهم الأحد فالتزموه شرعا لهم وهو يخالف ما سبق فليتأمل
قال بعضهم والراجح أن أول الأسبوع السبت لأنه أول يوم ابتدئ فيه بايجاد المخلوقات فقد جاء فى الصحيح إن الله خلق التربة يوم السبت والجبال يوم الأحد والشجر يوم الأثنين والمكروه يوم الثلاثاء والنور يوم الأربعاء كذا فى مسلم وعليه يشكل تسمية اليوم الذى يليه الأحد وأجيب بأنه من تسمية اليهود وتبعهم غيرهم
وقد ذكر السهيلى أن تسمية هذه الأيام طارئة ولو كان الله سبحانه وتعالى سماها فى القرآن بهذه الأسماء المشتقة من العدد لقلنا هى تسمية صادقة لكن لم يذكر منها إلا الجمعة والسبت وإنهما ليسا مشتقين من العدد هذا كلامه
ورد بأنه جاء إن الله تعالى خلق يوما فسماه الأحد ثم خلق ثانيا فسماه الاثنين ثم خلق ثالثا فسماه الثلاثاء ثم خلق رابعا فسماه الأربعاء ثم خلق خامسا فسماه الخميس
وأجاب ابن حجر الهيتمى بأن هذه أى التسمية المذكورة لم تثبت وأن العرب تسمى خامس الورد أربعاء هذا كلامه فيكون أول الأسبوع السبت
ثم رأيت السهيلى قال لم يسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحد والاثنين إلى سائرها إلا حاكيا للغة قومه لا مبتدئا تسميتها ولعل قومه أن يكونوا أخذوا معانى هذه الأسماء من أهل الكتاب المجاورين لهم فألقوا عليها هذه الأسماء اتباعا لهم هذا كلامه فليتأمل
وفى السبعينات للهمدانى أكرم الله موسى عليه الصلاة والسلام بالسبت وعيسى بالأحد وداود بالاثنين وسليمان بالثلاثاء ويعقوب بالأربعاء وآدم بالخميس ومحمدا صلى الله عليه وسلم بالجمعة وهذا يدل على أن اليهود لم يختاروا يوم السبت والنصارى يوم الأحد من عند أنفسهم فليتأمل الجمع
وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن يوم السبت قال يوم مكر وخديعة أى وقع فيه المكر والخديعة أى لأنه اليوم الذى اجتمعت فيه قريش فى دار الندوة للاستشارة فى أمره صلى الله عليه وسلم وسئل عن يوم الأحد فقال يوم غرس وعمارة لأن الله تعالى ابتدأ فيه خلق الدنيا وعمارتها وفى رواية لأن الجنة بنيت فيه وغرست وسئل عن يوم الاثنين فقال يوم سفر وتجارة لأن فيه سافر شعيب فربح فى تجارته وسئل عن يوم الثلاثاء فقال يوم دم لأن فيه حاضت حواء وقتل ابن آدم أخاه
وذكر الهمدانى فى السبعيات أيضا أنه قتل فيه سبعة جرجيس وزكريا ويحيى ولده عليهم الصلاة والسلام وسحرة فرعون وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وبقرة بنى إسرائيل وهابيل بن آدم وبين قصة كل واحد
أى ومن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجامة يوم الثلاثاء أشد النهى وقال فيه ساعة لا يرقأ فيها الدم وفيه نزل إبليس إلى الأرض وفيه خلفت جهنم وفيه سلط الله ملك الموت على أرواح بنى آدم وفيه ابتلى أيوب وفى بعض الروايات أن اليوم الذى ابتلى الله فيه أيوب يوم الأربعاء
وسئل عن يوم الأربعاء قال يوم نحس لأن فيه أغرق فرعون وقومه وأهلك فيه عاد وثمود وقوم صالح أى ومن ثم كان يسمى فى الجاهلية دبار والدبار الملهى لكن الذى فى الحديث الموقوف على ابن عباس الذى لا يقال من قبل الرأى آخر أربعاء فى الشهر يوم نحس مستمر وجاء يوم الأربعاء لا أخذ ولا عطاء
وذكر الزمخشرى أن بعضهم قال لأخيه اخرج معى في حاجة فقال هذا الأربعاء قال فيه ولد يونس قال لاجرم قد بانت له بركته أى حيث ابتلعه الحوت قال وفيه ولد يوسف قال فما أحسن ما فعل به إخوته طال حبسه وغربته قال وفيه نصر المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال أجل ولكن بعد أن زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر
وورد فى بعض الآثار النهى عن قص الأظفار يوم الأربعاء وأنه يورث البرص
وعن ابن الحاج صاحب المدخل أنه هم بقص أظفاره يوم الأربعاء فتذكر ذلك فترك ثم رأى أن قص الأظفار سنة حاضرة ولم يصح عنده النهى فقصها فلحقه البرص فرأى النبى صلى الله عليه وسلم فى النوم فقال له ألم تسمع نهى عن ذلك فقال
يا رسول الله لم يصح ذلك عندى فقال يكفيك أن تسمع ثم مسح صلى الله عليه وسلم بيده على بدنه فزال البرص جميعا قال ابن الحاج فجددت مع الله توبة أنى لا أخالف ما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا
وجاء فى حديث أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر مرفوعا وخرجه الحاكم من طريقين آخرين لا يبدو جذام ولا مرض إلا يوم الأربعاء وكره بعضهم عيادة المريض يوم الأربعاء
وفى منهاج الحليمى وشعب الإيمان للبيهقى إن الدعاء مستجاب يوم الأربعاء بعد الزوال قبل وقت العصر لأنه صلى الله عليه وسلم استجيب له الدعاء على الأحزاب فى ذلك اليوم فى ذلك الوقت وكان جابر يتحرى ذلك بالدعاء فى مهماته وذكر أنه ما بدئ بشئ يوم الأربعاء إلا وتم فينبغى البداءة بنحو التدريس فيه
وسئل عن يوم الخميس فقال يوم قضاء الحوائج لأن فيه دخل إبراهيم الخليل على ملك مصر فقضى حاجته وأعطاه هاجر ومن ثم زاد فى رواية والدخول على السلطان وسئل عن يوم الجمعة فقال يوم نكاح نكح فيه آدم حواء ويوسف زليخا وموسى بنت شعيب وسليمان بلقيس أى ونكح فيه صلى الله عليه وسلم خديجة وعائشة
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أذن النبى صلى الله عليه وسلم لهم قبل الهجرة أى قبل أن يهاجر صلى الله عليه وسلم فى إقامة الجمعة أى فلم يفعلوها باجتهاد بل بإذنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بن عمير رضى الله تعالى عنه أما بعد فانظر اليوم الذى تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم أى اليوم الذى يليه يوم السبب فاجمعوا نساءكم وأبناءكم فإذا مال النهار عن شطره فتقربوا إلى الله بركعتين فجمع مصعب بن عمير عند الزوال أى صلى الجمعة حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أى استمر على ذلك حتى قدم النبى صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم عين لهم ذلك اليوم وهو خلاف قوله السابق فهداكم الله له الظاهر فى أن هدايتهم له باجتهاد منهم
ويدل له ما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما باسناد صحيح أن الأنصار قالوا إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك فهلم فلنجعل يوما نجتمع فيه فنذكر الله ونصلى ونشكره فجعلوه يوم العروبة أى لأنه اليوم الذى وقع
فيه خلق آدم الذى هو مبدأ هذا الجنس وجعل فيه فناء الخلق وانقضاءهم إذ فيه تقوم الساعة ففيه المبدء والمعاد إذ هو المروى عن ابن عباس يقتضى أن الأنصار اختاروه باجتهاد منهم إلا أن يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون هذا العزم على ذلك حصل منهم أولا ثم أرسلوا له صلى الله عليه وسلم يستأذنونه فى ذلك فأذن لهم فيه فقد جاء الوحى موافقة لما اختاروه
وفيه أنه لو كان كذلك لقال صلى الله عليه وسلم لمصعب بن عمير افعلوا ذلك ولم يقل له انظروا إلى اليوم إلى آخره إلا أن يقال يجوز أنهم لما استأذنوه صلى الله عليه وسلم فى الاجتماع لم يعينوا له اليوم فبينه صلى الله عليه وسلم لهم وتقدم عن الشيخ أبى حامد أن الجمعة أمر بها صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وتركها لعدم التمكن من فعلها تقدم عن الحافظ ابن حجر أنه غريب ويؤيده أنه لو كان أمر بها صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وتركها لعدم التمكن من فعلها لأمر بها مصعب بن عمير عند إرساله للمدينة ولم يأمره بها إلا بعد ذلك إلا أن يقال إنما لم يأمره بها حينئذ لأنه يجوز أن يكون إنما أمر بها بعد ذهاب مصعب إلى المدينة أو أنه إنما ألم يأمره بذلك لأن لإقامتها شروطا منها العدد وهو عند إمامنا الشافعى رضى الله تعالى عنه أربعون بشروط ولم يكن ذلك موجودا عند إرساله صلى الله عليه وسلم ومن ثم لما علم صلى الله عليه وسلم وجود العدد المذكور أرسل له يأمره بذلك فى قوله أما بعد فانظر اليوم الخ
ثم لا يخفى أن ظاهر سياق الروايات يدل على أن الذى هداهم الله إليه إنما هو إيقاع العبادة فى هذا اليوم لا تسميته بيوم الجمعة كما تقدم عن السهيلى على أن تسميتهم له بذلك لم أقف عليها فى رواية
على أن السهيلى ذكر عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم سماها يوم الجمعة لما أرسل لمصعب بن عمير أن يفعلها كما تقدم فى الإسراء وذكر أيضا أ كعب بن لؤى أول من سمى يوم العروبة الجمعة
وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن تكون الأنصار ومن معهم من المهاجرين لم يبلغهم ما ذكر عن كعب بن لؤى إن ثبت أنهم سموها بهذا الاسم اجتهادا منهم
وعن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبب تسمية هذا اليوم بيوم الجمعة فقال لأن فيها جمعت طينة أبيك آدم وقدمنا أنه لا مخالفة بين ما هنا وما تقدم فى الإسراء والله أعلم
وأسلم سعد بن معاذ وابن عمه أسيد بن حضير رضى الله تعالى عنهما على يد بن مصعب ابن عمير وكان إسلام أسيد قبل سعد فى يومه
فعن ابن إسحاق أن أسعد بن زرارة رضى الله تعالى عنه خرج بمصعب بن عمير إلى حائط أى بستان من حوائط بنى ظفر فجلسا فيه واجتمع إليهما رجال ممن أسلم وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير يؤمئذ سيدا قومهما أى بنى عبد الأشهل وكلاهما مشرك على دين قومه فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير لا أبالك انطلق بنا إلى هذين الرجلين يعنى أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير اللذين أتيا دارينا تثنية دار وهى المحلة والمراد قبيلتنا وعشيرتنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما أى وفى لفظ قال له ائت أسعد بن زرارة فازجره عنا فليكف عنا ما نكره فإنه بلغنى أنه قد جاء بهذا الرجل الغريب يسفه سفهاءنا وضعفاءنا فإنه لولا أسعد بن زرارة منى حيث علمت لكفيتك ذلك هو ابن خالتى ولا أجد عليه مقدما فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه ثم قال مصعب إن يجلس هذا كلمته قال فوقف عليهما متشمتا قال ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة وفى لفظ قال يا أسعد ما لنا ولك تأتينا بهذا الرجل الغريب تسفه به سفهاءنا وضعفاءنا
وفى رواية علام أتيتنا فى دورنا بهذا الرجل الوحيد الغريب الطريد يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه فقال له مصعب أو تجلس بفتح الواو استفهاما فتسمع بالنصب فى جواب الاستفهام فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره أى منعنا عنك ما تكره قال أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليها فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن فقال ما أحسن هذا وأجمله بالنصب على التعجب كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا فى هذا الدين قالا له تغتسل وتتطهر وتغسل ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلى فقام واغتسل وطهر ثوبه وشهد بشهادة الحق ثم قام فركع ركعتين أى وهما صلاة التوبة
فقد روى أصحاب السنن وقال الترمذى حديث حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال ما من عبد يذنب دنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلى ركعتين ثم يستغفر الله عزوجل إلا غفر له ثم قال لهما إن ورائى رجلا أن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه
وسأرسله إليكما الآن وهو سعد بن معاذ رضى الله تعالى عنه ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس فى ناديهم فلما نظر إليه سعد مقبلا قال أحلف بالله لقد جاءكم أسيدين بن حضير بغير الوجه الذى ذهب به من عندكم فلما وقف على النادى قال له سعد ما فعلت قال كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما فقالا نفعل ما أحببت وقد حدثت أن بنى حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك أى ينقضوا عهدك فقام سعد مغضبا مبادرا فأخذ الحربة من يده وقال والله ما أراك أغنيت شيئا ثم خرج إليهما ولما أقبل سعد قال أسعد لمصعب لقد جاءك والله سيد من وراءه من قومه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان فلما رآهما سعد مطمئنين عرف سعد أن أسيدا إنما أراد منه أن يسمع منهما فوقف عليهما متشمتا ثم قال لأسعد بن زرارة يا أبا أمامة والله لولا ما بينى وبينك من القرابة ما رمت منى هذا هذا يغشانا فى دارنا بما نكره فقال له مصعب أو تقعد تسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهت عزلنا عنك ما تكره فقال سعد أنصفت ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام وعرض عليه القرآن فقال لهما كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم فى هذا الدين فقال تغتسل وتتطهر وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تركع ركعتين فقام سعد فاغتسل وطهر ثوبه ثم شهد شهادة الحق ثم ركع ركعتين ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادى قومه ومعه أى مع ذلك النادى أسيد بن حضير فلما رآه قومه مقبلا قالوا نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذى ذهب به من عندكم فلما وقف عليهم قال يا بنى عبد الأشهل كيف تعلمون أمرى فيكم قالوا سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا وأبركنا نقيبة أى نفسا وأمرا قال فإن كلام رجالكم ونسائكم على حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله قال فوالله ما أمسى فى دارى أى قبيلة بنى عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة فأسلموا فى يوم واحد كلهم وكان ذلك بعد العقبة الأولى وقبل العقبة الثانية إلا ما كان من الأصيرم وهو عمرو بن ثابت من بنى عبد الأشهل فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم واستشهد ولم يسجد لله سجدة وأخبره صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة
أى وفى كلام ابن الجوزى أول دار أى قبيلة أسلمت من دور الأنصار دار بنى عبد الأشهل ثم رجع مصعب إلى دار أسعد بن زرارة رضى الله تعالى عنه فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا فيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان
من سكان عوالى المدينة أى قراها من جهة نجد قال وفى كلام بعضهم إلا جماعة من الأوس بن حارثة وذلك أنه كان فيهم أبو قيس وهو صيفى بن الأسلت وكان شاعرا لهم يسمعون منه ويطيعونه لأنه كان قوالا بالحق معظما وقد ترهب فى الجاهلية ولبس المسوح واغتسل من الجنابة ودخل بيتا له فاتخذه مسجدا وقال اعبد إله إبراهيم لا يدخل فيه حائض ولا جنب فوقف بهم عن الإسلام فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر واحد والخندق فاسلم وحسن إسلامه وهو شيخ كبير اه أى سبب تأخر إسلامه ما ذكره بعضهم أنه لما أراد الإسلام عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة لقيه أبى ابن سلول وكلمه بما أغضبه ونفره عن الإسلام وقال أبو قيس لا أتبعه إلا آخر الناس فلما احتضر أرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قل لا إله إلا بالله أشفع لك بها فقالها وهم ابنه أن ينكح امرأة أبيه أى على ما هو عادة الجاهلية أى وكان ذلك فى المدينة حتى فى أول الإسلام أن أكبر أولاد الرجل يخلفه على زوجته بعد موته فنزل التحريم أى قوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } وتقدم الكلام على سبب نزول هذه الآية مستوفى
ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة مع من خرج من المسلمين من الأنصار إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة أى وأخبر النبى صلى الله عليه وسلم بمن أسلم فسر بذلك
وعن كعب بن مالك قال خرجنا فى حجاج قومنا من المشركين ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا والبراء بالمد لغة آخر ليلة من الشهر سمى بذلك لأنه ولد فيها ومعرور معناه لغة مقصود فلما خرجنا من المدينة قال البراء لنا إنى قد رأيت رأيا ما أدرى أتوافقونى عليه أم لا قال قلنا وما ذاك قال رأيت أن لا أدع هذه البنية أى بفتح الموحدة وكسر النون وتشديد المثناة تحت المفتوحة ثم تاء التأنيث على وزن فعيلة يعنى الكعبة منى بظهر وأن أصلى إليها قال قلنا والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلى إلا إلى الشام يعنون بيت المقدس أى صخرته وما نريد أن نخالفه قال فقال إنى أصلى إليها قال فقلنا له لكنا لا نفعل قال فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام يعنى بيت المقدس أى واستدبرنا الكعبة وصلى إلى الكعبة أى مستديرا للشام حتى قدمنا مكة وقد كنا عبنا عليه ذلك وأبى إلاقامة على ذلك فلما قدمنا مكة
قال لي يا ابن أخي انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شيء لما رأيت من خلافكم إياي فيه قال فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا لا نعرفه لأنا لم نره قبل ذلكن فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعرفانه قلنا لا قال فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه قلنا نعم وكنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجرا قال فإذا دخلتما المسجد فإذا هو الرجل الجالس مع العباس فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم معه فسلمنا حين جلسنا إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل قال نعم هذا البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب ابن مالك قال كعب فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاعر قال نعم فقال له البراء بن معرور يا رسول الله إني خرجت في سفري هذا وقد هداني الله بالإسلام فرأيت أن لا أجعل هذه البنية منى بظهر يعني الكعبة فصليت إليها وخالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شيء فماذا ترى يا رسول الله قال قد كنت على قبلة لو صبرت عليها فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بيت المقدس أي ولم يأمره بإعادة ما صلاه مع أنه كان مسلما وبين له أنه كان الواجب عليه استقبال بيت المقدس لأنه كان متأولا فليتأمل
وفي هذا تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا بمكة قبل الهجرة وبعدها يصلون إلى بيت المقدس قبل أن تحول القبلة وقد تقدم الوعد بذلك
قال كعب ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة أي إلى أن يوافوه في الشعب الأيمن إذا انحدروا من منى أسفل العقبة حيث المسجد اليوم أي الذي يقال له مسجد البيعة كما تقدم وأمرهم أن لا ينبهوا نائما ولا ينتظروا غائبا وذلك في ليلة اليوم الذي هو يوم النفر الأول قال فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا وكان من جملة المشركين أبو جابر عبد الله بن عمرو بن حرام بفتح الحاء والراء المهملتين سيد من ساداتنا فكلمناه وقلنا له يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا ثم دعوناه
إلى الإسلام فأسلم وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة فمكثنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعد هدءة يتسلل الرجل والرجلان تسلل القطا مستخفين حتى إذا اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاث وسبعون رجلا وامرأتان نسيبة بالتصغير وهي أم عمارة من بني النجار أي وكانت تشهد الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وزوجها وابناها حبيب وعبد الله رضي الله تعالى عنهم وحبيب هذا اكتنفه مسيلمة الكذاب وصار يعذبه يقول له أتشهد أن محمدا رسول الله فيقول نعم ثم يقول وتشهد أني رسول الله فيقول لا فيقطع عضوا من أعضائه وهكذا حتى فنيت أعضاؤه ومات وسيأتي ما وقع لها رضي الله تعالى عنها في حرب مسيلمة وأم منيع أي وهذه الرواية لا تخالف رواية الحاكم حمسة وسبعون نفسا نعم تحالف قول ابن مسعود وهم سبعون رجلا يزيدون رجلا أو رجلين وامرأتان أي منهم أحد عشر رجلا من الأوس قال فلا زلنا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم حتى جاءنا أي وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقهم وانتظرهم
أقول وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون سبقهم وانتظرهم فلما لم يجيئوا ذهب ثم جاءهم بعد مجيئهم والله أعلم ومعه عمه العباس بن عبد المطلب أي ليس معه غيره وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له
أقول وهذا لا يخالف ما جاء أنه كان معه أيضا أبو بكر وعلى لأن العباس أوقف عليا على فم الشعب عينا له وأوقف أبا بكر على فم الطريق الآخر عينا فلم يكن معه عندهم إلا العباس والله أعلم فلما جلسوا كان العباس أول من تكلم فقال يا معشر الخزرج أي قال ذلك لأن العرب كانت تطلق الخزرج على ما يشمل الأوس وكانت تغلب الخزرج على الأوس فيقولون الخزرجين إن محمدا منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فهو في عز من قومه ومنعة في بلده وقد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن تدعونه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده فقال البراء بن معرور أنا
والله لو كان في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه ولكنا نريد الوفاء والصدق وبذل مهج أنفسنا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أي والبراء بن معرور هو اول من أوصى بثلث ماله
وفي رواية أن العباس قال قد أبي محمد الناس كلهم غيركم فإن كنتم أهل قوة وجلد وبصر بالحرب واستقلال بعداوة العرب قاطبة ترميكم عن قوس واحدة فأروا رايكم وائتمروا بينكم ولا تفرقوا إلا عن ملأ منكم واجتماع فإن أحسن الحديث أصدقه
أقول قول العباس قد أبى محمد الناس كلهم غيركم ربما يفيد أن الناس غير الأنصار وافقوه على مناصرته فأباهم ولا يساعد عليه ما تقدم ولولا التأكيد بلفظ كلهم لأمكن أن يراد بالناس قبيلة شيبان بن ثعلبة فإنهم كما تقدم قالوا له ننصرك بما يلي مياه العرب دون ما يلي مياه كسرى فأبى ذلك ويحتمل أن المراد بالناس الذين أباهم أهله وعشيرته والله أعلم
وعندما تكلم العباس بما ذكر قالوا له قد سمعنا مقالتك فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت وفي رواية خذ لنفسك ما شئت واشترط لربك ما شئت فقال النبي صلى الله عليه وسلم أشترط لربي عز وجل أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم ونساءكم فقال ابن رواحة فإذا فعلنا فما لنا فقال صلى الله عليه وسلم لكم الجنة قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل
وفي رواية فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله عز وجل ورغب في الإسلام ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم أي وفي رواية أنهم قالوا له يا رسول الله نبايعك قال تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة فاخذ البراء بن معرور بيده صلى الله عليه وسلم ثم قال نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع به أزرنا أي نساءنا وأنفسنا لأن العرب تكنى بالإزار عن المرأة وعن النفس فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة أي السلاح ورثناها كابرا عن كابر وبينا البراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو الهيثم بن التيهان بتشديد المثناة تحت وتخفيفها نقبله على مصيبة المال وقتل
الأشراف فقال العباس اخفوا جرسكم أي صوتكم فإن علينا عيونا ثم قال أبو الهيثم يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال يعني اليهود حبالا أي عهودا وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال بل الدم الدم والهدم الهدم بفتح الدال وسكونها إهدار دم القتيل أي دمي دمكم أي تطلبون بدمي وأطلب بدمكم فدمي ودمكم واحد وفي لفظ بدل الدم اللدم وهو بالتحريك الحرم من القرابات أي حرمكم خرمكم تقول العرب اللدم اللدم إذا أرادت تأكيد المحالفة هدمي وخدمكم واحد أي وإذا أهدرتم الدم أهدرته وذمتي ذمتكم ورحلتي مع رحلتكم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم أي وعند ذلك قال لهم العباس رضي الله تعالى عنه عليكم بما ذكرتم ذمة الله مع ذمتكم وعهد الله مع عهدكم في هذا الشهر الحرام والبلد الحرام يد الله فوق أيديكم لتجدن في نصرته ولتشدن من أزره قالوا جميعا نعم قال العباس اللهم إنك سامع شاهد وإن ابن أخي قد استرعاهم ذمته واستحفظهم نفسه اللهم كن لابن أخي عليهم شهيدا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجوا إلي منكم اثنى عشر نقيبا فلا يحدث أحد في نفسه أن يؤخذ غيره فإنما يختار لي جبريل أي لأنه عليه الصلاة والسلام حضر البيعة فلما تخيرهم أي وهم سعد بن عبادة وأسعد بن زرارة وسعد بن الربيع وسعد بن أبي خيثمة والمنذر بن عمرو وعبد الله بن رواحة والبراء بن معرور وأبو الهيثم بن التيهان وأسيد بن حضير وعبد الله بن عمرو بن حرام وعبادة بن الصامت ورافع بن مالك كل واحد على قبيلة رضي الله تعالى عنهم أجمعين وقال صلى الله عليه وسلم لأولئك النقباء أنتم كفلاء على غيركم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي يعني المهاجرين
وقيل إن الذي تولى الكلام من الأنصار وشد العقدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة أي وهو من اصغرهم فإنه أخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم وقال رويدا يا أهل يثرب إنا لن نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن إخراجه اليوم مفارقة لجميع العرب وقتل خياركم وإن تعطكم السيوف
فإما أنتم قوم تصبرون عليها إذا مستكم بقتل خياركم ومفارقة العرب كافة أي جميعا فخذوه وأجركم على الله تعالى وإما أنتم تحافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو عذر لكم عند الله عز وجل فقالوا يا أسعد أمط عنا يدك فوالله لا نذر أي نترك هذه البيعة ولا نستقيلها أي لا نطلب الإقالة منها
وقيل إن الذي تكلم مع الأنصار وشد العقدة العباس بن عبادة بن نضلة قال يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس أي على من حاربه منهم وإلا فهو صلى الله عليه وسلم لم يؤذن له في البداءة بالمحاربة إلا بعد أن هاجر إلى المدينة بمدة كما سيأتي وكان قبل ذلك مأمورا بالدعاء إلى الله تعالى والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل ثم ذكر ما تقدم عن أسعد بن زرارة أي ثم توافقوا على ذلك وقالوا يا رسول الله ما لنا بذلك إن نحن قضينا قال رضوان الله والجنة قالوا رضينا ابسط يدك فبسط يده صلى الله عليه وسلم فبايعوه أي وأول من بايعه صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور وقيل أسعد بن زرارة وقيل أبو الهيثم بن التيهان ثم بايعه السبعون كلهم أي وبايعه المرأتان المذكورتان من غير مصافحة لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصافح الناس إنما كان يأخذ عليهن فإذا أحرزن قال اذهبن فقد بايعتكن كما سيأتي فكانت هذه البيعة على حرب الأسود والأحمر أي العرب والعجم فهؤلاء الثلاثة لم يتقدم عليهم أحد غيرهم وحينئذ تكون الأولية فيهم حقيقية وإضافية
أي ويقال إن أبا الهيثم قال أبايعك يا رسول الله على ما بايع عليه الاثنا عشر نقيبا من بني إسرائيل موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام وأن عبد الله بن رواحة قال أبايعك يا رسول الله على ما بايع عليه الاثنا عشر من الحواريين عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وقال أسعد بن زرارة أبايع الله عز وجل يا رسول الله فأبايعك على أن أتم عهدي بوفائي واصدق قولي بفعلي في نصرك وقال النعمان بن حارثة أبايع الله عز وجل يا رسول الله وأبايعك على الإقدام في أمر الله عز وجل لا أرأف فيه القريب ولا البعيد أي لا أعامل فيه بالرأفة والرحمة وقال عبادة بن الصامت ابايعك يا رسول الله على أن لا تأخذني في الله لومة لائم وقال سعد بن الربيع أبايع الله وأبايعك يا رسول الله على أن
لا أعصى لكما أمرا ولا أكذبكما حديثا فلما انتهت البيعة وهذه البيعة يقال لها العقبة الثانية ولما وقعت صرخ الشيطان من رأس العقبة بأشد صوت وأبعده يا أهل الجباجب أي بجيمين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وبعد كل جيم باء موحدة وهي منازل منى وفي الهدى يا أهل الأخاشب هل لكم في مذمم والصباة معه يعني بمذمم النبي صلى الله عليه وسلم لأن قريشا كانت تقول بدل محمد صلى الله عليه وسلم مذمم ويعني بالصباة أصحابه الذين بايعوه لأنهم كانوا يقولون لمن أسلم صابيء لأن الصابىء من خرج من دين إلى دين وقد جاء ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم يسبون مذمما وأنا محمد فإنهم قد أجمعوا أي عزموا على حربكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا إزب العقبة أسمع أي عدو الله أما والله لا أفزعن وإزب بكسر الهمزة وإسكان الزاي ثم بالباء الموحدة الخفيفة وقيل بفتح الهمزة وفتح الزاي وتشديد الموحدة أي شيطان سمي بهذا الاسم المركب من المضاف والمضاف إليه عامرها والإزب في الأصل القصير ومن ثم رأى عبد الله بن الزبير رجلا طوله شبران على برذعة رحله فقال له ما أنت قال إزب قال وما إزب قال رجل من الجن فضربه على رأسه بعود سوطه فهرب
وعند ذلك قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفضوا وفي لفظ انفضوا إلى رحالكم
أقول وفي رواية لما بايع الأنصار بالعقبة صاح الشيطان من راس الجبل يا معشر قريش هذه بنو الاوس والخزرج تحالف على قتالكم ففزعوا أي الأنصار عند ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يروعكم هذا الصوت فإنما هو عدو الله إبليس وليس يسمعه أحد مما تخافون ولا مانع من اجتماع صراخ إزب العقبة وصراخ إبليس الذي هو أبو الجن ويجوز أن يكون المراد بعدو الله إبليس إزب العقبة لأنه من الأبالسة وإنه أتى باللفظين معا وقد حضر البيعة جبريل كما تقدم
فعن حارثة بن النعمان رضي الله تعالى عنه لما فرغوا من المبايعة قلت يا نبي الله لقد رأيت رجلا عليه ثياب بيض انكرته قائما على يمينك قال وقد رأيته قلت نعم قال ذاك جبريل والله أعلم
ثم إن الحديث نما سمع المشركون من قريش بذلك أي وفي كتاب الشريعة أن الشيطان لما نادى بما ذكر شبه صوته بصوت منبه بن الحجاج فنال عمرو بن العاص ما نال أبو جهل قال عمرو ذهبت أنا وهو إلى عتبة بن ربيعة فأخبره بصوت منبه بن الحجاج فلم يرعه ما راعنا وقال هل أتاكم فأخبركم بهذا منبه قلنا لا فقال لعله إبليس الكذاب الحديث وفيه طول وأمور مستغربة
ولا ينافي سماع عمرو وأبي جهل صوت إبليس قوله صلى الله عليه وسلم ليس يسمعه أحد مما تخافون لأن سماعهم لم يحصل منه خوف لهم وعند فشو الخبر جاء أجلتهم وأشرافهم حتى دخلوا شعب الأنصار فقالوا يا معشر الأوس والخزرج وفي رواية يا معشر الخزرج أي بالتغليب بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا لتخرجوه من بين أظهرنا وتبايعوه على حربنا والله ما من حي أبغض إلينا أن نشب الحرب بيننا وبينه منكم فصار مشركو الأوس والخزرج يحلفون لهم ما كان من هذا شيء وما علمناه أي حتى إن أبي ابن سلول جعل يقول هذا باطل وما كان هذا وما كان قومي ليفتاتوا علي بمثل هذا لو كنت بيثرب ما صنع هذا قومي حتى يؤامروني وصدقوا لأنهم لم يعلموه كما علم مما تقدم كما علم مما تقدم أي ونفر الناس من مني وبحثت قريش عن خبر الأنصار فوجدوه حقا فلما تحققوا الخبر اقتفوا آثارهم فلم يدركوا إلا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو فاما سعد فأمسك وعذب في الله وأما المنذر فأفلت ثم أنقذ الله سعدا من أيدي المشركين قال نقل عنه أنه قال لما ظفروا بي ربطوا يدي في عنقي فلا زالوا يلطموني على وجهي ويحذبوني بجمتي أي وكان ذا شعر كثير حتى أدخلوني مكة فأومأ إلي رجل أي وهو أبو البختري بن هشام مات كافرا وقال ويحك ما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد قال بلى قد كنت أجير لجبير بن مطعم تجارة وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي وللحارث بن حرب بن أمية أي وهو أخو أبي سفيان والأول أسلم بعد الحديبية والثاني لا يعلم له إسلام فقال ويحك فاهتف باسم الرجلين ففعلت فخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما في المسجد فقال لهما إن رجلا من الخزرج يضرب بالأبطح يهتف باسمكما فقالا من هو قال يقول إنه سعد بن عبادة فجاءا فخلصاني من أيديهم أه
وعن سعد بينا أنا مع القوم أضرب إذ طلع علي رجل أبيض وضيء شعشاع أي طويل زائد الحسن حلو من الرجال فقلت في نفسي إن يكن عند أحد من القوم خير
فعند هذا فلما دنا مني رفع يديه ولكمني لكمة شديدة فقلت في نفسي والله ما عندهم بعد هذا خير أي وهذا الرجل سهيل بن عمرو رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك
فلما قدم الأنصار المدينة أظهروا الإسلام أي إظهارا كليا وتجاهروا وإلا فقد تقدم أن الإسلام فشافيهم قبل قدومهم لهذه البيعة وكان عمرو بن الجموح وهو من سادات بني سلمة بكسر اللام وأشرافهم ولم يكن أسلم وكان ممن أسلم ولده معاذ بن عمرو وكان لعمرو في داره صنم أي من خشب يقال له المناة لأن الدماء كانت تمني أي تصب عنده تقربا إليه وكان يعظمه فكان فتيان قومه ممن أسلم كمعاذ بن جبل وولده عمرو بن معاذ ومعاذ بن عمرو يدلجون بالليل على ذلك الصنم فيطرحونه أي ولعله بعد إخراجه من داره في بعض الحفر التي فيها خرء الناس منكسا فإذا أصبح عمرو قال ويحكم من عدا على إلهنا هذه الليلة ثم يعود يلتمسه حتى إذا وجده غسله فإذا أمسى عدوا عليه وفعلوا به مثل ذلك إلى أن غسله وطيبه وحماه بسيف علقه في عنقه ثم قال له ما أعلم من يصنع بك فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك فلما أمسى عدوا عليه وأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل ثم القوه في بئر من آباء بني سلمة فيها خرء الناس فلما أصبح عمرو عدا إليه فلم يجده ثم تطلبه إلى أن وجده في تلك البئر فلما رآه كذلك رجع إلى عقله وكلمه من أسلم من قومه فأسلم وحسن إسلأمه وأنشد أبياتا منها ** والله لو كنت إلها لم تكن ** ** أنت وكلب وسط بئر في قرن **
وأمر صلى الله عليه وسلم من كان معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة أي لأن قريشا لما علمت أنه صلى الله عليه وسلم آوى أي استند إلى قوم أهل حرب وتحمل ضيقوا على أصحابه ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالونه من الشتم والأذى وجعل البلاء يشتد عليهم وصاروا ما بين مفتون في دينه وبين معذب في أيديهم وبين هارب في البلاد شكوا إليه صلى الله عليه وسلم واستأذنوه في الهجرة أي فمكث أياما لا يأذن لهم ثم قال لهم أريت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هى هى والسراة بفتح السين أعظم جبال بلاد العرب ثم خرج إليهم مسرورا فقال قد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب فأذن لهم وقال من اراد أن يخرج فليخرج إليها فخرجوا إليها أرسالا أي متتابعين يخفون ذلك أي وفي
رواية أريت في المنام أنى هاجرت من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلى أي وهمي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب
وفي الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أوحى إلي أي هؤلاء الثلاثة نزلت هي دار هجرتك المدينة أو البحرين أو قنسرين قال الترمذي هذا حديث غريب وزاد الحاكم فاختار المدينة
أقول فيه أن هذا السياق المتقدم يدل على أن استئذانهم في الهجرة عبارة عن خروجهم من مكة لا لخصوص المدينة وأن عدم إذنه صلى الله عليه وسلم لهم في الهجرة لعدم تعيين المحل الذي يهاجرون إليه له صلى الله عليه وسلم وكل ذلك لا يناسب ما تقدم في حديث المعراج من قول جبريل له صليت بطيبه وإليها المهاجرة
وقد يجاب بانه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم أنسى قول جبريل المذكور حينئذ ثم تذكره بعد ذلك في قوله قد أخبرت بدار هجرتكم إلى آخره
وفيه أن هذا لا يحسن بعد مبايعته صلى الله عليه وسلم للأوس والخزرج على مناصرته ومحاربة عدوه مع علمه بأن وطنه المدينة وكونهم يباعيونه على مناصرته مع كونه ساكنا في البحرين أو قنسرين في غاية البعد
على أنه سيأتي في غزوة بدر أنه صلى الله عليه وسلم خشى أن الأنصار لا ترى مناصرته إلا في المدينة أي فإن في بعض الروايات وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم بيثرب والله أعلم
وقبل الهجرة آخى صلى الله عليه وسلم بين المسلمين أي المهاجرين على الحق والمواساة فآخى بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وآخى بين حمزة وزيد بن حارثة وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف وبين الزبير وابن مسعود وبين عبادة بن الحارث وبلال وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وفاص وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله وبين علي ونفسه صلى الله عليه وسلم وقال أما ترضى أن أكون أخاك قال بلى يا رسول الله رضيت الله تعالى عنه قال فأنت أخي في الدنيا والآخرة قال وأنكر العباس بن تيمية المؤاخاة بين المهاجرين سيما مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه قال لأن المؤاخاة بين
المهاجرين والأنصار إنما جعلت ليرتفق بعضهم ببعض ولتألف قلوب بعضهم ببعض فلا معنى لمؤاخاة مهاجري لمهاجري
قال الحافظ ابن حجر هذا رد للنص بالقياس وبعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة فآخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق وليستعين الأدنى والأعلى وليستعين الأعلى بالادنى ولهذا تظهر مؤاخاته صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه كان هو الذي يقوم بأمره قبل البعثة
وفي الصحيح في عمرة القضاء أن زيد بن حارثة قال إن بنت حمزة بنت أخي أي بسبب المؤاخاة اه وكان أول من هاجر منهم إليها أي لامعهم أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي هو أخوه من الرضاع وابن عمته وهو أول من يدعى للحساب اليسير كما تقدم فإنه لما قدم من الحبشة لمكة آذاه اهلها وأراد الرجوع إلى الحبشة فلما بلغه إسلام من أسلم من الانصار أي الاثني عشر الذين بايعوا البيعة الأولى خرج إليهم وقدم المدينة بكرة النهار ولما عزم على الرحيل رحل بعيره وحمل عليه أم سلمة وابنها سلمة في حجرها وخرج يقود البعير رآه رجال من قوم أم سلمة فقاموا إليه وقالوا يا أبا سلمة قد غلبتنا على نفسك فصاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد ثم نزعوا خطام البعير منه فجاء رجال من قوم أبي سلمة وقالوا إن ابننا معها إذا نزعتموها من صاحبنا ننزع ولدنا منها ثم تجاذبوه حتى خلعوا يده وأخذه قوم أبيه ففرق بينها وبين زوجها وولدها فكانت تخرج كل غداة بالأبطح فتبكي حتى المساء مدة سنة فمر بها رجل من بني عمها فرأى ما بها فرحمها وقال لقومها أما ترحمون هذه المسكينة فرقتم بينها وبين ولدها وزوجها فقالوا لها الحقي بزوجك فلما بلغ ذلك قوم أبي سلمة ردوا عليها ولدها فارتحلت بعيرا وجعلت ولدها في حجرها وخرجت تريد المدينة وما معها أحد من خلق الله تعالى حتى إذا كانت بالتنعيم لقيها عثمان بن طلحة أي الحجبي صاحب مفتاح الكعبة وكان عثمان بن طلحة يومئذ مشركا ثم أسلم رضي الله تعالى عنه في هدنة الحديبية وهاجر مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص كما سيأتي فتبعها إلى المدينة حتى إذا وافى على قباء قال لها هذا زوجك هنا ثم انصرف وهي أول ظغينة دخلت من المهاجرين المدينة رضي الله تعالى عنها وكانت أم سلمة تقول ما رأيت صاحبا أكرم من عثمان بن طلحة قال وقال ابن إسحاق وابن سعد ثم كان أول من قدمها بعد أبي سلمة عامر بن
ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بالحاء المهملة المفوحة وسكون الثاء المثلثة وهي أول ظعينة قدمت المدينة اه
أقول فأم سلمة أول ظعينة قدمت المدينة لا مع زوجها وليلى أول ظعينة قدمت المدينة مع زوجها فلا منافاة
وفي كلام ابن الجوزي أول من هاجر إلى المدينة من النساء أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط والله أعلم
قال بينت أي أم سلمة ما تقدم عنها في حق عثمان بن طلحة بقولها فإنه لما رآني قال إلى أين قلت إلى زوجي قال أو ما معك أحد قلت لا ما معي إلا الله وابني هذا فقال والله لا أتركك ثم أخذ بخطام البعير وسار معي فكان إذا وصلنا المنزل أناخ بي ثم استأخر فإذا نزلت جاء وأخذ بعيري فحط عنه ثم قيده في الشجرة ثم أتى إلى شجرة فاضطجع تحتها فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحله وقدمه ثم استأخر عني وقال اركبي فإذا ركبت أخذ بخطأمه فقادني اه
أي وقد قال فقهاؤنا من الصغائر مسافرة المرأة بغير زوج ولا محرم ولا امرأة ثقة في غير الهجرة وفرض الحج والعمرة أما في ذلك فيجوز حيث أمنت الطريق
وقلنا لا معهم لا ينافى أن أول من قدم المدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير لأن قدومه كان معهم على ما تقدم أو يقال أبو سلمة أول من قدم المدينة بوازع طبعه وأما مصعب فكان بإرسال منه صلى الله عليه وسلم ثم رأيت في السيرة الهشامية أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليهن وسلم من بني مخزوم أبو سلمة وعليه فلا إشكال ثم جاء عمار وبلال وسعد
وفي رواية ثم قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إرسالا بعد العقبة الثانية فنزلوا على الأنصار في دورهم فأووهم وواسوهم ثم قدم المدينة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعياش بن أبي ربيعة في عشرين راكبا وكان هشام بن العاص واعد عمر بن الخطاب أن يهاجر معه وقال تجدني أو أجدك عند محل كذا فتفطن بهشام قومه فحبسوه عن الهجرة
وعن علي رضي الله تعالى عنه الله قال ما علمت أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا
إلا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فإنه لما هم بالهجرة تقلد بسيفه وتنكب قوسه وانتضى في يديه أسهما واختصر عنزته أي وهي الحربة الصغيرة علقها عند خاصرته ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها فطاف بالبيت سبعا ثم أتى المقام فصلى ركعتين ثم وقف على الحلق واحدة واحدة فقال شاهت الوجوه لا يرغم الله إلا هذه المعاطس أي الأنوف من أراد أن تثكله أمه أي تفقده او يوتم ولده أو ترمل زوجته فليلقنى وراء هذا الوادي قال علي رضي الله تعالى عنه فما تبعه أحد ثم مضى لوجهه ثم إن أبا جهل وأخاه شقيقه الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك يوم الفتح قدما المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة لم يهاجر فكلما عباس بن أبي ربيعة وكان أخاهما لأمهما وابن عمهما كان أصغر ولد أمه وأخبراه أن أمه قد نذرت أن لا تغسل رأسها وفي لفظ ولا يمس رأسها مشط ولا تستظل من شمس حتى تراه أي وفي لفظ أن لا تاكل ولا تشرب ولا تدخل مسكنا حتى يرجع إليها وقالا له وأنت أحب ولد أمك إليها وأنت في دين منه بر الوالدين فارجع إلى مكة فاعبد ربك كما تعبده بالمدينة فرقت نفسه وصدقهما أي واخذ عليهما المواثيق أن لا يغشياه بسوء وقال له عمر إن يريدا إلا فتنتك عن دينك فاحذرهما والله لو آذى أمك القمل امتشطت ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت فقال عياش أبر امي ولي مال هناك آخذه فقال عمر خذ نصف مالي ولا تذهب معهما فأبى إلا ذلك فقال له عمر فحيث صممت فخذ ناقتي هذه فإنها نجيبة ذلول فالزم ظهرها فإن رابك منهما ريب فانج عليها فأبى ذلك وخرج راجعا معهما إلى مكة فلما خرجا من المدينة كتفاه بتخفيف التاء أي شدا يديه إلى خلف بالكتاف في الطريق أي وفي السيرة الهشامية أنه أخذ الناقة وخرج عليها معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل يا أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا أفلا تعقبني على ناقتك هذه قال بلى قال فاناخ وأناخ ليتحول عليها فلما استووا بالأرض عدوا عليه وأوثقاء رباطا ودخلا به مكة نهارا موثقا وقالا يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفهائنا وفي لفظ بسفيهنا فجلس بمكة مع هشام بن العاص فإنه كما تقدم منه وحبس عن الهجرة وجعل كل في قيد
وفي لفظ أنهما لما ذكرا له أن أمه حلفت أن لا يظلها سقف بيت حتى تراه وأعطياه موثقا أن لا يمنعاه وان يخليا سبيله بعد أن تراه أمه فانطلق معهما حتى إذا خرجا من
المدينة عمدا إليه فشداه وثاقا وجلداه نحوا من مائة جلدة وكان أعانهما عليه رجل من بني كنانة أي يقال له الحارث بن يزيد القرشي وفي كلام ابن عبد البر أنه كان ممن يعذبه بمكة مع أبي جهل
وفي الينبوع جلده كل واحد منهما مائة جلدة وأنه لما جيء به إلى مكة ألقي في الشمس وحلفت أمه أنه لا يحل عنه حتى يرجع عن دينه ففتن قيل وكان ذلك سبب نزول قوله تعالى { ووصينا الإنسان بوالديه } الآية
وفيه أنه نقدم أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص إلا أن يقال يجوز أن يكون مما تكرر نزوله فتكون نزلت فيهما وحلف عياش ليقتلن ذلك الرجل إن قدر عليه قيل ولم يزل عياش محبوسا حتى فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فخرج عياش فلقي ذلك الرجل الكناني وكان قد أسلم وعياش لا يعلم بإسلأمه فقتله وأعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأنزل الله تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم وقال لعياش قم فحرر أي أعتق رقبة وما ذكر من أن عياشا استمر محبوسا إلى الفتح يخالف قول بعضهم مكث صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة كما سيأتي أربعين صباحا يقنت في صلاة الصبح بعد الركوع أي من الركعة الاخيرة وكان يقول في قنوته اللهم أنج الوليد بن الوليد وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص والمستضعفين من المؤمنين بمكة الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فإن هذا يدل على أن هشام ابن العاص وعياش بن أبي ربيعة لم يفتتنا ولم يرجعا عن الإسلام وفي السيرة الهشامية ما يفيد أنهما فتنا الأول صريحا والثاني ظاهرا
وفي السيرة الهشامية التصريح بافتتانهما وفيه نظر لما ذكر ولأنهما لو كان فتنا لأطلقا من الحبس والقيد وإدامة ذلك إلا أن يقال فعل بهما ذلك بعدم الوثوق برجوعهما عن الإسلام ومما يدل على أن رجوعهما عن الإسلام إن صح إنما كان ظاهرا فقط دعاؤه صلى الله عليه وسلم لهما
أي وسيأتي أن الوليد كان سببا لتخليص عياش بن أبي ربيعة وهشام بن أبي العاص بعد أن تخلص من الحبس وهاجر إلى المدينة فإن الوليد كان أسر ببدر ثم افتداه أخوه خالد وهشام ابنا الوليد بن المغيرة وذهبا به إلى مكة فأسلم وأراد الهجرة فحبساه بمكة وقيل له هلا أسلمت قبل أن تفدي قال كرهت أن يظن في أني جزعت من الأسر ثم نجا وتوصل
إلى المدينة ورجع إلى مكة مستخفيا وخلص عياشا وهشاما وجاء بهما إلى المدينة فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وشكر صنيعه وبه يعلم ضعف ما تقدم من أن عياشا لم يزل محبوسا إلى يوم الفتح
وممن هاجر قبل النبي صلى الله عليه وسلم سالم مولى أبي حذيفة بن عبتة بن ربيعة أي لأنه لما أعتقته زوجة أبي حذيفة وكانت أنصارية تبناه أبو حذيقة وكان يؤم المهاجرين بالمدينة فيهم عمر بن الخطاب لأنه كان أكثرهم أخذا للقرآن فكان عمر بن الخطاب يثني عليه كثيرا حتى قال لما أوصى عند قتله لو كان سالم مولى أبي خذيفة حيا ما جعلتها شورى قال ابن عبد البر معناه أنه كان يأخذ برأيه فيمن يوليه الخلافة أي فإنه قتل في يوم اليمامة وأرسل عمر بميراثه لمعتقته فأبت ان تقبله فجعله في بيت المال
ولما أراد صهيب الهجرة إلى المدينة أي بعد أن هاجر إليها صلى الله عليه وسلم خلافا لما يوهمه كلام الأصل والشامي قال له كفار قريش أتيتنا صعلوكا فقيرا فكثر مالك عندنا ثم تريد أن تخرج بمالك لا والله لا يكون ذلك فقال لهم صهيب أرايتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي قالوا نعم قال فإني جعلته لكم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ربح صهيب
أقول وذكر أن صهيبا تواعد معه صلى الله عليه وسلم أن يكون معه في الهجرة فلما أراد صلى الله عليه وسلم الخروج للغار أرسل إليه أبا بكر مرتين أو ثلاثا فوجده يصلي فكره أن يقطع عليه صلاته كما سيأتي وحينئذ يكون قول صهيب المذكور بعد هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كما تقدم وهو ما في الخصائص الكبرى عن صهيب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وخرج معه أبو بكر وقد كنت هممت بالخروج معه فصدني قتيان من قريش أي بعد أن أردت الخروج بعده وقالوا له جئتنا فقيرا حقيرا صعلوكا فكثر مالك عندنا وتريد أن تخرج بمالك ونفسك لا يكون ذلك أبدا قال فقلت لهم أنا أعطيكم أواقي من الذهب وفي لفظ ثلث مالي وفي لفظ مالي وتخلون سبيلي ففعلوا فقلت احفروا تحت أسكفة الباب فإن تحتها الأواقي وخرحت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء قبل أن يتحول منها فلما رآني قال يا أبا يحيى ربح البيع ثلاثا فقلت يا رسول الله إنه ما سبقني إليك أحد وما أخبرك إلا جبريل عليه الصلاة والسلام
أي وأخراج أبو نعيم في الحلية عن سعيد بن المسيب قال أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذ سيفه وكنانته وقوسه فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال يا معشر قريش قد علمتم أني من أرحاكم رجلا وأيم الله لا تصلون إلى حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي فقالوا نعم فقال لهم ما تقدم وفي رواية أنهم قالوا له دلنا على مالك ونخلي عنك وعاهدوه على ذلك ففعل
وذكر بعض المفسرين أن المشركين أخذوه وعذبوه فقال لهم إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني وتتركوا لي راحلة ونفقة ففعلوا ونزل قوله تعالى ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله قال فلما قدمت وجدت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر جالسين فلما رآني أبو بكر قام إلي فبشرني بالآية التي نزلت في أي وفي رواية فتلقاني أبو بكر وعمر ورجال فقال لي أبو بكر ربح بيعك أبا يحيى فقلت وبيعك هلا تخبرني ماذاك فقال أنزل الله فيك كذا وقرأ علي الآية
وفي تفسير سهل بن عبد الله التستري أن صهيبا كان من المشتاقين لم يكن له قرار كان لا ينام لا باللييل ولا بالنهار
وقد حكى أن امرأة اشترته فرأته كذلك فقالت لا ارضى حتى تنام بالليل لأنك تضعف فلا يتهيأ لك الاشتغال بأعمالي فبكى وقال إن صهيبا إذا ذكر النار طار نومه وإذا ذكر الجنة جاء شوقه وإذا ذكر الله طال شوقه أي وليتأمل هذا مع ما في تاريخ ابن كثير أن الروم أغارت على بلاد صهيب وكانت على دجلة وقيل على الفرات فأسرته وهو صغير ثم اشتراه منهم بنو كلب فحملوه إلى مكة فابتاعه عبد الله بن جدعان فأعتقه واقام بمكة حينا فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم وكان إسلامه وإسلام عمار بن ياسر في يوم واحد وقد يقال يجوز أن تكون تلك المرأة التي اشترته كانت من بني كلب
وعن صهيب رضي الله تعالى عنه صحبت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه وأنه قال له عمر رضي الله تعالى عنه يا صهيب اكتنيت وليس لك ولد فقال كناني
رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي يحيى فهو من جملة من كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ولد له وكان في لسانه عجمة شديدة وكان فيه دعابة رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل قثاء ورطبا وهو أرمد إحدى عينيه فقال له تأكل رطبا وأنت أرمد فقال إنما آكل من ناحية عيني الصحيحة فضحك صلى الله عليه وسلم
وفي المعجم الكبير للطبراني عن صهيب قال قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه تمر وخبز فقال ادن فكل فأخذت آكل من التمر فقال لي أتأكل التمر وعينك رمدة فقلت يا رسول الله أمصه من الناحية الأخرى فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ولا مانع من التعدد ولما أذن صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة وهاجروا مكث صلى الله عليه وسلم بعد أصحابه ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ولم يتخلف معه إلا على بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وابو بكر أي وصهيب كما علمت ومن كان محبوسا أو مريضا أو عاجزا عن الخروج وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه كثيرا ما يستاذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فيقول له لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا فيطمع أبو بكر أن يكون هو وفي رواية تجهز أبو بكر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي فقال له أبو بكر هل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي قال نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين عنده الخبط أي وفي لفظ ورق السمر بفتح المهملة وضم الميم قال الزهري وهو الخبط قال ابن فارس والخبط ما يخبط بالعصا فيسقط من روق الشجر وكان مدة علفها أربعة أشهر وكان اشتراهما بثمانمائة درهم
أقول ظاهر هذا السياق أن علفه للراحلتين كان بعد قول المصطفى صلى الله عليه وسلم له ما ذكر ومعلوم أن ذلك بعد مبايعة الأنصار له صلى الله عليه وسلم والمدة بين مبايعة الأنصار له صلى الله عليه وسلم والهجرة كانت ثلاثة أشهر أو قريبا منها لأنها كانت في ذي الحجة ومهاجرته صلى الله عليه وسلم كانت في ربيع الأول
وفي السيرة الشامية ما يصرح بأن علفه للراحلتين كان بعد قول المصطفى صلى الله عليه وسلم له ما ذكر ففيها أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لأبي بكر وقد استأذنه في الهجرة لأتعجل لعل الله يجعل لك صاحبا طمع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يعني نفسه فابتاع راحلتين فحبسها في داره يعلفهما إعدادا لذلك وسيأتي عن الحافظ ابن حجر
أن بين ابتداء هجرة الصحابة وبين هجرته صلى الله عليه وسلم شهرين ونصف شهر على التحرير والله أعلم
فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صار له شيعة أي أنصار وأصحاب من غيرهم ورأوا خروج أصحابه إليهم وأنهم أصابوا منعة لأن الانصار قوم أهل حلقة أي سلاح وبأس حذروا أي خافوا أن يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يجمع على حربهم فاجتمعوا في دار الندوة يتاشورون فيما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت محل مشورتهم لا يقطعون أمرا الا فيها أي وهي أول دار بنيت بمكة كانت منزل قصي بن كلاب كما تقدم ثم صارت لولده عبد الدار ثم ابتاعها معاوية لما حج وهو خليفة من أولاد عبد الدار
وتقدم أن معاوية إنما اشتراها من حكيم بن حزام ويدل لذلك ما جاء عن مصعب ابن عبد الله قال جاء الإسلام ودار الندوة بيد حكيم بن حزام فباعها من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم فقال له عبد الله بن الزبير بعت مكرمة قريش فقال له حكيم ذهبت المكارم إلا التقوى يا ابن أخي إلى آخر ما تقدم وكانت دار الندوة جهة الحجر عند المقام الحنفي الآن وكان لها باب للمسجد وكان لا يدخلها عند المشورة من ولد قصي إلا ابن أربعين سنة
وفي كلام بعضهم ساد أبو جهل وما طر شاربه ودخل دار الندوة وما استدارت لحيته وقد أدخلت في المسجد قيل لها دار الندوة لاجتماع الندى وهو الجماعة فيها وكان ذلك اليوم يسمى يوم الرحمة لأنه اجتمع فيه أشراف بني عبد شمس وبني نوفل وبني عبد الدار وبني أسد وبني مخزوم وبني سهم وبني جمح وغيرهم مما لا يعد من قريش ولم يتخلف من أهل الرأي والحجا أحد ثم إن إبليس جاء إليهم في صورة شيخ نجدي عليه طيلسان من خز وقيل من صوف أي وإنما فعل ذلك ليقبل منه ما يشير به لأن أهل الطيالسة في العادة من أهل الوقار والمعرفة ووقف ذلك الشيخ على الباب فقالوا له من الشيخ قال شيخ من أهل نجد سمع بالذي اجتمعتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا قالوا أجل أي نعم فادخل فدخل معهم أي وإنما قال لهم من أهل نجد لأن قريشا قالوا لا يدخلن معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة لأن هواهم كان مع محمد صلى الله عليه وسلم
قيل لما سمعهم يقولون لا يدخل معكم اليوم إلا من هو معكم قال لهم لما سألوه وقالوا له من أنت قال شيخ من نجد وأنا ابن أختكم فقالوا ابن أخت القوم منهم
قيل إن إبليس لما دخل عليهم أنكروه وقالوا له من أنت وما أدخللك علينا في خلوتنا هذه بغير إذننا فقال إني رجل من أهل نجد رأيتكم حسنة وجوهكم طيبة ريحكم فأحببت أن أجلس إليكم وأسمع كلامكم فإن كرهتم ذلك خرجت عنكم فقال بعضهم لبعض هذا نجدي ولا عين عليكم منه وفي لفظ هذا من أهل نجد لا من مكة فلا يضركم حضوره معكم وعند المشورة قال بعضهم لبعض إن هذا الرجل يعني النبي صلى الله عليه وسلم قد كان من أمره ما قد رأيتم وإنا والله لا نأمنه الوثوب علينا بمن قد ابتعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأيا فتشاوروا فقال قائل أي وهو أبو البختري بن هشام احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما اصاب أشباهه من الشعراء حتى يصيبه ما أصابهم من هذا الموت فقال الشيخ النجدي لا والله ما هذا لكم براي والله لو حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلا تشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم حتى يبلغوكم على أمركم ما هذا براي فأنظروا رايا غيره فتشاوروا فقال قائل منهم أي وهو الأسود بن ربيعة بن عمير نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين يذهب فقال الشيخ النجدي والله ما هذا براي ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي الله به والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل بفتح أوله وضم الحاء المهملة أي ينزل ويجوز أن يكون بكسرها أي يسقط على حي من العرب فيغلب بذلك عليهم من قوله وحديثه حتى يبايعوه ثم يسير به إليكم حتى يطأكم به فيأخذوا أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد دبروا فيه رايا غير هذا فقال أبو جهل بن هشام والله إني لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد قالوا وما هو يا أبا الحكم قال الرأي أن تأخذوا من كل قبيلة شابا جلدا أي قويا حسيبا في قومه نسيبا وسطا ثم يعطى كل فتى منهم سيفا صارما ثم يغدون إليه فيضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا قلم تقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فيرضوا منا بالعقل أي الدية فعقلنا لهم فقال النجدي القول ما قال هذا الرجل هذا هو الرأي ولا ارى غيره فتفرق القوم على ذلك فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال لا تبت هذه الليلة في فراشك الذي كنت تبيت عليه أي وأخبره بمكرهم وأنزل الله عز وجل عليه { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } الآية فلما كان عتمة من الليل أي الثلث الأول من الليل اجتمعوا على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرصدونه حتى ينام فيثبتوا عليه أي وكانوا مائة
أقول في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي خاتم عن عبيد بن عمير لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه قال له أبو طالب هل تدري ما ائتمروا بك قال يريدون أن يحبسوني أو يقتلوني أو يخرجوني قال من حدثك بهذا قال ربي قال نعم الرب وربك فاستوص به خيرا قال أنا أستوصى به بل هو يستوصي بي هذا كلامه ولم يتعقبه بأن هذا كان بعد موت أبي طالب قال وكان ائتمارهم يوم السبت
فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم السبت فقال مكر وخديعة قالوا ولم يا رسول الله قال إن قريشا أرادوا أن يمكروا فيه بي أي أرادوا فيه المكر فأنزل الله تعالى { وإذ يمكر بك الذين كفروا }
وفي سيرة الحافظ الدمياطي فاجتمع أولئك القوم من قريش يتطلعون من صير الباب أي شقه ويرصدونه يريدون بياته أي يوقعون به الأمر ليلا ويأتمرون أيهم يحمل على المضطجع وفيه أن ائتمارهم في ذلك لا يناسب ما اجتمع رأيهم عليه من أنهم يجتمعون على قتله ليتفرق دمه في القبائل
ثم رأيت بعضهم قال وأحدقوا ببابه صلى الله عليه وسلم وعليهم السلاح يرصدون طلوع الفجر ليقتلوه ظاهرا فيذهب دمه لمشاهدة بني هاشم قاتله من جميع القبائل فلا يتم لهم أخذ ثأره وهو المناسب لما ذكر والله اعلم
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم أي علم ما يكون منهم قال لعلي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه نم على فراشي واتشح بردائي هذا الحضرمي وقد كان يشهد فيه العيدين وقد كان طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر وهل كان أخضر أو أحمر يدل للثاني قول جابر كان يلبس رداء أحمر في العيدين والجمعة ثم رأيت في بعض الروايات أنه كان أخضر فلينظر الجمع
وفي سيرة الدمياطي وارتد بردائي هذا الأحمر والحضرمي منسوب إلى حضرموت
التي هي البلدة أو القبيلة باليمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسجى بذلك البرد عند نومه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم
أقول وأما ما روى أن الله تعالى أوحى إلى جبريل ومكائيل إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة فاختار كلاهما الحياة فأوحى الله إليهما ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم فبات على فراشه ليفديه بنفسه ويؤثره بالحياة اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فنزلا فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه فقال جبريل بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب باهى الله بك الملائكة وأنزل الله عز وجل ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله قال فيه الإمام ابن تيمية إنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث والسير
وأيضا قد حصلت له الطمأنينة بقول الصادق له لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم فلم يكن فيه فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة والآية المذكورة في سورة البقرة وهي مدنية باتفاق وقد قيل إنها نزلت في صهيب رضي الله تعالى عنه لما هاجر أي كما تقدم لكنه في الإمتاع لم يذكر أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي ما ذكر وعليه فيكون فداؤه للنبي صلى الله عليه وسلم بنفسه واضحا ولا مانع من تكرر نزول الآية في حق علي وفي حق المصطفى صلى الله عليه وسلم وفي حق صهيب بمعنى اشترى أي اشترى نفسه بماله ونزول هذه الآية بمكة لا يخرج سورة البقرة عن كونها مدنية لأن الحكم يكون للغالب
وفي السبعيات أنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى أصحابه وقال أيكم يبيت على فراشي وأنا أضمن له الجنة فقال علي أنا ابيت وأجعل نفسي فداءك هذا كلامه ولعله لا يصح
ثم رايت في الإمتاع ما يدل لعدم الصحة وهو قال ابن إسحاق ولم يعلم فيما بلغني بخروجه صلى الله عليه وسلم حين خرج إلا علي وأبو بكر الصديق فليتأمل والله تعالى أعلم
وكان في القوم الحكم بن أبي أبي العاص وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وأمية
ابن وزمعة بن الأسود وأبو لهب وأبو جهل فقال وهم على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن أي بضم الهمزة وتشديد النون وهو محل بأرض الشام يقرب بيت المقدس وإن لم تفعلوا كان فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحترقون فيها وسمعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم وهو يقول نعم أنا أقو ذلك وأخذ حفنة من تراب وتلا قوله تعالى { يس والقرآن الحكيم } إلى قوله { فأغشيناهم فهم لا يبصرون } فأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فلم يروه
وفي مسند الحارث بن أبي أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر في فضل يس أنها إن قرأها خائف أمن أو جائع شبع أو عار كسى أو عاطش سقى أو سقيم شفى وعند خروجه صلى الله عليه وسلم جعل ينثر التراب على رءوسهم فلم يبق رجل إلا وضع على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد فأتاهم آت فقال ما تنتظرون ههنا قالوا محمدا فقال قد خيبكم الله والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته أفما ترون ما بكم قال فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب قال في النور وهذا يعارضه حديث مارية خادم النبي صلى الله عليه وسلم تكنى أم الرباب أنها طأطأت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد حائطا ليلة فر من المشركين وينبغي أن يوفق بينهما إن صحا وإلا فالعبرة بالصحيح منهما هذا كلامه
أقول التوفيق حاصل وهو أنه يجوز أنه يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يحب أن يخرج عليهم من الباب فتسور الحائط التي نزل منها عليهم والله أعلم أي وكان ذهابه صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم في تلك الليلة إلي بيت أبي بكر رضي الله تعالى عنه فكان فيه إلى الليل أي إلى الليلة المقبلة ثم خرج هو وأبو بكر رضي الله عنه ثم مضيا إلى جبل ثور كذا في سيرة الدمياطي ثم أي بعد إخبارهم بخروجه صلى الله عليه وسلم ووضعه التراب على رءوسهم جعلوا يطلعون فيرون عليا نائما على الفراش مسجى ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون والله إن هذا محمد نائما عليه برده فلم يزالوا كذلك أي يريدون أن يوقعوا به بالفعل والله مانع لهم من ذلك حتى أصبحوا واتضح النهار
فقام علي رضي الله تعالى عنه عن الفراش فقالوا والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا أي ولما قام علي رضي الله تعالى عنه سألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا علم لي به وفي رواية فلما أصبحوا صاروا إليه يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأوا عليا رضي الله تعالى عنه رد الله تعالى مكرهم فقالوا أين صاحبك قال لا أدري فأنزل الله تعالى قوله { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } وأنزل الله عز وإذ يمكر بك الذي كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين كذا في الأصل تبعا لابن إسحاق ولا يخفى أن الآية الثانية موفية بما ذكروه من المشاورة
قال والمانع من اقتحام الجدار عليه في الدار مع قصر الجدار وقد جاءوا لقتله أنهم هموا بذلك فصاحت امرأة من الدار فقال بعضهم لبعض إنها لسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم وهتكنا ستر حرمتنا انتهى
أقول لا يخفى أن هذا لا يناسب ما قدمناه عن بعضهم أنهم إنما أرادوا قتله صلى الله عليه وسلم عند طلوع الفجر ليظهر لبني هاشم قاتلوه فلا يثبوا عليه لئلا يتسور الجدار إلا أن يقال إرادة ذلك منهم كانت عند طلوع الفجر ووجود الأسباب المانعة لهم من الوثوب عليه لا ينافى أن المانع لهم عن الوثوب عليه الذي جاءوا بصدده وهم مائة رجل من صناديد قريش إنما هي حماية الله تعالى الموجبة لخذلانهم وإظهار عجزهم وفي ذلك تصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال لعلي لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم على ما تقدم والمراد بقول بعضهم كان المشركون يرمونه بأبصارهم لا بنحو حجارة أو نبل كما لا يخفى
فإن قيل هلا نام صلى الله عليه وسلم على فراشه قلنا لو فعل ذلك لفات إذلالهم بوضع التراب على رءوسهم وإظهار حماية الله تعالى له بخروجه عليهم ولم يبصره أحد منهم وفي رواية أنهم تسوروا عليه صلى الله عليه وسلم ودخلوا شاهرين سيوفهم فثار في وجوههم فعرفوه فقالوا هو أنت أين صاحبك فقال لا أدري وهذا مخالف لما تقدم فلينظر الجمع بناء على صحة هذا
وفي لفظ أمروه بالخروج فضربوه وأدخلوه المسجد وحبس به ساعة ثم خلوا عنه والله أعلم
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن له في الهجرة إلى المدينة أي وأنزل الله تعالى عليه { وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا } قال زيد بن اسلم جعل الله عز وجل مدخل صدق المدينة ومخرج صدق مكة وسلطانا نصيرا الأنصار
ويعارضه ما جاء أن عند رجوعه صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة قال له جبريل سل ربك فإن لكل نبي مسالة فقال ما تأمرني أن أسأله قال قل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا فأنزل الله تعالى عليه ذلك في رجعته م نتبوك بعد من ختمت السورة أي إلا أن يدعى تكرار النزول وعند الإذن له صلى الله عليه وسلم في الهجرة قال لجبريل من يهاجر معي قال جبريل أبو بكر الصديق
أي ومن الغريب قول بعضهم ومن ذلك اليوم سماه الله تعالى صديقا فقد تقدم أن تسميته بذلك كان عند تصديقه له صلى الله عليه وسلم عند إخباره بالإسراء وعن صفة بيت المقدس
ومن الغريب أيضا ما في السبعيات أن النبي صلى الله عليه وسلم تشاور مع أصحابه فقال أيكم يوافق معي ويرافقني فقد أمرني الله تعالى بالخروج من مكة إلى المدينة فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه أنا يا رسول الله
ويرده ما في السير أنه صلى الله عليه وسلم أتى أبا بكر ذات يوم ظهرا فناداه فقال أخرج من عندك فقال يا رسول الله إنما هما ابنتاي يعني عائشة وأسماء رضي الله تعالى عنهما قال شعرت أي علمت أنه قد أذن لي في الهجرة فقال يا رسول الله الصحبة أي أسألك الصحبة فقال أي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحبة أي لك الصحبة عندي فانطلقا أي ليلا كما تقدم عن سيرة الدمياطي لكن تقدم عنها أنه دخل بيت أبي بكر في ليلة خروجه من على فراشه وأنه مكث ببيت ابي بكر إلى الليلة القابلة التي كان فيها خروجه صلى الله عليه وسلم إلى جبل ثور فيحتاج إلى الجمع
وقد يقال إن مجيئه صلى الله عليه وسلم ظهرا كان قبل تلك الليلة ومع خروجهما خرجا مستخفين حتى أتيا الغار وهو بجبل ثور فتواريا فيه
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال عند خروجه من
مكة أي متوجها إلى المدينة والله إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله وأكرمها على الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت
أي وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم وقف أي على راحتله بالحزورة ونظر إلى البيت وقال والله إنك لأحب أرض الله إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك قهرا ما خرجت
وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم وقف في وسط المسجد والتفت إلى البيت فقال إني لأعلم ما وضع الله بيتا أحب إلى الله منك وما في الأرض بلد أحب إليه منك وما خرجت منك رغبة ولكن الذين كفروا أخرجوني
أي وهذا السياق يدل على أن وقوفه صلى الله عليه وسلم على الحزورة أو في وسط المسجد يقتضي أنه جاء بعد خروجه من الغار إلى ما ذكر ثم ذهب إلى المدينة وفي رواية وقف صلى الله عليه وسلم على الحجون وقال والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولو لم أخرح منك ما خرجت وفي لفظ ولو تركت فيك لما خرجت منك ولا مانع من تكرر ذلك ثم رأيت في كلام بعضهم أن وقوفه صلى الله عليه وسلم على الحجون كان في عام الفتح وفي لفظ آخر قال لمكة ما أطيبك من بلدة وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني ما سكنت غيرك
أي وفي جمال القراء للسخاوي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توجه مهاجرا إلى المدينة وقف ونظر إلى مكة وبكى فأنزل الله عز وجل عليه { وكأين من قرية هي أشد قوة } الآية
وأما ما روى الحاكم عن أبي هريرة مرفوعا اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكني في أحب البقاع إليك فقال الذهبي إنه موضوع وقال ابن عبد البر لا يختلف أهل العلم أنه منكر موضوع
أقول والذي رأيته عن المستدرك للحاكم اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إلي فأسكني أحب البلاد إليك والمعنى واحد وإليه ما روى عن الزهري اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي فاسكني أحب البلاد إليك استند من قال بتفضيل المدينة على مكة قال لأن الله تعالى أجاب دعاءه فأسكنه المدينة قيل وعليه جمهور العلماء ومنهم الإمام مالك رضي الله تعالى عنه وإلى الأحاديث الأول استند من
قال بتفضيل مكة على المدينة وهم الجمهور ومنهم إمامنا الشافعى رضى الله تعالى عنه واستندوا فى ذلك إلى أنه صلى الله عليه وسلم قال فى حجة الوداع أى بلد تعلمونه أعظم حرمة قالوا لا نعلم إلا بلدنا هذه يعنون مكة وهذا إجماع من الصحابة أقرهم عليه صلى الله عليه وسلم أنها أى مكة أفضل من سائر البلاد لأن ما كان أعظم حرمة فهو أفضل وقد قال صلى الله عليه وسلم المقام بمكة سعادة والخروج منها شقاوة وقال صلى الله عليه وسلم من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائة عام
قال ابن عبد البر وإنى لأعجب ممن ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله والله إنى لأعلم أنك خير أرض وأحبها إلى الله ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت وهذا حديث صحيح ويميل إلى تأويل لا يجامع ما تأوله عليه أى ولأن الحسنه فيها بمائة ألف حسنة فعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال من حج ماشيا كتبت له بكل خطوه سبعمائة حسنة من حسنات الحرم قيل وما حسنات الحرم قال الحسنة فيه بمائة ألف حسنة
والكلام فى غير ماضم أعضاءه الشريفة صلى الله عليه وسلم من أرض المدينة وإلا فذاك أفضل بقاع الأرض بالإجماع بل حتى من العرش والكرسى
على أن صاحب عوارف المعارف ذكر أن الطوفان موج تلك التربة المكرمة عن محل الكعبة حتى أرساها بالمدينة فهى من جملة أرض مكة وحينئذ لا يحسن الاستنادفى تفضيل المدينة على مكة بقول أبى بكر رضى الله تعالى عنه إنهم لما اختلفوا فى أى محل يدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبضه الله إلا فى أحب البقاع إليه ليدفن فيه كما سيأتى والله أعلم
وعن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها قالت بينا نحن جلوس يوما فى بيت أبى بكر الصديق فى نحر الظهيرة أى وسطها وهو وقت الزوال قال قائل لأبى بكر أى وهذا القائل هى أسماء بنت أبى بكر وفى كلام بعض الحفاظ يحتمل أن يفسر بعامر بن فهيرة أى مولى أبى بكر قالت أسماء قلت يا أبت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا أى متطيلسا فى ساعة لم يكن يأتينا فيها أى فعن عائشة رضى الله تعالى عنها لم يمر علينا يوم أى قبل الهجرة إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفى النهار بكرة وعشيا
وفى لفظ كان لا يخطئ أن يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أبى بكر أحد طرفى النهار إما بكرة وإما عشيا أى ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحة الثانية وإلا فالأولى فى البخارى وتفسير التقنع بالتطيلس ذكره الحافظ ابن حجر حيث قال قوله متقنعا أى متطيلسا وهو أصل فى لبس الطيلسان هذا كلامه
واعترضه ابن القيم حيث قال لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه لبس الطيلسان ولا أحد من أصحابه وحينئذ لا يكون القناع هنا هو الطيلسان بل التقنع تغطية الرأس وأكثر الوجه بالردء من غير أن يجعل منه شئ تحت رقبته الذى يقال له التحنيك وحمل قول ابن القيم المذكورعلى الطيلسان المقور التى تلبسها اليهود قال بعضهم وهذا الطيلسان المقور هو المعروف بالطرحة وقد اتخذت خلفاء بنى العباس الطرحة السوداء على العمامة عند الخطبة واستمر ذلك شعارا للخلفاء
فالحاصل أن ما يغطى به الرأس مع اكثر الوجه إن كان معه تحنيك أى إدارة على العنق قيل له طيلسان وربما قيل له رداء مجازا وإن لم يكن معه تحنيك قيل له رداء أو قناع وربما قيل له مجازا طيلسان وهو ما كان شعارا فى القديم لقاضى القضاة الشافعى خاصة قال بعضهم بل صار شعارا للعلماء ومن ثم صار لبسه يتوقف على الإجازة من المشايخ كالإفتاء والتدريس وكان الشيخ يكتب فى إجازته وقد أذنت له فى لبس الطيلسان لأنه شهادة بالأهلية وما يجعل على الأكتاف دون الرأس يقال له رداء فقط وربما قيل له طيلسان أيضا مجازا وصح عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه وله حكم المرفوع التقنع من أخلاق الأنبياء وقد ذكر بعضهم أن الطيلسان الخلوة الصغرى وفى حديث لا يتقنع إلا من استكمل الحكمة فى قوله وفعله وكان ذلك من عادة فرسان العرب فى المواسم والجموع كالأسواق
وأول من لبس الطيلسان بالمدينة جبير بن مطعم رضى الله تعالى عنه وعن الكفاية لابن الرفعة أن ترك الطيلسان للفقيه مخل بالمروءة أى وهو بحسب ما كان فى زمنه رحمه الله وفى الترمذى لم تكن عادته صلى الله عليه وسلم التقنع إنما كان يفعله لحر أو برد وتعقب بأن فى حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان يكئر التقنع وفى طبقات ابن سعد مرسلا أنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا ثوب لا يؤدى شكره أى لأن فيه غض البصر ومن ثم قيل إنه الخلوة الصغرى كما تقدم
ولما قيل لأبى بكر رضى الله تعالى عنه ذلك أى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا قال أبو بكر فدا له أبى وأمى والله ما جاء به فى هذه الساعة إلا أمر قال فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل أى وتنحى أبو بكر عن سريره وجلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبى صلى الله عليه وسلم لأبى بكر رضى الله تعالى عنه أخرج من عندك قال أبو بكر إنما هى أهلك أى لأنه صلى الله عليه وسلم كان عقد على عائشة رضى الله تعالى عنها كما تقدم فأمها من جملة أهله وأختها كذلك وقيل هو على حد قول الشخص لآخر أهلى أهلك وفى رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج من عندك فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه لا عين عليك إنما هما ابنتاى أى وسكت عن أمهما سترا قال فإنه قد أذن لى فى الخروج فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله بأبى أنت وأمى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم أى فبكى أبو بكر سرورا قالت عائشة رضى الله تعالى عنها فرأيت أبا بكر يبكى وما كنت أحسب أن أحدا يبكى من الفرح حتى رأيت أبا بكر ولله در القائل ** ورد الكتاب من الحبيب بأنه ** ** سيزورنى فاستعبرت أجقانى ** ** غلب السرور على حتى إننى ** ** من فرط ما قد سرنى أبكانى ** ** يا عين صار الدمع عندك عادة ** ** تبكين من فرح ومن أحزان **
أى ومنه أقر الله عينه لمن يدعى له وهو قرة عين لمن يفرح به وأسخن عينه لمن يدعى عليه وهو سخنة العين لما يحزن به لأن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة
وقد روى أن نبيا من الأنبياء اجتاز بحجر يخرج منه الماء فسأل ربه عن ذلك فأنطق الله تعالى الحجر فقال منذ سمعت أن لله تعالى نارا وقودها الناس والحجارة وأنا أبكى هذا الدمع خوفا من تلك النار فاشفع لى عند ربك فشفع له فشفع فيه وبشره بذلك ثم مر به بعد مدة فإذا الماء يخرج منه فقال ألم أبشرك أن الله أنجاك من النار فما هذا فقال يا نبى الله ذاك بكاء الخوف والخشية وهذا بكاء الفرح والسرور ومن ثم لما قال صلى الله عليه وسلم لأبى بن كعب إن الله أمرنى أن أقرأ عليك سورة كذا أى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب بكى من الفرح وقال أو ذكرت هناك أى ذكرنى الله عز وجل وفى لفظ وسمانى قال نعم
وفى سفر السعادة قال العلماء البكاء على عشرة أنواع بكاء فرح وبكاء حزن لما فات وبكاء رحمة وبكاء خوف لما يحصل وبكاء كذب كبكاء النائحة فإنها تبكى بشجو غيرها وبكاء موافقة بأن يرى جماعة يبكون فيبكى مع عدم علمه بالسبب وبكاء المحبة والشوق وبكاء الجزع من حصول ألم لا يحتمله وبكاء الخور والضعف وبكاء النفاق وهو أن تدمع العين والقلب قاس والبكى بالقصر دمع العين من غير صوت والممدود ما كان معه صوت وأما التباكى فهو تكلف البكاء وهو نوعان محمود ومذموم فالأول ما يكون لاستجلاب رقة القلب وهو المراد بقول سيدنا عمر رضى الله تعالى عنه لما رأى المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبا بكر يبكيان فى شأن أسارى بدر أخبرنى ما يبكيك يا رسول الله فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكت ومن ثم لم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم ذلك والثانى ما يكون لأجل الرياء والسمعة
قال أبو بكر فخذ بأبى أنت وأمى يا رسول الله إحدى راحلتى هاتين فإنى أعددتهما للخروج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل بالثمن أى لتكون هجرته صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى بنفسه وماله أى وإلا فقد أنفق أبو بكر رضى الله تعالى عنه أكثر ماله عليه صلى الله عليه وسلم أى فعن عائشة رضى الله تعالى عنها أنفق أبو بكر على النبى صلى الله عليه وسلم أربعين ألف درهم وفى لفظ دينار ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم ليس من أحد أمن على فى أهل ومال من أبى بكر وفى رواية ما أحد أمن على فى صحبته وذات يده من أبى بكر وما نفعنى مال أبى بكر فبكى أبو بكر وقال هل أنا ومالى إلا لك يا رسول الله وفى رواية ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدا الله يكافئه بها يوم القيامة
أقول ولا ينافى كونه صلى الله عليه وسلم أخذ إحدى ناقتى أبى بكر بالثمن ما رواه أبان بن أبى عياش أحد التابعين عن أنس رضى الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر رضى الله تعالى عنه ما أطيب مالك منه بلال مؤذنى وناقتى التى هاجرت عليها وزوجتنى ابنتك وواسيتنى بمالك كأنى أنظر إليك على باب الجنة تشفع لأمتى لأن أبان بن أبى عياش معدود من الضعفاء
وقد قال شعبه لأن أشرب من بول حمار حتى أروى أحب إلى من أن أقول حديثاعن أبان بن أبى عياش وقال فيه مرة أخرى لأن يزنى الرجل من أن يروى عن
أبان وقد طلب من شعبة أن يكف عن أبان هذا فقال الأمر دين وهذا يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بين ابن حبان عذر أبان بأنه كان يروى عن أنس وأبان مجالس الحسن البصرى فكان يسمع كلامه فإذا حدث ربما جعل كلام الحسن عن أنس مرفوعا وهو لا يعلم وعلى تقدير صحة ما قاله لا منافاة أيضا لأنها كانت من مال أبى بكر قبل أن يأخذها صلى الله عليه وسلم بثمنها
على أن فى الترمذى ما يوافق ما رواه أبان ففيه عن على رضى الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى رحم الله أبا بكر زوجنى ابنته وحملنى إلى دار الهجرة وصحبنى فى الغار وأعتق بلالا من ماله
قال وهذا حديث غريب والله أعلم
وكان الثمن عن تلك الناقة التى هى القصواء وقد عاشت بعده صلى الله عليه وسلم وماتت فى خلافة أبى بكر رضى الله تعالى عنه أو الجدعاء أربعمائة درهم أى لما علمت أن الناقتين اشتراهما أبو بكر بثمانمائة درهم
وأما ناقته صلى الله عليه وسلم العضباء فقد جاء أن بنته فاطمة رضى الله تعالى عنها تحشر عليها
قالت عائشة رضى الله تعالى عنها فجهزناهما أحب الجهاز أى أسرعه والجهاز بكسر الجيم أفصح من فتحها ما يحتاج إليه فى السفر ووضعنا لهما سفرة فى جراب أى زادا فى جراب لأن السفرة فى الأصل الزاد الذى يصنع للمسافر ثم استعمل فى وعاء الزاد وكان فى السفرة شاة مطبوخة فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب أى وأبقت الأخرى نطاقا لها وهو يوافق ما فى صحيح مسلم عن أسماء رضى الله تعالى عنها أنها قالت للحجاج بلغنى أنك تقول أى لولدها عبدالله بن الزبير تعيره بابن ذات النطاقين أما أنا والله ذات النطاقين أما أحدخما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه وأما الآخر فنطاق المرأة أى الذى لا تستغنى عنه أى عند اشتغالها لأن النطاق ما تشد به المرأة وسطها لئلا تعثر فى ذيلها على ثوب يلقى على أسلفه وقيل النطاق إزار فيه تكة ومن ثم جاءت ذا ت النطاق أى وكلاهما صحيح لكن فى لفظ قطعت نطاقها قطعتين فأوكت بقطعة منه فم الجراب وشدت فم القرية بالباقى أى فلم يبق لها شئ منه
ويوافقه ما فى البخارى عن أسماء لم نجد لسفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أى لمحلها الذى هو الجراب ولا لسقائه الذى هو القربة ما نربطهما به فقلت لأبى بكر لا والله ما أجد شيئا أربط به إلا نطاقى قال فشقيه اثنين واربطى بواحد السقاء الذى هو القربة وبواحد السفرة ففعلت فلذلك سميت ذا ت النطاقين أى سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين فى الجنة
وفيه أن الرواية الأولى التى عن عائشة والرواية الثانية التى عن أسماء رواها مسلم لم يذكر السقاء وفى رواية البخارى ذكر السقاء وإسقاط الجراب لكن ذكر بعد الجراب السفرة
وقد يقال المراد بربط محلها الذى هو الجراب كما أشار إليه قال بعضهم وما تقدم عن مسلم ينبغى أن يكون أقرب إلى الضغط لأن أسماء قالت فى آخر عمرها مخبرة عن نفسها أى ولم تربط إلا الجراب بأحد شقى النطاق وأبقت لها الآخر
وقد يقال الحصر ليس فى محله لمنافاته لرواية البخارى وحينئذ يجمع بأنه بجوازها لما شقت النطاق نصفين قطعت أحدهما قطعتين فشدت بإحداهما الجراب والأخرى السقاء فهى ذا ت النطاقين الذى أبقته والذى فعلت به ماذكر
وفى السيرة الهشامية أن أسماء بنت أبى بكر جاءت إليهما لما نزلا من الغار بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصاما فدهشت لغلق السفرة فإذا ليس لها عصام فشقت نطاقها فجعلته عصاما فعلقتها به وانتطقت الآخر أى وهذا يدل على أن المراد بقول عائشة فجهزناهما أحب الجهاز أى عند خروجهما من الغار لا عند ذهابهما إلى الغار كما قد يتبادر من السياق ثم على المتبادر جرى ابن الجوزى حيث قال أسماء بنت أبى بكر أسلمت بمكة قديما وبايعت وشقت نطاقها ليلة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار فجعلت واحدا لسفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر عصاما لقربته فسميت ذا تالنطاقين هذا كلامه
وقد قال لا مانع من تعدد ذلك وكون النطاق ماتشد به المرأة وسطها لئلا تعثر فى ذيلها يخالفه قول بعضهم النطاق هو ثوب تلبسه المرأة ثم تشد وسطها بحبل ثم ترسل الأعلى على الأسفل وهذا يوافق القيل المتقدم ولعل له إطلاقين ويوافق الثانى ما قيل أول من فعله هاجر أم إسمعيل اتخذته لتخفى أثر مشيتها على سارة ولعله عند خروجها
لما أمره الله عز وجل بإخراجها مع إبراهيم فيذهب بها إلى مكة قبل أن تركت مع إبراهيم على البراق
ثم استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بنى الديل وهو عبدالله بن أريقط ويقال ابن أرقط أو أرقد اسم أمه فأريقط مصغرها ليدلهما على الطريق للمدينة وكان على دين قريش أى ثم أسلم بعد ذلك وقيل لم يعرف له إسلام
وفى الروض ما وجدنا من طريق صحيح أنه أسلم بعد ذلك فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه على جبل ثور بعد ثلاث ليال وقيل للجبل ذلك لأنه على صورة الثور الذى يحرث عليه وسياق النسائى يدل على أن استئجار عبد الله المذكور كان قبل التجهيز
قالت عائشة رضى الله تعالى عنها ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار فى جبل ثور أى ليلا كما تقدم
وعن ابن سعد لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته إلى بيت أبى بكر رضى الله تعالى عنه فكان فيه إلى الليل ثم خرج هو وأبو بكر فمضيا إلى غار ثور فدخلاه أى وكان خروجهما من خوخة فى ظهر بيت أبى بكر فعن عائشة بنت قدامه رضى الله تعالى عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لقد خرجت من الخوحة متنكرا فكان أول من لقينى أبو جهل لعنه الله فأعمى الله بصره عنى وعن أبى بكر حتى مضينا
وفى كلام سبط ابن الجوزى وعن وهب بن منبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج إلى الغار من بيت أبى بكر فخرج من خوخة فى ظهر الدار والأصح إنما كان خروجه من بيت نفسه
وجعل أبو بكر رضى الله تعالى عنه يمشى مرة أمام النبى صلى الله عليه وسلم ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن شماله فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون خلفك ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك
أقول فى الدر المنثور فمشى صلى الله عليه وسلم ليلته على اطراف أصابعه لئلا يظهر أثر رجليه على الأرض حتى حفيت رجلاه فلما رآهما أبو بكر قد حفيتا حمله على كاهله وجعل يشتد به حتى أتى على فم الغار فأنزله وفى لفظ لم يصب رسول الله صلى الله عليه
وسلم الغار حتى قطرت قدماه دما وفى كلام السهيلى عن أبى بكر رضى الله تعالى عنه أنه قال نظرت إلى قدمى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الغار وقد تقطرتا دما
قال بعضهم وبشبه أن يكون ذلك من خشونة الجبل وإلا فبعد المكان لا يحتمل ذلك أو لعلهم ضلوا طريق الغار حتى بعدت المسافة ويدل عليه قوله فمشى ليلته رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى لفظ فانتهينا إلى الغار مع الصبح ولا يحتمل ذلك مشى ليلته إلا بتقدير ذلك أو أنه صلى الله عليه وسلم كما قيل ذهب إلى جبل حنين فناداه اهبط عنى فإنى اخاف أن تقتل على ظهرى فأعذب فناداه جبل ثور إلى يا رسول الله وساق فى الأصل رواية تقتضى أنه ذهب إلى غار ثور راكبا ناقته الجدعاء ث 4 م رأيته فى النور أشار إلى أن ركوبه صلى الله عليه وسلم الجدعاء إنما كان بعد خروجه من الغار لا أنه ركبها من منزل أبى بكر إلى الغار كما هو ظاهر الرواية
وفى الخصائص الكبرى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما لما تشاور المشركون فى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلع الله نبيه على ذلك فخرج تلك الليلة حتى أتى الغار فلما أصبحوا اقتفوا أثره صلى الله عليه وسلم فلما بلغوا الجبل الحديث أى وهو مخالف لما تقدم من أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الغار كان فى الليلة الثانية لا فى ليلة حروجه على قريش
وقد يقال لا منافاة لأن قوله حتى لحق بالغار غاية لمطلق الخروج من بيته لافى خصوص تلك الليلة أى خرج من بيته واستمر على خروجه حتى لحق بالغار وذلك فى الليلة الثانية لكن تقدم أنه صلى الله عليه وسلم جاء إلى بيت أبى بكر متقنعا فى وقت الظهيرة فليتأمل
وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا بخروجه إلى الهجرة وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدى عنه الودائع التى كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس لأنه لم يكن بمكة أحد عنده شئ يخشى عليه إلا وضعه عنده صلى الله عليه وسلم لما يعلمون من أمانته أى ولعل إعلام على بذلك كان عند توجهه صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبى بكر لأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم اجتمع بعلى رضى الله تعالى عنه بعد ذلك إلا فى المدينة لكن سيأتى عن الدر ما تقتضى أنه اجتمع به عند خروجه من الغار
وفى الفصول المهمة أنه صلى الله عليه وسلم وصى عليا رضى الله تعالى عنه بحفظ
ذمته وأداء أمانته ظاهرا على أعين الناس وأمره أن يبتاع رواحل للفواطم فاطمة بنت النبى صلى الله عليه وسلم وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب ولمن هاجر معه من بنى هاشم ومن ضعفاء المؤمنين وشراء على رضى الله عنه الرواحل مخالف لما يأتى فى الأصل أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى على حلة وأرسل يقول تشقها خمرا بين الفواطم وهى فاطمة ابنة حمزة وفاطمة بنت عتبة وفاطمة أم على وفاطمة بنته صلى الله عليه وسلم وإرساله لتلك الحلة كان بعد وصوله إلى المدينة فليتأمل
قال فى الفصول المهمة وقال له أى لعلى إذا أبرمت ما أمرتك به كن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله وبقدوم كتابى عليك وإذا جاء أبو بكر توجهه خلفى نحو بئر أم ميمون وكان ذلك فى فحمة العشاء والرصد من قريش قد أحاطوا بالدار ينتظرون أن تنتصف الليلة وتنام الناس ودخل أبو بكر على على وهو يظنه أى وأبو بكر يظن عليا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له على إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج نحو بئر أم ميمون وهو يقول لك أدركنى فلحقه أبو بكر ومضيا جميعا يتسايران حتى أتياجبل ثور فدخلا الغار فليتأمل الجمع بينه وبين ما تقدم
ولما انتهيا إلى فم الغار قال أبو بكر للنبى صلى الله عليه وسلم والذى بعثك بالحق لا تدخل حتى أدخله قبلك فإن كان فيه شئ نزل بى قبلك فدخل رضى الله تعالى عنه فجعل يلتمس بيده كلما رأى جحرا قال بثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بجميع ثوبه فبقى جحر وكان فيه حية فوضع عقبه عليه ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن الحية التى فى الجحر لما أحست بعقب سيدنا أبى بكر جعلت تلسعه وصارت دموعه تتحدر قال ابن كثير وفى هذا السياق غرابة ونكارة أى وقد كان صلى الله عليه وسلم وضع رأسه فى حجر أبى بكر رضى الله تعالى عنه ونام فسقطت دموع أبى بكر رضى الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مالك يا أبا بكر قال لدغت بالدال المهملة والغين المعجمة فداك أبى وأمى فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم على محل اللدغة فذهب ما يجده قال بعضهم وقاه فبورك فى عقبه
قال بعضهم والسر فى اتخاذ رافضة العجم اللباد المقصص على رءوسهم تعظيما للحية التى لدغت أبا بكر فى الغار أى لأنهم يزعمون أن ذلك على صورة تلك الحية
ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر أين ثوبك فأخبره
الخبر زاد فى رواية وأنه رأى على أبى بكر أثر الورم فسأل عنه فقال من لدغة الحية فقال صلى الله عليه وسلم الله صلى الله عليه وسلم هلا أخبرتنى قال كرهت أن أوقظك فمسحه النبى صلى الله عليه وسلم فذهب ما به من الورم والألم
أى ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما وحين أخبره أبو بكر بذلك رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال اللهم اجعل أبا بكر معى فى درجتى فى الجنة فأوحى الله تعالى إليه قد استجاب الله لك
وروى أنه لما صار يسد كل جحر وجده أصاب يده ما أدماها فصار يمسح الدم عن أصبعه وهو يقول ** هل أنت إلا أصبع دمت ** ** وفى سبيل الله ما لقيت **
وسيأتى أن هذا البيت من كلام ابن رواحة وقيل من كلامه صلى الله عليه وسلم وأنه يجوز أن يكون ابن رواحة ضم ذلك البيت لأبياته
ومما قد يؤيد أن ذلك من كلامه صلى الله عليه وسلم ما ذكره سبط ابن الجوزى أن أبا بكر لما لحقه صلى الله عليه وسلم فى اثناء الطريق ظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار فأسرع فى المشى فانقطع قبال نعله ففلق إبهامه حجر فسال الدم فرفغ أبو بكر صوته ليعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه
ومما يصرح بذلك ما رأيت عن جندب البجلى قال كنت مع النبى صلى الله عليه وسلم فى غار كذا فدميت أصبعه فذكر البيت المذكور وأراد بالغار غارا من الغيران لا هذا الغار كما توهم
وجاء فى الصحيحين عن جندب بن عبدالله بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أصابه حجر فدميت أصبعه فقال ** هل انت إلا إصبع دميت ** البيت
أى ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرالغار أمر الله تعالى شجرة أى وهى التى يقال لها العشار وقيل أم غيلان فنبتت فى وجه الغار فسترته بفروعها
أى ويقال إنه صلى الله عليه وسلم دعا تلك الشجرة وكانت أمام الغار فأقبلت حتى وقفت على باب الغار وأنها كانت مثل قامة الإنسان وبعث الله العنكبوت فنسجت ما بين فروعها أى نسجا مترا كما بعضه على بعض أى كنسج أربع سنين كما قال بعضهم
وقد نسج العنكبوت أيضا على عبدالله بن أنيس رضى الله تعالى عنه لما قتل سفيان بن خالد وقطع رأسه وأخذها ودخل فى غار فى الجبل وكن فيه حتى انقطع عنه الطلب كما سيأتى ونسج على نبى الله داود لما طلبه طالوت ونسج أيضا على عورة سيدنا زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنهم وهو أخو الإمام محمد الباقر وعم الإمام جعفر الصادق وهو الذى ينسب إليه الزيدية كان إماما مجتهدا وكان ممن أخذ عن واصل بن عطاء الآخذ عن الحسن البصرى
ولما أثبت ابن عطاء المنزلة بين المنزلتين أمره الحسن البصرى باعتزال مجلسه فقيل له معتزلى وصار يقال لأصحابه معتزلة
ولا يلزم من كون شيخ سيدنا زيد معتزليا أن يسلك زيد مسلكه وصلب سيدنا زيد عربانا وأقام مصلوبا أربع سنين وقيل خمس سنين فلم ترعورته وقيل إن بطنه الشريف ارتخى على عورته فغطاها ولا مانع من وجود الأمرين وكان عند صلبه وجهوه إلى غير القبلة فدارت خشبته التى صلب عليه إلى أن صار وجهه إلى القبلة أى وقد وقع لخبيب نحو ذلك كما سيأتى ثم أحرقوا خشبة زيد وجسده وذرى رماده فى الرياح على شاطئ الفرات فإنه خرج على هشام بن عبد الملك وقد سمت نفسه للخلافة فحاربه يوسف بن عمر الثقفى أمير العراقين من قبل هشام بن عبد الملك فانهزم أصحاب زيد عنه بعد أن خذله وانصرف عنه أكثرهم
فقد بايعه ناس كثير من أهل الكوفة وطلبوا منه أن يتبرأ من الشيخين أبى بكر وعمر لينصروه فقال كلا بل أتولاهما فقالوا إذن نرفضك فقال اذهبوا فأنتم الرافضة فسموا بذلك من حينئذ رافضة وجاءت إليه طائفة وقالوا نحن نتولاهما من ونبرأ منهما وقاتلوا معه فسموا الزيدية
أقول والعجب ممن يتمذهب بمذهب سيدنا زيد ويتبرأ من الشيخين ويكرههما ويكره من يذكرهما بخير بل ربما سبهما
وعند مقاتلته أصابته جراحات وأصابه سهم فى جهته وحال الليل بين الفريقين فطلبوا حجاما من بعض القرى لينزع له النصل فاستخرجه فمات من ساعته فذفنوه من ساعته وأخفوا قبره وأجروا عليه الماء واستكتموا الحجام ذلك فلما أصبح
الحجام مشى إلى يوسف بن عمر منتصحا وأخبره ودله على موضع قبره فاستخرجه وبعث برأسه إلى هشام فكتب إليه هشام أن اصلبه عريانا فصلبه كذلك
ويقال إن هشام بن عبد الملك قال يوما لزيد بلغنى أنك تريد الخلافة ولا تصلح لك لأنك ابن أمة فقال قد كان إسماعيل ابن أمة وإسحاق ابن حرة فأخرج الله من صلب إسماعيل خير ولد آدم فقال له هشام قم قال إذن لا ترانى إلا حيث تكره ومن شعره ** لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ** ** وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا **
قيل ورأس زيد دفنت بمصر القديمة بمسجد يقال له مشهد زين العابدين بن الحسين وكذلك وقع في طبقات الشيخ الشعرانى نفعنا الله به وببركاته وليس كذلك بل هو محل زيد بن زين العابدين كما ذكره المقريزى فى الخطط ويقال له زيد الأزياد
وذكر فى حياة الحيوان أن ما ينسجه العنكبوت يخرج من خارج جلدها لا من جوفها وعن على رضى الله تعالى عنه طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه فى البيوت يورث الفقر
وأمر الله تعالى حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغاز أى ويروى أنهما باضتا أى وفرختا قال لأبى بكر ضع قدمك موضع قدمى فإن الرمل لاينم وتقدم ما فى ذلك أى لأن المشركين لما فقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شق عليهم ذلك وخافوا ذلك وطلبوه بمكة أعلاها وأسفلها وبعثوا القافة أى الذين يقصون الأثر فى كل وجه يقفون أثره فوجدوا الذى ذهب إلى جبل ثور أثره وقال ما تقدم
وأقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وسيوفهم أى ولما أقبلوا أشفق صلى الله عليه وسلم على صهيب وخاف عليه وقال واصهيباه ولا صهيب لى أى لأنه تواعد معهما أن يكون ثالثهما فلما أراد صلى الله عليه وسلم الخروج للغار أرسل له أبو بكر مرتين أو ثلاثا فوجده يصلى فقال يا رسول الله وجدت صهيبا يصلى فكرهت أن أقطع عليه صلاته فقال أصبت وتقدمت الحوالة على هذا
فلما كان فتيان قريش على أربعين ذراعا من الغار تعجل بعضهم ينظر فى الغار فلم ير إلا حمامتين وحشيتين أى مع العنكبوت فقال ليس فيه أحد فسمع النبى صلى الله عليه وسلم ما قال فعرف أن الله عز وجل قد درأ عنه أى دفع عنه
وفى رواية فلما انتهوا إلى فم الغار قال قائل منهم ادخلوا الغار فقال أمية بن خلف وما أربكم أى حاجتكم إلى الغار أن عليه لعنكبوتا كان قبل ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم أى ولو دخل الغار لانفتح ذلك العنكبوت وتكسر البيض وهذا يدل على أن البيض لم يكن فرخ أى ويحتمل أن بعض البيض فرخ وبعضه لم يفرخ ثم جاء قبالة فم الغار فبال فقال أبو بكر يا رسول الله إنه يرانا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر لو كان يرانا ما فعل هذا وفى بعض الروايات لو رآنا ما تكشف عن فرجه أى ما استقبلنا بفرجه وبوله وقال أبو جهل أما والله إنى لأحسب قريبا يرانا ولكن بعض سحره قد أخذ على أبصارنا فانصرفوا
وذكر ابن كثير أن بعض أهل السير ذكر أن أبا بكر رضى الله تعالى عنه لما قال للنبى صلى الله عليه وسلم لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه قال له النبى صلى الله عليه وسلم لو جاءونا من ها هنا لذهبنا من ها هنا فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر وإذا البحر قد اتصل به وسفينة مشدودة إلى جانبه قال ابن كثير وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة ولكن لم يرد ذلك بإسناد قوى ولا ضعيف ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا ونهى النبى صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العنكبوت وقال إنها جند من جند الله انتهى
وعن أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه أنه قال لا أزال أحب العنكبوت منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبها ويقول جزى الله العنكبوت عنا خير فإنها نسجت على وعليك يا أبا بكر إلا أن البيوت تطهر من نسجها أى ينبغى ذلك لما تقدم أن وجود نسجها فى البيوت يورث الفقر
وفى الجامع الصغير جزى الله العنكبوت عنا خيرا فإنها نسجت على الغار
أقول فيه أن فى الحديث العنكبوت شيطان فاقتلوه وفى لفظ العنكبوت شيطان مسخه الله فاقتلوه فإن صح وثبت تأخره فهو ناسخ له وإن كان متقدما على ما هنا وصح ما هنا فهو منسوخ به والله أعلم وبارك صلى الله عليه وسلم على الحمامتين وفرض جزاء الحمام وانحدرتا فى الحرم فأفرختا كل شئ فى الحرم من الحمام أى ولأجل ذلك ذهب الغزالى من أئمتنا إلى صحة الوقف على حمام مكة دون غيره من الطيور وهو الراجح
ونظر فى الإمتاع فى كون حمام الحرم من نسل ذلك الزوج فإنه روى فى قصة نوح عليه الصلاة والسلام أنه بعث الحمامة من السفينة لتأتيه نخبر الأرض فوقعت بوادى الحرم فإذا الماء قد نضب من موضع الكعبة وكانت طينتها حمراء فاختضبت رجلاها ثم جاءته فمسح عنقها وطوقها طوقا ووهب لها الحمرة فى رجليها وأسكنها الحرم ودعا لها بالبركة
وفى شعر الحادث بن مضاض الذى أوله ** كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ** ** أنيس ولم يسمر بمكة سامر ** ** ويبك لبيت يؤذى حمامه ** ** يظل به أمنا وفيه العصافر **
ففى هذا أن الحمام قد كان فى الحرم من عهد جرهم أى ونوح وذكر بعضهم أن حمام مكة أظله صلى الله عليه وسلم يوم فتحها فدعا له بالبركة
ويروى أن أبا بكر رضى الله تعالى عنه لما رأى قريشا أقبلت نحو الغار خصوصا ومعهم القافة بكى أى ويقال لما سمع القائف يقول لقريش والله ما جاز مطلوبكم من هذا الغار حزن وبكى وقال والله ما على نفسى أبكى ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحزن إن الله معنا وأنزل الله تعالى سكينته على أبى بكر رضى الله تعالى عنه أى وأنزل عليه أمنته التى تسكن عندها القلوب قيل قال له لا تحزن ولم يقل له لا تخف لأن حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا النهى تأنيس وتبشير له كما فى قوله تعالى له صلى الله عليه وسلم { ولا يحزنك قولهم } وبه يرد ما زعمته الرافضة أن ذلك غضبا من أبى بكر وذماله لأن حزنه رضى الله تعالى عنه إن كان طاعة فالنبى صلى الله عليه وسلم لا ينهى عن الطاعة فلم يبق إلا أنه معصية
وفى رواية عن أبى بكر رضى الله تعالى عنه قلت للنبى صلى الله عليه وسلم ونحن فى الغار لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه أى لأنهما علوا على رؤوسهما
فعن أبى بكر قال نظرت إلى أقدام المشركين ونحن فى الغار وهم على رءوسنا فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما
قال بعضهم كان معهما وثالثهما باللفظ والمعنى أما باللفظ فكان يقال يا رسول الله ويقال لأبى بكر يا خليفة رسول الله وأما بالمعنى فكان مصاحبا لهما بالنصر والهداية
والإرشاد والضمير فى أيده بجنود لم تروها راجع للنبى صلى الله عليه وسلم وتلك الجنود ملائكة أنزلهم الله تعالى عليه فى الغار يبشرونه صلى الله عليه وسلم بالنصر على أعدائه
وروى أ ن أبا بكر رضى الله تعالى عنه عطش فى الغار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب إلى صدر الغار فاشرب فانطلق أبو بكر رضى الله تعالى عنه إلى صدر الغار فوجد ماء أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأزكى رائحة من المسك فشرب منه فقال له رسول الله صلى إن الله أمر الملك الموكل بأنهار الجنة أن يخرق نهرا من جنة الفردوس إلى صدر الغار لتشرب قال أبو بكر يا رسول الله ولى عند الله هذه المنزلة فقال النبى صلى الله عليه وسلم نعم وأفضل والذى بعثنى بالحق نبيا لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان عمله عمل سبعين نبيا
أى وذكر بعضهم قال كنت جالسا عند أبى بكر رضى الله تعالى عنه فقال من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة فليقم فقام رجل رجل فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدتى بثلاث حثيات من تمر فقال أرسلوا إلى على فجاء فقال يا أبا الحسن إن هذا يزعم كذا وكذا فاحث له فحثى له فقال أبو بكر عدوها فعدوها فوجدوها كل حثية ستين تمرة لا تزيد ولا تنقص فقال أبو بكر صدق الله ورسوله قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة فى الغار كفى وكف على فى العدد سواء ذكر الذهبى أنه موضوع ولعل قول الصديق صدق الله ورسوله علة لاختياره عليا على نفسه فى أن يحثو لا أن ذلك علة لكون كل حثية جاءت ستين حبة
ولما أيست قريش منهما أرسلو لأهل السواحل إن من أسر أو قتل أحدهما كان له مائة ناقة أى ويقال إن أبا جهل أمر مناديا ينادى فى أعلى مكة وأسفلها من جاء بمحمد أو دل عليه فله مائة بعير وإلى قصة الغار أشار صاحب الهمزية بقوله ** أخرجوه منها وآواه غار ** ** وحمته حمامة ورقاء ** ** وكفته بنسجها عنكبوت ** ** ما كفته الحمامة الحصداء ** ** واختفى منهم على قرب مرآ ** ** ومن شدة الظهور الخفاء **
أى كانوا سببا لإخراجه من تلك الأرض التى هى مولده صلى الله عليه وسلم ومرباه ووطنه ووطن آبائه بسبب مبالغتهم فى إيدائه وإيذاء أصحابه خصوصا ضعفاءهم وآواه
غار وحمته منهم حمامة فى لونها بياض وسواد وكفته أعداءه عنكبوت بنسجها الذى كفته إياهم الحمامة الكثيرة الريش فتلك الحمامة كانت ورقاء حصداء واستتر منهم مع قرب محل رؤيته
وحكمة خفائه واستتاره منهم مع ظهوره لهم لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه شدة ظهوره عليهم بالغلبة والمعونة الإلهية ومكثا فى الغار ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبى بكر وهو غلام يعرف ما يقال يأتيهما حين يختلط الظلام ويدلج من عندهما بفجر فيصبح مع قريش كبائت فى بيته فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه ويخبرهما به
وكان عامر بن فهيرة مولى أبى بكر رضى الله تعالى عنهما كان مملوكا للطفيل فأسلم وهو مملوك وكان ممن يعذب فى الله عز وجل فاشتراه أبو بكر من الطفيل وأعتقه كما تقدم فكان يروح عليهما بمنحة غنم أى قطعة من غنم أبى بكر فكان يرعاها حيث تذهب ساعة من العشاء ويغدو بها عليهما ثم يغلس أى إذا خرج من عندهما عبد الله تبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يقفو أثر قدميه يفعل ذلك فى كل ليلة من تلك الليالى الثلاث أى وذلك بارشاد من أبى بكر رضى الله تعالى عنه
ففى السيرة الهشامية وأمر أبو بكر ابنه عبدالله رضى الله تعالى عنهما أن يستمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون فى ذلك اليوم من الخبر وأمر عامر بن فهيرة أن يرعى عنمه نهارا ثم يريحها عليهما إذا أمسى فى الغار وكانت أسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنها تأتيهما إذا أمست بما يصلحهما من الطعام
أقول وفى الدر عن عائشة رضى الله تعالى عنهما ما كان أحد يعلم مكان ذلك الغار إلا عبد الله بن أبى بكر وأسماء بنت أبى بكر فإنهما كانا يختلفان إليهما وعامر بن فهيرة فإنه كان إذا سرح غنمه مر بهما فحلب لهما
وفى الفصول المهمة وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام بلياليها فى الغار وقريش لا يدرون أين هو وأسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنها تأتيهما ليلا بطعامهما وشرابهما فلما كان بعد الثلاث أمرها صلى الله عليه وسلم أن تأتى عليا وتخبره بموضعهما وتقول له يستأجر لهما دليلا ويأتى معه بثلاث من الإبل بعد مضى ساعة من الليلة الآتية أى وهى الرابعة فجاءت أسماء إلى على كرم الله وجهه فأخبرته بذلك فاستأجر لهما رجلا يقال له الأريقط بن عبد الله الليثى وأرسل معه بثلاث من الإبل فجاء بهن إلى أسفل
الجبل ليلا فلما سمع النبى صلى الله عليه وسلم رغاء الإبل نزل من الغار هو وأبو بكر فعرفاه أى والذى فى البخارى فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا وتقدم أن المستأجر لهما للدليل النبى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر
وقد يجمع بأن المراد باستئجار على رضى الله تعالى عنه إعطاؤه الأجرة وكونه استأجر لهما ثلاث رواحل وأتى بها معه فيه نظر ظاهر وركب النبى صلى الله عليه وسلم وركب أبو بكر وركب الدليل
وفى الدر المنثور فمكث هو صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فى الغار ثلاثة أيام يختلف إليهما بالطعام عامر بن فهيرة وعلى يجهزهما فاشترى ثلاثة أباعر واستأجر لهم دليلا فلما كان فى بعض الليل من الليلة الثالثة أتاهم على بالإبل والدليل فليتأمل ذلك مع ما قبله
وفى حديث مرسل مكثت مع صاحبى فى الغار بضعة عشر يوما ما لنا طعام إلا ثمر البرير أى الأراك وتقدم فى باب رعيه الغنم أن ثم الأراك النضيج يقال له الكباث بكاف فباء موحدة مفتوحتين فتاء مثلثة
قال ابن عبد البر وهذا أى القول بأنهما مكثا فى الغار بضعة عشر يوما غير صحيح عند أهل العلم بالحديث قال الحافظ ابن حجر والمراد كما قال الحاكم أنهما مكثا مختفيين من المشركين فى الغار وفى الطريق بضعة عشر يوما وذكر فى الغار أى الاقتصار عليه من بعض الرواة والله أعلم
قال وعن أسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنهما أن أبا بكر أرسل ابنه عبد الله فحمل ماله وكان خمسة آلاف درهم أو أربعة آلاف وكان حين أسلم أربعين ألف درهم وفى لفظ أربعين ألف دينار أى ويؤيد ذلك ما جاء عن أنس رضى الله تعالى عنه أنفق أبو بكر على النبى صلى الله عليه وسلم أربعين ألف دينار فحمل إليه ذلك فى الغار قالت أسماء فدخل علينا جدى أبو قحافة رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك وكان قد ذهب بصره فقال والله إنى لأراه يعنى أبا بكر قد فجعكم بماله مع نفسه فقال كلا يا أبت إنه ترك لنا خيرا كثيرا قالت فأخذت أحجارا فوضعتها فى كوة أى طاقة فى البيت كان أبى يضع ماله فيها ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقلت ضع يدك على هذا المال قالت فوضع يده عليه فقال لا بأس إن كان ترك لكم هذا
فى هذا بلاغ لكم ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكن أردت أن أسكن قلب الشيخ اه
أى ولما بلغ ضمرة بن جندب خروجه صلى الله عليه وسلم وكان مريضا فقال لا عذر لى فى مقامى بمكة فأمر أهله فخرجوا به فلما وصل إلى التنعيم مات به فأنزل الله تعالى { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما } وقيل نزلت فى خالد بن حرام بن خويلد بن أسد أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة فى المرة الثانية فمات من نهش حية قبل أن يصل وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لحسان رضى الله تعالى عنه هل قلت فى أبى بكر شيئا قال نعم قال قل وأنا أسمع فقال ** وثانى اثنين فى الغار المنيف وقد ** ** طاف العدو به إذ صاعدوا الجبلا ** ** وكان حب رسول الله قد علموا ** ** من البرية لم يعدل به رجلا **
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه أى وفى لفظ فتبسم ثم قال صدقت يا حسان هو كما قلت إنه أحب البرية إليه أى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعدل به غيره
أقول فى ينبوع الحياة والذى أعرف فى هذين البيتين أنهما من أبيات رثى بهما حسان أبا بكر رضى الله تعالى عنهما هذا كلامه
وقد يقال لا مانع أن يكون أدخلهما حسان فى مرثيته لأبى بكر بعد ذلك والله أعلم وعن أبى بكر رضى الله تعالى عنه قال لجماعة أيكم يقرأسورة التوبة قال رجل أنا أقرأ فلما بلغ { إذ يقول لصاحبه لا تحزن } بكى وقال أنا والله صاحبه
وعن أبى الدرداء رضى الله تعالى عنه قال رآنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمشى أمام أبى بكر فقال يا أبا الدرداء أتمشى أمام من هو أفضل منك فى الدنيا والآخرة فوالذى نفس محمد بيده ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبى بكر وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أتانى جبريل فقال إن الله تعالى يأمرك أن تستشير أبا بكر وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حب أبى بكر واجب على أمتى
= باب الهجرة إلى المدينة
لا يخفى أنه لما كان صبيحة الليلة الثالثة من دخولهما الغار على ما تقدم جاءهما الدليل الذى هو الرجل الدؤلى براحلتيهما فركبا وانطلق بهما وانطلق معهما عامربن فهيرة أى رديفا لأبى بكر يخدمهما أى وفى البخارى أن أبا بكر كان رديفا له صلى الله عليه وسلم أى ولامخالفة لما سيأتى
ويروى أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار وركب أخذ أبو بكر بغرزه أى يركابه والغرز بغين معجمة مفتوحة وراء ساكنة وزاى ركاب الإبل خاصة فقال صلى الله عليه وسلم ألا أبشرك قال بلى فداك أبى وأمى قال إن الله عز وجل يتجلى للخلائق يوم القيامة عامة ويتجلى لك خاصة قال الخطيب هذا الحديث لا أصل له قال السيوطى رأيت له متابعات ودعا صلى الله عليه وسلم بدعاء منه اللهم اصحبنى فى سفرى واخلفنى فى أهلى
وأخذ بهم الدليل على طريق السواحل وصار أبو بكر إذا سأله سائل عن النبى صلى الله عليه وسلم من هذا الذى معك أى وفى رواية من هذا الذى بين يديك وفى رواية من هذا الغلام بين يديك أى بناء على أنه كان رديفا له صلى الله عليه وسلم يقول هذا الرجل يهدينى الطريق يعنى طريق الخير أى لأنه صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر أله الناس أى أشغل الناس عنى أى تكفل عنى بالجواب لمن سأل عنى فإنه لا ينبغى لنبى أن يكذب أى ولو صورة كالتورية فكان أبو بكر يقول لمن سأله عن النبى صلى الله عليه وسلم ما ذكر وإنما لم يسأل أبو بكر عن نفسه لأن أبا بكر كان معروفا لهم لأنه كان يكثر المرور عليهم فى التجارة للشام أى معروفا لغالبهم فلا ينافى ما جاء فى بعض الروايات أنه كان إذا سئل من أنت يقول ياغى أى طالب حاجة فعلم أن الأنبياء لا ينبغى لهم الكذب ولو صورة ومن ذلك التورية لكن سيأتى فى غزوة بدر وقوع التورية منه صلى الله عليه وسلم
وفى رواية ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء أبى بكر ناقته وفى التمهيد لأبن عبد البر أنه لما أتى براحلة أبى بكر سأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركب ويردفه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنت اركب وأردفك أنا فإن
الرجل أحق بصدر دابته فكان إذا قيل له من هذا وراءك قال هذا يهدينى السبيل
أقول لا مخالفة بين هذا وما تقدم لأنه يجوز أن يكون ركب صلى الله عليه وسلم تارة خلف أبى بكر على ناقة أبى بكر وتارة ركب صلى الله عليه وسلم على ناقة نفسه أمامه وأن ركوبه لها كان فى أثناء الطريق ويكون صلى الله عليه وسلم إما أركب راحلته عامر بن فهيرة أو ترك ركوبها لأجل إراحتها والهداية كما تكون من المتقدم تكون من المتأخر وإن كان الأول هو الغالب والله أعلم وإلى توجهه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أشار صاحب الهمزية بقوله ** ونحا المصطفى المدينة واشتا ** ** قت إليه من مكة الأنحاء **
أى وقصد صلى الله عليه وسلم واشتاقت إليه الجهات والنواحى من مكة وقد جاء أنه لما خرج صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة مهاجرا وبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة فأنزل الله تعالى عليه { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } أى إلى مكة
وأهل الرجعة يقولون إلى الدينا أى من يقول بأن النبى صلى الله عليه وسلم يرجع إلى الدنيا كما يرجع عيسى وقد أظهرها عبد الله بن سبأ كان يهوديا وأمه يهودية سوداء ومن ثم كان يقال له ابن السوداء أظهر الإسلام فى خلافة عمر رضى الله تعالى عنه وقيل فى خلافة عثمان رضى الله عنه وكان قصده بإظهار الإسلام بوار الإسلام فكان يقول العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع إلى الدينا ويكذب برجعة محمد صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } فمحمد أحق بالرجعة من عيسى عليهما الصلاة والسلام وتقدم ذلك فى أثناء الكلام على بدء الوحى وسيأتى ذلك عند بناء المسجد وكانت قريش كما تقدم أرسلت لأهل السواحل أن من قتل أو أسر أبا بكر أو محمدا كان له مائة ناقة أى فمن قتلهما أو أسرهما كان له مائتان
فعن سراقة جاءنا رسل كفار قريش يجعلون فيهما إن قتلا أو أسرا ديتين فبينا أنا جالس فى مجلس من مجالس قومى بنى مدلج أى بقديد وهو محل قريب من رابغ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال يا سراقة إنى رأيت أسودة أى أشخاصا بالسواحل أراه محمدا وأصحابه قال سراقة فعرفت أنهم هم فقلت إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا أى بمعرفتنا يطلبون ضالة لهم أى وفى
لفظ قال رأيت ركبة بالتحريك جمع راكب ثلاثا مروا على آنفا أى قريبا إنى لأراهم محمدا وأصحابه قال سراقة فأومأت إليه أن اسكت ثم قلت إنما هم بنو فلان يتبعون ضالة لهم ثم لبثت فى المجلس ساعة ثم قمت إلى منزلى فأمرت جاريتى أن تخرج فرسى خفية إلى بطن الوادى وتحبسها على وأخذت رمحى وخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه فى الأرض والزج الحديدة التى تكون فى أسفل الرمح وخفضت عاليه أى أمسكت بأعلاه وجعلت أسفله فى الأرض لئلا براه أحد وإنما فعل ذلك كله ليفوز بالجعل المتقدم ذكره ولا يشركه فيه أحد من قومه بخروجه معه لقتلهما أو أسرهما زاد فى رواية ثم انطلقت فلبست لامتى وجعلت أجر الرمح مخافة أن يشركنى أهل الماء يعنى قومه قال حتى أتيت فرسى أى وكان يقال لها العود والفرس لغة تقع على الذكر والأنثى قال فى النور والمراد هنا الأنثى لقوله فركبتها ولقوله فرقعتها أى بالغت فى إجرائها حتى دنوت منهم
وفى لفظ فرفعتها تقرب بى وحينئذ يكون المراد أسرعت بالسير بها لأن التقريب دون العدو وفوق العادة فعثرت بى فرسى أى فوقعت لمنخريها كما فى حديث أسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنهما
زاد فى رواية ثم قامت تحمحم فخررت عنها فقمت فأهويت بيدى على كنانتى فاستخرجت الأزلام أى وهى عيدان السهام التى لا ريش لها ولم تركب فيها النصال واستقسمت بها أضرهم أم لا فخرج الذى أكره وهو عدم إضرارهم أى لأنه مكتوب عليها أفعل لا تفعل ويقال للأول الآمر ويقال للثانى الناهى فركبت فرسى وعصيت الأزلام تقرب بى حتى سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الألتفات ساخت أى غابت يدا فرسى فى الأرض حتى بلغتا الركبتين أى وكانت الأرض جلدة فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها عثان أى غبار ساطع فى السماء مثل الدخان أى مع كون الأرض جلدة فاستقسمت بالأزلام فخرج الذى أكره فناديتهم بالأمان أى وقلت أنظرونى لا أوذيكم ولا يأتيكم منى شئ تكرهونه
أى وفى رواية ناديت القوم وقلت أنا سراقة بن مالك أنظرونى أكلمكم أنا لكم نافع غير ضار وإنى لا أدرى لعل الحى فزعوا لركوبى أى أن بلغهم ذلك وأنا راجع
رادهم عنكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر قل له ماذا تبتغى فوقفوا فأخبرتهم بما تريد الناس منهم
وفى رواية قال يا محمد ادع الله أن يطلق فرسى وأرجع عنك وأرد من ورائى وفى رواية قال ياهذان ادعوا لى الله ربكما ولكما أن لا أعود ففعل أى دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق الفرس وحينئذ يكون زجره لها ونهوضها بعد الدعاء فلا مخالفة قال فركبت فرسى أى بعد نهوضها حتى جئتهم فقلت إن قومك جعلوا فيك الدية أى مائة من الإبل لمن قتلك أو أسرك وهذا هو المراد بقوله فى الرواية السابقة فأخبرتهم بما يريد الناس منهم وكأنه رأى أن ذلك كاف فى لحوقه بهم عن ذكر أبى بكر قال سراقة وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يفبلا وقالا اخف عنا أى وفى رواية عرضت عليهما الزاد والحملان أى ولعل الحملان هو المراد بالمتاع أى لأنه جاء أنه قال لهما خذا هذا السهم من كنانتى وغنمى وإبلى بمحل كذا وكذا فخذا منهما ما شئتما فقالا اكفنا نفسك فقال كفيتماها
أقول وفى رواية قال له صلى الله عليه وسلم يا سراقة إذا لم ترغب فى دين الإسلام فإنى لا أرغب فى إبلك ومواشيك وفى رواية عن أبى بكر رضى الله عنه قال لما أدركنا سراقة قلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا { لا تحزن إن الله معنا } أى وقد تقدم أنه قال ذلك له فى الغار فلما كان بيننا وبينه قيد أى مقدار رمح أو ثلاثة قلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت قال لم تبكى قلت أما والله ما على نفسى أبكى ولكن أبكى عليك فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اللهم اكفناه بما شئت فساخت به فرسه فى الأرض إلى بطنها وكانت الأرض صلبة أى ولا يخالف ما سبق أنها بلغت الركبتين لجواز أن يكون ذلك فى أول أمرها ثم صارت إلى بطنها وذلك كله فى المرة الأولى فلا يخالف ما فى الإمتاع لما قرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخت يدا فرسه فى الأرض إلى بطنها فقال ادع لى يا محمد أن يخلصنى الله تعالى ولك على أن أرد عنك الطلب فدعا فخلص فعاد فتبعهم فساخت قوائم فرسه فى الأرض أشد من الأولى فقال يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك على الحديث إذ هو يدل على أنها فى المرة الأولى وصلت إلى بطنها وفى الثانية وصلت إلى ما هو زائد على ذلك وقد يدل له ما يأتى عن الهمزية ولعل المراد أنه دخل جزء من بطنها فى الأرض
فى المرة الثانية وفى لفظ فقال يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله ينجينى مما أنا فيه فو الله لأعمين على من ورائى من الطلب فدعا له فانطلق راجعا
وفى السبعيات للهمدانى أن سراقة لما دنا منه صلى الله عليه وسلم صاح وقال يا محمد من يمنعك منى اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنعنى الجبار الواحد القهار ونزل جبريل عليه السلام وقال يا محمد إن الله عز وجل يقول جعلت الأرض مطيعة لك فأمرها بما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أرض خذيه فأخذت الأرض أرجل جواده إلى الركب فساق سراقة فرسه فلم يتحرك فقال يا محمد الأمان وعزة العزى لو أنجيتنى لأكونن لك لا عليك فقال يا أرض أطلقيه فأطلقت جواده
وروى فى بعض التفاسير أن سراقة عاهد سبع مرات ثم ينكث العهد وكلما ينكث العهد تغوص قوائم فرسه فى الأرض وهذا أى الاقتصار على غوص قوائم فرسه فى الأرض لا ينافى الزيادة فلا يخالف ما سبق وفى السابعة تاب توبة صدق
وفى الفصول المهمة لما اتصل خبر مسيره صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وذلك فى اليوم الثانى من خروجه صلى الله عليه وسلم من الغار جمع الناس أبو جهل وقال بلغنى أن محمدا قد مضى نحو يثرب على طريق الساحل ومعه رجلان آخران فأيكم يأتينى بخبره فوثب سراقة فقال أنا لمحمد يا أبا الحكم ثم إنه ركب راحلته واستجنب فرسه وأخذ معه عبدا له أسود كان ذلك العبد من الشجعان المشهورين فسارا أى فى أثر النبى صلى الله عليه وسلم سيرا عنيفا حتى لحقا به فقال أبو بكر يا رسول الله قد دهينا هذا سراقة قد أقبل فى طلبنا ومعه غلامه الأسود المشهور فلما أبصرهم سراقة نزل عن راحلته وركب فرسه وتناول رمحه وأقبل نحوهم فلماقرب منهم قال النبى صلى الله عليه وسلم اللهم اكفنا أمرسراقة بما شئت وكيف شئت وأنى شئت فغابت قوائم فرسه فى الأرض حتى لم يقدر الفرس أن يتحرك فلما نظر سراقة إلى ذلك هاله ورمى نفسه عن الفرس إلى الأرض ورمى رمحه وقال يا محمد أنت أنت وأصحابك أى أنت كما أنت أى آمن وأصحابك فادع ربك يطلق لى جوادى ولك عهد وميثاق أن أرجع عنك فرفع النبى صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء وقال اللهم إن كان صادقا فيما يقول فأطلق له جواده فال قأطلق الله تعال له قوائم فرسه حتى وثب على الأرض سليما أى ولعل هذا فى المرة الثانية أو المرة الأخيرة من السبع على ما تقدم وتقدم أن الاقتصار على القوائم لا ينافى
الزيادة عليها فلا يخالف ما سبق فى هذه الرواية ورجع سراقة إلى مكة فاجتمع الناس عليه فأنكر أنه رأى محمدا فلا زال به أبو جهل حتى اعترف وأخبرهم بالقصة وفى ذلك يقول سراقة مخاطبا لأبى جهل ** أبا حكم والله لو كنت شاهدا ** ** لأمر جوادى إذ تسوخ قوائمه ** ** علمت ولم تشكك بأن محمدا ** ** رسول ببرهان فمن ذا يقاومه **
وسياق هذه الرواية يدل على أنه خرج خلف النبى صلى الله عليه وسلم من مكة ويدل لذلك ما ذكر أنه كان أحد القاصين لأثره صلى الله عليه وسلم فى الجبل لكنه مخالف لما تقدم أنه خرج خلفه صلى الله عليه وسلم من قديد من مجلس قومه وأخفى خروج فرسه وخروجه عن قومه
وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون لما خرج من مكة سلك طريقا غير الطريق الذى سلكها النبى صلى الله عليه وسلم فلم يجده وسبقه على قديد فجلس فى مجلس قومه فلما أخبر بمرورهم فعل ما تقدم ثم وجد عبده الأسود فى مروره وكان معه راحلته فركبها واستجنب فرسه وصحب عبده
ولا مانع أن يخرج من مكة بعد خروجهم من الغار ويسبقهم على قديد ولا ينافى ذلك قوله فأتانا رسل كفار قريش لأنه يجوز أن يكون ذلك هو الحامل لسراقة على الذهاب إلى مكة لعله يجده بطريقه ولا ينافى ذلك كونه كان أحد القصاصين لأثره صلى الله عليه وسلم لأنه يجوز أن يكون عاد إلى قديد قبل أن يجعل الجعل وفى كلام بعضهم أنه أرسل بهذين البيتين إلى أبى جهل ولا منافاة لجواز أن يكون أرسل بهما قبل أن يشافهه بهما
وفى رواية أنه لما لحق بهم قال صلى الله عليه وسلم اللهم اصرعه فصرع عن فرسه فقال يا نبى الله مرنى بما شئت قال تقف مكانك لا تتركن أحدا يلحق بنا
ثم لا يخفى أن صرعه عن فرسه يحتمل أن يكون لما ساخت ويحتمل أنه صرع عنها قبل ذلك وهو ظاهر سياق الرواية الأولى وهى فعثرت بى فرسى فخررت عنها وحينئذ يكون عثورها بدعائه صلى الله عليه وسلم والله أعلم
قال سراقة فسألته أن يكتب لى كتاب أمن لأنه وقع فى نفسى حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفى السبعيات قال سراقة يا محمد إنى لأعلم أنه سيظهر أمرك فى العالم وتملك رقاب الناس فعاهدنى أنى إذا أتيتك يوم ملكك فأكرمني فأمر عامر بن فهيرة أى وقيل أبا بكر فكتب لى فى رقعة من أدم أى وقيل فى قطعة من عظم وقيل فى خرقة
أقول وحينئذ يمكن أن يكون كتب عامر بن فهيرة أولا فطلب سراقة أن يكون أبو بكر هو الذى يكتب فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة ذلك فأحدهما كتب فى الرقعة من الأدم والآخر كتب فى العظم أو الخرقة أو المراد بالخرقة الرقعة من الأدم فلا مخالفة
ولما اراد الانصراف قال له كيف بك ياسراقة إذا تسورت بسوارى كسرى قال كسرى بن هرمز قال نعم وسيأتى أن سراقة أسلم بالجعرانة ولما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بها قال له مرحبا بك
وعن سراقة لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين والطائف خرجت ومعى الكتاب لألقاه فلقيته بالجعرانة فدخلت فى كتيبة من خيل الأنصار فجعلوا يقرعوننى بالرماح ويقولون إليك ماذا تريد قال فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته فرفعت يدى بالكتاب ثم قلت يا رسول الله هذا كتابى وأنا سراقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم وفاء وبشر أدنه فدنوت منه وأسلمت
ولما جئ لعمر رضى الله تعالى عنه فى زمن خلافته بسوارى كسرى وتاجه ومنطقته أى وبساطه وكان ستين ذراعا فى ستين ذراعا منظوما باللؤلؤ والجواهر الملونة على ألوان زهر الربيع كان يبسط له فى إيوانه ويشرب عليه إذا عدمت الزهور وجئ له بمال كثير من مال كسرى وبنات كسرى وكن ثلاثا وعليهن الحلى والحلل والجواهر ما يقصر اللسان عن وصفه وعند ذلك دعا سراقة وقال ارفع يديك وألبسه السوارين وقال له قل الحمد لله الذى سلبهما كسرى بن هرمز الذى كان يقول أنا رب الناس وألبسهما سراقة بن مالك أى ورفع عمر بها صوته وصب المال الذى جئ به من أموال كسرى فى صحن المسجد وفرقه على المسلمين ثم قطع البساط وفرقه بين المسلمين فأصاب عليا رضى الله تعالى عنه منه قطعة باعها بخمسين ألف دينار ثم جئ ببنات الملك الثلاث فوقفن بين يديه وأمر المنادى أن ينادى عليهن وأن يزيل نقابهن عن
وجوههن ليزيد المسلمون فى ثمنهن فامتنعن من كشف نقابهن ووكزن المنادى فى صدره فغضب عمر رضى الله تعالى عنه وأراد أن يعلوهن بالدرة وهن يبكين فقال له على رضى الله تعالى عنه مهلا يا أمير المؤمنين فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ارحموا عزيز قوم ذل وغنى قوم افتقر فسكن غضبه فقال له على إن بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن من بنات السوقة فقال له عمركيف الطريق إلى العمل معهن فقال يقومن ومهما بلغ ثمنهن يقوم به من يختارهن فقومن وأخذهن على رضى الله تعالى عنه فدفع واحدة لعبد الله بن عمر فجاء منها بولده سالم وأخرى لمحمد بن أبى بكر فجاء منها بولده القاسم والثالثة لولده الحسين فجاء منها بولده على الملقب بزين العابدين وهؤلاء الثلاثة فاقوا أهل المدينة علما وورعا وكان أهل المدينة قبل ذلك يرغبون عن التسرى فلما نشأ هؤلاء الثلاثة فيهم رغبوا فيه
ومن غريب الانفاق ما حكاه بعضهم قال كنت أجالس سعيد بن المسيب واعجب سعيد بى يوما فقال لى من أخوالك فقلت أمى فتاة فكأنى نقصت من عينه فأنا عنده إذ دخل عليه سالم بن عبد الله بن عمر فلما خرج من عنده قلت له ياعم من هذا قال سبحان الله أتجهل مثل هذا من قومك هذا سالم بن عبد الله بن عمر قلت فمن أمه قال فتاه ثم دخل القاسم بن محمد فجلس عنده ثم نهض فلما خرج قلت يا عم من هذا قال ما أعجب أمرك أتجهل مثل هذا هذا القاسم بن محمد بن أبى بكر قلت فمن أمه قال فتاه ثم دخل عليه على بن حسين فجلس ثم نهض فلما خرج قلت له من هذا قال عجبت منك أتجهل مثل هذا هذا على زين العابدين بن الحسين قلت فمن أمه قال فتاة قلت يا عمى رأيتنى نقصت من عينك لما علمت أن أمى فتاة فما لى فى هؤلاءأسوة فقال أجل وعظمت فى عينه جدا
ولما رجع سراقة صار يرد عنهم الطلب لا يلقى أحدا إلا رده يقول سيرت أى اختبرت الطريق فلم أر أحدا وفى لفظ قال لقريش أى لجماعة منهم قصدوه صلى الله عليه وسلم كأنهم أخبروا بمكان مسيره ذلك قد عرفتم بصرى بالطريق وقد سرت فلم أر شيئا فرجعوا أى فإن كفار قريش لما سمعوا من الهاتف أى ومن غيره بأنه صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم نزل فى خيمة أم معبد كما سيأتى أرسلوا سرية فى طلبه يقول قائلهم اطلبوه قبل أن يستعين عليكم بكلبان العرب فيحتمل أن هؤلاء هم الذين ردهم سراقة
فكان سراقة أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر النهار مسلحة أى سلاحا له
وفى رواية قال سراقة خرجت وأنا أحب الناس فى تحصيلهما ورجعت وأنا أحب الناس فى أن لا يعلم بهما أحد ويحتمل أنه بعد أن ردهم سراقة ذهبوا إلى أم معبد
ففى تتمة الخبر أن تلك السرية جاءت إلى أم معبد فسألوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشفقت أى خافت عليه منهم فتعاجمت عليهم أى أظهرت عدم علمها بذلك فقالت إنكم تسألونى عن أمر ما سمعت به قبل عامى هذا ثم قالت لئن لم تنصرفوا عنى لأصرخن فى قومى عليكم وكانت فى عز من قومها فانصرفوا ولم يعلموا أين توجه أى من أى طريق توجه أى ولعلها قالت لهم ذلك لما رأت منهم التثقيل عليها وهذا السياق يدل على أن قصة أم معبد وإلى قصة سراقة أشار صاحب الأصل بقوله ** غرت سراقة أطماع فساخ به ** ** جواده فانثنى للصلح مطلبا ** وإليها أشار أيضا صاحب الهمزية بقوله ** واقتفى أثره سراقة فاستهوته ** ** فى الأرض صافن جرداء ** ** ثم ناداه بعد ما سمت الخسف ** ** وقد ينجد الغريق النداء **
أى وتبع أثره سراقة فهوت أى سقطت به صافن وهى الفرس التى تقوم على ثلاث قوائم وتقيم الرابعة على طرف الحافر وهو وصف محمود فى الخيل جرداءقصيرة الشعر وذلك وصف محمود فى الخيل أيضا بعد أن قاربت أن يخسف بها كلها وقد يخلص الدعاء الغريق كما وقع ليونس صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه
قال وعن أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه أنه قال سرنا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يرى فيه أحد رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسويت بيدى مكانا ينام فيه رسول الله عليه وسلم في ظلها ثم بسطت له فروة معي ثم قلت يا رسول الله نم وأنا أتجسس وأتعرف من تخافه فنام صلى الله عليه وسلم وإذا براع يقبل نغنمه إلى الصخرة يريد منها الذى أردناه أى وهو الظل فلقيته فقلت له لمن أنت يا غلام فقال لرجل من أهل مكة فسماه فعرفته أى وقال الحافظ ابن حجر لم أقف على اسم هذا الراعى ولا على اسم صاحب الغنم قال
أبو بكر رضى الله تعالى عنه فقلت هل فى غنمك من لبن قال نعم قلت أفتحلب لى قال نعم فأخذ شاة فحلب لى فى قعب معه وفى رواية فى إداوة معى على فيها خرقة فأتيت النبى صلى الله عليه وسلم وكرهت أن أوقظه من نومه فوقفت حتى استيقظ فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله فقلت يا رسول الله اشرب من هذا اللبن فشرب لأنه جرت العادة بإباحة مثل ذلك لابن السبيل إذا احتاج إلى ذلك فكان كل راع مأذونا له فى ذلك أى كما تقدم فلا ينافى ما جاء لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه أو أن هذا الحديث محمول على فعل ذلك اختلاسا من غيرمعرفة الراعى
وأما قول بعضهم إنما استجاز شربه لأنه مال حربى ففيه نظر لأن الغنائم أى أموال الحربيين لم تكن أبيحت له حينئذ ثم قال يعنى النبى صلى الله عليه وسلم ألم يأن للرحيل قلت بلى فارتحلنا بعد ما زالت الشمس انتهى
أى وفى رواية أن أبا بكر قال قد آن الرحيل يا رسول الله أى دخل وقته قال الحافظ ابن حجر يجمع بينهما بأن يكون النبى صلى الله عليه وسلم بدأ فسأل فقال له أبو بكر بلى ثم أعاد عليه بقوله قد آن الرحيل واجتازوا فى طريقهم بأم معبد أى واسمها عاتكة وكان منزلها بقديد أى وهو محل سراقه كما تقدم ولعلها كانت بطرفه الأخير الذى يلى المدينة ومنزل سراقة بطرفه الذى يلى مكة وكانت مسافته متسعة فليتأمل
وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تختبى بفناء بيتها وتطعم وتسقى وهى لا تعرفهم أى وسألوها لحما وتمرا أى وفى رواية أو لبنا يشترونه فقالت والله لو كانت عندنا شئ ما أعوزناكم أى للشراء وفى رواية ما أعوزناكم القرى لأنهم كانوا مسنتين أى مجدبين فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أم معبد هل عندك من لبن قالت لا والله فرأى شاة خلفها الجهد عن الغنم أى لم تطق اللحاق بها لما بها من الهزال قال هل بها من لبن قالت هى أجهد من ذلك قال أتأذنين فى حلابها قالت والله ما ضربها من فحل قط فشأنك أى أصلح شأنك بها إن رأيت منها حلبا فاحلبها فدعا بها فمسح ظهرها بيده أى وفى رواية فبعث النبى صلى الله عليه وسلم معبدا وكان صغيرا فقال ادع هذه الشاة ثم قال يا غلام هات فرقا فمسح ظهرها وفى رواية فمسح بيده ضرعها وظهرها وسمى الله تعالى أى وقال اللهم بارك لنا شاتنا فدرت واجترت وتفاحجت أى فتحت ما بين رجليها للحلب ثم دعا بإناء يربض الرهط أى يروبهم
بحيث يغلب عليهم الرى فيربضون وينامون والرهط من الثلاثة للعشرة وقيل من التسعة إلى الأربعين فحلب فيها ثجا أى بقوة لكثرة اللبن ومن ثم قال حتى علاه البهاء وفى رواية حتى علته الثمالة بضم المثلثة أى الرغوة وفى رواية فسقاها فشربت حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا عللا بعد نهل أى مرة ثانية بعد الأولى ثم شرب صلى الله عليه وسلم فكان آخرهم شربا وقال ساقى القوم آخرهم شربا ثم حلب فيه وغادره أى تركه عندها وارتحل وإلى ذلك أشار الإمام السبكى بقوله فى تائيته ** مسحت على شاة لدى أم معبد ** ** بجهد فألفتها أدر حلوبة ** وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله فى وصف راحته الشريفة ** درت الشاة حين مرت عليها ** ** فلها ثروة بها ونماء **
أى أرسلت لبنها حين مرت راحته الشريفة على تلك الشاة فلتلك الشاة بسبب تلك الراحة كثرة لبن وزيادة
وعن أم معبد أن هذه الشاة بقيت إلى خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه إلى سنة ثمانى عشرة وقيل سبع عشرة من الهجرة ويقال لتلك السنة عام الرمادة أى وكانت تلك السنة أجدبت الأرض إجدابا شديدا حتى جعلت الوحوش تأوى إلى الإنس ويذبح الرجل الشاة فيعافها أى لخبث لحمها وكانت الريح إذا هبت ألقت ترابا كالرماد فسمى ذلك العام عام الرمادة وعند ذلك آلى عمر رضى الله تعالى عنه أن لا يذوق لبنا ولا سمنا ولا لحما حتى تحيا الناس أى تجئ عليهم الحيا وهو المطر وقال كيف لا يعنينى شأن الرعية إذ لم يمسنى مامسهم وهذا السياق يدل على أن الذى حلبه صلى الله عليه وسلم عند أم معبد شاة واحدة
وفى تاريخ العينى شارح البخارى قال يونس عن أبن إسحاق أنه دعا ببعض غنمها فمسح ضرعها بيده ودعا الله وحلب فى العس حتى أرغى وقال اشربى يا أم معبد فقالت أشرب أشرب فأنت أحق به فرده عليها فشربت ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى دليله ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامر بن فهيرة وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا أم معبد فسألوا عنه صلى الله عليه وسلم ووصفوه لها فقالت ما أدرى ما تقولون قد ضافنى حالب الحائل فقالوا ذلك الذى نريده
وعند قول عمر رضى الله تعالى عنه ذلك قال كعب لعمر يا أمير المؤمنين إن بنى إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعصبة الأنبياء فقال عمر هذا عم النبى صلى الله عليه وسلم وصنو أبيه وسيد بنى هاشم يعنى العباس فمشى إليه عمر وشكا إليه ما فيه الناس فصعد عمر المنبر ومعه العباس وقال اللهم إنا قد توجهنا إليك بعم نبينا وصنو أبيه صلى الله عليه وسلم فاسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ثم قال عمر للعباس يا أبا الفضل قم وادع فقام وحمد الله وأثنى عليه ودعا بدعاء منه اللهم شفعنا فى أنفسنا وأهلينا اللهم إنا نشكو إليك جوع كل جائع اللهم إنا لا نرجو إلا إياك ولا ندعو غيرك ولا نرغب إلا إليك فسقوا قبل أن يصلوا إلى منازلهم وخاضوا فى الماء وأخصبت الأرض وعاش الناس فقال عمر هذا والله هو الوسيلة إلى الله تعالى فصار الناس يتمسحون بالعباس ويقولون هنيئا لك سقينا فى الحرمين
وذكر السهيلى أن جماعة كانت مقبلة إلى المدينة فى ذلك اليوم فسمعوا صائحا يصيح فى السحاب أتاك الغوث أبا حفص أتاك الغوث أبا حفص
هذا وذكر العلامة ابن حجر الهيتمى فى الصواعق عن تاريخ دمشق أن الناس كرروا الاستسقاء عام الرمادة سنة سبع عشرة من الهجرة فلم يسقوا فقال عمر رضى الله تعالى عنه لأستسقين غدا بمن يسقينى الله به فلما أصبح غدا للعباس رضى الله تعالى عنه فدق عليه الباب فقال من قال عمر قال ما حاجتك قال اخرج حتى نستسقى الله بك قال اقعد فأرسل إلى بنى هاشم أن تطهروا والبسوا من صالح ثيابكم فأتوه وأخرج طيبا وطيبهم ثم خرج وعلى أمامه بين يديه والحسن عن يمينه والحسين عن يساره وبنو هاشم خلف ظهره وقال يا عمرلا تخلط بنا غيرنا ثم أتى المصلى فوقف فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال اللهم إنك خلقتنا ولم تؤامرنا وعلمت ما نحن عاملون قبل أن تخلقنا فلم يمنعك علمك فينا عن رزقنا اللهم فكما تفضلت علينا فى أوله فتقضل علينا فى آخره قال جابر فما برحنا حتى سحت السماء علينا سحا فما وصلنا إلى منازلنا إلا خوضا فقال العباس أنا ابن المسقى ابن المسقى ابن المسقى ابن المسقى ابن المسقى خمس مرات أشار إلى أن أباه عبد المطلب استسقى خمس مرا ت فسقى هذا كلامه فلينظر الجمع
قال ابن شهاب كان أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم يعرفون للعباس فضله
ويقدمونه ويشاورونه ويأخذون برأيه أى وكان لايمرعمر وعثمان وهما راكبان إلا ترجلا حتى يجوز العباس وربما مشيا معه إلى بيته إجلالا له أى لأنه صلى الله عليه وسلم قال احفظونى فى العباس فإنه عمى وصنو أبى وفى رواية فإنه بقيه آبائى
قالت أم معبد فى وصف تلك الشاة وكنا نحلبها صبوحا وغبوقا أى بكرة وعشية وما فى الأرض قليل ولا كثير أى مما يتعاطى الدواب أكله ولما جاء زوجها أبو معبد قال السهيلى لا يعرف اسمه وقيل اسمه أكثم بالثاء المثلثة كما تقدم وقيل خنيس وقيل عبد الله جاء عند المساء يسوق اعنزا عجافا ورأى اللبن الذى حلبه صلى الله عليه وسلم عجب وقال يا أم معبد ما هذا اللبن ولا حلوب فى البيت أى والشاة عازب أى لم يطرقها فحل لكن رأيته فى النور فسر العازب بالبعيدة المرعى التى لا تأوى إلى المنزل فى الليل وفى الصحاح العازب الكلأ البعيد الذى لم يؤكل ولم يوطأ
قالت مر بنا رجل مبارك قال صفيه قالت رأيت رجلا ظاهر الوضاءة متبلج الوجه أى مشرقه فى أشفاره أى أجفان عينيه أى شعرها النابت بها وطف أى طول وفى عينيه دعج بشدة السواد وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بياض عينيه شديد البياض بل كان أشكل العين والشكلة خمرة فى بياض العين وهو دليل الشهامة وهى من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم فى الكتب القديمة كما تقدم وفى صوته صحل أى بحة بضم الموحدة أى ليس حاد الصوت غصن بين الغصنين لا تشنؤه من طول أى لا تبغضه لفرط طوله ولا تقتحمه من قصر أى تحتقره من قصره لم تعبه ثجلة أى عظم البطن وكبرها ولم تزر به صعلة أى صغر الرأس كأن عنقه إبريق فضة أى والإبريق السيف الشديد البريق إذا نطق فعليه البهاء وإذا صمت فعليه الوقار له كلام كخرزات النظم أزين أصحابه منظرا وأحسنهم وجها أصحابه يحفون به إذا أمر ابتدروا أمره وإذا نهى انتهوا عند نهيه
قال وفى لفظ أنها قالت رأيت رجلا ظاهر الوضاءة أبلج الوجه أى مشرقه حسن الخلق لم تعبه ثجلة ولم تزره صعلة وسيما قسيما أى حسنا فى عينيه دعج وفى أشفاره وطف وفى صوته صحل أو قالت صهل أحور أكحل أى فى أجفان عينيه سواد خلقة وفى عنقه سطع أى نور وفى لحيته كثافة أى لا طويلة ولادقيقة
أزج أى رقيق طرف الحاجب أقرن أى مقرون الحاجبين شديد سواد الشعر إن صمت فعليه الوقار وإن تكلم سما به أى ارتفع على جلسائه وعلاه البهاء أجمل الناس وأبهاهم من بعيد وأحسنهم من قريب حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر كأن منطقه خززا ت نظمن يتحدرن ربعة لا تشنؤه أى تبغضه من طول أى من فرط طوله ولا تقتحمه عين من نظر أى لا تتجاوزه إلى غيره اختيارا له غصنا بين عصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا له رفقاء يحفون به إن قال أنصتوا لقوله وإن أمر ابتدروا إلى أمره محفود مخدوم محشود له حشد وجماعة لا عابس ولا مفند أى يكثر اللوم اه قال هذه والله صفة صاحب قريش ولو رأيته لا تبعته ولأجتهدن أن أفعل
أى وفى الإمتاع ويقال إنها أى أم معبد ذبحت لهم شاة وطبختها فأكلوا منها ووضعت لهم فى سفرتهم منها ما وسعته تلك السفرة وبقى عندها أكثر لحمها
وفى الخصائص الكبرى أنه صلى الله عليه وسلم بايعها أى أسلمت قبل أن يرتحلوا عنها وفى كلام ابن الجوزى أن أم معبد هاجرت واسلمت وكذا زوجها هاجر وأسلم
اقول فى شرح السنة للبغوى وهاجرت هى وزوجها وأسلم أخوها حبيش بن الأصفر واستشهد يوم الفتح وكان أهلها يؤرخون بيوم نزول الرجل المبارك ويقال بأن زوجها خرج فى أثرهم فأدركهم وبايعه صلى الله عليه وسلم ورجع
وفى الأجوبة المسكتة لابن عون قيل لأم معبد ما بال صفتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه به من سائر صفات من وصفه أى من الرجال فقالت أما علمتم أن نظر المرأة من الرجل أشفى من نظر الرجل إلى الرجل
وفى ربيع الأبرار للزمخشرى عن هند بنت الجون أنه صلى الله عليه وسلم لما كان بخيمة خالتها أم معبد قام من رقدته فدعا بماء فغسل يديه ثم تمضمض ومج ذلك فى عوسجة إلى جانب الخيمة فأصبحت وهى أعظم دوحة أى شجرة ذات فروع كثيرة وجاءت بثمر كأعظم ما يكون فى لون الورس ورائحة العنبر وطعم الشهد ما أكل منها جائع إلا شبع ولا ظمآن إلا روى ولا سقيم إلا برئ ولا أكل من ورقها بعير إلا در فكنا نسميها المباركة فأصبحنا فى يوم من الأيام وقد سقط ثمرها واصفر
ورقها ففزعنا لذلك فما راعنا إلا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والعجب كيف لم يشتهر أمر هذه الشجرة كما اشتهر أمر الشاة
وعن أم معبد أنها قالت مر على خيمتى غلام سهيل بن عمرو ومعه قربتان فقلت ما هذا قال إن النبى صلى الله عليه وسلم كتب إلى مولاى يستهديه ماء زمزم فأنا أعجل السيركى لا تنشف القرب أى فإنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى سهيل بن عمرو إن جاءك كتابى ليلا فلا تصبحن أو نهارا فلا تمسين حتى تبعث إلى من ماء زمزم فجاء بقربتين فملأهما من ماء زمزم وبعث بهما على بعير مولاه أزهر ولا زال كفار قريش بمكة لا يعلمون أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حتى سمعوا هاتفا يذكرهما ويذكر أم معبد فى أبيات منها ** جزى الله رب الناس خير جزائه ** ** فيقين قالا خيمتى أم معبد ** ** هما نزلا بالبر ثم ترحلا ** ** فأفلح من أمسى رفيق محمد **
فعلموا توجهه ليثرب أى وفى طريق اليمن محل يقال له الدهيم وبئر أم معبد قال بعضهم وليست بأم معبد التى نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ويجوز أن يكون الخبر الذى وصل إليهم فى اليوم الثانى من خروجه من الغار هو قول هذا الهاتف أو عقبه من شخص رآهم وإلى قول الهاتف أشار صاحب الهمزية بقوله ** وتغنت بمدحه الجن حتى ** ** أطرب الإنس منه ذاك الغناء **
أى وأظهرت الجن أوصافه صلى الله عليه وسلم الحميدة فى صورة الغناء الذى تتولع به النفس حتى أطرب ذلك الغناء الإنس حيث سمعوه وأما قول بعضهم إنهم علموا ذلك من هاتف هتف بقوله ** إن يسلم السعدان يصبح محمد من الأمر لا يخشى خلاف المخالف **
فقالوا السعود سعد بن بكر وسعد بن زيد مناة وسعد هديم فلما كانت القابلة سمعوا ذلك الهاتف يقول ** فياسعد سعد الأوس كن أنت مانعا ** ** ويا سعد الخزرجين الغطارف **
فقالوا سعد الأوس سعد بن معاذ وسعد الخزرجين سعد بن عبادة ففيه نظر لأن السعدين المذكورين كانا أسلما قبل ذلك فلا يحسن قوله إن يسلم السعدان
أقول يجوز أن يكون أن هنا بمعنى إذ أى صيرورته صلى الله عليه وسلم آمنا لا يخشى
خلاف المخالف إسلام السعدين أو المراد دوامهما على الإسلام على أنه ذكر فى الأصل أن إنشاد هذين البيتين وسماع أهل مكة له كان قبل إسلام سعد بن معاذ
وذكر بعضهم أن السعود من الأنصار سبعة أربعة من الأوس سعد بن معاذ وسعد بن خيثمة وسعد بن عبيد وسعد بن زيد وثلاثة من الخزرج سعد بن عبادة وسعد بن الربيع وسعد بن عثمان أبو عبيدة والله أعلم
قال وتقديم قصة سراقة على قصة أم معبد هو ما فى الأصل وقد التزم فيه ترتيب الوقائع وقضية الترتيب ذكر قصة أم معبد قبل قصة سراقة لأنه الصحيح الذى صرح به جماعة اه
أقول ومما يدل لذلك ما تقدم من أن كفار قريش لم يعلموا أين توجه صلى الله عليه وسلم حتى سمعوا الهاتف يذكر أم معبد
وعن أسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنهما قالت لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل وقفوا على الباب فخرجت إليهم فقالوا أين أبوك قلت والله لا أدرى فرفع أبو جهل يده فلطم خدى لطمة خرم منها قرطى أى وفى لفظ طرح منها قرطى والقرط ما يعلق فى شحمة الأذن قالت ثم انصرفوا فمضى ثلاث ليال ولم ندر أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يغنى بأبيات وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته حتى خرج بأعلى مكة يقول جزى الله رب الناس الأبيات كذا فى الأصل
وفيه أن قولها لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر فى خروجه للغار وقولها فمضى ثلاث لا ندرى أين توجه يقتضى أن المراد خروجه من الغار وتقدم أنهم علموا بخروجه إلى المدينة فى اليوم الثانى من خروجه من الغار وتقدم أنهم لم يعلموا بذلك إلا من الهاتف فليتأمل
وقد تبع الأصل فى ذلك شيخه الحافظ الدمياطى حيث قدم خبر سراقة على قصة أم معبد إلا أن يقال الدمياطى لم يلتزم الترتيب فلا تحسن تبعيته وهنا قصة أخرى فيها زيادة ونقص قيل هى قصة أم معبد وقيل غيرها وهى أنه اجتاز صلى الله عليه وسلم بغنم فقال لراعيها لمن هذه فقال لرجل من أسلم فالتفت صلى الله عليه وسلم لأبى بكر وقال سلمت إن شاء الله تعالى ثم قال للراعى ما اسمك قال مسعود فالتفت إلى أبى بكر رضى الله تعالى عنه فقال سعدت إن شاء الله تعالى
وفى الإمتاع ولقى بريدة بن الحصيب الأسلمى رضى الله تعالى عنه فى ركب من قومه فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا أى والحصيب بضم الحاء المهملة وفتح الصاد
وفى الشرف أن بريدة لما بلغه ما جعلته قريش لمن يأخذ النبى صلى الله عليه وسلم طمع فى ذلك فخرج هو فى سبعين من أهل بيته وفى لفظ كانوا نحو ثمانين بيتا وجينئذ يراد ببيته قومه فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال له من أنت قال بريدة ابن الحصيب فالتفت النبى صلى الله عليه وسلم وقال يا أبا بكر برد أمرنا وصلح قال ممن أنت قال من أسلم من بنى سهم قال النبى صلى الله عليه وسلم سلمنا وخرج سهمك يا أبا بكر أى لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتفاءل ولا يتطير كما تقدم ثم قال بريدة للنبى صلى الله عليه وسلم من أنت قال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله فقال بريدة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فأسلم بريدة وكل من كان معه أى وصلوا خلفه صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة ثم قال بريدة يا رسول الله لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء فحل بريدة عمامته ثم شدها فى رمح ثم مشى بين يديه أى وقال له كما فى الوفاء تنزل علام يا نبى الله فقال النبى صلى الله عليه وسلم إن ناقتى هذه مأمورة فقال بريدة الحمد لله الذى أسلمت بنو سهم يعنى قومه طائعين غير مكرهين
ولما سمع المسلمون بالمدينة بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة كانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة
أقول ولعل خروجهم كان فى ثلاثة أيام وهى المدة الزائدة على المسافة المعتادة بين مكة والمدينة التى كان بها فى الغار والله أعلم
فاتقلبوا يوما بعد أن طال انتظارهم أى وأحرقتهم الشمس وإذا رجل من اليهود صعد على أطم أى محل مرتفع من آطامهم أى من محالهم المرتفعة لأمر ينظر إليه فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين أى لأنهم لقوا الزبير فى ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا كما فى البخارى
وقيل إن الذى كساهما طلحة بن عبيد الله قال فى النور ولعلهما لقياه معا أو متعاقبين فكسواه وأبا بكر ما ذكر وهذا الجمع أولى من ترجيح الحافظ الدمياطى لهذا القيل
ومن ثم ذكر الحافظ ابن حجر أن هذا القيل هو الذى فى السير ومال الدمياطى إلى ترجيحه على عادته فى ترجيح ما فى السير على ما فى الصحيح لكنه ذكر أن ذلك كان شأنه فى ابتداء أمره فلما تضلع من الأحاديث الصحيحة كان يرى الرجوع عن كثير مما وافق عليه أهل السير وخالف الأحاديث الصحيحة
فلما رآهم ذلك اليهودى يزول بهم السراب أى يرفعهم ويظهرهم أى والسراب ما يرى كالماء فى وسط النهار فى زمن الحر فلم يملك اليهودى أن قال بأعلى صوته يا معشر العرب هذا جدكم أى حظكم الذى تنتظرون أى وفى رواية فلما دنوا من المدينة بعثوا رجلا من أهل البادية إلى أبى أمامة وأصحابه من الأنصار أى ولا مانع من وجود الأمرين فثار المسلمون إلى السلاح فبلغوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة أى وفى لفظ فوافوه وهو مع أبى بكر فى ظل نخلة ولعل تلك النخلة كانت بظهر الحرة فلا مخالفة ثم قالوا لهما ادخلا آمنين مطاعين فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بقباء فى دار بنى عمرو بن عوف وذلك فى يوم الأثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول على كلثوم بن الهدم أى لأنه كان شيخ بنى عمرو بن عوف أى وهم بطن من الأوس قيل وكان يومئذ مشركا ثم أسلم وتوفى قبل بدر بيسير وقيل أسلم قبل وصوله صلى الله عليه وسلم المدينة أى وعند نزوله صلى الله عليه وسلم نادى كلثوم بغلام له يا نجيح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنجحت يا أبا بكر وكان يجلس للناس ويتحدث مع أصحابه فى بيت سعد بن خيثمة أى لأنه كان عزبا لا أهل له هناك أى وكان منزله يسمى منزل العزاب والعزب من الرجال من لا زوجة له ولا يقال أعزب وقيل هى لغة رديئة
أقول وبذلك يجمع بين قول من قال نزل على كلثوم وقول من قال نزل على سعد ابن خيثمة ثم رايت الحافظ الدمياطى أشار إلى ذلك والله أعلم
ونزل على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه لما قدم المدينة على كلثوم أيضا بقباء بعد ان تأخر بمكة بعده صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال يؤدى الودائع التى كانت عند النبى صلى الله عليه وسلم لأمره له صلى الله عليه وسلم يذلك كما تقدم
فلما توجه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قام على رضى الله تعالى عنه بالأبطح ينادى
من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وديعة فليأت إليه أمانته فلما نفد ذلك ورد عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشخوص إليه فابتاع ركائب وقدم ومعه الفواطم ومعه أم أيمن وولدها أيمن وجماعة من ضعفاء المؤمنين
أقول سيأتى ما يخالف ذلك وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل فى دار أبى أيوب بعث زيد بن حارثه وأبا رافع إلى مكة وأعطاهما خمسمائة درهم وبعيرين يقدمان عليه بفاطمة وأم كلثوم بنته وسودة زوجته وأم أيمن وولدها أسامة إلاأن يقال يجوز أن يكون الكتاب الذى فيه استدعاء سيدنا على رضى الله تعالى عنه للهجرة كان مع زيد وأبى رافع رضى الله تعالى عنهما وأنهما صحباه ولا ينافى ذلك ما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم تأخر بعد على رضى الله تعالى عنه بمكة ثلاث ليال يؤدى الودائع لأن تلك الليالى الثلاث كانت مدة تأدية الودائع ومكث بعدها إلى أن جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينئذ يكون قدم على صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد نزوله بقباء على كلثوم فلا مخالفة لكن فى السيرة الهشامية فنزل أى على معه أى مع النبى صلى الله عليه وسلم على كلثوم وهو لا يتأتى إلا على القول بأنه صلى الله عليه وسلم مكث فى قباء بضع عشرة ليلة كما سيأتى وحينئذ يخالف ما سبق من مجيئه مع زيد وأبى رافع لما علمت أنه صلى الله عليه وسلم إنما أرسلهما بعد أن تحول من قباء إلى المدينة
وفى الإمتاع لما قدم على من مكة كان يسير الليل ويكمن النهار حتى تقطرت قدماه فاعتنقه النبى صلى الله عليه وسلم وبكى رحمة لما بقدميه من الورم وتفل فى يديه وأمرهما على قدميه فلم يشكهما بعد ذلك ولا مانع من وقوع ذلك من على مع وجود ما يركبه لأنه يجوز أن يكون هاجر ماشيا رغبة فى عظيم الأجر
وفى السيرة الهشامية أن إقامة على بقباء كانت ليلة أو ليلتين وأنه رأى امرأة مسلمة لا زوج لها يأتيها إنسان من جوف الليل يضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه قال على فسألتها فقالت هذا سهل بن حنيف قد عرف أنى امرأة لا أحد لى فإذا أمسى غدا على أوثان قومه فكسرها ثم جاءنى بها فقال احتطبى بهذا أى اجعليه للنار فكان على يعرف ذلك لسهل بن حنيف والله أعلم
قال ونزل أبو بكر على حبيب بن أبى إساف وقيل على خارجة بن زيد بالسنح بضم السين المهملة فنون ساكنة فجاء مهملة
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ولد نبيكم يوم الأثنين وحملت به أمه يوم الاثنين وخرج من مكة أى من الغار يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين
قال الحاكم تواترت الأخبار أن خروجه صلى الله عليه وسلم كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين زاد بعضهم وفتح مكة كان يوم الاثنين ووضع الركن كان يوم الاثنين
ومن الغريب ما حكاه بعضهم عن الربيع المالكى وكان بمصر كان يوم الاثنين خاصة إذا نام فيه تنام عيناه ولا ينام قلبه وقيل خرج من مكة أى إلى الغار يوم الخميس وعليه يكون مكث صلى الله عليه وسلم فى الغار تلك الليلة التى هى ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد وعليه يكون خروجه من الغار صبيحة ليلة الأحد
ففى البخارى أتاهما أى الدليل براحلتهما صبح ثلاث وتقدم أن خروجهما إلى الغار كان ليلا من بيت أبى بكر وقول أبى بكر سرنا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة يقتضى أنهما خرجا من الغار ليلا بل أول الليل لأن مع التأكد يبعد أن يكون المراد بقية ليلتنا وتقدم عن البخارى أتاهما براحلتيهما صبح ثلاث وحمل ذلك على ماقارب الصبح من الليل بعيد فلتيأمل هذا المحل وقيل دخلها أى المدينة ليلا كما فى رواية لمسلم أى وقال الحافظ ابن حجر ويجمع بأن القدوم كان آخر الليل فدخلها نهارا
أقول لعل مراد الحافظ أن الوصول كان ليلا إلى قرب المدينة فأقاموا بذلك المحل إلى أن أسفر النهار وساروا فما وصلوا إلا وقت الظهيرة فلا يخالف ما تقدم وقيل دخلها يوم الجمعة وذكر الحافظ ابن حجر أنه شاذ والله أعلم
وسرى السرور إلى القلوب بحلوله صلى الله عليه وسلم فى المدينة فعن البراء رضى الله تعالى عنه قال ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشئ فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم
وعن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه قال لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شئ وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير أى الأسطحة عند قدومه صلى الله عليه وسلم يعلن بقولهن طلع البدر علينا الخ
وعن عائشة رضى الله تعالى عنها لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن ** طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع **
** وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داعى ** ** أيها المبعوث فينا ** جئت بالأمر المطاع **
قال واستشكل بأن ثنيات الوداع ليست من جهة القادم من مكة بل هى من جهة الشام فقد قال ابن القيم فى الهدى فى غزوة تبوك ثنيات الوداع من جهة الشام لا يطؤها القادم من مكة ونقل الحافظ ابن حجر عنه عكس ذلك وليس فى محله وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم جاء من جهتها فى دخوله للمدينة عند خروجه من قباء اه
أى وفى كلام بعضهم ما كان أحد يدخل المدينة إلا منها فإن لم يعبر منها مات قبل أن يخرج لوبائها كما زعمت اليهود فإذا وقف عليها قيل قد ودع فسميت به وقيل قيل لها ثنية الوداع لأن المودع يمشى مع المسافر من المدينة إليها وهو اسم قديم جاهلى وقيل إسلامى سمى ذلك المحل لذلك وقيل لأن الصحابة رضى الله تعالى عنهم ودعوا فيها النساء اللاتى استمتعوا بهن فى خيبرعند رجوعهن من خيبر أو وقع توديع من خرج إلى غزوة تبوك فيها أو لكونه صلى الله عليه وسلم ودع بعض المسافرين عندها وهذا يدل على أن هذا الشعر قيل له عند دخوله المدينة لا عند دخوله قباء وسياق بعضهم يقتضيه وسياق بعض آخر يقتضى أنه كان عند دخوله قباء ومن هذا تعلم أن المدينة تطلق ويراد بها ما يشمل قباء ومنه قولنا وسرى السرور إلى القلوب بحلوله صلى الله عليه وسلم فى المدينة فعن البراء إلى آخره وهى المرادة بدخوله المدينة يوم الاثنين على ما تقدم وتطلق ويراد بها ما قابل قباء وحينئذ تكون هذه المرادة بقول أنس لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة إلى آخره ولعل منه ما فى بعض الروايات المتقدمة دخل المدينة يوم الجمعة الذى حكم الحافظ ابن حجر بشذوذه كما تقدم
ولما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر للناس أى وأبو بكر شيخ أى شيبه ظاهر والنبى صلى الله عليه وسلم شاب أى شعر لحيته أسود مع كونه أسن من أبى بكر كما تقدم وقد قال أنس لم يكن فى الذين هاجروا أشمط غير أبى بكر فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يجئ أبا بكر فيعرفه بالنبى صلى الله عليه وسلم حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرفه الناس أى عرفه من جاء منهم بعد ذلك أى لأن عدم تأثير الشمس فيه لتظليل الغمامة كان قبل البعثة إرهاصا كما تقدم
ومما يدل على أن خروجه من قباء كان يوم الجمعة قول بعضهم ولبث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بنى عمرو بن عوف أى فى قباء بقية يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وخرج يوم الجمعة وقيل لبث بضع عشرة ليلة وهو المنقول عن البخارى
وعن ابن عقبة أقام صلى الله عليه وسلم ثنتين وعشرين ليلة وفى الهدى أقام أربعة عشر يوما وهو ما فى صحيح مسلم فليتأمل وأسس فى قباء المسجد الذى أسس على التقوى أى الذى نزلت فيه الآية وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فى الهدى ولا ينافى هذا قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن المسجد الذى أسس على التقوى فقال مسجدكم هذا وأشار لمسجد المدينة أى وفى رواية فأخذ حصاة فضرب بها الأرض وقال مسجدكم هذا يعنى مسجد المدينة لأن كلا منهما مؤسس على التقوى هذا كلامه ويوافقه ما نقل عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه كان يرى كل مسجد بنى بالمدينة الشاملة لقباء أسس على التقوى أى لكن الذى نزلت فيه الآية مسجد قباء وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من قباء يوم الجمعة حين ارتفع النهار قال قيل وكان محل مسجد قباء مربد أى محلا يجفف فيه التمر لكلثوم بن الهدم وهو أول مسجد بنى فى الإسلام لعموم المسلمين فلا ينافى أنه بنى قبله غيره من المساجد لكن لخصوص الذى بناه كالمسجد الذى بناه الصديق بفناء داره بمكة كما تقدم انتهى
أى وفى كلام ابن الجوزى أول من بنى مسجدا فى الإسلام عمار بن ياسر
وفى السيرة الهشامية عن الحكم بن عيينة لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قباء قال عمار بن ياسر ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم بد من أن يجعل له مكانا يستظل به إذا استيقظ ويصلى فيه فجمع حجارة فبنى مسجد قباء أى فانه لما جمع الحجارة أسسه صلى الله عليه وسلم واستتم بنيانه عمار فعمار أول من بنى مسجدا لعموم المسلمين
قال وعن جابر لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم النبى صلى الله عليه وسلم بسنتين نعمر المساجد ونقيم الصلاة انتهى
ونعمر يحتمل أن يكون بالتخفيف فيكون عطف نقيم الصلاة من عطف التفسير ويحتمل أن يكون بالتشديد فيكون بناء المساجد تعدد فى المدينة قبل قدومه صلى الله عليه وسلم
وفيه أن الحافظ ابن حجر قال كان بين ابتداء هجرة الصحابة وبين هجرته صلى الله
عليه وسلم شهران ونصف شهر على التحرير كما تقدم أى ورواية جابر تدل على أنه كان بين اجتماع الاثنى عشر من الأنصار به صلى الله عليه وسلم ومجيئهم إلى المدينة وبين قدومه صلى الله عليه وسلم للمدينة سنتان
وقد يقال ليس مراد جابر أن ابتداء المدة من قدوم الاثنى عشر عليه بل مراده أن ابتداءها من قدوم الستة عليه الذين منهم جابر والمدة تزيد على السنتين فليتأمل وهو أى مسجد قباء أول مسجد صلى فيه صلى الله عليه وسلم بأصحابه جماعة ظاهرين أى آمنين
وقيل إن هذا المسجد بناه المهاجرون والأنصار يصلون فيه فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وورد قباء صلى فيه ولم يحدث فيه شيئا
ويخالفه ما تقدم عن السيرة الهشامية وما فى الطبرانى بسند رجاله ثقات عن الشموس بفتح الشين المعجمة بنت النعمان رضى الله تعالى عنها قالت نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم ونزل وأسس المسجد مسجد قباء فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يصهره الحجر أى يتبعه فيأتى الرجل من أصحابه فيقول يا رسول الله بأبى أنت وأمى تعطينى أكفك فيقول لآخذ مثله حتى أسسه
أى وجاء أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد بناءه قال يا أهل قباء ائتونى بأحجار من الحرة فجمعت عنده أحجار كثيرة فخط القبلة وأخذ حجرا فوضعه ثم قال يا أبا بكر خذ بحجر فضعه إلى جنب حجرى ثم قال يا عمر خذ حجرا فضعه إلى جنب حجر أبى بكر ثم قال يا عثمان خذ حجرا فضعه إلى جنب حجر عمر قال بعضهم كأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى ترتيب الخلافة وسيجئ فى بناء مسجد المدينة نحوه ويحتاج للجمع بين هذه الروايات
وبعد تحوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان يأتيه يوم السبت ماشيا وراكبا وقال من توضأ وأسبغ الوضوء ثم جاء مسجد قباء فصلى فيه كان له أجر عمرة وروى أى الترمذى والحاكم وصححاه عن أسيد بن حضير عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال صلاة فى مسجد قباء كعمرة وفى رواية من صلى فى مسجد قباء يوم الاثنين والخميس انقلب بأجر عمرة وكان عمر رضى الله تعالى عنه يأتيه يوم الاثنين ويوم الخميس وقال لو كان بطرف من الأطراف وفى رواية فى افق من الآفاق لضربت إليه أكباد الإبل
أى وصح الحاكم عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الاختلاف إلى قباء ماشيا وراكبا وعن أبى سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه عن أبيه قال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين إلى قباء وعن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتى مسجد قباء فيصلى فيه ركعتين وعنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء فقام يصلى فجاءته الأنصار تسلم عليه فقلت لبلال كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم قال يشير إليهم بيده وهو يصلى أى يجعل باطنها إلى أسفل وظهرها إلى فوق
وقد وقعت له صلى الله عليه وسلم الإشارة فى الصلاة برد السلام لما قدمت عليه ابنته رضى الله تعالى عنها من الحبشة وهو يصلى فسلمت فأومأ إليها برأسه
وفى الهدى وأما حديث من أشار فى الصلاة إشارة تفهم عنه فليعد صلاته فحديث باطل وفى كلام بعضهم قد ثبت فى الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم عليه أحد وهو فى الصلاة أشار بأصبعه المباركة جواب السلام وليس لهذه الأحاديث معارض إلا حديث مجهول وهو من أشار فى صلاته إشارة مفهمة فليعد صلاته وهذا الحديث لا يصلح للمعارضة ولما نزل قوله تعالى { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألهم عن ذلك فقال ما هذا الطهور الذى أثنى الله عليكم به فقالوا يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه فقال هو هذا وفى لفظ أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسجد قباء أى وفى الكشاف ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال أمؤمنون أنتم فسكت القوم ثم أعادها فقال عمر يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا منهم فقال عليه الصلاة والسلام أتؤمنون بالقضاء قالوا نعم قال وتصبرون على البلاء قالوا نعم قال أتشكرون على الرخاء قالوا نعم قال عليه الصلاة والسلام مؤمنون ورب الكعبة فجلس وقال يامعشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذى تتبعون عند الوضوء وعند الغائط أى المعبر عنه بالطهور فقالوا يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبى صلى الله عليه وسلم { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } هذا كلامه وفى رواية فقال إن الله قد أحسن إليكم الثناء فى الطهور فما هذا الطهور الذى تتطهرون به قالوا يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون
المؤلف:علي بن برهان الدين الحلبي
الأول أنه لم يكن في سعة بحيث يدخر ما يكفيه شهرا من الكعك والزيت
الثاني أن غالب أدمهم كان اللحم واللبن وهو لا يدخر شهرا
الثالث أنه على فرض أن يدخر ما يكفيه شهرا أي من الكعك والزيت إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان يطعم فربما نفد ما ادخره
وإنما اختار الزيت للأدم لأن دسومته لا ينفر منها الطبع بخلاف اللبن واللحم ومن ثم جاء ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة وقوله ائتدموا من هذه الشجرة المباركة أي من عصارة ثمرة هذه الشجرة المباركة التي هي الزيتونة وهو الزيت وقيل لها مباركة لأنها لا تكاد تنبت إلا في شريف البقاع التي بورك فيها كأرض بيت المقدس حتى فجأه الحق وهو في غار حراء أي في اليوم والشهر المتقدم ذكره
وعن عبيد بن عمير رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء في كل سنة شهرا وكان ذلك مما تتحنث فيه قريش في الجاهلية أي المتألهين منهم أي وكان أول من تحنث فيه من قريش جده صلى الله عليه وسلم عبدالمطلب فقد قال ابن الأثير أول من تحنث بحراء عبدالمطلب كان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين ثم تبعه على ذلك من كان يتأله أي يتعبد كورقة بن نوفل وأبي أمية ابن المغيرة وقد أشار إلى تعبده صلى الله عليه وسلم صاحب الهمزية بقوله ** ألف النسك والعبادة والخل ** وة طفلا وهكذا النجباء ** ** وإذا حلت الهداية قلبا ** نشطت في العبادة الأعضاء **
أي ألف صلى الله عليه وسلم العبادة والخلوة في حال كونه طفلا ومثل هذا الشأن العلي شأن الكرام وإنما كان هذا شأن الكرام لأنه إذا حلت الهداية قلبا نشطت الأعضاء في العبادة لأن القلب رئيس البدن المعول عليه في صلاحه وفساده ولعل الخلوة في كلام صاحب الهمزية المراد بها مطلق اعتزاله للناس وأراد بطفلا زمن رضاعه صلى الله عليه وسلم عند حليمة
فقد تقدم عنها رضي الله تعالى عنها أنها قالت لما ترعرع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى الصبيان وهم يلعبون فيتجنبهم لا خصوص اعتزاله الناس في غار حراء فلا ينافى قوله طفلا ظاهر ما تقدم من أن خلوته صلى الله عليه وسلم بغار حراء كانت في زمن
تزوجه صلى الله عليه وسلم بخديجة رضي الله تعالى عنها فكان صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر يطعم من جاءه من المساكين أي لأنه كان من نسك قريش في الجاهلية أي في ذلك المحل أن يطعم الرجل من جاءه من المساكين
وقد قيل إن هذا كان تعبده في غار حراء أي مع الإنقطاع عن الناس وإلا فمجرد إطعام المساكين لا يختص بذلك المحل إلا إن كان ذلك المحل صار في ذلك الشهر مقصودا للمساكين دون غيره
وقيل كان تعبده صلى الله عليه وسلم التفكر مع الإنقطاع عن الناس أي لا سيما إن كانوا على باطل لأن في الخلوة يخشع القلب وينسى المألوف من مخالطة أبناء الجنس المؤثرة في البنية البشرية ومن ثم قيل الخلوة صفوة الصفوة
وقول بعضهم كان يتعبد بالتفكر أي مع الإنقطاع عما ذكرنا وإلا فمجرد التفكر لا يختص بذلك المحل إلا أن يدعى أن التفكر فيه أتم من التفكر في غيره لعدم وجود شاغل به وقيل تعبده صلى الله عليه وسلم كان بالذكر وصححه في سفر السعادة وقيل بغير ذلك
ومن ذلك الغير أنه كان يتعبد قبل النبوة بشرع إبراهيم وقيل بشريعة موسى غير ما نسخ منها في شرعنا وقيل بكل ما صح أنه شريعة لمن قبله غير ما نسخ من ذلك في شرعنا
وفي كلام الشيخ محيى الدين بن العربي تعبد صلى الله عليه وسلم قبل نبوته بشريعة إبراهيم حتى فجأه الوحي وجاءته الرسالة فالولي الكامل يجب عليه متابعة العمل بالشريعة المطهرة حتى يفتح الله له في قلبه عين الفهم عنه فيلهم معاني القرآن ويكون من المحدثين بفتح الدال ثم يصير إلى إرشاد الخلق وكان صلى الله عليه وسلم إذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف قبل أن يدخل بيته الكعبة فيطوف بها سبعا أو ماشاء الله تعالى ثم يرجع إلى بيته حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به ما أراد من كرامته صلى الله عليه وسلم وذلك شهر رمضان وقيل شهر ربيع الأول وقيل شهر رجب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله أي عياله التي هي خديجة رضي الله تعالى عنها إما مع أولادها أو بدونهم حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله تعالى فيها برسالته ورحم العباد بها وتلك الليلة ليلة سبع عشرة من ذلك الشهر وقيل رابع عشريه وقيل كان ذلك ليلة ثمان من ربيع الأول أي وقيل ليلة ثالثة
قال بعضهم القول بأنه في ربيع الأول يوافق القول بأنه بعث على رأس الأربعين لأن مولده صلى الله عليه وسلم كان في ربيع الأول على الصحيح أي وهو قول الأكثرين وقيل كان ذلك ليلة أو يوم السابع والعشرين من رجب
فقد أورد الحافظ الدمياطي في سيرته عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال من صام يوم سبع وعشرين من رجب كتب الله تعالى له صيام ستين شهرا وهو اليوم الذي نزل فيه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأول يوم هبط فيه جبريل هذا كلامه أي أول يوم هبط فيه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يهبط عليه قبل ذلك وسيأتي في بعض الروايات أن جبريل عليه السلام نزل في سحر تلك الليلة التي هي ليلة الإثنين ويجوز أن يكون كل من تلك الليالي كانت ليلة الإثنين فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال لا يفوتك صوم يوم الإثنين لأني ولدت فيه ونبئت فيه فلا مخالفة بين كونه نبىء في الليل وبين كونه نبيء في اليوم لأن السحر قد يلحق بالليل
وفي كلام بعضهم أتاه صلى الله عليه وسلم جبريل ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له بالرسالة يوم الإثنين لسبع عشرة خلت من رمضان في حراء فجاء بأمر الله تعالى وهذا القول أي أن البعث كان في رمضان قال به جماعة منهم الإمام الصرصري حيث قال ** وأتت عليه أربعون فأشرقت ** شمس النبوة منه في رمضان **
واحتجوا بأن أول ما أكرمه الله تعالى بنبوته أنزل عليه القرآن وأجيب بأن المراد بنزول القرآن في رمضان نزوله جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة في سماء الدنيا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءني وأنا نائم بنمط وهو ضرب من البسط وفي رواية جاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب أي كتابة فقال اقرأ فقلت ما أقرأ أي أنا أمي لا أحسن القراءة أي قراءة المكتوب أو مطلقا فغطني أو فغتني بالتاء بدل من الطاء به أي غمني بذلك النمط بأن جعله على فمه وأنفه قال حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ أي من غير هذا المكتوب فقلت ماذا أقرأ وما أقول ذلك إلا افتداء منه أي تخلصا منه أن يعود لي بمثل ما صنع أي إنما استفهمت عما أقرؤه ولم أنف خوفا أن يعود لي بمثل ما صنع عند النفي أي وفي رواية فقلت والله ما قرأت
شيئا قط وما أدري شيئا أقرؤه أي لأني ما قرأت شيئا فهو من عطف السبب على المسبب قال { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } فقرأتها فانصرف عني وهببت أي استيقظت من نومي فكأنما كتب في قلبي كتابا
أقول أي أستقر ذلك في قلبي وحفظته ثم لا يخفى أن كلام هذا البعض وهو أنه جاءه ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له يوم الإثنين محتمل لأن يكون أتاه بذلك النمط في ليلة السبت وليلة الأحد وسحر يوم الإثنين وهو نائم لا يقظة لقوله ثم هببت من نومي
ولا ينافي ذلك قوله ثم ظهر له بالرسالة أي أعلن له بما يكون سببا للرسالة الذي هو اقرأ الحاصل في اليقظة وحينئذ يكون تكرر مجيئه هو السبب في إستقرار ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا يبعده قوله في الليلة الثانية ما قرأت شيئا لأن المراد لم يتقدم لي قراءة قبل مجيئك إلى ولا يبعده أيضا قوله ما أدري ما أقرأ لأنه لم يستقر ذلك في قلبه لما علمت أن سبب الإستقرار التكرر فلم يستقر ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم في الليلة الأولى
وفي سيرة الشامي أن مجىء جبريل عليه السلام له صلى الله عليه وسلم بالنمط لم يتكرر وأنه كان قبل دخوله صلى الله عليه وسلم غار حراء وهذا السياق يدل على أنه كان بعده
وفي سفر السعادة ما يقتضى أنه جاء بالنمط يقظة في حرا ونصه فبينما هو في بعض الأيام قائم على جبل حرا إذ ظهر له شخص وقال أبشر يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله لهذه الأمة ثم أخرج له قطعة نمط من حرير مرصعة بالجواهر ووضعها في يده وقال اقرأ قال والله ما أنا بقارئ ولا أدري في هذه الرسالة كتابة أي لا أعلم ولا أعرف المكتوب فيها قال فضمني إليه وغطني حتى بلغ مني الجهد فعل ذلك بي ثلاثا وهو يأمرني بالقراءة ثم قال اقرأ باسم ربك هذا كلامه فليتأمل والله أعلم قال فخرجت أي من الغار أي وذلك قبل مجىء جبريل إليه صلى الله عليه وسلم باقرأ خلافا لما يقتضيه السياق حتى إذا كنت في شط من الجبل أي في جانب منه سمعت صوتا من السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل فوقفت أنظر إليه فإذا جبريل على
صورة رجل صاف قدميه أي وفي رواية واضعا إحدى رجليه على الأخرى في أفق السماء أي نواحيها يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني وأنصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة أي في الغار فجلست إلى فخذها مضيفا إليها أي مستندا إليها فقال يا أبا القاسم أين كنت فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك فبلغوا مكة ورجعوا إلي
أقول وهذا يدل على أن خديجة رضي الله تعالى عنها كانت معه بغار حرا وهو الموافق لما تقدم من قوله ومعه أهله أي خديجة رضي الله تعالى عنها على ما تقدم
وقد يخالف ذلك ما روى أن خديجة رضي الله تعالى عنها صنعت طعاما ثم أرسلته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تجده بحراء فأرسلت في طلبه إلى بيت أعمامه وأخواله فلم تجده فشق ذلك عليها فبينما هي كذلك إذا أتاها فحدثها بما رأى وسمع فإن هذا يدل على أنها لم تكن معه صلى الله عليه وسلم بحرا
وقد يقال يجوز أن تكون خرجت معه أولا وأرسلت رسلها إليه صلى الله عليه وسلم وهي بحرا فلم تجده وأن الرسل أخطئوا محل وقوفه صلى الله عليه وسلم بالجبل الذي هو حرا ثم رجعت إلى مكة وأرسلت رسلها إليه صلى الله عليه وسلم بحراء لإحتمال عوده إليه ثم أرسلت إلى بيت أعمامه وأخواله لما لم تجده صلى الله عليه وسلم بحراء فإرسالها تكرر مرتين مع إختلاف محلها ويكون قوله وانصرفت راجعا إلى أهلي أي بمكة لا بحراء لأنه يجوز أن يكون بلغه رجوع خديجة رضي الله تعالى عنها إلى مكة
هذا على مقتضى الجمع وأما على ظاهر الرواية الأولى يكون رجوعه إلى أهله بحراء كما ذكرنا وهويدل على أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى شط الجبل كان من غار حراء كما ذكرنا لا من مكة الذي يدل عليه قول الشمس الشامي فخرج مرة أخرى إلى حراء قال فخرجت حتى أتيت الشط من الجبل سمعت صوتا إلى آخره فليتأمل والله أعلم
قال ثم حدثتها بالذي رأيت أي من سماع الصوت ورؤية جبريل وقوله له
يا محمد أنت رسول الله فقالت أبشر يا بن عمي واثبت فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة ثم قامت فجمعت عليها ثيابها أي التي تتجمل بها عند الخروج
ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع أي رأى جبريل وسمع منه أنت رسول الله وأنا جيريل فقال ورقة قدوس قدوس بالضم والفتح والذي نفسي بيده لئن كنت صدقت يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي يأتي موسى الذي هو جبريل وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له يثبت والقدوس الطاهر المنزه عن العيوب وهذا يقال للتعجب أي وجاء بدل قدوس سبوح سبوح وما لجبريل يذكر في هذه الأرض التي تعبد فيها الأوثان جبريل أمين الله بينه وبين رسله أي لأن هذا الإسم لم يكن معروفا بمكة ولا غيرها من بلاد العرب فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة بن نوفل فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف أي فرغ ما تزوده وليس المراد انقضاء جواره بانقضاء الشهر لأن ذلك كان قبل أن يجئ إليه جبريل باقرأ باسم ربك يقظة كما تقدم أي وذلك كان في الشهر الذي أكرمه الله فيه برسالته
فعند ذلك صنع كما كان يصنع بدأ بالكعبة فطاف بها فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال له يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه ولتؤذينه و لتقاتلنه ولتخرجنه بهاء السكت ولا تكون إلا ساكنة ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه ثم أدنى ورقة رأسه صلى الله عليه وسلم منه وقبل يأفوخه أي وسط رأسه لأن اليأفوخ بالهمزة وسط الراس إذا استد وقيل استداده كما في رأس الطفل يقال له الفادية بالفاء ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله أي ولا مانع من تكرار مراجعة ورقة فتارة قال قدوس قدوس وتارة قال سبوح سبوح أو جمع بين ذلك في وقت واحد وبعض الرواة اقتصر على أحد اللفظين وقد جاء أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه دخل على خديجة أي وليس عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له يا عتيق إذهب بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى ورقة أي بعد أن أخبرته بما
أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سيذكر فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده فقال انطلق بنا إلى ورقة وذهب به إلى ورقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فانطلق هاربا إلى الأرض فقال له لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني أي وهذا قبل أن يراه ويجتمع به ويجئ إليه بالقرآن وحينئذ يكون تكرر سؤال ورقة ثلاث مرات الأولى علي يد أبي بكر رضي الله تعالى عنه وذلك قبل أن يرى جبريل والثانية التي رأى فيها جبريل وسمع منه ولم يجتمع به وذلك عند إجتماعه صلى الله عليه وسلم به في المطاف والثالثة التي بعد مجئ جبريل له يقظة بالقرآن أي باقرأ باسم ربك على المشهور من أنه أول ما نزل وذلك على يد خديجة ولاينافى ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر كما سيأتي أن القصة واحدة لم تتعدد ومخرجها متحد لأن مراده قصة مجئ جبريل له يقظة باقرأ باسم ربك وسيأتي ما فيه
وإنما قال ورقة له صلى الله عليه وسلم ياابن أخي قيل لأنه يجتمع مع عبدالله والد النبي صلى الله عليه وسلم في قصي فكان عبدالله بمثابة الأخ له أو أنه قال ذلك توقيرا له وإنما ذكر ورقة موسى دون عيسى عليهما الصلاة والسلام مع أن عيسى أقرب منه وهو على دينه لأنه كان على دين موسى ثم صار على دين عيسى عليهما الصلاة والسلام أي كان يهوديا ثم صار نصرانيا أي لأن نبوة موسى عليه الصلاة والسلام مجمع عليها أي على أنها ناسخة لما قبلها وأن شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام قيل إنها متممة ومقررة لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام لا ناسخة لها قيل ولأن ورقة كان ممن تنصر أي كما علمت والنصارى لا يقولون بنزول جبريل على عيسى عليه الصلاة والسلام أي بل كان يعلم الغيب لأنهم يقولون فيه إنه أحد الأقانيم الثلاثة اللاهوتية وذلك الأقنوم هو أقنوم الكلمة التي هي العلم حل بناسوت المسيج واتحد به فلذلك كان يعلم علم الغيب ويخبر بما في الغد
أقول وفيه أن في رواية وإنك على مثل ناموس موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام أي ففي بعض الروايات جمع وفي بعضها اقتصر على موسى وفي الإقتصار على موسى دون الإقتصار على عيسى ما علمت ثم رأيت أنه جاء في غير الصحيح
الإقتصار على عيسى فقال هذا الناموس الذي نزل على عيسى فهو كما جاء الجمع بينهما جاء الإقتصار على كل منهما
ولا ينافى ذلك أي مجئ جبريل لعيسى ما تقدم عن النصارى من أنهم لا يقولون بنزول جبريل على عيسى لجواز أن يكون المراد لا ينزل عليه دائما وأبدا بالوحي بل في بعض الأحيان وفي بعضها يعلم الغيب بغير واسطة ثم رأيت في فتح الباري أن عند إخبار خديجة لورقة بالقصة قال لها هذا ناموس عيسى بحسب ما هو فيه من النصرانية وعند إخبار النبي صلى الله عليه وسلم له بالقصة قال له هذا ناموس موسى للمناسبة بينهما لأن موسى أرسل بالنقمة على فرعون وقد وقعت النقمة على يد نبينا صلى الله عليه وسلم على فرعون هذه الأمة الذي هو أبو جهل هذا كلامه فليتأمل وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال في حق أبي جهل في يوم بدر هذا فرعون هذه الأمة والله أعلم
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها جاءه الملك سحرا أي سحر يوم الإثنين يقظة لا مناما أي بغير نمط فقال له اقرأ قال ما أنا بقارئ أي لا أوجد القراءة قال فأخذني فغطني أي ضمني وعصرني وفي لفظ فأخذ بحلقي حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ أي لا أحسن القراءة أي لا أحفظ شيئا أقرؤه فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ أي أي شيء أقرؤه
وفيه أنه لو كان كذلك لقال ما أقرأ أو ماذا أقرأ إلا أن يقال أطلق ذلك وأراد لازمه الذي هو الإستفهام خصوصا وقد قدمه قال فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم }
أقول فقولنا أي بغير نمط هو ظاهر الروايات ويجوز أن يكون لفظ النمط سقط في هذه الرواية كغيرها من الروايات ويؤيده اقتصار السيرة الشامية على مجيئه بالنمط وأيضا كيف الجمع بين قوله هنا ما ذكر وبين قوله هناك فكأنما كتب في قلبي كتابا وما بالعهد من قدم إلا أن يقال يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم حوز أن يكون جبريل يريد منه قراءة غير الذي قرأه وكتب في قلبه ولا يخفى أنه علم أن قول جبريل اقرأ أمر بالقراءة
وفيه أنه من التكليف بما لا يطاق أي في الحال أي ومن ثم ادعى بعضهم أنه لمجرد التنبيه واليقظة لما يلقى إليه
وفيه أنه لو كان كذلك لم يحسن أن يقال في جوابه ما أنا بقارئ الذي معناه لا أوجد القراءة إلا أن يقال جبريل عليه الصلاة والسلام أراد التنبيه لا الأمر وجوابه صلى الله عليه وسلم بناء على مقتضى ظاهر اللفظ
وعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارئ في المواضع الثلاثة معناه مختلف ففي الأول معناه الإخبار بعدم إيجاد القراءة والثاني معناه الإخبار بأنه لا يحسن شيئا يقرؤه وإن كان ذلك هو مستند الأول والثالث معناه الإستفهام عن أي شيء أن يقرؤه وفيه ماعلمت
وبعضهم جعل قوله الأول لا أقرأ لا أحسن القراءة بدليل أنه جاء في بعض الروايات ما أحسن أن أقرأ وحينئذ يكون بمعنى الثاني فيكون تأكيدا له أي الغرض منهما شيء واحد
قال بعضهم وجه المناسة بين الخلق من العلق والتعليم وتعليم العلم أن أدنى مراتب الإنسان كونه علقة وأعلاها كونه عالما فالله سبحانه وتعالى امتن على الإنسان بنقله من أدنى المراتب وهي العلقة إلى أعلاها وهي تعلم العلم
وقد اشتملت هذه الآيات على براعة الإستهلال وهو أن يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتكلم فيه ويشير إلى ما سبق الكلام لأجله فإنها اشتملت على الأمر بالقراءة والبداءة فيها ببسم الله إلى غير ذلك مما ذكره في الإتقان قال فيه من ثم قيل إنها جديرة أن تسمى عنوان القرآن لأن عنوان الكتاب ما يجمع مقاصده بعبارة موجزة في أوله وكرر جبريل الغط ثلاثا للمبالغة وأخذ منه بعض التابعين وهو القاضي شريح أن المعلم لا يضرب الصبي على تعليم القرآن أكثر من ثلاث ضربات
وأورد الحافظ السيوطي عن الكامل لإبن عدي بسند ضعيف عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يضرب المؤدب الصبي فوق ثلاث ضربات
وذكر السهيلي أن في ذلك أي الغط ثلاثا إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم يحصل له شدائد ثلاث ثم يحصل له الفرج بعد ذلك فكانت الأولى إدخال قريش له صلى الله عليه
وسلم الشعب والتضييق عليه والثانية اتفاقهم على الإجتماع على قتله صلى الله عليه وسلم والثالثة خروجه من أحب البلاد إليه وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل وميكائيل أي قبل قول جبريل له اقرأ فشق جبريل بطنه وقلبه إلى آخر ما تقدم في الكلام على أمر الرضاع ثم قال له جبريل اقرأ الحديث فعلم أن اقرأ باسم ربك نزلت من غير بسملة وقد صرح بذلك الإمام البخاري وما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بأن أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال يا محمد استعذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال قل بسم الله الرحمن الرحيم ثم قال اقرأ باسم ربك قال الحافظ ابن كثير هذا الأثر غريب في إسناده ضعف وإنقطاع أي فلا يدل للقول بأن أول ما نزل بسم الله الرحمن الرحيم حكاه ابن النقيب في مقدمة تفسيره وبه يرد على الجلال السيوطي حيث قال وعندي فيه أن هذا لا يعد قولا برأسه فإن من ضرورة نزول السورة أي سورة اقرأ نزول البسملة معها فهي أول آية نزلت على الإطلاق هذا كلامه والله أعلم
قال الحافظ ابن حجر هذا الذي وقع له صلى الله عليه وسلم في ابتداء الوحي من خصائصه إذ لم ينقل عن أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه جرى له عند ابتداء الوحي مثل ذلك ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الآية رجع بها ترجف بوادره والبادرة اللحمة التي بين المنكب والعنق تتحرك عند الفزع ويقال لها الفريصة والفرائض اي وفي رواية فؤاده أي قلبه ولا مانع من إجتماع الأمرين لأن تحرك البادرة ينشأ عن فزع القلب حتى دخل صلى الله عليه وسلم على خديجة فقال زملوني زملوني أي غطوني بالثياب فزملوه حتى ذهب عنه الروع بفتح الراء أي الفزع ثم أخبرها الخبر وقال لقد خشيت على نفسي وفي رواية على عقلي كما في الإمتاع قالت له خديجة كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا أي لا يفضحك إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل أي الشيء الذي يحصل منه التعب والإعياء لغيرك وتكسب المعدوم بضم التاء والمعدوم الذي لا مال له لأن من لا مال له كالمعدوم أي توصل إليه الخير الذي لا يجده عند غيرك
وبهذا يعلم سقوط قول الخطابي الصواب المعدم بلا واو لأن المعدوم أي الشخص المعدوم لا يكسب أي لا يعطى الكسب وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق أي
على حوادثه فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل فقالت له خديجة رضي الله تعالى عنها أي عم اسمع من ابن أخيك أي وقولها أي عم صوابه ابن عم لأنه ابن عمها لا عمها كما وقع في مسلم
قال ابن حجر وهو وهم لأنه وإن كان صحيحا لجواز إرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد أي فلا يقال يجوز أنها جاءت إليه بعد نزول الآية مرتين قالت في مرة أي عم وفي مرة أي ابن عم قال ورقة يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي أنزل علي موسى أي صاحب سر الوحي وهو جبريل يا ليتني فيها جذعا أي يا ليتني حينئذ أكون في زمن الدعوى إلى الله أي إظهاره الذي جاء به وأنذر أو أصل وجودها بناء على تأخر الدعوى التي هي الرسالة عن النبوة على ما يأتي شابا حتى أبالغ في نصرتها يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجي هم بتشديد الياء المفتوحة لأنه جمع مخرج والأصل أو مخرجوني حذفت النون للإضافة فصار مخرجوى قلبت الواو ياء وأدغمت قال ورقة نعم لم يأت رجل بما جئت به إلا عودى أي فتكون المعاداة سببا لإخراجه
وهذا يفيد بظاهره أن من تقدم من الأنبياء أخرجوا من أماكنهم لمعاداة قومهم لهم وإلا فمجرد المعاداة لا يقتضى الإخراج فلا يحسن أن يكون علامة عليه وقد يؤيد ذلك ما تقدم عند الكلام على بناء الكعبة أن كل نبي إذا كذبه قومه خرج من بين أظهرهم إلى مكة يعبد الله عز وجل بها حتى يموت وتقدم ما فيه
وفي كونه صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئا في جواب قول ورقة إنه يكذب ويؤذي ويقاتل وقال في جواب قوله إنه يخرج أو مخرجي هم إستفهاما إنكاريا دليل على شدة حب الوطن وعسر مفارقته خصوصا وذلك الوطن حرم الله وجوار بيته ومسقط رأسه قال ورقة وإن أدركت يومك أنصرك نصرا مؤزرا أي شديدا قويا من الأزر وهو الشدة الذي في الحديث الصحيح وإن يدركني يومك وسيأتي في بعض الروايات وإن يدركني ذلك قال السهيلي وهو القياس لأن ورقة سابق بالوجود والسابق هو الذي يدركه ما يأتي بعده كما جاء أشقى الناس من أدركته الساعة وهو حي هذا كلامه
أي وفي بعض الروايات أنه قال لها إن ابن عمك لصادق وإن هذا البدء نبوة وفي لفظ إنه لنبي هذه الأمة أي وفي الشفاء أن قوله صلى الله عليه وسلم لخديجة لقد خشيت على نفسي ليس معناه الشك فيما آتاه الله تعالى من النبوة ولكنه لعله خشى أن لا تحتمل قوته صلى الله عليه وسلم مقاومة الملك وأعباء الوحي بناء على أنه قال ذلك بعد لقاء الملك وإرساله إليه بالنبوة فإن للنبوة أثقالا لا يستطيع حملها إلا أولو العزم من الرسل
وفي كلام الحافظ ابن حجر اختلف العلماء في هذه الخشية على أثني عشر قولا وأولاها بالصواب وأسلمها من الإرتياب أن المراد بها الموت أو المرض أو دوام المرض هذا كلامه فليتأمل مع رواية خشيت على عقلي
قال وفي بعض الروايات أن خديجة قبل أن تذهب به إلى ورقة ذهبت به إلى عداس وكان نصرانيا من أهل نينوى قرية سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام فقالت له يا عداس أذكرك الله إلا ما أخبرتني هل عندكم علم من جبريل أي فإن هذا الإسم لم يكن معروفا بمكة ولا بغيرها من أرض العرب كما تقدم فقال عداس قدوس قدوس ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل أوثان أي والقدوس المنزه عن العيوب وأن هذا يقال للتعجب كما تقدم فقالت أخبرني بعلمك فيه قال هو أمين الله بينه وبين النبيين وهو صاحب موسى عليهما الصلاة والسلام اه
وفيه أنه سيأتي عند الكلام على ذهابه صلى الله عليه وسلم للطائف بعد موت أبي طالب يلتمس إسلام ثقيف اجتماعه بعداس الموصوف بما ذكر لكن في تلك القصة ما قد يبعد معه كل البعد أنه المذكور هنا فليتأمل ثم رأيت أن عداسا المذكور هنا كان راهبا وكان شيخا كبير السن وقد وقع حاجباه على عينيه من الكبر وأن خديجة قالت له أنعم صباحا يا عداس فقال كأن هذا الكلام كلام خديجة سيدة نساء قريش قالت أجل قال أدنى منى فقد ثقل سمعي فدنت منه ثم قالت له ما تقدم وهذا صريح في أنه غير عداس الآتي ذكره وأنهما اشتركا في الإسم والبلد والدين أي وكونهما غلامين لعتبة بن ربيعة
ففي كلام ابن دحية عداس كان غلاما لعتبة بن ربيعة من أهل نينوى عنده علم من الكتاب فأرسلت إليه خديحة تسأله عن جبريل فقال قدوس قدوس الحديث ولا يخفى أن هذا اشتباه وقع من بعض الرواة بلا شك
وفي رواية أن عداسا هذا قال لها يا خديجة إن الشيطان ربما عرض للعبد فأراه أمورا فخذي كتابي هذا فانطلقي به إلى صاحبك فإن كان مجنونا فإنه سيذهب عنه وإن كان من الله فلن يضره فانطلقت بالكتاب معها فلما دخلت منزلها إذا هي برسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل يقرئه هذه الآيات { ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون } فلما سمعت خديجة قراءته اهتزت فرحا ثم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم فداك أبي وأمي امض معي إلى عداس فلما رآه عداس كشف عن ظهره فإذا خاتم النبوة يلوح بين كتفيه فلما نظر عداس إليه خر ساجدا يقول قدوس قدوس أنت والله النبي الذي بشر بك موسى وعيسى الحديث
وفيه إن كان هذا قبل أن تذهب به إلى ورقة اقتضى أن نزول سورة ن قبل اقرأ و لا يحسن ذلك مع قوله لجبريل ما أنابقارئ إذ هو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ قبل ذلك شيئا ومن ثم كان المشهور أن أول ما نزل اقرأ وكون ن نزلت لهذا السبب مخالف لما ذكر في أسباب النزول أنها نزلت لما وصفه المشركون بأنه مجنون إلا أن يقال لا مانع من تعدد النزول
وذكر ابن دحية أيضا أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبرها بجبريل ولم تكن سمعت به قط كتبت إلى بحيرا الراهب فسألته عن جبريل فقال لها قدوس قدوس يا سيد نساء قريش أنى لك بهذا الإسم فقالت بعلى وابن عمي أخبرني بأنه يأتيه فقال إنه السفير بين الله وبين أنبيائه وإن الشيطان لا يجترئ أن يتمثل به ولا أن يتسمى باسمه وهذه العبارة أي كون جبريل هو السفير بين الله وبين أنبيائه صدرت من الحافظ السيوطي وزاد ولا يعرف ذلك لغيره من الملائكة
واعترض عليه بعضهم بأن إسرافيل كان سفيرا بين الله وبينه صلى الله عليه وسلم فعن الشعبي أنه جاءته صلى الله عليه وسلم النبوة وهو ابن أربعين سنة وقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين فلما مضت ثلاث سنين رن بنبوته جبريل وفي لفظ عنه فلما مضت ثلاث سنين تولى عنه إسرافيل وقرن به جبريل أي وقد تقدم أن إسرافيل قرن به صلى الله عليه وسلم قبل النبوة ثلاث سنين يسمع حسه ولا يرى شخصه يعلمه الشيء بعد الفيء إلى آخره وحينئذ يلزم أن يكون قرن به بعد النبوة ثلاث سنين أيضا
وسيأتي عن بحث بعض الحفاظ أنها مدة فترة الوحي فليتأمل وأجاب الحافظ السيوطي عن ذلك بأن السفير هو المرصد لذلك وذلك لا يعرف لغير جبريل ولا ينافى ذلك مجئ غيره من الملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان
ولك أن تقول إن كان المراد بالمجيء إليه بوحى من الله كما هو المتبادر فليس في هذه الرواية أن إسرافيل كان يأتيه بوحي في تلك المدة وجواب الحافظ السيوطي بقتضى أن إسرافيل وغيره من الملائكة كان يأتيه بوحي من الله قبل مجيء جبريل له صلى الله عليه وسلم بوحي غير النبوة ولا يخرجه ذلك عن الإختصاص باسم السفير وبأن إسرافيل لم ينزل لغير النبي صلى الله عليه وسلم من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كما ثبت في الحديث فلم يكن السفير بين الله وجميع أنبيائه
قيل وإنما خص بذلك لأنه أول من سجد من الملائكة لآدم ورأيته سئل هل عيسى بعد نزوله يوحى إليه فأجاب بنعم وأورد حديث النواس بن سمعان الذي أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم وفيه التصريح بأنه يوحى إليه قال والظاهر أن الجائي إليه بالوحي جبريل قال بل هو الذي يقطع به ولا يتردد فيه لأن ذلك وظيفته وهو السفير بين الله تعالى وبين أنبيائه لا يعرف ذلك لغيره من الملائكة ثم استدل على ذلك بما يطول
قال وما اشتهر على ألسنة الناس أن جبريل لا ينزل إلى الأرض بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فهو شيء لا أصل له وزعم زاعم أن عيسى إنما يوحى إليه وحى إلهام ساقط قال وحديث لا وحى بعدي باطل أي ويدل له ما رأيته في كلام بعضهم جبريل ملك عظيم ورسول كريم مقرب عند الله أمين على وحيه وهو سفيره إلى أنبيائه كلهم وسماه روح القدس والروح الأمين واختصه بوحيه من بين الملائكة المقربين
قال ورأيت في بعض التواريخ أن جبريل نزل عليه صلى الله عليه وسلم ستا وعشرين ألف مرة ولم يبلغ أحد من الأنبياء هذا العدد والله أعلم
وفي أسباب النزول للواحدي عن علي رضي الله تعالى عنه لما سمع النداء يا محمد قال لبيك قال قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ثم قال قل { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين } حتى فرغ من السورة أي فلما
بلغ { ولا الضالين } فقال قل آمين فقال آمين كما في رواية عن وكيع وابن أبي شيبة وجاء في حديث قال بعضهم إسناده ليس بالقائم إذا دعا أحدكم فليختم بآمين فإن آمين في الدعاء مثل الطابع على الصحيفة وفي الجامع الصغير آمين خاتم رب العالمين على لسان عباده المؤمنين أي خاتم دعاء رب العالمين أي يمنع من أن يتطرق إليه رد وعدم قبول ومن ثم لما سمع صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو قال قد وجب إن ختم بآيمن
فأتى صلى الله عليه وسلم ورقة فذكر له ذلك فقال له ورقة أبشر ثم أبشر فإني أشهد أنك الذي بشر بك ابن مريم فإنك على مثل ناموس موسى وإنك نبي مرسل وإنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك
أقول هذا لا يدل للقول بأن الفاتحة أول ما نزل وعليه كما قال في الكشاف أكثر المفسرين إذ يبعد كل البعد أن تكون هذه الرواية قبل نزول { اقرأ باسم ربك } ثم رأيت عن البيهقي أنه قال فيما تقدم عن أسباب النزول هذا مرسل ورجاله ثقات فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه اقرأ والمدثر أي والمدثر نزلت بعد يا أيها المزمل
ثم رأيت ابن حجر اعترض ما تقدم عن الكشاف بقوله الذي ذهب إليه أكثر الأمة هو الأول أي القول بأنه اقرأ وأماالذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول هذا كلامه
ثم رأيت الإمام النووي قال القول بأن الفاتحة أول ما نزل بطلانه أظهر من أن يذكر أي ومما يدل على ذلك ما جاء من طرق عن مجاهد أن الفاتحة نزلت بالمدينة ففي تفسير وكيع عن مجاهد فاتحة الكتاب مدنية وفيه أنه جاء عن قتادة أنها نزلت بمكة
وعن علي كرم الله وجهه كما في أسباب النزول للواحدي أنها نزلت بمكة من كنز تحت العرش وفيها عنه لما قام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقال { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين } قالت قريش رض الله فاك وفي الكشاف أن الفاتحة نزلت بمكة وقيل نزلت بالمدينة فهي مكية مدنية هذا كلامه وتبعه على ترجيح أنها مكية القاضي البيضاوي حيث قال وقد صح أنها مكية وفي الإتقان وذكر قوم منه أي مما تكرر نزوله الفاتحة فليتأمل فإنه لا يقال ذلك إلا بناء على أنها نزلت بهما أي نزلت
بمكة ثم بالمدينة مبالغة في شرفها وقد أشار القاضي البيضاوي إلى أن تكرير نزولها ليس بمجزوم به وقيل نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة
قال في الإتقان والظاهر أن النصف الذي نزل بالمدينة النصف الثاني قال ولا دليل لهذا القول هذا كلامه
واستدل بعضهم على أنها مكية بأنه لا خلاف أن سورة الحجر مكية وفيها { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } وهي الفاتحة فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قرئ عليه الفاتحة والذي نفسي بيده ما أنزل الله تعالى في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها إنها لهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته
وقد حكى بعضهم الإتفاق على أن المراد بالسبع المثاني في آية الحجر هي الفاتحة ويرد دعوى الإتفاق قول الجلال السيوطي وقد صح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير السبع المثاني في آية الحجر بالسع الطوال
ومما يدل على أن المراد بها الفاتحة ما ذكر في سبب نزولها وهو أن عيرا لأبي جهل قدمت من الشام بمال عظيم وهي سبع قوافل ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ينظرون إليها وأكثر الصاحبة بهم عرى وجوع فخطر ببال النبي صلى الله عليه وسلم شيء لحاجة أصحابه فنزل { ولقد آتيناك } أي أعطيناك { سبعا من المثاني } مكان سبع قوافل ولا تنظر إلى ما أعطيناه لأبي جهل وهو متاع الدنيا الدنية { ولا تحزن عليهم } أي على أصحابك { واخفض جناحك } له فإن تواضعك لهم أطيب لقلوبهم من ظفرهم بما تحب من أسباب الدنيا
وفي زوائد الجامع الصغير لو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان وجعل القرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات وفي لفظ فاتحة الكتاب شفاء من كل داء وفي لفظ فاتحة الكتاب تعدل ثلثي القرآن فليتأمل ولها إثنان وعشرون إسما
وذكر بعضهم أن لها ثلاثين إسما وذكرها الأستاذ الشيخ أبو الحسن البكري في تفسيره الوسيط قال السهيلي ويكره أن يقال لها أم الكتاب أي لما ورد لا يقولن أحدكم أم الكتاب وليقل فاتحة الكتاب قال الحافظ السيوطي رحمه الله ولا أصل له
في شيء من كتب الحديث وإنما أخرجه ابن الضريس بهذا اللفظ عن ابن سيرين وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة تسميتها بذلك هذا كلامه ولا يخفى أنه جاء في تسمية الفاتحة ذكر المضاف تارة وهو سورة كذا وإسقاطه أخرى وتارة جوزوا الأمرين معا وهو يشكل على أن تسمية السور توقيفي
ثم رأيت في الإتقان قال قال الزركشي في البرهان ينبغي البحث عن تعداد الأسامي هل هو توقيفي أو بما يظهر من المناسبات فإن كان الثاني فيمكن الفطن أن يستخرج من كل سورة معاني كثيرة تقتضى اشتقاق أسمائها وهو بعيد عن هذا كلامه ويلزم القول بأنها إنما نزلت في المدينة أن مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة كان يصلي بغير الفاتحة قال في أسباب النزول وهذا مما لا تقبله العقول أي لأنه لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة أي ويدل لذلك ما رواه الشيخان لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب وفي رواية لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها الرجل بفاتحة الكتاب والمراد في كل ركعة لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته إذا استقبلت القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت إلى أن قال ثم اصنع ذلك أي القراءة بأم القرآن في كل ركعة وجاء على شرط الشيخين أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها منها عوضا ويدل لذلك أيضا وصف القول بأنها إنما نزلت بالمدينة بأنه هفوة من قائله لأنه تفرد بهذا القول والعلماء على خلافه أي لأن نزولها كان بعد فترة الوحي بعد نزول { يا أيها المدثر } ويلزم على كونها نزلت بعد المدثر أنه صلى الله عليه وسلم صلى بغير الفاتحة في مدة فترة الوحي أي لأن المدثر نزلت بعد فترة الوحي على ما سيأتي
وقد يقال لا ينافيه ما تقدم من أنه لم يحفظ أنه لم يكن في الإسلام صلاة بغير الفاتحة لجواز أن يراد صلاة من الصلوات الخمس وما تقدم مما يدل على تعين الفاتحة في الصلاة يجوز أن يكون صدر منه صلى الله عليه وسلم بعد فرض الصلوات الخمس
وفي الإمتاع إنزال الملك يبشره بالفاتحة وبالآيتين من سورة البقرة يدل على أنه نزلت بالمدينة
فقد أخرج مسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نغيضا أو صوتا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم
فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما من قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة هذا كلامه فليتأمل وجه الدلالة من هذا على أنه سيأتي عن الكامل للهذلي ما يصرح بأن خواتيم البقرة نزلت عليه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بقاب قوسين
ومما يدل على أن البسملة آية منها نزولها معها أي كما في بعض الروايات وإلا فالرواية المتقدمة تدل على أنها لم تنزل معها
ويدل لكون البسملة آية من الفاتحة أيضا ما أخرجه الدارقطني وصححه والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأتم الحمد لله فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم أحدى آياتها
وقد أخرج الدارقطني عن علي رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن السبع المثاني فقال الحمدلله رب العالمين فقيل له إنما هي ست آيات فقال بسم الله الرحمن الرحيم آية وقيل لها السبع المثاني لأنها سبع آيات وتثنى في الصلاة وقيل المثاني كل القرآن لأنه يثنى فيه صفات المؤمنين والكفار والمنافقين وقصص الأنبياء والوعد والوعيد
قال بعضهم والوجه أن يقال المراد بالسبع المثاني السبع الطوال أي كما أنها المراد بقوله تعالى { ولقد آتيناك سبعا من المثاني } على ما تقدم وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والسابعة يونس وقيل براءة وقيل الكهف
وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم عد البسملة آية من الفاتحة وبهذا يعلم ما في تفسير البيضاوي عن أم سلمة من أنه صلى الله عليه وسلم عد بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين آية فقد ذكر بعض الحفاظ أن هذا اللفظ لم يرد عن أم سلمة والذي رواه جماعة من الحفاظ عن أم سلمة بألفاظ تدل على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية وحدها
منها أنها ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى في بيتها فيقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين } وفي رواية عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصلوات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والإستدلال على أن البسملة آية من الفاتحة بكونها نزلت معها يقتضى أن البسملة ليست آية من { اقرأ باسم ربك }
ومن ثم قال الحافظ الدمياطي نزول اقرأ بسملة يدل على أن البسملة ليست آية من كل سورة واستدل به أي بعدم نزولها في أول سورة اقرأ أيضا كما قال الإمام النووي من يقول إن البسملة ليست بقرآن في أوائل السور أي وإنما أنزلت وكتبت للفصل والتبرك بالإبتداء بها وهذا القول ينسب لقول إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه في القديم هو قول قدماء الحنفية
قال وجواب المثبتين أي لقرآنيتها في ذلك أنها نزلت في وقت آخر كما نزل باقي السورة أي سورة اقرأ
وجوابهم أيضا بأن الإجماع من الصحابة والسلف على إثباتها في مصاحفهم مع مبالغتهم في تجريدها عن كتابة غير القرآن فيها حتى إنهم لم يكتبوا آمين فيها واستدل أيضا لعدم قرآنيتها في أوائل السور بعدم تواترها في محلها
ورد بأن عدم تواترها في محلها لا يقتضى سلب القرآنية عنها ورد هذا الرد بأن الإمام الكافيجي قال المختار عند المحققين من علماء السنة وجوب التواتر أي في القرآن في محله ووضعه وترتيبه أيضا كما يجب تواتره في أصله أي وفي الفتوحات البسملة من القرآن بلا شك عند العلماء بالله وتكرارها في السورة كتكرار ما تكرر في القرآن من سائر الكلمات وهو بظاهره يؤيد ما ذهب إليه إمامنا من أنها آية من أول كل سورة ومحتمل لما قاله السهيلي حيث قال نقول إنها آية من كتاب الله مقترنة مع السورة
وفي كلام أبي بكر بن العربي وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة وما سبقه إلى هذا القول أحد فإنه لم يعدها أحد آية من سائر السور
ونقل عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أنها آية من أول الفاتحة دون بقية السور فعن الربيع قال سمعت الشافعي يقول أول الحمد بسم الله الرحمن الرحيم وأول البقرة ألم قال بعضهم وهو يدل على أن البسملة آية من أول الفاتحة دون بقية السور فإنها ليست آية من أولها بل هي آية في أولها إعادة لها وتكريرا لها وربما يوافق ذلك قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم بالبسملة والفاتحة هذا كلامه وكونه خص بالبسملة يخالف قوله في الإتقان عن الدارقطني إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري بسم الله الرحمن الرحيم كما سيأتي وسيأتي ما فيه
قيل وإنما تركت البسملة أول براءة لعدم المناسبة بين الرحمة التي تدل عليها البسملة والتبري الذي يدل عليه أول براءة ورده في الفتوحات بأنها جاءت في أوائل السور المبدوءة بويل قال وأين الرحمة من الويل
وذكر بعضهم أن الأنفال وبراءة سورة واحدة أي فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال سألت عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه لم لم يكتبوا بين براءة والأنفال سطر بسم الله الرحم الرحيم فقال كانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل بالمدينة وكانت قصتها شبيهة بالأخرى فظننت أنهما سورة واحدة
وفي كلام بعض المفسرين عن طاوس وعمر بن عبدالعزيز أنهما كانا يقولان إن الضحى وألم نشرح سورة واحدة فكانا يقرآنهما في ركعة واحدة ولا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم وذلك لأنهما رأيا أن أولها مشبه لقوله { ألم يجدك يتيما } وليس كذلك لأن تلك حال إغتامه صلى الله عليه وسلم بإيذاء الكفار فهي حال محنة وضيق وهذه حال إنشراح الصدر وتطييب القلب فكيف يجتمعان هذا كلامه
وذكر أئمتنا أنه يكفي في وجوب الإتيان بالبسملة في الفاتحة في الصلاة الظن المفيد له خبر الآحاد ولعدم التواتر بذلك لا يكفر من نفى كونها آية من الفاتحة بإجماع المسلمين وقد جهر بها صلى الله عليه وسلم كما رواه جمع من الصحابة قال ابن عبد البر بلغت عدتهم أحدا وعشرين صحابيا
وأما ما رواه مسلم عن أنس قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم أجيب عنه بأنه لم ينف إلا السماع ويجوز أنهم تركوا الجهر بها في بعض الأوقات بيانا للجواز ويؤيده قول بعضهم كانوا يخفون البسملة
وأما ما رواه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين فمعناه بسورة الحمد لا بغيرها من القرآن لا يبعد هذا الحمل ما في رواية عبدالله بن مغفل أنه قال سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال أي بني إياك والحدث فإني صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يقوله فإذا قرأت فقل الحمد لله رب العالمين فإنه لما لم يسمع فهم أنهم لم يأتوا بها رأسا فقال ذلك وكذا يقال فيما روى
كانوا لا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم فعلى تقدير ثبوت تلك الرواية وصحتها يجوز أن يكون الراوي فهم مما تقدم ترك البسملة فروي بالمعنى فأخطأ
ومما استدل به على أن البسملة ليست آية من الفاتحة ما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى قسمت الصلاة أي الفاتحة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال مجدني عبدي وإذا قال مالك يوم الدين قال فوض إلي عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فيقول عبدي اهدنا الصراط المستقيم إلى آخرها
قال أبو بكر بن العربي المالكي فانتفى بذلك أن تكون بسم الله الرحمن الرحيم آية منها من وجهين أحدهما أنه لم يذكرها في القسمة والثاني أنها إن صارت في القسمة لما كانت نصفين بل يكون ما لله فيها أكثر مما للعبد لأن بسم الله ثناء على الله تعالى لا شيء للعبد فيه ثم ذكر أن التعبير بالصلاة عن الفاتحة يدل على أن الفاتحة من فروضها وأطال في ذلك وسيأتي في الحديبية أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب بإسم اللهم موافقة للجاهلية قيل كتب ذلك في أربعة كتب وأول من كتبها أمية بن أبي الصلت فلما نزل { بسم الله مجراها ومرساها } كتب بسم الله ثم لما نزل { ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } كتب بسم الله الرحمن ثم نزلت إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم كتب بسم الله الرحمن الرحيم كذا نقل عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم حتى نزلت سورة النمل وهذا يفيد أن البسملة لم تنزل قبل ذلك في شيء من أوائل السور ويؤيده قول السهيلي ثم كان بعد ذلك أي بعد نزل { وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة أي تمييزا لها عن غيرها وقد ثبت في سواد المصحف الإجماع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم على ذلك هذا كلامه فليتأمل ما فيه فإنه قد يدل للقول بأن البسملة ليست من أوائل السور وإنما هي للفصل فقد علمت أن البسملة نزلت أول الفاتحة على ما في بعض الروايات
ونقل أبو بكر التونسي إجماع علماء كل أمة على أن الله سبحانه وتعالى افتتح جميع كتبه ببسم الله الرحمن الرحيم
وفي الإتقان عن الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض الصحابة لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري بسم الله الرحمن الرحيم وبهذا يعلم ما في الخصائص الصغرى أن البسملة من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقوله صلى الله عليه وسلم على نبي بعد سليمان غيري يشكل عليه أن عيسى بين سليمان وبينه صلى الله عليه وسلم وكتابه الإنجيل وهو من جملة كتب الله المنزلة
وعن النقاش أن البسملة لما نزلت سبحت الجبال فقالت قريش سحر محمد الجبال قال السهيلي إن صح ما ذكره فإنما سبحت الجبال خاصة لأن البسملة إنما نزلت على آل داود وقد كان الجبال تسبح مع داود والله أعلم
ثم لم يلبث ورقة أن توفى قال سبط ابن الجوزي وهو آخر من مات في الفترة ودفن بالحجون فلم يكن مسلما ويؤيده ما جاء في الرواية في سندها ضعف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ما ت على نصرانيته وهذا يدل على أن من أدرك النبوة وصدق بنبوته صلى الله عليه وسلم ولم يدرك الرسالة بناء على تأخرها لا يكون مسلما بل من أهل الفترة فلما توفى ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد رأيت القس يعني ورقة في الجنة وعليه ثياب حرير أي والقس بكسر القاف رئيس النصارى وبفتحها تتبع الشي
هذا وفي القاموس القس مثلث القاف تتبع الشيء وطلبه كالتقسس وبالفتح صاحب الإبل الذي لا يفارقها ورئيس النصارى في العلم وفي رواية أبصرته في بطنان الجنة وعليه السندس وفي رواية قد رأيته فرأيت عليه ثيابا بيضا وأحسبه أي أظنه لو كان من أهل النار لم تكن عليه ثياب بيض
أقول صريح الرواية الثالثة أنه لم يره في الجنة فقد تعددت الرؤية وأما الرواية الثانية فلا تخالف الرواية الأولى لأن السندس من أفراد الحرير فلا دلالة في ذلك على التعدد والله أعلم وفي رواية لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين لأنه آمن بي وصدقني أي قبل الدعوة التي هي الرسالة وحينئذ يكون معنى قوله له جنة أو جنتين هيئت له جنة أو جنتين ولا مانع أن يكون بعض أهل الفترة من أهل الجنة إذ لو كان مسلما حقيقة بأن أدرك الدعوة وصدق به لم يقل فيه صلى الله عليه وسلم وأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض وجزم ابن كثير بإسلامه
قال بعضهم وهو الراجح عند جهابذة الأئمة أي بناء على أنه أدرك الدعوة إلى الله تعالى التي هي الرسالة
ففي الإمتاع أن ورقة مات في السنة الرابعة من المبعث ويوافقه ما يأتي عن سيرة ابن إسحاق وعن كتاب الخميس وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم لأنه آمن بي وصدقني واضحا لكن ينازع في ذلك قوله وأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض وسيأتي عن الذهبي ما يخالفه
ويخالفه أيضا ما تقدم عن سبط ابن الجوزي أنه من أهل الفترة وعن يحيى بن بكير قال سألت جابر بن عبدالله يعني عن ابتداء الوحي فقال لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جاودة بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا فنظرت عن يساري فلم أر شيئا فنظرت من خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فرأيت شيئا بين السماء والأرض أي وفي رواية فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي زاد في رواية متربعا عليه وفي لفظ على عرش بين السماء والأرض فرعبت منه فأتيت خديجة فقلت دثروني دثروني أي وفي رواية زملوني زملوني وصبوا على ماء باردا فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت هذه الآية { يا أيها المدثر } أي الملتف بثيابه { قم فأنذر وربك فكبر } ولم يقل بعد فأنذر وبشر لأنه كما بعث بالنذارة بعث بالبشارة لأن البشارة إنما تكون لمن آمن ولم يكن أحد آمن قبل وهذا يدل على أن هذه الآية أول ما نزل أي قبل اقرأ وأن النبوة والرسالة مقترنان
قال الإمام النووي والقول بأن أول ما نزل { يا أيها المدثر } ضعيف باطل وإنما نزلت بعد فترة الوحي أي ومما يدل على ذلك قوله فإذا الملك الذي جاءني بحراء ومما يدل على ذلك أيضا ما في البخاري أن في رواية جابر أنه صلى الله عليه وسلم حدث عن فترة الوحي أي لا عن ابتداء الوحي فما تقدم من قول بعضهم يعني عن إبتداء الوحي فيه نظر وكذا في قول الراوي عن جابر جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت لأن جواره بحراء كان قبل فترة الوحي إلا أن يقال جابر جاء عنه روايتان واحدة في ابتداء الوحي وأخرى في فترة الوحي وبعض الرواة خلط فإن صدر الرواية يدل على أن ذلك كان عند ابتداء الوحي وعجزها يدل على أن ذلك كان في فترة الوحي
هذا ويجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم جاور بحراء في مدة فترة الوحي ويؤيد ذلك ما في البيهقي عن مرسل عبيد بن عمير أنه صلى الله عليه وسلم كان يجاور في كل سنة شهرا وهو رمضان وكان ذلك في مدة فترة الوحي وسيأتي الجمع بين الروايات في أول ما نزل وعن إسماعيل بن أبي حكيم مولى الزبير أنه حدث عن خديجة رضي الله تعالى عنها أنه قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك قال نعم أي وذلك قبل أن يأتيه بالقرآن أي بشيء منه وهو { اقرأ باسم ربك } بناء على أنه أول ما نزل ولا ينافي ذلك قولها هذا الذي يأتيك إذا جاءك لأن المعنى الذي يتراءى لك إذا رأيته فجاءه جبريل عليه الصلاة والسلام فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خديجة هذا جبريل قد جاءني أي قد رأيته لكن سيأتي عن ابن حجر الهيتمي أن ذلك كان بعد البعثة قالت قم ياابن عمي فاجلس على فخذي فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذها قالت هل تراه قال نعم قالت فتحول فاجلس في حجري فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في حجرها قالت هل تراه قال نعم فألقت خمارها و رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها ثم قالت هل تراه قال لا قالت يا ابن عمي اثبت وأبشر فوالله إنه لملك ما هذا بشيطان وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله ** وأتاه في بيتها جبرئيل ** ولذى اللب في الأمور ارتياء ** ** فأماطت عنها الخمار لتدرى ** أهو الوحي أم هو الإغماء ** ** فاختفى عند كشفها الرأس حبري ** ل فما عاد أو أعيد الغطاء ** ** فاستبانت خديجة أنه الكن ** ز الذي حاولته والكيمياء **
أي وأتاه قال ابن حجر أي بعد البعثة أي النبوة واجتماعه به في بيتها حامل الوحي جبريل ولصاحب العقل الكامل في الأحوال التي قد تشتبه استبصار فبسبب كمال استبصارها أزالت عن رأسها ما يغطى به الرأس لتعلم عين اليقين أن هذا الذي يعرض له صلى الله عليه وسلم هل هو حامل الوحي الذي كان يأتي به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله أو هو الإغماء الذي هو بعض الأمراض الجائزة عليهم عليهم الصلاة والسلام
وفيه أنه ينبغي أن يكون المراد به الإغماء الناشئ عن لمة الجن فيكون من الكهان لا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذي قال بسببه لخديجة لقد خشيت على نفسي وسيأتي
أنه كان يعتريه وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن ما كان يعتريه عند نزول الوحي عليه أي من الإغماء إلى آخره فبسبب إزالتها ما تغطى به رأسها عنها اختفى فلم يعد إلى أن أعادت غطاء رأسها عليه فاستبانت علمت علم اليقين أن ما يعرض له صلى الله عليه وسلم هو الوحي أي لا الجني لأن الملك لا يرى الرأس المكشوف من المرأة بخلاف الجنى وشبه الناظم ذلك بالشيء النفيس والأمر العظيم لأن كلا من الكنز والكيمياء لا يظفر به إلا القليل من الناس لعزتهما
أقول وفي الخصائص الكبرى ما يدل لما قلناه من أن أول ما فعلته خديجة كان عند ترائيه له صلى الله عليه وسلم وقبل اجتماعه به
وقول بعضهم إن ذلك من خديجة كان بإرشاد من ورقة فإنه قال لها اذهبي إلى المكان الذي رأى فيه ما رأى فإذا رآه فتحسري فإن لم يكن من عند الله لا يراه أي فتراءى له وهو في بيت خديجة ففعلت قالت فلما تحسرت تغيب جبريل فلم يره فرجعت فأخبرت ورقة فقال إنه ليأتيه الناموس الأكبر
وفي فتح الباري أن في سيرة ابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال رضي الله تعالى عنه وهو يعذب وذلك يقتضى أنه تأخر إلى زمن الدعوة وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام أي وفي كلام صاحب كتاب الخميس في الصحيحين أن الوحي تتابع في حياة ورقة وأنه آمن به وتقدم أنه الموافق لما في الإمتاع من أنه مات في السنة الرابعة من البعثة وتقدم أنه مخالف لما تقدم عن سبط ابن الجوزي ومخالف أيضا لقول الذهبي الأظهر أنه مات بعد النبوة وقبل الرسالة أي بناء على تأخرها ويدل لتأخرها ما تقدم من قول ورقة يا ليتني فيها جذع فقد تقدم أن المراد يا ليتني أكون في زمن الدعوة أي ومن أدرك النبوة ولم يدرك البعثة لا يكون مسلما بل هو كما تقدم من أهل الفترة لأن الإيمان النافع عند الله تعالى الذي يصير به الشخص مستحقا لدخول الجنة ناجيا من الخلود في النار التصديق بالقلب بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم أي بما أرسل به وإن لم يقر بالشهادتين مع التمكن من ذلك حيث لم يطلب منه ذلك ويمتنع
وقيل لا بد مع ذلك من الإقرار بالشهادتين للتمكن من وحيث أدرك الرسالة فقد أسلم وحينئذ يكون صحابيا
ونقل بعضهم عن الحافظ ابن حجر أنه في الإصابة تردد في ثبوت الصحبة لورقة بن نوفل قال لكن المفهوم من كلامه في شرح النخبة ثبوتها وأنه يفرق بينه وبين بحيرا بأن ورقة أدرك البعثة وأنه لم يدرك الدعوة بخلاف بحيرا وهو ظاهر والتعريف السابق يشمله هذا كلامه
وتعريفه السابق للصحابي هو من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا وعبارة شرح النخبة هل يخرج أي من تعريف الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به من لقيه مؤمنا بأنه سيبعث ولم يدرك البعثة محل نظر
ولا يخفى عليك أن ما في شرح النخبة لا يدل لهذا البعض على أنه تقدم أن ابن حجر في الإصابة قال في بحيرا ما أدرى أدرك البعثة أم لا
ولا يخفى عليك أن ما تقدم عن ابن حجر من أن ورقة أدرك البعثة وأنه لم يدرك الدعوة فإنه يقتضى أن البعثة عبارة عن النبوة لا عن الرسالة وأن الرسالة هي الدعوة لا البعثة
وروى ابن إسحاق عن شيوخه أنه صلى الله عليه وسلم كان يرقى من العين وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن فلما نزل عليه القرآن أصابه نحو ما كان يصيبه قبل ذلك هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصيبه قبل نزول القرآن ما يشبه الإغماء بعد حصول الرعدة وتغميض عينيه وتربد وجهه ويغط كغطيط البكر فقالت له خديجة أوجه إليك من يرقيك قال أما الآن فلا ولم أقف على من كان يرقيه ولا على ما كان يرقى به
واشتهر على بعض الألسنة أن آمنة يعنى أمه صلى الله عليه وسلم رقت النبي من العين ولعل مستند ذلك ما تقدم عن أمه أنها لما كانت حاملا به جاءها الملك وقال لها قولي إذا ولدتيه أعيذه بالواحد من شر كل حاسد والظاهر أنها قالت ذلك
وعن أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها أنها قالت يا رسول الله إن ابني جفعر أي ولديها من جعفر بن أبي طالب تصيبهما العين أفنسترقى لهما قال نعم لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين
فإن قيل بهذه الأمور علم صلى الله عليه وسلم أن جبريل ملك لا جنى فمن أين علم أنه يتكلم عن الله تعالى أجيب بأنه على تسليم أن قول ورقة المذكور وما تقدم عنه لا يفيده العلم فقد يقال خلق الله تعالى فيه صلى الله عليه وسلم علما ضروريا بعد ذلك علم به أنه
جبريل وأنه يتكلم عن الله تعالى كا خلق في جبريل علما ضروريا بأن الموحى إليه هو الله
وقد ذكر بعض المفسرين أنه صلى الله عليه وسلم كان له عدو من شياطين الجن يقال له الأبيض كان يأتيه في صورة جبريل واعترض بأنه يلزم عليه عدم الوثوق بالوحي
وأجيب عنه بمثل ما هنا وهو أن الله تعالى جعل في النبي صلى الله عليه وسلم علما ضروريا بميز به بين جبريل عليه السلام وبين هذا الشيطان ولعل هذا الشيطان غير قرينه الذي أسلم
وفي كلام ابن العماد وشيطان الأنبياء يسمى الأبيض والأنبياء معصومون منه وهذا الشيطان هو الذي أغوى به برصيصا الراهب العابد بعد عبادته خمسمائة سنة وهو المعنى بقوله تعالى { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك } هذا كلامه والله أعلم
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كان من الأنبياء من يسمع الصوت أي ولا يرى مصوتا فيكون بذلك نبيا قال بعضهم يحتمل أن يكون صوتا خلقه الله تعالى في الجو أي ليس من جنس الكلام وخلق لذلك النبي فهم المراد منه عند سماعه
ويحتمل أن يكون من جنس الكلام المعهود يتضمن كون ذلك الشخص صار نبيا
قال صلى الله عليه وسلم وإن جبريل يأتيني فيكلمني كما يأتي أحدكم صاحبه فيكلمه ويبصره من غير حجاب أي وفي رواية كنت أراه أحيانا كما يرى الرجل صاحبه من وراء الغربال
ولا يخفى أن هاتين الحالتين كل منهما حالة من حالات الوحي وحينئذ إما أن يكون جبريل عليه السلام على صورة دحية الكلبي وهو بكسر الدال المهملة على المشهور وحكى فتحها أو على صورة غيره ومنه ما وقع في حديث عمر رضي الله تعالى عنه بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد الحديث ورواية البخاري تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يعرفه إلا في آخر الأمر وورد ما جاءني يعني جبريل في صورة لم أعرفها إلا في هذه المرة
وفي صحيح ابن حبان والذي نفسي بيده ما اشتبه على منذ أتاني قبل مرته هذه وما عرفته حتى ولى وبهذا يعلم ما في كلام الإمام السبكي حيث قسم الوحي إلى ثلاثة أقسام حيث قال في تائيته ** ولازمك الناموس إما بشكله ** وإما بنفث أو بحلية دحية **
فليتأمل قيل وكان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة فإن قيل إذا جاء جبريل عليه السلام على صورة الآدمي دحية أو غيره هل هي الروح تتشكل بذلك الشكل وعليه هل يصير جسده الأصلي حيا من غير روح أو يصير ميتا
أجيب بأن الجائي يجوز أن لا يكون هو الروح بل الجسد لأنه يجوز أن الله تعالى جعل في الملائكة قدرة على التطور والتشكل بأي شكل أرادوه كالجن فيكون الجسد واحدا ومن ثم قال الحافظ ابن حجر إن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لم يخاطبه والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط
وأخذ من ذلك بعض غلاة الشيعة أنه لا مانع ولا بعد أن الحق سبحانه وتعالى يظهر في صورة علي رضي الله تعالى عنه وأولاده أي الأئمة الإثنى عشر وهم الحسن والحسين وابن الحسين زين العابدين وابنه محمد الباقر وابن محمد الباقر جعفر الصادق وابن جعر الصادق موسى الكاظم وابن موسى الكاظم على الرضا وابن علي الرضا محمد الجواد وابن محمد الجواد على التقي والحادي عشر حسن العسكري والثاني عشر ولد حسن العسكري وهو المهدي صاحب الزمان وهو حي باق إلى أن يجتمع بسيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام على ما فيه فقد قال عبدالله بن سبأ يوما لعلي رضي الله تعالى عنه أنت أنت يعني أنت الإله فنفاه على إلى المدائن وقال لا تساكني في بلد أبدا وكان عبدالله بن سبأ هذا يهوديا كان من أهل صنعاء وأمه يهودية سوداء ومن ثم كان يقال له ابن السوداء وكان أول من أظهر سب الشيخين ونسبهما للإفتيات على سيدنا علي رضي الله تعالى عنه
ولما قيل لسيدنا علي لولا أنك تضمر ما أعلن به هذا ما اجترأ على ذلك فقال علي معاذ الله أنى أضمر لهما ذلك لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل فأرسل إلى ابن سبأ فأظهر الإسلام في أول خلافة عثمان وقيل في أول خلافة عمر وكان قصده بإظهار الإسلام بوار الإسلام وخذلان أهله
وكان يقول قبل إظهاره الإسلام في يوشع بن نون بمثل ما قال في علي وكان يقول في علي إنه حي لم يقتل وإن فيه الجزء الإلهي وإنه يجئ في السحاب والرعد صوته والبرق سوطه وإنه ينزل بعد ذلك إلى الأرض فيملؤها عدلا كما ملئت جورا وظلما وعبدالله هذا كان يظهر أمر الرجعة أي أنه صلى الله عليه وسلم يرجع إلى الدنيا كما يرجع عيسى وكان يقول العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع إلى الدنيا ويكذب برجعة محمد وقد قال الله تعالى { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } فمحمد أحق بالرجوع من عيسى وأظهر أمر الوصية أي أن عليا رضي الله تعالى عنه أوصى له صلى الله عليه وسلم بالخلافة وكان هو السبب في إثارة الفتنة التي قتل فيها عثمان رضي الله تعالى عنه كما سيأتي
ومن غلاة الشيعة من قال بألوهية أصحاب الكساء الخمسة محمد صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم
ومنهم من قال بألوهية جعفر الصادق وألوهية آبائه وهم الحسين وابنه زين العابدين وابن زين العابدين محمد الباقر وهؤلاء الشيعة موافقون في ذلك لمن يقول بالحلول وهم الحلاجية أصحاب حسين بن منصور الحلاج كانوا إذا رأوا صورة جميلة زعموا أن معبودهم حل فيها
وممن زعم الحلول حتى ادعى الألوهية المقنع عطاء الخراساني وذلك في سنة ثلاث وستين ومائة ادعى أن الله عزوجل في صورة آدم ثم في صورة نوح ثم إلى أن حل في صورته هو فاقتنن به خلق كثير بسبب التمويهات التي أظهرها لهم فإنه كان يعرف شيئا من السحر والنيرنجيات فقد أظهر قمرا يراه الناس من مسافة شهرين من موضعه ثم يغيب ولما اشتهر أمره ثار عليه الناس وقصدوه ليقتلوه وجاءوا إلى القعلة التي كان متحصنا بها فلما علم ذلك أسقى أهله سما فماتوا ومات ودخل الناس تلك القلعة فقتلوا من بقى حيا بها من أتباعه
والقول بالإتحاد كفر فقد قال العز بن عبدالسلام من زعم أن الإله يحل في شيء من أجسام الناس أو غيرهم فهو كافر وأشار إلى أنه كافر إجماعا من غير خلاف وأنه لا يجرى فيه الخلاف الذي جرى في تكفير المجسمة ومن ثم ذكر القاضي عياض في الشفاء أن من ادعى حلول الباري في أحد الأشخاص كان كافرا بإجماع المسلمين
وقول بعض العارفين وهو أبو يزيد البسطامي سبحاني ما أعظم شأني وقوله { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } وقوله وأنا ربي الأعلى وقوله أنا الحق وهو أنا وأنا هو ليس من دعوى الحلول في شيء وإنما قوله سبحاني إني أنا الله محمول على الحكاية أي قال ذلك على لسان الحق من باب حديث إن الله تعالى قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده وقوله أنا ربي الأعلى وأنا الحق الخ إنما قال ذلك لأنه انتهى سلوكه إلى الله تعالى بحيث استغرق في بحر التوحيد بحيث غاب عن كل ما سواه سبحانه وصار لا يرى في الوجود غيره سبحانه وتعالى الذي هو مقام الفناء ومحو النفس وتسليم الأمر كله له تعالى وترك الإرادة منه والإختيار
فالعارف إذا إلى هذا المقام وصل ربما قصرت عبارته عن بيان ذلك الحال الذي نازله فصدرت عنه تلك العبارة الموهمة للحلول
وقد اصطلحوا على تسمية هذا المقام الذي هو مقام الفناء بالإتحاد ولا مشاحة في الإصطلاح لأنه اتحد مراده بمراد محبوبه فصار المرادان واحدا لفناء إرادة المحب في مراد المحبوب فقد فنى عن هوى نفسه وحظوظها فصار لا يحب إلا لله ولا يبغض إلالله ولا يوالى إلالله ولا يعادي إلالله ولا يعطى إلا لله ولا يمنع إلا لله ولا يرجو إلا لله ولا يستعين إلا بالله فيكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما
وفي كلام سيدي علي رضي الله تعالى عنه حيث أطلق القول بالإتحاد في كلام القوم في الصوفية فمرادهم فناء مرادهم في مراد الحق جل وعلا كما يقول بين فلان وفلان اتحاد إذا عمل كل منهما على وفق مراد الآخر { ولله المثل الأعلى } هذا كلامه رضي الله تعالى عنه ورضى عنا به وهذا مقام غير مقام الوحدة المطلقة الخارجة عن دائرة العقل التي ذكر السعد والسيد أن القول بها باطل وضلال أي لأنه يلزم عليها القول بالجمع بين الضدين
فقد قال بعض العلماء حضرة الجمع عبارة عن شهود اجتماع الرب والعبد في حال فناء العبد فيكون موجودا في آن واحد ولا يدرك ذلك إلا من أشهده الله الجمع بين الضدين ومن لم يشهد ذلك أنكره ويجوز أن يكون الجسد للملك متعددا وعليه فمن الممكن أن يجعل الله لروح الملك قوة يقدر بها على التصرف في جسد آخر غير جسدها المعهود مع تصرفها في ذلك الجسد المعهود كما هو شأن الأبدال لأنهم يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم شبحا آخر مشبها لشبحهم الأصلي بدلا عنه
وقد ذكر ابن السبكي في الطبقات أن كرامات الأولياء أنواع وعد منها أن يكون لهم أجساد متعددة قال وهذا الذي تسميه الصوفية بعالم المثال ومنه قصة قضيب البان وغيره أي كواقعة الشيخ عبدالقادر الطحطوطي نفعنا الله تعالى به
فقد ذكر الجلال السيوطي رحمه الله تعالى أنه رفع إليه سؤال في رجل حلف بالطلاق أن ولى الله الشيخ عبدالقادر الطحطوطي بات عنده ليلة كذا فحلف آخر بالطلاق أنه بات عنده تلك الليلة بعينها فهل يقع الطلاق على أحدهما قال فأرسلت قاصدي إلى الشيخ عبدالقادر فسأله عن ذلك فقال ولو قال أربعة إني بت عندهم لصدقوا فأفتيت أنه لا حنث على واحد منهما لأن تعدد الصور بالتخيل والتشكل ممكن كما يقع ذلك للجان
وقد قيل في الأبدال إنهم إنما سموا أبدالا لأنهم قد يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم الأول شبحا آخر شبيها بشبحهم الأصلي بدلا عنه ويقال عالم المثال كما تقدم فهو عالم متوسط بين عالم الأجساد وعالم الأرواح فهو الطف من عالم الاجساد وأكثف من عالم الأرواح فالأرواح تتجسد وتظهر في صور مختلفة من عالم المثال قال وهذا الجواب أولى مما تكلفه بعضهم في الجواب عن جبريل بأنه كان يندمج بعضه في بعض أي الذي أجاب به الحافظ ابن حجر
ومما يدل على وجود المثال رؤيته صلى الله عليه وسلم للجنة والنار في عرض الحائط وقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى { لولا أن رأى برهان ربه } بأنه مثل له يعقوب بمصر وهو بالشام
ومن ذلك ما اشتهر أن الكعبة شوهدت تطوف ببعض أولياء في غير مكانها وممن وقع له ذلك أبو يزيد البسطامي والشيخ عبدالقادر الجيلي والشيخ إبراهيم المتبولي نفعنا الله تعالى ببركاتهم ولعل مجئ جبريل على صورة دحية كان في المدينة بعد إسلام دحية وإسلامه كان بعد بدر فإنه لم يشهدها وشهد المشاهد بعدها إذ يبعد مجيئه على صورة دحية قبل إسلامه
قال الشيخ الأكبر رضي الله تعالى عنه دحية الكلبي كان أجمل أهل زمانه وأحسنهم صورة فكان الغرض من نزول جبريل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في صورته إعلاما من الله تعالى أنه ما بيني وبينك يا محمد سفير إلا صورة الحسن والجمال وهي التي لك عندي فيكون ذلك بشرى له ولا سيما إذا أتى بأمر الوعيد والزجر فتكون
تلك الصورة الجميلة تسكن منه ما يحركه ذلك الوعيد والزجر هذا كلامه وهو واضح لو كان لا يأتيه إلا على تلك الصورة الجميلة إلا أن يدعى أن من حين أتاه على صورة دحية لم يأته على صورة آدمي غيره وتكون واقعة سيدنا عمر سابقة على ذلك لكن تقدم أنه كان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة أي لا بالوعيد والزجر فليتأمل
وفي البرهان للزركشي في التنزيل أي تلقى القرآن طريقان
أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل أي لأن الأنبياء يحصل لهم الإنسلاخ من البشرية إلى الملكية بالفطرة الإلهية من غير إكتساب فيما هو أقرب من لمح البصر
والثاني أن الملك من الملكية البشرية إلى حتى أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه هذا كلامه والراجح أن المنزل اللفظ والمعنى تلقفه جبريل من الله تعالى تلقفا روحانيا أو أن الله تعالى خلق تلك الألفاظ أي الأصوات الدالة عليها في الجو وأسمعها جبريل وخلق فيه علما ضروريا أنها دالة على ذلك المعنى القديم القائم بذاته تعالى وأوحاه إليه صلى الله عليه وسلم كذلك أو حفظه جبريل من اللوح المحفوط ونزل به
واعلم أن من حالات الوحي النفث أي أنه كان ينفث في روعه الكلام نفثا قال صلى الله عليه وسلم إن روح القدس أي المخلوق من الطهارة يعنى جبريل نفث أي ألقى
والنفث في الأصل النفخ اللطيف الذي لا ريق معه في روعي بضم الراء أي قلبي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ورزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب أي عاملوا بالجميل في طلبكم وتتمته ولا يحملنكم إستبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله أي كالكذب فإن ما عند الله لن ينال إلا بطاعته
وفي كلام ابن عطاء الله الإجمال في الطلب يحتمل وجوها كثيرة
منها أن لا يطلبه مكبا عليه مشتغلا عن الله تعالى به ومنها أن يطلبه من الله تعالى ولا يعين قدرا ولا وقتا لأن من طلب وعين قدرا أو وقتا فقد تحكم على ربه وأحاطت الغفلة بقلبه ومنها أن يطلب وهو شاكر لله إن أعطى وشاهد حسن إختياره إذا منع ومنها أن يطلب من الله تعالى ما فيه رضاه ولا يطلب ما فيه حظوظ دنياه
ومنها أن يطلب ولا يستعجل الإجابة وفي حديث ضعيف اطلبوا الحوائج بعزة النفس فإن الأمور تجرى بالمقادير
ومن حالات الوحي أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس وهي أشد الأحوال عليه صلى الله عليه وسلم أي لما قيل إنه كان يأتيه في هذه الحالة بالوعيد والنذارة
أقول روى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه وهو أخو أبو جهل لأبويه وكان يضرب به المثل في السودد حتى قال الشاعر ** أحسبت أن أباك حين تسبنى ** في المجد كان الحارث بن هشام ** ** أولى قريش بالمكارم والندى ** في الجاهلية كان والإسلام **
أسلم يوم الفتح وسيأتي أنه استجار في ذلك اليوم بأم هانئ أخت علي بن أبي طالب وأراد علي قتله فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ وحسن إسلامه وشهد حنينا وكان من المؤلفة كما سيأتي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي أي حامله الذي هو جبريل قال أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيقصم بالفاء أي يقلع عني وقد وعيت ما قال وفي رواية يأتيني أحيانا له صلصلة كصلصلة الجرس وأحيانا يتمثل لي الملك الذي هو حامل الوحي رجلا أي يتصور بصورة الرجل وفي رواية في صورة الفتي فيكلمني فأعي ما يقول وروى أنه في الحالة الثانية ينفلت منه ما يعيه بخلاف الحالة الأولى
ونص هذا الرواية كان الوحي يأتيني على نحوين يأتيني جبريل فيلقيه على كما يلقى الرجل على الرجل فذلك ينفلت مني ويأتيني في شيء مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي فذاك الذي لا ينفلت مني
قيل وإنما كان ينفلت منه في الحالة الأولى لشدة تأنسه بحامله لأنه يأتي إليه في صورة يعهدها ويخاطبه بلسان يعهده فلا يثبت فيما ألقى إليه بخلافه في الحالة الثانية لأن سماع مثل هذاالصوت الذي يفزع منه القلب مع عدم رؤية أحد يخاطبه إذا علم أنه وحي واضطر إلى التثبيت في ذلك وقولنا أي حامله يخالف قول الحافظ ابن حجر حيث ذكر أن قوله مثل صلصة الجرس بين بها صفة الوحي لا صفة حامله
وفيه أن ذلك لا يناسب قوله وقد وعيت ما قال وقول بعضهم الصلصلة المذكورة
هي صوت الملك بالوحي وقوله يأتيني أحيانا له كصلصلة الجرس وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا وكان صلى الله عليه وسلم يجد ثقلا عند نزول الوحي ويتحدر جبينه عرقا في البرد كأنه الجمان وربما غط كغطيط البكر محمرة عيناه
وعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه كان إذا نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقل لذلك ومرة وقع فخذه على فخذي فوالله ما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وربما أوحى إليه وهو على راحلته فترعد حتى يظن أن ذراعها ينفصم وربما بركت
أي وجاء أنه لما نزلت سورة المائدة عليه صلى الله عليه وسلم كان على ناقته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها
وفي رواية فاندق كتف راحلته العضباء من ثقل السورة ولا يخالفه ما قبله لأنه جاز أن يكون حصل لها ذلك فكان سببا لنزوله ثم رأيت في رواية ما يصرح بذلك
وجاء ما من مرة يوحى إلى إلا ظننت أن نفسي تقبض منه وعن أسماء بنت عميس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يكاد يغشى عليه وفي رواية يصير كهيئة السكران
أقول أي يقرب من حال المغشى عليه لتغيره عن حالته المعهودة تغيرا شديدا حتى تصير صورته صورة السكران أي مع بقاء عقله وتمييزه
ولا ينافى ذلك قول بعضهم ذكر العلماء أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤخذ عن الدنيا لأنه يجوز أن يكون مع ذلك على عقله وتمييزه على خلاف العادة وهذا هو اللائق بمقامه صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا ينتقض وضوؤه
ثم رأيت صاحب الوفاء قال فإن قال قائل ما كان يجرى عليه صلى الله عليه وسلم من البرحاء حين نزول الوحي هل ينتقض وضوؤه
والجواب لا لأنه صلى الله عليه وسلم كان محفوظا في منامه تنام عيناه ولا ينام قلبه فإن كان النوم الذي يسقط فيه الوكاء لا ينقض وضوءه فالحالة التي أكرم فيها بالمسارة وإلقاء الهدى إلى قلبه أولى لكون طباعه فيها معصومة من الأذى هذا كلامه وما ذكرناه أولى لما تقرر أن الإغماء أبلغ من النوم فليتأمل
وفي كلام الشيخ محيى الدين ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم وجميع من يأتيه الوحي
من الأنبياء كان إذا جاءه الوحي يستلقى على ظهره حيث قال سبب أضطجاع الأنبياء على ظهورهم عند نزول الوحي إليهم أن الوارد الإلهي الذي هو صفة القيومية إذا جاءهم اشتغل الروح الإنساني عن تدبيره فلم يبق للجسم من يحفظ عليه قيامه ولا قعوده فرجع إلى أصله وهو لصوقه بالأرض
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي صدع فيغلف رأسه بالحناء قيل وهو محمل قول بعض الصحابة إنه صلى الله عليه وسلم كان يخضب بالحناء وإلا فهو عليه الصلاة والسلام لم يخضب لأنه لم يبلغ سنا يخضب فيه
وفيه أنه أمر بالخضاب للشباب فقد جاء اختضبوا بالحناء فإنه يزيد في شبابكم وجمالكم ونكاحكم وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي لم يستطع أحد منا يرفع طرفه إليه حتى ينقضى الوحي وفي لفظ كان إذا نزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي استقبلته الرعدة وفي رواية كرب لذلك وتربد له وجهه وغمض عينيه وربما غط كغطيط البكر
وعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم السورة الشديدة أخذه من الشدة والكرب على قدر شدة السورة وإذا أنزل عليه السورة اللينة أصابه من ذلك على قدر لينها
وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوى النحل
وذكر الحافظ ابن حجر أن دوى النحل لا يعارض صلصلة الجرس أي المتقدم ذكرها لأن سماع الدوى بالنسبة للحاضرين والصلصلة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالراوي شبه بدوي النحل والنبي صلى الله عليه وسلم شبه بصلصلة الجرس أي فالمراد بهما شيء واحد والله أعلم
ومن حالاته أي حالات الوحي أي حامله أنه كان يأتيه على صورته التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح
أقول فيوحى إليه في تلك الحالة كما هو المتبادر وفيه أنه جاء عن عائشة وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل على صورته التي خلقه الله
عليها إلا مرتين حين سأله أن يريه نفسه فقال وددت أني رأيتك في صورتك أي وذلك بحراء أوائل البعثة بعد فترة الوحي بالأفق الأعلى من الأرض وهذه المرة هي المعنية بقوله تعالى { ولقد رآه بالأفق المبين } وبقوله تعالى { فاستوى وهو بالأفق الأعلى } طلع جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب فخر النبي صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه فنزل جبريل عليه السلام في صورة الآدميين وضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه الحديث والأخرى ليلة الإسراء المعنية بقوله تعالى { ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى } وسيأتي الكلام على ذلك
وفي الخصائص الصغرى خص صلى الله عليه وسلم برؤيته جبريل في صورته التي خلقه الله عليها أي لم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم
وذكر السهيلي أن المراد بالأجنحة في حق الملائكة صفة الملكية وقوة روحانية وليست كأجنحة الطير ولا ينافى ذلك وصف كل جناح منها بأنه يسد ما بين المشرق والمغرب هذا كلامه فليتأمل
ولعله لا ينافيه ما تقدم عن الحافظ ابن حجر من أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه
والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط والله اعلم
ومن حالات الوحي أي نفسه أي الموحى به لا حامله الذي هو جبريل أن الله تعالى أوحى إليه صلى الله عليه وسلم بلا وساطة ملك بل من وراء حجاب يقظة أو من غير حجاب بل كفاحا وذلك ليلة المعراج واسم الإشارة يحتمل أن يكون لنوعين وقع كل منهما ليلة الإسراء
ويحتمل أن يكون نوعا واحدا وأن الأول بناء على القول بعدم الرؤية والثاني بناء على القول بالرؤية وحينئذ لا يناسب عد ذلك نوعين كما فعل الشامي ومن ثم نسب ابن القيم هذاالنوع الثاني لبعضهم كالمتبرئ منه حيث قال وقد زاد بعضهم مرتبة ثانية وهي تكليم الله تعالى له صلى الله عليه وسلم كفاحا بغير حجاب هذا كلامه لأن ابن القيم ممن لا يقول بوجود الرؤية فما زاده بعضهم بناء على القول بوجود الرؤية كما علمت وحينئذ يكون هذا ليلة المعراج وعلى هذا جاء قوله تعالى { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا }
وقول ابن القيم السادسة أي من حالات الوحي ما أوحاه الله تعالى إليه وهو فوق السموات من فرض الصلوات وغيرها لأن ذلك إنما هو ليلة المعراج بغير واسطة ملك وهذا يحتمل لأن يكون من غير حجاب وأن يكون من وراء الحجاب فهي لم تخرج عما تقدم
وكذا قوله السابعة أي من حالات الوحي كلام الله تعالى منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم موسى أي من وراء حجاب فهي لم تخرج عما تقدم وحينئذ يكون كلمه صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج بواسطة الملك وكلمه بغير واسطة الملك من وراء حجاب ومشافهة من غير حجاب وصاحب المواهب نقل عن الولي العراقي كلاما فيه الإعتراض على ابن القيم بغير ما ذكر والجواب عنه وأقره مع ما في ذلك الكلام من النظر الظاهر الذي لا يكاد يخفى والله أعلم
قال الحافظ السيوطي وليس في القرآن من هذاالنوع أي مما شافهه به الحق تعالى من غير حجاب شيء فيما أعلم
نعم يمكن أن يعد منه آخر سورة البقرة أي آمن الرسول إلى آخر الآيات لأنها نزلت كما في الكامل للهذلي بقاب قوسين
وروى الديلمي قيل يا رسول الله أي آية في كتاب الله تحب أن تصيبك وأمتك قال آخر سورة البقرة فإنها من كنز الرحمن من تحت العرش ولم تترك خيرا في الدنيا والآخرة إلا اشتملت عليه ولعل هذا لا يعارض ما جاء في فضل آية الكرسي من قوله صلى الله عليه وسلم وقد قيل له يا رسول الله أي آية في كتاب الله تعالى أعظم قال آية الكرسي أعظم وما جاء عن الحسن رضي الله تعالى عنه مرسلا افضل القرآن البقرة وأفضل آية الكرسي وفي رواية أعظم آية فيها آية الكرسي وفي الجامع الصغير آية الكرسي ربع القرآن
ونزل في ذلك الموطن الذي هو قاب قوسين بعض سورة الضحى وبعض سورة ألم نشرح قال صلى الله عليه وسلم سألت ربي مسألة وودت أني لم أكن سألته سألت ربي اتخذت إبراهيم خليلا وكلمت موسى تكليما فقال يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك وضالا فهديتك وعائلا فأغنيتك وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك ورفعت لك ذكرك فلا أذكر إلا وتذكر معي انتهى
أقول قد يقال لا يلزم من النزول في قاب قوسين أن يكون مشافهة من غير حجاب وقوله فقال يا محمد ألم أجدك إلى آخره ليس هذا نص التلاوة وإن هذا ظاهر في أن المتلو الدال على ما ذكر نزل قبل ذلك وأن هذا تذكير به والله أعلم
ومن حالات الوحي أنه أوحى إليه بلا واسطة ملك مناما كما في حديث معاذ أتاني ربي وفي لفظ رأيت ربي في أحسن صورة أي خلقة فقال فيما يختصم الملأ الأعلى يا محمد قلت أنت أعلم أي رب فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديى فعلمت ما في السماء والأرض أي وفي كلام الشيخ محيى الدين بن العربي رضي الله تعالى عنه فهذا علم حاصل لا عن قوة من القوى الحسية أو المعنوية وهذا لا يبعد أن يقع مثله للأولياء بطريق الإرث أي تجلى له الحق بالتجلي الخاص الذي ما ذكر عبارة عنه وفي رواية فعلمت علم الأولين والآخرين أي ومن حالات الوحي رؤيا النوم قال صلى الله عليه وسلم رؤيا الأنبياء وحي كما تقدم
ومن حالاته العلم الذي يلقيه الله تعالى في قلبه عند الإجتهاد في الأحكام بناء على ثبوته لا بواسطة ملك وبذلك فارق النفث في الروع
وبذكر هذه الأنواع للوحي يعلم أن ما تقدم من حصره في الحالتين المذكورتين عند سؤال الحارث له صلى الله عليه وسلم أغلبي أو أن ما عداهما وقع بعد سؤال الحارث له
وفي ينبوع الحياة عن ابن جرير مانزل جبريل بوحي قط إلا وينزل معه من الملائكة حفظة يحيطون به وبالنبي الذي يوحى إليه يطردون الشياطين عنهما لئلا يسمعوا ما يبلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الغيب الذي يوحيه إليه فيلقوه إلى أوليائهم ثم رأيته في الإتقان ذكر أن من القرآن ما نزل معه ملائكة مع جبريل تشيعه من ذلك سورة الأنعام شيعها سبعون ألف ملك وفاتحة الكتاب شيعها ثمانون ألف ملك وآية الكرسي شيعها ثمانون ألف ملك وسورة يس شيعها ثلاثون ألف ملك { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } شيعها عشرون ألف ملك ولعل هذا لا ينافى ما تقدم من أن الغرض من تساقط النجوم عند البعثة حراسة السماء من استراق الشياطين لما يوحى لجواز أن يكون هذا لحفظ ما يوحى من إستراقه في الأرض وبين السماء والأرض
وعن النخعي إن أول سورة أنزلت عليه صلى الله عليه وسلم { اقرأ باسم ربك }
قال الإمام النووي وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف هذا كلامه ولا يخفى أن مراد النخعي بالسورة هنا القطعة من القرآن أي أول آيات أنزلت فلا ينافى ما تقدم من رواية عمرو بن شرحبيل مما يدل على أن أول سورة أنزلت فاتحة الكتاب لأن المراد أول سورة كاملة نزلت لا في شأن الإنذار فلا ينافي ما تقدم من رواية جابر ما يقتضى أن أول ما نزل { يا أيها المدثر } لأن المراد بذلك أول سورة كاملة نزلت في شأن الإنذار بعد فترة الوحي أي فإنها نزلت قبل تمام نزول سورة اقرأ وهذا الجمع تقدم الوعد به أي لكن يشكل عليه ما في الكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مانزل علي القرآن إلا آية آية وحرفا حرفا ما خلا سورة براءة وقل هو الله أحد فإنهما أنزلتا علي ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة فإن هذاالسياق يدل على أنه لم ينزل عليه صلى الله عليه وسلم سورة كاملة إلا براءة { قل هو الله أحد } ويخالفه ما في الإتقان أن مما نزل جملة سورة الفاتحة وسورة الكوثر وسورة تبت وسورة لم يكن وسورة النصر والمرسلات والأنعام لكن ذكر ابن الصلاح أن هذا روى بسند فيه ضعف قال ولم أر له إسنادا صحيحا
وقد روى ما يخالفه ولم يذكر في الإتقان مما نزل جملة سورة براءة وذكر أن المعوذتين نزلتا دفعة واحدة وحينئذ يكون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم إلا آية آية وحرفا حرفا أي كلمة والمراد بها ما قابل السورة وإلا فقد أنزل عليه ثلاث آيات وأربع آيات وعشر آيات كما أنزل آية وبعض آية فقد صح نزول { غير أولي الضرر } منفردة وهي بعض آية
وفي الإتقان عن جابر بن زيد قال أول ما أنزل الله تعالى من القرآن بمكة أقرأ { باسم ربك } ثم { ن والقلم } ثم { يا أيها المزمل } ثم { يا أيها المدثر } ثم الفاتحة إلى آخر ما ذكر
ثم قال قلت هذا السياق غريب وفي هذا الترتيب نظر وجابر بن زيد من علماء التابعين هذا كلامه وذكر بعض المفسرين أن سورة التين أول ما نزل من القرآن والله أعلم وما تقدم من أن نزول { يا أيها المدثر } كان في شأن الإنذار بعد فترة الوحي لأنه كان بعد نزول جبريل عليه باقرأ باسم ربك مكث مدة لا يرى جبريل
أي وإنما كان كذلك ليذهب ما كان يجده من الرعب وليحصل له التشوف إلى العود
ومن ثم حزن لذلك حزنا شديدا حتى غدا مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال فكلما وافى بذروة كي يلقى نفسه منها تبدي له جبريل عليه السلام فقال يامحمد إنك رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه أي قلبه وتقر نفسه ويرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا وافى ذروة جبل تبدى له مثل ذلك قال وفي رواية أنه لما فتر الوحي عنه صلى الله عليه وسلم حزن حزنا شديدا حتى كان يغدو إلى ثبير مرة وإلى حراء مرة أخرى يريد أن يلقى نفسه منه فكلما وافى ذروة جبل منهما كي يلقى نفسه تبدي له جبريل فقال يا محمد أنت رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه ويرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي عاد لمثل ذلك وكانت تلك المدة أربعين يوما وقيل خمسة عشر يوما وقيل اثنى عشر يوما وقيل ثلاثة أيام قال بعضهم وهو الأشبه بحاله عند الله تعالى انتهى
أقول ويبعد هذا الأشبه قوله فإذا طالت عليه فترة الوحي والله أعلم وفي الأصل وهذه الفترة لم يذكر لها ابن إسحاق مدة معينة
أقول في فتح الباري أن ابن إسحاق جزم بأنها ثلاث سنين والله أعلم
قال أبو القاسم السهيلي وقد جاء في بعض الأحاديث المسندة أن مدة هذه الفترة كانت سنتين ونصف سنة أي وفي كلام الحافظ ابن حجر وهذا الذي اعتمده السهيلي لا يثبت وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مدة الفترة كانت أياما أي وأقلها ثلاثة أي وتقدم ما فيه قال قال بعض الحفاظ والظاهر والله أعلم أنها أي مدة الفترة كانت بين اقرأ و { يا أيها المدثر } هي المدة التي اقترن معه فيها إسرافيل كما قال الشعبي انتهى
أقول ويوافق ذلك ما في الإستيعاب لإبن عبد البر أن الشعبي قال أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين وقرن بنبوته إسرافيل عليه الصلاة والسلام ثلاث سنين وقد تقدم ذلك
وفي الأصل عن الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي ولم ينزل القرآن أي شيء منه على لسانه ثم وكل به جبريل فجاءه بالوحي والقرآن وهو موافق في ذلك لما في سيرة شيخه الحافظ الدمياطي حيث قال قال بعض العلماء وقرن به إسرافيل ثم قرن به جبريل وهو
ظاهر في أن اقتران إسرافيل به كان بعد النبوة ويؤيده قوله ويأتيه بالكلمة من الوحي ومحتمل لأن يكون ذلك قبل النبوة فيوافق ما تقدم عن الماوردي لكن تقدم أنه كان يسمع حسه ولا يرى شخصه إلا أن يقال لا يلزم من كونه يتراءى له أن يراه وقوله يأتيه بالكلمة من الوحي هو معنى قوله يأتيه بالشيء بعد الشيء ثم رأيت الواقدي أنكر على الشعبي كون إسرافيل قرن به أولا وقال لم يقترن به من الملائكة إلا جبريل أي بعد النبوة ويحتمل مطلقا قال بعضهم ما قاله الشعبي هو الموافق لما هو المشهور المحفوظ الثابت في الأحاديث الصحيحة وخبر الشعبي مرسل أو معضل فلا يعارض ما في الأحاديث الصحيحة هذا كلامه
ثم رأيت الحافظ ابن حجر نظر في كلام الواقدي بأن المثبت مقدم على النافي إلا أن صحب النافي دليل نفيه فيقدم هذا كلامه
لا يقال قد وجد الدليل فقد جاء بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالس وعنده جبريل إذ سمع نغيضا أي هده من السماء فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال يا محمد هذا ملك قد نزل لم ينزل إلى الأرض قط قال جماعة من العلماء إن هذا الملك إسرافيل لأنا نقول هذا مجرد دعوى لا دليل عليها ولا يحسن أن يكون مستندهم في ذلك ما في الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد هبط على ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي ولا يهبط على أحد بعدي وهو إسرافيل فقال أنا رسول ربك الحديث
ومن ثم عد السيوطى من خصائصه صلى الله عليه وسلم هبوط إسرافيل عليه إذ ليس في ذلك دليل على أن إسرافيل لم يكن نزل إليه قبل ذلك حتى يكون دليلا على أن اقتران جبريل به سابق على اقتران إسرافيل به
هذا وفي كلام الحافظ السيوطي أن مجئ إسرافيل كان بعد ابتداء الوحي بسنتين قال كما يعرف ذلك من سائر طرق الأحاديث وهو بظاهره يرد ما في سفر السعادة أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغ تسع سنين أمر الله تعالى إسرافيل أن يقوم بملازمته
ولما بلغ إحدى عشرة سنة أمر جبريل بملازمته صلى الله عليه وسلم فلازمه تسعا وعشرين سنة فليتأمل
وعن يحيى بن بكير قال ما خلق الله خلقا في السموات أحسن صوتا من إسرافيل فإذا قرأ في السماء يقطع على أهل السماء ذكرهم وتسبيحهم
ثم رأيت في فتح الباري ليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين أي على ما تقدم ما بين نزول اقرأ ويا أيها المدثر عدم مجئ جبريل إليه بل تأخر نزول القرآن عليه فقط هذا كلامه أي فكان جبريل يأتى إليه بغير قرآن بعد مجيئة إليه باقرأ ولم يجئ إليه بالقرآن الذي هو يا أيها المدثر إلا بعد الثلاث سنين على ما تقدم ثم في تلك المدة مكث أياما لا يأتيه أصلا ثم جاءه بيا أيها المدثر فكان قبل تلك الأيام يختلف إليه هو وإسرافيل وهذا السياق كما لا يخفى يؤخذ منه عدم المنافاة بين كون مدة فترة الوحي ثلاث سنين كما يقول ابن إسحاق وسنتين ونصفا كا يقول السهيلي وسنتين كما يقول الحافظ السيوطى وبين كونها أياما أقلها ثلاثة وأكثرها أربعون كما تقدم عن ابن عباس لأن تلك الأيام هي التي كانت لا يرى فيها جبريل أصلا على ما تقدم أي ولا يرى فيها إسرافيل أيضا وفي غير تلك الأيام كان يأتيه بغير القرآن وحينئذ لا يحسن رد الحافظ فيما سبق على السهيلي وينبغي أن تكون تلك الأيام التي لا يرى فيها جبريل وإسرافيل هي التي يريد فيها أن يلقى نفسه من رءوس شواهق الجبال وهذا السياق أيضا يدل على أن النبوة سابقة على الرسالة بناء على أن الرسالة كانت بيا أيها المدثر ويصرح به ما تقدم من قول بعضهم نبأه بقوله { اقرأ باسم ربك } وأرسله بقوله { يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر } وأن بينهما فترة الوحي وعليه أكثر الروايات
وقيل النبوة والرسالة مقترنان ولعل من يقول بتلك يقول يا أيها المدثر دلت على طلب الدعوة إلى الله تعالى وهذا غير إظهار الدعوة والمفاجأة بها الذي دل عليه قوله تعالى { فاصدع بما تؤمر } فليتأمل
وذكر السهيلي أن من عادة العرب إذا قصدت الملاطفة أن تسمى المخاطب بإسم مشتق من الحالة التي هو عليها فلاطفه الحق سبحانه وتعالى بقوله { يا أيها المدثر } فبذلك علم رضاه الذي هو غاية مطلوبه وبه كان يهون عليه تحمل الشدائد ومن هذه الملاطفة قوله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وقد نام وترب جنبه قم يا أبا تراب وقوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة في غزوة أحد وقد نام إلى الإسفار قم يا نومان
وذكر الشيخ محيى الدين بن العربي في قوله تعالى { يا أيها المدثر قم فأنذر } أعلم أن التدثر إنما يكون من البرودة التي تحصل عقب الوحي وذلك أن الملك إذا ورد على النبي صلى الله عليه وسلم بعلم أو حكم تلقى ذلك الروح الإنساني وعند ذلك تشتعل الحرارة الغريزية فيتغير الوجه لذلك وتنتقل الرطوبات إلى سطح البدن لاستيلاء الحرارة فيكون من ذلك العرق فإذا سرى عنه ذلك سكن المزاج وانقشعت تلك الحرارة وانفتحت تلك المام وقبل الجسم الهواء من خارج فيتحلل الجسم فيبرد المزاج فتأخذه القشعريرة فتزاد عليه الثياب ليسخن هذا ملخص كلامه
وذكر بعضهم في تفسير قوله تعالى { وثيابك فطهر } أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي نفعنا الله تعالى ببركاته قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقال يا أبا الحسن طهر ثيابك من الدنس تحظ بمدد الله تعالى في كل نفس فقلت يا رسول الله وما ثيابي قال إن الله كساك حلة التوحيد وحلة المحبة وحلة المعرفة قال ففهمت حينئذ قوله تعالى { وثيابك فطهر }
وجاء في وصف إسرافيل في بعض الأحاديث لا تفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة فإن خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى وقد مرق رأسه من سبع سموات وإنه ليتضاءل من عظمة الله تعالى حتى يصير كأنه الوصع فهو عند نزوله يكون حاملا لزاوية العرش أو يخلفه غيره من الملائكة في ذلك & باب ذكر وضوئه وصلاته صلى الله عليه وسلم أول البعثة
أي أول الإرسال إليه باقرأ
أقول في المواهب أنه روى أن جبريل عليه الصلاة والسلام بدا له صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة وأطيب رائحة فقال له يا محمد إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول لك أنت رسول الله إلى الجن والإنس فادعهم إلى قول لا إله إلا الله ثم ضرب برجله
الأرض فنبعت عين ماء فتوضأ منها جبريل ثم أمره أن يتوضأ وقام جبريل يصلى وأمره أن يصلى معه فعلمه الوضوء والصلاة الحديث
وقوله فعلمه الوضوء يحتمل أن يكون بفعله المذكور ويحتمل أن يكون علمه بقوله افعل كذا في وضوئك وصلاتك ويدل للأول ما سيأتي
وفيه أن قول جبريل المذكور إنما كان عند أمره بإظهار الدعوة والمفاجأة بها إلى الله تعالى بعد فترة الوحي كما سيأتي فالجمع بينه وبين قوله ثم ضرب برجله الأرض إلى آخره لا يحسن لأنه سيأتي أن ذلك كان في يوم نزوله له { اقرأ باسم ربك } ولعله من تصرف بعض الرواة والله أعلم
فعن ابن إسحاق حدثني بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على النبي صلى الله عليه وسلم أي قبل الإسراء أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل و رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ليريه كيف الطهور أي الوضوء للصلاة أي فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه وغسل رجليه إلى الكعبين كما في بعض الروايات أي وفي رواية فغسل كفيه ثلاثا ثم تمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثم غسل يديه إلى المرفقين ثم مسح رأسه ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ مثل وضوئه
أقول وبهذه الرواية يرد قول بعضهم إن النبي صلى الله عليه وسلم زاد في الوضوء التسمية وغسل الكفين والمضمضة والإستنشاق ومسح جميع الرأس والتخليل ومسح الأذنين والتثليث إلا أن يقال مراد هذا البعض أن ما ذكر زاده على ما في الآية وفي كلام بعضهم كانت العرب في الجاهلية يغتسلون من الجنابة ويداومون على المضمضة والإستنشاق والسواك والله أعلم
ثم قام جبريل فصلى به صلى الله عليه وسلم ركعتين يحتمل أن تلك الصلاة كانت بالغداة قبل طلوع الشمس ويحتمل أنها كانت بالعشي أي قبل غروب الشمس وفي الإمتاع وإنما كانت الصلاة قبل الإسراء صلاة بالعشي أي قبل غروب الشمس ثم صارت صلاة بالغداة وصلاة بالعشي ركعتين أي ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى والعشى هو العصر
ففي كلام بعض أهل اللغة العصر والعشاء والعصران الغداة والعشى وكانت صلاته
صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة واستقبل الحجر الأسود أي جعل الحجر الأسود قبالته وهذا يدل على أنه لم يستقبل في تلك الصلاة بيت المقدس لأنه لا يكون مستقبلا لبيت المقدس إلا إذا صلى بين الركنين الأسود واليماني كما كان يفعل بعد فرض الصلوات الخمس وهو بمكة كما سيأتي أنه كان يصلي بين الركنين الركن اليماني والحجر الأسود ويجعل الكعبة بينه وبين الشام أي بينه وبين بيت المقدس أي صخرته إلا أن يقال يجوز أن يكون عند صلاته إلى الكعبة كان بينهما إلا أنه كان إلى الحجر الأسود أقرب منه إلى اليماني فقيل استقبل الحجر الأسود فلا مخالفة لكن سيأتي ما قد يفيد أنه لم يستقبل بيت المقدس إلا في الصلوات الخمس أي بعد الإسراء وقبل ذلك كان يستقبل الكعبة إلى أي جهة من جهاتها ولما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة جبريل قال جبريل هكذا الصلاة يا محمد ثم انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة وأخبرها فغشي عليها من الفرح فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه حبريل فتوضأت كما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صلى به جبريل عليه الصلاة والسلام
وفي سيرة الحافظ الدمياطي ما يفيد أن ذلك كان في يوم نزول جبريل عليه الصلاة والسلام له ب { اقرأ باسم ربك } حيث قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين وصلى فيه وصلت خديجة آخر يوم الإثنين ويوافقه ظاهر ما جاء أتاني جبريل في أول ما أوحى إلي فعلمني الوضوء والصلاة فلما فرغ الوضوء أخذ غرفة من الماء فنضح بها فرجه أي رش بها فرجه أي محل الفرج من الإنسان بناء على أنه لا فرج له وكون الملك لا فرج له لو تصور بصورة الإنسان استدل عليه بأنه ليس ذكر أو لا أنثى وفيه نظر لأنه يجوز أن يكون له آلة ليست كآلة الذكر ولا كآلة الأنثى كما قيل بذلك في الخنثى ويقال لذلك فرج
وبعض شراح الحديث حمل الفرج على ما يقابل الفرج من الإزار وبذلك استدل أئمتنا على أنه يستحب لمن استنجى بالماء أن يأخذ بعض الإستنجاء كفا من ماء ويرش في ثيابه التي تحاذى فرجه حتى إذا خيل له أن شيئا خرج ووجد بلللا قدر أنه من ذلك الماء ولعل هذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم علمني جبريل الوضوء وأمرني أن أنضح تحت ثوبي مما يخرج من البول بعد الوضوء أي دفعا لتوهم خروج شيء من البول بعد الوضوء لو وجد بلل بالمحل
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان ينضح سراويله حتى يبلها وما جاء أنه لما أقرأه باسم ربك قا له جبريل انزل عن الجبل فنزل معه إلى قرار الأرض قال فأجلسني عن درنوك بالدال المهملة والراء والنون أي وهو نوع من البسط ذو خمل ثم ضرب برجله الأرض فنبعت عين ماء فتوضأ منها جبريل الحديث فمشروعية الوضوء كانت مع مشروعية الصلاة التي هي غير الخمس وإن ذلك كان في يوم نزول جبريل باقرأ وهو مخالف لقول ابن حزم لم يشرع الوضوء إلا بالمدينة
ومما يرد ما قاله ابن حزم نقل ابن عبدالبر اتفاق أهل السير على أنه لم يصل صلى الله عليه وسلم قط إلا بوضوء قال وهذا مما لا يجهله عالم هذا كلامه إلا أن يقال مراد ابن حزم أنه لم يشرع وجوبا إلا في المدينة وهو الموافق لقول بعض المالكية إنه كان قبل الهجرة مندوبا أي وإنما وجب بالمدينة بآية المائدة { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم } الآية
ويرده ما في الإتقان أن هذه الآية مما تأخر نزوله عن حكمه يعنى قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } إلى قوله { لعلكم تشكرون } فالآية مدنية إجماعا وفرض الوضوء كان بمكة مع فرض الصلاة أي فالوضوء على هذا مكي بالفرض مدني بالتلاوة
قال والحكمة في ذلك أي في نزول الآية بعد تقدم العمل لما يدل عليه أن تكون قرآنيته متلوة هذا كلامه
وقوله مع فرض الصلاة يحتمل أن المراد صلاة الركعتين بناء على أنهما كانتا واجبتين عليه صلى الله عليه وسلم وهو الموافق لما تقدم عن ابن إسحاق ويحتمل أن المراد الصلاة الخمس أي ليلة الإسراء وهو الموافق لما اقتصر عليه شيخنا الشمس الرملي حيث قال وكان فرضه مع فرض الصلاة قبل الهجرة بسنة هذا كلامه وحينئذ يكون قبل ذلك مندوبا حتى في صلاة الليل
وقول صاحب المواهب ما ذكر من أن جبريل عليه الصلاة والسلام علمه الوضوء وأمره به يدل على أن فرضية الوضوء كانت قبل الإسراء فيه نظر ظاهر إذ لا دلالة في ذلك على الفرضية إذ يحتمل أي يكون اللفظ الصادر من جبريل له أمرتك أن تفعل كفعلي وصيغة أمره مشتركة بين الوجوب والندب
وذكر بعضهم أن الغرض من نزول آية المائدة بيان أن من لم يقدر على الوضوء والغسل لمرض أو لعدم الماء يباح له التيمم أي ففرضية الوضوء والغسل سابقة على نزولها ويؤيد ذلك قول عائشة رضي الله تعالى عنها في الآية فانزل الله تعالى آية التيمم ولم تقل آية الوضوء وهي هي لأن الوضوء كان مفروضا قبل أن توجد تلك الآية ويوافقه ما ذكره ابن عبد البر من اتفاق أهل السير على أن الغسل من الجنابة فرض عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ما يقتضى أن فرض الغسل كان مع فرض الصلوات ليلة الإسراء فقد جاء عنه كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرات فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعل الصلاة خمسا والغسل من الجنابة مرة قال بعض فقهائنا رواه أبو داود ولم يضعفه وهو إما صحيح أو حسن قال ذلك البعض ويجوز أن يكون المراد بها أي الغرض من نزولها فرض غسل الرجلين في قراءة من قرأ { وأرجلكم } بالنصب فإن حديث جبريل ليس فيه إلا مسحهما أي وهو أن جبريل أول ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي توضأ فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح رأسه ورجليه إلى الكعبين وسجد سجدتين أي ركع ركعتين مواجهة البيت ففعل النبي صلى الله عليه وسلم كما يرى جبرل يفعله هذا كلامه وفيه نظر لأن أكثر الروايات وغسل رجليه كما تقدم فرجليه في هذه الرواية معطوفة على وجهه كما أن أرجلكم في الآية على قراءة الجر معطوفة على الوجوه وإنما جر للمجاورة وإن كان الجر للمجاورة في غير النعت قليلا أو عبر عن الغسل الخفيف بالمسح
وفي كلام الشيخ محيى الدين مسح الرجلين في الوضوء بظاهر الكتاب وغسلهما بالسنة المبينة للكتاب قال ويحتمل العدول عن الظاهر بناء على أن المسح فيه يقال للغسل فيكون من الألفاظ المترادفة وفتح أرجلكم لايخرجها عن الممسوح فإن هذه الواو قد تكون واو المعية
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة أي عملا بظاهر قوله تعالى { إذا قمتم إلى الصلاة } الآية فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد فقال له سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال عمدا فعلته
يا عمر أي للإشارة إلى جواز الإقتصار على وضوء واحد للصلوات الخمس وجواز ذلك ظاهر في نسخ وجوب الوضوء عليه لكل صلاة ويوافقه قول بعضهم قيل كان ذلك الوضوء لكل صلاة واجبا عليه ثم نسخ هذا كلامه أي ويؤيده ذلك ظاهر ما جاء أنه أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر فلما شق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم وضع عنه الوضوء إلا من حدث أي ويكون وقت المشقة يوم فتح مكة لما علمت أنه لم يترك الوضوء لكل صلاة إلا حينئذ وهذا السياق يدل على أن وجوب الوضوء لكل صلاة كان من خصوصياته صلى الله عليه وسلم
ويدل لذلك ما روى عن أنس رضي الله تعالى عنه كان رسول الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة قيل لهم كيف تصنعون أي هل كنتم تفعلون كفعله صلى الله عليه وسلم قال يجزى أحدنا الوضوء ما لم يحدث أي فوجب الوضوء لكل صلاة كان من خصوصياته صلى الله عليه وسلم وذكر فقهاؤنا أن الغسل كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم لكل صلاة فنسخ بالنسبة للحدث الأصغر تخفيفا فصار الوضوء بدلا عنه ثم نسخ الوضوء لكل صلاة فظاهر سياقهم يقتضى أن وجوب الغسل ثم الوضوء لكل صلاة كان عاما في حقه صلى الله عليه وسلم وحق أمته ويحتاج إلى بيان وقت نسخ وجوب الغسل في حقه صلى الله عليه وسلم وحق أمته وبيان وقت نسخ وجوب الوضوء لكل صلاة في حق الأمة ومنه يعلم أن نسخ وجوب الوضوء لكل صلاة يكون بالنسبة للأمة ثم بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا يشكل قول فقهائنا الآية تقتضي وجوب الطهر بالماء أو التراب لكل صلاة خرج الوضوء بالسنة أي بماتقدم من فعله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وبتجويزه صلى الله عليه وسلم للأمة أن يصلى الواحد منهم الصلوات بوضوء واحد وبقى التيمم على مقتضى الآية فقد وقع النسخ أولا بالنسبة للأمة ثم ثانيا بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم ولعل وجوب الغسل لكل صلاة كان بوحي غير قرآن أو بإجتهاد
ولا يخفى أن كون ظاهر الآية يقتضى وجوب الوضوء والتيمم لكل صلاة إنما هو بقطع النظر عما نقله إمامنا رضي الله تعالى عنه عن زيد بن أسلم أن الآية فيها تقديم وحذف وأن التقدير { إذا قمتم إلى الصلاة } من النوم { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء } { فاغسلوا وجوهكم } الآية والله أعلم
وعن مقاتل بن سليمان فرض الله تعالى في أول الإسلام الصلاة ركعتين بالغداة أي قبل طلوع الشمس وركعتين بالعشى أي قبل غروب الشمس
أقول إن كان المراد بأول الإسلام نزول جبريل عليه بأقرأ يرد ما تقدم عن الإمتاع أن أول ما وجب ركعتان بالعشي ثم صارت صلاة بالغداة وصلاة بالعشي ركعتين إلا أن يراد الأولية الإضافية
وفي بعض الأحاديث ما يدل على أن وجوب الركعتين كان خاصا به صلى الله عليه وسلم دون أمته
منها قوله صلى الله عليه وسلم أول ما افترض الله على أمتي الصلوات الخمس وفيه أنه افترض عليها قبل ذلك صلاة الليل ثم نسخ بالصلوات الخمس
وفي الإمتاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الكعبة أول النهار فيصلى صلاة الضحى وكانت صلاة لا تنكرها قريش وكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فرادى ومثنى أي فيصلون صلاة العشي وكانوا يصلون الضحى والعصر ثم نزلت الصلوات الخمس هذا كلامه وهو يفيد أن الركعتين الأوليين كان يصليهما وقت الضحى لا قبل الشمس فليتأمل والله أعلم ثم فرضت الخمس ليلة المعراج
وذهب جمع إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة أي لا عليه ولا على أمته إلا ما وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد أي بقوله تعالى { فاقرؤوا ما تيسر } أي صلوا
أقول وهو الناسخ لما وجب قبل ذلك من التحديد في أول السورة الحاصل بقوله { قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه } وقد نسخ قيام الليل بالصلوات الخمس ليلة الإسراء ولم يذكر أئمتنا وجوب صلاة الركعتين عليه صلى الله عليه وسلم بل قالوا أول ما فرض عليه الإنذار والدعاء إلى التوحيد ثم فرض عليه قيام الليل المذكور في أول سورة المزمل ثم نسخ بما في آخرها ثم نسخ بالصلوات الخمس وهو مخالف لما تقدم عن ابن إسحاق من وجوب صلاة الركعتين عليه ويوافقه قول ابن كثير في قولهم ماتت خديجة قبل أن تفرض الصلوات مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء
قال بعضهم وإنما قال ذلك لأن أصل الصلاة في حياة خديجة الركعتين بالغداة والركعتين بالعشي
وفي كلام ابن حجر الهيتمي لم يكلف الناس إلا بالتوحيد فقط ثم استمر على ذلك مدة مديدة ثم فرض عليهم من الصلاة ما ذكر في سورة المزمل ثم نسخ ذلك كله بالصلوات الخمس ثم لم تكثر الفرائض وتتابع إلا بالمدينة ولما ظهر الإسلام وتمكن في القلوب وكان كلما زاد ظهورا وتمكن ازدادت الفرائض وتتابعت هذا كلامه
ولم أقف على ما كان يقرأ في صلاة الركعتين قبل فترة الوحي وبعدها وقبل نزول الفاتحة بناء على تأخر نزولها عن ذلك كما هو الراجح ثم رأيته في الإتقان ذكر أن جبريل حين حولت القبلة أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفاتحة ركن في الصلاة كما كانت بمكة هذا كلامه وينبغى حمله على الصلوات الخمس وحينئذ يكون ما تقدم من قول بعضهم لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة محمولا على ذلك أيضا وقد تقدم ذلك والله أعلم & باب ذكر أول الناس إيمانا به صلى الله عليه وسلم
أي بعد البعثة أي الرسالة وهي المرادة عند الإطلاق بناء على أنها مقارنة للنبوة
لا يخفى أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث أخفى أمره وجعل يدعو إلى الله سرا وابتعه ناس عامتهم ضعفاء من الرجال والنساء وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم إن هذا الدين بدا غريبا وسيعود كما بدا فطوبى للغرباء ولا يخفى أن أهل الأثر وعلماء السير على أن أول الناس إيمانا به صلى الله عليه وسلم على الإطلاق خديجة رضي الله تعالى عنها
أقول نقل الثعلبي المفسر إتفاق العلماء عليه وقال النووي إنه الصواب عند جماعة من المحققين وقال ابن الأثير خديجة أول خلق الله تعالى أسلم بإجماع المسلمين لم يتقدمها رجل ولا امرأة
وفيه أن بناته الأربع كن موجودا عند البعثة ويبعد تأخر إيمانهن إلا أن يقال خديجة تقدم لها إشراك بخلافهن أخذا مما يأتي
وعن ابن إسحاق أن خدجة كانت أول من آمن بالله ورسوله وصدقت ما جاء به عن الله تعالى وكان لا يسمع شيئا يكرهه من قومه إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها فأخبرها به
ثم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ففي المرفوع عن سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أول هذه الأمة ورودا على الحوض أولها إسلاما علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وجاء أنه لما زوجه فاطمة قال لها زوجتك سيدا في الدنيا والآخرة وإنه لأول صحابي إسلاما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما وكان لم يبلغ الحلم كما سيأتي حكاية الإجماع عليه كان سنه ثمان سنين وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه يطعمه ويقوم بأمره لأن قريشا كان أصابهم قحط شديد وكان أبو طالب كثير العيال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال والناس فيما ترى من الشدة فانطلق بنا إليه فلنخفف من عياله تأخذ واحدا وأنا واحدا فجاءا إليه وقالا إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما أبو طالب إذا تركتما لي عقيلا قيل وطالبا فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله تعالى عنه فضمه إليه وأخذه العباس جعفرا فضمه إليه وتركا له عقيلا وطالبا فلم يزل علي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي خصائص العشرة للزمخشري أن النبي صل الله عليه وسلم تولى تسميته بعلي وتغذيته أياما من ريقه المبارك بمصه لسانه فعن فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله تعالى عنها أنا قالت لما ولدته سماه عليا وبصق في فيه ثم إنه ألقمه لسانه فما زال يمصه حتى نام قالت فلما كان من الغد طلبنا له مرضعة فلم يقبل ثدي أحد فدعونا له محمدا صلى الله عليه وسلم فألقمه لسانه فنام فكان كذلك ما شاء الله عز وجل هذا كلامه فليتأمل
وعنها رضي الله تعالى عنها أنها في الجاهلية أرادت أن تسجد لهبل وهي حامل بعلي فتقوس في بطنها فمنعها من ذلك وكان علي رضي الله تعالى عنه أصغر إخوته فكان بينه وبين أخيه جعفر عشر سنين وبين جعفر وبين أخيه عقيل كذلك وبين عقيل وأخيه طالب ذلك أيضا فكل أكبر من الذي بعده بعشر سنين فأكبرهم طالب ثم عقيل ثم جعفر ثم علي أي وكلهم أسلموا إلا طالبا فإنه اختطفته الجن فذهب ولم يعلم إسلامه
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لعقيل لما أسلم يا أبا يزيد إني أحبك حبين حبا لقرابتك مني وحبا لما كنت أعلم لحب عمي إياك
وكان عقيل أسرع الناس جوابا وأبلغهم في ذلك قال له معاوية يوما أين ترى عمك أبا لهب من النار فقال إذا دخلتها يا معاوية فهو على يسارك مفترضا عمتك حمالة الحطب والراكب خير من المركوب
ولما وفد على معاوية وقد غضب من أخيه علي لما طلب منه عطاءه وقال له اصبر حتى يخرج عطاؤك مع المسلمين فأعطيك فقال له لأذهبن إلى رجل هو أوصل إلى منك فذهب إلى معاوية فأعطاه مائة ألف درهم ثم قال له معاوية اصعد المنبر فاذكر ما أولاك علي وما أوليتك فصعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إني أخبركم أني أردت عليا على دينه فاختار دينه وإني أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه وفي رواية أن معاوية قال لجماعة يوما بحضرة عقيل هذا أبو يزيد يعنى عقيلا لولا علمه بأني خير له من أخيه لما أقام عندنا وتركه فقال عقيل أخي خير لي في ديني وأنت خير لي في دنياي وأسأل الله تعالى خاتمه الخير توفى عقيل في خلافة معاوية
قال وسبب إسلام على كرم الله وجهه أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه خديجة وهما يصليان سرا فقال ماهذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دين الله الذي اصطفاه لنفسه وبعث به رسله فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وإلى الكفر باللات والعزى فقال علي هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم فلست بقاض أمرا حتى أحدث أبا طالب وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره فقال له يا علي إذا لم تسلم فاكتم هذا فمكث ليلته ثم إن الله تبارك وتعالى هداه للإسلام فأصبح غاديا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم اه
أقول وذلك في اليوم الثاني من صلاته صلى الله عليه وسلم هو وخديجة وهو يوم الثلاثاء كما في سيرة الدمياطي أي لأنه تقدم أن صلاته صلى الله عليه وسلم مع خديجة كانت آخر يوم الإثنين وهذا إنما يأتي على القول بأن النبوة والرسالة تقارنتا لا على أن الرسالة تأخرت عن النبوة وأن بينهما فترة الوحي على ما تقدم
وفي أسد الغابة أن أبا طالب رأى النبي صلى الله عليه وسلم وعليا يصليان وعلي على يمينه فقال لجعفر رضي الله الله تعالى عنه صل جناح ابن عمك فصلى عن يساره وكان إسلام جعفر بعد إسلام أخيه علي بقليل قال بعضهم وإنما صح إسلام علي أي مع أنهم أجمعوا على أنه لم يكن بلغ الحلم أي ومن ثم نقل عنه أنه قال
** سبقتكمو إلى الإسلام طرا ** صغيرا ما بلغت أوان حملي **
أي كان عمره ثمان سنين على ما سبق لأن الصبيان كانوا إذ ذاك مكلفين لأن القلم إنما رفع عن الصبي عام خيبر
وعن البيهقي أن الأحكام إنما تعلقت بالبلوغ في عام الخندق وفي لفظ في عام الحديبية وكانت قبل ذلك منوطة بالتمييز
هذا وقد ذكر أنه لم يحفظ عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال شعرا وقيل لم يقل إلا بيتين أي ولعل أحدهما ما تقدم ثم رأيت عن القاموس أن البيتين هما قوله ** تلكم قريش تمنانى لتقتلني ** فلا وربك ما بروا ولا ظفروا ** ** فإن هلكت فرهن مهجتي لهمو ** بذات ودقين لا تبقى ولا تذر **
وذات ودقين هي الداهية وقد ذكر أن الزبير بن العوام أسلم وهو ابن ثمان سنين وقيل ابن خمس عشرة سنة وقيل ابن اثنتي عشرة سنة وقيل ابن ست عشرة سنة
ومما يدل للأول ما جاء عن بعضهم كان علي والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص ولدوا في عام واحد
ومن العجب أن الزمخشري في خصائص العشرة اقتصر على أن سن الزبير حين أسلم ست عشرة سنة وذكر بعد ذلك بأسطر أنه أول من سل سيفا في سبيل الله وهو ابن اثنتي عشرة سنة مقتصرا على ذلك
ومما يدل للأول أيضا ما جاء في كلام بعض آخر أسلم علي بن أبي طالب والزبير ابن العوام وهما ابنا ثمان سنين وإجماعهم على أن عليا لم يكن بلغ الحلم يرد القول بأن عمره كان إذ ذاك عشر سنين أي بناء على أن سن إمكان الإحتلام تسع سنين كما تقول به أئمتنا
ويوافقه ما حكاه بعضهم أن الراشد بالله وهو الحادي والثلاثون من خلفاء بني العباس لما كان عمره تسع سنين وطئ جارية حبشية فحملت منه فولدت ولدا حسنا ويرد القول بأن سنه إذا ذاك كان ثلاث عشرة أو خمس عشرة أو ست عشرة سنة
أقول قال بعض متأخري أصحابنا وإنما صحت عبادة الصبي المميز ولم يصح إسلامه لأن عبادته نفل والإسلام لا يتنفل به وعلى هذا مع ما تقدم يشكل ما في الإمتاع وأما
على بن أبي طالب فلم يكن مشركا بالله أبدا لأنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفالته كأحد أولاده يتبعه في جميع أموره فلم يحتج أن يدعى للإسلام فيقال أسلم هذا كلامه فليتأمل فإن عليا كان تابعا لأبيه في دينه ولم يكن تابعا له صلى الله عليه وسلم كأولاده
وقوله فلم يحتج أن يدعى للإسلام يرده ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم له أدعوك إلى الله وحده إلى آخره
ثم رأيت في الحديث ما يدل لما في الإمتاع وهو ثلاثة ما كفروا بالله قط مؤمن آل يس وعلي بن أبي طالب وآسية أمرأة فرعون
والذي في العرائس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين حزقيل مؤمن آل فرعون وحبيب النجار صاحب يس وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم وهو أفضلهم إلا أن يراد بعدم كفرهم أنهم لم يسجدوا لصنم وفيه أنه قد يخالف ذلك قوله صلى الله عليه وسلم له وأدعوك إلى الكفر باللات والعزى وأنه قيل أيضا إن أبا بكر لم يسجد لصنم قط
وقد عد ابن الجوزي من رفض عبادة الأصنام الجاهلية أي لم يأت بها أبا بكر الصديق وزيد بن عمرو بن نفيل وعبيدالله بن جحش وعثمان بن الحويرث وورقة بن نوفل ورباب بن البراء وأسعد بن كريب الحميري وقس بن ساعدة الإيادي وأبا قيس ابن صرمة ولا يخفى أن عدم السجود للأصنام لا ينافي الحكم بالكفر على من لم يسجد لها لكن في كلام السبكي الصواب أن يقال الصديق لم يثبت عنه حال كفر بالله تعالى فلعل حاله قبل البعث كحال زيد بن عمرو بن نفيل وأضرابه فلذلك خص الصديق بالذكر عن غيره من الصحابة هذا كلامه وهو واضح إذا لم يكن أحد من جميع من ذكر أسلم
وفي كلام الحافظ ابن كثير الظاهر أن أهل بيته صلى الله عليه وسلم آمنوا قبل كل أحد خديجة وزيد وزوجة زيد أم أيمن وعلي رضي الله تعالى عنهم فليتأمل قوله آمنوا قبل كل أحد وكذا يتأمل قول ابن إسحاق أما بناته صلى الله عليه وسلم فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن
وعن ابن إسحاق ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا
حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه على مستخفيا من قومه فيصليان فيهما فإذا أمسيا رجعا كذلك ثم إن أبا طالب عثر أي اطلع عليهما يوما وهما يصليان أي بنخلة المحل المعروف فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا ابن أخي ما هذا الذي أراك تدين به فقال هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين أبينا إبراهيم بعثني الله به رسولا إلى العباد وأنت أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني إلى الله تعالى وأعانني عليه فقال أبو طالب إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه وفي رواية انه قال له ما بالذي تقول من بأس ولكن والله لا تعلوني أستى أبدا وهذا كما لا يخفى ينبغي أن يكون صدر منه قبل ما تقدم من قوله لإبنه جعفر صل جناح ابن عمك وصل على يساره لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وعليا علي يمينه لكن يروى أن عليا رضي الله تعالى عنه ضحك يوما وهو على المنبر فسئل عن ذلك فقال تذكرت أبا طالب حين فرضت الصلاة ورآني أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة فقال ما هذا الفعل الذي أرى فلما أخبرناه قال هذا حسن ولكن لا أفعله أبدا إني لا أحب أن تعلوني أستى فلما تذكرت الآن قوله ضحكت وقوله حين فرضت الصلاة يعني الركعتين بالغداة والركعتين بالعشي وهذا يؤيد القول بأن ذلك كان واجبا
وذكر أن أبا طالب قال لعلي أي بني ما هذا الذي أنت عليه فقال يا أبت آمنت بالله ورسوله وصدقت ما جاء به ودخلت معه واتبعته فقال له أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه
أي ويذكر أنه كان يقول إني لأعلم أن ما يقوله ابن أخي لحق ولولا أني أخاف أن تعيرني نساء قريش لأتبعته
وعن عفيف الكندي رضي الله تعالى عنه قال كنت امرأ تاجرا قدمت للحج وأتيت العباس بن عبدالمطلب لأبتاع منه بعض التجارة وكان العباس لي صديقا وكان يختلف إلى اليمن يشتري العطر ويبيعه أيام الموسم فبينما أنا عند العباس بمنى أي وفي لفظ بمكة في المسجد إذا رجل مجتمع أي بلغ أشده خرج من خباء قريب منه فنظر إلى الشمس فلما رآها مالت توضأ فأسبع الوضوء أي أكمله ثم قام يصلى أي إلى الكعبة كما في بعض الروايات ثم خرج غلام مراهق أي قارب البلوع فتوضأ ثم قام إلى جنبه
يصلي ثم جاءت امرأة من ذلك الخباء فقامت خلفهما ثم ركع الرجل وركع الغلام وركعت المرأة ثم خر الرجل ساجدا وخر الغلام وخرت المرأة فقلت ويحك يا عباس ما هذا الدين فقال هذا دين محمد بن عبدالله أخي يزعم أن الله بعثه رسولا وهذا ابن أخي علي بن أبي طالب وهذه امرأته خديجة قال عفيف بعد أن أسلم يا ليتني كنت رابعا أي ولعل زيد بن حارثة لم يكن موجودا عندهم في ذلك الوقت فلا ينافي أنه كان يصلي معهم أو أن ذلك كان قبل إسلامه لأنه سيأتي قريبا أن إسلامه بعد إسلام علي وكذا أبو بكر لم يكن موجودا عندهم بناء على أن إسلامه كان قبل إسلام علي ويؤيده ما قيل أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر لكن في الإستيعاب لإبن عبد البر أن العباس قال لعفيف الكندي لما قال له ما هذا الذي يصنع قال يصلى وهو يزعم أنه نبي ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الغلام
وفيه أن عليا قال لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة خمس سنين أي ولعل المراد أنه عبده بغير الصلاة
وقوله في هذا الحديث فنظر إلى الشمس فلما رآها مالت توضأ وصلى قد يخالف ما تقدم من أن فرض الصلاة كان ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي قبل غروب الشمس فقط
أقول قد يقال لامخالفة لأنه يجوز أن تكون صلاته في الوقت ليست مما فرض عليه والجماعة في ذلك جائزة وقد فعلها صلى الله عليه وسلم في النفل المطلق وهذا يدل على أن الجماعة كانت مشروعة بمكة حتى في صدر الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس
وفي كلام بعض فقهائنا أنها لم تشرع إلا في المدينة دون مكة لقهر الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلا أن يقال المراد بمشروعيتها طلبها فكانت في المدينة مطلوبة استحبابا أو وجوبا كفاية أو عينا على الخلاف عندنا في ذلك وفي مكة كانت مباحة لكن في كلام بعض آخر من فقهائنا أن الجماعة لم تفعل بمكة لقهر الصحابة وفيه أن القهر إنما ينافى إظهار الجماعة لا فعلها إلا أن يقال تركت حسما للباب وفيه أنه يبعد تركها وهم مستخفون في دار الأرقم فليتأمل والله أعلم
ثم بعد إسلام علي رضي الله تعالى عنه أسلم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم زيد بن حارثة بن شرحبيل
وقال ابن هشام شرحبيل مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له خديجة أي لما تزوجها صلى الله عليه وسلم أي وكان اشتراه لها ابن أخيها حكيم بن حزام ممن سباه من الجاهلية أي فإن عمته خديجة أمرته أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا فلما قدم سوق عكاظ وجد زيدا يباع أي وعمره ثمان سنين فإنه أسر من عند أخواله طى وعليه اقتصر السهيلي
فإن أمه لما خرجت به لتزيره أهلها فأصابته خيل فباعوه فاشتراه أي وقيل اشتراه من سوق حباشنة بأربعمائة درهم ويقال بستمائة درهم فلما رأته خديجة أعجبها فأخذته أي ولعل هذا مراد من قال فباعه من عمته خديجة أي اشتراه لها فلما تزوجها صلى الله عليه وسلم وهو عندها أعجب به فاستوهبه منها فوهبته له فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبناه قبل الوحي
أي وقيل اشتراه صلى الله عليه وسلم لها فإنه جاء إلى خديجة فقال رأيت غلاما بالبطحاء قد أوقفوه ليبيعوه ولو كان لي ثمنه لأشتريته قالت وكم ثمنه قال سبعمائة درهم قالت خذ سبعمائة درهم فاذهب فاشتره فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء به إليها وقال إنه لو كان لي لأعتقته قالت هو لك فأعتقه وقيل بل اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشام لخديجة حيث توجه مع ميسرة فوهبته له فليتأمل ذلك
وزعم أبو عبيدة أن زيد بن حارثة لم يكن أسمه زيدا ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سماه بذلك باسم جده قصي حين تبناه
ثم إنه خرج في إبل لأبي طالب إلى الشام فمر بأرض قومه فعرفه عمه فقام إليه وقال من أنت يا غلام قال غلام من أهل مكة قال من أنفسهم قال لا قال فحر أنت أم مملوك قال مملوك قال عربي أنت أم أعجمي قال بل عربي قال من أهلك قال من كلب قال من أي كلب قال من بني عبد ود قال ويحك ابن من أنت قال ابن حارثة بن شرحبيل قال وأين أصبت قال في أخوالي قال ومن أخوالك قال طي قال ما اسم أمك قال سعدى فالتزمه وقال ابن حارثة
ودعا أباه فقال يا حارثة هذا ابنك فأتاه حارثة فلما نظر إليه عرفه قال كيف صنع مولاك إليك قال يؤثرني على أهله وولده ورزقت منه حبا فلا أصنع إلا ما شئت فركب معه أبوه وعمه وأخوه
وفي رواية أن ناسا من قومه حجوا فرأوا زيدا فعرفوه وعرفهم فانطلقوا وأعلموا أباه ووصفوا له مكانه فجاء أبوه وعمه
وقد يقال لا مخالفة لجواز أن يكون إجتماعه بعمه وأبيه كان بعد إخبار أولئك الناس فلما جاء أهله في طلبه ليفدوه خيره النبي صلى الله عليه وسلم بين المكث عنده والرجوع إلى أهله فاختار المكث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقد ذكر أنهم لما جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم قالوا يابن عبد المطلب يابن سيد قومه أي وفي لفظ لما قدم أبوه وعمه في فدائه سألا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل هو في المسجد فدخلا عليه فقالا يابن عبدالمطلب يا بن هاشم يا ابن سيد قومه أنتم أهل حرم الله وجيرانه تفكون الأسير العاني وتطعمون الجائع جئناك في ولدنا عندك فامنن علينا وأحسن في فدائه فإنا سندفع لك فقال وما ذاك قال زيد بن حارثة فقال أو غير ذلك قالوا وما هو قال ادعوه فخيروه فإن اختاركم فهو لكم من غير فداء وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على الذي اختارني فداء فقالوا زدت على النصف وفي لفظ زدتنا على النصف وأحسنت فدعاه فقال تعرف هؤلاء قال نعم أبي وعمي ولعل سكوته عن أخيه لإستصغاره بالنسبة لأبيه وعمه على أن أكثر الروايات الإقتصار على مجئ أبيه وعمه
وفي كلام السهيلي أن زيدا لما جاء قال صلى الله عليه وسلم له من هذان فقال هذا أبي حارثة بن شرحبيل وهذا كعب بن شرحبيل عمي فعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم له أنا من علمت وقد رأيت صحبتي لك فاخترني أو أخترهما فقال زيد ما أنا بالذي أختار عليك أحدا أنت مني مكان الأب والعم فقالا ويحك يا زيد تختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك قال نعم ما أنا بالذي أختار عليه أحدا فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ما رأى أخرجه إلى الحجر أي الذي هو محل جلوس قريش فقال إن زيدا ابني أرثه ويرثني فطابت أنفسهما وانصرفا
وفي كلام ابن عبدالبر أنه حين تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سنة ثمان
سنين وأنه حين تبناه طاف به على حلق قريش يقول هذا ابني وارثا وموروثا ويشهدهم على ذلك وكان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول دمى دمك وهدمي هدمك وثأري ثأرك وحربي حربك وسلمى سلمك ترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عني وأعقل عنك فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف أي من حالفه فنسخ ذلك وهذا الذي ذكره ابن عبدالبر من أنه صلى الله عليه وسلم حين تبناه كان عمره ثمان سنين يدل على أن ذلك كان عقب ملكه صلى الله عليه وسلم له قبل الوحي وأن ذلك كان قبل مجئ أبيه وعمه وحينئذ يكون عتقه وتبنيه بعد مجئ أبيه وعمه إظهارا لما تقدم فليتأمل
وفي أسد الغابة أن حارثة أسلم وفي كلام بعضهم لم يثبت إسلام حارثة إلا المنذري ولما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا كان يقال له زيد بن محمد ولم يذكر في القرآن من الصحابة أحد بإسمه إلا هو كما سيأتي قال ابن الجوزي إلا ما يروى في بعض التفاسير أن السجل الذي في قوله تعالى { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } اسم رجل كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم
أي وقد أبدى السهيلي حكمة لذكر زيد بإسمه في القرآن وهي أنه لما نزل قوله تعالى { ادعوهم لآبائهم } وصار يقال له زيد بن حارثة ولا يقال له زيد بن محمد ونزع منه هذا التشريف شرفه الله تعالى بذكر اسمه في القرآن دون غيره من الصحابة فصار إسمه يتلى في المحاريب
ولا يخفى أنه يأتي في زيد ما تقدم في علي ولم تذكر في القرآن امرأة بإسمها إلا مريم ولزيد أخ اسمه جبلة أسن منه
سئل جبلة من أكبر أنت أم زيد فقال زيد أكبر مني وأنا ولدت قبله أي لأن زيدا أفضل منه لسبقه للإسلام
ثم أسلم من الصحابة أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال بعضهم في سبب إسلامه إنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر غشيانه في منزله ومحادثته وكان سمع قول ورقة له لما ذهب معه إليه كما تقدم فكان متوقعا لذلك فهو مع حكيم بن حزام في بعض الأيام إذ جاءت مولاة لحكيم وقالت له إن عمتك خديجة تزعم في هذا اليوم أن زوجها نبي مرسل مثل موسى فانسل أبو بكر حتى أتى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن خبره فقص قصته المتضمنة لمجئ الوحي له بالرسالة فقال صدقت بأبي أنت وأمي وأهل الصدق أنت أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فيقال إنه سماه يومئذ الصديق وهذا السياق ربما يدل على أن إسلام أبي بكر تأخر إلى نزل { يا أيها المدثر } بعد فترة الوحي بناء على ما تقدم وكونه سماه يومئذ الصديق لا ينافى ما سيأتي أنه سمى بذلك صبيحة الإسراء لما صدقه وقد كذبته قريش لجواز أنه لم يشتهر بذلك إلا حينئذ
وقد جاء في تفسير قوله تعالى { والذي جاء بالصدق وصدق به } أن الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي صدق به أبو بكر قال ولما سمعت خديجة مقالة أبي بكر خرجت وعليها خمار أحمر فقالت الحمدلله الذي هداك يابن أبي قحافة واسمه عبدالله أي سماه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان اسمه قبل ذلك عبد الكعبة فأبو بكر رضي الله تعالى عنه أول من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه ولقبه عتيق لحسن وجهه أو لأنه عتق من الذم والعيب أي أو نظر إليه صلى الله عليه وسلم فقال هذا عتيق من النار فهو أول لقب وجد في الإسلام
وقيل سمته بذلك أمه لأنه كان لا يعيش لها ولد فلما ولدته استقبلت به الكعبة ثم قالت اللهم هذا عتيقك من الموت فهبه لي فعاش قيل ويدل له ما ذكر بعضهم أن أمه كانت إذا هزته تقول عتيق وما عتيق ذو المنظر الأنيق
وفي كلام ابن حجر الهيتمي وصح أن الملقب له به النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه في بيت عائشة وأنه غلب عليه من يومئذ قال وبه يندفع أن الملقب له أبوه وزعم أنه أمه هذا كلامه وليتأمل قوله في بيت عائشة مع ما تقدم وما في كلامه السهيلي
وقيل وسمى عتيقا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين أسلم أنت عتيق من النار
وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه صدرا معظما في قريش على سعة من المال وكرم الأخلاق من رؤساء قريش ومحط مشورتهم وكان من أعف الناس كان رئيسا مكرما سخيا يبذل المال محببا في قومه حسن المجالسة وكان من أعلم الناس بتعبير الرؤيا ومن ثم قال ابن سيرين وهو المقدم في هذاالعلم اتفاقا كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكان أعلم الناس بأنساب العرب
فقد جاء عن جبير بن مطعم البالغ النهاية في ذلك أنه قال إنما أخذت النسب من أبي بكر لا سيما أنساب قريش فإنه كان أعلم قريش بأنسابها وبما كان فيها من خير وشر وكان لا يعد مساويهم فمن ثم كان محببا فيهم بخلاف عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فإنه كان بعد أبي بكر أعلم قريش بأنسابها وبآبائها وما فيها من خير وشر لكن كان مبغضا إليهم لأنه كان يعد مساويهم وكان عقيل يجلس إليه في المسجد النبوي لأخذ علم الأنساب وأيام العرب ووقائعهم
وفي كلام بعضهم كان أبو بكر عند أهل مكة من خيارهم يستعينون به فيما يأتيهم وكانت له بمكة ضيافات لا يفعلها أحد
قال الزمخشري ولعله كنى بأبي بكر لإبتكاره الخصال الحميدة وكان نقش خاتمه نعم القادر الله وكان نقش خاتم عمر رضي الله تعالى عنه كفى بالموت واعظا يا عمر وكان نقش خاتم عثمان آمنت بالله مخلصا وكان نقش خاتم علي الملك لله وكان نقش خاتم أبي عبيدة بن الجراح الحمد لله
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عند كبوة أي وقفة وتأخر وتردد إلا ما كان من أبي بكر
وفي رواية ما كلمت أحدا في الإسلام إلا أبي علي وراجعني في الكلام إلا ابن أبي قحافة فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله واستقام عليه أي ومن ثم كان أسد الصحابة رأيا وأكملهم عقلا لخبر تمام أتاني جبريل فقال لي إن الله أمرك أن تستشير أبا بكر ونزل فيه وفي عمر { وشاورهم في الأمر } كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه بمكان الوزير من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يشاوره في أموره كلها
وقد جاء إن الله تعالى أيدني بأربعة وزراء أثنين من أهل السماء جبريل ومكائيل واثنين من أهل الأرض أبي بكر وعمر وفي حديث رواته ثقات إن الله يكره أن يخطأ أبو بكر وفي رواية إن الله يكره في السماء أن يخطأ أبو بكر الصديق في الأرض
وجاء الحسن بن علي وهو صغير إلى أبي بكر وهو يخطب على المنبر فقال له انزل عن مجلس أبي فقال مجلس أبيك والله لا مجلس ابي فأجلسه في حجره وبكى فقال علي والله ما هذا عن رأيى فقال والله ما اتهمتك
ووقع نظير ذلك لسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه مع سيدنا الحسين فإنه قال له
وهو يخطب انزل عن منبر أبي فقال له منبر أبيك لا منبر أبي من أمرك بهذا فقام علي فقال له ما أمره بهذا أحد ثم قال للحسين لأوجعنك يا غدر فقال لا توجع ابن أخي صدق منبر أبيه
قال وسبب مبادرته إلى التصديق ما علمه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم وبراهين صدق دعوته قبل دعوته ولرؤيا رآها قبل ذلك رآى القمر نزل إلى مكة فدخل في كل بيت منه شعبة ثم كان جميعه في حجره فقصها على بعض أهل الكتاب فعبرها له بأنه يتبع النبي المنتظر الذي قد ظل زمانه وأنه يكون أسعد الناس به ولعل هذا الذي من أهل الكتاب هو بحيرا فقد رأيت أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه رأى رؤيا فقصها على بحيرا فقال له إن صدقت رؤياك فإنه سيبعث نبي من قومك تكون أنت وزيره في حياته وخليفته بعد مماته
أي وأخرج أبو نعيم عن بعض الصحابة أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة أي علم أنه النبي المنتظر لما مر عن بحيرا الراهب ولما سمعه من شيخ عالم من الأزد قد قرأ الكتب نزل به في اليمن فقال له أحسبك حرميا فقال أبو بكر نعم فقال له أحسبك قرشيا قال نعم فقال له أحسبك تيميا قال نعم قال له بقيت لي فيك واحدة قال وما هي قال له تكشف لي عن بطنك فقال له لا أفعل أو تخبرني لم ذلك فقال أجد في العلم النجيح الصادق أن نبيا يبعث في الحرم يعاون على أمره فتى كهل فأما الفتى فخواص غمرات ودفاع معضلات وأما الكهل فأبيض نحيف على بطنه شامة وعلى فخذه اليسرى علامة أي مع كونه حرميا قرشيا تيميا بدليل قوله أحسبك حرميا أحسبك قرشيا أحسبك تيميا وما عليك أن تريني ما سألتك فقد تكاملت فيك الصفة أي كونه حرميا قرشيا تيميا أبيض نحيفا إلا ما خفى علي فقال أبو بكر فكشفت له عن بطني فرأى شامة بيضاء أو سواداء فوق سرتي أي ورأى العلامة على الفخذ الأيسر فقال أنت هو ورب الكعبة قال أبو بكر فلما قضيت أربى من اليمن أتيته لأودعه فقال أحافظ عني أبياتا من الشعر قلتها في ذلك النبي قلت نعم فذكرله أبياتا قال أبو بكر فقدمت مكة وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم فجاءني صناديد قريش كعقبة بن أبي معيط وشيبة بن ربيعة وأبي جهل وأبي البختري فقالوا يا أبا بكر يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي ولولا إنتظارك ما انتظرنا به فإذا قد جئت فأنت الغاية
والكفاية أي لأن أبا بكر كما تقدم كان صديقا له صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر فصرفتهم على أحسن شيء ثم جئته صلى الله عليه وسلم فقرعت عليه الباب فخرج إلي وقال لي يا أبا بكر إني رسول الله إليك وإلى الناس كلهم فآمن بالله فقلت وما دليلك على ذلك قال الشيخ الذي أفادك الأبيات فقلت ومن أخبرك بهذا يا حبيبي قال الملك العظيم الذي يأتي الأنبياء قبلى قلت مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه فانصرفت وما بين لابتيها أشد سرورا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي وفي لفظ اشد سرورا مني بإسلامي ولا مانع من صدور الأمرين منه رضي الله تعالى عنه
ويحتاج للجمع بين هذا وبين ما تقدم من أنه كان مع حكيم بن حزام يوما إلى آخره على تقدير صحة الروايتين وما جاء من شعر حسان رضي الله تعالى عنه من أن أبا بكر أول الناس إسلاما حيث يقول فيه ** وأول الناس منهم صدق الرسلا **
وأنه صلى الله عليه وسلم سمع ذلك منه ولم ينكره بل قال صدقت بإحسان كما سيأتي عند الكلام على الهجرة وقول بعض الحفاظ إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أول الناس إسلاما هو المشهور عند الجمهور من أهل السنة لا ينافي ما تقدم من أن عليا أول الناس إسلاما بعد خديجة ثم مولاه زيد بن حارثة لأن المراد أول رجل بالغ ليس من الموالي أسلم أبو بكر
أي وعبارة ابن الصلاح والأورع أن يقال أول من أسلم من الرجال الأحرار أي غير الموالي أبو بكر ومن الصبيان علي ومن النساء خديجة ومن الموالي زيد بن حارثة وهذا وما قبله يدل على أن إسلام زيد بن حارثة كان بعد البلوغ وإلا فلا حاجة لزيادة ليس من الموالي تأمل
أو أن مراد من قال إن أبا بكر سبق عليا في الإسلام أي في إظهار الإسلام لأنه حين أسلم أظهر إسلامه بخلاف علي فقد جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه سبقني إلى أربع وعد منها إظهار الإسلام قال وأنا أخفيته ولعله لا ينافي ذلك ما جاء بسند حسن أن أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب لأن ذلك كان عند اختفائه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في دار الأرقم كما سيأتي فالأولية في إظهار الإسلام إضافية
قال ابن كثير وورد عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال أنا أول من أسلم
ولا يصح إسناد ذلك إليه قال وقد روى في هذا المعنى أحاديث أوردها ابن عساكر كثيرة منكرة كلها لا يصح شيء منها هذا كلامه وعلى تقدير صحتها مراده أول من أسلم من الصبيان فالأولية إضافية
ومما يؤثر عن علي رضي الله تعالى عنه لاتكن ممن يرجو بغير عمل ويؤخر التوبة لطول الأمل يحب الصاليحن ولا يعلم بأعمالهم البشاشة فخ المودة والصبر قبر العيوب والغالب بالظلم مغلوب العجب ممن يدعو ويستبطئ الإجابة وقد سد طرقها بالمعاصي
وأول من أسلم من النساء بعد خديجة رضي الله تعالى عنها أم الفضل زوج العباس وأسماء بنت أبي بكر وأم جميل فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب
وينبغي أن تكون أم أيمن سابقة في الإسلام على أم الفضل على ما تقدم وقول السراج البلقيني موافقة للزين العراقي إن أول رجل أسلم ورقة بن نوفل لقوله للنبي صلى الله عليه وسلم أنا أشهد أنك الذي بشر بك عيسى ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى وأنك نبي مرسل قد علمت ما فيه وأنه إنما كان من أهل الفترة كما صرح به الحافظ الذهبي وهو يرد القول المتقدم بأن وفاة ورقة تأخرت عن البعثة فورقة ونحوه كبحيرا ونسطورا من أهل الفترة لا من أهل الإسلام ويؤيده ما تقدم أنه بإجماع المسلمين لم يتقدم خديجة في الإسلام لا رجل ولا امرأة لكن هؤلاء من القسم الذي تمسك بدين قبل نسخه وآمن وصدق بأنه صلى الله عليه وسلم الرسول المنتظر وذلك نافع له في الآخرة ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لما توفى ورقة لقد رأيت القس يعني ورقة في الجنة وعليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني إلى آخر ما تقدم
وعلى تسليم أنه لا يشترط في المسلم أن يؤمن ويصدق برسالته صلى الله عليه وسلم بعد وجودها بل يكفي ولو قبل ذلك فليس ورقة بصحابي لأن الصحابي من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة مؤمنا بما جاء به عن الله تعالى أي محكوما بإيمانه
ومن ثم رد الحافظ الذهبي على ابن منده أي ومن وافقه كالزين العراقي في عده له من الصحابة أي كما عد منهم بحيرا ونسطورا بقوله الأظهر أن من مات بعد النبوة وقبل الرسالة فهو من أهل الفترة هذا كلام الحافظ الذهبي والمراد بالرسالة نزول { يا أيها المدثر } لاإظهارها ونزول قوله تعالى { فاصدع بما تؤمر } بناء على تأخر الرسالة
وحين أسلم ابو بكر رضي الله تعالى عنه دعا إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من وثق به من قومه فأسلم بدعائه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس
أي ولما أسلم عثمان رضي الله تعالى عنه أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية والد مروان فأوثقه كتافا وقال ترغب عن ملة آبائك إلى دين محمد والله لا أحلك أبدا حتى تدع ما أنت عليه فقال عثمان والله لا أدعه أبدا ولا أفارقه فلما رأى الحكم صلابته في الحق تركه وقيل عذبه بالدخان ليرجع فما رجع
وفي كلام ابن الجوزي أن المعذب بالدخان ليرجع عن الإسلام الزبير بن العوام هذا كلامه ولا مانع من تعدد ذلك وجاء لكل نبي رفيق في الجنة ورفيقي فيها عثمان ابن عفان
وأسلم بدعاء أبي بكر أيضا الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه وكان عمره ثمان سنين على ما تقدم وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه أي وكان اسمه في الجاهلية عبد عمر وقيل عبد الكعبة وقيل عبدالحارث فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن قال وكان أمية بن خلف لي صديقا فقال لي يوما أرغبت عن اسم سماك به أبوك فقلت نعم فقال لي إني لاأعرف الرحمن ولكن أسميك بعبد الإله فكان يناديني بذلك
قال وسبب إسلام عبدالرحمن بن عوف ما حدث به قال سافرت إلى اليمن غير مرة وكنت إذا قدمت نزلت على عسكلان بن عواكف الحميري فكان يسألني هل ظهر فيكم رجل له نبأ له ذكر هل خالف أحد منكم عليكم في دينكم فأقول لا حتى كانت السنة التي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت اليمن فنزلت عليه إلى آخر القصة
وعن علي رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعبد الرحمن بن عوف أنت أمين في أهل الأرض أمين في أهل السماء وجاء أنه وصفه بالصادق الصالح البار
وأسلم بدعاية أبي بكر رضي الله تعالى عنه أيضا سعد بن أبي وقاص أي فإن أبا بكر لمادعاه إلى الإسلام لم يبعد وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن أمره فأخبره به فأسلم وكان عمره تسع عشرة سنة وهو رضي الله تعالى عنه من بني زهرة ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم وقد أقبل عليه سعد خالي فليرني امرؤ خاله
وفي كلام السهيلي أنه عم آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم وكرهت أمه إسلامه وكان بارا بها فقالت له ألست تزعم أن الله يأمرك بصلة الرحم وبر الولدين قال فقلت نعم فقالت والله لا أكلت طعاما ولا شربت شرابا حتى تكفر بما جاء به محمد أي وتمس إسافا ونائلة فكانوا يفتحون فاها ثم يلقون فيه الطعام والشراب فأنزل الله تعالى { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما } الآية وفي رواية أنها مكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت وقد خمدت ثم مكثت يوم وليلة لا تأكل ولا تشرب قال سعد فلما رأيت ذلك قلت لها تعلمين والله يا أمه لو كان لك مائة نفس تخرج فسا ما تركت دين هذا النبي صلى الله عليه وسلم فكلي إن شئت أو لا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت
وفي الأنساب للبلاذري عن سعد قال أخبرت أمي أني كنت أصلي العصر أي الركعتين اللتين كانوا يصلونهما بالعشي فجئت فوجدتها على بابها تصيح ألا أعوان يعينوني عليه من عشيرتي أو عشيرتي فأحبسه في بيت وأطبق عليه بابه حتى يموت أو يدع هذا الدين المحدث فرجعت من حيث جئت وقلت لا أعود إليك ولا أقرب منزلك فهجرتها حينا ثم أرسلت إلى أن عد إلى منزلك ولا تتضيفن فيلزمنا عار فرجعت إلى منزلي فمرة تلقاني بالبشر ومرة تلقاني بالشر وتعيرني بأخي عامر وتقول هي البر لا يفارق دينه ولا يكون تابعا فلما أسلم عامر لقى منها مالم يلق أحد من الصياح والأذى حتى هاجر إلى الحبشة ولقد جئت والناس مجتمعون على أمي وعلى أخي عامر فقلت ما شأن الناس فقالوا هذه أمك قد أخذت أخاك عامرا وهي تعطى الله عهدا لا يظلها نخل و لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا حتى يدع صبأته فقلت لها والله يا أمه لا تستظلين ولا تأكلين ولا تشربين حتى تتبوئى مقعدك من النار
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم أمر سعد بن أبي وقاص أن يأتي الحارث بن كلدة طبيب العرب ليستوصفه في مرض نزل بسعد وكان ذلك في حجة الوداع فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود عبدالرحمن بن عوف لمرض نزل به فوجد عند الحارث فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالرحمن إني لأرجو أن يشفيك الله حتى يضر بك قوم وينتفع بك آخرون ثم قال للحارث بن كلدة عالج سعدا مما به وكان سعد بالمجلس فقال والله إني لأرجو شفاءه فيما ينفعه من رجله هل معك من هذه الثمرة العجوة شيء قال نعم فخلط ذلك الثمر بحلبة ثم أوسعها سمنا ثم أحساه إياها فكأنما نشط من عقال وهذا استدل
به على إسلام الحارث بن كلدة لأن حجة الوداع لم يحج فيها مشرك فهو معدود من الصحابة وأنكر بعضهم إسلامه وجعله دليلا على جواز استشارة أهل الكفر في الطب إذا كانوا من أهله
وممن أسلم بدعاية أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أيضا طلحة بن عبدالله التيمي فجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجاب له فأسلم
أي ولما تظاهر أبو بكر وطلحة بالإسلام فأخذهما نوفل بن العدوية وكان يدعى أسد قريش فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم ولذلك سمى أبو بكر وطلحة القرينين ولشدة ابن العدوية وقوة شكيمته كان صلى الله عليه وسلم يقول اللهم اكفنا شر ابن العدوية
أقول سبب إسلام طلحة بن عبيدالله رضي الله تعالى عنه ما تقدم أنه قال حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول سلوا أهل هذا الموسم هل ثم من أهل الحرم أحد فقلت نعم أنا قال هل ظهر أحد بعد قلت ومن أحمد قال ابن عبدالله بن عبدالمطلب هذا شهره الذي يخرج فيه وهو آخر الأنبياء مخرجه من الحرم ومهاجره إلى أرض ذات نخل وسباخ فإياك أن تسبق إليه قال طلحة فوقع في قلبي ما قال فخرجت سريعا حتى قدمت مكة فقلت هل كان من حدث قالوا نعم محمد بن عبدالله الأمين يدعو إلى الله وقد تبعه ابن أبي قحافة فخرجت حتى دخلت على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فأخبرته بما قال الراهب فخرج أبو بكر حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فسر بذلك وأسلم طلحة
وطلحة هذا هو أحد العشرة المبشرين بالجنة وقد شاركه رجل آخر في اسمه واسم أبيه ونسبه وهو طلحة بن عبيد الله التيمي وهو الذي نزل فيه قوله تعالى { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه } الآية لأنه قال لئن مات محمد رسول الله لأتزوجن عائشة وفي لفظ يتزوج محمد بنات عمنا ويحجبهن عنا لئن مات لأتزوجن عائشة من بعده فنزلت الآية
قال الحافظ السيوطي وقد كنت في وقفة شديدة من صحة هذا الخبر لأن طلحة أحد العشرة أجل مقاما من أن يصدر عنه ذلك حتى رأيت أنه رجل آخر شاركه في إسمه وإسم أبيه ونسبه هذا كلامه
والحاصل أن أبا بكر أسلم على يده خمسة من العشرة المبشرين بالجنة وهم عثمان وطلحة بن عبيدالله ويقال له طلحة الفياض وطلحة الجود والزبير وسعد ابن أبي وقاص وعبدالرحمن بن عوف وزاد بعضهم سادسا وهو أبو عبيدة بن الجراح وكان كل من أبي بكر وعثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف وطلحة بزازا وكان الزبير جزارا وكان سعد بن أبي وقاص يصنع النبل والله أعلم ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء
وذكر في الأصل جماعة من السابقين للإسلام منهم عبدالله بن مسعود وأن سبب إسلامه ما حدث به قال كنت في غنم لآل عقبة بن أبي معيط فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر بن أبي قحافة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل عندك لبن فقلت نعم ولكني مؤتمن قال هل عندك من شاة لم ينز عليها الفحل قلت نعم فأتيته بشاة شصوص لا ضرع لها فمسح النبي صلى الله عليه وسلم مكان الضرع فإذا ضرع حافل مملوء لبنا كذا في الأصل وفي الصحاح كما في النهاية الشصوص التي ذهب لبنها وحينئذ يكون قول الأصل لا ضرع لها أي لا لبن لها ويدل لذلك قول ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين فمسح ضرعها وقول ابن مسعود فمسح مكان الضرع أي محل اللبن فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بصخرة منقورة فاحتلب النبي صلى الله عليه وسلم فسقى أبا بكر وسقاني ثم شرب ثم قال للضرع اقلص فرجع كما كان أي لا وجود له على ظاهر ما في الأصل أو لا لبن فيه على ما في النهاية كالصحاح وإلى ذلك أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله ** ورب عناق مانزا الفحل فوقها ** مسحت عليها باليمين فدرت **
قال ابن سمعود فما رأيت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يارسول الله علمني فسمح رأسي وقال بارك الله فيك فإنك غلام معلم
أقول فإن قيل قول ابن مسعود ولكني مؤتمن وعدوله صلى الله عليه وسلم عن ذات اللبن إلى غيرها يخالف ما سيأتي في حديث المعراج والهجرة أن العادة كان جارية بإباحة مثل ذلك اللبن لابن السبيل إذا احتاج إلى ذلك فكان كل راع مأذونا له في ذلك وإذا كان ذلك أمرا متعارفا مشهورا يبعد خفاؤه
قلنا قد يقال لا مخالفة لأن ابن السبيل المسافر وجاز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر رضي الله تعالى عنه لم يكونا مسافرين لجواز أن تكون تلك الغنم التي كان فيها ابن مسعود ببعض نواحي مكة القريبة منها التي لا يعد قاصدها مسافرا ولعله لا ينافى ذلك ما سيأتي أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أبيح له أخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج صلى الله عليه ولم إليهما وأنه يجب على مالكهما بذل ذلك له
وكان عبدالله بن مسعود يعرف بأمه وهي أم عبد وكان قصيرا جدا طوله نحو ذراع خفيف اللحم ولما ضحكت الصحابة رضي الله تعالى عنهم من دقة رجليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل عبدالله في الميزان أثقل من أحد وقال صلى الله عليه وسلم في حقه رضيت لأمتي ما رضى لها ابن ام عبد وسخطت لها ما سخط لها ابن أم عبد
وقوله لرجل عبدالله في الميزان يدل للقول بأن الموزون الإنسان نفسه لا عمله وكان صلى الله عليه وسلم يكرمه ويدنيه ولا يحجبه فلذلك كان كثير الولوج عليه صلى الله عليه وسلم وكان يمشي أمامه صلى الله عليه وسلم ومعه ويستره إذا اغتسل ويوقظه إذا نام ويلبسه نعليه إذا قام فإذا جلس أدخلهما في ذراعيه ولذلك كان مشهورا بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنه صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ولم أقف على أنه أسلم حين أجفلت الشاة لكن قول العلامة ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين أسلم قديما بمكة لما مر به صلى الله عليه وسلم وهو يرعى غنما إلى آخره يدل على أنه أسلم حينئذ ومما يؤثر عنه الدنيا كلها هموم فما كان فيها من سرور فهو ربح والله أعلم
وذكر في الأصل أن من السابقين أبا ذر الغفاري واسمه جندب بن جنادة بضم الجيم فيهما قال وسبب إسلامه ما حدث به قال صليت قبل أن ألقى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين لله أتوجه حيث يوجهني ربي فبلغنا أن رجلا خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي أنيس انطلق إلى هذا الرجل فكلمه وأتني بخبره فلما جاء أنيس قلت له ما عندك فقال والله رأيت رجلا يأمر بخير وينهى عن الشر وفي رواية رأيتك على دينه يزعم أن الله أرسله ورأيته يأمر بمكارم الأخلاق قلت فما يقول الناس فيه قال يقولون شاعر كاهن ساحر والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون فقلت اكفني حتى أذهب فانظر قال نعم وكن على حذر من أهل مكة فحملت جرابا وعصا ثم
أقبلت حتى أتيت مكة فجعت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه فمكثت في المسجد ثلاثين ليلة ويوما وما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على بطني سحنة جوع والسحنة بالتحريك قيل حرارة يجدها الإنسان من الجوع ففي ليلة لم يطف بالبيت أحد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه جاءا فطافا بالبيت ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى صلاته أتيته فقلت السلام عليك يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فرأيت الإستبشار في وجهه ثم قال من الرجل قلت من غفار بكسر المعجمة قال متى كنت قال كنت من ثلاثين ليلة ويوما ههنا قال فمن كان يطعمك قلت ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما أجد على بطني سحنة جوع قال مبارك إنها طعام طعم وشفاء سقم أي وجاء ماء زمزم لما شرب له إن شربته لتشفى شفاك الله وإن شربته لتشبع أشبعك الله وإن شربته لتقطع ظمأك قطعه الله وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسمعيل وجاء التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق وجاء آية ما بيننا وبين المنافق أنهم لا يتضلعون من ماء زمزم
وذكر أن أبا ذر أول من قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم السلام عليك التي هي تحية الإسلام فهو أول من حيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يأخذه في الله لومة لائم وعلى أن يقول الحق ولو كان مرا ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أظلت الخضراء أي السماء ولا أقلت الغبراء أي الأرض أصدق من أبي ذر وقال صلى الله عليه وسلم في حقه أبو ذر يمشي في الأرض على زهد عيسى ابن مريم وفي الحديث أبو ذر أزهد أمتي وأصدقها وقد هاجر أبو ذر إلى الشام بعد وفاة أبي بكر واستمر بها إلى أن ولى عثمان فاستقدمه من الشام لشكوى معاوية منه وأسكنه الربذة فكان بها حتى مات فإن أبا ذر صار يغلظ القول لمعاوية ويكلمه بالكلام الخشن
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن لقيا أبي ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان بدلالة علي رضي الله تعالى عنه وأنه قال له ما أقدمك هذه البلدة فقال له أبو ذر إن كتمت علي أخبرتك وفي رواية إن أعطيتني عهدا وميثاقا أن ترشدني أخبرتك ففعل قال أبو ذر فأخبرته فأرشدني وأوصلني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلمت
وفي الإمتاع أن عليا استضاف أبا ذر ثلاثة أيام لا يسأله عن شيء وهو لا يخبره ثم في الثالث قال له ما أمرك وما أقدمك هذه البلدة قال له إن كتمت علي أخبرتك قال فإني أفعل قال له بلغنا أنه خرج هنا رجل يزعم أنه نبي فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر فأردت أن ألقاه فقال له أما إنك قد رشدت هذا وجهي أي خروجي إليه فاتبعني أدخل حيث أدخل فإن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي وفي لفظ كأني أريق الماء فامض أنت قال أبو ذر فمضى ومضيت حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له أعرض علي الإسلام فعرضه علي فأسلمت مكاني الحديث
وما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم له من كان يطعمك وجواب أبي ذر له صلى الله عليه وسلم بقوله ماكان لي طعام إلا ماء زمزم يبعد أن يكون علي رضي الله تعالى عنه أضاف أبا ذر ولم يأكل عنده وكذا يبعده ما جاء أن أبا بكر قال يا رسول لله ائذن لي في إطعامه الليلة قال أبو ذر فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فانطلقت معهما ففتح أبو بكر بابا فجعل يفيض لنا من زبيب الطائف فكان ذلك أول طعام أكلته إلا أن يحمل الطعام على خصوص الزبيب
ويمكن التوفيق بين الروايتين أي رواية دخوله على النبي صلى الله عليه وسلم مع علي فأسلم ورواية إجتماعه به في الطواف فأسلم بأن يكون أبو ذر دخل عليه أولا مع علي ثم لقيه في الطواف ويكون المراد حينئذ بإسلامه الثاني الثبات عليه بتكرير الشهادتين وعذره في عدم إجتماعه به في المسجد مدة ثلاثين يوما عدم خلو المطاف كما يرشد لذلك قوله ففي ليلة لم يطف بالبيت أحد إلى آخره وإلا فيبعد أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يدخل المسجد للطواف مدة ثلاثين يوما
ويبعد هذا الجمع قوله صلى الله عليه وسلم له من الرجل إلى آخره ثم قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر يا أبا ذر اكتم هذا الأمر وارجع إلى قومك فأخبرهم يأتوني فإذا بلغك ظهورنا فأقبل فقلت والذي بعثك بالحق لأصرخن بهذا بين ظهرانيهم قال وكنت في أول الإسلام خامسا وفي رواية رابعا ولعل المراد من الإعراب فلا ينافي ما يأتي في وصف خالد بن سعيد فلما اجتمعت قريش بالمسجد ناديت بأعلى صوتي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ فضربت
لأموت وفي لفظ فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي فأكب علي العباس ثم قال لهم ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجارتكم عليهم فخلوا عني قال فجئت زمزم فغسلت عني الدماء فلما أصبحت الغداة رجعت لمثل ذلك فصنع بي مثل ما صنع وأدركني العباس وكان منه كالأمس فخرجت وأتيت أنيسا فقال ما صنعت فقلت قد أسلمت وصدقت فقال ما لي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت فأتينا أمنا فقالت ما لي رغبة عن دينكما فإني أسلمت وصدقت ثم أتينا قومنا غفارا فأسلم نصفهم وقال نصفهم إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا فلما جاء المدينة أسلم نصفهم الثاني أي لأنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر إني وجهت إلى أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب فهل أنت مبلغ قومك عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم وجاءت أسلم القبيلة المعروفة فقالوا يا رسول الله نسلم على الذي أسلم عليه إخواننا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله
أي وقد ذكر أن أبا ذر وقف يوما عند الكعبة أي في حجة حجها أو عمرة اعتمرها فأكتنفه الناس فقال لهم لو أن أحدكم أراد سفرا أليس يعد زادا فقالوا بلى فقال سفر القيامة أبعد مما تريدون فخذوا ما يصلحكم قالوا وما يصلحنا قال حجوا حجة لعظائم الأمور وصوموا يوما شديدا حره ليوم النشور وصلوا في ظلمة الليل لوحشة القبور
وممن أسلم خالد بن سعيد بن العاص رضي لله تعالى عنه قيل كان حين أسلم رابعا وقيل خامسا وهو أول من أسلم من إخوته ويمكن أن يكون ذلك محمل قول ابنته أم خالد أول من أسلم أبي أي من إخوته
وسبب إسلامه أنه رأى في النوم النار ورأى من فظاعتها وأهوالها أمر مهولا ورأى أنه على شفيرها وأن أباه يريد أن يلقيه فيها ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا بحجزته يمنعه من الوقوع فيها فقام من نومه فزعا وقال أحلف بالله أن هذه الرؤيا حق وعلم أن نجاته من النار تكون على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى أبا بكر فذكر له ذلك فقال له أريد بك خير هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه فأتاه فقال يا محمد إلام تدعو قال أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده
ورسوله وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع فأسلم خالد
وفي الوفاء عن أم خالد بنت خالد بن سعيد أنها قالت كان خالد بن سعيد ذات ليلة نائما قبيل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رأيت كأنه غشيت مكة ظلمة حتى لا يبصر امرؤ كفه فبينما هو كذلك إذ خرج نور أي من زمزم ثم علا في السماء فأضاء في البيت ثم أصاب مكة كلها ثم تحول إلى يثرب فأصابها حتى أني لأنظر إلى اليسر في النخل فاستيقظت فقصصتها على أخي عمرو بن سعيد وكان جزل الرأي فقال يا أخي إن هذا الأمر يكون في بني عبدالمطلب ألا ترى أنه خرج من حفر أبيهم ثم إنه ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعد مبعثه فقال يا خالد أنا والله ذلك النور وأنا رسول الله وقص عليه ما بعثه الله به فأسلم خالد وعلم أبوه بذلك أبوه وهو سعيد أبو أجيحة وكان من عظماء قريش كان إذا أعتم لم يعتم قرشي إعظاما له ومن ثم قال فيه القائل ** أبا أجيحة من يعتم عمته ** يضرب وإن كان ذا مال وذا عدد **
وعند إسلام ولده خالد أرسل في طلبه فانتهره وضربه أي بمقرعة كانت في يده حتى كسرها على رأسه ثم قال اتبعت محمدا وأنت ترى خلافه لقومه وما جاء به من عيب آلهتهم وعيب من مضى من آبائهم فقال والله تبعته على ما جاء به فغضب أبوه وقال أذهب يالكع حيث شئت وقال والله لأمنعنك القوت قال إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به فأخرجه وقال لبنيه ولم يكونوا أسلموا لا يكلمه أحد منكم إلا صنعت به فانصرف خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يلزمه ويعيش معه ويغيب عن أبيه في نواحي مكة حتى خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية فكان خالد أول من هاجر إليها
وذكر عن والده سعيد أنه مرض فقال إن رفعني الله من مرضي هذا لا يعبد إله ابن أبي كبشة بمكة أبدا فقال خالد عند ذلك اللهم لا ترفعه فتوفى في مرضه ذلك وخالد هذا أول من كتب بسم الله الرحمن الرحيم وأسلم أخوه عمرو بن سعيد بن العاص رضي الله تعالى عنه
قيل وسبب إسلامه أنه رأى نورا خرج من زمزم أضاءت له منه نخل المدينة حتى
رأى البسر فيها فقص رؤياه فقيل له هذه بئر بني عبدالمطلب وهذا النور منهم يكون فكان سببا لإسلامه وتقدم قريبا أن هذا الرؤيا وقعت لخالد فكانت سبب إسلامه وأنه قصه على أخيه عمرو المذكورة فهو من خلط بعض الرواة إلا أن يقال لا مانع من تعدد هذه الرؤية لخالد ولأخيه عمرو وأنها كانت سببا لإسلامهما وأسلم من بني سعيد أيضا أبان والحكم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله
أي ومن السابقين للإسلام صهيب كان أبوه عاملا لكسرى أغارت الروم عليهم فسبت صهيبا وهو غلام صغير فنشأ في الروم حتى كبر ثم ابتاعه جماعة من العرب وجاءوا به إلى سوق عكاظ فابتاعه منهم بعض أهل مكة أي وهو عبداله بن جدعان فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مر صهيب على دار رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى عمار بن ياسر فقال له عمار بن ياسر أين تريد يا صهيب قال أريد أن أدخل إلى محمد فأسمع كلامه وما يدعو إليه قال عمار وأنا أريد ذلك فدخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما بالجلوس فجلسا وعرض عليهما الإسلام وتلا عليهما ما حفظ من القرآن فتشهدا ثم مكثا عنده يومهما ذلك حتى أمسيا خرجا مستخفيين فدخل عمار على أمه وأبيه فسألاه أين كان فأخبرهما بإسلامه وعرض عليهما الإسلام وقرأ عليهما ما حفظ من القرآن في يومه ذلك فأعجبهما فأسلما على يده فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميه الطيب المطيب
وأسلم أيضا حصين والد عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما بعد إسلام والده عمران
وسبب إسلامه أن قريشا جاءت إليه وكانت تعظمه وتجله فقالوا له كلم لنا هذا الرجل فإنه يذكر آلهتنا ويسبها فجاءوا معه حتى جلسوا قريبا من باب النبي صلى الله عليه وسلم ودخل حصين فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال أوسعوا للشيخ وعمران وولده في الصحابة فقال حصين ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا وتذكرها فقال يا حصين كم تعبد من إله قال سبعة في الأرض وواحد في السماء فقال فإذا أصابك الضر لمن تدعو قال الذي في السماء قال فإذا هلك المال من تدعو قال الذي في السماء قال فيستجيب له وحده وتشرك معه أرضيته في الشرك يا حصين أسلم تسلم فأسلم فقام إليه ولده عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه فبكى
صلى الله عليه وسلم وقال بكيت من صنع عمران دخل حصين وهو كافر فلم يقم إليه عمران ولم يلتفت ناحيته فلما أسلم وفي حقه فدخلني من ذلك الرقة فلما أراد حصين الخروج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه شيعوه إلى منزله فلما خرج من سدة الباب أي عتبته رأته قريش قالوا قد صبا وتفرقوا عنه & باب استخفائه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في دار الأرقم ابن الأرقم رضي الله تعالى عنهما ودعائه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام جهرة وكلام قريش لأبي طالب في أن يخلى بينهم وبينه وما لقى هو وأصحابه من الأذى وإسلام عمه حمزة رضي الله تعالى عنه
عن ابن اسحاق أن مدة ما أخفى صلى الله عليه وسلم أمره أي المدة التي صار يدعو الناس فيها خفية بعد نزول { يا أيها المدثر } ثلاث سنين أي فكان من أسلم إذا أراد الصلاة يذهب إلى بعض الشعاب يستخفى بصلاته من المشركين أي كما تقدم فبينما سعد ابن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة إذا ظهر عليه نفر من المشركين وهم يصلون فناكروهم وعابوا عليه ما يصنعون حتى قاتلوهم فضرب سعد بن أبي وقاص رجلا منهم بلحى بعير فشجه فهو أول دم أهريق في الإسلام ثم دخل صلى الله عليه وسلم وأصحابه مستخفين في دار الأرقم أي بعد هذه الواقعة فإن جماعة أسلموا قبل دخوله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم ودار الأرقم هي المعروفة الآن بدار الخيزران عند الصفا أشتراها الخليفة المنصور وأعطاها ولده المهدي ثم أعطاها المهدي للخيزران أم ولديه موسى الهادي وهرون الرشيد ولا يعرف أمرأة ولدت خليفتين إلا هذه وولادة جارية عبدالملك بن مروان فإنه أم الوليد وسليمان
وقد روت الخيزران عن زوجها المهدي عن أبيه عن جده عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتقى الله وقاه كل شيء
فكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقيمون الصلاة بدار الأرقم ويعبدون الله تعالى فيها إلى أن أمره الله تعالى بإظهار الدين
أي وهذا السياق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم استمر مستخفيا هو وأصحابه في دار الأرقم إلى أن أظهر الدعوة وأعلن صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة أي وقيل مدة استخفائه صلى الله عليه وسلم أربع سنين وأعلن في الخامسة وقيل أقاموا في تلك الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون وقد يقال الإقامة شهرا مخصوصة بالعدد المذكور فلا منافاة وإعلانه صلى الله عليه وسلم كان في الرابعة أو الخامسة بقوله تعالى { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين } وبقوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } أي أظهر ما تؤمر به من الشرائع وادع إلى الله تعالى ولا تبال بالمشركين وخوف بالعقوبة عشيرتك الأقربين وهم بنو هاشم وبنو المطلب أي وبنو عبد شمس وبنو نوفل أولاد عبد المطلب بدليل ما يأتي قال بعضهم آية { فاصدع بما تؤمر } اشتملت على شرائط الرسالة وشرائعها وأحكامها وحلالها وحرامها
وقال بعضهم إنما أمر بالصدع لغلبة الرحمة عليه صلى الله عليه وسلم قال ذكر بعضهم أنه لما نزل عليه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين } اشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وضاق به ذرعا أي عجز عن إحتماله فمكث شهرا أو نحوه جالسا في بيته حتى ظن عماته أن شاك أي مريض فدخلن عليه عائدات فقال صلى الله عليه وسلم ما اشتكيت شيئا لكن الله أمرني بقوله { وأنذر عشيرتك الأقربين } فأريد أن اجمع بني عبدالمطلب لأدعوهم إلى الله تعالى قلن فادعهم ولا تجعل عبدالعزى فيهم يعنين عمه أبا لهب فإنه غير مجيبك إلى ما تدعوه إليه وخرجن من عنده صلى الله عليه وسلم أي وكنى عبد العزى بأبي لهب لجمال وجهه ونضاره لونه كأنه وجهه وجبينه ووجنتيه لهب النار أي خلافا لما زعمه بعضهم أن ولده عقير الأسد أو ولد آخر غيره كان اسمه لهبا
قال وفي الإتقان ليس في القرآن من الكنى غير أبي لهب ولم يذكر اسمه وهو عبدالعزى أي الصنم لأنه حرام شرعا هذا كلامه وفيه أن الحرام وضع ذلك لا إستعماله
وفي كلام بعضهم ما يفيد أن الإستعمال حرام أيضا إلا أن يشتهر بذلك كما في الأوصاف المنقصة كالأعمش
وفي كلام القاضي وإنما كناه والكنية تكرمه أي بالعدول عن الإسم إليها لإشتهاره بكنيته ولأن اسمه عبدالعزى هو الصنم فاستكره ذكره ولأنه لما كان من أصحاب النار كانت الكنية أوفق بحاله في الآخرة فهي كنية تفيد الذم
فاندفع ما يقال هذا يخالف قولهم ولا يكنى كافر وفاسق ومبتدع إلا لخوف فتنة أو تعريف لأن ذلك خاص بالكنية التي تفيد المدح لا الذم ولم يشتهر بها صاحبها
قال فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني عبدالمطلب فحضروا وكان فيهم أبو لهب فلما أخبرهم بما أنزل الله عليه أسمعه ما يكره قال تبا لك ألهذا جمعتنا أي وأخذ حجرا ليرميه به وقال له ما رأيت أحدا قط جاء بني أبيه وقومه بأشر ما جئتهم به فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم في ذلك المجلس انتهى
أي وفي الإمتاع أن أبا لهب ظن أنه صلى الله عليه وسلم يريد أن ينزع عما يكرهون إلى ما يحبون فقال له هؤلاء عمومتك وبنو عمومتك فتكلم بما تريد واترك الصبأة واعلم أنه ليس لقومك بالعرب طاقة وإن أحق من أخذك وحبسك أسرتك وبنوا أبيك إن أقمت على أمرك فهو أيسر عليك من أن تتب عليك بطون قريش وتمدها العرب فما رأيت يا ابن أخي أحدا قط جاء بني أبيه وقومه بشر ما جئتهم به وعند ذلك أنزل الله تعالى { تبت } أي خسرت وهلكت { يدا أبي لهب وتب } أي خسر وهلك بجملته أي والمراد بالأول جملته عبر عنها باليدين مجازا والمراد به الدعاء وبالثاني الخبر على حد قولهم أهلكه الله وقد هلك
أي ولما قال أبو لهب عند نزول { تبت يدا أبي لهب وتب } إن كان ما يقوله محمد حقا افتديت منه بمالي وولدي نزل { ما أغنى عنه ماله وما كسب } أي وأولاده لأن الولد من كسب أبيه أي وفي رواية وهي في الصحيحين أنه دعا قريشا فاجتمعوا فخص وعم فقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار أي وفيه أنه إنما أمر بالإنذار لعشريته الأقربين ثم قال صلى الله عليه وسلم يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد زهرة أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يافاطمة أنقذي نفسك من النار يا صفية عمة محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا وفي لفظ لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من
الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله أي لا تبقوا على كفركم إتكالا على قرابتكم مني فهو حث لهم على صالح الأعمال وترك الإتكال غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها أي أصلها بالدعاء أي والبلال بالفتح كقطام ما يبل الحلق من الماء أو اللبن وبل رحمه إذا وصلها وبلوا أرحامكم ندوها بالصلة وفي الحديث بلوا أرحامكم ولو بالسلام أي وصلوها أي وقد ذكر أئمتنا صابط الصلة
وفي تخصيصه صلى الله عليه وسلم فاطمة من بين بناته مع أنها أصغرهن وقيل أصغر بناته رقية وتخصيصه صلى الله عليه وسلم صفية من بين عماته حكمة لا تخفى ومن الغريب ما في الكشاف من زيادة يا عائشة بنت أبي بكر يا حفصة بنت عمر
عندي أن ذكر عائشة وحفصة بل وفاطمة هنا من خلط بعض الرواة وأن هذا ذكره صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فذكره بعض الرواة هنا فإن المراد بالإنقاذ من النار الإتيان بالإسلام بدليل قوله صلى الله عليه وسلم إلى أن تقولوا لا إله إلا الله مع أنه تقدم أن بناته عليه الصلاة والسلام لم يكن كفارا فليتأمل
ثم مكث صلى الله عليه وسلم أياما ونزول عليه جبريل وأمره بإمضاء أمر الله تعالى فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانيا وخطبهم ثم قال لهم إن الرائد لا يكذب أهله والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعملون ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا والله يابني عبدالمطلب ما أعلم شابا جاء قومه بأفضل مما جئتكم به إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة فتكلم القوم كلاما لينا غير أبي لهب فإنه قال يا بني عبدالمطلب هذه والله السوأة خذوا على يديه قبل أن يأخذ على يديه غيركم فإن أسلمتموه حينئذ ذللتم وإن منعتموه قتلتم فقالت له أخته صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنها أي أخي أيحسن بك خذلان ابن أخيك فوالله ما زال العلماء يخبرون أنه يخرج من ضئضئ أي أصل عبدالمطلب نبي فهو هو قال هذا والله الباطل والأماني وكلام النساء في الحجال إذا قامت بطون قريش وقامت معها العرب فما قوتنا بهم فوالله ما نحن عندهم إلا أكلة رأس فقال أبو طالب والله لنمنعنه ما بقينا ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم جميع قريش وهو قائم على الصفا وقال إن أخبرتكم
أن خيلا تخرج من سنح بالنون والحاء المهملة أي أصل وفي لفظ سفح بالفاء والحاء المهملة هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم تكذبوني قالوا ما جربنا عليك كذبا فقال يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئا إني لكم نذير مبين بين يدي عذاب شديد أي وفي لفظ إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشى أن يسبقوه إلى أهله فجعل يهتف يا صباحاه يا صباحاه أتيتم أتيتم
ومن أمثاله صلى الله عليه وسلم أنا النذير العريان أي الذي ظهر صدقه من قولهم عرى الأمر إذا ظهر وقولهم الحق عار أي ظاهر وقيل الذي جرده العدو فأقبل عريانا ينذر بالعدو وعن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل
واختلفت الروايات في محل وقوفه ففي رواية وقف على الصفا كما تقدم وفي رواية وقف على أضمة من جبل فعلا أعلاها حجرا يهتف يا صباحاه فقالوا من هذا الذي يهتف قالوا محمد فاجتمعوا إليه فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا الحديث وفي رواية صاح على ابي قبيس يا آل عبد مناف إني نذير وروى أنه لما نزل قوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين } جمع بني عبدالمطلب في دار أبي طالب وهم أربعون وفي الإمتاع خمسة وأربعون رجلا وامرأتان فصنع لهم علي طعاما أي رجل شاة مع مد من البر وصاعا من لبن فقدمت فهم الجفنة وقال كلوا بسم الله فأكلوا حتى شبعوا وشربوا حتى نهلوا وفي رواية حتى رووا وفي رواية قال ادنوا عشرة عشرة فدنا القوم عشرة عشرة ثم تناول القعب الذي فيه اللبن فجزع منه ثم ناولهم وكان الرجل منهم يأكل الجذعة وفي رواية يشرب العس من الشراب في مقعد واحد فقهرهم ذلك فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم بدره أبولهب بالكلام فقال لقد سحركم صاحبكم سحرا عظيما وفي رواية محمد وفي رواية ما رأينا كالسحر اليوم فتفرقوا ولم يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان الغد قال يا علي عد لنا بمثل ما صنعت بالأمس من الطعام والشراب قال علي ففعلت ثم جمعتهم له صلى الله عليه وسلم فأكلوا حتى شبعوا وشربوا حتى نهلوا ثم قال لهم يا بني عبدالمطلب إن الله قد بعثني إلى الخلق كافة وبعثني إليكم خاصة فقال { وأنذر عشيرتك الأقربين } وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان شهادة أن لا إله
إلا الله وأني رسول الله فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويوازرني أي يعاونني على القيام به قال علي أنا يا رسول الله وأنا أحدثهم سنا وسكت القوم زاد بعضهم في الرواية يكن أخي ووزيرا وورثى وخليفتي من بعدي فلم يجبه أحد منهم فقام علي وقال أنا يا رسول الله قال اجلس ثم أعاد القول على القوم ثانيا فصمتوا فقام علي وقال أنا يا رسول الله فقال اجلس ثم أعاد القول على القوم ثالثا فلم يجبه أحد منهم فقام علي فقال أنا يا رسول الله فقال اجلس فأنت أخي ووزيري ووصيى ووارثي وخليفتي من بعدي
قال الإمام أبو العباس بن تيمية أي في الزيادة المذكورة أنها كذب وحديث موضوع من له أدنى معرفة في الحديث يعلم ذلك وقد رواه أي الحديث مع زيادته المذكورة ابن جرير والبغوي بإسناد فيه أبو مريم الكوفي وهو مجمع على تركه وقال أحمد إنه ليس بثقة عامة أحاديثه بواطيل وقال ابن المديني كان يضع الحديث وفي رواية عن علي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خديجة فصنعت له طعاما ثم قال لي ادع لي بني عبدالمطلب فدعوت أربعين رجلا الحديث ولا مانع من تكرر فعل ذلك ويجوز أن يكون علي فعل ذلك عند خديجة وجاء به إلى بيت أبي طالب ولعل جمعهم هذا كان متأخرا عن جمعهم مع غيرهم المتقدم ذكره ويشهد له السياق فعل ذلك حرصا على إسلام أهل بيته فلما دعا قومه ولم يردوا عليه ولم يجيبوه أي وفي رواية صار كفار قريش غير منكرين لما يقول فكان صلى الله عليه وسلم إذ مر عليهم في مجالسهم يشيرون إليه إن غلام بني عبد المطلب ليكلم من السماء وكان ذلك دأبهم حتى عاب آلهتهم أي وسفه عقولهم وضلل آباءهم أي حتى أنه مر يوما وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام فقال يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم فقالوا إنما نعبد الأصنام حبا لله لتقربنا إلى الله فانزل الله تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } فتناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم وجاءوا إلى أبي طالب وقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا أي عقولنا ينسبنا إلى قلة العقل وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلى بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر دين الله ويدعو إليه لا يرده عن ذلك شيء وإلى أشار صاحب الهمزية بقوله
** ثم قام النبي يدعو إلى الله ** وفي الكفر شدة وإباء ** ** أمما أشربت قلوبهم الكف ** ر فداء الضلال فيهم عياء **
أي ثم قام صلى الله عليه وسلم يدعو جماعتهم إلى الله تعالى بأن يقولوا لا إله إلا الله حسبما أمر فقدجاء أن جبريل تبدى له صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة وأطيب رائحة وقال يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول لك أنت رسول الله إلى الجن والإنس فادعهم إلى قول لا إله إلا الله فدعاهم والحال أن في أهل الكفر قوة تامة وإمتناعا عن اتباعه اختلط الكفر بقلوبهم وتمكن فيها حبه حتى صارت لا تقبل غيره وبسبب ذلك صار داء الضلال أي داء هو الضلال فيهم عضال يعيى الأطباء مداواته وحصول شفائه ثم شرى الأمر أي الشين المعجمة وكسر الراء وفتح المثناة تحت كثر وتزايد وانتشر بينهم وبينه حتى تباعد الرجال وتضاغنوا أي أضمروا العداوة والحقد وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وتذامروا عليه بالذال المعجمة وحض أي حث بعضهم بعضا على حربه وعداوته ومقاطعته ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد طلبنا منك أن تنهى ابن أخيك فلم تنهه عنا وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا أي عقولنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ثم أنصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا بأن يخذل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله وأنه ضعف عن نصرته والقيام معه فقال له يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله تعالى أو أهلك فيه ما تركته ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أي حصلت له العبرة التي هي دمع العين فبكى ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب فقال أقبل يا ابن أخي فأقبل عليه فقال اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك وأنشد أبياتا منها ** والله لن يصلوا إليك بجمعهم ** حتى أوسد في التراب دفينا **
وحكمة تخصيص الشمس والقمر بالذكر وجعل الشمس في اليمين والقمر في اليسار لا تخفى لأن الشمس النير الأعظم واليمين أليق به والقمر النير الممحو واليسار أليق به
وخص النيرين حيث ضرب المثل بهما لأن الذي جاء به نور قال تعالى { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره }
ومن غريب التعبير أن رجلا كان عاملا لسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فقال لسيدنا عمر إني رأيت في المنام كأن الشمس والقمر يقتتلان ومع كل واحد منهما نجوم فقال له عمر مع أيهما كنت قال مع القمر قال كنت مع الآية الممحوة اذهب فلا تعمل لي عملا فاتفق أن هذا الرجل كان مع معاوية يوم صفين وقتل ذلك اليوم
فلما عرفت قريش أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد بن المغيرة أنهد أي أشد وأقوى فتى في قريش وأحمله فخذه لك ولدا أي بأن تتبناه وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله فإنما هو رجل كرجل فقال لهم أبو طالب والله لبئس ما تسومونني أتعطوني إبنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه هذا والله لا يكون أبدا أي وقال أرأيتم ناقة تحن إلى غير فصيلها قال المطعم بن عدي والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مماتكره فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا فقال له أبو طالب والله ما أنصفوني ولكن قد أجمعت أي قصدت خذلاني ومظاهرة القوم أي معاونتهم علي فاصنع ما بدالك أي وقد مات عمارة بن الوليد هذا على كفره بأرض الحبشة بعد أن سحر وتوحش وسار في البراري والقفار كما سيأتي ومات المطعم بن عدي المذكور على كفره أيضا فعند عدم قبول أبي طالب ما أرادوه اشتد الأمر
ولما رأى أبو طالب من قريش ما رأى دعا بني هاشم وبني عبدالمطلب إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه فأجابوه غلى ذلك غير أبي لهب فكان من المجاهرين بالظلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل من آمن به وتوالى الأذى من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى من أسلم معه
فما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذية ما حدث به عمه العباس رضي الله تعالى عنه قال كنت يوما في المسجد فأقبل أبو جهل فقال لله علي إن رأيت محمد ساجدا أن أطأ عنقه فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول أبي جهل فخرج غضبان حتى دخل المسجد فعجل أن يدخل من الباب فاقتحم من الحائط وقرأ { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق } حتى بلغ شأن أبي جهل كلا
{ إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } إلى أن بلغ آخر السورة سجد فقال إنسان لأبي جهل يا أبا الحكم هذا محمد قد سجد فأقبل إليه ثم نكص راجعا فقيل له ذلك فقال أبو جهل ألا ترون ما أرى لقد سد أفق السماء علي وفي رواية رأيت بيني وبينه خندقا من نار وسيأتي أن قوله تعالى { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى } إلى آخر السورة نزل في أبي جهل
ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال ذكر أن أبا جهل بن هشام قال يوما لقريش يا معشر قريش إن محمدا قد أتى إلى ما ترون من عيب دينكم وشتم آلهتكم وتسفيه أحلامكم وسب آبائكم إني أعاهد الله لأجلس له يعنى النبي صلى الله عليه وسلم غدا بحجر لا أطيق حمله فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه فأسلموني عند ذلك أو امنعوني فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدالهم قالوا والله لا نسلمك لشيء أبدا فامض لما تريد فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو إلى الصلاة أي وكانت قبلته صلى الله عليه وسلم إلى الشام إلى صخرة بيت المقدس فكان يصلى بين الركن اليماني والحجر الأسود ويجعل الكعبة بينه وبين الشام على ما تقدم وقريش جلوس في أنديتهم وهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه أي متغيرا بالصفرة مع الكدرة من الفزع وقد يبست يداه على حجره حتى قذفه من يده أي بعد أن عالجوا فكه من يده فلم يقدروا كما سيأتي وقامت إليه رجال من قريش وقالوا مالك يا أبا الحكم قال قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة فلما دنوت منه عرض لي فحل من الإبل والله ما رأيت مثله قط هم بي أن يأكلني فلما ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذاك جبريل لودنا لأخذه وإلى ذلك يشير صاحب الهمزية بقوله ** وأبو جهل إذ رأى عنق الفح ** ل إليه كأنه العنقاء **
أي وأبو جهل الذي هو أشد الأعداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت أن هم أن يلقى الحجر عليه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد أبصر عنق الفحل وقد برزت إليه كأنه الدهية العظيمة أي فرجع عن ذلك الرمى بذلك الحجر أي وفي رواية أن أبا جهل قال رأيت بيني وبينه كخندق من نار ولا مانع أن يكون وجد الأمرين معا
وذكر في سبب نزول قوله تعالى { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون } أي إنا جعلنا أيديهم متصلة بأعناقهم واصلة إلى أذقانهم ملصقة بها رافعون رءوسهم لا يستطيعون خفضها من أقمح البعير رفع رأسه { وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } أن الآية الأولى نزلت في أبي جهل لما حمل الحجر ليرضخ به رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعه أثبتت يداه إلى عنقه ولزق الحجر بيده فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم فلم يفكوا الحجر من يده إلا بعد تعب شديد والآية الثانية نزلت في آخر لما رأى ما وقع لأبي جهل قال أنا ألقى هذا الحجر عليه فذهب إليه صلى الله عليه وسلم فلما قرب منه عمى بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه فرجع إليهم فأخبرهم بذلك
وعن الحكم بن أبي العاص أي ابن مروان بن الحكم أن ابنته قالت له ما رأيت قوما كانوا أسوأ رأيا وأعجز في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم يا بني أمية فقال لها لا تلومينا يا بنية إني لا أحدثك إلا ما رأيت لقد أجمعنا ليلة على اغتياله صلى الله عليه وسلم فلما رأيناه يصلى ليلا جئنا خلفه فسمعنا صوتا ظننا أنه ما بقى بتهامة جبل إلاتفتت علينا أي ظننا أنه يتفتت وأنه يقع علينا فما عقلنا حتى قضى صلاته صلى الله عليه وسلم ورجع إلى أهله ثم تواعدنا ليلة أخرى فلما جاء نهضنا إليه فرأينا الصفا والمروة التصقتا إحداهما على الأخرى فحالتا بيننا وبينه ويتأمل هذا لأن صلاته صلى الله عليه وسلم إنما تكون عند الكعبة وليست بين الصفا والمروة
وفي رواية كان صلى الله عليه وسلم يصلى فجاءه أبو جهل فقال ألم أنهك عن هذا فأنزل الله تعالى { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى } إلى آخر السورة
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما انصرف من صلاته زأره أبو جهل أي انتهره وقال إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني فأنزل الله تعالى { فليدع ناديه سندع الزبانية } قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لودعا ناديه لأخذته زبانية الله أي قال يوما ولقد لقى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للنبي صلى الله عليه وسلم لقد علمت أني أمنع أهل البطحاء وأنا العزيز الكريم فأنزل الله تعالى فيه { ذق إنك أنت العزيز الكريم } كذا قاله الواحدي أي تقول له الزبانية عند إلقائه في النار ما ذكر توبيخا له
ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال لما أنزل الله تعالى سورة { تبت يدا أبي لهب }
جاءت امرأة أبي لهب وهي أم جميل وإسمها العوراء وقيل اسمها أروى بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب ولها ولولة وفي يدها فهر أي بكسر الفاء وسكون الهاء حجر يملأ الكف فيه طول يدق به في الهاون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فلما رآها قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها امرأة بذية أي تأتي بالفحش من القول فلو قمت لتؤذيك فقال صلى الله عليه وسلم إنها لن تراني فجاءت فقالت يا أبا بكر صاحبك هجاني أي وفي لفظ ما شأن صاحبك ينشد في الشعر قال لا وما يقول الشعر أي ينشئه وفي لفظ لا ورب هذا البيت ماهجاك والله ما صاحبي بشاعر وما يدري ما الشعر أي لا يحسن إنشاءه قال له أنت عندي تصدق وانصرفت أي وهي تقول ما علمت قريش أني بنت سيدها أي تعني عبد مناف جد أبيها ومن كان عبد مناف أباه لا ينبغي لأحد أن يتجاسر على ذمه قلت يا رسول الله لم لم ترك قال لم يزل ملك يسترني بجناحه أي فقد جاء في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر قل لها هل ترين عندي أحدا فسألها أبو بكر فقالت أتهزأ بي والله ما أرى عندك أحدا
أقول وفي الإمتاع أنها جاءت وهو صلى الله عليه وسلم في المسجد معه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وفي يدها فهر فلما وقفت على النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الله على بصرها فلم تره ورأت أبا بكر وعمر فأقبلت على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقالت أين صاحبك قال وما تصنعين به قالت بلغني أنه هجاني والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فمه فقال عمر رضي الله تعالى عنه ويحك إنه ليس بشاعر فقالت إني لا أكلمك يابن الخطاب أي لما تعلمه من شدته ثم أقبلت على أبي بكر لما تعلمه من لينه وتواضعه فقالت والثواقب أي النجوم إنه لشاعر وإني لشاعرة أي فكما هجاني لأهجونه وانصرفت فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنها لن تراك فقال إنها لن تراني جعل بيني وبينها حجاب أي لأنه قرأ قرآنا اعتصم به كما قال تعالى { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا } وفي رواية أقبلت ومعها فهران وهي تقول ** مذمما أبينا ** ودينه قلينا ** وأمره عصينا **
فقالت أين الذي هجاني وهجا زوجي والله لئن رأيته لأضربن أنثييه بهذين
الفهرين قال أبو بكر فقلت لها يا أم جميل والله ما هجاك ولا هجا زوجك قالت والله ما أنت بكذاب وإن الناس ليقولون ذلك ثم ولت ذاهبة فقلت يارسول الله إنها لم ترك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حال بيني وبينها جبريل ولعل مجيئها قد تكرر فلا منافاة بين ما ذكر وكذا ما يأتي وكما يقال في الحمد محمد يقال في الذم مذمم لأنه لا يقال ذلك إلا لمن ذم مرة بعد أخرى كما أن محمدا لا يقال إلا لمن حمد مرة بعد أخرى كما تقدم وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال ألا تعجبون كيف يصرف الله تعالى عني شتم قريش ولعنهم يشتمون مذمما ويلعنون مذمما وأنا محمد
وفي الدر المنثور أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في الملأ فقالت يا محمد علام تهجوني قال إني والله ما هجوتك ماهجاك إلا الله قالت رأيتني أحمل حطبا أو رأيت في جيدي حبلا من مسد وهذا مما يؤيد ماقاله بعض المفسرين أن الحطب عبارة عن النميمة يقال فلان يحطب على أي ينم لأنها كانت تمشي بين الناس بالنميمة وتغرى زوجها وغيره بعداوته صلى الله عليه وسلم وتبلغهم عنه أحاديث لتحثهم بها على عداوته صلى الله عليه وسلم وأن الحبل عبارة عن حبل من نار محكم
وعن عروة بن الزبير مسد النار سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا والله أعلم وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله ** وأعدت حمالة الحطب الفهر وجاءت كأنها الورقاء ** ** ثم جاءت غضبى تقول أفى مثلي من أحمد يقال الهجاء ** ** وتولت وما رأته ومن أين ترى الشمس مقلة عمياء **
أي وهيأت حمالة الحطب الفهر ولقبت بذلك كانت تحتطب أي تجمع الحطب وتحمله لبخلها ودناءة نفسها أو كانت تحمل الشوك والحسك وتطرحه في طريقه صلى الله عليه وسلم ولا مانع من إجتماع الأوصاف الثلاثة لكن استفهامها يبعد الوصفين الأخيرين والفهر الحجر الذي يملأ الكف كما تقدم لتضرب به النبي صلى الله عليه وسلم والحال أنها جاءت في غاية السرعة والعجلة كأنها في شدة السرعة الحمامة الشديدة الإسراع حالة كونها غضبى من شدة ما سمعت من ذمها في سورة تبت يدا أبي لهب نقول أفي مثلي وأنا بنت سيد بني عبد شمس يقال الهجاء والسب حالة كونه من أحمد وتولت والحال أنها ما رأته وكيف ترى الشمس عين عمياء
أقول في ينبوع الحياة أنها لما بلغها سورة { تبت يدا أبي لهب } جاءت إلى أخيها أبي سفيان في بيته وهي مضطرمة أي منحرقة غضبى فقالت له ويحك يا أحمس أي يا شجاع أما تغضب أن هجاني محمد فقال سأكفيك إياه ثم أخذ سيفه وخرج ثم عاد سريعا فقالت هل قتلته فقال لها يا أخية أيسرك أن رأس أخيك في فم ثعبان قالت لا والله قال فقد كان ذلك يكون الساعة أي فإنه رأى ثعبانا لو قرب منه صلى الله عليه وسلم لالتقم رأسه
ولما نزلت هذه السورة التي هي { تبت يدا أبي لهب } قال أبو لهب لأبنه عتبة أي بالتكبير رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم يوم الفتح كما سيأتي رأسي من رأسك حرام إن لم تفارق ابنة محمد يعني رقية رضي الله تعالى عنها فإنه كان تزوجها ولم يدخل بها ففارقها ووقع في كلام بعضهم طلقها لما أسلم فليتأمل
وكان أخوه عتبة بالتصغير متزوجا ابنته صلى الله عليه وسلم أم كلثوم ولم يدخل بها فقال أي وقد أراد الذهاب إلى الشام لآتين محمدا فلأوذينه في ربه فأتاه فقال يا محمد هو كافر بالنجم أي وفي لفظ برب النجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى ثم بصق في وجه النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه ابنته وطلقها فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم سلط وفي رواية الله ابعث عليه كلبا من كلابك وكان أبو طالب حاضرا فوجم لها أبو طالب وقال ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة فرجع عتيبة إلى أبيه أبي لهب فأخبره بذلك ثم خرج هو وأبوه إلى الشام في جماعة فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من دير فقال لهم إن هذه الأرض مسبعة فقال أبو لهب لأصحابه إنكم قد عرفتم نسبي وحقي فقالوا أجل يا أبا لهب فقال أعينونا يا معشر قريش هذه الليلة فإني أخاف على ابني دعوة محمد فأجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ثم افرشوا لإبني عليه ثم افرشوا حوله ففعلوا ثم جمعوا جمالهم وأناخوها حولهم وأحدقوا بعتيبة فجاء الأسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتيبة فقتله وفي رواية فضخ رأسه وفي رواية ثنى ذنبه ووثب وضربه بذنبه ضربة واحدة فخدشه فمات مكانه وفي رواية فضغمه ضغمة فكانت إياها فقال وهو بآخر رمق ألم أقل لكم إن محمدا أصدق الناس لهجة ومات فقال أبوه قد عرفت والله ما كان ليفلت من دعوة محمد أقول وحلفه بالنجم إلى آخره يدل على ذلك كان بعد الإسراء والمعراج
ووقع مثل ذلك لجعفر الصادق قيل له هذا فلان ينشد الناس هجاءكم يعني أهل البيت بالكوفة فقال لذلك القائل هل علقت من قوله بشيء قال نعم قال فأنشد ** صلبنا كمو زيدا على رأس نخلة ** ولم أر مهديا على الجذع يصلب ** ** وقستم بعثمان عليا سفاهة ** وعثمان خير من علي وأطيب **
فعند ذلك رفع جعفر يديه وقال اللهم إن كان كاذبا فسلط عليه كلبا من كلابك فخرج ذلك الرجل فافترسه الأسد وإنما سمي الأسد كلبا لأنه يشبه الكلب في أنه إذا بال رفع رجله ومن ثم قيل إن كلب أهل الكهف كان أسدا وقيل كان رجلا منهم جلس عند الباب طليعة لهم فسمى باسم الكلب لملازمته للحراسة ووصف ببسط الذراعين لأن ذلك من صفة الكلب الذي هو الحيوان
وقد جاء أنه ليس في الجنة من الحيوان إلا كلب أهل الكهف وحمار العزير وناقة صالح والله أعلم
ومما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذية ما حدث به عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو يصلى وقد نحر جزور وبقى فرثه أي روثه في كرشه فقال أبو جهل ألا رجل يقوم إلى هذا القذر يلقيه على محمد أي وفي رواية قال قائل ألا تنظرون إلى هذا المرائى أيكم يقوم إلى جزور بني فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجئ به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه وفي رواية أيكم يأخذ سلى جزور بني فلان لجزور ذبحت من يومين أو ثلاثة فيضعه بين كتفيه إذا سجد فقام شخص من المشركين وفي لفظ أشقى القوم وهو عقبة بن أبي معيط وجاء بذلك الفرث فألقاه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد أي فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض أي من شدة الضحك قال ابن مسعود فهبنا أي خفنا أن نلقيه عنه صلى الله عليه وسلم وفي لفظ وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة لطرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها أي بعد أن ذهب إليها إنسان وأخبرها بذلك واستمر صلى الله عليه وسلم ساجدا حتى ألقته عنه واستمراره في الصلاة عند فقهائنا لعدم علمه بنجاسة ما ألقى عليه ولما ألقته عنه أقبلت عليهم تشتمهم فقام النبي صلى الله عليه وسلم
فسمعته يقول وهو قائم يصلى اللهم اشدد وطأتك أي عقابك الشديد على مضر سنين كسنى يوسف اللهم عليك بأبي الحكم بن هشام يعني أبا جهل وعتبة بن ربيعة وعقبة ابن أبي معيط وأمية بن خلف زاد بعضهم وشيبة بن أبي ربيعة والوليد بن عبتة بالمثناة فوق لا بالقاف كما وقع في رواية مسلم
فقد اتفق العلماء على أنه غلط لأنه لم يكن ذلك الوقت موجودا أو كان صغيرا جدا وعمارة بن الوليد أي وهو المتقدم ذكره الذي أرادوا أن يجعلوه عوضا عنه صلى الله عليه وسلم
أقول والذي في المواهب فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم عليك بقريش ثم سمى اللهم عليك بعمرو بن هشام إلى آخر ماتقدم ذكره وفي الإمتاع فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع يديه ثم دعا عليهم وكان إذا دعا دعا ثلاثا ثم قال اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش فلما سمعوا صوته ذهب منهم الضحك وهابوا دعوته ثم قال اللهم عليك بأبي جهل بن هشام الحديث وإن ابن مسعود قال والله لقد رأيتهم وفي رواية رأيت الذي سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر
واعترض بأن عمارة بن الوليد مات بالحبشة كافرا كما تقدم ويأتي وبأن عقبة بن أبي معيط لم يقتل ببدر وإنما أخذ أسيرا منها وقتل بعرق الظبية كما سيأتي وبأن أمية بن خلف لم يطرح بالقليب وأجيب بأن قول ابن مسعود رأيتهم أي رأيت أكثرهم
وقد يقال لا مانع أن يكون صلى الله عليه وسلم أتى بهذا الدعاء وهو قائم يصلى وبعد الفراغ من الصلاة فلا منافاة والله أعلم
والمراد بسنى يوسف بتخفيف الياء ويروى سنين بإثبات النون مع الإضافة القحط والجدب أي فاستجاب الله دعاءه فأصابتهم سنة أكلوا فيها الجيف والجلود والعظام والعلهز وهو الوبر والدم أي يخلط الدم بأوبار الإبل ويشوى على النار وصار الواحد منهم يرى ما بينه وبين السماء كالدخان من الجوع وجاءه صلى الله عليه وسلم جمع من المشركين فيهم أبو سفيان قالوا يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث فاطبقت عليهم سبعا فشكا الناس كثرة المطر فقال اللهم حوالينا ولا علينا فانحدرت السحابة
وجاء أنهم قالوا { ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } أي لا نعود لما كنا عليه فلما كشف عنهم ذلك عادوا أي وفيه أن هذا إنما كان بعد الهجرة فسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم مكث شهرا إذا رفع رأسه من ركوع الركعة الثانية من صلاة الفجر بعد قوله سمع الله لمن حمده يقول اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين بمكة اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف وربما فعل ذلك بعد رفعه من الركعة الأخيرة من صلاة العشاء وسيأتي ما فيه
وقد يقال لا مانع أن يكون حصل لهم ذلك قبل الهجرة وبعد الهجرة مرة أخرى سيأتي الكلام عليها
ثم رأيت في الخصائص الكبرى ما يوافق ذلك حيث قال قال البيهقي قد روى في قصة أبي سفيان ما دل على أن ذلك كان بعد الهجرة ولعله كان مرتين أي وسيأتي في السرايا أن ثمامة لما منع عن قريش الميره أن تأتي من اليمن حصل لهم مثل ذلك وكتبوا في ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي البخاري لما استعصمت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسنى يوسف فبقيت السماء سبع سنين لا تمطر وفي رواية فيه أيضا لما أبطئوا على النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام قال اللهم اكفنيهم بسبع كسبع يوسف فأصابتهم سنة حصت كل شيء الحديث وفي رواية اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد فأنزل الله تعالى { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم } فأتى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله استسق لمضر فإنها قد هلكت فاستسقى صلى الله عليه وسلم فسقوا فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله { يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } يعني يوم بدر
ومن ذلك ما حدث به عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويده في يد أبي بكر وفي الحجر ثلاثة نفر جلوس عقبة ابن أبي معيط وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
عليه فلما حاذاهم اسمعوه بعض ما يكره فعرف ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فدنوت منه حتى وسطته أي جعلته وسطا فكان صلى الله عليه وسلم بين وبين أبي بكر وأدخل أصابعه في أصابعي وطفنا جميعا فلما حاذاهم قال أبو جهل والله لا نصالحك ما بل بحر صوفة وأنت تنهى أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ذلك ثم مشى عنهم فصنعوا به في الشوط الثالث مثل ذلك حتى إذا كان الشوط الرابع ناهضوه أي قاموا له صلى الله عليه وسلم ووثب أبو جهل يريد أن يأخذ بمجامع ثوبه صلى الله عليه وسلم فدفعت في صدره فوقع على أسته ودفع أبو بكر أمية بن خلف ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط ثم انفرجوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف ثم قال أما والله لا تنتهون حتى يحل بكم عقابه أي ينزل عليكم عاجلا قال عثمان فوالله ما منهم رجل إلا وقد أخذته الرعدة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بئس القوم أنتم لنبيكم ثم انصرف إلى بيته وتبعناه حتى انتهى إلى باب بيته ثم أقبل علينا بوجهه فقال أبشروا فإن الله عز وجل مظهر دينه ومتمم كلمته وناصر نبيه إن هؤلاء الذين ترون مما يذبح الله على أيديكم عاجلا ثم انصرفنا إلى بيوتنا فوالله لقد ذبحهم الله بأيدينا يوم بدر
أقول ولا يخالف ذلك كون عقبة بن أبي معيط حمل أسيرا من بدر وقتل بعرق الظبية صبرا وهم راجعون من بدر ولا كون عثمان بن عفان لم يحضر بدرا والله أعلم
وفي رواية أن عقبة بن أبي معيط وطئ على رقبته صلى الله عليه وسلم الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان
أي وفي رواية دخل عقبة بن أبي معيط الحجر فوجده صلى الله عليه وسلم يصلي فيه فوضع ثوبه على عنقه صلى الله عليه وسلم وخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم }
أي وفي البخاري عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال قلت لعبدالله بن عمرو بن العاص أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ
بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأخذ بمنكبيه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث ولعل أشدية ذلك باعتبار ما بلغ عبدالله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أو ما رآه
وعنه رضي الله تعالى عنه قال ما رأيت قريشا أصابت من عداوة أحد ما أصابت من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد حضرتهم يوما وقد اجتمع ساداتهم وكبراؤهم في الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ما صبرنا لأمر كصبرنا لأمر هذا الرجل قط ولقد سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا لقد صبرنا منه على أمر عظيم فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر طائفا بالبيت فلما مر بهم لمزوه ببعض القول فعرفنا ذلك من وجهه ثم مر بهم الثانية فلمزوه بمثلها فعرفنا ذلك من وجهه ثم مر بهم الثالثة فلمزوه فوقف عليهم وقال أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح فارتعبوا لكلمته صلى الله عليه وسلم تلك وما بقى رجل منهم إلا كأنما على رأسه طائرا واقع فصاروا يقولون يا أبا القاسم انصرف فوالله ما كنت جهولا فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان الغد اجتمعوا في الحجر وأما معهم فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا ناداكم بما تكرهون تركتموه فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به وهم يقولون أنت الذي تقول كذا وكذا يعني عيب آلهتم ودينهم فقال نعم أنا الذي أقول ذلك فأخذ رجل منهم بمجمع ردائه عليه الصلاة والسلام فقام أبو بكر دونه وهو يبكى ويقول { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله } فأطلقه الرجل ووقعت الهيبة في قلوبهم فانصرفوا عنه فذلك أشد ما رأيتهم نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي رواية ألست تقول في آلهتنا كذا وكذا قال بلى فتشبثوا به بأجمعهم فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقيل له أدرك صاحبك فخرج أبو بكر حتى دخل المسجد فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس مجتمعون عليه فقال ويلكم { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم } فكفوا عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأقبلوا على أبي بكر يضربونه قالت بنته أسماء فرجع إلينا فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا أجابه وهو يقول تباركت يا ذا الجلال والإكرام
وجاء أنهم جذبوا رأسه صلى الله عليه وسلم ولحيته حتى سقط أكثر شعره فقام أبو بكر دونه وهو يقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله أي وهو يبكى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهم يا أبا بكر فوالذي نفسي بيده إني بعثت إليهم بالذبح ففرجوا عنه صلى الله عليه وسلم
وعن فاطمة رضي الله تعالى عنها قالت اجتمعت مشركو قريش في الحجر فقالوا إذا مر محمد فليضربه كل واحد منا ضربة فسمعت فدخلت على أبي فذكرت ذلك له أي قالت له وهي تبكي تركت الملأ من قريش قد تعاقدوا في الحجر فحلفوا باللات والعزى ومناة وإساف ونائلة إذا هم رأوك يقومون إليك فيضربونك بأسيافهم فيقتلونك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بنية اسكتي وفي لفظ لا تبكي ثم خرج صلى الله عليه وسلم أي بعد أن توضأ فدخل عليهم المسجد فرفعوا رءوسهم ثم نكسوا فاخذ قبضة من تراب فرمى بها نحوهم ثم قال شاهت الوجوه فما أصاب رجلا منهم إلا قتل ببدر أي وكان بجواره صلى الله عليه وسلم جماعة منهم أبو لهب والحكم بن أبي العاص ابن أمية والد مروان وعقبة بن أبي معيط فكانوا يطرحون عليه صلى الله عليه وسلم الأذى فإذا طرحوه عليه أخذه وخرج به ووقف على بابه ويقول يا بني عبد مناف أي جوار هذا ثم يلقيه في الطريق ولم يسلم ممن ذكر إلى الحكم وكان في إسلامه شيء وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم نفاه إلى وج الطائف وأنه سيأتي السبب في نفيه وأشار صاحب الهمزية إلى أن هذه الأذية له صلى الله عليه وسلم لا يظن ظان أنها منقصة له صلى الله عليه وسلم بل هي رفعة له ودليل على فخامة قدره وعلو مرتبته وعظيم رفعته ومكانته عند ربه لكثرة صبره وحلمه وإحتماله مع علمه باستجابة دعائه ونفوذ كلمته عند الله تعالى وقد قال صلى الله عليه وسلم أشد الناس بلاء الأنبياء وذلك سنة من سنن النبيين السابقين عليهم الصلاة والسلام بقوله ** لا تخل جانب النبي مضاما ** حين مسته منهم الأسواء ** ** كل أمر ناب النبيين فالشدة ** فيه محمودة والرخاء ** ** لو يسمى النضار هو من النا ** ر لما اختير للنضار الصلاء **
أي لا تظن أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل له الضيم وقت مسته الأذيات حالة كونها صادرة منهم لأن كل أمر من الأمور العظيمة أصاب النبيين فالشدة التي تحصل لهم منه محمودة لأنه لرفع الدرجات والضيقة التي تحصل لهم أيضا محمودة لأنه لو كان يمس الذهب هوان من إدخاله النار لما أختير له العرض على النار فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالذهب والشدائد التي تصيبهم كالنار التي يعرض عليها الذهب فإن ذلك لا يزيد الذهب إلا حسنا فكذلك الشدائد لا تزيد الأنبياء إلا رفعة
قال ومما وقع لأبي بكر رضي الله تعالى عنه من الأذية ما ذكره بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل دار الأرقم ليعبدالله تعالى ومن معه من أصحابه فيها سرا أي كما تقدم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألح أبو بكر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور أي الخروج إلى المسجد فقال يا أبا بكر إنا قليل فلم يزل به حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه إلى المسجد وقام أبوبكر في الناس خطيبا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ودعا إلى الله ورسوله فهو أول خطيب دعا إلى الله تعالى وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين يضربونهم فضربوهم ضربا شديدا ووطئ أبو بكر بالأرجل وضرب ضربا شديدا وصار عتبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بنعلين مخصوفتين أي مطبقتين ويحرفهما إلى وجهه حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه فجاءت بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر وحملوه في ثوب إلى أن أدخلوه منزله ولا يشكون في موته أي ثم رجعوا فدخلوا المسجد فقالوا والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة ثم رجعوا إلى أبي بكر وصار والده أبو قحافة وبنو تيم يكلمونه فلا يجيب حتى إذا كان آخر النهار تكلم وقال ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعذلوه فصار يكرر ذلك فقالت أمه والله مالي علم بصاحبك فقال اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب أخت عمر ابن الخطاب أي فإنها كانت أسلمت رضي الله تعالى عنها كما تقدم وهي تخفى إسلامها فأساليها عنه فخرجت إليها وقالت لها إن أبا بكر يسأل عن محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم فقال لا أعرف محمدا ولا أبا بكر ثم قالت لها تريدين أن أخرج معك قالت نعم فخرجت معها إلى أن جاءت أبا بكر رضي الله تعالى عنه فوجدته صريعا فصاحت وقالت إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وإني لأرجو أن ينتقم الله
منهم فقال لها أبو بكر ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له هذه أمك تسمع قال فلا عين عليك منها ألا أنها لا تفشي سرك قالت سالم فقال أين هو فقال في دار الأرقم فقال والله لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت أمه فأمهلناه حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس فخرجنا به يتكئ علي حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق له رقة شديدة وأكب عليه يقبله وأكب عليه المسلمون كذلك فقال بأبي وأمي أنت يا رسول الله ما بي من بأس إلا ما نال الناس من وجهي وهذه أمي برة بولدها فعسى الله أن ينقذها بك من النار فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الإسلام فأسلمت انتهى
هذا وذكر الزمخشري في كتابه خصائص العشرة أن هذه الواقعة خصلت لأبي بكر لما أسلم وأخبر قريشا بإسلامه فليتأمل فإن تعدد الواقعة بعيد
ومما وقع لإبن مسعود رضي الله تعالى عنه من الأذية أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا يوما فقال والله ما سمعت قريش القرآن جهرا إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فيكم يسمعهم القرآن جهرا فقال عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنا فقالوا نخشى عليك منهم إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم فقال دعوني فإن الله سيمنعني منهم ثم إنه قام عند المقام وقت الشمس وقريش في أنديتهم فقال { بسم الله الرحمن الرحيم } رافعا صوته { الرحمن علم القرآن } واستمر فيها فتأملته قريش وقالوا ما بال ابن أم عبد فقال بعضهم يتلو بعض ما جاء به محمد ثم قاموا إليه يضربون وجهه وهو مستمر في قراءته حتى قرأ غالب السورة ثم انصرف إلى أصحابه وقد أدمت قريش وجهه فقال له أصحابه هذا الذي خشينا عليك منه فقال والله ما رأيت أعداء الله أهون على مثل اليوم ولو شئتم لأتيتهم بمثلها غدا قالوا لا قد أسمعتهم ما يكرهون
ومما وقع له صلى الله عليه وسلم من الأذية أنه كان إذا قرأ القرآن تقف له جماعة من يمينه وجماعة من يساره ويصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار لأنهم تواصوا { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } حتى كان من أراد منهم سماع القرآن أتى خفية واسترق السمع خوفا منهم
ومما وقع له صلى الله عليه وسلم من الأذية ما كان سببا لإسلام عمه حمزة رضي الله تعالى عنه وهو ما حدث به ابن إسحاق قال حدثني به رجل من أسلم أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا أي وقيل عند الحجون فآذاه وشتمه ونال منه ما يكرهه أي وقيل إنه صب التراب على رأسه أي وقيل ألقى عليه فرثا ووطئ برجله على عاتقه فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاة لعبدالله بن جدعان في سكن لها تسمع ذلك وتبصره ثم انصرف أبو جهل إلى نادي قريش أي محل تحدثهم في المسجد فجلس معهم فلم يلبث حمزة أن أقبل متوشحا بسيفه راجعا من قنصه أي من صيده وكان من عادته إذا رجع من قنصه لا يدخل إلى أهله إلا بعد أن يطوف بالبيت فمر على تلك المولاة فأخبرته الخبر أي فقالت له يا أبا عمارة لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد صلى الله عليه وسلم آنفا من أبي الحكم بن هشام تعني أبا جهل وجده ههنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد صلى الله عليه وسلم أي وقيل الذي أخبرته مولاة أخته صفية بنت عبدالمطلب قالت له إنه صب التراب على رأسه وألقى عليه فرثا ووطئ برجله على عاتقه وعلى إلقاء الفرث عليه اقتصر أبو حيان في النهر فقال لها حمزة أنت رأيت هذا الذي تقولين قالت نعم
وفي رواية فلما رجع من صيده إذا امرأتان تمشيان خلفه فقالت إحداهما لو علم ما صنع أبو جهل بابن أخيه أقصر عن مشيته فالتفت إليهما فقال ماذاك قالت أبو جهل فعل بمحمد كذا وكذا ولا مانع من تعدد الأخبار من المرأتين والمولاتين فاحتمل حمزة الغضب ودخل المسجد فرأى أبا جهل جالسا في القوم فأقبل نحوه حتى قام على رأسه رفع القوس وضربه فشجه شجة منكرة ثم قال أتشتمه فأنا على دينه أقول ما يقول فرد على ذلك إن استطعت
أي وفي لفظ أن حمزة لما قام على رأس أبي جهل بالقوس صار أبو جهل يتضرع إليه ويقول سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا قال ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقامت رجال من بني مخزوم أي من عشيرة أبي جهل إلى حمزة لينصروا أبا جهل فقالوا ما نراك إلا قد صبأت فقال حمزة وما يمنعني وقد استبان لي منه أنا أشهد أنه رسول الله
وأن الذي يقوله حق والله لا أنزع فامنعوني إن كنت صادقين فقال لهم أبو جهل دعوا أبا عمارة أي ويكنى أيضا بأبي يعلى اسم ولد له أيضا فإني والله لقد أسمعت ابن أخيه شيئا قبيحا وتم حمزة على إسلامه أي استمر أي بعد أن وسوس له الشيطان فقال لنفسه لما رجع إلى بيته أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابي وتركت دين آبائك الموت خير لك مما صنعت ثم قال اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا فبات بليلة ثم لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان حتى أصبح فغذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ياابن أخي إن قد وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه وإقامة مثلي على ما لا أدري أرشد هو أم غي شديد فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ووعظه وخوفه وبشره فألقى الله تعالى في قلبه الإيمان بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أشهد أنك لصادق فأظهر يابن أخي دينك
وقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن هذه الواقعة سبب لنزول قوله تعالى { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس } يعني حمزة { كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } يعنى أبا جهل وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلام حمزة سرورا كبيرأ لأنه كان أعز فتى في قريش واشدهم شكيمة أي أعظمهم في عزة النفس وشهامتها ومن ثم لما عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز كفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على بعض أصحابه بالأذية سيما المستضعفين منهم الذين لا جوار لهم أي لا ناصر لهم فإن كل قبيلة غدت على من أسلم منها تعذبه وتفتنه عن دينه بالحبس والضرب والجوع والعطش وغير ذلك أي حتى إن الواحد منهم ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي به وكان أبو جهل يحرضهم على ذلك وكان إذا سمع بأن رجلا أسلم وله شرف ومنعة جاء إليه ووبخه وقال له ليغلبن رأيك وليضعفن شرفك وإن كان تاجرا قال والله لتكسدن تجارتك ويهلك مالك وإن كان ضعيفا أغرى به حتى أن منهم من فتن عن دينه ورجع إلى الشرك كالحارث بن ربيعة بن الأسود وأبي قيس بن الوليد بن المغيرة وعلى بن أمية بن خلف والعاص بن منبه بن الحجاج وكل هؤلاء قتلوا على كفرهم يوم بدر
وممن فتن عن دينه وثبت عليه ولم يرجع للكفر بلال رضي الله تعالى عنه وكان مملوكا
لأمية بن خلف فعن بعضهم أن بلالا كان يجعل في عنقه حبل يدفع إلى الصبيان يلعبون به ويطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد بالرفع والتنوين أو بغير تنوين أي الله أحد أو يا أحد فهو إشارة لعدم الإشراك وقد أثر الحبل ف عنقه
وعن ابن إسحاق أن أمية بن خلف كان يخرج بلالا إذا حميت الظهيرة بعد أن يجيعه ويعطشه يوما وليلة فيطرحه على ظهره في الرمضاء أي الرمل إذا اشتدت حرارته لو وضعت عليه قطعة لحم لنضجت ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوصع على صدره ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى فيقول أحد أحد أي أنا لا أشرك بالله شيئا أنا كافر باللات والعزى
أي وقيل كان بلال مولدا من مولدي مكة وكان لعبدالله بن جدعان التيمي وكان من جملة مائة مملوك مولدة له فلما بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أمر بهم فأخرجوا من مكة أي خوف إسلامهم فأخرجوا إلا بلالا فإنه كان يرعى غنمه فأسلم بلال وكتم إسلامه فسلح بلال يوما على الأصنام التي حول الكعبة
ويقال إنه صار يبصق عليها ويقول خاب وخسر من عبدكن فشعرت به قريش فشكوه إلى عبدالله وقالوا له أصبوت قال ومثلي يقال له هذا فقالوا له إن أسودك صنع كذا وكذا فأعطاهم مائة من الإبل ينحرونها للأصنام ومكنهم من تعذيب بلال فكانوا يعذبونه بما تقدم أي ويجوز أن يكون ابن جدعان بعد ذلك ملكه لأمية بن خلف فلا يخالفه ما تقدم من أن أمية بن خلف كان يتولى تعذيبه وما يأتي من أن أبا بكر رضي الله عنه اشتراه منه ويقال إنه صلى الله عليه وسلم مر عليه وهو يعذب فقال سينجيك أحد أحد
أي وقيل مر عليه ورقة بن نوفل وهو يقول أحد أحد فقال نعم أحد أحد والله يا بلال ثم أتى إلى أمية وقال له والله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا أي لأتخذن قبره منسكا ومسترحما لأنه من أهل الجنة وتقدم أن هذا يدل على أن ورقة أدرك البعثة التي هي الرسالة وتقدم ما فيه فكان بلال بقوله أحد أحد يمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان
وقد وقع له رضي الله تعالى عنه أنه لما احتضر وسمع امرأته تقول واحزناه صار يقول واطرباه غدا ألقى الأحبة محمدا وحزبه فكان بلال يمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء وقد ذكر بعضهم أن هذا قاله أبو موسى الأشعري ومن معه لما وفدوا عليه صلى الله
عليه وسلم وهو في خيبر أي صاروا يقولون غدا نلقى الأحبة محمد وحزبه
ومر به أبو بكر رضي الله تعالى عنه يوما وهو ملقى على ظهره في الرمضاء وعلى ظهره تلك الصخرة فقال لأمية بن خلف ألا تتقي الله تعالى في هذا المسكين حتى متى تعذبه قال أنت أفسدته فأنقذه مما ترى قال أبو بكر عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى أي على دينك أعطيكه به قال قبلت قال هو لك فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذ بلالا فأعتقه
وفي تفسير البغوي قال سعيد بن المسيب بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في بلال حين قال أتبيعنيه قال نعم أبيعه بقسطاس يعني عبدا لأبي بكر رضي الله تعالى عنه كان صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش وكان مشركا يأبى الإسلام فاشتراه أبو بكر به هذا كلامه
وفي الإمتاع لما ساوم أبو بكر أمية بن خلف في بلال قال أمية لأصحابه لألعبن بأبي بكر لعبة ما لعبها أحد بأحد ثم تضاحك وقال له أعطني عبدك قسطاس فقال أبو بكر إن فعلت تفعل قال نعم قال قد فعلت فتضاحك وقال لا والله حتى تعطيني معه امرأته قال إن فعلت تفعل قال نعم قال قد فعلت ذلك فتضاحك وقال لا والله حتى تعطيني ابنته مع امرأته قال إن فعلت تفعل قال نعم قال قد فعلت ذلك فتضاحك وقال لا والله حتى تزيدني معه مائتي دينار فقال أبو بكر رضي الله عنه أنت رجل لا تستحي من الكذب قال لا واللات والعزى لأن أعطيتني لأفعلن فقال هي لك فأخذه هذا كلامه
وقيل اشتراه بتسع وقيل بخمس أواق أي ذهبا أي وقيل ببردة وعشرة أواق من فضة وفي رواية برطل من ذهب
ويروى أن سيده قال لأبي بكر لو أبيت إلا أوقية أي لو قلت لا أشتريه إلا بأوقية لبعناكه فقال لو طلبت مائة أوقية لأخذته بها
ولما قال المشركون إنما أعتق أبو بكر بلالا ليد كانت له عنده ليكافئه بها انزل الله تعالى { والليل إذا يغشى } السورة فالأتقى أبو بكر رضي الله تعالى عنه والأشقى أمية بن خلف
قال الإمام فخر الدين أجمع المفسرون هنا على أن المراد بالأتقى أبو بكر وذهب
الشيعة إلى أن المراد به علي رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه ويرده وصف الأتقى بقوله تعالى { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } لأن هذا الوصف لا يصدق على علي رضي الله تعالى عنه لأنه كان في تربية النبي صلى الله عليه وسلم أي كما تقدم فكان صلى الله عليه وسلم منعما عليه نعمة يجب عليه جزاؤها أي نعمة دنيوية لأنها التي يجازى عليها بخلاف أبي بكر فإنه لم يكن له صلى الله عليه وسلم نعمة دنيوية وإنما كان له نعمة الهداية وهي نعمة لا يجازي عليها قال الله تعالى { قل لا أسألكم عليه أجرا } فتعين حمل الآية على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فيلزم من ذلك أن يكون أبو بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل الخلق لأن الله تعالى يقول { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } والأكرم هوالأفضل وبين ذلك الفخر الرازي بأن الأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد النبي صلى الله عليه وسلم إما أبو بكر وإما على فلا يمكن حمل الآية على علي لما تقدم فتعين حملها على أبي بكر
وذكر بعض أهل المعاني أي المبينين لمعاني القرآن كالزجاج والفراء والأخفش أن الراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي فأوقع أفعل التفضيل موضع فعيل فهو عام في أمية ابن خلف وأبي بكر وغيرهما وإن كان السبب خاصا والذي بخل واستغنى المراد به أبوسفيان لأنه كان عاتب أبا بكر في إنعامه وإعتاقه وقال له أضعت مالك والله لا تصيبه أبدا وقيل المراد به أمية بن خلف
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر اشترى بلالا قال له الشركة يا أبا بكر فقال قد أعتقته يا رسول الله أي لأن بلالا قال لأبي بكر حين اشتراه إن كنت اشتريتني لنفسك فأمسكني وإن كنت إنما اشتريتني لله عز وجل فدعني لله فأعتقه
هذا وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لقى أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقال لو كان عندنا مال اشتريت بلالا فانطلق العباس رضي الله تعالى عنه فاشتراه فبعث به إلى أبي بكر أي ملكه له فاعتقه فليتأمل الجمع بين هذا وماتقدم
وقد اشترى أبو بكر رضي الله تعالى عنه جماعة آخرين ممن كان يعذب في الله منهم حمامة أم بلال ومنهم عامر بن فهيرة فإنه كان يعذب في الله تعالى حتى لا يدرى ما يقول وكان لرجل من بني تيم من ذوي قرابة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ومنهم أبو فكيهة كان عبدا لصفوان بن أمية أسلم حين أسلم بلال فمر به أبوبكر رضي الله تعالى عنه وقد
أخذه أمية أبو صفوان وأخرجه نصف النهار في شدة الحر مقيدا إلى الرمضاء فوضع على بطنه صخرة فخرج لسانه وأخو أمية يقول له زده عذابا حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره فاشتراه أبو بكر رضي الله تعالى عنه ومنهم امرأة وهي زنيرة بزاي فنون مشددة مكسورتين فمثناة تحتية ساكنة وهي في اللغة الحصاة الصغيرة عذبت في الله تعالى حتى عميت قال لها يوما أب جهل إن اللات والعزى فعلا بك ما ترين فقالت له كلا والله لا تملك اللات والعزى نفعا ولا ضرا هذا أمر من السماء وربي قادر على أن يرد علي بصري فأصبحت تلك الليلة وقد رد الله تعالى عليها بصرها فقالت قريش إن هذا من سحر محمد صلى الله عليه وسلم فاشتراها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأعتقها أي وكذا ابنتها
وفي السيرة الشامية أم عنيس بالنون أو الباء الموحدة فمثناة تحتية فسين مهملة أمة لبني زهرة كان الأسود بن عبد يغوث يعذبها ولم يصفها بأنها بنت زنيرة فاشتراها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأعتقها وكذا النهدية وابنتها وكانتا للوليد بن المغيرة وكذا امرأة يقال لها لطيفة وكذا أخت عامر بن فهيرة أو أمه كانت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قبل أن يسلم
فقد جاء أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه مر على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو يعذب جارية أسلمت استمر يضربها حتى مل قبل أن يسلم ثم قال لها إني أعتذر إليك فإني لم أتركك حتى مليت فقالت له كذلك يعذبك ربك إن لم تسلم فاشتراها منه وأعتقها
وفي السيرة الشامية وصفها بأنها جارية بني المؤمل بن حبيب وكان يقال لها لبينة فجملة هؤلاء تسعة
وممن فتن عن دينه فثبت عليه خباب بن الأرت بالمثناة فوق فإنه سبى في الجاهلية فاشترته أم أنمار أي وكان قينا أي حدادا وكان صلى الله عليه وسلم يألفه ويأتيه فلما أسلم وأخبرت بذلك مولاته صارت تأخذ الحديدية وقد أحمتها بالنار فتضعها على رأسه فشكا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اللهم انصر خبابا فاشتكت مولاته رأسها فكانت تعوي مع الكلاب فقيل لها اكتوي فكان خباب يأخذ الحديدة وقد أحماها فيكوي رأسها
وفي البخاري عن خباب قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة ولقد لقينا معاشر المسلمين من المشركين شدة شديدة فقلت يا رسول الله ألا تدعو الله لنا فقعد صلى الله عليه وسلم محمرا وجهه فقال إنه كان من قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على فرق رأس أحدهم فيشق ما يصرفه ذلك عن دينه وليظهرن الله تعالى هذاالأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه
قال وعن خباب رضي الله تعالى عنه أنه حكى عن نفسه قال لقد رأيتني يوما وقد أوقدوا لي نارا ووضعوها على ظهري فما أطفأها إلا ودك ظهري أي دهنه
وممن فتن عن دينه فثبت عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه كان يعذب بالنار وفي كلام ابن الجوزي كان صلى الله عليه وسلم يمر به وهو يعذب بالنار فيمر يده على رأسه ويقول يانار كونى بردا وسلاما على عمار كما كنت على إبراهيم هذا كلامه
ثم إن عمارا كشف عن ظهره فإذا هو قد برص أي صار أثر النار أبيض كالبرص ولعل حصول ذلك كان قبل دعائه صلى الله عليه وسلم بأن النار تكون بردا وسلاما عليه وعن أم هانئ رضي الله تعالى عنها أن عمار بن ياسر وأباه ياسر وأخاه عبدالله وسمية أم عمار رضي الله تعالى عنهم كانوا يعذبون في الله تعالى فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم صبرا آل ياسر صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة أي وفي رواية صبرا يا آل ياسر اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت فمات يا سر في العذاب وأعطيت سمية لأبي جهل أي أعطاها له عمه أبو حذيفة بن المغيرة فإنها كانت مولاته فطعنها في قلبها فماتت أي بعد أن قال لها إن آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا لأنك عشقتيه لجماله ثم طعنها بالحربة في قبلها حتى قتلها فهي أو شهيدة في الإسلام اه
أي وعن بعضهم كان أبو جهل يعذب عمار بن ياسر وأمه ويجعل لعمار درعا من حديد في اليوم الصائف فنزل قوله تعالى { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون }
وجاء أن عمار بن ياسر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقد بلغ منا العذاب
كل مبلغ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم صبرا أبا اليقظان ثم قال اللهم لا تعذب أحدا من آل عمار بالنار
قال بعضهم وحضر عمار بدرا ولم يحضرها من أبواه مؤمناه إلا هو أي من المهاجرين فلا ينافى أن بشر بن البراء بن معرور الأنصاري حضر بدرا وأبواه مؤمنان
ومما أوذى به أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ما روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت لما ابتلى المسلمون بأذى المشركين أي وحصروا بني هاشم والمطلب في شعب أبي طالب وأذن صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة وهي الهجرة الثانية خرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد بالغين المعجمة موضع بأقاصي هجر وقيل موضع وراء مكة بخمسة أميال أي وفي رواية حتى إذا سار يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة بفتح الدال وكسر الغين المعجمة وتخفيف النون وهو سيد القارة اي وهو اسمه الحارث والقارة قبيلة مشهورة كان يضرب بهم المثل في قوة الرمى ومن ثم قيل لهم رماة الحدق لا سيما ابن الدغنة والقارة أكمة سوداء نزلوا عندها فسموا بها قال له أي تريد يا أبا بكر قال أبو بكر أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي قال ابن الدغنة فإن ملثلك يا أبا بكر قال ابو بكر أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي قال ابن الدغنة فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلدك فرجع مع ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة في أشراف قريش وقال لهم إن ابا بكر لا يخرج مثله أتخرجون رجلا يكسب المعدوم 6 ويصل الرحم ويحمل الكل ويقرى الضيف ويعين على نوائب الحق وهو في جواري فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة أي لم يرد جواره وقالوا لإبن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذنا بذلك ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ابن الدغنة ذلك لأبي بكر رضي الله تعالى عنه فمكث ايو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ثم ابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلى فيه ويقرأ القرآن وكان رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن فكانت نساء قريش يزدحمن عليه فأفزع ذلك كثيرا من أشراف قريش أي مع المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا إنا اجرنا أبابكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة
والقراءة وإنا قد خشينا أن يفتن نساؤنا وأبناءنا بهذا فإن أحب أن يقتصر على عبادة ربه في داره فعل وإن رأى أن يعلن بذلك فاسأله أن يرد إليك ذمتك فأنا قد كرهنا أن نخفرك أي نزل خفارتك أي ننقض جوارك ونبطل عهدك فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال قد علمت الذي قد عاقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت أي أزيلت خفارتي في رجل عقدت له فقال له أبو بكر فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله تعالى قال ولما رد جوار ابن الدغنة لقيه بعض سفهاء قريش وهو عابر إلى الكعبة فحثى على رأسه ترابا فمر عليه بعض كبراء قريش من المشركين فقال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه ألا ترى ما صنع هذا السفيه فقال له أنت فعلت بنفسك فصارأبو بكر يقول رب ما أحلمك قال ذلك ثلاثا انتهى
أي وفي كلام بعضهم وينبغي لك أن تتأمل فيما وصف به ابن الدعنة أبا بكر بين أشراف قريش بتلك الأوصاف الجليلة المساوية لما وصفت به خديجة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يطعنوا فيها مع ما هم متلبسون به من عظيم بغضه ومعاداته بسبب اسلامه فإن هذا منهم اعتراف أي اعتراف بإن أبا بكر كان مشهورا بينهم بتلك الأوصاف شهرة تامة بحيث لا يمكن أحد أن ينازع فيها ولا أن يجحد شيئا منها وإلا لبادوا إلى جحدها بكل طريق أمكنهم لما تحلوا به من قبيح العداوة له بسبب ما كانوا يرون منه من صدق موالاته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعظيم محبته له
ومما يؤثر عنه رضي الله عنه صنائع المعروف تقي مصارع السوء ثلاث من كن فيه كن عليه البغي والنكث والمكر
باب عرض قريش عليه صلى الله عليه وسلم أشياء من خوارق العادات وغير العادات ليكف عنهم لما رأوا المسلمين يزيدون ويكثرون وسؤالهم له أشياء من خوارق العادات معينات وغير معينات وبعثهم إلى أحبار يهود المدينة يسألونهم عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم وعما جاء به ومن حديث الزبيدي وحديث المستهزئين به صلى الله عليه وسلم ومن حديثهم حديث الأراشي ومن قصد أذيته صلى الله عليه وسلم فرد خائبا
حدث محمد بن كعب القرظي قال حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا مطاعا في قريش قال يوما وهو جالس في نادي قريش أي متحدثهم والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده يا معشر قريش ألا أقوم لمحمد صلى الله عليه وسلم وأكلمه وأعرض عليه أمور لعله يقبل بعضها فنعطيه إياها ويكف عنا قالوا يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه قال وفي رواية أخرى أن نفرا من قريش اجتمعوا وفي أخرى أشراف قريش من كل قبيلة اجتمعوا وقالوا ابعثوا إلى محمد حتى تعذروا فيه فقالوا انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يريد فقالوا لا نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة انتهى
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب أي من الوسط أي الخيار حسبا ونسبا وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم قال زاد بعضهم أنه قال أيضا أنت خير أم عبدالله أنت خير أم عبدالمطلب أي فسكت إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبدت وإن كنت تزعم أنك خير منهم فقل يسمع لقولك لقد أفضحتنا في العرب حتى طار فيهم أن في قريش ساحرا وأن في قريش كاهنا
ما تريد إلا أن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى انتهى فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل يا أبا الوليد أسمع فقال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا أي فيصير لك الأمر والنهى فهو أخص ما قبله وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه قال لقد فرغت يا أبا الوليد قال نعم قال فاسمع مني قال أفعل قال { بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون } ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقرأها عليه وقد أنصت عتبة لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } فأمسك عتبة على فيه صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم أن يكف عن ذلك ثم انتهى إلى السجدة فيها فسجد ثم قال قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض يحلف لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها لي خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه قال هذا رأيى فيه فاصنعوا ما بدالكم قال وفي رواية أن عتبة لما قام من عند النبي صلى الله عليه وسلم أبعد عنهم ولم يعد عليهم فقال أبو جهل والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأعجبه كلامه فانطلقوا بنا إليه فأتوه فقال أبو جهل والله يا عتبة ما جئناك إلا أنك قد صبوت إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأعجبك أمره فقص عليهم القصة فقال والله الذي
تصبها بنية يعني الكعبة ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسكت بفيه فأنشدته الرحم أن يكف وقد علمت أن محمدا صلى الله عليه وسلم إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب فقالوا له ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ماقال قال والله ما سمعت مثله والله ما هو بالشعر إلى آخر ماتقدم فقالوا والله سحرك يا أبا الوليد قال هذا رأيي فيكم فاصنعوا ما بدا لكم اه
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قريشا أي أشرافهم وشيختهم منهم الأسود بن زمعة والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان والنضر بن الحارث وأبو جهل
وفي الينبوع أتى الوليد بن المغيرة في أربعين رجلا من الملأ أي من السادات منزل أبي طالب وسألوه أن يحضر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمره بإشكائهم ما يشكون منه أي أن يزيل شكواهم منه ويجيبهم إلى أمر فيه الألفة والإصلاح فأحضره وقال يا بن أخي هؤلاء الملأ من قومك فأشكهم وتألفهم فعاتبوا النبي صلى الله عليه وسلم على تسفيه أحلامهم وأحلام آبائهم وعيب آلهتهم الحديث أي قالوا له يا محمد إنا بعثنا إليك لنكلمك فإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعيبت الدين وسببت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة ولم يبق أمر قبيح إلا أتيته فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا فنحن نسودك ونشرفك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك تابعا من الجن قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طبك
وفي رواية أنهم لما اجتمعوا ودعوه صلى الله عليه وسلم فجاءهم مسرعا طمعا في هدايتهم حتى جلس إليهم وعرضوا عليه الأموال والشرف والملك فقال صلى الله عليه وسلم ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم وأن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم
وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دعت قريش النبي صلى الله
عليه وسلم إلى أن يعطوه مالا فيكون به أغنى رجل بمكة ويزوجوه ما أراد من النساء ويكف عن شتم آلهتهم ولا يذكرها بسوء فقد ذكر أن عتبة بن ربيعة قال له إن كان أن ما بك الباءة فاختر أي نساء قريش فنزوجك عشرا وقالوا له ارجع إلى ديننا واعبد آلهتنا واترك ما أنت عليه ونحن نتكفل لك بكل ما تحتاج إليه في دنياك وآخرتك وقالوا له إن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة ولك فيها صلاح قال وماهي قال تعبد آلهتنا اللات والعزى سنة ونعبد إلهك سنة فنشترك نحن وأنت في الأمر فإن كان الذي تعبده خيرا مما نعبد كنت أخذت منه بحظك وإن كان الذي نعبد خيرا مما تعبد كما قد أخذنا منه بحظنا فقال لهم حتى أنظر ما يأتي من ربي فجاء الوحي بقوله تعالى { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم } السورة
وعن جعفر الصادق أن المشركين قالوا له اعبد معنا آلهتنا يوما نعبد معك إلهك عشرة واعبد معنا آلهتنا شهرا نعبد معك إلهك سنة فنزلت اي لا أعبد ما تعبدون يوما ولا أنتم عابدون ما أعبد شهرا ولا أنا عابد ما عبدتم شهرا ولا أنتم عابدون ما أعبد سنة روى ذلك التقدير جعفر ردا على بعض الزنادقة حيث قالوا له طعنا في القرآن لو قال امرؤ القيس ** قفا نبك من ذكري حبيب منزل ** وكرر ذلك أربع مرات في نسق أما كان عيبا فكيف وقع في القرآن { قل يا أيها الكافرون } السورة وهي مثل ذلك وقوله { لكم دينكم ولي دين } نسخ بآية القتال وبقوله تعالى { أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } { بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } ولما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أنزل لما كرهتموه القرآن قالوا أئت بقرآن غير هذا فأنزل الله تعالى { ولو تقول علينا } الآيات
وقد يقال المناسب للرد عليهم قوله تعالى { قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي } الآية ثم رأيت في الكشاف ما يوافق ذلك وهو لما غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأصنام والوعيد الشديد قالوا ائت بقرآن آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك أو بدله بأن تجعل مكان آية عذاب رحمة وتسقط ذكر الآلهة وذم عبادتها نزل قوله تعالى { قل ما يكون لي أن أبدله } الآية
قال وجلس أي صلى الله عليه وسلم مجلسا فيه ناس من وجوه قريش منهم أبو جهل
ابن هشام وعتبة بن ربيعة أي وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة فقال لهم أليس حسنا ما جئت به فيقولون بلى والله وفي لفظ هل ترون بما أقول بأسا فيقولون لا فجاء عبدالله بن أم مكتوم وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين وهوممن أسلم بمكة قديما والنبي صلى الله عليه وسلم مشتغل بأولئك القوم وقد رأى منهم مؤانسة وطمع في إسلامهم فصار يقول يا رسول الله علمني مما علمك الله وأكثر عليه فشق عليه صلى الله عليه وسلم ذلك فأعرض عن ابن أم مكتوم ولم يكلمه انتهى
أي وفي رواية أشار صلى الله عليه وسلم إلى قائد ابن أم مكتوم بأن يكفه عنه حتى يفرغ من كلامه فكفه القائد فدفعه ابن أم مكتوم فعبس صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه مقبلا على من كان يكلمه فعاتبه الله تعالى في ذلك بقوله { عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك } السورة أي والمجئ مع الأعمى ينشأ عن مزيد من الرغبة وتجشم الكلفة والمشقة في المجئ ومن كان هذا شأنه فحقه الإقبال عليه لا الإعراض عنه فكان بعد ذلك إذا جاءه يقول مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويبسط له رداءه قال وبهذا يسقط ما للقاضي أبي بكر ابن العربي هنا انتهى
أقول لعل الذي له هو ما ذكره تلميذه السهيلي وهو أن ابن أم مكتوم لم يكن أسلم حينئذ وإلا لم يسمعه بالإسم المشتق من العمر دون الإسم المشتق من الإيمان لو كان دخل في الإيمان قبل ذلك وإنما دخل فيه بعد نزول الآية ويدل على ذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم استدنني يا محمد وليم يقل استدنني يا رسول الله ولعل في قوله تعالى { لعله يزكى } ما يعطى الترجى والإنتظار ولو كان إيمانه قد تقدم قبل هذا لخرج عن حد الترجي والإنتظار للتزكي هذا كلامه
وعن الشعبي قال دخل رجل على عائشة رضي الله تعالى عنها وعندها ابن أم مكتوم وهي تقطع له الأترج وتجعله في العسل وتطعمه فقيل لها في ذلك فقالت ما زال هذا له من آل محمد منذ عاتب الله عز وجل فيه نبيه صلى الله عليه وسلم والله أعلم
وفي فتاوي الجلال السيوطي من جملة أسئلة رفعت إليه فأجاب عنها بأنها باطلة أن أبا جهل قال يا محمد إن أخرجت لنا طاوسا من صخرة في داري آمنت بك فدعا ربه عز وجل فصارت الصخرة تئن كأنين المرأة الحبلى ثم انشقت عن طاوس صدره من ذهب
ورأسه من زبرجد وجناحاه من ياقوتة ورجلاه من جوهر فلما رأى ذلك أبو جهل أعرض ولم يؤمن
ومما سألوه صلى الله عليه وسلم من الآيات غير المعينات على ما رواه الشيخان أو معينة كما في رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وسيأتي ما يعلم منه أنهم سألوه صلى الله عليه وسلم أولا آية غير معينة ثم عينوها فلا مخالفة
فقد ذكر ابن عباس أن قريشا سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية
أي رواية عن ابن عباس اجتمع المشركون اي بمنى منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والعاص بن هشام والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والنضر بن الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان وقيل يكون نصفه بالمشرق ونصفه الآخر بالمغرب وكانت ليلة أربعة عشر أي ليلة البدر فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فعلت تؤمنوا قالوا نعم فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعطيه ما سألوا فانشق القمر نصفا على ابي قبيس ونصفا على قعيقعان وفي لفظ فانشق القمر فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه ولعل الفرقة التي كانت فوق الجبل كانت جهة المشرق والتي كانت دون الجبل كانت جهة المغرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشهدوا اشهدوا ولا منافاة بين الروايتين ولا بينهما وبين ما جاء في رواية فانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة قدر ما بين العصر إلى الليل ينظر إليه ثم غاب أي ثم إن كان الإنشقاق قبل الفجر فواضح وإلا فمعجزة أخرى لأن القمر ليلة أربعة عشر يستمر جميع الليل وسيأتي عن زين المعمر أنه عاد بعد غروبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهدوا والفرقتان هما المرادتان بالمرتين في بعض الروايات التي أخذ بظاهرها بعضهم كالزين العراقي فقال إنه انشق مرتين لأن المرة قد تستعمل في الأعيان وإن كان أصل وضعها الأفعال فقد قال ابن القيم كون القمر انشق مرتين مرة بعد مرة في زمانين من له خبرة بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته يعلم أنه غلط وأنه لم يقع الإنشقاق إلا مرة واحدة وعند ذلك قال كفار قريش سحركم ابن أبي كبشة أي وهو أبو كبشة أحد أجداده صلى الله عليه وسلم من قبل أمه لأن وهب بن عبد مناف
ابن زهرة جد أبي آمنة أمه يكنى أبا كبشة أو هو من قبل مرضعته حليمة لأن والدها أو جدها كان يكنى بذلك أو كان لها بنت تسمى كبشة فكان زوجها الذي هو أبوه من الرضاعة يكنى بتلك البنت كما تقدم في الرضاع
وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم فقال حدثني حاضني أبو كبشة أنهم لما أرادوا دفن سلول وكان سيدا معظما حفروا له فوقعوا على باب مغلق ففتحوه فإذا سرير وعليه رجل وعليه حلل عدة وعند رأسه كتاب أنا أبو شهر ذو النون مأوى المساكين ومستفاد الغارمين أخذني الموت غصبا وقد أعيى الجبابرة قيل قال صلى الله عليه وسلم كان ذو النون هذا هو سيف بن ذي يزن الحميري وقيل أبو كبشة جده صلى الله عليه وسلم لأبيه لأن أبا أم جده عبدالمطلب كان يدعى أبا كبشة وكان يعبد النجم الذي يقال له الشعرى وترك عبادة الأصنام مخالفة لقريش فهم يشيرون بذلك إلى أن له في مخالفته سلفا
وقيل الذي عبد الشعرى وترك الأصنام رجل من خزاعة فشبهوه صلى الله عليه وسلم به في مخالفته لهم في عبادة الأصنام أي ومما قد يؤيد هذا الأخير ما في الإتقان حيث مثل بهذا الآية للنوع المسمى بالتنكيت وهو أن يخص المتكلم شيئا من بين الأشياء بالذكر لأجل نكتة كقوله تعالى { وأنه هو رب الشعرى } خص الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم وهو سبحانه وتعالى رب كل شيء لأن العرب كان ظهر فيهم رجل يعرف بابن أبي كبشة عبدالشعرى ودعا خلقا إلى عبادتها فأنزل الله تعالى { وأنه هو رب الشعرى } التي ادعيت فيها الربوبية هذا كلامه وكبشة ليس مؤنث كبش لأن مؤنث كبش ليس من لفظه فقال رجل منهم إن محمدا إن كان سحر القمر أي بالنسبة إليكم فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها أي جميع أهل الأرض وفي رواية لئن كان سحرنا ما يستطيع أن يسحر الناس كلهم فاسألوه من يأتيكم من بلد آخر هل رأوا هذا فسألوهم فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك وفي رواية أن أبا جهل قال هذا سحر فسألوا أهل الآفاق وفي لفظ انظروا ما يأتيكم به السفار حتى تنظروا هل رأوا ذلك أم لا فأخبروا أهل الآفاق وفي لفظ فجاء السفار وقد قدموا من كل وجه فأخبروهم أنهم رأوه منشقا فعند ذلك قالوا هذا سحر مستمر أي مطرد فهو إشارة إلى ذلك وإلى ما قبله من الآيات وفي لفظ قالوا هذا سحر أسحر
السحرة فأنزل الله تعالى { اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } أي مطرد كما تقدم أو محكم أو قوي شديد أو مار ذاهب لا يبقى وهذا الكلام كما لا يخفى يدل على أنه لم يختص برؤية القمر منشقا أهل مكة بل جميع أهل الآفاق وبه يرد قول بعض الملاحدة لو وقع إنشقاق القمر لاشترك أهل الأرض كلهم في معرفته ولم يختص بها أهل مكة ولا يحسن الجواب عنه بأنه طلبه جماعة خاصة فاختصت رؤيته بمن اقترح وقوعه ولا بأنه قد يكون القمر حينئذ في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض ولا بقول بعضهم إن انشقاق القمر آية ليلية جرى مع طائفة في جنح ليلة ومعظم الناس نيام
وفي فتح الباري حنين الجذع وإنشقاق القمر نقل كلا منهما نقلا مستفيضا يفيد القطع عند من يطلع على طرق الحديث
أقول وإلى إنشقاق القمر أشار صاحب الهمزية بقوله ** شق عن صدره وشق له البد ** ر ومن شرط كل شرط جزاء **
أي شق عن صدره صلى الله عليه وسلم وفي نسخة قلبه وكل منهما صحيح لأنه شق صدره أولا ثم شق قلبه ثانيا وشق لأجله القمر ليلة أربعة عشر وإنما شق له صلى الله عليه وسلم لأن من شرط كل شرط جزاء لأنه لما شق صدره صلى الله عليه وسلم جوزى على ذلك بأعظم مشابه له في الصورة وهو شق القمر الذي هو من أظهر المعجزات بل أعظمها بعد القرآن وقد أشار إلى ذلك أيضا الإمام السبكي في تائيته بقوله ** وبدر الدياجى انشق نصفين عندما ** أرادت قريش منك إظهار آية **
أي فإنهم ائتمروا فيما بينهم فاتفقوا على أن يقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم إنشقاق القمر الذي هو بعيد عن الأطماع في غاية الإمتناع أي فقد سألوه أولا آية غير معينة ثم عينوها
وفي الإصابة عن بعضهم قال وأنا ابن تسع عشرة سنة سافرت مع أبي وعمي من خراسان إلى الهند في تجارة فلما بلغنا أوائل بلاد الهند وصلنا إلى شيعة من الضياع فعرج أهل القافلة نحوها فسألناهم عن ذلك فقالوا هذه ضيعة الشيخ زين الدين المعمر فرأينا شجرة خارج الضيعة تظل خلقا كثيرا وتحتها جمع عظيم من أهل تلك الضيعة فلما رأونا رحبوا بنا فرأينا زنبيلا معلقا في بعض أغصان تلك الشجرة فسألناهم فقالوا في هذا
الزنبيل الشيخ زين الدين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بطول العمر ست مرات فبلغ ستمائة سنة كل دعوة بمائة سنة فسألناهم أن ينزلوا الشيخ لنسمع كلامه وحديثه فتقدم شيخ منهم فأنزل الزنبيل فإذا هو مملوء بالقطن والشيخ في وسط القطن وهو كالفرخ فوضع فمه على أذنه وقال يا جداه هؤلاء قوم قد قدموا من خراسان وقد سألوا أن تحدثهم كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وماذا قال لك فعند ذلك تنفس الشيخ وتكلم بصوت كصوت النحل بالفارسية ونحن نسمع فقال سافرت مع أبي وأنا شاب من هذه البلاد إلى الحجاز في تجارة فلما بلغنا بعض أودية مكة وكان المطر قد ملأ الأودية فرأيت غلاما حسن الشمائل يرعى إبلا في تلك الأودية وقد حالت السيل بينه وبين إبله وهو يخشى من خوض الماء لقوة السيل فعلمت حاله فأتيت إليه وحملته وخضت به السيل إلى عند إبله من غير معرفة سابقة فلما وضعته عند إبله نظر إلي ودعا لي ثم عدنا إلى بلادنا وتطاولت المدة ففي ليلة ونحن جلوس في ضيعتنا هذه في ليلة مقمرة ليلة البدر والبدر في كبد السماء إذ نظرنا إليه قد انشق نصفين فغرب نصف في المشرق ونصف في المغرب وأظلم الليل ساعة ثم طلع النصف من المشرق والثاني من المغرب إلى أن ألتقيا في وسط السماء كما كان أول مرة فتعجبنا من ذلك غاية العجب ولم نعرف لذلك سببا فسألنا الركبان عن سببه فأخبرونا أن رجلا هاشميا ظهر بمكة وادعى أنه رسول الله إلى كافة العالم وأن أهل مكة سألوه معجزة واقترحوا عليه أن يأمر لهم القمر فينشق في السماء ويغرب نصفه في المشرق ونصفه في المغرب ثم يعود إلى ما كان عليه ففعل لهم ذلك فاشتقت إلى رؤياه فذهبت إلى مكة وسألت عنه فدلوني على موضعه وأتيت إلى منزله واستأذنت فأذن لي في الدخول فدخلت عليه فلما سلمت عليه نظر إلي وتبسم وقال ادن مني وبين يديه طبق فيه رطب فتقدمت وجلست وأكلت من الرطب وصار يناولني إلى أن ناولني ست رطبات ثم نظر إلي وتبسم وقال لي ألم تعرفني قلت لا فقال ألم تحملني في عام كذا في السيل ثم قال امدد يدك فصافحني وقال قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقلت ذلك فسر أي وقال عند خروجي من عنده بارك الله في عمرك قال ذلك ست مرات فبارك الله لي عمري بكل دعوه مائة سنة فعمري اليوم ستمائة سنة أي في المائة السادسة مشرف على تمامها تأمل
وسئل الحافظ السيوطي عن مثل هذا الحديث وهو الحديث الذي رواه معمر الذي يزعم أنه صحابي وأنه يوم الخندق صار ينقل التراب بغلقين وبقية الصحابة بغلق واحد فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفه الشريف بين كتفيه أربع ضربات وقال له عمرك الله يا معمر فعاش بعد ذلك أربعمائة سنة ببركة الضربات التي ضربها بين كتفيه كل ضربة مائة سنة وقال له بعد أن صافحه من صافحك إلى ست أو سبع لم تمسه النار هل هو صحيح أم كذب وإفتراء لا تجوز روايته فأجاب بأنه باطل وأن معمرا هذا كذاب دجال لأنه ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال قبل موته بشهر أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد وقد قال أهل الحديث وغيرهم إن من ادعى الصحبة بعد مائة سنة من وفاته صلى الله عليه وسلم فهو كذاب ومعلوم أن آخر الصحابة مطلقا موتا أبو الطفيل مات سنة عشر ومائة من الهجرة ثبت ذلك في صحيح مسلم واتفق عليه العلماء فمن ادعى الصحبة بعد أبي الطفيل فهو كذاب
ومما سألوه صلى الله عليه وسلم من الآيات المعينات ما حدث به بعضهم قال إن قريشا قالت له صلى الله عليه وسلم سل ربك يسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ويبسط لنا بلادنا وليخرق فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن بعث لنا قصي بن كلاب فإنه كان شيخ صدق فنسأله عما تقول أحق هو أم باطل قال زاد في رواية فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا منزلتك من الله تعالى وأنه بعثك إلينا رسولا كما تقول فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهذا بعثت لكم إنما جئتكم من الله بما بعثني به اه
ثم قالوا له واسأل ربك يبعث معك ملكا يصدقك فيما تقول ويراجعنا عنك أي وفي لفظ قالوا له لم لا ينزل علينا الملائكة فتخبرنا بأن الله أرسلك أو نرى ربنا فيخبرنا بأنه أرسلك فنؤمن حينئذ بك وقال آخر يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه أي فلا بد أن تتميز عنا حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا أي وفي لفظ قالوا إن محمدا يأكل الطعام كما نحن نأكل ويمشي في الأسواق ويلتمس المعاش كما نلتمس نحن فلا يجوز
أن يمتاز عنا بالنبوة فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وأنزل الله تعالى { وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } ولما قالوا الله أعظم أن يكون رسوله بشرا منا أنزل الله تعالى { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس } ثم قالوا وأسقط السماء علينا كسفا أي قطعا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل وقد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا والله لن نؤمن بالرحمن أبدا أي وقد عنوا بالرحمن مسيلمة وقيل عنوا كاهنا كان لليهود باليمامة وقد رد الله تعالى عليهم بأن الرحمن المعلم له هو الله تعالى بقوله { قل هو } أي الرحمن { ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب } أي توبتي ورجوعي وعند ذلك قام صلى الله عليه وسلم حزينا آسفا على ما فاته من هدايتهم التي طمع فيها وقال له عبدالله بن عمته عاتكة بنت عبدالمطلب قبل أن يسلم رضي الله تعالى عنه يا محمد قد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبل ثم سألوك أن تعجل بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل والله لن نؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك أي كتاب معه أربعة من الملائكة يشهدون أنك كما تقول وأيم الله إنك لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك فأنزل الله تعالى عليه الآيات التي فيها شرح هذه المقالات في سورة الإسراء وفيها الإشارة إلى أنه تعالى خيره بين أن يعطيه جميع ما سألوا وأنهم إن كفروا بعد ذلك استأصلهم بالعذاب كالأمم السابقة وبين أن يفتح لهم باب الرحمة والتوبة لعلهم يتوبون وإليه يرجعون فاختار الثاني لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم من كثير منهم العناد وأنهم لا يؤمنون وإن حصل ما سألوا فيستأصلون بالعذاب لأن الله تعالى يقول { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة }
وعن محمد بن كعب ما حاصله أن الملأ من قريش أقسموا للنبي صلى الله عليه وسلم بالله عز وجل أنهم يؤمنون به إذا صار الصفا ذهبا فقام يدعو الله تعالى أن يعطيهم ما سألوه فأتاه جبريل فقال له إن شئت كان ذلك ولكني لم آت قوما بآية اقترحوها فلم يؤمنوا بها إلا أمرت بتعذيبهم وفيه أنه حينئذ يشكل رواية سؤالهم إنشقاق القمر
وفي رواية أتاه جبريل فقال يامحمد إن ربك يقرئك السلام ويقول إن شئت
أن يصبح لهم الصفا ذهبا فإن لم يؤمنوا أنزلت عليهم العذاب عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وإن شئت لا تصير الصفا ذهبا وفتحت لهم باب الرحمة والتوبة فقال لا بل أن تفتح لهم باب الرحمة والتوبة
وفي رواية وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم فقال صلى الله عليه وسلم بل حتى يتوب تائبهم وأيضا وافق على فتح باب الرحمة والتوبة لأنه صلى الله عليه وسلم علم أن سؤالهم لذلك جهل لأنه خفيت عليهم حكمة إرسال الرسل وهي إمتحان الخلق وتعبدهم بتصديق الرسل ليكون إيمانهم عن نظر وإستدلال فيحصل الثواب لمن فعل ذلك ويحصل العقاب لمن أعرض عنه إذ مع كشف الغطاء يحصل العلم الضروري فلا يحتاج إلى إرسال الرسل ويفوت الإيمان بالغيب
وأيضا لو يسألوا من تلك الآيات إلا تعنتا وإستهزاء لا على جهة الإسترشاد ودفع الشك وإلى سؤالهم تلك الآيات وإرتيابهم في القرآن وقولهم فيه إنه سحر وإفتراء أي سحر يأثره أي يأخذه عن مثله وعن أهل بابل يفرق به بين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته { إن هذا إلا قول البشر } من قول أبي اليسر وهوعبد لبني الحضرمي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجالسه وإلى قول أبي جهل أيضا تزاحمنا نحن وبنو عبدالمطلب الشرف حتى صرنا كفرسى رهان قالوا منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزل قوله تعالى { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } وإلى هذا أشار صاحب الهمزية بقوله ** عجبا للكفار زادوا ضلالا ** بالذي فيه للعقول اهتداء ** ** والذي يسألون منه كتاب ** منزل قد أتاهم وإرتقاء **
أي أعجب عجبا من حال الكفار حالة كونهم زادوا ضلالا بالقرآن الذي فيه إهتداء للعقول وأعجب عجبا أيضا من الأمر الذي يطلبونه منه صلى الله عليه وسلم وهو كثير من جملته كتاب منزل معه عليهم من السماء وهو القرآن ** أو لم يكفهم من الله ذكر ** فيه للناس رحمة وشفاء ** ** أعجز الإنس آية منه والجن ** فهلا يأتي به البلغاء ** ** كل يوم يهدى إلى سامعيه ** معجزات من لفظه القراء ** ** تتحلى به المسامع والأفواه ** فهو الحلى والحلواء ** **
رق لفظا وراق معنى فجاءت ** في حلاها وحليها الخنساء ** ** وأرتنا فيه غوامض فضل ** رقة من زلاله وصفاء ** ** إنما تجتلي الوجوه إذا ما ** جليت عن مرآتها الأصداء ** ** سور منه أشبهت صورا منا ** ومثل النظائر النظراء ** ** والأقاويل عندهم كالتماثيل ** فلا يوهمنك الخطباء ** ** كم أبانت آياته عن علوم ** من حروف أبان عنها الهجاء ** ** فهي كالحب والنوى أعجب الزرا ** ع منها سنابل وزكاء ** ** فأطالوا فيه التردد والريب فقالوا سحر وقالوا افتراء ** وإذا البينات لم تغن شيئا ** فالتماس الهدى بهن عناء ** ** وإذا ضلت العقول على علم ** فماذا تقوله الفصحاء **
أي أو لم يكفهم عما سألوه عنادا ذكر واصل إليهم حالة كونه من الله تعالى رحمة وشفاء للناس والجن والملائكة أعجز الإنس والجن آية منه فهلا يأتي بتلك الآية أهل البلاغة كل وقت يهدى قراؤه إلى سامعيه معجزات من لفظه ولذلك تتحلى بسماعه المسامع من التحلية التي هي لبس الحلي وتتحلى بألفاظه الأفواه من الحلواء فهو الحلى والحلواء حسن من جهة اللفظ وتصفى من شوائب النقص من جهة المعنى فأرتنارقة من زلاله وصفاء من ذلك الزلال خبايا فضل فيه وهي العلوم المستنبطة منه وإنما تظهر الوجوه ظهورا واضحا لا خفاء معه بوجه إذا قوبلت بمرآة وقت جلاء الأصداء عن تلك المرآة سور منه أشبهت صورا منا من حيث إشتمال كل صورة منا على عقل وفهم وخلق لا يشاركه فيه غيره والأقاويل الصادرة من الكفار في القرآن كالصور التي يصورها المصورون فإنه لا وجود لها في الحقيقة فما قالوه في القرآن باطل قطعي البطلان فاحذر الخطباء أن توقع في وهمك أن ما تأتي به يقارب القرآن كم أوضحت آياته علوما حالة كونها متولدة من حروف قليلة كشف عنها التهجي كالحب الذي يلقيه الزارع والنوى الذي يلقيه الغارس أعجب الزراع والغراس منها أي من تلك الحبوب والنوى سنابل وثمار وتمر فاق الحصر فأطالوا في تلك السور الشك فقالوا سحر وتمويه لا حقيقة له وقالوا مرة أخرى أساطير الأولين وإذا كانت الحجج والبراهين لم تفدهم شيئا من الهدى فطلب الهدى منهم بتلك الحجج تعب لا يفيد شيئا وإذا ضلت العقول
عن طرق الحق مع علم منها بتلك الطرق فأي قول يقوله الفصحاء أي وقال الوليد ابن المغيرة يوما أينزل القرآن على محمد وأترك أنا وأنا كبير قريش وسيدنا ويترك أبو مسعود الثقفي سيد ثقيف ونحن عظماء القريتين أي مكة والطائف فأنزل الله تعالة { وقالوا لولا } أي هلا { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } أي أعظم وأشرف من محمد صلى الله عليه وسلم فرد الله تعالى عليهم بقوله { أهم يقسمون رحمة ربك } الآية
وفي لفظ قال بعضهم كان الأحق بالرسالة الوليد بن المغيرة من أهل مكة أو عروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف ثم لا يخفى أن كفار قريش بعثوا مع النضر بن الحارث عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهما اسالاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول أي التوراة لأنه قبل الإنجيل وعندهم علم ليس عندنا فخرجا حتى قدما المدينة وسألا أحبار يهود أي قالا لهم أتيناكم لأمر حدث فينا منا غلام يتيم حقير يقول قولا عظيما يزعم أنه رسول الله وفي لفظ رسول الرحمن قالوا صفوا لنا صفته فوصفوا قالوا فمن يتبعه منكم قالوا سفلتنا فضحك حبر منهم وقالوا هذا النبي الذي نجد نعته ونجد قومه أشد الناس له عداوة
قالت لهم أحبار اليهود سلوه عن ثلاث فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول أي وهم أهل الكهف ما كان من أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها أي وهو ذو القرنين ما كان نبؤه وسلوه عن الروح ما هي فإذا أخبركم بذلك أي بحقيقة الأولين وبعارض من عوارض الثالث وهو كونها من أمر الله فاتبعوه فإنه نبي فرجع النضر وعقبة إلى قريش وقالا لهم قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد وأخبراهم الخبر فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن ذلك فقال لهم عليه الصلاة والسلام أخبركم غدا ولم يستثن أي لم يقل إن شاء الله تعالى وانصرفوا فمكث صلى الله عليه وسلم خمسة عشرة يوما وقيل ثلاثة أيام وقيل أربعة أيام لا يأتيه الوحي وتكلمت قريش في ذلك بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إن محمدا قلاه ربه وتركه أي ومن جملة من قال ذلك له صلى الله عليه وسلم أم جميل امرأة عمه أبي لهب قالت له ما أرى صاحبك إلا وقد ودعك وقلاك أي تركك
وبغضك وفي رواية قالت امرأة من قريش أبطأ عليه شيطانه وشق عليه صلى الله عليه وسلم ذلك منهم ثم جاءه جبريل بسورة الكهف وفيها خبر الفتية الذين ذهبوا وهم أهل الكهف
ويروى أنهم يكونون مع عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إذا نزل ويحجون البيت وخبر الرجل الطواف وهو ذو القرنين أي وهو إسكندر ذو القرنين كان له قرنان صغيران من لحم تواريهما العمامة
وفي لفظ كان له شبه القرنين في رأسه وقيل غديرتان من شعر وقيل لأنه قرن ما بين طلوع الشمس ومغربها أي بلغ قطرى المشرق والمغرب وقيل ضرب على قرن رأسه فمات ثم أحيى ثم ضرب على قرنه الآخر فمات ثم أحيى وقيل لأنه ملك الروم وفارس وقيل لأنه انقرض في زمنه قرنان من الناس والقرن زمان مائة سنة وكان ذو القرنين رجلا صالحا من أهل مصر من ولد يونن وفي لفظ يونان بن يافث بن نوح وكان من الملوك العادلة وكان الخضر صاحب لوائه الأكبر وقيل كان نبيا قاله الضحاك
وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل بالجواب عن الروح المذكور ذلك في سورة الإسراء وهو أن الروح من أمر الله أي قل لهم الروح من أمر ربي أي من علمه لا يعلمه إلا هو أي وكان في كتبهم أن الروح من أمر الله أي مما استأثر الله تعالى بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه ومن ثم جاء في بعض الروايات ما تقدم إن أجابكم عن حقيقة الروح فليس بنبي وإلا بأن أجابكم عنها بأنها من أمر الله فهو نبي ولعل هذا هو المراد كما جاء في بعض الروايات سلوه عن الروح مما استأثر الله تعالى بعلمه كيف يسألونه فيخبرهم بذلك إلا أن يقال المراد إن أجابكم بغير قوله من أمر ربي فاعلموا أنه غير نبي فإنه يحاول أن يخبركم عن حقيقتها وحقيقتها لا يعلمها إلا الله تعالى
ويوافقه ما في مأثور التفسير { من أمر ربي } من علم ربي لا علم لي به وفي بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سلوه عن الروح التي نفخ الله تعالى في آدم فإن قال لكم من الله تعالى فقولوا له كيف يعذب الله في النار شيئا هو منه
وحاصل الجواب الذي أشارت إليه الآية أن الروح أمر بمعنى مأمور أي مأمور
من مأموراته وخلق من خلقه لا أنها جزء منه والله أعلم أي وهذا يدل على أن المسئول عنه روح الإنسان التي هي سبب في إفادة الحياة للجسد
وفي كلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى أن الروح روحان حيواني وهي التي تسميه الأطباء المزاج وهو جسم لطيف بخاري معتدل سار في البدن الحامل لقواه من الحواس الظاهرة والقوى الجسمانية وهذه الروح تفنى بفناء البدن وتنعدم بالموت وروح روحاني وهي التي يقال لها النفس الناطقة ويقال لها اللطيفة الربانية ويقال لها العقل ويقال لها الروح ويقال لها القلب من الألفاظ الدالة على معنى واحد لها تعلق بقوى النفس الحيواني وهذه الروح لا تفنى بفناء البدن وتبقى بعد الموت هذا كلامه
وفي كلام بعضهم والروح عند أكثر أهل السنة جسم لطيف مغاير للأجسام ماهية وهيئة متصرف في البدن حال فيه حلول الدهن في الزيتون يعبر عنه بأنا وأنت وإذا فارق البدن مات
وذهب جمع منهم الغزالي والإمام الرازي وفاقا للحكماء والصوفية إلى أنه جوهر مجرد غير حال بالبدن يتعلق به تعلق العاشق بالمعشوق يدبره أمره على وجه لا يعلمه إلا الله اه
ورأيت في كلام الشيخ الأكبر أن الإمام ركن الدين السمرقندي لما فتح المسلمون بلاد الهند خرج بعض علمائها ليناظر المسلمين فسأل عن العلماء فأشاروا إلى الإمام ركن الدين السمرقندي فقال له الهندي ما تعبدون قالوا نعبد الله بالغيب قال من أنبأكم قالوا محمد صلى الله عليه وسلم قال فما الذي قال في الروح قال هو من أمر ربي فقال صدقتم فأسلم وليس المراد بالروح خلق من الملائكة على صورة بني آدم أو ملك عظيم عرض شحمة أذنه خمسمائة عام إلى غير ذلك مما قيل قال بعضهم قلت كذا في هذه الرواية أنهم سألوه أي مشركو مكة عن الروح وحديث ابن مسعود يدل على أن السؤال عن الروح ونزول الآية كان بالمدينة أي من اليهود هذا كلامه
وفيه أنه سيأتي جواز تكرار السؤال وتكرر نزول الآية إلى آخر ما يأتي وبه يعلم ما في الإتقان حيث تعقب حيث تعقب قول بعضهم إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم سألوه عن الروح وعن ذي القرنين بقوله قلت السائل عن الروح وذي القرنين مشركو مكة أو اليهود كما في أسباب النزول لا الصحابة
وفي الإتقان قد يعدل عن الجواب اصلا إذا كان السائل قصده التعنت نحو { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } قال صاحب الإفصاح إنما سأل اليهود تعجيزا وتغليظا إذا كان الروح يقال بالإشتراك على روح الانسان والقرآن وعيسى وجبريل وملك آخر وصنف من الملائكة فقصد اليهود أن يسألوه صلى الله عليه وسلم فبأي مسمى أجابهم قالوا ليس هو فجاءهم الجواب مجملا وكان هذا الإجمال كيدا يرد به كيدهم وفي سورة الكهف أيضا { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت } أي إذا أردت أن تقول سأفعل شيئا فيما يستقبل من الزمان تقول إن شاء الله فإذا نسيت التعليق بذلك ثم تذكرت تأتي بها فذكرها بعد النسيان كذكرها بعد القول قال جمع منهم حسن مادام في المجلس أي وظاهره وإن طال الفصل
وفي الخصائص الكبرى أن هذا أي الإتيان بالمشيئة بعد التذكر من خصائصه صلى الله عليه وسلم ليس لأحد منا أن يستثني أي يأتي بالمشيئة إلا في صلة يمينه
أقول كان ينبغي أن يقول في صلة إخباره لأن مساق الآية في الإخبار لافي الحلف
فإن قيل هي علامة في الخبر ة الحلف قلنا كان ينبغي أن يقول حينئذ في صلة كلامه وحينئذ يقتضي كلامه أنا نشاركه في الخبر دون الحلف والله أعلم
ثم لا يخفى أنه قيل سبب احتباس الوحي أنه لم يقل إن شاء الله تعالى وهو مشهور وقيل لإنه كان في بيته كلب وفي لفظ كان تحت سريره جرو ميت فقد جاء أنه لما صلى الله عليه وسلم عاتب جبريل في احتباسه قال أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أي أنه صلى الله عليه وسلم قال لخادمته خولة يا خولة ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل لا يأتيني قالت فقلت في نفسي لو كنست البيت فأهوبت بالمكنسة تحت السرير فأخرجت الجرو الميت
أقول قال ابن كثير قد ثبت في الحديث المروي في الصحاح والسنن والمسانيد من حديث جماعة من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب وقد أورد بعض الزنادقة سؤالا وهو
إذا كانت الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو صورة أي صورة التماثيل التي فيها الأرواح يلزم أن لا يموت من عنده كلب أو صورة وأن لا يكتب عمله
وأجيب عنه بأن المراد لا تدخل الملائكة ذلك البيت دخول إكرام لصاحبه وتحصيل بركة فلا ينافي دخولهم لكتابة الأعمال وقبض الأرواح والله أعلم
وقيل لأنه صلى الله عليه وسلم زجر سائلا ملحا وقد كان قبل ذلك يرد السائل بقوله آتاكم الله من فضله أي ربما سكت فقد روى الشيخان ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقال لا قال الحافظ بن حجر المراد بذلك أنه لا ينطق بالرد بل إن كان عنده شيئ أعطاه وإلا سكت وهذا هو المراد بما جاء أنه صلى الله عليه وسلم ما رد سائلا قط أي ما شافهه بالرد
وقد حكى بعضهم قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت يا رسول الله استغفر لي فسكت فقلت يا رسول الله إن ابن عيينة حدثنا عن جابر أنك ما سئلت شيئا قط فقلت لا فتبسم صلى الله عليه وسلم واستغفر لي أي فكان يأتي بالأول حيث لا يكون المقام يقتضي الاقتصار على السكوت ولعل هذا في غير رمضان
فلا يخالف ما رواه البزار عن أنس رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان اطلق كل أسير وأعطى كل سائل وبين الشيخ ابن الجوزي فبي النشر سبب إلحاح هذا السائل فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إليه قطف عنب قبل أوانه فهم أن يأكل منه فجاءه سائل فقال أطعموني مما رزقكم الله فسلم إليه ذلك القطف فلقيه بعض أصحابه فاشتراه منه وأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد السائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأعطاه إياه فلقيه رجل آخر من الصحابة فاشتراه منه وأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد السائل فسأله فانتهره وقال إنك ملح قال وهذا سياق غريب جدا وهو معضل
وقيل سبب ذلك غير ذلك من ذلك الغير أن جبريل عليه السلام لما قال له صلى الله عليه وسلم ما حبسك في قال كيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم و لا تنقون براجمكم ولا تأخذون شعوركم و لا تستاكون
أقول واختلاف هذه الأسباب ظاهر في أن الواقعة متعددة ولا ينافيه قوله ونزلت أي سورة الضحى ردا عليهم في قولهم إن محمداقلاه ربه وتركه وهي
{ ما ودعك ربك وما قلى } أي ما قطعك قطع المودع وما أبغضك لأنه لا يجوز أن يكون مما تكرر نزوله لاختلاف سببه
ويمكن أن يقال يجوز أن تكون الواقعة واحدة وتعددت أسبابها ولا ينافيه إخبار جبريل عليه السلام تارة بأن سبب احتباسه عدم قص الأظفار وما ذكر معه وتارة بأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب وتارة بقوله { وما نتنزل إلا بأمر ربك } كما يأتي قريبا وكما سيأتي في قصة الإفك لكن فال الحافظ بن حجر قصة إبطال جبريل بسبب الجرو مشهورة لكن كونها سبب نزول الآية أي { ما ودعك ربك وما قلى } غريب فالمعتمد ما في الصحيح هذا كلامه
أقول ومما يدل على أن واقعة الجرو كانت بالمدينة مافي بعض التفاسير أن هذا الجرو كان للحسن والحسين رضي الله عنهما ومارواه مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في ساعة أن يأتيه فجاء تلك الساعة ولم يأته فيها قالت وكان بيده عصا فطرحها من يده وهو يقول ما يخلف الله وعده ولا رسله ثم التفت فإذا كلب تحت السرير فقال متى دخل هذا الكلب فقلت والله مادريت به فأمر به فأخرج فجاء جبريل عليه الصلاة والسلام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدتني فجلست لك ولم تأت فقال منعني الكلب الذي كان في بيتك إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة
وفي زيادة الجامع الصغير أتاني جبريل فقال لي إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان على الباب تماثيل وكان في البيت ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب فأمر صلى الله عليه وسلم برأس التمثال الذي في البيت فليقطع فيصير كهيئة الشجرة وأمر بالستر فليقطع فيجعل منه وسادتين منبوذتين توطآن وأمر بالكلب فأخرج ومعلوم أن مجئ جبريل له صلى الله عليه وسلم إكرام وتشريف له صلى الله عليه وسلم فلا ينافي ما تقدم فليتأمل
لما نزلت السورة المذكورة كبر صلى الله عليه وسلم فرحا بنزول الوحي واستمر صلى الله عليه وسلم لا يجاهر قومه بالدعو حتى نزل { وأما بنعمة ربك فحدث } فعند ذلك كبر صلى الله عليه وسلم أيضا وكان ذلك سببا للتكبير في افتتاح السورة التي بعدها وفي ختمها إلى آخر القرآن وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أنه قرأ كذلك على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أمره له بذلك وأنه كان كلما ختم سورة وقف وقفة ثم قال الله أكبر
هذا وقيل ابتداء التكبير من أول ألم نشرح لا من أول والضحى وقيل إن التكبير إنما هو لآخر السورة وابتداؤه من آحر سورة الضحى إلى آخر { قل أعوذ برب الناس } والأتيان بالتكبير في الأول والآخر جمع بين الروايتين والرواية التي جاءت بأنه كبر في أول السورة المذكورة والرواية الأخرى أنه كبر في آخرها
ومما يدل على أن التكبير أول سورة الضحى ما جاء عن عكرمة بن سليمان قال قرأت على اسماعيل بن عبد ربه فلما بلغت الضحى قال كبر فإني قرأت على عبد الله بن كثير أحد القراء السبعة فلما بلغت والضحى قال لي كبر حتى تختم وأخبري ابن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك وأخبره أن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أمره بذلك وأخبره ابن عباس أن أبي بن كعب أمره بذلك أخبره أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك قال بعضهم حديث غريب
ونقل عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال لآخر إذا تركت التكبير من الضحى إلى الحمد في الصلاة وخارجها فقد تركت سنة من سنن نبيك صلى الله عليه وسلم لكن في كلام الحافظ ابن كثير ولم يرد ذلك أي التكبير عند نزول سورة الضحى باسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف
وقد ذكر الشيخ أبو المواهب الشاذلي رضي الله تعالى عنه عن شيخه أبي عثمان أنه قال إنما نزلت سورة ألم نشرح عقب قوله { وأما بنعمة ربك فحدث } إشارة إلى أن من حدث بنعمة الله فقد شرح الله صدره قال كأنه تعالى يقول إذا حدثت بنعمتي ونشرتها بين عبادي فقد شرحت صدرك
وعن ابن اسحاق ذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا وفي لفظ ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فقال له جبريل { وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا } أي لا ننتقل من مكان إلى مكان ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته على مقتضى حكمته وما كان ربك تاركا لك كما زعم الكفار بل كان ذلك لحمكة رآها
================================
==========ج5. كتاب:السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون
المؤلف:علي بن برهان الدين الحلبي
وأما حديث الزبيدي فقد حدث بعضهم قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه من الصحابة إذا رجل من زبيد يطوف على حلق قريش حلقة بعد أخرى وهو يقول يا معشر قريش كيف تدخل عليكم المارة أو يجلب إليكم جلب أو يحل بضم الحاء أي ينزل بساحتكم تاجر وأنتم تظلمون من دخل عليكم في حرمكم حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه فقال له صلى الله عليه وسلم ومن ظلمك فذكر أنه قدم بثلاث أجمال خيرة إبله أي أحسنها فسامه بها أبو جهل ثلث أثمانها ثم لم يسمه بها لأجله سائم قال فأكسد علي سلعتي فظلمني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأين جمالك قال هذه هي بالحزورة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام أصحابه فنظروا إلى الجمال فرأى جمالا حسانا فساوم ذلك الرجل حتى ألحقه برضاه وأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فباع جملين منها بالثمن وأفضل بعيرا باعه وأعطى أرامل بني عبد المطلب ثمنه وكل ذلك وأبو جهل جالس في ناحية من السوق ولم يتكلم ثم أقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له إياك يا عمرو أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الرجل فترى مني ما تكره فجعل يقول لا أعود يا محمد لا أعود يا محمد فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل على أبي جهل أمية بن خلف ومن معه من القوم فقالوا له ذللت في يد محمد فإما أن تكون تريد أن تتبعه وإما رعب دخلك منه فقال لهم لا أتبعه أبدا إن الذي رأيتم مني لما رأيته رأيت معه رجالا عن يمينه ورجالا عن شماله معهم رماح يشرعونها إلي لو خالفته لكانت إياها أي لأتوا على نفسي
ونظير ذلك أن أبا جهل كان وصيا على يتيم فأكل ماله وطرده فاستغاث اليتيم بالنبي صلى الله عليه وسلم على أبي جهل فمشى معه إليه ورد عليه ماله فقيل له في ذلك فقال خفت من حربة عن يمينه وحربة عن شماله لو امتنعت أن أعطيه لطعنني
وأما حديث المستهزئين فمما استهزئ به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدث به بعضهم أن أبا جهل بن هشام ابتاع من شخص يقال له الإراشي بكسر الهمزة نسبة إلى إراشة بطن من خثعم أجمالا فمطله بأثمانها فدلته قريش على النبي صلى الله عليه وسلم لينصفه من أبي جهل استهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم لعلمهم بأنه لا قدرة له على أبي جهل أي بعد أن وقف على ناديهم فقال يا معشر قريش من رجل يعينني على أبي الحكم بن هشام فإني غريب وابن سبيل وقد غلبي على حقي فقالوا له أترى ذلك
الرجل يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب إليه فهو يعينك عليه فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له حاله مع أبي جهل أي قال له يا أبا عبد الله إن أبا الحكم بن هشام غلبني على حق لي قبله وأنا غريب وابن سبيل وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يأخذ لي بحقي منه فأشاروا إليك فخذ حقي منه يرحمك الله فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجل إلى أبي جهل وضرب عليه بابه فقال من هذا قال محمد فخرج إليه وقد انتقع لونه أي تغير وصار كلون النقع الذي هو التراب وهو الصفرة مع كدرة كما تقدم فقال له أعط هذا حقه قال نعم لا تبرح حتى أعطيه الذي له فدفعه إليه قال ثم إن الرجل أقبل حتى وقف على ذلك المجلس فقال جزاه الله خيرا يعني النبي صلى الله عليه وسلم فقد والله أخذ لي بحقي وقد كانوا أرسلوا رجلا ممن كان معهم خلف النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له انظر ماذا يصنع فقالوا لذلك الرجل ماذا رأيت قال رأيت عجبا من العجب والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج إليه وما معه روحه فقال أعط هذا حقه فقال نعم لا تبرح حتى أخرج إليه حقه فدخل فخرج إليه بحقه فأعطاه إليه فعند ذلك قالوا لأبي جهل ويلك ما رأينا مثل ما صنعت قال ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب علي بابي وسمعت صوته فملئت رعبا ثم خرجت إليه وإن فوق رأسي فحلا من الإبل ما رأيت مثله قط لو أبيت أو تأخرت لأكلني وإلى هذه القصة أشار صاحب الهمزية بقوله ** واقتضاه النبي دين الإراشي ** وقد ساء بيعه والشراء ** ** ورأى المصطفى أتاه بما لم ** ينج منه دون الوفاء النجاء ** ** هو ما قد رآه من قبل لكن ** ما على مثله يعد الخطاء **
أي وطلب صلى الله عليه وسلم من أبي جهل أن يؤدي دين الإراشي وقد ساء بيعه وشراؤه مع ذلك الرجل ورأى المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد أتاه بفحل من الإبل لم ينج منه دون الوفاء لذلك الدين كثير النجاء وذلك الذي أتاه به هو الفحل الذي قد رآه من قبل أي لما أراد عدو الله أن يلقي عليه صلى الله عليه وسلم الحجر وهو ساجد كما تقدم لكن ما على مثله فضلا عنه يعد الخطأ لأن خطأه لا ينحصر
أي ومن استهزاء أبي جهل بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه في بعض الأوقات سار
خلف النبي صلى الله عليه وسلم يخلج بأنفه وفمه يسخر به فاطلع عليه صلى الله عليه وسلم فقال له كن كذلك فكان كذلك إلى أن مات
قال ابن عبدالبر وكان من المستهزئين الذين قال الله تعالى فيهم { إنا كفيناك المستهزئين } أبو جهل وأبو لهب وعقبة بن أي معيط والحكم بن العاص بن أمية وهو والد مروان بن الحكم عم عثمان بن عفان والعاص بن وائل فمن استهزاء أبي جهل ما تقدم
ومن استهزاء أبي لهب به صلى الله عليه وسلم أنه كان يطرح القذر على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ومر يوما من الأيام فرآه أخوه حمزة رضي الله تعالى عنه قد فعل ذلك فأخذه وطرحه على رأسه فجعل أبو لهب ينفض رأسه ويقول صابئ أحمق
ومن استهزاء عقبة بن أبي معيط به صلى الله عليه وسلم أنه كان يلقى القذر أيضا على بابه صلى الله عليه وسلم كما تقدم وقد قال صلى الله عليه وسلم كنت بين شر جارين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط إن كانا يأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي كما تقدم
ومن استهزائه أنه بصق في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فعاد بصاقه على وجهه وصار برصا أي فإنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر مجالسة عقبة بن أبي معيط فقدم عقبة يوما من سفر فصنع طعاما ودعا الناس من أشراف قريش ودعا النبي صلى الله عليه وسلم فلما قرب إليهم الطعام أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل فقال ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله فقال عقبة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله فأكل صلى الله عليه وسلم من طعامه وانصرف الناس وكان عقبة صديقا لأبي بن خلف فأخبر الناس أبيا بمقالة عقبة فأتى إليه وقال يا عقبة صبوت قال والله ما صبوت ولكن دخل منزلي رجل شريف فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له فطعم والشهادة ليست في نفسي فقال له أبي وجهي ووجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأه وتبزق في وجهه وتلطم عينه فقال له عقبة لك ذلك ثم إن عقبة لقى النبي صلى الله عليه وسلم ففعل به ذلك قال الضحاك لما بزق عقبة لم تصل البزقة إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل وصلت إلى وجهه هو كشهاب نار فاحترق مكانها وكان أثر الحرق في وجهه إلى الموت وحينئذ يكون المراد بقوله فيما تقدم فعاد بصاقه برصا في وجهه أي صار
كالبرص وأنزل الله تعالى في حقه { ويوم يعض الظالم على يديه } أي في النار يأكل إحدى يديه إلى المرفق ثم يأكل الأخرى فتنبت الأولى فيأكلها وهكذا
ومن استهزاء الحكم بن العاص أنه كان صلى الله عليه وسلم يمشى ذات يوم وهو خلفه يخلج بفمه وأنفه يسخر بالنبي صلى الله عليه وسلم فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له كن كذلك فكان كذلك أي كما تقدم نظير ذلك لأبي جهل واستمر الحكم بن العاص يخلج بأنفه وفمه بعد أن مكث شهرا مغشيا عليه حتى مات أسلم يوم فتح مكة وكان في إسلامه شيء اطلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب بيته وهو عند بعض نسائه بالمدينة فخرج إليه صلى الله عليه وسلم بالعنزة أي وقيل بمدرى في يده والمدرى كالمسلة يفرق به شعر الرأس وقال من عذيرى من هذه الوزغة لو أدركته لفقأت عينه ولعنه وما ولد وغربه عن المدينة إلى وج الطائف فلم يزل حتى ولى ابن أخيه عثمان رضي الله تعالى عنه الخلافة فدخل المدينة بعد أن سأل عثمان أبا بكر في ذلك فقال لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سأل عمر لما ولى الخلافة فقال له مثل ذلك ولما أدخله عثمان نقم عليه الصحابة بسبب ذلك فقال أنا كنت شفعت فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعدني برده أي أني أرده ولا ينافى ذلك سؤال عثمان لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم في ذلك كما لا يخفى لأنه يحتمل أن يرده عثمان إما بنفسه أو بسؤاله وسيأتي ذلك في جملة أمور نقمها عليه الصحابة
وعن هند ابن خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالحكم فجعل يغمز بالنبي صلى الله عليه وسلم فرآه فقال اللهم اجعل به وزغا فرجف وأرتعش مكانه والوزغ الإرتعاش وفي رواية فما قام حتى ارتعش
وعن الواقدي استأذن الحكم بن العاص على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف صوته فقال ائذنوا له لعنه الله ومن يخرج من صلبه إلا المؤمنين منه وقليل ما هم ذو مكر وخديعة يعطون الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق وكان لا يولد لأحد ولد بالمدينة إلا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأتى إليه بمروان لما ولد فقال هو الوزغ بن الوزغ الملعون ابن الملعون وعلى هذا فهو صحابي إن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه لأنه يحتمل أنه أتى به إليه صلى الله عليه وسلم فلم يأذن بإدخاله عليه وربما يدل ذلك قوله هو الوزغ إلى آخره
وفي كلام بعضهم أن مروان ولد بمكة وفي كلام بعض آخر أنه ولد بالطائف بعد أن نفى أبوه إلى الطائف أي ولم يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو ليس بصحابي ومن ثم قال البخاري مروان بن الحكم لم ير النبي صلى الله عليه وسلم وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لمروان نزل في أبيك { ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم } وقالت له سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبيك وجدك الذي هو العاص بن أمية إنهم الشجرة الملعونة في القرآن ولى مروان الخلافة تسعة أشهر
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لمروان بن الحكم حيث قال لأخيها عبدالرحمن بن أبي بكر لما بايع معاوية لولده قال مروان سنة أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فقال عبدالرحمن بل سنة هرقل وقيصر وامتنع من البيعة ليزيد بن معاوية فقال له مروان أنت الذي أنزل الله فيك { والذي قال لوالديه أف لكما } فبلغ ذلك عائشة فقالت كذب والله ما هو به ثم قالت له أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أباك وأنت في صلبه
وعن جبير بن مطعم كنا مع رسول الله صلى لله عليه وسلم فمر الحكم بن العاص فقال النبي صلى الله عليه وسلم ويل لأمتي مما في صلب هذا قال بعضهم وكون النبي صلى الله عليه وسلم مع ما هو عليه من الحلم والإغضاء على ما يكره فعل بالحكم ذلك يدل على أمر عظيم ظهر له في الحكم وأولاده
وعن حمران بن جابر الجعفي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ويل لبني أمية ثلاث مرات أي وقد ولى منهم الخلافة أربعة عشر رجلا أولهم معاوية بن أبي سفيان وآخرهم مروان بن محمد وكان مدة ولايتهم ثنتين وثمانين سنة وهي ألف شهر وقال بعضهم لا يزيد ذلك يوما ولا ينقص يوما قال ابن كثير وهذا غريب جدا وفيه نظر لأن معاوية حين تسلم الخلافة من الحسن كان ذلك سنة أربعين أو إحدى وأربعين واستمر الأمر في بني أمية إلى أن انتقل إلى بني العباس سنة ثنتين وثلاثين ومائة ومجموع ذلك ثنتان وتسعون سنة وألف شهر تعدل ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر هذا كلامه
ومن استهزاء العاص بن وائل أنه كان يقول غر محمد نفسه وأصحابه أن وعدهم أن يحيوا بعد الموت والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والأحداث
أي ومن استهزائه أن خباب بن الأرت رضي الله تعالى عنه كان قينا بمكة أي حدادا يعمل السيوف وقد كان باع للعاص سيوفا فجاءه يتقاضى ثمنها فقال له يا خباب أليس يزعم محمد هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم أو ولد قال خباب بلى قال فانظرني إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هناك حقك ووالله لا تكونن أنت وصاحبك آثر عندالله مني ولا أعظم حظا في ذلك
وفي لفظ أن العاص قال له لا أعطيك حتى تكفر بمحمد فقال والله لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم يبعثك قال فذرني حتى أموت ثم أبعث فسوف أوتى مالا وولدا فأقضيك فأنزل الله تعالى فيه { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا }
وفي كلام ابن حجر الهيتمي وفي البخاري من عدة طرق أن خبابا رضي الله تعالى عنه طلب من العاص بن وائل السهمي دينا له عليه قال لا أعطيك حتى تكفر بمحمد فقال لا أكفربه حتى يميتك الله ثم يبعثك
وفيه أن هذا تعليق للكفر بممكن أي وتعليق الكفر ولو بمحال عادي وكذا شرعي أو عقلي على إحتمال كفر لأنه ينافى عقد التصميم الذي هو شرط في الإسلام
وأجيب بأنه لم يقصد التعليق قطعا وإنما أراد تكذيب ذلك اللعين في إنكار البعث ولا ينافيه قوله حتى لأنها تأتي بمعنى إلا المنقطعة فتكون بمعنى لكن الذي صرحوا بأن ما بعدها كلام مستأنف وعليه خرج ابن هشام الخضراوي حديث كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه أي لكن أبواه
وعد بعضهم من المستهزئين الحارث بن عيطلة ويقال ابن عيطل ينسب إلى أمه وكان من استهزائه ما تقدم عن العاص بن وائل وأبي جهل من الإختلاج خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعد منهم الأسود بن عبد يغوث وهو ابن خال النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المسلمين قال لأصحابه استهزاء بالصحابة قد جاءكم ملوك الأرض الذي يرثون كسرى
وقيصر أي لأن الصحابة كانوا متقشفين ثيابهم رثة وعيشهم خشن ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم أما كلمت اليوم من السماء يا محمد وما أشبه هذا القول
وعد منهم الأسود بن عبدالمطلب ومن استهزائه أنه كان هو وأصحابه يتغامزون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويصفرون إذا رأوهم
وعد منهم النضر بن الحارث فهلك غالبهم قبيل الهجرة بضروب من البلاء
أقول والذي ينبغي أن يكون المراد بالمستهزئين في الآية وهي { إنا كفيناك المستهزئين } الوليد بن المغيرة والد خالد وعم أبي جهل فإنه كان من عظماء قريش وكان في سعة من العيش ومكنة من السيادة كان يطعم الناس أيام منى حيسا وينهى أن توقد نار لأجل طعام غير ناره وينفق على الحاج نفقة واسعه وكان الأعراب تثنى عليه كانت له البساتين من مكة إلى الطائف وكان من جملتها بستان لا ينقطع نفعه شتاء ولا صيفا وببركته صلى الله عليه وسلم أصابته الجوائح والآفات في أمواله حتى ذهبت بأسرها ولم يبق له في أيام الحج ذكر وكان المقدم في قريش فصاحة وكان يقال له ريحانة قريش ويقال له الوحيد أي في الشرف والسودد والجاه والرياسة قال بعضهم بل هو وحيد في الكفر والخبث والعناد
والعاص بن وائل والد عمرو بن العاص والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث والحارث بن عيطلة وفي لفظ ابن الطلاطلة في اللغة الداهية قال بعضهم وهو إشتباه لأن ابن الطلاطلة اسمه مالك لا حارث
والحارث بن العيطلة كان أحد أشراف قريش في الجاهلية وإليه كانت الحكومة والأموال التي تجعل للآلهة وذكره ابن عبدالبر في الصحابة قال في أسد الغابة لم أر أحدا ذكره في الصحابة إلا أبا عمرو يعني ابن عبد البر والصحيح أنه كان من المستهزئين وهؤلاء الخمسة هم الذين اقتصر عليهم القاضي البيضاوي لما يروى أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد أي يطوف بالبيت وقال له أمرت أن أكفيكهم فلما مر الوليد بن المغيرة قال له يا محمد كيف تجد هذا فقال بئس عبدالله فأومأ إلى ساق الوليد وقال كفيته ومر العاص بن وائل فقال كيف تجد هذا يا محمد قال عبد سوء فأشار إلى أخمصه وقال كفيته ثم مر الأسود بن المطلب فقال كيف تجد هذا يا محمد قال عبد سوء فأومأ إلى عينه وقال كفيته ثم مر الأسود بن عبد يغوث
فقال كيف تجد هذا يامحمد قال عبد سوء فأومأ إلى رأسه وقال كفيته ثم مر الحارث بن عيطلة فقال كيف تجد هذا يا محمد قال عبد سوء فأومأ إلى بطنه وقال كفيته وحينئذ يكون معنى كفاية هذا له صلى الله عليه وسلم أنه لم يسع ولم يتكلف في تحصيل ذلك وإلى هذا أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله ** وجبريل لما استهزأت فرقة الردى ** أشار إلى كل بأقبح ميتة **
والله أعلم قال وروى الزهري أن الأسود بن عبد يغوث خرج من عند أهله فاصابته السموم فاسود وجهه فأتى أهله فلم يعرفوه وأقفلوا دونه الباب وسلط عليه العطش فلا زال يشرب الماء حتى انشق بطنه وهذا يناسب ما سيأتي عن الهمزية ولا يناسب أن جبريل عليه الصلاة والسلام أشار إلى رأسه وف يكلام البلاذري عن عكرمة أن جبريل أخذ بعنق الأسود بن عبد يغوث فحنى ظهره حتى احقوقف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خالي خالي أي لأنه كما تقدم ابن خاله فهو إما على حذف المضاف أو لأجل مراعاة أبيه أي يراعى لأجل أبيه الذي هو خالي فقال جبريل يا محمد دعه وفي رواية قال له جبريل خل عنك ثم حثاه حتى قتله وهذا لا يناسب كون جبريل أشار إلى رأسه
والمناسب لذلك ما ذكره بعضه أنه امتخض رأسه قيحا ثم لم يزل يضرب برأسه أصل شجرة حتى مات وكذا الحارث بن عيطلة أي وفي كلام القاضي حارث ابن قيس
وفي تكملة الجلال السيوطي عدي بن قيس فقد أكل حوتا مملحا فلم يشرب عليه الماء حتى انقد بطنه وهذا المناسب لما ذكر هنا أن جبريل أشار إلى بطنه لكن لا يناسب ما قاله القاضي البيضاوي أنه أشار إلى أنفه فامتخض قيحا
وأما الأسود بن المطلب فقد عمى بصره فقد ذكر أنه خرج ليستقبل ولده وقد قدم من الشام فلما كان ببعض الطريق جلس في ظل شجرة فنجعل جبريل يضرب وجهه وعينيه بورقة من ورقها حتى عمى فجعل يستغيث بغلامه فقال له غلامه لا أحد يصنع بك شيئا أي وقيل ضربه بغصن فيه شوك فسالت حدقتاه وصار يقول ها هو ذا طعن بالشوك في عيني فيقال له ما نرى شيئا وقيل أتى شجرة فجعل ينطح رأسه بها حتى خرجت عيناه أي وفعل ذلك لا ينافي ما ورد فأشار أي جبريل إلى وجهه فعمى بصره
في الحال لجواز أن يراد بالحال الزمن القريب وفي رواية أنه كان يقول دعا علي محمد بالعمى فاستجيب له ودعوت عليه بأن يكون طريدا شريدا فاستجيب لي وسيأتي عن بعضهم في غزوة بدر أنه صلى الله عليه وسلم دعا على الأسود بن المطلب بالعمى وفقد أولاده فعجل له العمى وفقد أولاده ببدر وأما الوليد بن المغيرة فمر بشخص يعمل النبل فتعلق بثوبه سهم فلم ينقلب لينحيه تعاظما فعدا فأصاب السهم عرقا في ساقه فقطعه فمات وأما العاص بن وائل فدخلت شوكة في أخمصه فانتفخت رجله حتى صارت كالرحا ومات وإلى الخمسة الذين ذكرنا أنهم المرادون بقوله تعالى { إنا كفيناك المستهزئين } أشار صاحب الهمزية بقوله ** وكفاه المستهزئين وكم سا ** ء نبيا من قومه استهزاء ** ** خمسة كلهم أصيبوا بداء ** والردى من جنوده الأدواء ** ** فدهى الأسود بن مطلب ** أي عمى ميت به الأحياء ** ** ودهى الأسود بن عبد يغوث ** أن سقاه كأس الردى استسقاء ** ** وأصاب الوليد خدشة سهم ** قصرت عنها الحية الرقطاء ** ** وقضت شوكة على مهجة العا ** ص فلله النقعة الشوكاء ** ** وعلى الحارث القيوح وقد سا ** ل بها رأسه وسال الوعاء ** ** خمسة طهرت بقطعهم الأر ** ض فكف الأذى بهم شلاء **
أي وكفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم المستهزئين به ومرات كثيرة أحزن نبينا صلى الله عليه وسلم كغيره من الأنبياء استهزاء قومه به وهؤلاء المستهزئون به صلى الله عليه وسلم خمسة كلهم أصيبوا بداء عظيم والهلاك من جملة جنوده الأمراض
فأهلك الأسود بن المطلب عمى عظيم الأحياء أموات بسببه وهو المناسب لكون جبريل أشار إلى عينيه ودهى أيضا الأسود بن عبد يغوث استسقاء سقاه كأس الموت وهذا لا يناسب كون جبريل أشار إلى رأسه وأصاب الوليد أثر سهم في ساقه قصرت عنه الحية الرقطاء أي سمها وقضت شوكة على مهجة العاص دخلت في رجله فلله هذا النقعة الخشنة اللمس وقضت على الحارث القيوح والحال أنه قد سال رأسه وفسد ذلك الوعاء لتلك القيوح وهذا هو المناسب لكون جبريل أشار إلى أنفه
لا لقول بعضهم إنه أشار إلى بطنه خمسة طهرت بهلاكهم الأرض فكف الأذى بهم شلاء فاقدة الحركة
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هؤلاء الخمسة هلكوا في ليلة واحدة فعلم أن هؤلاء هم المرادون بقوله تعالى { إنا كفيناك المستهزئين } كما ذكرنا وإن كان المستهزئون غير منحصرين فيهم فلا ينافى عد منبه ونبيه ابنى الحجاج منهم
فقد قيل كانا ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانا يليقيانه فيقولان له أما وجد الله من يبعثه غيرك إن ها هنا من هو أسن منك وأيسر فإن كنت صادقا فأتنا بملك ليشهد لك ويكون معك وإذا ذكر لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا معلم مجنون يعمله أهل الكتاب ما يأتي به ولا ينافي عد أبي جهل وغيره منهم كما تقدم
وفي سيرة ابن المحدث قال عليه الصلاة والسلام من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه
ومن استهزاء أبي جهل أيضا بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوما لقريش يا معشر قريش يزعم محمد أن جنود الله الذي يقذفونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر وأنتم أكثر الناس عددا فيعجز كل مائة رجل منكم عن واحد منهم
أي وفي رواية أن بعض قريش وكان شديدا قوي البأس بلغ من شدته أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدمه فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه قال له أنا أكفيك سبعة عشر واكفوني أنتم إثنين ويقال إن هذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصارعة وقال له يامحمد إن صرعتني آمنت بك فصرعه اليب صلى الله عليه وسلم مرارا فلم يؤمن
أي وفي رواية أن أبا جهل قال أنا أكفيكم عشرة فاكفوني تسعة فأنزل الله تعالى { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } أي لا يطاقون كما تتوهمون { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة } ضلالا { للذين كفروا } الآيات أي بأن يقولوا ما ذكر أو يقولوا لم كانوا تسعة عشرة وماذا أراد الله بهذا العدد أي وهذا العدد لحكمة استأثر الله تعالى بعلمها وقد أبدى بعض المفسرين لذلك حكما تراجع
وقد جاء في وصف تلك الملائكة أن أعينهم كالبرق الخاطف وأنيابهم كالصياصى
أي القرون ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة وفي رواية ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب لأحدهم قوة مثل قوة الثقلين نزعت الرحمة منهم
وأخرج العتبى في عيون الأخبار عن طاوس إن الله خلق مالكا وخلق له أصابع على عدد أهل النار فما من أهل النار معذب إلا ومالك يعذبه بأصبع من أصابعه فوالله لو وضع مالك أصبعا من أصابعه على السماء لأذابها وهؤلاء التسعة عشرة هم الرؤساء ولكل واحد أتباع لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى قال تعالى { وما يعلم جنود ربك إلا هو } أي وهؤلاء الأتباع منهم
وأخرج هناد عن كعب قال يؤمر بالرجل إلى النار فيبتدره مائة ألف ملك أي والمتبادر أن هؤلاء من خزنتها
وفي كلام بعضهم لم يثبت لملائكة النار عدد معين سوى ما في قوله تعالى { عليها تسعة عشر } وإنما ذلك لسقر التي هي إحدى دركات النار لقوله تعالى قبل ذلك { سأصليه سقر } وقد يكون على كل واحدة منها مثل هذا العدد أو أكثر قيل وبسم الله الرحمن الرحيم عدد حروفها على عدد هؤلاء الزبانية التسعة عشر فمن قرأها وهو مؤمن دفع الله تعالى عنه بكل حرف منها واحد منهم
أقول ومن استهزاء أبي جهل أيضا أنه قال يوما لقريش وهو يهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من الحق يا معشر يخوفنا محمد بشجرة الزقوم يزعم أنها شجرة في النار يقال لها شجرة الزقوم والنار تأكل الشجر إنما الزقوم التمر والزبد
وفي لفظ العجوة تترب بالزبد هاتوا تمرا وزبدا تزقموا فأنزل الله تعالى { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم } أي منبتها في أصل جهنم ولا تسلط لجهنم عليها أما علموا أن من قدر على خلق من يعيش في النر ويلتذ بها فهو أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق بها
وقد قال ابن سلام رضي الله تعالى عنه إنها تحيا باللهب كما يحيا شجر الدنيا بالمطر وثمر تلك الشجرة مر له زفرة وأخرج الترمذي وصححه النسائي والبيهقي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن تكون
طعامه أي وقال يا محمد لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي تعبد فأنزلها الله تعالى { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } فكف عن سب آلهتهم وجعل يدعوهم إلى الله عز وجل
ثم رأيت في الدر المنثور في تفسير { إنا كفيناك المستهزئين } قيل نزلت في جماعة مر النبي صلى الله عليه وسلم بهم فجعلوا يغمزون في قفاه ويقولون هذا الذي يزعم أنه نبي ومعه جبريل فغمز جبريل عليه الصلاة والسلام بأصبعه في أجسادهم فصارت جروحا وأنتنت فلم يستطع أحد يدنو منهم حتى ماتوا فلينظر الجمع على تقدير الصحة
وقد يدعى أنهم طائفة آخرون غير من ذكر لأنهم المستهزئون ذلك الوقت أي فقد تكرر نزول الآية والله أعلم
قال ومن استهزاء النضر بن الحارث أنه كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا يحدث فيه قومه ويحذرهم ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله تعالى خلفه في مجلسه ويقول لقريش هلموا فإني والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه يعني النبي صلى الله عليه وسلم ثم يحدثهم عن ملوك فارس لأنه كان يعلم أحاديثهم ويقول ما حديث محمد إلا أساطير الأولين
ويقال إنه الذي { قال سأنزل مثل ما أنزل الله } فانتهى أي لأنه ذهب إلى الحيرة واشترى منها أحاديث الأعاجم ثم قدم بها مكة فكان يحدث بها ويقول هذه كأحاديث محمد عن عاد وثمود وغيرهم ويقال إن ذلك كان سببا لنزول قوله تعالى { ومن الناس من يشتري لهو الحديث }
قال في الينبوع والمشهور أنها نزلت في شراء المغنيات وقال ولا بعد في أن تكون الآية نزلت فيهما ليتحقق العطف في قوله تعالى { وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا } أي فإن هذا الوصف الثاني إنما يناسب النضر فليتأمل ولما تلا عليهم صلى الله عليه وسلم نبأ الأولين قال النضر بن الحارث لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين فأنزل الله تعالى تكذيبا له { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } أي معينا له
وجاء أن جماعة من بني مخزوم منهم أبو جهل والوليد بن المغيرة تواصوا على قتله صلى الله عليه وسلم فبينما النبي صلى الله عليه وسلم قائما يصلى سمعوا قراءته فأرسلوا
الوليد ليقتله فانطلق حتى أتى المكان الذي يصلى فيه فجعل يسمع قراءته ولا يراه فانصرف إليهم وأعلمهم بذلك فأتوه فلما سمعوا قراءته قصدوا الصوت فإذا الصوت من خلفهم فذهبوا إليه فسمعوه من أمامهم ولا زالوا كذلك حتى انصرفوا خائبين فانزل الله تعالى قوله { وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } وتقدم في سبب نزولها غير ذلك ويمكن أن يدعى أنها نزلت لوجود الأمرين فليتأمل
وجاء أن النضر بن الحارث رأى النبي صلى الله عليه وسلم منفردا أسفل ثنية الحجون فقال لا أجده أبدا أخلى منه الساعة فاغتاله فدنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليغتاله فرأى أسود تضرب بأذنابها على رأسه فاتحة أفواهها فرجع على عقبه مرعوبا فلقى أبا جهل فقال من أين فأخبره النضر الخبر فقال أبو جهل هذا بعض سحره
ومما تعنتوا به أنه لما نزل قوله تعالى { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } أي وقودها وحصب بالزنجية حطب أي حطب جهنم وقد قرأتها عائشة رضي الله تعالى عنها كذلك { أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون } شق على كفار قريش وقالوا لعبدالله بن الزبعري قد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا حصب جهنم فقال ابن الزبعري أنا أخصم لكم محمدا ادعوه لي فدعوه له فقال يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله فقال بل لكل من عبد من عبد دون الله فقال ابن الزبعري أخصمت ورب هذه البنية يعني الكعبة ألست تزعم يا محمد أن عيسى عبد من دون الله وكذا عزير والملائكة عبدت النصارى عيسى واليهود عزيرا وبنوا مليح الملائكة فضج الكفار وفرحوا فأنزل الله تعالى { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } يعنى عيسى وعزيرا والملائكة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تم بعون الله الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله
باب الهجرة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم & باب الهجرة الاولى الى أرض الحبشة وسبب رجوع من هاجر اليها من المسلمين الى مكة واسلام عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه
لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نزل بالمسلمين من توالى الاذى عليهم من كفار قريش مع عدم قدرته على انقاذهم مما هم فيه قال لهم تفرقوا فى الارض فان الله تعالى سيجمعكم قالوا الى أين نذهب قال هاهنا وأشار بيده الى جهة أرض الحبشة قال وفى رواية قال لهم أخرجوا الى جهة أرض الحبشة فان بها ملكا لا يظلم عنده احد اي وهى أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه انتهى أى ويجوز أن يكون قال ذلك عند استفساره صلى الله عليه وسلم عن محل اشارته فقد جاء فى الحديث من فر بدينه من أرض الى ارض وان كان شبرا من الارض استوجب له الجنة وكان رفيق أبيه ابراهيم خليل الله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم فهاجر اليها ناس ذو عدد مخافة الفتنة وفرارا الى الله تعالى بدينهم ومنهم من هاجر بأهله ومنهم من هاجر بنفسه فممن هاجر بأهله عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه هاجر ومعه زوجته رقية بنت النبى صلى الله عليه وسلم وكان أول خارج وقيل أول من هاجر الى الحبشة حاطب بن أبي عمرو وقيل سليط بن عمرو ولا ينافيهما قوله صلى الله عليه وسلم ان عثمان لاول من هاجر بأهله بعد لوط أى حيث قال انى مهاجر الى ربى فهاجر الى عمه ابراهيم الخليل ثم هاجرا عليهما الصلاة والسلام حتى أتيا حران ثم هاجرا الى أن نزل ابراهيم عليه الصلاة والسلام فلسطين ونزل لوط عليه الصلاة والسلام المؤتفكة
ووجه عدم المنافى أن كلا من حاطب وسليط يجوز أن يكون هاجر بغير أهله وكان مع رقية أم أيمن حاضنته صلى الله عليه وسلم وكانت رقية رضى الله تعالى عنها ذات جمال بارع وكذا عثمان رضى الله تعالى عنه ومن ثم كان النساء يغنينهما بقولهن ** أحسن شىء قد يرى انسان ** رقية وبعدها عثمان **
ومن ثم ذكر أنه صلى الله عليه وسلم بعث رجلا الى عثمان ورقية رضى الله تعالى عنهما فاحتبس عليه الرسول فلما جاء اليه قال له صلى الله عليه وسلم ان شئت أخبرتك ما حبسك قال نعم قال وقفت تنظر الى عثمان ورقية تعجب من حسنهما أى ومعلوم أن ذلك كان قبل اية الحجاب
ويذكر أن نفرا من الحبشة كانوا ينظرون اليها فتأذت من ذلك فدعت عليهم فقتلوا جميعا وقد جاء فى وصف حسن عثمان رضى الله تعالى عنه قوله صلى الله عليه وسلم قال لى جبريل ان أردت أن تنظر من أهل الارض شبيه يوسف الصديق فانظر الى عثمان بن عفان وسيأتى ذلك مع زيادة
وأبو سلمة هاجر ومعه زوجته أم سلمة أى وقيل هو أول من هاجر بأهله وهو مخالف للرواية السابقة أن عثمان أول من هاجر بأهله ويمكن أن تكون الاوليه فيه اضافية فلا ينافى ما سبق عن عثمان
وعامر بن ربيعة هاجر ومعه امرأته ليلى أى وعنها رضى الله تعالى عنها كان عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه من أشد الناس علينا فى اسلامنا فلما ركبت بعيرى أريد أن أتوجه الى أرض الحبشة اذا أنا بعمر بن الخطاب فقال لى الى أين يا أم عبدالله فقلت قد اذيتمونا في ديننا نذهب فى أرض الله حيث لا نؤذى فقال صحبكم الله ثم ذهب فجاء زوجى عامر فأخبرته بما رأيت من رقة عمر فقال ترجين أن يسلم عمر والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب أى استبعادا لما كان يرى من قسوته وشدته على أهل الاسلام وهذا دليل على أن اسلام عمر كان بعد الهجرة الاولى للحبشة وهو كذلك أى خلافا لمن قال انه كان تمام الاربعين من المسلمين أى ممن أسلم
وفيه أن المهاجرين الى أرض الحبشه كانوا فوق ثمانين كما قاله بعضهم اللهم الا أن يقال انه كان تمام الاربعين بعد خروج المهاجرين الى أرض الحبشة وربما يدل لذلك قول عائشة رضى الله تعالى عنها فى قصة الصديق وفى ضرب قريش له رضى الله تعالى عنه
لما قام خطيبا في المسجد الحرام وقد تقدمت حيث قالت وكان المسلمون تسعة وثلاثين رجلا لكن فى الرواية أنهم قاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون رجلا وقد كان حمزة بن عبدالمطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر فليتأمل
وفى لفظ عن أم عبد الله زوج عام قالت انا لنرحل الى أرض الحبشة وقد ذهب عامر تعنى زوجها الى بعض حاجته اذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف على وكنا نتقى منه الاذى والبلاء والشدة علينا فقال انه لخروج يا أم عبدالله فقلت والله لنخرجن الى أرض فقد اذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجا وفرجا فقال صحبكم الله ورأيت له رقة لم أكن أراها ثم انصرف وتفرست فيه حزنا لخروجنا وقلت لعامر يا أبا عبدالله لو رأيت ما وقع من عمر وذكرت ما تقدم
وممن هاجر أبو سبرة وهو أخو أبى سلمة رضى اله تعالى عنهما لامه أمهما برة بنت عبدالمطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر ومعه امرأته أم كلثوم
وممن هاجر بنفسه عبدالرحمن بن عوف وعثمان بن مظعون رضى الله تعالى عنهما أى وكان أميرا عليهم كما قيل وجزم به ابن المحدث فى سيرته وقال الزهرى لم يكن لهم أمير وسهيل بن البيضاء أى والزبير بن العوام وعبدالله بن مسعود رضى الله تعالى عنهم وقيل انما كان عبدالله بن مسعود فى الهجرة الثانية فخرجوا سرا أى متسللين منهم الراكب ومنهم الماشى حتى انتهوا الى البحر فوفق الله تعالى لهم سفينتين للتجار حملوهم فيهما بنصف دينار أى وفى المواهب وخرجوا مشاة الى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار هذا كلامه فليتأمل
وكان مخرجهم فى رجب من السنة الخامسة من النبوة فخرجت قريش فى اثارهم حتى جاءوا الى البحر لم يجدوا أحدا منهم ولعل خروجهم سرا لا ينافيه ما تقدم عن ليلى امرأة عامر بن ربيعة من سؤال عمر لها واخبارها له بأنها تريد أرض الحبشة فلما وصلوا الى أرض الحبشة نزلوا بخير دار عند خير جار فمكثوا فى أرض الحبشة بقية رجب وشعبان الى رمضان فلما كان شهر رمضان قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين سورة { والنجم إذا هوى } أى وقد أنزلت عليه فى ذلك الوقت ففى كلام بعضهم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما مع المشركين وأنزل الله تعالى عليه سورة { والنجم إذا هوى } فقرأها عليهم حتى اذا بلغ { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى }
وسوس اليه الشيطان بكلمتين فتكلم بهما ظانا أنهما من جملة ما أوحى اليه وهما تلك الغرانيق العلى أى الاصنام وان شفاعتهن لترتجى وفى لفظ لهى التى ترتجى شبهت الاصنام بالغرانيق التى هى طير الماء جمع غرنوق بكسر الغين المعجمه واسكان الراء ثم نون مفتوحة أو غرنوق بضم الغين والنون أيضا أو غرنوق بضم الغين وفتح النون وهو طير طويل العنق وهو الكركى أو يشبهه ووجه الشبه بين الاصنام وتلك الطيور أن تلك الطيور تعلو وترتفع فى السماء فالاصنام شبهت بها فى علو القدر وارتفاعه ثم مضى يقرأ السورة حتى بلغ السجدة فسجد وسجد القوم جميعا أى المسلمون والمشركون
أقول قال بعضهم ولم يكن المسلمون سمعوا الذى ألقى الشيطان وانما سمع ذلك المشركون فسجدوا لتعظيم الهتهم ومن ثم عجب المسلمون من سجود المشركين معهم من غير ايمان
قال بعضهم والنجم هى أول سورة نزل فيها سجدة أى أول سورة نزلت جملة كاملة فيها سجدة فلا ينافى أن { اقرأ باسم ربك } سورة نزلت فيها سجدة لان النازل منها أوائلها كما علمت
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قرأ يوما { اقرأ باسم ربك } فسجد في اخرها وسجد معه المؤمنون فقام المشركون على رءوسهم يصفقون
وقد روى أبو هريرة رضى الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم سجد في النجم أى غير سجدته المتقدمة التى سجد معه المشركون ومجموع ذلك يرد حديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لم يسجد فى شىء من المفصل قبل أن يتحول الى المدينة لان سورة النجم من المفصل لان عند أئمتنا أن أول المفصل الحجرات على الراجح من أقوال عشرة
لا يقال لعل ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ممن يرى أن النجم ليس من المفصل لانا نقول { اقرأ باسم ربك } من المفصل اتفاقا وعلى ما قال أئمتنا يكون فى المفصل ثلاث سجدات في النجم والانشقاق { اقرأ باسم ربك } وهى أى النجم أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة
وذكر الحافظ الدمياطى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رأى من قومه كفا عنه أى تركا وعدم تعرض له فجلس خاليا فتمنى فقال ليته لم ينزل على شىء ينفرهم عنى وفى رواية تمنى أن ينزل عليه ما يقارب بينه وبينهم حرصا على اسلامهم وقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ودنا منهم ودنوا منه فجلس يوما مجلسا فى ناد من تلك الاندية حول الكعبة فقرأ عليهم { والنجم إذا هوى } الى اخر ما تقدم والله أعلم
ومن جملة من كان مع المشركين حينئذ الوليد بن المغيرة لكنه رفع ترابا الى جبهته فسجد عليه لانه كان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود
وقيل الذى فعل ذلك سعيد بن العاص ويقال كلاهما فعل ذلك وقيل الفاعل لذلك أمية بن خلف وصحح وقيل عتبة بن ربيعة وقيل أبو لهب وقيل المطلب
وقد يقال لا مانع أن يكونوا فعلوا ذلك جميعا بعضهم فعل ذلك تكبرا وبعضهم فعل ذلك عجزا وممن فعل ذلك تكبرا أبو لهب فقد جاء وفيها سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والانس غير أبى لهب فانه رفع حفنة من تراب الى جبهته وقال يكفى هذا
ولا يخالف ذلك مانقل عن ابن مسعود ولقد رأيت الرجل أى الفاعل لذلك قتل كافرا لانه يجوز أن يكون المراد بقتل مات فعند ذلك قال المشركون له صلى الله عليه وسلم قد عرفنا أن الله تعالى يحيى ويميت ويخلق ويرزق ولكن الهتنا هذه تشفع لنا عنده فأما اذا جعلت لنا نصيبا فنحن معك فكبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس فى البيت
وفيه أنه كيف يكبر عليه صلى الله عليه وسلم ذلك مع أنه موافق لما تمناه من أن الله ينزل عليه ما يقارب بينه وبين المشركين حرصا على اسلامهم المتقدم ذلك عن سيرة الدمياطى الا أن يقال هذا كان بعد ما عرض السورة على جبريل وقال له ما جئتك بهاتين الكلمتين المذكور ذلك فى قولنا فلما أمسى صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فعرض عليه السورة وذكر الكلمتين فيها فقال له جبريل ما جئتك بهاتين الكلمتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت على الله ما لم يقل أى فكبر عليه ذلك فأوحى الله تعالى اليه ما فى سورة الاسراء { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره } بموافقتك لهم على مدح الهتهم بما لم نرسل به اليك { وإذا } لو فعلت أى دمت عليه { لاتخذوك خليلا } الى قوله { ثم لا تجد لك علينا نصيرا } أى مانعا يمنع العذاب عنك وهذا يدل لما تقدم أنه تكلم بذلك ظانا أنه من جملة ما أوحى اليه
وقيل نزل ذلك لما قال له اليهود حسدا له صلى الله عليه وسلم على اقامته بالمدينة لئن كنت نبيا فالحق بالشام لانها أرض الانبياء حتى نؤمن بك فوقع ذلك فى قلبه فخرج برحله فنزلت فرجع أى بدليل ما بعدها وقيل ان التى بعدها نزلت فى أهل مكة
وقيل ان اية { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك } نزلت في ثقيف قالوا لاندخل فى أمرك حتى تعطينا خلالا نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا ننحنى في صلاتنا وكل ربا لنا فهو لنا وكل ربا علينا فهو موضوع عنا وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة فان قالت العرب لم فعلت ذلك فقل ان الله أمرنى
وقيل نزلت فى قريش قالوا لا نمكنك من استلام الحجر حتى تلم بالهتنا وتمسها بيدك
وقد يدعى أن هذا مما تعدد أسباب نزوله والقاضى البيضاوى اقتصر على ما عدا الاول والله أعلم
قال وقيل ان هاتين الكلمتين لم يتكلم بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وانما ارتصد الشيطان سكتة عند قوله الاخرى فقالهما محاكيا نغمته صلى الله عليه وسلم فظنهما النبى صلى الله عليه وسلم كما فى شرح المواقف ومن سمعه أنهما من قوله صلى الله عليه وسلم أى حتى قال قلت على الله ما لم يقل وتباشر بذلك المشركون وقالوا ان محمدا قد رجع الى ديننا أى دين قومه حتى ذكر أن الهتنا لتشفع لنا وعند ذلك أنزل الله تعالى قوله { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } أى قراءته ما ليس من القران أى مما يرضاه المرسل اليهم وفى البخارى اذا حدث ألقى الشيطان فى حديثه فينسخ الله ما يلقى الشيطان يبطله ثم يحكم الله اياته أى يثبتها والله عليم بالقاء الشيطان ما ذكر حكيم فى تمكينه من ذلك يفعل ما يشاء ليميز به الثابت على الايمان من المتزلزل فيه ولم أقف على بيان أحد من الانبياء والمرسلين وقع له مثل ذلك
وفيه كيف يجترىء الشيطان على التكلم بشىء من الوحى ومن ثم قيل هذه القصة طعن فى صحتها جمع وقالوا انها باطلة وضعها الزنادقة أى ومن ثم أسقطها القاضى البيضاوى ومن جملة المنكرين لها القاضى عياض فقد قال هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل وانما أولع به المفسرون المؤرخون المولعون بكل غريب أى وقال البيهقى رواة هذه القصة كلهم مطعون فيهم وقال الامام النووى نقلا عنه
وأما ما يرويه الاخباريون والمفسرون أن سبب سجود المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جرى على لسانه من الثناء على الهتهم فباطل لا يصح منه شىء لا من جهة النقل ولا من جهة العقل لان مدح اله غير الله كفر ولا يصح نسبة ذلك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يقوله الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يصح تسليط الشيطان على ذلك أى وألا يلزم عدم الوثوق بالوحى
وقال الفخر الرازى هذه القصة باطلة موضوعة لا يجوز القول بها قال الله تعالى { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } أى الشيطان لايجترىء أن ينطق بشىء من الوحى وقال بصحتها جمع منهم خاتمة الحفاظ الشهاب ابن حجر وقال رد عياض لافائدة فيه ولا يعول عليه هذا كلامه وفشا أمر تلك السجدة فى الناس حتى بلغ أرض الحبشة أن أهل مكة أى عضماءهم قد سجدوا وأسلموا حتى الوليد بن المغيرة وسعيد بن العاص
وفى كلام بعضهم والناقل لاسلامه أنه لما رأى المشركين قد سجدوا متابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقد أنهم أسلموا واصطلحوا معه ولم يبق نزاع معهم فطار الخبر بذلك وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة فظنوا صحة ذلك فقال المهاجرون بها من بقي بمكة اذا أسلم هؤلاء عشائرنا أحب الينا فخرجوا أى خرج جماعة منهم من أرض الحبشة راجعين الى مكة أى وكانوا ثلاثة وثلاثين رجلا منهم عثمان بن عفان والزبير ابن العوام وعثمان بن مظعون وذلك فى شوال حتى اذا كانوا دون مكة ساعة من نهار لقوا ركبا فسألوهم عن قريش فقال الركب ذكر محمد الهتهم بخير فتابعه الملاء ثم عاد لشتم الهتهم وعادوا له بالشر وتركناهم على ذلك فائتمر القوم فى الرجوع الى أرض الحبشة ثم قالوا قد بلغنا مكة فندخل ننظر مافيه قريش ويحدث عهدا من أراد بأهله ثم نرجع فدخلوا مكة أى بعضهم بجوار وبعضهم مستخفيا
قال فى الامتاع ويقال ان رجوع من كان مهاجرا بالحبشة الى مكة كان بعد الخروج من الشعب هذا كلامه وفيه نظر ظاهر ويرشد اليه التبرى لانهم مكثوا فى الشعب ثلاث سنين او سنتين ومكث هؤلاء عند النجاشى حينئذ كان دون ثلاثة أشهر كما علمت وأيضا الهجرة الثانية للحبشة انما كانت بعد دخول الشعب كما سيأتى
قال فى الاصل ولم يدخل أحد مهم الا بجوار الا ابن مسعود فانه مكث يسيرا ثم رجع الى أرض الحبشة
أى وهذا من صاحب الاصل تصريح بأن ابن مسعود كان فى الهجرة الاولى وهو موافق فى ذلك لشيخه الحافظ الدمياطى لكن الحافظ الدمياطى جزم بأن ابن مسعود كان فى الهجرة الاولى ولم يحك خلافا وصاحب الاصل حكى خلافا أنه لم يكن فيها وبه جزم ابن اسحاق حيث قال ان ابن مسعود انما كان فى الهجرة الثانية فكان ينبغى للاصل أن يقول على ما تقدم
هذا وفى كلام بعضهم فلم يدخل أحد منهم مكة الا مستخفيا ولكهم دخلوا مكة الا عبدالله بن مسعود فانه رجع الى أرض الحبشة
وقد يقال لما لم يطل مكث ابن مسعود بمكة ظن به أنه لم يدخلها فلا ينافى ما سبق ويجوز أن يكون أكثرهم دخل مكة بلا جوار فأطلقوا على الكل أنهم دخلوا مستخفين فلا يخالف ماسبق أيضا ولما رجعوا لقوا من المشركين أشد ما عهدوا
قال وممن دخل بجوار عثمان بن مظعون دخل فى جوار الوليد بن المغيره ولما رأى ما يفعل بالمسلمين من الاذى قال والله ان غدوى ورواحى امنا بجوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل دينى يلقون من الاذى فى الله مالا يصيبنى لنقص كبير فمشى الى الوليد فقال يا أبا عبدشمس وفت ذمتك وقد رددت اليك جوارك قال له يا ابن أخى لعله اذاك أحد من قومى وأنت فى ذمتى فأكفيك ذلك قال لا والله ما اعترض لى أحد ولا اذانى ولكن أرضى بجوار الله عز وجل وأريد أن لا أستجير بغيره قال انطلق الى المسجد فاردد الى جوارى علانية كما أجرتك علانية فانطلقا حتى أتيا المسجد فقال الوليد هذا عثمان قد جاء يرد على جوارى فقال عثمان صدق وقد وجدته وفيا كريم الجوار ولكنى لا أستجير بغير الله عزوجل قد رددت عليه جواره فقال الوليد أشهدكم أنى برىء من جواره الا أن يشاء ثم انصرف عثمان ولبيد بن ربيعة بن مالك فى مجلس من قريش ينشدهم قبل اسلامه فجلس عثمان معهم فقال لبيد ألا كل شىء ما خلا الله باطل فقال عثمان صدقت فقال لبيد وكل نعيم لا محالة زائل فقال عثمان كذبت نعيم الجنة لا يزول فقال لبيد يا معشر قريش ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم فقال رجل من القوم ان هذا سفيه فمن سفاهته فارق ديننا فلا
تجدن فى نفسك من قوله فرد عليه عثمان فقام ذلك الرجل فلطم عينه والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان فقال أما والله يا ابن أخى كانت عينك عما أصابها لغنية ولقد كنت فى ذمة منيعة فخرجت منها وكنت عن الذى لقيت غنيا فقال عثمان رضى الله تعالى عنه بل كنت الى الذى لقيت فقيرا والله ان عينى الصحيحة التى لم تلطم لفقيرة الى مثل ما أصاب أختها فى الله عز وجل ولى فيمن هو أحب الى منكم أسوة وانى لفى جوار من هو أعز منك انتهى فعثمان فهم أن لبيدا أراد بالنعيم ما هو شامل لنعيم الاخرة ومن ثم قال له نعيم الجنة لا يزول لا يقال لولا أن لبيدا يريد مطلق النعيم الشامل لنعيم الاخرة لما تشوش من الرد عليه لانا نقول يجوز أن يكون تشوشه من مشافهة عثمان له بقوله كذبت
على أن هذا السياق دال على أن لبيدا قال هذا الشعر قبل اسلامه ويؤيده ما قيل أكثر أهل الاخبار على أن لبيدا لم يقل شعرا منذ أسلم وبه يرد ما فى الاستيعاب أن هذا أى قوله أ لا كل شىء الى اخره شعر حسن فيه ما يدل على أنه قاله فى الاسلام وكذلك قوله ** وكل امرىء يوما سيعلم سعيه ** اذا كشفت عند الاله المحاصل **
وقد يقال لا يلزم من قوله المذكور الذى لا يصدر غالبا الا عن مسلم أن يكون قاله فى حال اسلامه كما وقع لامية بن أبى الصلت حيث قال فى شعره ما لايقوله الا مسلم مع كفره ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم فيه امن شعره وكفر قلبه وفى رواية كاد يسلم
وذكر محيى الدين بن العربى فى قوله صلى الله عليه وسلم أصدق بيت قالته العرب وفى رواية أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد ألا كل شىء ما خلا الله باطل
اعلم أن الموجودات كلها وان وصفت بالباطل فهى حق من حيث الوجود ولكن سلطان المقام اذا غلب على صاحبه يرى ما سوى الله تعالى باطلا من حيث انه ليس له وجود من ذاته فحكمه حكم العدم وهذا معنى قول بعضهم قوله باطل أى كالباطل لان العالم قائم بالله تعالى لا بنفسه فهو من هذا الوجه باطل والعارف اذا وصل الى مقامات القرب فى بداية عرفانه ربما تلاشت هذه الكائنات وحجب عن شهودها بشهود الحق لا أنها زالت من الوجود بالكلية ثم اذا كمل عرفانه يشهد الحق تعالى
والخلق معا فى ان واحد وما كل أحد يصل الى هذا المقام فان غالب الناس ان شهد الحق لم يشهد الخلق وان شهد الخلق لم يشهد الحق كما تقدم عند الكلام على الوحدة أنه لا يدركها الا من أدرك اجتماع الضدين ولعل من المشهد الاول قول الاستاذ الشيخ أبى الحسن البكرى رضى الله تعالى عنه أستغفر الله مما سوى الله لان الباطل يستغفر من اثبات وجوده لذاته
ويوافق قول أكثر أهل الاخبار قول السهيلى وأسلم لبيد وحسن اسلامه وعاش فى الاسلام ستين سنة لم يقل فيها بيت شعر فسأله عمر رضى الله تعالى عنه أى فى خلافته عن تركه للشعر فقال ما كنت لاقول شعرا بعد أن علمنى الله تعالى البقرة وال عمران فزاده عمر فى عطائه خمسمائة من أجل هذا القول فكان عطاؤه ألفين وخمسمائة وقيل انه قال بيتا واحدا فى الاسلام وهو ** الحمد لله الذى لم يأتنى أجلى ** حتى اكتسيت من الاسلام سربالا ** قال وممن دخل بجوار أبو سلمة بن عبد الاسد ابن عمته صلى الله عليه وسلم فانه دخل فى جوار خاله أبى طالب ولما أجاره مشى اليه رجال من بنى مخزوم فقالوا يا أبا طالب منعت منا ابن أختك فمالك ولصاحبنا تمنعه منا فقال انه استجار بى وهو ابن أختى وأنا ان لم أمنع ابن أختى لم أمنع ابن أخى فقام أبو لهب على أولئك الرجال وقال لهم يا معشر قريش لا تزالون تعارضون هذا الشيخ فى جواره من قومه والله لتنتهن أو لاقومن معه فى كل مقام يقوم فيه حتى يبلغ ما أراد قالوا بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة أى لانه كان لهم وليا وناصرا على رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى أى وطمع أبو طالب فى أبى لهب حيث سمعه يقول ما ذكر ورجا أن يقوم معه فى شأنه صلى الله عليه وسلم وأنشد أبياتا يحرضه فيها على نصرته صلى الله عليه وسلم
وممن أوذى فى الله بعد اسلامه ووقع له نظير ما وقع لعثمان بن مظعون رضى الله عنه عمر بن الخطاب
وسبب اسلامه على ما حدث به بعضهم قال قال لنا عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه أتحبون أن أعلمكم كيف كان بدء اسلامى أى ابتداؤه والسبب فيه قلنا نعم قال كنت من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا أنا فى يوم حار شديد الحر بالهاجرة فى بعض طرق مكة اذ لقينى رجل من قريش أى وهو نعيم بن عبدالله
النحام بالحاء المهملة قيل له ذلك لانه صلى الله عليه وسلم قال فيه لقد سمعت نحمته فى الجنة أى صوته وحسه كان يخفى اسلامه خوفا من قومه وأخبرنى أن أختى يعنى أم جميل واسمها فاطمة كما تقدم وقيل زينب وقيل امنة قد صبئت أى أسلمت وكذا زوجها وهو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وهو ابن عم عمر وكانت أخت سعيد عاتكة تحت عمر فرجعت مغضبا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الرجل والرجلين اذا أسلما عند الرجل به قوة يكونان معه يصيبان من طعامه وقد ضم الى زوج أختى رجلين ممن أسلم أى أحدهما خباب بن الارت بالمثناة فوق والاخر لم أقف على اسمه
وفى السيرة الهشامية الاقتصار على خباب وأنه كان يختلف اليهما ليعلمهما القران فجئت حتى قرعت الباب فقيل لى من بالباب قلت ابن الخطاب وكان القوم جلوسا يقرءون صحيفة معهم فلما سمعوا صوتى تبادروا أى واستخفوا ونسوا الصحيفة فقامت المراة يعنى أخته ففتحت لى فقلت لها يا عدوة نفسها قد بلغنى أنك قد صبوت وضربتها بشىء كان فى يدى فسال الدم فلما رات الدم بكت وقالت يا ابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت فدخلت وجلست على السرير فنظرت فاذا بالصحيفة فى ناحية من البيت فقلت ما هذا الكتاب اعطينيه أى فان عمر كان كاتبا فقالت لا أعطيكه لست من أهله أنت لا تغتسل من الجنابة و لا تتطهر وهذا لا يمسه الا المطهرون فلم أزل حتى أعطتنيه أى بعد أن اغتسل كما فى بعض الروايات وفي بعض الروايات قالت له يا أخى انك نجس على شركك فانه لا يمسه الا المطهرون وقولها لا تغتسل من الجنابة ربما يخالف قول بعضهم ان أهل الجاهلية كانوا يغتسلون من الجنابة وكون عمر كان يخالفهم فى ذلك من البعيد وكون هذا منها يحمل على أنه لم يغتسل غسلا يعتد به يخالفه ما تقدم عن بعض الروايات أنه لما اغتسل دفعت له تلك الرقعة وفى لفظ قالت له انا نخشاك عليها قال لا تخافى وحلف لها بالهته ليردنها اذا قرأها فدفعتها له أى وطمعت فى اسلامه فاذا فيها { بسم الله الرحمن الرحيم } قال فلما مررت على { بسم الله الرحمن الرحيم } ذعرت أى فزعت ورميت الصحيفة من يدى ثم رجعت الى نفسى فأخذتها فاذا فيها { سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } فكلما مررت باسم من أسمائه عزوجل ذعرت أى فألقيها ثم ترجع الى نفسى
فاخذها حتى بلغت { آمنوا بالله ورسوله } الى قوله تعالى { إن كنتم مؤمنين } فقلت أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله فخرج القوم يتبادرون بالتكبير استبشارا بما سمعوا منى وحمدوا الله عزوجل ثم قالوا يا ابن الخطاب أبشر فان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فقال اللهم أعز الاسلام وفى لفظ أيد الاسلام بأحد الرجلين اما بأبي جهل بن هشام واما بعمر بن الخطاب أى وفى لفظ بأحب هذين الرجلين اليك أبى الحكم عمرو بن هشام يعنى أبا جهل وعمر بن الخطاب أى وفى غير ما رواية بعمر ابن الخطاب من غير ذكر أبى جهل
وعن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت انما قال صلى الله عليه وسلم اللهم أعز عمر بالاسلام لان الاسلام يعز ولا يعز ولعل قول عائشة ما ذكر نشأ عن اجتهاد منها بدليل تعليلها واستبعادها أن يعز الاسلام بعمر فليتأمل وكان دعاؤه صلى الله عليه وسلم بذلك يوم الاربعاء فأسلم عمر يوم الخميس قال عمر رضى الله تعالى عنه فلما عرفوا منى الصدق قلت لهم أخبرونى بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا هو فى بيت بأسفل الصفا ووصفوه أى وهى دار الارقم فخرجت وفى رواية أن عمر قال ياخباب انطلق بنا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام خباب وابن عمه سعيد معه قال عمر لما قرعت الباب قيل من هذا قلت ابن الخطاب فما اجترأ أحد أن يفتح لى الباب لما عرفوه من شدتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعلموا اسلامى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم افتحوا له فان يرد الله به خيرا يهده وفى لفظ يهديه باثبات الياء وهى لغة ففتحوا لى أى والذى أذن فى دخوله حمزة بن عبدالمطلب رضى الله تعالى عنه فان اسلام عمر كان بعد اسلام حمزة بثلاثة أيام وقيل بثلاثة أشهر وكان اسلام عمر وهو ابن ست وعشرين سنة قال وأخذ رجلان بعضدى حى دنوت من النبى صلى الله عليه وسلم فقال أرسلوه فارسلونى فجلست بين يديه صلى الله عليه وسلم فاخذ بمجامع قميصى فجذبني اليه ثم قال أسلم يا ابن الخطاب اللهم اهده فقلت أشهد أن لا اله الا الله وأنك رسول الله فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بطرف مكة
أى وفى الاوسط للطبرانى ورواه الحاكم باسناد حسن عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب صدر عمر بيده حين أسلم ثلاث مرات وهو يقول اللهم
أخرج ما فى صدر عمر من غل وأبدله ايمانا أى ولعل خبابا وسعيدا لم يدخلا معه والا لبشرا باسلام عمر
وفى رواية لما ضرب الباب وسمعوا صوته قام رجل فنظر من خلل الباب فراه متوشحا سيفه أى ولم ير معه خبابا ولا سعيدا فرجع الى النبى صلى الله عليه وسلم وهو فزع فقال يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحا سيفه نعوذ بالله من شره فقال حمزه بن عبدالمطلب فائذن له فان كان جاء يريد خيرا بذلنا له وان كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه
وفى لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال ان جاء بخير قبلناه وان جاء بشر قتلناه وفى لفظ ان يرد بعمر خير يسلم وان يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ائذن له فاذن له الرجل ونهض اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه فى صحن الدار فأخذ بحجزته وجذبه جذبة شديدة وقال ما جاء بك يا بان الخطاب فو الله ما أدرى أن تنتهى حتى ينزل الله بك قارعة وفى لفظ أخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه وقال ما أنت منته ياعمر حتى ينزل الله بك من الخزى والنكال ما أنزل الله بالوليد بن المغيرة أى أحد المستهزئين به صلى الله عليه وسلم كما تقدم فقال يارسول الله جئت لأومن بالله ورسوله أشهد أنك رسول الله وفى رواية ( أشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيره عرفت وفى رواية سمعها أهل المسجد
وفى رواية لما جاء دفع الباب فوجد بلالا وراء الباب فقال بلال من هذا فقال عمر بن الخطاب فقال حتى أستأذن لك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بلال يا رسول الله عمر بالباب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يرد الله به خيرا أدخله فى الدين فقال لبلال افتح له وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضبعه فهزه
وفى رواية أخذ ساعده وانتهره فارتعد عمر هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس وفى لفظ أخذ بمجامع ثيابه ثم نتره نترة فما تمالك عمر أن وقع على ركبتيه فقال صلى الله عليه وسلم الله اللهم هذا عمر بن الخطاب اللهم أعز الاسلام بعمر بن الخطاب ما الذى تريد وما الذى جئت له فقال عمر اعرض على الذى تدعو اليه
فقال تشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فأسلم عمر مكانه
أقول ولا ينافى هذا ما تقدم من اسلامه واتيانه بالشهادتين فى بيت اخته قبل خروجه اليه صلى الله عليه وسلم وقوله ولم يعلموا اسلامى لانه يجوز أن يكون مراده بقوله جئت لأومن جئت لاظهر ايمانى عندك وعند أصحابك وعند ذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم يا ابن الخطاب الى اخره وقوله للنبى صلى الله عليه وسلم اعرض على الذى تدعو اليه يجوز أن يكون عمر جوز أن الذى يدعو اليه ويصير به المسلم مسلما أخص مما نطق به من الشهادتين والله أعلم قال عمر وأحببت أن يظهر اسلامى وأن يصيبنى ما يصيب من أسلم من الضرر والاهانة فذهبت الى خالى وكان شريفا فى قريش وأعلمته أنى صبوت أى وهو أبو جهل
وقد جاء فى بعض الروايات قال عمر لما أسلمت تذكرت أى أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة حتى اتيه فأخبره أنى قد أسلمت فذكرت أبا جهل فجئت له فدققت عليه الباب فقال من بالباب قلت عمر بن الخطاب فخرج الى فقال مرحبا وأهلا يا ابن أختى ما جاء بك قلت جئت لاخبرك وفى لفظ لابشرك ببشارة فقال أبو جهل وما هى يا ابن أختى فقلت انى قد امنت بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وصدقت ما جاء به فضرب الباب فى وجهى أى أغلقه وهو بمعنى أجاف الباب كما فى بعض الروايات وقال قبحك الله وقبح ما جئت به أى وانما كان أبو جهل خال عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه قيل لان أم عمر أخت أبى جهل وقيل لان أم عمر بنت هشام بن المغيرة والد أبى جهل فأبو جهل خال أم عمر وقيل ان أم عمر بنت عم أبى جهل وصححه ابن عبد البر وعصبة الام أخوال الابن قال عمر وجئت رجلا اخر من عظماء قريش وأعلمته أنى صبوت فم يصبنى منها شىء فقال لى رجل تحب أن يعلم اسلامك قلت نعم قال اذا جلس الناس يعنى قريشا فى الحجر واجتمعوا فائت فلانا لشخص كان لا يكتم السر وهو جميل بن معمر رضى الله عنه أسلم يوم الفتح وشهد مع النبى صلى الله عليه وسلم حنينا وكان يسمى ذا القلبين وفيه نزلت { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } ومات فى خلافة عمر رضى الله تعالى عنه وحزن عليه عمر حزنا شديدا فقل له فيما بينك وبينه اني قد صبوت قال فلما اجتمعت الناس فى الحجر جئت الرجل فدنوت منه واخبرته فرفع صوته بأعلاه فقال
الا ان عمر بن الخطاب قد صبأ فما زال الناس يضربونى وأضربهم فقام خالى يعنى أباجهل على الحجر فأشار بكمه وقال ألا انى أجرت ابن اختى فانكشف الناس عنى فصرت أى بعد ذلك أرى الواحد من المسلمين يضرب وأنا لا أضرب فقلت ما هذا بشىء حتى يصيبنى ما يصيب المسلمين فأمهلت حتى جلس الناس فى الحجر وصلت الى خالى وقلت له جوارك عليك رد فقال لا تفعل يا ابن أختى فقلت بل هو ذاك فمازلت أضرب وأضرب حتى أعز الله الاسلام
أى وفى السيرة الهشامية بينما القوم يقاتلونه ويقاتلهم اذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليه أى وهو العاص بن وائل فقال ويلكم ما شأنكم قالوا صبأ عمر قال فمه رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون أترون بنى عدى بن كعب مسلمين لكم صاحبهم هكذا خلوا عن الرجل فانفرجوا عنه كأنهم ثوب كشط عنه
أى وفى البخارى لما أسلم عمر اجتمع الناس عند داره وقالوا صبأ عمر فبينما عمر في داره خائفا اذ جاءه العاص بن وائل فقال له مالك قال زعم قومك أنهم سيقتلونى ان أسلمت أى اذ أسلمت قال أمنت لا سبيل اليك فخرج العاص فلقى الناس قد سال بهم الوادى فقال أين تريدون فقالوا نريد هذا عمر بن الخطاب الذى صبأ قال لا سبيل اليه فأنا له جار فكسر الناس وتصدعوا عنه أى ويذكر أن عتبة بن ربيعة وثب عليه فالقاه عمر الى الارض وبرك عليه وجعل يضربه وأدخل أصبعيه في عينيه فجعل عتبة يصيح وصار لا يدنو منه أحد الا أخذ بشرا سيفه وهى أطراف أضلاعه
وعن عمر رضى الله تعالى عنه فى سبب اسلامه قال خرجت أتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقنى الى المسجد فقمت خلفه فاستفتح بسورة الحاقة فجعلت أتعجب من تأليف القران فقلت هذا والله شاعر كما قالت قريش فقرأ { إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون } قال قلت كاهن علم ما فى نفسى فقرأ { ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون } الى اخر السورة فوقع الاسلام فى قلبى كل موقع
أى ومن ذلك ما فى السيرة الهشامية عن عمر رضى الله تعالى عنه قال جئت المسجد
أريد أن أطوف بالكعبة فاذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى وكان اذا صلى استقبل الشام أى صخرة بيت المقدس وجعل الكعبة بينه وبين الشام فكان مصلاه بين الركن الاسود والركن اليمانى أى لانه لايكون مستقبلا لبيت المقدس الا حينئذ كما تقدم قال فقلت حين رأيته صلى الله عليه وسلم لو أنى استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول قال فقلت لئن دنوت منه أستمع لاروعنه فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابها يعنى الكعبة فجعلت أمشى رويدا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى فقرأ صلى الله عليه وسلم الرحمن حتى قمت فى قبلته مستقبله ما بينى وبينه الا ثياب الكعبة فلما سمعت القران رق له قلبى فبكيت ودخلنى الاسلام فلم أزل قائما فى مكانى ذلك حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته ثم انصرف فتبعته فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حسى عرفنى وظن أنما تبعته لاوذيه فنهمنى أى زجرني ثم قال ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة قلت جئت لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله وفى رواية ضرب أختى المخاض ليلا فخرجت من البيت فدخلت فى أستار الكعبة فجاء النبى صلى الله عليه وسلم فدخل الحجر فصلى فيه ماشاء الله ثم انصرف فسمعت شيئا لم أسمع مثله فخرج فاتبعته فقال من هذا قلت عمر قال ياعمر ماتدعنى لا ليلا ولا نهارا فخشيت أن يدعو على فقلت أشهد أن لا اله الا الله وأنك رسول الله فقال يا عمر أتسره قلت لا والذى بعثك بالحق لاعلننه كما أعلنت الشرك فحمد الله تعالى ثم قال هداك الله يا عمر ثم مسح صدرى ودعا لى بالثبات ثم انصرفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بيته
أى ويحتاج للجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها ثم رأيت العلامة ابن حجر الهيتمى قال ويمكن الجمع بتعداد الواقعة قبل اسلامه هذا كلامه ليتأمل مافيه
قال ومن ذلك أى مما كان سببا لاسلام عمر أن أبا جهل بن هشام قال يا مشعر قريش ان محمدا قد شتم الهتكم وسفه أحلامكم وزعم أن من مضى من أسلافكم يتهافتون فى النار ألا ومن قتل محمدا فله على مائة ناقة حمراء وسوداء وألف أوقية من فضة أى وفى لفظ جعلوا لم يقتله كذا وكذا أوقية من الذهب وكذا كذا أوقية من الفضة وكذا كذا نافجة من المسك وكذا كذا ثوبا وغير ذلك فقال عمر أنا لها فقالوا له أنت لها ياعمر وتعاهد معهم على ذلك قال عمر فخرجت متقلدا سيفى متنكبا كنانتى
أى جعلتها فى منكبى أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررت على عجل يذبح فسمعت من جوفه صوتا يقول يا ال ذريح صائح يصيح بلسان فصيح يدعو الى شهادة أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله فقلت فى نفسى ان هذا الامر لا يراد به الا أنت وذريح اسم للعجل المذبوح وقيل له ذلك من أجل الدم لان الذريح شديد الحمرة يقال أحمر ذريحى أى شديد الحمرة ثم مر برجل أسلم وكان يكتم اسلامه خوفا من قومه يقال له نعيم أى ابن عبدالله النحام كما تقدم فقال له أين تذهب يا ابن الخطاب فقال أريد هذا الصابى الذى فرق أمر قريش وسفه أحلامها وسب الهتها فأقتله فقال له نعيم والله لقد غرتك نفسك أترى بنى عبدمناف تاركيك تمشى على وجه الارض وقد قتلت محمدا فلا ترجع الى أهل بيتك فتقيم أمرهم قال وأى أهل بيتى قال ختنك أى زوج أختك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأختك قد أسلما فعليك وانما فعل ذلك نعيم ليصرفه عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل الذى لقيه سعد بن أبى وقاص فقال له أين تريد يا عمر فقال أريد أن أقتل محمدا قال له أنت أصغر وأحقر من ذلك تريد أن تقتل محمدا وتدعك بنو عبدمناف أن تمشى على الارض فقال له عمر ما أراك الا وقد صبأت فأبدأ بك فاقتلك فقال سعد أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله فسل عمر سيفه وسل سعد سيفه وشد كل منهما على الاخر حتى كاد أن يختلطا ثم قال سعد لعمر مالك يا عمر لا تصنع هذا بختنك وأختك فقال صبا قال نعم فتركه عمر وسار الى منزل أخته أى ولا مانع أن يكون لقى كلا من نعيم وسعد بن أبى وقاس وقال له كل منهما ماذكر
وفى هذه الرواية وجد عندهم خباب بن الارت معه صحيفة فيها سورة طه يقرؤها عليهم وانه دق عليهم الباب فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب أى وترك الصحيفة فلما دخل قال لاخته ما هذه الهينمة التى سمعت قالت له ماسمعت شيئا غير حديث تحدثنا به بيننا قال بلى والله لقد أخبرت أنكما يخاطب أخته وزوجها بايعتما محمدا على دينه وبطش بزوج أخته فألقاه الى الارض وجلس على صدره وأخذ بلحيته فقامت اليه أخته لتكفه عن زوجها فضربها فشجها أى فلما رأت الدم قالت له ياعدو الله أتضربنى على أن أوحد الله تعالى لقد أسلمت على رغم أنفك فاصنع ما أنت صانع فلما رأى ما بأخته وما صنع بزوجها ندم وقال لاخته أعطنى هذه الصحيفة أنظر ما هذا الذى جاء
به محمد وكان عمر كاتبا قالت أخشاك عليها فحلف ليردنها اذا قرأها اليها فقالت له يا أخى أنت نجس ولا يمسه الا الطاهر فقام واغتسل أى وفى لفظ فذهب يغتسل فخرج اليها خباب وقال أتدفعين كتاب الله تعالى الى عمر وهو كافر قالت نعم انى أرجو أن يهدى الله أخى ورجع خباب الى محله ودخل عمر فأعطته تلك الصحيفة فلما قرأها عمر وبلغ { فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى } قال أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا عبده ورسوله أه أى وفى رواية أنه لما قرأ الصحيفة قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه أى وقيل انه لما انتهى الى قوله تعالى { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } قال ينبغى لمن يقول هذا أن لا يعبد معه غيره فلما سمع ذلك خباب خرج اليه فقال يا عمر انى لارجو أن يكون الله تعالى قد خصك بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فانى سمعته أمس وهو يقول اللهم أيد الاسلام بأبى الحكم ابن هشام أو بعمر بن الخطاب فالله الله يا عمر فقال له عند ذلك دلنى يا خباب على محمد حتى اتيه فأسلم أى عنده وعند أصحابه فلا ينافى ما فى الرواية الاولى أنه أسلم فقال له خباب هو فى بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه فعمد الى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث
أقول ويمكن الجمع بين هاتين الروايتين حيث كانت القصة واحدة ولم تتعدد بأنه يجوز أن يكون زوج أخته استخفى أولا مع خباب ورفيقه ثم ظهر فأوقع به وباخته ما ذكر وأنه فى الرواية الاولى اقتصر على ذكر أخته والصحيفة تعددت واحدة فيها { سبح لله ما في السماوات والأرض } والثانية فيها طه اقتصر فى الرواية الاولى على احداهما وهى التى فيها { سبح لله } وفى الرواية الثانية على الاخرى التى فيها { طه } وانه في الرواية الاولى أسلم وفى الرواية الثانية سكت عن ذلك والله أعلم
وعن ابن عباس أيضا رضى الله تعالى عنهما لما أسلم عمر رضى الله تعالى عنه قال المشركون لقد انتصف القوم منا
وعن ابن عباس أيضا رضى الله تعالى عنهما لما أسلم عمر رضى الله تعالى عنه نزل جبريل عليه السلام على النبى صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد استبشر أهل السماء باسلام عمر
قال وروى البخارى عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه مازلنا أعزة منذ أسلم
عمر اه وزاد بعضهم عن ابن مسعود والله لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلى بالكعبة أى عندها ظاهرين امنين حتى أسلم عمر فقاتلهم حتى تركونا فصلينا أى وجهروا بالقراءة وكانوا قبل ذلك لا يقرءون الا سرا كما تقدم وعن صهيب لما أسلم عمر جلسنا حول البيت حلقا
وفى كلام ابن الاثير مكث صلى الله عليه وسلم مستخفيا فى دار الارقم ومن معه من المسلمين الى أن كملوا أربعين بعمر بن الخطاب وعند ذلك خرجوا وتقدم ما فى ذلك
ومما يؤثر عن عمر رضى الله تعالى عنه من اتقى الله وقاه ومن توكل عليه كفاه السيد هو الجواد حين يسأل الحليم حين يستجهل أشقى الولاة من شقيت به رعيته أعدل الناس أعذرهم للناس
وفى مختصر تاريخ الخلفاء لابن حجر الهيتمى أن عمر أول من قال أطال الله تعالى بقاءك وأيدك الله قال ذلك لعلى رضى الله تعالى عنه وهو أول من استقضى القضاة فى الامصار
ويروى أن الارقم هذا لما كان بالمدينة بعد الهجرة تجهز ليذهب فيصلى فى بيت المقدس فلما فرغ من جهازه جاء الى النبى صلى الله عليه وسلم يودعه فقال له ما يخرجك أى من المدينة حاجة أم تجارة قال لا يا رسول الله بأبى أنت وأمى ولكن أريد الصلاة فى بيت المقدس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد الا المسجد الحرام فجلس الارقم ولم يذهب لبيت المقدس
ولما حضرته الوفاة أوصى أن يصلى عليه سعد بن أبى وقاص فلما مات كان سعد بالعقيق فقال مروان يحبس صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل غائب وأراد الصلاة عليه فأبى ولده ذلك على مروان ووقع بينهم كلام ثم جاء سعد وصلى على الارقم
أى وقيل لعمر رضى الله عنه ما سبب تسمية النبى صلى الله عليه وسلم لك بالفاروق قال لما أسلمت والنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه مختفون قلت يا رسول الله ألسنا على
الحق ان متنا وان حيينا قال بلى والذى نفسى بيده انكم على الحق ان متم وان حييتم فقلت ففيم الاختفاء والذى بعثك بالحق ما بقى مجلس كنت أجلس فيه بالكفر الا أظهرت فيه الاسلام غير هائب ولا خائف والذى بعثك بالحق لنخرجن فخرجنا فى صفين حمزة فى أحدهما وأنا فى الاخر له أى لذلك الجمع كديد ككديد الطحين أى لذلك الجمع غبار ثائر من الارض لشدة وطء الاقدام لان الكديد التراب الناعم اذا وطىء ثار غباره قال حتى دخلنا المسجد فنظرت قريش الى والى حمزة فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها أى فطاف صلى الله عليه وسلم بالبيت وصلى الظهر معلنا ثم رجع ومن معه الى دار الارقم فسمانى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق فرق الله بى بين الحق والباطل
أى وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم خرج فى صفين حمزة فى أحدهما وعمر فى الاخر لهم كديد ككديد الطحين
وفى رواية أن عمر رضى الله تعالى عنه قال له يارسول الله لا ينبغى أن تكتم هذا الدين أظهر دينك وفى رواية والله لا يعبد الله سرا بعد اليوم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المسلمون وعمر أمامهم معه سيفه يناى لا اله الا الله محمد رسول الله حتى دخل المسجد ثم صاح مسمعا لقريش كل من تحرك منكم لامكنن سيفى منه ثم تقدم أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف والمسلمون ثم صلوا حول الكعبة وقرءوا القران جهرا وكانوا كما تقدم لا يقدرون على الصلاة عند الكعبة ولا يجهرون بالقرآن
وفى المنتقى على ما نقله بعضهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر أمامه وحمزة بن عبدالمطلب رضى الله تعالى عنهما حتى طاف بالبيت وصلى الظهر معلنا ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الى دار الارقم
وفيه أن صلاة الظهر لم تكن فرضت حينئذ الا أن يقال المزاد بصلاة الظهر الصلاة التى وقعت فى ذلك الوقت أى ولعل المراد بها صلاة الركعتين اللتين كان يصليهما بالغداة صلاهما فى وقت الظهر
وعن عمر رضى الله عنه وافقت ربى فى ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام ابراهيم مصلى فنزلت { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وقلت يا رسول الله
ان نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن ان يحتجبن فنزلت اية الحجاب واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه فى الغيرة فقلت لهن عسى ربه ان طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت أى وقد قال له بعض نسائه صلى الله عليه وسلم يا عمر أما فى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ومنع رضى الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى على عبدالله بن أبى بن سلول
وفى البخارئ لما توفى عبدالله بن أبى جاء ولده عبدالله رضى الله عنه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه وهذا لا يخالف مافى تفسير القاضى البيضاوى من أن ابن أبى دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مرضه فلما دخل عليه فسأله أن يستغفر له ويكفنه فى شعاره الذى يلى جسده الشريف ويصلى عليه فلما ما أرسل له صلى الله عليه وسلم قميصه ليكفن فيه لانه يجوز أن يكون ارساله للقميص بسؤال ولده له صلى الله عليه وسلم بعد موت أبيه
قال فى الكشاف فان قلت كيف جازت له صلى الله عليه وسلم تكرمة المنافق وتكفينه فى قميصه
قلت كان ذلك مكافأة له على صنيع سبق له وذلك أن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذ أسيرا ببدر لم يجدوا له قميصا وكا رجلا طوالا فكساه عبدالله قميصه أى ولأن الضنة بارساله القميص سيما وقد سئل فيه مخل بالكرم وقال له المشركون يوم الحديبية انا لانأذن لمحمد ولكن نأذن لك فقال لا ان لى فى رسول الله أسوة حسنة فشكر رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك واكراما لابنه
وفى هذا تصريح بأن ابن أبى كان مع المسلمين فى بدر وفى الحديبية ثم ان ابنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى عليه فقال له أسألك أن تقوم على قبره لا تشمت به الاعداء أى وذلك بعد سؤال ولده له صلى الله عليه وسلم فى ذلك كما تقدم عن القاضى البيضاوى فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلى عليه فقام عمر رضى الله تعالى عنه فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله أتصلى عليه وقد نهاك ربك أن تصلى عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انما خيرت فقال { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } وسأزيده على السبعين وفى رواية أتصلى على ابن أبى وقد قال يوم كذا كذا وكذا أعد عليه
قوله فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أخر عنى ياعمر فلما أكثرت عليه قال انى خيرت لو أعلم أنى ان زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل الله تعالى { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } الى قوله { وهم فاسقون } ولينظر ما معنى التخيير فى الاية وما الجمع بين قوله سازيد علة السبعين وقوله ولو أعلم أنى ان زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها
ثم رأيت القاضى البيضاوى قال فى وجه التخيير وقوله سأزيد على السبعين انه صلى الله عليه وسلم فهم من السبعين العدد المخصوص لانه الاصل فجوز أن يكون ذلك حدا يخالفه حكم ما وراءه فبين له أى الحق سبحانه أن المراد به التكثير بقوله فى الاية الاخرى { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } هذا كلامه وحينئذ يشكل قوله لو أعلم أنى ان زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها فان هذا مقتض لعدم الصلاة عليه لا للصلاة عليه فليتأمل وقد قال على رضى الله تعالى عنه ان فى القران لقرانا من رأى عمر وما قال الناس فى شىء وقال فيه عمر الا جاء القران بنحو ما يقول عمر
وقد أوصل بعضهم موافقاته أى الذى نزل القران على وفق ما قال وما أراد الى أكثر من عشرين أى وقد أفردها بعضهم بالتأليف وقد سئل عنها الجلال السيوطي فأجاب عنها نظما
قال عبدالله بن عمر رضى الله تعالى عنهما ما نزل بالناس أمر فقال الناس وقال عمر الا نزل القران على نحو ما قال عمر
وعن مجاهد كان عمر يرى الرأى فينزل به القران وقد قال صلى الله عليه وسلم ان الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه ومن موافقاته ما سيأتى فى أسارى بدر
ومنها أنه لما سمع قوله تعالى { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } الاية قال { فتبارك الله أحسن الخالقين } فنزلت كذلك
ومنها أن بعض اليهود قال له ان جبريل الذى يذكره صاحبكم عدو لنا فقال { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين } فنزلت كذلك واستأذن رضى الله تعالى عنه النبى صلى الله عليه وسلم فى العمرة فأذن له وقال يا أخى
لا تنسنا من دعائك أى وفى رواية يا أخى أشركنا فى صالح دعائك ولا تنسنا قال عمر ما أحب أن لى بقوله يا أخى ما طلعت عليه الشمس وجاء أول من يصافحه الحق عمر بن الخطاب وأول من يسلم عليه وجاء ان الله وضع الحق على لسان عمر يقول به وجاء لو كان بعدى نبى لكان عمر بن الخطاب وممن نزل القران على وفق ما قال مصعب بن عمير أيضا رضى الله تعالى عنه كان اللواء بيده يوم أحد وسمع الصوت أن محمدا قد قتل فصار يقول { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } فنزلت = باب اجتماع المشركين على منابذة بنى هاشم وبنى المطلب ابنى عبدمناف وكتابة الصحيفة
قد اجتمع كفار قريش على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا قد أفسد علينا أبناءنا ونساءنا وقالوا لقومه خذوا منا دية مضاعفة ويقتله رجل من قريش وتريحونا وتريحون أنفسكم فأبى قومه فعند ذلك اجتمع رأيهم على منابذة بنى هاشم وبنى المطلب واخراجهم من مكة الى شعب أبى طالب
فيه تصريح بأن شعب أبى طالب كان خارجا عن مكة والتضييق عليهم بمنع حضور الاسواق وأن لا يناكحوهم وأن لايقبلوا لهم صلحا أبدا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل أى وفى لفظ لا تنكحوهم ولا تنكحوا اليهم ولا تبيعوهم شيئا ولا تبتاعوا منهم شيئا ولا تقبلوا منهم صلحا الحديث وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها فى الكعبة أى توكيدا على أنفسهم وقيل كانت عند خالة أبى جهل
وقد يجمع بأنه يجوز أن تكون كانت عندها قبل أن تعلق فى الكعبة على أنه سيأتى أنه يجوز أن الصحيفة تعددت وكان اجتماعهم وتخالفهم فى خيف بنى كنانة بالابطح ويسمى محصبا وهو بأعلى مكى عند المقابر فدخل بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم الشعب الا أبا لهب فانه ظاهر عليهم قريشا وكان سنه صلى الله عليه وسلم حين دخل الشعب ستة وأربعين سنة وفى الصحيح أنهم فى الشعب جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر
وفى كلام السهيلى كانوا اذا قدمت العير مكة يأتى أحدهم السوق ليشترى شيئا من
الطعام يقتاته فيقوم أبو لهب فيقول يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا شيئا معكم فقد علمتم مالى ووفاء ذمتى فيزيدون عليهم فى السلعة قيمتها أضعافا حتى يرجع الى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس فى يده شىء يعللهم به فيغدو التجار على أبى لهب فيربحهم هذا كلامه
ولا منافاة بين خروج أحدهم السوق اذا جاءت العير بالميرة الى مكة وكونهم منعوا من الاسواق والمبايعة لهم كما لا يخفى
وكان دخولهم الشعب هلال المحرم سنة سبع من النبوة وحينئذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة من المسلمين أن يخرجوا الى الحبشة
أقول وفى رواية أن خروج بنى هاشم وبنى المطلب الى الشعب لم يكن اخراج قريش لهم وانما خرجوا اليه لان قريشا لما قدم عليهم عمرو بن العاص من عند النجاشى خائبا وردت معه هديتهم وفقد صاحبه الذى هو عمارة بن الوليد وبلغهم اكرام النجاشى لجعفر ومن معه من المسلمين أى كما سيأتى وظهور الاسلام فى القبائل كبر ذلك عليهم واشتد أذاهم على المسلمين واجتمع رأيهم على أن يقتلوا النبى صلى الله عليه وسلم علانية فلما رأى أبو طالب ذلك جمع بنى هاشم والمطلب مؤمنهم وكافرهم وأمرهم أن يدخلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم الشعب ويمنعوه ففعلوا فبنو هاشم وبنو المطلب كانوا شيئا واحدا لم يفترقوا حتى دخلوا معهم فى الشعب وانخزل عنهم بنو عميهم عبد شمس ونوفل ولهذا يقول أبو طالب فى قصيدته ** جزى الله عنا عبدشمس ونوفلا ** عقوبة شر عاجلا غير اجل **
وقال فى قصيدة أخرئ ** جزى الله عنا عبدشمس ونوفلا ** وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما **
فلما علمت قريش ذلك أجمع رأيهم على أن يكتبوا عهودا ومواثيق على أن لا يجالسوهم الحديث
وفيه أنه سيأتى أن خروج عمرو بن العاص الى الحبشة انما كان بعد الهجرة الثانية وهى بعد دخول بنى هاشم والمطلب الى الشعب والله أعلم
= باب الهجرة الثانية الى الحبشة
لا يخفى أنه لما وقع ماذكر انطلق الى الحبشة عامة من امن بالله ورسوله أى غالبهم فكانوا عند النجاشى ثلاثة وثمانين رجلا وثمانى عشرة امراة وهذا بناء على أن عمار بن ياسر كان منهم وقد اختلف فى ذلك وكلام الاصل يميل الى ذلك وكان من الرجال جعفر ابن ابى طالب ومعه زوجته أسماء بنت عميس والمقداد بن الاسود وعبدالله بن مسعود وعبيدالله بالتصغير بن جحش ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان فتنصر هناك ثم مات على النصرانية أى وبقيت أم حبيبة رضى الله تعالى عنها على اسلامها وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سياتى
وعن أم حبيبة رضى الله تعالى عنها قالت رأيت فى المنام كأن عبيدالله بن جحش زوجى بأسواء حال وتغيرت صورته فاذا هو يقول حين أصبح يا أم حبيبة انى نظرت فى هذا الدين فلم أر دينا خيرا من دين النصرانية وقد كنت دنت بها ثم دخلت فى دين محمد ثم خرجت الى دين النصرانية قالت فقلت والله ماخير لك وأخبرته بما رأيته له لم يحفل بذلك وأكب على الخمر يشربه حتى مات فرأيت فى المنام كأن اتيا يقول لى يا أم المؤمنين ففزعت وأولتها بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجنى فكان كذلك
أى وذكر ابن اسحاق ان أبا موسى الاشعرى هاجر الى الحبشة ومراده أنه هاجر اليها من اليمن لامن مكة كما فهم الواقدى فاعترض عليه في ذلك فعن أبى موسى أنه بلغه مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو باليمن فخرج هو ونحو خمسين رجلا فى سفينة مهاجرين اليه صلى الله عليه وسلم فألقتهم السفينة الى النجاشى بالحبشة فوجدوا جعفرا وأصحابه فأمرهم جعفر بالاقامة واستمروا كذلك حتى قدموا عليه صلى الله عليه وسلم هم وجعفر عند فتح خيبر كما سيأتى
وبهذا يندفع قول بعضهم ما ذكره ابن اسحق من أن أبا موسى الاشعرى هاجر من مكة الى الحبشة من الغريب جدا ولعله مدرج من بعض الرواة فأقاموا بخير دار عند خير جار فبعثت قريش خلفهم عمرو بن العاص ومعه عمارة بن الوليد بن المغيرة التى أرادت قريش دفعه لابى طالب ليكون بدلا عن النبى صلى الله عليه وسلم اذا قتلوه بهدية
الى النجاشى والهدية فرس وجبة ديياج أى وأهدوا لعظماء الحبشة هدايا ليرد من جاء اليه من المسلمين فلما دخلا عليه سجدا له وقعد واحد عن يمينه والاخر عن شماله
وفى كلام بعضهم فأجلس عمرو بن العاص على سريره وقبل هديتهما فقالا ان نفرا من بنى عمنا نزلوا أرضك فرغبوا عنا وعن الهتنا أى ولم يدخلوا فى دينكم بل جاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا انتم وقد بعثنا الى الملك فيهم أشراف قريش لتردوهم اليهم قال وأين هم قالوا بأرضك فأرسل فى طلبهم أى وقال له عظماء الحبشة ادفعهم اليهما فهما أعرف بحالهم فقال لا والله حتى أعلم على أى شىء هم فقال عمرو هم لا يسجدون للملك أى وفى لفظ لايخرون لك ولا يحيونك بما يحييك الناس اذا دخلوا عليك رغبة عن سنتكم ودينكم فلما جاءوا قال لهم جعفر رضى الله تعالى عنه أنا خطيبكم اليوم أى فانه لما جاءهم رسول النجاشى يطلبهم اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل اذا جئتموه قال جعفر ما ذكر وقال انما نقول ما علمنا وما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ودع يكون ما يكون وقد كان النجاشى دعا أساقفته وأمرهم بنشر مصاحفهم حوله فلما جاء جعفر وأصحابه صاح جعفر وقال جعفر بالباب يستأذن ومعه حزب الله فقال النجاشى نعم يدخل بأمان الله وذمته فدخل عليه ودخلوا خلفه فسلم فقال له الملك مالك لا تسجد
وفى لفظ ان عمرا قال لعمارة ألا ترى كيف يكتنون بحزب الله وما أجابهم به وان عمرا قال للنجاشى ألا ترى أيها الملك أنهم مستكبرون لم يحيوك بتحيتك فقال النجاشى ما منعكم أن لا تسجدوا وتحيونى بتحيتى التى أحيى بها فقال جعفر انا لا نسجد الا لله عزوجل قال ولم ذلك قال لان الله تعالى أرسل فينا رسولا وأمرنا أن لا نسجد الا لله عز وجل وأخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام فحييناك بالذى يحيى به بعضنا بعضا أى وعرف النجاشى ذلك لانه كذلك فى الانجيل كما قيل أى وأمرنا بالصلاة أى غير الخمس لانها لم تكن فرضت بل التى هى ركعتان بالغداة وركعتان بالعشى أى ركعتان قبل طلوع الشمس وركعتان قبل غروبها على ما تقدم والزكاة أى مطلق الصدقة لازكاة المال لانها انما فرضت بالمدينة أى فى السنة الثانية ومراده بالزكاة الطهارة قال عمرو بن العاص للنجاشى فانهم يخالفونك فى ابن مريم ولا يقولون انه ابن الله عز وجل وعلا قال فما تقولون فى ابن مريم وأمه قال نقول كما قال الله عز وجل
روح الله وكلمته ألقاها الى مريم العذراء أى البكر البتول أى المنقطعة عن الازواج التى لم يمسها بشر ولم يفرضها أى يشقها ويخرج منها ولد أى غير عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم فقال النجاشى يامعشر الحبشة والقسيسين والرهبان ما يزيدون على ما تقولون أشهد أنه رسول الله وأنه الذى بشر به عيسى فى الانجيل أى ومعنى كونه روح الله أنه حاصل عن نفخه روح القدس الذى هو جبريل ومعنى كونه كلمة الله تعالى أنه قال له كن فكان أى حصل فى حال القول
وفى لفظ أن النجاشى قال لمن عنده من القسيسين والرهبان أنشدكم الله الذى أنزل الانجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا مرسلا أى صفته ما ذكر هؤلاء فقالوا اللهم نعم قد بشرنا به عيسى فقال من امن به فقد امن بى ومن كفر به فقد كفر بى فعند ذلك قال النجاشى والله لولا ما أنا فيه من الملك لاتيته فأكون أنا الذى أحمل نعله وأوضئه أى أغسل يديه وقال للمسلمين انزلوا حيث شئتم سيوم بأرضى أى امنون بها وأمر لهم بما يصلحهم من الرزق وقال من نظر الى هؤلاء الرهط نظرة تؤذيهم فقد عصانى
وفى لفظ ثم قال اذهبوا فأنتم امنون من سبكم غرم قالها ثلاثا أى أربع دراهم وضعفها كما جاء فى بعض الروايات وأمر بهدية عمرو ورفيقه فردت عليهما
وفى لفظ أن النجاشى قال ما أحب أن يكون لى ديرا من ذهب أى جبلا وأن أوذى رجلا منكم ردوا عليهم هداياهم فلا حاجة لى بها فو الله ما أخذ الله تعالى منى الرشوة حين رد على ملكى فاخذ الرشوة وما أطاع الناس فى فأطيعهم فيه
وكان النجاشى أعلم النصارى بما أنزل على عيسى وكان قيصر يرسل اليه علماء النصارى لتأخذ عنه العلم
أى وقد بينت عائشة رضى الله تعالى عنها السبب فى قول النجاشى ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكى وهو أن والد النجاشى كان ملكا للحبشة فقتلوه وولوا أخاه الذى هو عم النجاشى فنشأ النجاشى فى حجر عمه لبيبا حازما وكان لعمه اثنا عشر ولدا لا يصلح واحد منهم للملك فلما رأت الحبشة نجابة النجاشى خافوا أن يتولى عليهم فيقتلهم بقتلهم لابيه فمشوا لعمه فى قتله فأبى وأخرجه وباعه ثم لما كان عشاء تلك الليلة مرت على عمه صاعقة فمات فلما رأت الحبشة أن لا يصلح امرها الا النجاشى ذهبوا
وجاءوا به من عند الذي اشتراه وعقدوا له التاج وملكوه عليهم فسار فيهم سيرة حسنة
وفى رواية ما يقتضى أن الذى اشتراه رجل من العرب وأنه ذهب به الى بلاده ومكث عنده مدة ثم لما مرج أمر الحبشة وضاق عليهم ماهم فيه خرجوا فى طلبه وأتوا به من عند سيده ويدل لذلك ما سيأتى عنه أنه عند وقعة بدر أرسل خلف من عنده من المسلمين فدخلوا عليه فاذا هو قد لبس مسحا وقعد على التراب والرماد فقالوا له ما هذا أيها الملك انا نجد فى الانجيل أن الله سبحانه وتعالى اذا أحدث بعبده نعمة وجب على العبد أن يحدث لله تواضعا وان الله تعالى قد أحدث الينا واليكم نعمة عظيمة هى أن محمدا صلى الله عليه وسلم التقى هو وأعداؤه بواد يقال له بدر كثير الاراك كنت أرعى فيه الغنم لسيدى وهو من بنى ضمرة وان الله تعالى قد هزم أعداءه فيه ونصر دينه
وذكر السهيلى أن بكاءه عند ما تليت عليه سورة مريم أى كما سيأتى حتى أخضل لحيته يدل على طول مكثه ببلاد العرب حتى تعلم من لسان العرب مافهم به تلك السورة
قال وعن جعفر بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا خير جار وأمنا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا رجلين جلدين وأن يهدوا للنجاشى هدايا مما يستظرف من متاع مكة وكان أعجب ما يأتيه منها الادم فجمعوا له أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته بطريقا الا أهدوا له هدية أى هيئوا له هدية ولا يخالف ما تقدم من أن الهدية كانت فرسا وجبة ديباج لانه يجوز أن يكون بعض الادم ضم الى تلك الفرس والجبة للملك وبقية الادم فرق على أتباعه ليعاونوهما على ما جاء بصدده والاقتصار على الفرس والجبة فى الرواية السابقة لان ذلك خاص بالملك ثم بعثوا عمارة بن الويد وعمرو ابن العاص يطلبان من النجاشى أن يسلمنا لهم أى قبل أن يكلمنا وحسن له بطارقته ذلك لانهما لما أوصلا هداياهم اليهم قالوا لهم اذا نحن كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم لنا قبل أن يكلمهم أى موافقة لما وصت عليه قريش فقد ذكر أنهم قالوا لهما ادفعوا لكل بطريق هدية قبل أن تكلما النجاشى فيهم ثم قدما للنجاشى هداياه ثم اسألاه أن يسلمهم اليكما قبل أن يكلمهم فلما جاءا الى الملك
قالا له أيها الملك انه قد صبا الى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا فى دينك وجاءوا بدين مبتدع لانعرفه نحن ولا أنت أى جاءهم به رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتبعه منا الا السفهاء وقد بعثنا اليك فيهم أشراف قومهم من ابائهم وأعمامهم وعشائرهم ليردوهم اليهم فهم أعلم بما عابوا عليهم فقال بطارقته صدقوا أيها الملك قومهم أعلم بهم فأسلمهم لهما ليرداهم الى بلادهم وقومهم فغضب النجاشى وقال لا ها الله أى لا والله لا أسلمهم ولا يكاد قوم يجاورونى ونزلوا بلادى واختارونى على من سواى حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان من أمرهم فان كان كما يقولان سلمتهم اليهما والا منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاورونى ثم أرسل لنا ودعانا فلما دخلنا سلمنا فقال من حضره مالكم لا تسجدون للملك قلنا لانسجد الا لله عز وجل فقال النجاشى ما هذا الدين الذى فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا فى دينى ولا فى دين أحد من الملل فقلنا أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الاصنام ونأكل الميتة ونأتى الفواحش ونقطع الارحام ونسىء الجوار ويأكل القوى الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله لنا رسولا كما بعث الرسل الى من قبلنا وذلك الرسول منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا الى الله تعالى لنوحده ونعبده ونخلع أى نترك ما كان يعبد اباؤنا من دونه من الحجارة والاوثان وأمرنا أن نعبد الله تعالى وحده وأمرنا بالصلاة أى ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى والزكاة أى مطلق الصدقة والصيام أى ثلاثة أيام من كل شهر أى وهى البيض أو أى ثلاثة على الخلاف فى ذلك وامرنا بصدق الحديث وأداء الامانة وصلة الارحام وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء أى ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة فصدقناه وامنا به واتبعناه على ما جاء به فعدا علينا قومنا ليردونا الى عبادة الاصنام واستحلال الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا الى بلادك واخترناك على من سواك ورجوناك أن لانظلم عندك يا أيها الملك فقال النجاشى لجعفر هل عندك مما جاء به شىء قلت نعم قال فقرأه على فقرأت عليه صدرا من كهيعص فبكى والله النجاشى حتى أخضل أى بل لحيته وبكت أساقفته وفى لفظ هل عندك مما جاء به عن الله تعالى شىء فقال جعفر نعم قال فاقرأه على قال البغوى فقرأ عليه سورة
العنكبوت والروم ففاضت عيناه وأعين أصحابه بالدمع وقالوا زدنا يا جعفر من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف فقال النجاشى هذا والله الذى جاء به موسى أى وفى رواية ان هذا والذى جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة أى وهذا كما قيل يدل على أن عيسى كان مقررا لما جاء به موسى وفى رواية بدل موسى عيسى ويؤيده ما فى لفظ أنه قال ما زاد هذا على ما فى الانجيل الا هذا العود لعود كان فى يده أخذه من الارض
وفى لفظ أن جعفرا قال للنجاشى سلهما أعبيد نحن أم أحرار فان كنا عبيدا أبقنا من أربابنا فأرددنا اليهم فقال عمروا بل أحرار فقال جعفر سلهما هل أهرقنا دماء بغير حق فيقتص منا هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤه فقال عمروا لا فقال النجاشى لعمرو وعمارة هل لكما عليهما دين قالا لا قال انطلقا فو الله لا أسلمهم اليكما أبدا زاد فى رواية ولو أعطيتمونى ديرا من ذهب أى جبلا من ذهب ثم غدا عمرو الى النجاشى أى أتى اليه فى غد ذلك اليوم وقال له انهم يقولون فى عيسى قولا عظيما أى يقولون انه عبد الله أى وانه ليس ابن الله
أى وفى لفظ أن عمرا قال للنجاشى أيها الملك انهم يشتمون عيسى وأمه فى كتابهم فاسألهم فذكر له جعفر ما تقدم فى الرواية الاولى
هذا وعن عروة بن الزبير انما كان يكلم النجاشى عثمان بن عفان وهو حصر عجيب فليتأمل
وروى الطبرانى عن أبى موسى الاشعرى بسند فيه رجال الصحيح أن عمرو ابن العاص مكر بعمارة بن الوليد أى للعداوة التى وقعت بينه وبينه فى سفرهما أى من أن عمرو بن العاص كان معه زوجته وكا قصيرا دميما وكان عمارة رجلا جميلا فتن امرأة عمرو وهوته فنزل هو واياه فى السفينة فقال له عمارة مر امرأتك فلتقبلنى فقال له عمرو ألا تستحى فأخذ عمارة عمرا ورمى به فى البحر فجعل عمرو يصيح وينادى أصحاب السفينة ويناشد عمارة حتى أدخله السفينة وأضمرها عمرو في نفسه ولم يبدها لعمارة بل قال لامرأته قبلى ابن عمك عمارة لتطيب بذلك نفسه فلما أتيا أرض الحبشة مكر به عمرو فقال أنت رجل جميل والنساءيحببن الجمال فتعرض لزوجه النجاشى لعلها أن تشفع لنا عنده ففعل عمارة ذلك وتكرر تردده عليها حتى أهدت اليه
من عطرها أى ودخل عندها فلما رأى عمرو ذلك أتى النجاشى وأخبره بذلك أى فقال له ان صاحبى هذا صاحب نساء وانه يريد أهلك وهو عندها الان فاعلم علم ذلك فبعث النجاشى فاذا عمارة عند امرأته فقال لولا أنه جارى لقتلته ولكن سأفعل به ما هو شر من القتل فدعا بساحر فنفخ فى احليله نفخة طار منها هائما على وجهه مسلوب العقل حتى لحق بالوحوش فى الجبال الى أن مات على تلك الحال اه
أى ومن شعر عمرو بن العاص يخاطب به عمارة بن الوليد ** اذا المرء لم يترك طعاما يحبه ** ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما ** ** قضى وطرا منه وغادر سبة ** اذا ذكرت أمثالها تملا الفما ** ولا زال عمارة مع الوحوش الى أن كان موته فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه وان بعض الصحابة وهو ابن عمه عبدالله بن أبى ربيعة فى زمن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه قد استأذنه فى المسير اليه لعله يجده فأذن له عمر رضى الله تعالى عنه فسار عبدالله الى أرض الحبشة وأكثر النشدة عنه والفحص عن أمره حتى أخبر أنه فى جبل يرد مع الوحوش اذا وردت ويصدر معها اذا صدرت فجاء اليه ومسكه فجعل يقول له أرسلنى والا أموت الساعة فلم يرسله فمات من ساعته وسيأتى بد غزوة بدر أنهم أرسلوا للنجاشى عمرو بن العاص أيضا وعبدالله بن أبى ربيعة
هذا وكان اسمه قبل أن يسلم بجيرا فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله وأبوه ربيعة الذى هو أبو عبدالله كان يقال له ذو الرمحين وأم عبدالله هى أم أبى جهل بن هشام فهو أخو أبى جهل لامه أرسلوهما اليه ليدفع لها من عنده من المسلمين ليقتلوهم فيمن قتل ببدر
ومن العجب أن صاحب المواهب ذكر أن ارسال قريش لعمرو بن العاص وعبدالله ابن أبى ربيعة ومعهما عمارة بن الويد في الهجرة الاولى للحبشة وانما كان عمرو وعمارة فى الهجرة الثانية وابن أبى ربيعة انما كان مع عمرو بعد بدر كما علمت وان كان يمكن أن يكون عبدالله بن أبى ربيعة أرسلته قريش مرتين الا أنه بعيد
ويرده قول بعضهم ان قريشا أرسلت فى أمر من هاجر الى الحبشة مرتين الاولى أرسلت عمرو بن العاص وعمارة والثانية أرسلت عمرو بن العاص وعبدالله بن أبى ربيعة فليتأمل
ومكث بنو هاشم فى الشعب ثلاث سنين وقيل سنتين فى أشد ما يكون من البلاء وضيق العيش وولد عبدالله بن عباس فى الشعب فمن قريش من سره ذلك ومنهم من ساءه وقالوا انظروا ما أصاب كاتب الصحيفة أى من شلل يده كما تقدم وصار لا يقدر أحد أن يوصل اليهم طعاما ولا أدما حتى أن أبا جهل لقى حكيم بن حزام ومعه غلام يحمل قمحا يريد عمته خديجة زوج النبى صلى الله عليه وسلم وهى معه فى الشعب فتعلق به وقال أتذهب بالطعام الى بنى هاشم والله لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة فقال له أبو البخترى بن هشام مالك وماله فقال أبو جهل انما يحمل الطعام لبنى هاشم فقال أبو البحترى طعام كان لعمته عنده أفتمنعه أن يأتيها خل سبيل الرجل فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه فأخذ أبو البحترى لحى بعير أى العظم الذى تنبت عليه الاسنان فضربه فشجه ووطئه وطئا شديدا وأبو البحترى بالحاء المهملة وفى مختصر أسد الغابة بالخاء المعجمة ممن قتل ببدر كافرا وحتى ان هاشم بن عمرو بن الحارث العامرى رضى الله تعالى عنه فانه أسلم بعد ذلك أدخل عليهم فى ليلة ثلاثة أجمال طعاما فعلمت بذلك قريش فمشوا اليه حين أصبح وكلموه فى ذلك فقال انى غير عائد لشىء خالفكم ثم أدخل عليه ثانيا جملا وقيل جملين فعلمت به قريش فغالظته أى أغلظت له القول وهمت به فقال أبو سفيان بن حرب دعوه وصل رحمه أما انى أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل كان أحسن بنا وكان أبو طالب فى كل ليلة يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتى فراشه ويضطجع به فاذا نام الناس أقامه وأمر أحد بنيه أو غيرهم أى من اخوته أو بنى عمه ان يضطجع مكانه خوفا عليه أن يغتاله أحد ممن يريد به السوء أى وفى الشعب ولد عبدالله بن عباس رضى الله تعالى عنهما ثم أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على أن الارضة أى وهى سوسة تأكل الخشب اذا مضى عليها سنة نبت لها جناحان تطير بهما وهى التى دلت الجن على موت سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام أكلت ما فى الصحيفة من ميثاق وعهد أى الالفاظ المتضمنة للظلم وقطيعة الرحم ولم تدع فيها اسما لله تعالى الا أثبتته فيها وفى رواية ولم تترك الارضة فى الصحيفة اسما لله عز وجل الا لحسته وبقى ما فيها من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم أى والرواية الاولى أثبت من الثانية
قال وجمع بين الروايتين بأنهم كتبوا نسخا فأكلت الارضة من بعض النسخ اسم
الله تعالى وأكلت من بعض النسخ ما عدا اسم الله تعالى لئلا يجتمع اسم الله تعالى مع ظلمهم انتهى أى والتى علقت فى الكعبة هى التى لحست تلك الدابة ما فيها من اسم الله تعالى كما يدل عليه ما يأتى فذكر ذلك لعمه أبة طالب فقال له عمه والثواقب أى النجوم لانها تثقب الشياطين وقيل التى تضىء لانها تثقب الظلام بضوئها وقيل الثريا خاصة لانها أشد النجوم ضوءا ما كذبتنى قط أى ما حدثتنى كذبا وفى رواية أنه قال له أربك أخبرك بهذا الخبر قال نعم فانطلق فى عصابة أى جماعة من قومه أى من بنى هاشم وبنى المطلب
أى وفى رواية أن أبا طالب لما ذكر لاهله قالوا له فما ترى قال أرى أن تلبسوا أحسن ثيابكم وتخرجوا الى قريش فتذكروا ذلك لهم قبل أن يبلغهم الخبر فخرجوا حتى أتوا المسجد على خوف من قريش فلما رأتهم قريش ظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل فتكلم معهم أبو طالب وقال جرت أمور بيننا وبينكم فأتوا بصحيفتكم التى فيها مواثيقكم فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح أى مخرج يكون سببا للصلح وانما قال أبو طالب ذلك خشية أن ينظروا فى الصحيفة قبل أن ياتوا بها أى فلا يأتون بها فأتوا بصحيفتهم لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع اليهم أى لانه الذى وقعت عليه العهود والمواثيق فوضعوها بينهم وقالوا لابى طالب أى توبيخا له ولمن معه قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم فقال أبو طالب انما أتيتكم فى أمر نصف بيننا وبينكم أى أمر وسط لا حيف فيه علينا ولا عليكم ان ابن أخى أخبرنى أن هذه الصحيفة التى فى أيديكم قد بعث الله تعالى عليها دابة لم تترك فيها اسما من أسماء الله تعالى الا لحستة وتركت فيها غدركم وتظاهركم علينا بالظلم
أقول هذه على الرواية الثانية وأما على الرواية الاولى التى هى أثبت فيكون قوله لم تترك اسما الا أثبتته ولحست مواثيقكم وعهدكم
ثم رأيت ابن الجوزى ذكر ذلك فقال ان أبا طالب قال ان ابن أخى قد أخبرنى ولم يكذبنى قط أن الله تعالى قد سلط على صحيفتكم التى كتبتم الارضة فلحست كل ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم وبقى فيها كل ما ذكر به الله تعالى
وفى الينبوع أن أبا طالب قال لما حضرت الصحيفة ان صحيفتكم هذه صحيفة اثم وقطيعة
رحم وان ابن أخى أخبرنى أن الله تعالى سلط عليها الارضة لم تدع ما كتبتم الا باسمك اللهم والله أعلم قال أبو طالب فان كان الحديث كما يقول فأفيقوا أى وفى رواية نزعتم أى رجعتم عن سوء رأيكم أى وان لم ترجعوا فوالله لا نسلمه حتى نموت من عند اخرنا وان كان الذى يقول باطلا دفعنا اليكم صاحبنا فقتلتم أو استحييتم فقالوا قد رضينا بالذى تقول أى وفى رواية أنصفتنا ففتحوا الصحيفة فوجدوا الامر كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فلما رأت قريش صدق ما جاء به أبو طالب قالوا أى قال أكثرهم هذا سحر ابن أخيك وزادهم ذلك بغيا وعدوانا وبعضهم ندم وقال هذا بغى منا على اخواننا وظلم لهم
أى وقد جاء أن أبا طالب قال لهم أى بعد أن وجدوا الامر كما أخبر به صلى الله عليه وسلم يامعشر قريش علام نحصر ونحبس وقد بان الامر وتبين أنكم أولى بالظلم والقطيعة والاساءة ودخلوا بين أستار الكعبة وقالوا اللهم انصرنا على من ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم عليه منا ثم انصرفوا الى الشعب وعند ذلك مشى طائفة منهم وهم خمسة فى نقض الصحيفة أى ما تضمنته وهم هشام بن عمرو بن الحارث وزهير بن أمية ابن عمته صلى الله عليه وسلم عاتكة بنت عبدالمطلب وقد أسلم بعد ذلك كالذى قبله كما تقدم والمطعم بن عدى مات كافرا كماتقدم وأبو البحترى بن هشام قتل ببدر كافرا كما تقدم وزمعة بن الاسود قتل ببدر كافرا
واختلف فى كاتب الصحيفة فعند ابن سعد أنه بغيض بن عامر فشلت يده ولم يعرف له اسلام وعند ابن اسحاق أن الكاتب لها هشام بن عمرو المتقدم ذكره
قال وقيل ان الكاتب لها منصور بن عكرمة أى فشلت يده فيما يزعمون كذا فى النور نقلا عن سيرة ابن هشام وقيل النضر بن الحارث فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت بعض أصابعه وهو ممن قتل على كفره عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من بدر وقيل الكاتب لها طلحة بن أبى طلحة العبدرى قال ابن كثير رحمه الله والمشهور أنه منصور
ويجمع بين هذه الاقوال باحتمال أن يكون كتب بها نسخ أى فكل كتب نسخة أنتهى أى وينبغى أن يكون الذى شلت يده هو كاتب الصحيفة التى علقت فى الكعبة ولعلها هى التى كتبت أولا والى أكل الارضة الصحيفة والى عد الخمسة الذين سعوا فى نقض الصحيفة أشار صاحب الهمزية بقوله
** فديت خمسة الصحيفة بالخمسة اذ كان للكرام فداء ** ** فتية بيتوا على فعل خير ** حمد الصبح أمره والمساء ** ** بالامر أتاه بعد هشام ** زمعة انه الفتى الاتاء ** ** وزهير والمطعم بن عدى ** وأبو البحترى من حيث شاءوا ** ** نقضوا مبرم الصحيفة اذ شد ** دت عليه من العدا الانداء ** ** أذكرتنا بأكلها أكل منسا ** ة سليمان الارضة الخرساء ** ** وبها أخبر النبى وكم أخرج خبا له الغيوب خباء **
أى فديت خمسة الصحيفة أى الناقضين لها بالخمسة المستهزئين السابق ذكرهم فتية ثبتوا وتراودوا واشتوروا بالحجون ليلا على فعل خير وهو نقض الصحيفة حمد الصباح والمساء منهم ذلك الفعل بالامر عظيم وهو نقض الصحيفة أتاه بعد هشام زمعة بن الاسود وانه الكريم فى قومه الاتاء أى المبالغ فى ايتاء الخير وأتاه زهير وأتاه المطعم بن عدى وأتاه أبو البحترى من المكان الذى قصدوه فنقضوا مبرم الصحيفة أى الامر الذى أبرمته أذكرتنا الارضة الخرساء بأكلها تلك الصحيفة منساة أى عصى سليمان وبأكلها للصحيفة أخبر النبى صلى الله عليه وسلم ومرات كثيرة أخرج صلى الله عليه وسلم شيئا مخبأ الغيوب له ساترة والمراد أن كل واحد من هؤلاء الخمسة الذين نقضوا الصحيفة فدى بأولئك الخمسة المستهزئين من الاذى الذى أصابهم المتقدم ذكره فلا ينافى أن بعض هؤلاء الذين نقضوا الصحيفة مات كافرا
قال جاء أن هشام بن عمرو بن الحارث رضى الله تعالى عنه فانه أسلم بعد ذلك كما تقدم مشى الى زهير بن أمية بن عاتكة بنت عبدالمطلب رضى الله تعالى عنه فانه أسلم بعد ذلك أيضا كما تقدم فقال له يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وأخوالك قد علمت لا يبايعون ولا يبتاعون فقال ويلك يا هشام فماذا أصنع انما أنا رجل واحد والله لو كان معى رجل اخر لقمت لانقضها يعنى الصحيفة قال وجدت رجلا قال من هو قال أنا فقال زهير ابغنا رجلا ثالثا فذهب الى المطعم بن عدى فقال له يا مطعم أرضيت أن يهلك بطنان من بنى عبد مناف يعنى بنى هشام وبنى المطلب وأنت شاهد على ذلك فقال له ويحك ماذا أصنع انما أنا رجل واحد قال وجدت ثانيا قال من هو قلت أنا قال ابغنا رجلا ثالثا قال قد فعلت قال
من هو قلت زهير بن أمية قال ابغنا رابعا فذهبت الى أبى البحترى بن هشام فقلت له نحوا مما قلت للمطعم فقال وهل معين على هذا الامر قلت نعم قال من هو قلت زهير بن أمية والمطعم بن عدى وأنا معك قال ابغنا خامسا فذهبت الى زمعة بن الاسود فكلمته فقال وهل من أحد يعين على ذلك فسميت له القوم
ثم ان هؤلاء اجتمعوا ليلا عند الحجون وأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام فى نقض الصحيفة حتى ينقضوها وقال زهير أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم فلما أصبحوا غدوا الى أنديتهم وغدا زهير وعليه حلة فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس فقال يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم أى والمطلب هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة فقال أبو جهل كذبت والله لا تشق قال زمعة بن الاسود أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت قال أبو البحترى صدق زمعة قال المطعم صدقتما وكذب من قال غير ذلك نبرأ الى الله تعالى منها ومما كتب فيها وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك فقال أبو جهل هذا أمر قضى بالليل فقام المطعم بن عدى الى الصحيفة فشقها انتهى
أى وهذا يدل للرواية الدالة على أن الارضة لحست اسم الله تعالى وأثبتت ما فيها من العهود والمواثيق والا فبعد امحاء ذلك منها لا معنى لشقها
وفى كلام بعضهم يحتمل أن أبا طالب انما أخبرهم بعد سعيهم فى نقضها قال ابن حجر الهيتمى ويبعده أن الاخبار بذلك حينئذ ليس له كبيرجدوى وقام هؤلاء الخمسة ومعهم جماعة ولبسوا السلاح ثم خرجوا الى بنى هاشم وبنى المطلب فأمروهم بالخروج الى مساكنهم ففعلوا = باب ذكر خبر وفد نجران
ثم قدم عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وفد نجران وهم قوم من النصارى ونجران بلدة بين مكة واليمن على نحو من سبع مراحل من مكة كانت منزلا للنصارى وكانوا نحوا من عشرين رجلا حين بلغهم خبره ممن هاجر من المسلمين الى الحبشة فوجدوه صلى الله عليه وسلم في المسجد فجلسوا اليه سالوه وكلموه ورجال من قريش فى أنديتهم
حول الكعبة ينظرون اليهم فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أرادوا دعاهم رسول اله صلى الله عليه وسلم الى الله تعالى وتلا عليهم القران فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له وامنوا به وعرفوا منه ما هو موصوف به في كتابهم فلماقاموا عنه اعترضهم أبو جهل فى نفر من قريش فقالوا لهم خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون أى تنظرون الاخبار لهم لتاتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم فصدقتموه بما قال لا نعلم ركبا أحمق أى أقل عقلا منكم فقالوا لهم سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه ويقال نزل فيهم قوله تعالى { الذين آتيناهم الكتاب } الى قوله { لا نبتغي الجاهلين } ونزل قوله تعالى { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق }
وذكر فى الوفاء وفود ضماد الازدى عليه صلى الله عليه وسلم فقال عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن ضمادا قدم مكة وكان من أزد شنوءة وكان يرقى من الريح أى ولعل المراد به اللمة من الجن فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون ان محمدا مجنون فقال لو أنى رأيت هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدى قال فأتيته فقلت يا محمد انى أرقى من الريح فان الله يشفى على يده من شاء فهل لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الحمد لله نحمده ونستعينه من يهدى الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادى له وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فقال ضماد أعد على كلماتك هؤلاء فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء هات يدك أبايعك على الاسلام فبايعه وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قومك قال وعلى قومي
= باب ذكر وفاة أبي طالب وزوجته صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله الله تعالى عنها
لتعلم أنهما ماتا في عام واحد أي بعد خروج بني هاشم والمطلب من الشعب بثمانية وعشرين يوما وإلى موتهما في عام واحد أشار صاحب الهمزية بقوله ** وقضى عمه أبو طالب والد ** دهر فيه السراء والضراء ** ** ثم ماتت خديجة ذلك العا ** م ونالت من أحمد المناء **
وذلك قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنين وبعد مضى عشر سنين من بعثته صلى الله عليه وسلم أي من مجيء جبريل عليه السلام بالوحي وهو يرد قول ابن اسحاق ومن تبعه أن خديجة رضي الله تعالى عنها عنها ماتت بعد الاسراء
وأفاد كلام صاحب الهمزية أن موت خديجة كان بعد موت أبي طالب وقيل كانت وفات خديجة رضى الله عنها قبل أبى طالب بخمس وثلاثين ليلة وقيل بعده بثلاثة أيام ويؤيد ما في الهمزية قول الحافظ عماد الدين بن كثير المشهور أنه مات قبل خديجة رضي الله تعالى عنها أي بثلاثة أيام ودفنت بالحجون ونزل صلى الله عليه وسلم في حفرتها ولها من العمر خمس وستون سنة ولم تكن الصلاة على الجنازة شرعت
وذكر الفكهاني المالكي في شرح الرسالة أن صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة لكن ذكر ما يخالفه في الشرح المذكور حيث قال وروى أن آدم عليه الصلاة والسلام لما توفي أتى بحنوط وكفن من الجنة ونزلت الملائكة فغسلته وكفنته في وتر من الثياب وحنطوه وتقدم ملك منهم فصلى عليه وصلت الملائكة خلفه ثم أقبروه وألحدوه ونصبوا اللبن عليه وابنه شيث عليه الصلاة والسلام الذي هو وصيه معهم فلما فرغوا قالوا له هكذا فاصنع بولدك وإخوتك فإنهم سنتكم هذا كلامه أي ويبعد أنه لم يفعل ذلك بعد القول المذكور له ويحتمل أن المراد بالصلاة مجرد الدعاء لا هذه الصلاة المعروفة المشتملة على التكبير لكن يبعده مافي العرائس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آدم لما مات قال ولده شيث لجبريل صل عليه فقال له جبريل بل أنت تقدم فصل على أبيك فصلى عليه وكبر ثلاثين تكبيرة وقد أخرج الحاكم نحوه مرفوعا وقال صحيح الإسناد
ومنه تعلم أن الغسل والتكفين والصلاة والدفن واللحد من الشرائع القديمة بناء على أن المراد بالصلاة الصلاة المشتملة على التكبير لا مجرد الدعاء
وحينئذ لا يحسن القول بأن صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة إلا أن يقال لا يلزم من كونها من الشرائع القديمة أن تكون معروفة لقريش إذ لو كانت كذلك لفعلوا ذلك وسيأتي عنهم أنهم لم يفعلوا ذلك
وأيضا لو كانت معروفة لهم لصلى صلى الله عليه وسلم على خديجة ومن مات قبلها من المسلمين كالسكران ابن عم سودة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما الذي هو زوجها وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم الى المدينة وجد البراء بن معرور قد مات فذهب هو وأصحابه فصلى على قبره وأنها أول صلاة صليت على الميت في الإسلام ومعرور معناه في الأصل مقصود
لا يقال يجوز أن يكون المراد بتلك الصلاة مجرد الدعاء لأنا نقول قد جاء أنه كبر في صلاته أربعا وقد روى هذه الصلاة تسعة من الصحابة ذكرهم السهيلي وسيأتي عن الإمتاع لم أجد في شيء من السير متى فرضت صلاة الجنازة ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم على أسعد بن زرارة وقد مات في السنة الأولى ولا على عثمان بن مظعون وقد مات في السنة الثانية
وفي كلام بعضهم صلاة الجنازة فرضت في السنة الأولى من الهجرة وأول من صلى عليه صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة فليتأمل
وفي كلام بعضهم كانوا في الجاهلية يغسلون موتاهم وكانوا يكفنونهم ويصلون عليهم وهو أن يقوم ولى الميت بعد أن يوضع على سريره ويذكر محاسنه كلها ويثنى عليه ثم يقول عليك رحمة الله ثم يدفن أي وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى ذلك العام عام الحزن ولزم بيته وأقل الخروج وكانت مدة إقامتها معه صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة على الصحيح
ويذكر أنه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة رضي الله تعالى عنها وهي مريضة فقال لها يا خديجة أتكرهين ما أرى منك وقد يجعل الله في الكره خيرا أشعرت أن الله قد أعلمني أنه سيزوجني وفي رواية أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم ابنة عمران وكلثم أخت موسى وهي التي علمت ابن عمها قارون الكيمياء وآسية امرأة فرعون فقالت آ لله أعلمك بهذا يا رسول الله وفي رواية آ لله فعل ذلك
يا رسول الله قال نعم قالت بالرفاء والبنين زاد في رواية أنه صلى الله عليه وسلم أطعم خديجة من عنب الجنة وقولها بالرفاء والبنين هو دعاء كان يدعى به فى الجاهلية عند التزويج والمراد منه الموافقة والملايمة مأخوذ من قولهم رفأت الثوب ضممت بعضه إلى بعض ولعل هذا كان قبل ورود النهى عن ذلك
هذا وفي الإمتاع أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى مجلس المهاجرين الأولين في الروضة فقال رفئوني فقالوا ماذا يا أمير المؤمنين قال تزوجت أم كلثوم بنت على هذا كلامه ولعل النهى لم يبلغ هؤلاء الصحابة حيث لم ينكروا قوله كما لم يبلغ سيدنا عمر رضي الله تعالى عنهم
وفي الشهر الذي ماتت فيه خديجة رضي الله تعالى عنها وهو شهر رمضان بعد موتها بأيام تزوج سودة بنت زمعة وكانت قبله عند السكران ابن عمها وهاجر بها إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية ثم رجع بها إلى مكة فمات عنها فلما انقضت عدتها تزوجها صلى الله عليه وسلم وأصدقها أربعمائة درهم
وقد كانت رأت فى نومها أن النبي صلى الله عليه وسسلم وطىء عنقها فأخبرت زوجها فقال إن صدقت رؤياك أموت أنا ويتزوجك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رأت فى ليلة أخرى أن قمرا انقض عليها من السماء وهي مضطجعة فأخبرت زوجها فقال لا ألبث حتى أموت فمات من يومه ذلك
وعقد صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست أو سبع سنين في شوال فعن خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون قالت قلت لما ماتت خديجة يا رسول الله ألا تتزوج قال من قلت إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا قال فمن البكر قلت أحق خلق الله بك بنت أبى بكر رضى الله عنهما قال ومن الثيب قلت سودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول قال فاذهبي فاذكريهما علي قالت فدخلت على سودة بنت زمعة فقلت لها ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة قالت وما ذاك قالت أرسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك عليه قالت وددت ادخلي على أبى فاذكرى ذلك له وكان شيخا كبيرا فدخلت عليه وحيته بتحية الجاهلية فقال من هذه قلت خولة بنت حكيم قال فما شأنك قلت أرسلنى محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة قال كفء كريم
قال ما تقول صاحبتك قالت تحب ذلك قال ادعيها الى فدعوتها قال أى بنية إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك وهو كفء كريم أتحبين أن أزوجك منه قالت نعم قال ادعيه لى فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه إياها ولما قدم أخوها عبد بن زمعة وقد بلغه ذلك صار يحثى على رأسه التراب ولما أسلم قال لقد كدنى السفه يوم أحثى على رأسى التراب إذ تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة يعنى أخته وذهبت خولة إلى أم رومان أم عائشة فقالت لها ماذا أدخل الله عليكم من البركة والخير قد أرسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم اخطب عليه عائشة قالت انتظرى ابا بكر حتى ياتى فجاء ابو بكر فقلت له يا ابابكرماذاادخل عليكم من الخيروالبركة قال وما ذاك قلت قد ارسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة قال وهل تصلح أى تحل له إنما هي بنت أخيه فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال ارجعى إليه فقولي له أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لى أي تحل فرجعت فذكرت ذلك له قالت أم رومان رضي الله عنها إن مطعم بن عدى قد كان ذكرها على ابنه جبير ووعده والله ما وعد وعدا قط فأخلفه تعنى أبا بكر فدخل أبو بكر على مطعم وعنده امرأته أم ابنه المذكور فكلمت أبا بكر بما أوجب ذهاب ما كان فى نفسه من عدته لمطعم فإن المطعم لما قال له أبو بكر ما تقول في أمر هذه الجارية أقبل المطعم على امرأته وقال لها ماذا تقولين يا هذه فأقبلت على أبى بكر وقالت له لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى إليكم تصيبه وتدخله في دينك الذى أنت عليه فأقبل أبوبكر على المطعم وقال له ماذا تقول أنت فقال إنها لتقول ما تسمع فقام أبو بكر وليس في نفسه من الوعد شيء فرجع فقال لخولة ادعى لى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعته فزوجه إياها وعائشة حينئذ بنت ست سنين وقيل سبع سنين وهو الأقرب
فعلم أن العقد على سودة تقدم على العقد على عائشة لأن العقد على سودة كان في رمضان الشهر الذي ماتت فيه خديجة رضي الله تعالى عنها وعلى عائشة كان فى شوال ومعلوم أن الدخول بسودة كان بمكة وعلى عائشة كان بالمدينة
ثم رأيت بعضهم ذكر أن خولة ذهبت إلى طلب عائشة وأن النبي صلى الله عليه وسلم
عقد عليها قبل ذهابها لسودة وعقده عليها ولا تخفى المخالفة إلا أن يراد بالعقد على سودة الدخول بها وفيه أنه لا يحسن ذلك مع قوله قبل ذهابها لسودة
ولما اشتكى أبو طالب أى مرض وبلغ قريشا ثقله أى اشتداد المرض به قال بعضهم لبعض إن حمزة وعمر قد أسلما وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها فانطلقوا بنا إلى أبى طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا أى يسلبونه ومنه قولهم من عز بز أى من غلب أخذ السلب ووهو الثياب التي هي البز وفي لفظ إنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا شيء أي قتل محمد كما فى بعض الروايات فتعيرنا العرب ويقولون تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه فمشى إليه أشرافهم منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعه وأبو جهل وأمية بن خلف وأبو سفيان رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم ليلة الفتح كما سيأتى وأرسلوا رجلا يدعى المطلب فاستأذن لهم على ابى طالب فقال هؤلاء شيخة قومك وسرواتهم يستأذنون عليك قال أدخلهم فدخلوا عليه فقالوا يا أبا طالب أنت منا حيث قد علمت وفى لفظ قالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك وقد علمت الذى بيننا وبين ابن أخيك فادعه وخذ له منا وخذ لنا منه لينكف عنا وننكف عنه وليدعنا وديننا وندعه ودينه فبعث إليه صلى الله عليه وسلم أبو طالب فجاءه ولما دخل صلى الله عليه وسلم على أبي طالب وكان بين أبي طالب وبين القوم فرجة تسع الجالس فخشى أبو جهل أن يجلس النبي صلى اله عليه وسلم في تلك الفرجة فيكون أرقى منه فوثب أبو جهل فجلس فيها فلم يجد النبي صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب أبى طالب فجلس عند الباب انتهى
وفى الوفاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم خلوا بينى وبين عمى فقالوا ما نحن بفاعلين وما أنت بأحق به منا إن كانت لك قرابة فإن لنا قرابة مثل قرابتك فقال أبو طالب لرسول الله عليه وسلم يا ابن أخى هؤلاء أشراف قومك وفى لفظ هؤلاء شيخة قومك وسرواتهم وقد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك وفي لفظ سألوك النصف وفى لفظ أعط سادات قومك ما سألوك فقد أنصفوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك فقال رسول الله عليه وسلم أرأيتكم
إن أعطيتكم ما سألتم هل تعطونى كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم أى تطيع وتخضع فقال أبو جهل نعم وآتيك عشر كلمات وفى لفظ لنعطيكها وعشرا معها فما هى قال تقولون لا إله إلا الله وتقلعون عما تعبدون من دونه فصفقوا بأيديهم ثم قالوا يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا إن أمرك لعجب فأنزل الله تعالى ص والقرآن ذى الذكر إلى آخر الآيات وفى لفظ قالوا أيسع لحاجاتنا جميعا إله واحد وفى لفظ قالوا سلنا غير هذه الكلمة وفى لفظ أن أبا طالب قال يا ابن أخى هل من كلمة غيرها فإن قومك قد كرهوها قال يا عم ما أنا بالذى يقول غيرها ثم قال صلى الله عليه وسلم لو جئتمونى بالشمس حتى تضعوها فى يدى ما سألتكم غيرها ثم قال بعضهم لبعض والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه ثم تفرقوا وفى لفظ قالوا عند قيامهم والله لنشتمك وإلهك الذى يأمرك بهذا أى وفى لفظ لتكفن عن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذى أمرك بهذا
قال فى الينبوع وهذه العبارة أحسن من الأولى لأنهم كانوا يعرفون أنه يعبد الله وما كانوا ليسبوا الله عالمين لكنهم ما كانوا يعرفون أن الله أمره بذلك وذكره أن ذلك سبب نزول قوله تعالى { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم }
هذا وفى النهر أن سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا لأبى طالب إما أن تنهى محمداعن سب آلهتنا والنقص منها وإما أن نسب إلهه ونهجوه قال فيه وحكم هذه الآية باق فى هذه الأمة فإذا كان الكافر فى منعة وخيف أن يسب الإسلام أو الرسول فلا يحل للمسلم ذم دين الكافر ولا يتعرض لما يؤدى إلى ذلك لأن الطاعة إذا كانت تؤدى إلى مفسدة خرجت عن أن تكون طاعة فيجب النهى عنها كما ينهى عن المعصية هذا كلامه
وعند ذلك قال أبو طالب لرسول الله عليه وسلم والله يا ابن أخى ما رأيتك سألتهم شحطا أى بالحاء والطاء المهملتين أمرا بعيدا فلما قال ذلك طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فجعل يقول أى عم فأنت فقلها أستحل بها الشفاعة يوم القيامة أى لو ارتكبت ذنبا بعد قولها وإلا فالاسلام يجب ما قبله فلما رأى حرص رسول الله عليه وسلم قال له والله يا ابن أخى لولا مخافة السبة أى العار عليك
وعلى بنى أبيك من بعدى وأن تظن قريش أنى إنما قلتها جزعا أى بالجيم والزاى خوفا من الموت وهذا هو المشهور وقيل بالخاء المعجمة والراء أى ضعفا لقلتها وفى رواية لأقررت بها عينك لما أرى من شدة وجدك لكنى أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف فأنزل الله تعالى إنك لا تهدى من أحببت الآية
أى وعن مقاتل أن أبا طالب قال عند موته يا معشر بنى هاشم أطيعوا محمدا وصدقوه تفلحوا وترشدوا فقال له النبى صلى الله عليه وسلم ياعم تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك قال فما تريد يا ابن أخى قال أريد أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله تعالى فقال يا ابن أخي قد علمت أنك صادق لكنى أكره أن يقال الحديث قال فى الهدى وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه لما فى ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها أى وكذا أقرباؤه وبنو عمه تأخر إسلاتم من أسلم منهم ولو أسلم أبو طالب وبادر أقرباؤه وبنو عمه تأخر إسلام من أسلم منهم ولو أسلم أبو طالب وبادر وبنو عمه إلى الإيمان به لقيل قوم أرادوا الفخر برجل منهم وتعصبوا له فلما بادر إليه الأباعد وقاتلوا على حبه من كان منهم حتى إن الشخص منهم يقتل أباه وأخاه علم أن ذلك إنما هو عن بصيرة صادقة ويقين ثابت
وذكر أنه لما تقارب من أبى طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فاصغى إليه بأذنه فقال يا ابن أخى والله لقد قال أخى الكلمة التى أمرته بقولها فقال رسول الله عليه وسلم لم أسمع وفيه أنه لم يثبت ن العباس ذكر ذلك بعد الإسلام وأيضا نزول الآية حيث ثبت أن نزولها فى حق أبى طالب يرد ذلك
ويرده أيضا ما فى الصحيحين عن العباس رضى الله تعالى عنه أنه قال قلت يا رسول الله إن أبا طالب كان يحيطك وينصرك فهل ينفعه ذلك قال نعم وجدته أى كشف لى عن حاله وما يصير إليه يوم القيامة فوجدته فى غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح أى وفى لفظ آخر قال نعم هو أى يوم القيامة فى ضحضاح من النار لولا أنا لكان فى الدرك الأسفل من النار ولو كانت الشهادة المذكورة عند العباس ما سأل هذا السؤال ولأداها بعد الإسلام إذ لو أداها لقبلت
وقد يقال إنما سأل هذا السؤال ولم يعد الشهادة بعد الإسلام لأنه لما قال له صلى الله عليه وسلم أولا لم أسمع فهم أنه حيث لم يسمعها صلى الله عليه وسلم لم يعتد بها سأل هذا السؤال وفهم أن إعادة الشهادة بعد إسلامه لا تفيد شيئا
ويرده أيضا ما جاء فى رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما كرر على أبى طالب أن يقول كلمة الشهادة وهو يأبى إلى أن قال هو على دين عبد المطلب قال صلى الله عليه وسلم أما والله لأستغفرن لك مالم أنه عن ذلك أى عن الاستغفار لك فأنزل الله عز وجل ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم أى وتقدم أن سبب نزول هذه الآية طلب استغفاره لأمه عند زيارة قبرها أن يقال لا مانع من تكرر سبب نزولها لجواز أنه صلى الله عليه وسلم جوز الفرق بين أمه وعمه لأن أمه لم تدع للإسلام بخلاف عمه وفى منع استغفاره لأمه ما تقدم ولا يشكل على ذلك قوله يوم أحد اللهم اغفر لقومى لأن ذلك أى غفران الذنوب مشروط بالتوبة أى الإسلام فكأنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالتوبة التى هى الإسلام ويؤيده رواية اللهم اهد قومى أى للإسلام قال وأيضا جاء فى صحيح ابن حيان عن على رضى الله تعالى عنه قال لما مات أبو طالب أتيت رسول الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات قال اذهب فواره قال على رضى الله تعالى عنه فلما واريته جئت إليه فقال لى اغتسل
أقول لأنه غسله وبه وبقوله صلى الله عليه وسلم من غسل ميتا فليغتسل استدل أئمتنا على أن من غسل ميتا مسلما أو كافرا استحب له أن يغتسل
وروى البيهقى خبر أن عليا رضى الله تعالى عنه غسله بأمر النبى صلى الله عليه وسلم له بذلك لكن ضعفه وفى رواية عن على رضى الله تعالى عنه لما أخبرت النبى صلى اله عليه وسلم بموت أبى طالب بكى وقال اذهب فاغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه
وأما ما روى عنه أنه صلى الله عليه وسلم عارض جنازة عمه أبى طالب فقال وصلتك رحم وجزيت خيرا يا عم فقال الذهبى إنه خبر منكر والله أعلم
وجاء أيضا أنه ذكر عنده عمه أبو طالب فقال إنه ستنفعه شفاعتى وفى رواية لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار أى مقدار ما يغطى بطن قدميه وفى روايه فى ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منها دماغه وفى لفظ عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة شفعت لأبى وأمى وعمى أبى طالب وأخ لى كان فى الجاهلية يعنى أخاه من حليمة كما فى رواية تأتى
أقول يجوز أن يكون ذكر شفاعته لأبويه كان قبل إحيائهما وإيمانهما به كما قدمناه جوابا عن نهيه عن الإستغفار لهما والله أعلم
وفى لفظ آخر شفعت فى أبى وعمى أبى طالب وأخى من الرضاعة يعنى من حليمة ليكوونوا من بعد البعث هباء
ومما يستأنس به لإيمان أبيه ما جاء أنه صلى لله عليه وسلم قال لابنته فاطمة رضى الله تعالى عنها وقد عزت قوما من الأنصار فى ميتهم لعلك بلغت معهم الكدى بالدال المهملة أو الكرا بالراء يعنى القبور فقالت لا فقالت لو كنت بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك يعنى عبد المطلب ولم يقل جدك يعنى أباه الذى هو عبد الله وتقدم القول بأن حليمة وأولادها أسلموا
وعليه فيجوز أن يكون هذا منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم أخوه من الرضاعة كما تقدم مثل ذلك فى أبيه وأمه وفى رواة الحديث الأول من هو منكر الحديث وفى الثانى من هو ضعيف وقال فيه ابن الجوازى إنه موضوع بلا شك أى وهذا أى قبول شفاعته صلى الله عليه وسلم فى عمه أبى طالب عد من خصائصه صلى الله عليه وسلم فلا يشكل بقوله تعالى فما تنفعهم شفاعة الشافعين أو لا تنفعهم شفاعة الشافعين فى الإخراج من النار بالكلية أى وفى هذا الثانى أنه لا يناسب أن شفاعته لهم أن يكونوا من بعد البعث هباء أى فى صيرورتهم هباء إلا أن يقال إنه لم يستجب له فى ذلك
قال وجاء أيضا عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن رسول الله عليه وسلم قال إن أهون أهل النار أى وهم الكفار عذابا أبو طالب وهو ينتعل بنعلين يغلى منهما دماغه أى وفى رواية كما يغلى الماء فى المرجل أى القدر من النحاس حتى يسيل دماغه على قدميه وفى رواية كما يغلى المرجل بالقمقم قيل والقمقم بكسر القافين البسر الأخضر يطبخ فى المرجل استعجالا لنضجه يفعل ذلك أهل الحاجة
وذكر السهيلى الحكمة فى اختصاص قدميه بالعذاب وزعم بعض غلاة الرافضة أن أبا طالب أسلم واستدل له بأخبار واهية ردها الحافظ ابن حجر فى الإصابة
أى وقد قال وقفت على جزء جمعه بعض أهل الرفض أكثر من الأحاديث الواهية الدالة على إسلام أبى طالب ولم يثبت من ذلك شيء
وروى أبو طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال حدثني محمد أن الله أمره بصلة
الأرحام وأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه غيره وقال سمعت ابن أخى الأمين يقول اشكر ترزق ولا تكفر تعذب انتهى
وفى المواهب عن شرح التنقيح للقرافى أن أبا طالب ممن آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع لأنه كان يقول إنى لا أعلم ما يقوله ابن أخى لحق ولولا أنى أخاف أن يعيرنى نساء قريش لأتبعته فهذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان غير أنه لم يذعن للأحكام هذا كلامه وفيه أن الإيمان باللسان الإتيان بلا إله إلا الله ولم يوجد ذلك منه كما علمت وتقدم أن الإيمان النافع عند الله الذى يصير به الشخص مستحقا لدخول الجنة ناجيا من الخلود فى النار التصديق بالقلب بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يقر بالشهادتين مع التمكين من ذلك ويمتنع وأبو طالب طلب منه ذلك وامتنع
وقد روى الطبرانى عن أم سلمة أن الحارث بن هشام أى أخا أبى جهل بن هشام أتى النبى صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع فقال إنك تحث عل صلة الرحم والإحسان إلى الجار وإيواء اليتيم وإطعام الضيف وإطعام المسكين وكل هذا مما يفعله هشام يعنى والده فما ظنك به يا رسول الله فقال رسول الله صى الله عليه وسلم كل قبر لا يشهد صاحبه أن لا إله إلا الله فهو جذوة من النار وقد وجدت عمى أبا طالب فى طمطام من النار فأخرجه الله لمكانه منى وإحسانه إلى فجعله فى ضحضاح من النار
وذكر أن أبا طالب لما حضرته الوفاة جمع إليه وجهاء قريش فأوصاهم وكان من وصيته أن قال يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب فيكم المطاع وفيكم المقدم الشجاع والواسع الباع لم تتركوا للعرب فى المآثر نصيبا إلا أحرزتموه ولا شرفا إلا أدركتموه فلكم بذلك على الناس الفضيلة ولهم به إليكم الوسيلة أوصيكم بتعظيم هذه البنية أى الكعبة فإن فيها مرضاة للرب وقواما للمعاش صلوا أرحامكم ولاتقطعوها فإن فى صلة الرحم منسأ أى فسحة في الأجل وزيادة فى العدد واتركوا البغى والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم أجيبوا الداعى وأعطوا السائل فإن فيهما شرف الحياة والممات وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة فإن فيهما محبة فى الخاص ومكرمة فى العام وإنى أوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين فى قريش أى وهو الصديق فى العرب وهو الجامع لكل ما أوصيكم به وقد جاء بأمر قبله الجنان
وأنكره اللسان مخافة الشنآن أى البغض وهو لغة فى الشنآن وايم الله كأنى أنظر إلى صعاليك العرب وأهل البر فى الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته وعظموا أمره فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ودورها خرابا وضعفاؤها أربابا وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه وأبعدهم منه أحظاهم عنده قد محضته العرب ودادها وأعطته قيادها دونكم يا معشر قريش كونوا له ولاة ولحزبه حماة والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا رشد ولا يأخذ حد بهديه إلا سعد
وفى لفظ آخر أنه لما حضرته الوفاة دعا بنى عبد المطلب فقال لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره فأطيعوه ترشدوا
ولما مات أبو طالب نالت قريش من النبى صلى الله عليه وسلم من الأذى مالم تكن تطمع فيه فى حياة أبى طالب حتى إن بعض سفهاء قريش نثنر على رأس النبى صلى الله عليه وسلم التراب فدخل صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه فقامت إليه بعض بناته وجعلت تزيله عن رأسه وتبكى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها لا تبكى لا تبكى يا بنية فإن الله تعالى مانع أباك وكان صلى الله عليه وسلم يقول مانالت قريش منى شيئا أكرهه أى أشد الكراهة حتى مات أبو طالب وتقدم وسيأتى بعض ما أوذوى به
قال ولما رأى قريشا تهجموا قال يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك ولما بلغ أبا لهب ذلك قام أبو لهب بنصرته أياما وقال له يا محمد امض لما أردت وما كنت صانعا إذا كان أبو طالب حيا فاصنعه لا واللات والعزى لا يوصل إليك حتى أموت
واتفق أن ابن العطيلة أى وهو أحد المستهزئين المتقدم ذكرهم سب النبى صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه ابو لهب ونال منه فولى وهو يصيح يا معشر قريش صبا أبو عتبة يعنى أبا لهب فأقبلت قريش على أبى لهب وقالوا له أفارقت دين عبد المطلب فقال ما فارقت وفى لفظ قالوا له أصبوت قال ما فارقت دين عبد المطلب ولكن أمنع ابن أخى أن يضام حتى يمضى لما يريد قالوا قد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك أياما لا يتعرض له أحد من قريش وهابوا أبا لهب إلى أن جاء أبو جهل وعقبة بن أبى معيط إلى أبى لهب فقالا له أخبرك
ابن أخيك أين مدخل أبيك أى المحل الذى يكون فيه يزعم أنه فى النار فقال له أبو لهب يا محمدأيدخل عبد المطلب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم ومن مات على مثل ما مات عليه عبد المطلب دخل النار فقال أبو لهب لا برحت لك عدوا وأنت تزعم أن عبد المطلب فى النار فاشتد عليه هو وسائر قريش انتهى
وفى لفظ قال له يا محمد أين مدخل عبد المطلب قال مع قومه فخرج أبو لهب إلى أبى جهل وعقبة فقال قد سألته فقال مع قومه فقالا يزعم أنه فى النار فقال يا محمد أيدخل عبد المطلب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم الحديث ولا يخفى أن عبد المطلب من أهل الفترة وتقدم الكلام عليهم والله أعلم = باب ذكر خروج النبى صلى الله عليه وسلم الى الطائف
سميت بذلك لأن رجلا من حضرموت نزلها فقال لأهلها ألا أبنى لكم حائطا يطيف ببلدكم فبناه فسمى الطائف وقيل غير ذلك
لما مات أبو طالب ونالت قريش من النبى صلى الله عليه وسلم مالم تكن نالته منه فى حياته كما تقدم خرج إلى الطائف اى وهو مكروب مشوش الخاطر مما لقى من قريش وقرابته وعترته خصوصا من أبى لهب وزوجته أم جميل حمالة الحطب من الهجو والسب والتكذيب
وعن على رضى الله تعالى عنه أنه قال بعد موت أبى طالب لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش تتجاذبه وهم يقولون له صلى الله عليه وسلم أنت الذى جعلت الآلهة إلها واحدا قال فوالله مادنا منا أحد إلا أبو بكر فصار يضرب هذا ويدفع هذا وهو يقول أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله
وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان فى شوال سنة عشر من النبوة وحده وقيل معه مولاه زيد بن حارثة يلتمس من ثقيف الإسلام رجاء أن يسلموا وأن يناصروه
على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه قال فى الإمتاع لأنهم كانوا أخواله قال بعضهم ومن ثم أى من أجل أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى الطائف عند ضيق صدره وتعب خاطره جعل الله الطائف مستأنسا على من ضاق صدره من أهل مكة كذا قال
وفى كلام غيره ولا جرم جعل الله الطائف مستأنسا لأهل الإسلام ممن بمكة إلى يوم القيامة فهى راحة الأمة ومتنفس كل ذى ضيق وغمة سنة الله فى الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا فليتأمل
فلما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى سادات ثقيف وأشرافهم وكانوا إخوة ثلاثة أحدهم عبد يا ليل أى واسمه كنانة لم يعرف له إسلام وأخوه مسعود أى وهو عبد كلال بضم الكاف وتخفيف اللام لم يعرف له إسلام أيضا وحبيب قال الذهبى فى صحبته نظر أى وهم أولاد عمرو بن عمير بن عوف الثقفى وجلس صلى الله عليه وسلم إليهم وكلمهم فيما جاءهم به أى من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه فقال أحدهم هو يمرط ثياب الكعبة أى ينتفها ويقطعها أى وقيل يسرقها إن كان الله أرسلك وقال له آخر ما وجد الله أحدا يرسله غيرك وقال له الثالث والله لا أكلمك أبدا ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغى لى أن أكلمك فقام صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد أيس من خير ثقيف وقال لهم اكتموا على وكره صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه ذلك فيشتد أمرهم عليه وقالوا له أخرج من بلدنا والحق بمنجاتك من الأرض وأغروا به أى سلطوا عليه سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وقعدوا له صفين على طريقه فلما مر صلى الله عليه وسلم بين الصفين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا أرضخوهما أى دقوهما بالحجارة تى أدموا رجليه صلى الله عليه وسلم
وفى لفظ حتى اختضبت نعلاه بالدماء وكان صلى الله عليه وسلم إذا أزلقته الحجارة أى وجد ألمها قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه فإذا مشى رجموه وهم يضحكون كل ذلك وزيد بن حارثة أى بناء على أنه كان معه صلى الله عليه وسلم يقيه بنفسه حتى لقد شج رأسه شجاجا فلما خلص منهم رجلاه يسيلان دما
عمد إلى حائط من حوائطهم أى بستان من بساتينهم فاستظل فى حبلة أى بفتح الباء الموحدة وتسكينها غير معروف شجرة كرم وقيل لها حبلة لأنها تحمل بالعنب وقد فسر نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة ببيع العنب قبل أن يطيب قال السهيلي وهو غريب لم يذهب إليه أحد فى تأويل الحديث فجاء إلى ذلك المحل وهو مكروب موجع أى وقد جاء النهى عن أن يقال لشجر العنب الكرم فى قوله صلى الله عليه وسلم لا يقولن أحدكم الكرم فإن الكرم قلب المؤمن ولكن قولوا حدائق العنب قال وسبب النهى عن تسميتها كرما لأن الخمر تتخذ من ثمرتها وهو يحمل على الكرم فاشتقوا لها اسما من الكرم
وفى لفظ ثم إن هؤلاء الثلاثة أى عبد ياليل وإخوته أغروا عليه سفهاءهم وعبيدهم فصاروا يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابنى ربيعة فلما دخل الحائط رجعوا عنه
قال وذكر أنه صلى الله عليه وسلم دعا بدعاء منه اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربى إلى من تكلنى إن لم يكن بك غضب على فلا أبالى أهوإذا فى الحائط أى البستان عتبة وشيبة ابنا ربيعة أى وقد رأيا ما لقى من سفهاء أهل الطائف فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله فلما رأياه وما لقى تحركت له رحمهما فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس معدود فى الصحابة مات قبل الخروج إلى بدر فقالا خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه أي وهذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه أي وهذا لا ينافى كون زيد بن حارثة كان معه كما لا يخفى ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له كل فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده الشريفة قال بسم الله ثم أكل أى لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع يده فى الطعام قال بسم الله ويأمر الآكل بالتسمية وأمر من نسى التسمية أوله أن يقول بسم الله أوله وآخره فنظر عداس فى وجهه وقال والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أى البلاد أنت وما دينك يا عداس قال نصرانى وأنا من أهل نينوى بكسر النون الأولى وفتح الثانية وقيل بضمها قرية على شاطىء دجلة فى أرض الموصل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
من أهل قرية أى وفى رواية من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى اسم ابيه أى كما فى حديث ابن عباس رضى الله عنهما وفى تاريخ حماة أنه اسم أمه قال ولم يشتهر باسم أمه غير عيسى ويونس عليهما الصلاة والسلام
أى وفى مزيل الخفاء فان قيل قد ورد فى الصحيح لا تفضلونى على يونس بن متى ونسبه إلى أبيه وهو يقتضى أن متى أبوه لا أمه
أجيب بأن متى مدرج فى الحديث من كلام الصحابى لبيان يونس بما اشتهر به لا من كلام النبى صلى الله عليه وسلم
ولما كان ذلك موهما أن الصحابى سمع هذه النسبة من النبى صلى الله عليه وسلم دفع الصحابى ذلك بقوله ونسبه إلى أبيه لا إلى أمه هذا كلامه
وعند ذلك قال عداس له صلى الله عليه وسلم وما يدريك ما يونس بن متى فإنى والله لقد خرجت منها يعنى نينوى وما فيها عشرة يعرفون ما متى فمن أين عرفت ابن متى وأنت أمى وفى أمة أمية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك أخى كان نبيا وأنا نبى أمى وفى رواية أنا رسول الله والله أخبرنى خبره وما وقع له مع قومه أى حيث وعدهم العذاب بعد أربعين ليلة لما دعاهم فأبوا أن يجيبوا وخرج عنهم وكانت عادة الأنبياء إذا واعدت قومها العذاب خرجت عنهم فلما فقدوه قذف الله تعالى فى قلوبهم التوبة أى الإيمان بما دعاهم إليه يونس
وقيل كما فى الكشاف إنه قال لهم يونس أنا أؤجلكم أربعين ليلة فقالوا إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك فلما مضت خمس وثلاثون ليلة أطبقت السماء غيما أسود يدخن دخانا شديدا ثم يهبط حتى يغشى ودينتهم فعند ذلك لبسوا المسموح وأخرجوا المواشى وفرقوا بين النساء وأولادها وبين كل بهيمة وولدها فلما أقبل عليهم العذاب جأروا إلى الله تعالى وبكى الناس والولدان ورغت الإبل وفصلانها وخارت البقر وعجاجيلها وثغت الغنم وسخالها وقالوا يا حي حيث لا حي ويا حي يحيى الموتى ويا حى لا إله إلا أنت
وعن الفضيل أنهم قالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله
وفى الكشاف أنهم عجوا أربعين ليلة وعلم الله تعالى منهم الصدق فتاب عليهم وصرف عنهم العذاب بعد أن صار بينه وبينهم قدر ميل فمر رجل على يونس فقال له ما فعل قوم يونس فحدثه بما صنعوا فقال لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم قيل وكان فى شرعهم أن من كذب قتل فانطلق مغاضبا لقومه وظن أن لن نقضى عليه بما قضى به عليه أى من الغم وضيق الصدر قال تعالى { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه } أى لن نضيق عليه وكانت التوبة عليهم يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة
أى وفى كلام بعضهم كشف العذاب عن قوم يونس يوم عاشوراء وأخرج فيه يونس من بطن الحوت وهو يؤيد القول بأنه نبذ من يومه وهو قول الشعبى التقمه ضحوة ونبذه عشية أى بعد العصر وقاربت الشمس الغروب وذكر أن الحوت لم يأكل ولم يشرب مدة بقاء يونس فى بطنه لئلا يضيق عليه
وقال السدى مكث أربعين يوما وقال جعفر الصادق سبعة أيام وقال قتادة ثلاثة أيام وذلك بعد أن نزل السفينة فلم تسر فقال لهم إن معكم عبدا آبقا من ربه وإنها لا تسير ححتى تلقوه فى البحر وأشار إلى نفسه فقالوا لا نلقيك يا نبى الله أبدا قال فاقترعوا فخرجت القرعة عليه ثلاث مراتفألقوه فالتقمه الحوت وقيل قائل ذلك بعض الملاحين وحين خرجت القرعة عليه ثلاثا ألقى نفسه فى البحر وهذا السياق يدل على أن رسالته كانت قبل أن يلتقمه الحوت وقيل إنما أرسل بعد نبذ الحوت له وفيه كيف يدعوهم ويعدهم العذاب وهو غير مرسل لهم
وعن وهب بن منبه وقد سئل عن يونس فقال كان عبدا صالحا وكان فى خلقه ضيق فلما حملت عليه أثقال النبوة تفسخ تحتها فألقاها عنه وخرج هاربا أى فقد تقدم أن للنبوة أثقالا لا يستطيع حملها إلا أولو العزم من الرسل وهم نوح وهود وإبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم
أما نوح فلقوله يا قوم إن كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله الآية وأما هود فلقوله إنى أشهد الله واشهدوا أنى برىء مما تشركون من دونه الآية وأما ابراهيم فلقوله هو والذين آمنوا معه إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله الآية وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلقول الله تعالى له فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل فصبر صلى الله عليه وسلم
فعند ذلك أكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه أى فقال أحدهما أى عتبة وشيبة للآخر أما غلامك فقد أفسده عليك فلما جاءهما عداس قال له أحدهما ويلك مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه قال يا سيدي ما فى الأرض شيء خير من هذا لقد أعلمنى بأمر لا يعلمه إلا نبى قال ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك
أقول وفى رواية قال له وما شأنك سجدت لمحمد وقبلت قدميه ولم نرك فعلته بأحدنا قال هذا رجل صالح أخبرنى بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متى فضحكنا به وقالا لا يفتننك عن نصرانيتك فإنه رجل خداع ودينك خير من دينه وقد تقدم فى بعض الروايات أن خديجة رضى الله تعالى عنها قبل أن تذهب بالنبى صلى الله عليه وسلم لورقة بن نوفل ذهبت به الى عداس وكان نصرانيا من أهل نينوى قرية سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام وتقدم أنه غير هذا خلافا لمن اشتبه عليه به
وفى كلام الشيخ محيى الدين بن العربى قد اجتمعت بجماعة من قوم يونس سنة خمس وثمانين وخمسمائة بالأندلس حيث كنت فيه وقست أثر رجل واحد منهم فى الأرض فرأيت طول قدمه ثلاثة أشبار وثلثى شبر والله أعلم
وفى الصحيح عن عائشة رضى الله تعالى عنها إنها قالت للنبى صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يوم أشد من أحد قال لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت يوم العقبة إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن كلال أى والمناسب لما سبق إسقاط لفظ ابن الأولى والإتيان بواو العطف موضع ابن الثانية أى فيقال عبد ياليل وكلال أى وعبد كلال ويكون خصهما بالذكر دون أخيهما حبيب لأنهما كانا أشرف وأعظم منه أو لأنهما كانا المحبين له صلى الله عليه وسلم بالقبيح دون حبيب إلا إن ثبت أن آباء هؤلاء الثلاثة شخصا يقال له عبد ياليل وعبد كلال وحينئذ يكون المراد هؤلاء الثلاثة لأن ابن مفرد مضاف ثم رأيته فى النور ذكر ما يفيد أن لفظ ابن ثابت فى الصحيح
والذى فى كلام ابن اسحاق وأبى عبيد وغيرهما إسقاطه ثم رأيت الشمس الشامى
قال الذى ذكره أهل المغازى أن الذى كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد ياليل نفسه لا ابنه
وعند أهل السير أن عبد كلال أخوه لا أبوه أى أبو أبيه كما لا يخفى فلم يجبنى إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهى فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب أى ويقال له قرن المنازل وهو ميقات أهل نجد الحجاز أو اليمن بينه وبين مكة يوم وليلة وفى لفظ وهو موضع على ليلة من مكة وراء قرن بسكون الراء ووهم الجوهرى فى تحريكها وفى قوله إن أويسا القرنى منسوب إليه وإنما هو منسوب إلى قرن قبيلة من مراد كما ثبت فى مسلم فرفعت رأسى فإذا أنا بالسحابة قد أظلتنى فنطرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فنادى فقال قد سمع قول قومك لك أى أهل ثقيف كما هو المتبادر وماردوا عليك به وقد بعثت إليك بملك الجبال فتأمره بما شئت فيهم فناداه صلى الله عليه وسلم ملك الجبال وسلم عليه وقال له إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت أى وهما جبلان يضافان تارة إلى مكة وتارة إلى منى فمن الأول قوله وهما قبيس وقعيقعان وقيل الجبل الأحمر الذى يقابل أبا قبيس المشرف على قعيقعان ومن الثانية الجبلان اللذان تحث العقبة بمنى فوق المسجد
وفيه أن ثقيفا ليسوا بينهما بل الجبلان خارجان عنهم فكيف يطبقهما عليهم وفى لفظ إن شئت خسفت بهم الأرض أو دمدمت عليهم الجبال أى التى بتلك الناحية
ثم رأيت الحافظ ابن حجر قال المراد بقوم عائشة فى قوله لقد لقيت من قومك قريش أى لا أهل الطائف الذين هم ثقيف لأنهم كانوا هم السبب الحامل على ذهابه صلى الله عليه وسلم لثقيف ولأن ثقيفا ليسوا قوم عائشة رضى الله تعالى عنها وعليه فلا إشكال ويوافقه قول الهدى فأرسل ربه تبارك وتعالى إليه صلى الله عليه وسلم ملك الجبال يستأمره أن يطبق على أهل مكة الأخشبين وهما جبلاها التى هى بينهما
وعبارة الهدى فى محل آخر وفى طريقه صلى الله عليه وسلم أرسل الله تعالى إليه ملك الجبال فأمره بطاعته صلى الله عليه وسلم وأن يطبق على قومه أخشبى مكة وهما جبلاها إن أراد هذا كلامه
ولا يخفى أن هذا خلاف السياق إذ قوله وكان أشد مالقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسى إلى آخره وقول جبريل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك به ظاهر فى أن
المراد بهم ثقيف لا قريش ويوافق هذا الظاهر قول ابن الشحنة فى شرح منظومة ده بعد أن ساق دعاءه صلى الله عليه وسلم المتقدم بعضه فأرسل الله عز وجل جبريل ومعه ملك الجبال فقال إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين وحينئذ يكون المراد إطباقهما عليهم بعد نقلهما من محلها إلى محل ثقيف الذى هو الطائف لأن القدرة صالحة وعند قول ملك الجبال له ما ذكر قال النبى صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله تعالى وفي رواية أستأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله تعالى لا يشرك به شيئا وعند ذلك قال له ملك الجبال أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم قال الحافظ ابن حجر ولم أقف على اسم ملك الجبال وإلى حلمه وإغضائه صلى الله عليه وسلم أشار صاحب الهمزية بقوله ** جهلت قومه عليه فأغضى ** وأخو الحلم دأبه الإغضاء ** ** وسع العالمين علما وحلما ** فهو بحر لم تعيه الأعباء **
أى جهلت قومه صلى اله عليه وسلم عليه فآذوه أذية لا تطاق فأغضى عنهم حلما وأخو الحلم أى وصاحب عدم الانتقام شأنه التغافل فإن علمه وسع لوم العالمين ووسع حلمه حلمهم فهو واسع العلم والحلم لم تعيه الأعباء أي لم تتعبه الأثقال لكن تقييده بقومه السياق يدل على أن المراد به ثقيف وقد علمت ما فيه فليتأمل
وعند منصرفه صلى الله عليه وسلم المذكور من الطائف نزل نخلة وهى محلة بين مكة والطائف فمر به نفر سبعة وقيل تسعة من جن نصيبين أى وهى مدينة بالشام وقيل باليمن أثنى عليها صلى الله عليه وسلم بقوله رفعت إلى نصيبين حتى رأيتها فدعوت الله تعالى أن يعذب نهرها وينضر شجرها ويكثر مطرها وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل أى وسطه يصلى وفى رواية يصلى صلاة الفجر وفى رواية هبطوا على النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلعله كان يقرأ فى الصلاة والمراد بصلاة الفجر الركعتان اللتان كان يصليهما قبل طلوع الشمس ولعله صلاهما عقب الفجر وذلك ملحق بالليل وفى قوله جوف الليل تجوز من الراوى أو صلى صلاتين صلاة في جوف الليل وصلاة بعد الفجر وقرأ فيهما أو جمع بين القراءة والصلاة وأن الجن استمعوا للقراءتين وإطلاق صلاة الفجر على الركعتين المذكورتين سائغ وبهذا
يندفع قول بعضهم صلاة الفجر لم تكن وجبت وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الجن وفيه أى فى الصحيحين أن سورة الجن إنما نزلت بعد استماعهم
وقد يقال سيأتى ما يعلم منه أنه ليس المراد بالاستماع الاستماع المذكور هنا بل استماع سابق على ذلك وهو المذكور في رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الآتية ورواية صلاة الفجر هنا ذكرها الكشاف كالفخر وإلا فالروايات التى وقفت عليها فيها الاقتصار على صلاة الليل وصلاة الفجر كانت فى ابتداء البعث فى بطن نخلة عند ذهابه وأصحابه إلى سوق عكاظ كما سيأتى عن ابن عباس رضى الله عنهما فآمنوا به وكانوا يهودا لقولهم إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ولم يقواوا من بعد عيسى إلا أن يكون ذلك بناء على أن شريعة عيسى مقررة لشريعة موسى لا ناسخة لها ولا يخفى أنهم غلبوا ما نزل من الكتاب على مالم ينزل لأنهم لم يسمعوا جميع الكتاب ولا كان كله منزلا قال وأنكر ابن عباس رضى الله تعالى عنهما اجتماع النبى صلى الله عليه وسلم بالجن أى بأحد منهم
ففى الصحيحين عنه قال ما قرأ رسول الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم انطلق رسول الله عليه وسلم فى طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ أى وكان بين الطائف ونخلة كان لثقيف وقيس عيلان كما تقدم وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب ففزعت الشياطين إلى قومهم فقالوا مالكم قالوا قد حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا وما ذاك إلا من شيء قد حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فمن النفر جماعة أخذوا نحو تهامة فإذا هم بالنبى صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم قل أوحى إلى أى قل أخبرت بالوحى من الله تعالى أنه استمع لقراءتى نفر من الجن أى جن نصيبين
أقول تقدم أن إطلاق الفجر على الركعتين اللتين كان يصليهما قبل طلوع الشمس سائغ فإن ذلك باعتبار الزمان لا لكونهما إحدى الخمس المفترضة ليلة الإسراء وقوله بأصحابه يجوز أن تكون الباء بمعنى مع ويجوز أن يكون صلى بهم إماما لأن الجماعة فى ذلك جائزة
ولا يخفى أن هذه القصة التى تضمنتها رواية ابن عباس غير قصة انصرافه صلى الله عليه وسلم من الطائف يدل لذلك قوله انطلق فى طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظظ لأنه فى تلك القصة التي هى قصة الطائف كان وحده أو معه مولاه زيد بن حارثة على ماتقدم وكان مجيئه صلى الله عليه وسلم من الطائف قاصدا مكة وفى هذه كان ذهابه من مكة قاصدا سوق عكاظ وأنه قرأ فى تلك أى مجيئه من الطائف سورة الجن وفى هذه قرأ غيرها ثم نزلت تلك السورة وأن هذه القصة تضمنتها رواية ابن عباس سابقة على تلك لأن قصة ابن عباس كانت فى ابتداء الوحى لأن الحيلولة بين الجن وبين خبر السماء بالشهب كانت فى ذلك الوقت وتلك كانت بعد ذلك بسنين عديدة
وسياق كل من القصتين يدل على أنه لم يجتمع الجن به صلى الله عليه وسلم ولا قرأ عليهم وإنما استمعوا قراءته من غير أن يشعر بهم وقد صرح به ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فى هذه وصرح به الحافظ الدمياطى فى تلك حيث قال فى سيرته فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا إلى مكة ونزل نخلة قام يصلى من الليل فصرف إليه نفر من الجن سبعة من أهل نصيبين فاستمعوا له صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة الجن ولم يشعر بهم رسول الله عليه وسلم حتى نزل عليه وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن هذا كلامه ونزول ما ذكر كان بعد انصرافهم
فقد قال ابن إسحاق فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا به وأجابوا إلى ماسمعوا فقص الله تعالى خبرهم على النبى صلى الله عليه وسلم وبهذا يعلم مافى سفر السعادة
ولما وصل صلى الله عليه وسلم فى رجوعه إلى نخلة جاءه الجن وعرضوا إسلامهم عليه وكذا يعلم مافى المواهب من قوله ولما انصرف صلى الله عليه وسلم عن أهل الطائف ونزل نخلة صرف إليه سبعة من جن نصيبين إلى أن قال وفي الصحيح أن الذي آذنه صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة الجن شجرة وأنهم سألوه الزاد فقال كل عظم إلى آخره لأن سؤالهم له صلى الله عليه وسلم الزاد فرع اجتماعهم وقد ذكر هو أنهم لم يؤذنه صلى الله عليه وسلم إلا شجرة هناك وعلى جواز أن الشجرة آذنته بهم قبل انصرافهم أى أعلمته بوجودهم وأن ذلك كان سببا لاجتماعهم به صلى الله عليه وسلم وأن دعوى
ذلك لا ينافى أنه صلى الله عليه وسلم لم يشعر باجتماعهم للقرآن إلا مما نزل عليه من القرآن فسسؤالهم له صلى الله عليه وسلم الزاد كان فى قصة اأخرى غير هاتين القصتين كانت بمكة سيأتى الكلام عليها
ثم رأيت عن ابن جرير أنه تبين من الأحاديث أن الجن سمعوا قراءة النبى صلى الله عليه وسلم بنخلة وأسلموا فأرسلهم صلى الله عليه وسلم إلى قومهم منذرين إذ لا جائز أن يكون ذلك فى أول البعث لمخالفته لما تقدم عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وحينئذ يؤيد الاحتمال الثانى الذى ذكرناه من أنه يجوز أنهم اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم بعد أن آذنته بهم الشجرة وقوله فأرسلهم إلى قومهم منذرين لم أقف فى شىء من الروايات على ما هو صريح فى ذلك أى أن إرساله لهم كان من نخلة عند رجوعه من الطائف ولعل قائله فهم ذلك من قوله تعالى ولوا إلى قومهم منذرين
وغاية ما رأيت أن ابن جرير والطبرانى رويا عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن الجن الذين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم وهذا ليس صريحا فى أنه صلى الله عليه وسلم كان عند رجوعه من الطائف
لا يقال يعنى ذلك إنكار ابن عباس رضى الله تعالى عنهما اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالجن المرة الأولى التى كانت عند البعث لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم كان فى بطن نخلة فى مرة أخرى ثالثة
ثم رأيت فى النور ما يخالف ما تقدم عن ابن عباس من قوله إنه لم يجتمع صلى الله عليه وسلم بهم بالجن حين خروجه إلى سوق عكاظ حيث قال الذى فى الصحيح وغيره أنه اجتمع بهم وهو خارج من مكة إلى سوق عكاظ ومعه أصحابه فليتأمل
قال وذكر أنه صلى الله عليه وسلم أقام بنخله أياما بعد أن أقام بالطائف عشرة أيام وشهرا لا يدع أحدا من أشرافهم أي زيادة على عبد ياليل وأخويه إلا جاء إليه وكلمه لم يجبه أحد فلما أراد الدخول إلى مكة قال له زيد بن حارثة كيف تدخل عليهم يعنى قريشا وهم قد أخرجوك أى كانوا سببا لخروجك وخرجت تستنصر فلم تنصر فقال يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه فسار صلى الله عليه وسلم إلى حراء ثم بعث إلى الأخنس بن شريق أى رضى الله تعالى
عنه فإنه أسلم بعد ذلك ليجيره أى ليدخل صلى الله عليه وسلم مكة فى جواره فقال أنا حليف والحليف لا يجير أى فى قاعدة العرب وطريقتهم واصطلاحهم فبعث صلى الله عليه وسلم إلى سهيل بن عمرو رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك أيضا فقال إن بنى عامر لا تجير على بنى كعب وفيه أنه هـلو كان كذلك لما سألهما صلى الله عليه وسلم وكونه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف هذا الإصطلاح بعيد إلا أن يقال جوز صلى الله عليه وسلم مخالفة هذه الطريقة فبعث صلى الله عليه وسلم إلى المطعم بن عدى أى وقد مات كافرا قبل بدر بنحو سبعة أشهر يقول له إنى داخل مكة فى جوارك فأجابه إلى ذلك وقال له قل له فليأت فرجع إليه صلى الله عليه وسلم فأخبره فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ثم تسلح المطعم بن عدى وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد فقام المطعم بن عدى على راحلته فنادى يا معشر قريش إنى قد أجرت محمدا فلا يؤذه أحد منكم ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ادخل فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وطاف بالبيت وصلى عنده ثم انصرف إلى منزله أى والمطعم بن عدى وولده مطيفون به صلى الله عليه وسلم قال وذكر أنه صلى الله عليه وسلم بات عنده تلك الليلة فلما أصبح خرج مطعم وقد لبس سلاحه هو وبنوه وكانوا ستة أو سبعة وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم طف واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف مدة طوافه صلى الله عليه وسلم وأقبل أبو سفيان على المطعم فقال أمجير أم تابع فقال بل مجيز فقال إذن لا تخفر أى لا تزال خفارتك أى جوارك قد أجرنا من أجرت فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه اه
أى ولا بدع فى دخوله صلى الله عليه وسلم فى أمان كافر لأن حكمة الحكيم القادر قد تخفى وهذا السياق يدل على أن قريشا كانوا أزمعوا على عدم دخوله صلى الله عليه وسلم مكة بسبب ذهابه إلى الطائف ودعائه لأهله أى ولهذا المعروف الذى فعله المطعم قال صلى الله عليه وسلم فى أسارى بدر لو كان المطعم بن عدى حيا ثم كلمنى فى هؤلاء النتنى لتركتهم له
ورأيت فى أسد الغابة أن جبيرا ولد المطعم رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم بين الحديبية والفتح وقيل يوم الفتح جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم وهو كافر فسأله
فى أسارى بدر فقال لو كان الشيخ أبوك حيا فأتانا فيهم لشفعناه فيهم كما سيأتى أى لأنه فعل معه صلى الله عليه وسلم هذا الجميل وكان من جملة من سعى فى نقض الصحيفة كما تقدم
قال وعن كعب الأحبار رضى الله تعالى عنه لما انصرف النفر السبعة من أهل نصيبين من بطن نخلة جاءوا قومهم منذرين ثم جاءوا مع قومهم وافدين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وهم ثلثمائة فانتهوا إلى الحجون فجاء واحد من أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن قومنا قد حضروا بالحجون يلقونك فوعده رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة من الليل بالحجون اه
وعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه قال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنى أمرت أن أقرأ على إخوانكم من الجن فليقم معى رجل منكم ولا يقم رجل فى قلبه مثقال حبة خردل من كبر فقمت معه أى بعد أن كرر ذلك ثلاثا ولم يجبه أحد منهم ولعلهم فهموا أن من الكبر ماليس منه وهو محبة الترفع فى نحو الملبس الذى لا يكاد يخلو منه أحد
وقد بين صلى الله عليه وسلم الكبر فى الحديث ببطر الحق وغمص الناس أى استصغارهم وعدم رؤيتهم شيئا بعد أن قالوا له يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا قال إن الله جميل يحب الجمال الكبر من بطر الحق وغمط الناس بالطاء المهملة كما فى رواية أبى داود وجاء لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار أحد فى قلبه مثقال حبة خردل من إيمان قال الخطابى المراد بالكبر هنا أى فى هذه الرواية كبر الكفر لأنه قابله بالإيمان قال ابن مسعود وذهب صلى الله عليه وسلم فى بعض نواحى مكة أى بأعلاها بالحجون فلما برز خط لى خطا أى برجله وقال لا تخرج فإنك إن خرجت لم ترنى ولم أرك إلى يوم القيامة وفى رواية لا تحدثن شيئا حتى آتيك لا يروعنك أى لا يخوفنك ويفزعنك ولا يهولنك أى لا يعظم عليك شىء تراه ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رجال سود كأنهم رجال الزط وهم طائفة من السودان الواحد منهم زطى وكانوا كما قال الله تعالى كادوا يكونون عليه أى لازدحامهم لبدا أى كاللبد فى ركوب بعضهم بعضا حرصا على سماع القرآن منه صلى الله عليه وسلم فأردت أن أقوم فأذب
عنه فذكرت عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمكثت ثم إنهم تفرقوا عنه صلى الله عليه وسلم فسمعتهم يقولون يا رسول الله إن شفتنا أى أرضنا التى نذهب إليها بعيدة ونحن منطلقون فزودونا أى لأنفسنا ودوابنا ولعله كان نفد زادهم وزاد دوابهم فقال كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع فى يد أحدكم أوفر ما كان لحما رواه مسلم
وفى رواية إلا وجد عليه لحمه الذى كان عليه يوم أكل وكل بعر علف دوابكم وعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أنهم لما سألوه صلى الله عليه وسلم الزاد قال لهم لكم كل عظم عراق ولكم كل روثة خضرة والعراق بضم العين وفتح الراء جمع عرق بفتح العين وسكون الراء العظم الذى أخذ عنه اللحم وقيل الذى أخذ عنه معظم اللحم قلت يا رسول الله وما يغنى ذلك عنهم أى عن أنفسهم وعن دوابهم بدليل قوله فقال إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت وفى رواية وجدوه أى الروث والبعر شعيرا فهذه الرواية تدل على أن الروثة مطعوم دوابهم ويوافقه ما جاء أن الشعير يعود خضرا لدوابهم ويحتاج للجمع بين كون الروث كالبعر يعود حبا يوم أكل وبين كونه يعود شعيرا وبين كونه يعود خضرا
هذا وفى رواية لأبى نعيم أن الروث يعود لهم تمرا وهى تدل على أن الروث من مطعومهم ويحتاج إلى الجمع وجمع ابن حجر الهيتمى بأن الروث يكون تارة علفا لدوابهم وتارة يكون طعاما لهم أنفسهم أى وفى لفظ سألونى المتاع فمتعتهم كل عظم حائل وكل روثة وبعرة والحائل البالى بمرور الزمن لأنه لم يخرج بذلك عن كونه مطعوما كما يخرج بذلك عن كونه مطعوما لهم لهم لو حرق وصار فحما ولعل الغرض من ذكر الحائل الإشارة إلى أن زادهم العظم ولو كان حائلا لا أنه لم يمنعهم إلا الحائل وقوله إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل يدل على أن المراد عظم المذكاة وبدليل ذكر اسم الله تعالى عليه فلا يأكلون مالم يذكر اسم الله تعالى عليه من عظم أى وكذا من طعام الإنس سرقة كما جاء فى بعض الأخبار هذا ولكن فى رواية أبى داود كل عظم لم يذكر اسم الله تعالى عليه قال السهيلى وأكثر الأحاديث تدل على معنى رواية أبى داود
وقال بعض العلماء رواية ذكر اسم الله عليه فى الجن المؤمنين ورواية لم يذكر اسم الله تعالى عليه فى حق الشياطين منهم وهذا قول صحيح يعضده الأحاديث هذا
كلامه أى التى من تلك الأحاديث أن إبليس قال يا رب لليس أحد من خلقك إلا وقد جعلت له رزقا ومعيشة فما رزقى قال كل مالم يذكر عليه اسمى ومعلوم أن إبليس أبو الجن وأن مالم يذكر اسم الله عليه يشمل عظم الميتة
ومقابلة الشياطين بالمؤمنين تدل على أن المراد بهم فسقتهم لا الكفار منهم لأن فى كون الكفا رمن الجن اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين وأن كلا الفريقين سأله الزاد وأنه خاطب كلا بما يليق به فيه بعد لا سيما مع ما تقدم عن ابن مسعود ومايأتى من قوله إخوانكم من الجن ومن ثم قال بعضهم إن السائلين له صلى الله عليه وسلم الزاد كانوا مسلمين فليتأمل
ولما ذكر صلى الله عليه وسلم لهم العظم والروث قالوا يا رسول الله إن الناس يقذرونهما علينا فنهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم أو بروثه بقوله فلا يستنقين أحدكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة لأنه زاد إخوانكم من الجن
وفى رواية قالوا له صلى الله عليه وسلم انه أمتك عن الاستنجاء بهما فإن الله تعالى قد جعل لنا فيهما رزقا فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء بالعظم والبعر أى وحرمه نحو البول أو التغوط عليهما تعلم من ذلك بالأولى ومنه يعلم أن مرادهم بالتقذير التنجيس لا ما يشمل التقذير بالطاهر كالبصاق والمخاط
وعن جابر بن عبد الله رضى الله تعالى عنهما قال بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمشى إذ جاءت حية فقامت إلى جنبه صلى الله عليه وسلم وأدنت فاها من أذنه وكأنها تناجيه فقال النبى صلى الله عليه وسلم نعم فانصرفت قال جابر فسألته فأخبرنى أنه رجل من الجن وأنه قال له مر أمتك لا يستنجوا بالروث ولا بالرمة أى العظم لأن الله تعالى جعل لنا فى ذلك رزقا ولعل هذا الرجل من الجن لم يبلغه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ولا يخفى أن سؤال الزاد يقتضى أن ذلك لم يكن زادهم وزاد دوابهم قبل ذلك وحينئذ يسأل ماكان زادهم قبل ذلك وقد يقال هو كل مالم يذكر اسم الله عليه من طعام الآدميين وحينئذ يكون ماتقدم فى خبر إبليس المراد يمالم يذكر اسم اله عليه غير العظم فليتأمل والنهى عن الاستنجاء يدل على أن ذلك لا يختص بحالة السفر بل هو زادهم بعد ذلك دائما وأبدا
وقصة جابر هذه سيأتي فى غزوة تبوك نظيرها وهو أن حية عظيمة الخلق عارضتهم فى الطريق فانحاز الناس عنها فأقبلت حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته طويلا والناس ينظرون إليها ثم التوت حتى اعتزلت الطريق فقامت قائمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون من هذا قالوا الله ورسوله أعلم قال هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا إلى يستمعون القرآن قال فى المواهب وفى هذا رد على من زعم أن الجن لا تأكل ولا تشرب أى وإنما يتغذون بالشم
أقول ذكرت فى كتابى عقد المرجان فيما يتعلق بالجان أن فى أكل الجن ثلاثة أقوال قيل يأكلون بالمضغ والبلع ويشربون بالازدراد والثانى لا يأكلون ولا يشربون بل يتغذون بالشم والثالث أنهم صنفان صنف يأكل ويشرب وصنف لا يأكل ولا يشرب وإنما يتغذون بالشم وهو خلاصتهم والله أعلم
قال ابن مسعود فلماولوا قلت من هؤلاء قال هؤلاء جن نصيبين وفى رواية فتوارى عنى حتى لم أره فلما سطع الفجر أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لى أراك قائما فقلت ماقعدت فقال ماعليك لو فعلت أى قعدت قلت خشيت أن أخرج منه فقال أما إنك لو خرجت لم ترنى ولم أرك إلى يوم القيامة أى وفى رواية لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم وفيه أن الخروج لا ينشأ عن القعود حتى يخشى منه الخروج وفى رواية قال لي أنمت فقلت لا والله يا رسول الله ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس أى لما تراكموا عليك وسمعت منهم لغطا شديدا حتى خفت عليك إل أن سمعتك تقرعهم بعصاك وتقول اجلسوا وسأله عن سبب اللغط الشديد الذى كان منهم فقال إن الجن تداعت فى قتيل قتل بينهم فتحاكموا إلى فحكمت بينهم بالحق
وفى رواية عن سعيد بن جبير أنه أى ابن مسعود قال له أولئك جن نصيبين وكانوا اثنى عشر ألفا والسورة التى قرأها عليهم اقرأ باسم ربك أى ولا ينافى ذلك ما جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه افتتح القرآن لأن المراد بالقرآن القراءة زاد ابن مسعود على ما فى بعض الروايات ثم شبك أصابعه فى أصابعى وقال إنى وعدت أن تؤمن بى الجن والإنس أما الإنس فقد آمنت وأما الجن فقد رأيت
أقول وفى هذا أن ابن مسعود لم يخرج من الدائرة التى اختطها له صلى الله عليه وسلم
وفى السيرة الهشامية ما يقتضى أنه خرج منها حيث قال عن ابن مسعود فجئتهم فرأيت الرجال ينحدرون عليه صلى الله عليه وسلم من الجبال فازدحمواعليه إلى آخره فليتأمل
فعلم أن هذه القصة بعد كل من قصة ابن عباس وقصة رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف فإن قصة ابن عباس رضى الله تعالى عنهما كانت فى أول البعث وقصة رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف بعدها بمدة مديدة كما علمت وهذه القصة كانت بعدهما بمكة والله أعلم ثم قال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود هل معك وضوء أى ماء نتوضأ به قلت لا فقال ما هذه الإداوة أى وهى إناء من جلد قلت فيها نبيذ قال ثمرة طيبة وماء طهور صب على فصببت عليه فتوضأ وأقام الصلاة وصلى
أقول وهو محمول عند أئمتنا معاشر الشافعية على أن الماء لم يتغير بالتمر تغيرا كثيرا يسلب اسم الماء ومن ثم قال ماء طهور وقول ابن مسعود رضى الله تعالى عنه فيها نبيذ أى منبوذ الذى هو التمر وسماه نبيذا باعتبار الأول على حد قوله تعالى إنى أرانى اعصر خمرا وهذا بناء على فرض صحة الحديث وإلا فقد قال بعضهم حديث النبيذ ضعيف باتفاق المحدثين
وفى كلام الشيخ محيى الدين بن العربى رضى الله تعالى عنه الذى أقول به منع التطهر بالنبيذ لعدم صحة الخبر المروى فيه ولو أن الحديث صح لم يكن نصا فى الوضوء به فإنه صلى الله عليه وسلم قال ثمرة طيبة وماء طهور أى قليل الامتزاج والتغير عن وصف الماء وذلك لأن الله تعالى ما شرع الطهارة عند فقد الماء إلا بالتيمم بالتراب خاصة
قال ومن شرف الإنسان أن الله تعالى جعل له التطهر بالتراب وقد خلقه الله من تراب فأمره بالتطهر أيضا به تشريفا له وعند أحمد ومسلم والترمذى عن علقمة قلت لابن مسعود هل صحب النبى صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد فقال ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا استطير أو اغتيل وطلبناه فلم نجده فبتنا بشر ليلة فلما أصبحنا إذ هو جاء من قبل الحجون وفى لفظ من قبل حراء فقلنا يا رسول الله إنا فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة فقال إنه أتانى داعى الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وهذه القصة
يجوز أت تكون هى المنقولة عن كعب الأحبار المتقدم ذكرها وهى سابقة على القصة التى كان فيها ابن مسعود ويجوز أن تكون غيرها وهى المرادة بقول عكرمة إنهم كانوا اثنى عشر ألفا جاءوا من جزيرة الموصل لأن المتقدم فى تلك عن كعب الأحبار رضى الله تعالى عنه أنهم كانوا ثلثمائة من جن نصيبين
وحينئذ يحتمل أن تكون هذه القصة سابقة على القصة التى كان بها ابن مسعود ويحتمل أن تكون متأخرة عنها وعلى ذلك يكون اجتماع الجن به صلى الله عليه وسلم فى مكة ثلاث مرات مرة كان فيها معه ابن مسعود ومرتين لم يكن معه ابن مسعود فيهما
قال فى الأصل ويكفى فى أمر الجن ما فى سورة الرحمن وسورة قل أوحى إلى وسورة الأحقاف
أقول فعلم أن الجن سمعوا قراءته صلى الله عليه وسلم ولم يجتمعوا به ولا شعر بهم فى المرة الأولى وهو ذاهب من مكة إلى سوق عكاظ فى ابتداء البعث المتقدمة عن ابن عباس على ما تقدم ولا فى المرة الثانية عند منصرفه من الطائف بنخلة على ما قدمنا فيه وعلم أن الروايات متفقة على استماعهم لقراءته صلى الله عليه وسلم فى المرتين وبه يعلم ما فى المواهب عن الحافظ ابن كثير أن كون الجن اجتمعوا له صلى الله عليه وسلم فى نخلة عند منصرفه من الطائف فيه نظر وإنما استماعهم له كان فى ابتداء البعث كما يدل عليه حديث ابن عباس أى من أن ذلك كان عند ذهابه إلى سوق عكاظ وعلم أنهم اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم وآمنوا به فى مكة مرتين أو ثلاثة بعد ذلك والله أعلم
وقد أخرج البيهقى فى شعب الإيمان عن قتادة أنه قال لما أهبط إبليس قال أى رب قد لعنته فما علمه قال السحر قال فما قراءته قال الشعر قال فما كتابته قال الوشم قال فما طعامه قال كل ميتة وما لم يذكر اسم الله عليه أى من طعام الإنس يأخذه سرقة قال فما شرابه قال كل مسكر قال فأين مسكنه قال الحمام قال فأين محله قال فى الأسواق قال فما صوته قال المزمار قال فما مصايده قال النساء فالحمام محل أكثر إقامته والسوق محل تردده فى بعض الأوقات والظاهر أن مثل إبليس فيما ذكر كل من لم يؤمن من الجن
= باب ذكر خبر الطفيل بن عمرو الدوسى وإسلامه رضى الله تعالى عنه
كان الطفيل بن عمرو الدوسى شريفا فى قومه شاعرا نبيلا قدم مكة فمشى إليه رجال من قريش فقالوا يا أبا الطفيل كنوه بذلك تعظيما ل فلم يقولوا يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل بين أظهرنا قد أعضل أمره بنا اى اشتد وفرق جماعتنا وشتت أمرنا وإنما قوله كالسحر يفرق به بين المرء وأخيه وبين الرجل وزوجته وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما دخل علينا فلا تكلمه ولا تسمع منه قال الطفيل فو الله ما زالوا بى حتى أجمعت أى قصدت وعزمت على أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه أى حتى حشوت فى أذنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا وهو بضم الكاف وسكون الراء ثم سين مهملة مضمومة ثم فاء أى قطنا فرقا أى خوفا من أن يبلغنى شىء من قوله فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى عند الكعبة فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن أسمع بعض قوله أى فسمعت كلاما حسنا فقلت فى نفسى أنا ما يخفى على الحسن من القبيح فما يمنعنى من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول فإن كان الذى يأتى به حسنا قبلت وإن كان قبيحا تركت فمكثت حتى انصرف إلى بيته فقلت يا محمد إن قومك قالوا لى كذا وكذا حتى سددت أذنى بكرسف حتى لا أسمع قولك فاعرض على أمرك فعرض عليه الإسلام وتلا عليه القرآن أى قرأ عليه قل هو الله أحد إلى آخرها و قل أعوذ برب الفلق إلى آخرها وقل أعوذ برب الناس إلى آخرها
وفيه أنه سيأتى أن نزول قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس كان بالمدينة عند ما سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يقال يجوز أن يكون ذلك مما تكرر نزوله فقال والله ماسمعت قط قولا أحسن من هذا ولا أمرا أعدل منه فأسلمت فقلت يا نبى الله إنى امرؤ مطاع فى قومى وأنا راجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام فادع الله أن يكون لى عونا عليهم قال اللهم اجعل له آيه فخرجت حتى إذا كنت بثنية تطلعنى على الحاضر أى وهم النازلون المقيمون على الماء لا يرحلون عنه وكان ذلك فى ليلة مظلمة وقع نور بين عينى مثل المصباح فقلت اللهم فى غير وجهى فإنى أخشى أن
يظنوا أنه مثله فتحول فى رأس سوطى فجعل الحاضر يتراءون ذلك كالقنديل المعلق أى ومن ثم عرف بذى النور وإلى ذلك أشار الإمام السبكى فى تائيته بقوله ** وفى جبهة الدوسى ثم بسوطه ** جعلت ضياء مثل شمس منيرة **
قال فأتانى أبى فقلت له إليك عنى يا أبت فلست منى ولست منك فقال لم يا بنى قلت قد أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم فقال أى بنى دينى دينك فأسلم أى بعد أن قال له اغتسل وطهر ثيابك ففعل ثم جاء فعرض عليه الإسلام ثم أتتنى صاحبتى فذكرت لها مثل ذلك أى قلت لها إليك عنى فلست منك ولست منى قد أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم قالت فدينى دينك فأسلمت ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطأوا على ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله قد غلبنى دوس وفى رواية قد غلبنى على دوس الزنا فادع الله عليهم فقال الهم اهد دوسا قال زاد فى رواية وأت بهم فقال الطفيل فرجعت فلم أزل بأرض قومى أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق اه فأسلموا قال فقدمت بمن أسلم من قومى عليه صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر سبعين أو ثمانين بيتا من دوس أى ومنهم أبو هريرة فأسهم لنا مع المسلمين أى مع عدم حضورهم القتال اه
أقول قال فى النور وفى الصحيح ما ينفى هذا وأنه لم يعط أحدا لم يشهد القتال إلا أهل السفينة الجائين من أرض الحبشة جعفرا ومن معه أى ومنهم الأشعريون أبو موسى الأشعرى وقومه فقد تقدم أنهم هاجروا من اليمن إلى الحبشة ثم جاءوا إلى المدينة
وفيه أنه سيأتى أنه صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه أن يشركوهم معهم فى الغنيمة ففعلوا وسيأتى أنه إنما أعطى أهل السفينة أى والدوسيين على ما علمت من الحصنين اللذين فتحا صلحا فقد أعطاهما مما أفاء الله عليه لا من الغنيمة وسؤال أصحابه فى إعطائهم من المشهورة العامة المأمور بها فى قوله تعالى وشاورهم فى الأمر لا لاستنزالهم عن شىء من حقهم والله أعلم
= باب ذكر الإسراء والمعراج وفرض الصلوات الخمس
أعلم أنه لا خلاف فى الإسراء به صلى الله عليه وسلم إذ هو نص القرآن عل سبيل الإجمال وجاءت بتفصيله وشرح أعاجيبه أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة من الرجال والنساء نحو ثلاثين أي ومن ثم ذهب الحاتمي الصوفي إلى أن الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم ثلاثين مرة فجعل كل حديث إسراء واتفق العلماء على أن لإسراء كان بعد البعثة اه أى الاسراء الذى كان فى اليقظة بجسده صلى الله عليه وسلم فلا ينافى حديث البخارى عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه أن الإسراء كان قبل أن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم لأن ذلك كان فى نومه بروحه فكان هذا الإسراء توطئه له وتيسيرا عليه كما كان بدء نبوته صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة
وفى كلام الشيخ عبد الوهاب الشعرانى أن إسراءاته صلى الله عليه وسلم كانت أربعا وثلاثين واحد بجسمه صلى الله عليه وسلم والباقى بروحه وتلك الليلة أى التى كانت بجسمه صلى الله عليه وسلم كانت ليلة سبع عشرة وقيل سبع وعشرين خلت من شهر ربيع الأول وقيل ليلة تسع وعشرين خلت من رمضان أي وقيل سبع وعشرين خلت من ربيع الآخر الآخر وقيل من رجب واختار هذا الأخير الحافظ عبد الغنى المقدسى وعليه عمل الناس وقيل فى شوال وقيل فى ذى الحجة
وفى كلام الشيخ عبد الوهاب ما يفيد أن إسرءاته صلى الله عليه وسلم كلها كانت فى تلك الليلة التى وقع فيها هذا الخلاف فليتأمل وذلك قبل الهجرة قيل بسنة وبه جزم ابن حزم وادعى فيه الإجماع وقيل بسنتين وقيل يثلاث سنين وكل من الإسراء والمعراج كان بعد خروجه صلى الله عليه وسلم للطائف كما دل عليه السياق وعن ابن إسحاق أن ذلك كان قبل خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وفيه نظر ظاهر
واختلف فى اليوم الذى يسفر عن ليلتهما قيل الجمعه وقيل السبت وقال ابن دحية يكون يوم الاثنين إن شاء الله تعالى ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة أى لأنه صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين وبعث يوم الإثنين وخرج من مكة يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين ومات يوم الإثنين فليتأمل
عن أم هانىء بنت أبى طالب رضى الله تعالى عنها أى واسمها على الأشهر فاختة وسأتى فى فتح مكة أنها أسلمت يوم الفتح وهرب زوجها هبيرة إلى نجران ومات بها على كفره قالت دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلس أى فى لظلام بعيد الفجر وأنا على فراشى فقال أشعرت أى علمت أنى نمت الليلة فى المسجد الحرام أي عند البيت أو فى الحجر وهو المراد بالحطيم الذى وقع فى بعض الروايات وفى رواية فرج سقف بيتى
قال الحافظ ابن حجر يحتمل أن يكون السر فى ذلك أى فى انفراج السقف التمهيد لما يقع من شق صدره صلى الله عليه وسلم فكأن الملك أراه بانفراج السقف والتئامه فى الحال كيفية ما سيصنع به لطفا به وتثبيتا له صلى الله عليه وسلم أي زيادة تمهيد وتثبيت له وإلا فشق صدره صلى الله عليه وسلم تقدم له غير مرة وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم نام فى بيت أم هانىء قالت فقدته من الليل فامتنع منى النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش
أى وحكى ابن سعد أن النبى صلى الله عليه وسلم فقد تلك الليلة فتفرقت بنو عبد المطلب يلتمسونه ووصل العباس إلى ذى طوى وجعل يصرخ يا محمد فأجابه لبيك لبيك فقال يا بن أخى عنيت قومك فأين كنت قال ذهبت إلى بيت المقدس قال من ليلتك قال نعم قال هل أصابك إلا خير قال ما أصابنى إلا خير ولعله صلى الله عليه وسلم نزل عن البراق فى ذلك المحل
وعن أم هانىء رضى الله تعالى عنها قالت ما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو فى بيتى نائم عندى تلك الليلة فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا فلما كان قبل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أقامنا من نومنا ومن ثم جاء في رواية نبهنا فلما صلى الصبح وصلينا معه قال يا أم هانيء لقد صليت معك العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين الحديث
والمراد أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاته التى كان يصليها وهى الركعتان فى الوقتين المذكورين وإلا فصلاة العشاء وصلاة الصبح التى هى صلاة الغداة لم يكونا فرضا وفى قولها وصلينا معه نظر لما تقدم ويأتى أنها لم تسلم إلا يوم الفتح ثم رأيت فى مزيل
الخفاء وأما قولها يعنى أم هانىء وصلينا فأرادت به وهيأنا له ما يحتاج إليه فى الصلاة كذا أجاب
وأقرب منه أنها تكلمت على لسان غيرها أو أنها لم تظهر إسلامها إلا يوم الفتح فليتأمل فقال صلى الله عليه وسلم إن جبريل أتانى وفى رواية أسرى به من شعب أبى طالب قال الحافظ ابن حجر والجمع بين هذه الروايات أنه صلى الله عليه وسلم نام فى بيت أم هانىء وبيتها عند شعب أبى طالب ففرج عن سقف بيته الذى هو بيت أم هانىء لأنه صلى الله عليه وسلم كان نائما به فنزل الملك وأخرجه إلى المسجدوكان به أثر النعاس أى فاضطجع فيه عند الحجر فيصح قوله صلى الله عليه وسلم نمت الليلة فى المسجد الحرام إلى آخره
وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر أى وهو مضطجع فى المسجد فى الحجر بين عمه حمزه وابن عمه جعفر رضى الله تعالى عنهما فقال أحدهم خذوا سيد القوم الأوسط بين الرجلين فاحتملوه حتى جاءوا به زمزم فاستقلوه على ظهره فتولاه منهم جبريل فشق من ثغرة نحره وهو الموضع المنخفض بين الترقوتين إلى أسفل بطنه أى وفى رواية إلى مراق بطنه وفى رواية إلى شعرته أى أشار إلى ذلك فانشق فلم يكن الشق فى المرات كلها بآلة ولم يسل منه دم ولم يجد لذلك ألما كما تقدم التصريح به فى بعض الروايات لأنه من خرق العادات وظهور المعجزات ثم قال جبريل لميكائيل ائتنى بطشت من ماء زمزم كيما أطهر قلبه وأشرح صدره فاستخرج قلبه أى فشقه فغسله ثلاث مرات ونزع ما كان فيه من أذى وهذا الأذى يحتمل أن يكون من بقايا تلك العلقة السوداء التى نزعت منه صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع فى بنى سعد بناء على تجزئتها كما تقدم فى المرة الثانية وهو ابن عشر سنين والثالث عند البعث فلا يخالف أن العلقة السوداء نزعت منه صلى الله عليه وسلم فى المرة الأولى وهو مسترضع فى بنى سعد ويستحيل تكرار إخراجها وإلقائها والذى ينبغى أن يكون نزع الملك العلقة إنما هو فى المرة الأولى والواقع فى غيرها إنما هو إخراج الأذى وأنه غير تلك العلقة وأن المراد به مايكون في الجبليات البشرية وتكرر إخراج ذلك الأذى استئصاله ومبالغة فيه وذكر العلقة في المرة الأولى وقول الملك هذا حظ الشيطان وهم من بعض الرواة
واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسات من ماء زمزم ثم أتى بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا أى نفس الحكمة والإيمان لأن المعانى قد تمثل بالأجسام أو فيه ما هو سبب لحصول ذلك والمراد كما لهما فلا ينافى ما تقدم فى قصة الرضاع أنه ملىء حكمة وإيمانا ووضعت فيه السكينة ثم أطبقه ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوة وتقدم فى قصة الرضاع أن فى رواية أن الختم كان فى قلبه وفى أخرى أنه كان فى صدره وفى أخرى أنه كان بين كتفيه وتقدم الكلام على ذلك وأنكر القاضى عياض شق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وقال إنما كان وهو صلى الله عليه وسلم صبى فى بنى سعد وهو يتضمن إنكار شقه عند البعثة أيضا أي والتي قبلها وعمره صلى الله عليه وسلم عشر سنين ورده الحافظ ابن حجر بأن الروايات تواردت بشق صدره صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة وعند البعثة أى زيادة على الواقع له صلى الله عليه وسلم فى بنى سعد وأبدى لكل من الثلاثة حكمة وتقدم أنه شق صدره صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشر سنين وأنه صلى الله عليه وسلم شق صدره وهو ابن عشرين سنة وتقدم ما فيه
أقول ويمكن أن يكون إنكار القاضى عياض لشق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج على الوجه الذى جاء فى بعض الروايات أنه أخرج من قلبه علقة سوداء وقال الملك هذا حظ الشيطان منك لأن هذا إنما كان وهو صلى الله عليه وسلم مسترضع فى بنى سعد ويستحيل تكرر إلقاء تلك العلقة وحمل ذلك على بعض بقايا تلك العلقة السوداء كما قدمناه ينافى قول الملك هذا حظ الشيطان منك إلا أن يقال المراد أنه من حظ الشيطان أى بعض حظ الشيطان أى بعض حظ الشيطان فليتأمل ذلك والأولى ماقدمناه فى ذلك ثم لا يخفى أنه ورد غسل صدرى وفى رواية قلبى
وقد يقال الغسل وقع لهما معا كما وقع الشق لهما معا فأخبر صلى الله عليه وسلم بإحداهما مرة وبالأخرى أخرى أى وتقدم فى مبحث الرضاع فى رواية شق بطنه صلى الله عليه وسلم ثم قلبه وفى أخرى شق صدره ثم قلبه وفى اخرى الاقتصار على شق صدره وفى أخرى الاقتصار على شق قلبه وتقدم أن المراد بالبطن الصدر وليس المراد بإحدهما القلب
وفى كلام غير واحد ما يقتضى أن المراد بالصدر القلب ومن ثم قيل هل شق صدره وغسله مخصوص به صلى الله عليه وسلم أو وقع لغيره من الأنبياء
وأجيب بأنه جاء فى قصة تابوت بنى اسرائيل الذى أنزله الله تعالى على آدم حين أهبطه إلى الأرض فيه صور الأنبياء من أولاده وفيه بيوت بعدد الرسل وآخر البيوت بيت محمد صلى الله عليه وسلم وهو من ياقوتة حمراء ثلاثة أذرع فى ذراعين وقيل كان من نوع من الخشب تتخذ منه الأمشاط مموها بالذهب فكان عند آدم إلى أن مات ثم عند شيث ثم توارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم كان عند اسماعيل ثم عند ابنه قيدار فنازعه ولد اسحاق ثم أمر من السماء أن يدفعه الى ابن عمه يعقوب إسرائيل الله فحمله إلى أن أوصله له ثم وصل إلى موسى عليه الصلاة والسلام فوضع فيه التوراة وعصاه وعمامة هارون ورضاض الألواح التى تكسرت لما ألقاها وأنه كان فيه الطشت طشت من ذهب الجنة الذى غسل فيه قلوب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك مقتض لعدم الخصوصية وكان هذا التابوت إذا اختلفوا فى شىء سمعوا منه ما يفصل بينهم وما قدموه أمامهم فى حرب إلا نصروا وكان كل من تقدم عليه من الجيش لا بد أن يقتل أو ينهزم الجيش
وفى الخصائص للسيوطى ومما اختص به صلى الله عليه وسلم عن جميع الأنبياء ولم يؤتها نبى قبله شق صدره فى أحد القولين وهو الأصح وجمع بعضهم بحمل الخصوصية على تكرر شق الصدر لأن تكرر شق صدره الشريف ثبت فى الأحاديث وشق صدر غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما أخذ من قصة التابوت وليس فيها تعرض للتكرار ولو جمع بأن شق الصدر مشترك وشق القلب وإخراج العلقة السوداء مختص به صلى الله عليه وسلم ويكون المراد بالقلب في قصة التابوت الصدر وبالصدر فى كلام الخصائص القلب لم يكن بعيدا إذ ليس فى قصة التابوت مايدل على أن تلك العلقة السوداء أخرجت من غير قلب نبينا صلى الله عليه وسلم ولم أقف على أثر يدل على ذلك وغسل قلب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس من لازمة الشق بل يجوز أن يكون غسله من خارج وقد أحلنا على هذا الجمع فى بحث الرضاع وبهذا يرد ما قدمناه من قول الشمس الشامى الراجح المشاركة ولم أر لعدم المشاركة ما يعتمد عليه بعض الفحص الشديد فليتأمل
ثم رأيته ذكر أنه جمع جزءا سماه نور البدر فيما جاء فى شق الصدر ولم أقف عليه والله أعلم
قال فأتانى جبريل عليه الصلاة والسلام فذهب بى إلى باب المسجد أى وعن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا أنا نائم فى الحجر جاءنى جبريل عليه الصلاة والسلام فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاني الثانية فهمزنى بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فأخذ بعضدى فقمت معه فخرج بى ألى باب المسجد
وفيه أنه إذا لم يجد شيئا من أخذ بعضديه إلا أن يقال ثم رآه عند أخذه بعضديه فإذا دابة أبيض أى ومن ثم قيل له البراق بضم الموحدة لشدة بريقه وقيل قيل له ذلك لسرعته أى فهو كالبرق وقيل لأنه كان ذا لونين أبيض وأسود أى يقال شاة برقاء إذا كان خلال صوفها الأبيض طاقات سوداء أى وهى العفراء ومن ثم جاء فى الحديث أبرقوا فإن دم عفراء عند الله أذكى من دم سوداوين أى ضحوا بالبلقاء وهى العفراء لكن فى الصحاح الأعفر الأبيض وليس بالشديد البياض وشاة عفراء يعلو بياضها حمرة ولغلبة بياض شعره على سواده أو حمرته قيل أبيض ولعل سواد شعره لم يكن حالكا بل كان قريبا من الحمرة فوصف بأنه أحمر وهذا لا يتم إلا لو كان البراق كذلك أي شعره أبيض داخله طاقات سود أو حمر ولعله كان كذلك ويدل له قول بعضهم إنه ذو لونين أى بياض وسواد والسواد كما علمت إذا صفا شبه بالأحمر وهذه الرواية طوى فيها ذكر أنه كان بين حمزة وجعفر وأنه جاءه جبريل وميكائيل وملك آخر وأنهم احتملوه إلى زمزم وشق جبريل صدره إلى آخر ما تقدم وذلك البراق فوق الحمار ودون البغل مضطرب الأذنين أى طويلهما أى وكان مسرجا ملجما كما فى بعض الروايات فركبته فكان يضع حافره مد بصره أى حيث ينتهى بصره
وفى رواية ينتهى خفها حيث ينتهى طرفها إذا أخذ فى هبوط طالت يداه وقصرت رجلاه وإذا أخذ فى صعود طالت رجلاه وقصرت يداه أى وقد ذكره هذا الوصف فى فرس فرعون موسى فقد قيل كان لفرعون أربع عجائب فذكر منها أن لحيته كانت خضراء ثمانية أشبار وقامته سبعة أشبار فكانت لحيته أطول منه بشبر وكان لهه فرس وقيل برذون إذا صعد الجبل قصرت يداه وطالت رجلاه وإذا انحدر يكون على ضد ذلك وفى رواية أن البزاق خطوه مد البصر قال ابن المنير فعلى هذا يكون قطع من الأرض إلى السماء فى خطوة واحدة لأن بصر الذى فى الأرض يقع على السماء فبلغ أعلى السموات فى سبع خطوات انتهى أى لأن بصر من يكون فى سماء الدنيا يقع
على السماء فوقها وهكذا وهذا بناء على أنه عرج به صلى الله عليه وسلم على المعراج راكب البراق وسيأتى ما فيه
قال صلى الله عليه وسلم فلما دنوت منه اشمأز أى نفر وفى رواية فاستصعب ومنع ظهره أن يركب فقال جبريل اسكن فما ركبك أحد أكرم على الله من محمد وفى رواية فى فخذيها أى تلك الدابة التى هى البراق جناحان تحفز بهما أى تدفع بهما رجليها ففى اللغة الحفز الحث والإعجال فلما دنوت لأركبها شمست أى نفرت ومنعت ظهرها وفى رواية شمس وفى رواية صرت أذنيها أى جمعتهما وذلك شأن الدابة إذا نفرت فوضع جبريل يده على معرفتها ثم قال ألا تستحين يا براق مما تصنعين والله ما ركب عليك أحد وفى رواية عبد الله قبل محمد صلى الله عليه وسلم أكرم على الله منه فاستحيت حتى ارفضت عرقا أى كثر عرقها وسال ثم قرت حتى ركبها أى وفى رواية فقال جبريل مه يا براق فوالله ماركبك مثله من الأنبياء أى لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانت تركبها قبله صلى الله عليه وسلم
ففى البيهقى وكانت الأنبياء تركبها قبلى وعند النسائى وكانت تسخر للأنبياء قبلى وبعد عليها العهد من ركوبهم لأنها لم تكن ركبت فى الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كما ذكره ابن بطال وهو يقتضى أنه لم يركبه أحد ممن كان بين عيسى ومحمد من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وجاء التصريح بذلك فى بعض الروايات أى والمتبادر منها أنها التى بينه وبين عيسى عليهما الصلاة والسلام فيكون عيسى ممن ركبها دون من بعده من الأنبياء عليهما الصلاة والسلام على تقدير ثبوت وجود أنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد عيسى وتقدم عن النهر أنه كان بينهما ألف نبى
وقوله لأن الأنبياء ظاهرة يدل على أن جميع الأنبياء أى عيسى ومن قبله ركبوه قال الإمام النووى القول باشتراك جميع الأنبياء فى ركبوها يحتاج إلى نقل صحيح هذا كلامه
ومما يدل على أن الأنبياء كانت تركبه قبله صلى الله عليه وسلم ما تقدم وظاهر ما سيأتى فى بعض الروايات فربطه بالحلقة التى توثق بها الأنبياء وإنما قلنا ظاهر لأنه لم يذكر الموثق بفتح المثلثة إذ يحتمل أن الأنبياء كانت تربط غير البراق من دوابهم بها ثم رأيت فى رواية البيهقى فأوثقت دابتى يعنى البراق التى كانت الأنبياء تربطها فيه
ومن ثم قال الشيخ عبد الوهاب الشعرانى رحمه الله مامن رسول إلا وقد أسرى به راكبا على ذلك البراق هذا كلامه وقد تقدم أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حمل هو وهاجر وولدهما يعنى إسماعيل على البراق إلى مكة
وفى تاريخ الأزرقى وكان إبراهيم يحج كل سنة على البراق فعن سعيد بن المسيب وغيره أن البراق هو دابة إبراهيم عليه الصلاة والسلام التى كان يزور عليها البيت الحرام وعلى تسليم أنه لم يركب البراق أحد قبله صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن دحية ووافقه الإمام النووى فقول جبريل عليه الصلاة والسلام ما ركبك ونحوه لا ينافيه لأن السالبة تصدق بنفى الموضوع ومن ثم قال فى الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم بركوب البراق فى أحد القولين أى وقيل إن الذى خص به هو ركوبه مسرجا ملجما
وفى المنتقى أن البراق وإن كان يركبه الأنبياء إلا أنه لم يكن يضع حافره عند منتهى طرفه إلا عند ركوب النبى صلى الله عليه وسلم وجاء فى غريب التفسير أن البراق لما شمس قال له جبريل لعلك يا محمد مسيت الصفر اليوم وهو صنم كان بعضه من ذهب وبعضه من نحاس كسره صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال له صلى الله عليه وسلم ما مسيته إلا أنى مررت به وقلت تبا لمن يعبدك من دون الله فقال جبريل وما شمس إلا لذلك أى لمجرد مرورك عليه وهذا حديث موضوع كما نقل عن الإمام أحمد
وقال الحافظ ابن حجر إنه من الأخبار الواهية وقال مغلطاى لا ينبغى أن يذكر ولا يعزى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال فرس شموس أى صعبة ولا يقال شموسة وذكر لاستصعاب البراق غير ذلك من الحكم لانطيل بذكره
قال وعن الثعلبى بسند ضعيف فى صفة البراق عن ابن عباس له خد كخد الإنسان وعرف كعرف الفرس وقوائم كالإبل وأظلاف وذنب كالبقر أى وحينئذ يكون إطلاق الخف على ذلك فى الرواية السابقة ينتهى خفها حيث ينتهى طرفها مجازا لأن مع كونها لها قوائم كقوائم الإبل لا خف لها بل ظلف وهو الحافر
وفى كلام بعضهم فى صفة البراق وجهه كوجه الإنسان وجسده كجسد الفرس وقوائمه كقوائم الثور وذنبه كذنب الغزال لا ذكر ولا أنثى اه ومن وصف بوصف المذكر تارة وبوصف المؤنث أخرى فهى حقيقة ثالثة ويكون خارجا من
قوله تعالى ومن كل شىء خلقنا زوجين كما خرجت من ذلك الملائكة فإنهم ليسوا ذكورا ولا إناثا
وذكر بعضهم أن أذنيها كأذنى الفيل وعنقها كعنق البعير وصدرها كصدر الفيل كأنه من ياقوت أحمر لها جناحان كجناح النسر فيهما من كل لون قوائمها كقوائم الفرس وذنبها كذنب البعير ويحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات على تقدير الصحة
قال صلى الله عليه وسلم ثم سرت وجبريل عليه الصلاة والسلام لا يفارقنى أى وفى رواية أنه ركب معه البراق وفى الشفاء مازايلا ظهر البراق حتى رجعا وفى رواية ركبت البراق خلف جبريل أى وفى صحيح ابن حبان وحمله جبريل على البراق رديفا له
قال وفى الشرف كان الآخذ بركابه جبريل وبزمام البراق ميكائيل وفى رواية جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره اه
أقول لا منافاة لجواز أن يكون جبريل تارة ركب مردفا له صلى الله عليه وسلم وتارة أخذ بركابه من جهة اليمين وميكائيل تارة أخذ بالزمام وتارة لم يأخذه وكان جهة يساره أو كان آخذ بالزمام من جهة اليسار ولا يخالف هذا الجمع قول الشفاء مازايلا ظهر البراق لإمكان حمله على غالب المسافة هذا وفى حياة الحيوان الظاهر عندى أن جبريل لم يركب مع النبى صلى الله عليه وسلم البراق ليلة الإسراء لأنه المخصوص بشرف الإسراء هذا كلامه فليتأمل والله أعلم
قال صلى الله عليه وسلم ثم انتهيت إلى بيت المقدس فأوثقته بالحلقة التى بالباب أى باب المسجد التى كانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام توثق أى تربط بهاأى تربطه بها على ما تقدم عن رواية البيهقى وفى رواية أن جبريل خرق بأصبعه الحجر أى الذى هو الصخرة وفى كلام بعضهم فأدخل جبريل يده في الصخرة فخرقها وشد به البراق
أقول لا منافاة لجواز أن يكون المراد وسع الخرق بأصبعه أو فتحه لعروض انسداده وأن هذا الخرق هو المراد بالحلقة التى فى الباب لأن الصخرة بالباب وقيل لهذا الخرق حلقة لاستدارته
وفى الإمتاع وعادت صخرة بيت المقدس كهيئة العجين فربط دابته فيها والناس يلتمسون ذلك الموضع إلى اليوم هذا كلامه
وجمع بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم ربطه بالحلقة خارج باب المسجد الذى هو مكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تأدبا فأخذه جبريل فربطه فى زاوية المسجد فى الحجر الذى هو الصخرة التى خرقها بأصبعه وجعله داخلا عن باب المسجد فكأنه يقول له إنك لست ممن يكون مركوبه على الباب بل يكون داخلا
وفى حديث أبى سفيان قبل إسلامه لقيصر أنه قال لقيصر يحط من قدره صلى الله عليه وسلم ألا أخبرك أيها الملك عنه خبرا تعلم منه أنه يكذب قال وما هو قال إنه يزعم أنه خرج من أرضنا أرض الحرم فجاء مسجدكم هذا ورجع إلينا فى ليلة واحدة فقال بطريق أنا أعرف تلك الليلة فقال له قيصر ما علمك بها قال إنى كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كها غير باب واحد أى وهو الباب الفلانى غلبنى فاستعنت عليه بعمالى ومن يحضرنى فلم نقدر فقالو إن البناء نزل عليه فاتركوه إلى غد حتى يأتى بعض النجارين فيصلحه فتركته مفتوحا فلما أصبحت غدوت فإذا الحجر الذى من زاوية الباب مثقوب أى زيادة على ماكان عليه على ماتقدم وإذا فيه أثر مربط الدابة أى التى هى البراق أى ولم أجد بالباب مايمنعه من الإغلاق فعلمت أنه إنما امتنع لأجل ما كنت أجده فى العلم القديم أن نبيا يصعد من بيت المقدس إلى السماء وعند ذلك قلت لأصحابى ماحبس هذا الباب الليلة إلا هذا الأمر وسيأتى ذلك عند الكلام على كتابه صلى الله عليه لقيصر ولا يخفى أن المراد بالصخرة الحجر الذي بالباب لا الصخرة المعروفة كما هو المتبادر من بعض الروايات وهي فأتى جبريل الصخرة التى فى بيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها فشد بها البراق لأن الذى فى بابه يقال إنها فيه ولا يخفى أن عدم انغلاق الباب إنما كان آية وإلا فجبريل عليه الصلاة والسلام لا يمنعه باب مغلق ولا غيره
وفى رواية عن شداد بن أوس أنه قال ثم انطلق بى أى جبريل حتى دخلنا المدينة يعنى مدينة بيت المقدس من بابها اليمانى فأتى قبلة المسجد فربط فيها دابته
قد يقال لا يخالفه لأنه يجوز أن يكون ذلك الباب كان بجانب قبلة المسجد ولعل هذا الباب هو اليمانى الذى فيه صورة الشمس والقمر ففى رواية ودخل المسجد من باب فيه تمثال الشمس والقمر أى مثالهما فيه والله أعلم
وأنكر حذيفة رضى الله تعالى عنه رواية ربط البراق وقال لم يفر منه وقد سخره له
عالم الغيب والشهادة ورد عليه بأن الأخذ بالحزم لا ينافى صحة التوكل فعن وهب ابن منبه رضى الله عنه الإيمان بالقدر لا يمنع الحازم من توقى المهالك قال وهب وجدته فى سبعين من كتب الله عزوجل القديمة اى ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم اعقلها وتوكل وقد كان صلى الله عليه وسلم يتزود فى أسفاره ويعد السلاح فى حروبه حتى لقد ظاهر بين درعين فى غزوة أحد قال وفى رواية فلما استوى النبى صلى الله عليه وسلم فى صخرة المسجد قال جبريل يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين قال نعم قال جبريل فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن فرددن عليه السلام فقال من أنتن قلن خيرات حسان قوم أبرار نقلوا فلم يدرنوا وأقاموا فلم يظنعوا وخلدوا فلم يموتوا اه
أقول فى كلام بعضهم أنه لم يختلف أحد أنه صلى الله عليه وسلم عرج به من عند القبة التى يقال لها قبة المعراج من عند يمين الصخرة وقد جاء صخرة بيت المقدس من صخور الجنة وفى لفظ سيدة الصخور صخرة بيت المقدس وجاء صخرة بيت المقدس على نخلة والنخلة على نهر من أنهار الجنة وتحت النخلة آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران ينظمان سموط أهل الجنة إلى يوم القيامة قال الذهبى إسناده مظلم وهو كذب ظاهر
قال الإمام أبو بكر بن العربى فى شرحه لموطا مالك صخرة بيت المقدس من عجائب الله تعالى فإنها صخرة قائمة شعثاء فى وسط المسجد الأقصى قد انقطعت من كل جهة لا يمسكها إلا الذى يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه فى أعلاها من جهة الجنوب قدم النبى صلى الله عليه وسلم حين ركب البراق وقد مالت من تلك الجهة لهيبته صلى الله عليه وسلم وفى الجهة الأخرى أصابع الملائكة التى أمسكتها لما مالت ومن تحتها المغارة التى انفصلت من كل جهة أى فهى معلقة بين السماء والأرض وامتنعت لهيبتها من أن أدخل تحتها لأنى كنت أخاف أن تسقط على بالذنوب ثم بعد مدة دخلتها فرايت العجب العجاب تمشى فى جوانبها من كل جهة فتراها منفصلة عن الأرض لا يتصل بها من الأرض شىء ولا بعض شىء وبعض الجهات أشد انفصالا من بعض وهذا الذى ذكره ابن العربى أن قدمه صلى الله عليه وسلم أثر فى صخرة بيت المقدس حين ركب البراق وأن الملائكة أمسكتها لما مالت قال به الحافظ ناصر الدين الدمشقى حيث قال فى معراجه المسجع ثم توجها نحو صخرة بيت المقدس وعماها فصعد من جهة الشرق
أعلاها فاضطربت تحت قدم نبينا صلى الله عليه وسلم ولانت فأمسكتها الملائكمة لما تحركت ومالت
وقول ابن العربى حين ركب البراق يقتضى أنه عرج به على البراق وسيأتى الكلام فيه وتقدم أن الجلال السيوطى سئل عن غوص قدمه صلى الله عليه وسلم فى الحجر هل له أصل فى كتب الحديث فأجاب بأنه لم يقف فى ذلك على أصل ولا رأى من خرجه فى شىء من كتب الحديث وتقدم مافيه
وفى العرائس قال أبى بن كعب ما من ماء عذب إلا وينبع من تحت الصخرة ببيت المقدس ثم يتفرق فى الأرض والله سبحانه وتعالى أعلم
قال صلى الله عليه وسلم فنشر لى بضم النون وكسر الشين المعجمة أى أحيي لى بعد الموت رهط من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأن نشر الميت إحياؤه والرهط مادون العشرة من الرجال فيهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام أى وحكمة تخصيص هؤلاء بالذكر لا تخفى فصليت بهم وكلمتهم أى فالمراد نشروا عند دخوله صلى الله عليه وسلم المسجد وصلى بهم ركعتين ووصفهم بالنشور واضح فى غير عيسى عليه الصلاة والسلام لأنه لم يمت ووصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالإحياء بعد الموت سيأتى فى قصة بدر فى الكلام على أصحاب القليب ما يعلم منه أن المراد بإحياء الأنبياء بعد الموت شدة تعلق أرواحهم بأجسادهم حتى انهم فى البرزخ بسبب ذلك أحياء كحياتهم فى الدنيا وقد ذكرنا هناك الكلام على صلاتهم فى البرزخ وحجهم وغير ذلك وفى رواية ثم صلى صلى الله عليه وسلم هو وجبريل كل واحد ركعتين فلم يلبثا إلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثير أى مع أولئك الرهط فلا مخالفة بين الروايتين فعرف النبيين من بين قائم وراكع وساجد ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة
أقول ذكر ابن حبيب أن آية واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا الآية نزلت ببيت المقدس ليلة الإسراء ويجوز أن يكون قوله واقيمت الصلاة من عطف التفسير فالمراد بالأذان الإقامة وليس المراد بالإقامة الألفاظ المعروفة الآن لما سيذكر فى الكلام على مشروعية الأذان والإقامة بالمدينة وعلى أنه من عطف المغاير ويدل له مافى بعض الروايات فلما استوينا فى المسجد أذن مؤذن ثم أقام الصلاة فليس من لازم ذلك أن يكون كل من التأذين والإقامة باللفظين المعروفين الآن لأنهما كما علمت لم يشرعا إلا فى المدينة أى فى السنة الأولى من الهجرة وقيل فى الثانية كما سيأتى
وحديث لما أسرى بالنبى صلى الله عليه وسلم إلى السماء أوحى الله تعالى إليه بالأذان فنزل به فعلمه بلالا قال الحافظ ابن رجب موضوع وحديث علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان ليلة أسرى به فى إسناده متهم وفى الخصائص الكبرى أنه صلى الله عليه وسلم علم الإقامة ليلة الإسراء فقد جاء لما أراد الله عزوجل أن يعلم رسوله الأذان أى الإقامة عرج به إلى أن انتهى إلى الحجاب الذى يلى الرحمن أى عرشه خرج ملك من الحجاب فقال الله أكبر الله أكبر فقيل من وراء الحجاب صدق عبدى أنا أكبر أما أكبر ثم قال الملك أشهد أن لا إله إلا الله فقيل من وراء الحجاب صدق عبدى لا إله إلا أنا فقال الملك أشهد أن محمدا رسول الله فقيل من وراء احجاب صدق عبدى أنا أرسلت محمدا فقال الملك حى على الصلاة حى على الفلاح قد قامت الصاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله فأخذ الملك بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقدمه يؤم بأهل السموات قال فى الشفاء والحجاب إنما هو فى حق المخلوق لا فى حق الخالق فهم المحجوبون قال فإن صح القول بان محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فيحتمل أنه فى غير هذا الموطن بعد رفعالحجاب عن بصره حتى رآه
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن ذلك فقال جبريل إن هذا الملك ما رأيته قبل ساعتي هذه وفي لفظ والذي بعثك بالحق إني لأقرب الخلق مكانا وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتى هذه وفيه أن هذا يقتضى أن جبريل عليه السلام كان معه صلى الله عليه وسلم فى هذا المكان وسيأتى أنه تخلف عنه عند سدرة المنتهى فليتأمل والله أعلم
ولما أقيمت الصلاة ببيت المقدس قاموا صفوفا ينتظرون من يؤمهم فأخذ جبريل بيده صلى الله عليه وسلم فقدمه فصلى بهم ركعتين
أى وأما حديث لما أسرى بى أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلى بهم فقدمنى فصليت بالملائكة قال الذهبى منكر بل موضوع والغرض من تلك الصلاة الإعلام بعلو مقامه صلى الله عليه وسلم وأنه المقدم لا سيما فى الإمامة
وفى رواية ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا أى دفعوا حتى قدموا محمد صلى الله عليه وسلم أى ولا مخالفة لأنه يجوز أن يكون جبريل قدمه صلى الله عليه وسلم بعد دفعهم وتقديمهم له صلى الله عليه وسلم وفى رواية فأذن جبريل أى أقام الصلاة ونزلت
الملائكة من السماء وحشر الله له المرسلين أى جميعهم وقد نزلت الملائكة وحشر له الأنبياء أى جميعهم بدليل مافى بعض الروايات بعث له آدم فمن دونه فهو تعميم بعد تخصيص بناء على أن الرسول أخص من النبى لا بمعناه وهذا هو المراد بقوله الخصائص الصغرى ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم إحياء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وصلاته إماما بهم وبالملائكة لأن الأنبياء أحياء
وفيه إذا كان الأنبياء أحياء فما معنى إحيائهم له ليصلى بهم وقد علمت معنى إحيائهم فلما انصرف صلى الله عليه وسلم قال جبريل يا محمد أتدرى من صلى خلفك قال لا قال كل نبى بعثه الله تعالى أى والنبى غير الرسول بعثه الله تعالى إلى نفسه
أقول ولا يخاللف ما سبق من أنه عرف النبيين منه بين قائم وراكع وساجد لجواز أن يكون المراد عرف معظمهم أو أنه عرفهم بعد هذا القول
وذكر القرطبى فى تفسيره عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس جمع الله له الأنبياء آدم فمن دونه وكانوا سبعة صفوف ثلاثة صفوف من الأنبياء المرسلين وأربعة من سائر الأنبياء وكان خلف ظهره إبراهيم الخليل وعن يمينه إسمعيل وعن يساره إسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والله أعلم وفى رواية ثم دخل أى مسجد بيت فصلى مع الملائكة فلما قضيت الصلاة قالوا يا جبريل من هذا الذى معك قال هذا محمد رسول االع صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين قالوا وقد أرسل إليه أي للمعراج بناء على أنه كان في ليلة الإسراء قال نعم قالوا حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة وهذه الرواية قد يقال لا تخالف ماسبق من أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالملائكة مع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لأنه يجوز أن يكون إنما أفردهم بالذكر لسؤالهم
وفيه أن سؤالهم يدل على أن نزولهم من السماء لبيت المقدس لم يكن لأجل الصلاة معه صلى الله عليه وسلم
قال القاضى عياض والأظهر أن صلاته صلى الله عليه وسلم بهم يعنى بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فى بيت المقدس كانت قبل العروج أى كما يدل على
ذلك سياق القصة وقال الحافظ ابن كثير صلى بهم فى بيت المقدس قبل العروج وبعده فإن فى الحديث مايدل على ذلك ولا مانع منه
قال ومن الناس من يزعم أنه إنما أمهم فى السماء أى لا فى بيت المقدس أى وهذا الزاعم هو حذيفة فإنه أنكر صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فى بيت المقدس قال بعضهم والذى تظافرت به الروايات صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ببيت المقدس
والظاهر أنه بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم إليه أى فلم يصل فى بيت المقدس إلا مرة واحدة وإنها بعد نزوله صلى الله عليه وسلم لأنه لما مر بهم فى منازلهم جعل يسأل جبريل عنهم واحدا واحدا وهو يخبره بهم أى ولو كان صلى بهم أولا لعرفهم بل تقدم أنه صلى الله عليه وسلم عرف النبيين مابين قائم وراكع وساجد وما بالعهد من قدم وهذا هو اللائق لأنه صلى الله عليه وسلم أولا كان مطلوبا إلى الجناب العلوى أى بناء على أن المعراج كان فى ليلة الإسراء وحيث كان مطلوبا لذلك اللائق أن لا يشتغل بشىء عنه فلما فرغ من ذلك اجتمع هو صلى الله عليه وسلم وإخوته من النبيين ثم أظهر شرفه عليهم فقدمه فى الإمامة هذا كلامه
أقول بحث أن صلاته صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس ولم تكن إلا بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من العروج والاستدلال على ذلك بسؤاله صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء عليهم الصلاة واللام واحدا واحدا فى السماء وأن ذلك هو اللائق فيه نظر ظاهر لأنه لا بحث مع وجود النقل بخلافه ومجرد الاستحسان العقلى لا يرد النقل فقد تقدم عن الحافظ ابن كثير أنه ثبت فى الحديث مايدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم ببيت المقدس قبل العروج وبعده وكونه سأل عن الأنبياء فى السماء لا ينافى صلاته بهم أولا وأنه عرفهم بناء على تسليم أن معرفته لهم كانت عند صلاته بهم أولا وأنه عرفهم كلهم لا معظمهم على ما قدمناه لأنه يجوز أن يكونوا فى السماء على صور لم يكونوا عليها ببيت المقدس لأن البرزخ عالم مثال كما تقدم
وبهذا يعلم مافى قول بعضهم رؤيته صلى الله عليه وسلم للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فى السماء محمولة على رؤية أرواحهم إلا عيسى وإدريس عليهما الصلاة والسلام ورؤيته صلى الله عليه وسلم لهم فى بيت المقدس يحتمل أن المراد أرواحهم ويحتمل
أجسادهم ويدل للثانى وبعث له أدم فمن دونه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفى رواية فنشر لى الأنبياء من سمى الله ومن لم يسم فصليت بهم صلى الله عليه وسلم وعليهم والاشتغال عن الجناب العلوى المدعو له بما فيه تأنيس وهو اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصلاته بهم مناسب لائق بالحال والله أعلم
واختلف فى هذه الصلاة فقيل العشاء أى الركعتان اللتان كان صلى الله عليه وسلم يصليهما بالعشاء بناء على أنه صلى ذلك قبل العروج
وفيه أنه صلى تينك الركعتين اللتين كان يصليهما بالغداة أى وهذا يدل على أن الفجر طلع وهو صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس بعد العروج وتقدم وسيأتى أنه صلى الغداة بمكة وعليه تكون معادة بمكة
قال والذى يظهر والله أعلم أنها كانت من النفل المطلق انتهى أى ولا يضر وقوع الجماعة فيها وبقولنا أى الركعتان إلى آخره يسقط ماقيل القول بأنها العشاء أو الصبح ليس بشيء لأن أول صلاة صلاها من الخمس مطلقا الظهر ومن حمل الأولية على مكة أى ويكون صلى الصبح ببيت المقدس فعليه الدليل أى دليل يدل على أن تلك الصلاة إحدى الصلوات الخمس
وفى زين القصص كان زمن ذهابه صلى الله عليه وسلم ومجيئه ثلاث ساعات وقيل أربع ساعات أى بقيت من تلك الليلة لكن فى كلام السبكى أن ذلك كان فى قدر لحظة حيث قال فى تائيته وعدت وكل الأمر فى قدر لحظة أى ولا بدع لأن الله تعالى قد يطيل الزمن القصير كما يطوى الطويل لمن يشاء وقد فسح الله فى الزمن القصير لبعض أولياء أمته ما يستغرق الأزمنة الكثيرة وفى ذلك حكايات شهيرة
قال صلى الله عليه وسلم وأتيت بإنائين أحمر وأبيض فشربت الأبيض فقال لى جبريل شربت اللبن وتركت الخمر لو شربت الخمر لارتدت أمتك أى غوت واتهمكت فى الشرب بدليل الرواية الأخرى وهى رواية البخارى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به بإيليا بقدحين من خمر ولبن فنظر إليهما فاخذ اللبن فقال جبريل الحمد لله الذى هداك للفطرة اى الإستقامة لو أخذت الخمرة غوت
أمتك ولم يتبعك منهم إلا القليل أى يكونوا على ما أنت عليه من ترك ذلك فالمراد بالارتداد الرجوع عما هو الصواب وإتيانه بذلك وهو فى المسجد ببيت المقدس وسيأتى ما يدل على أنه أتى له صلى الله عليه وسلم بذلك أيضا بعد خروجه صلى الله عليه وسلم منه قبل العروج
قال صلى الله عليه وسلم واستويت على ظهر البراق فما كان بأسرع من أن أشرفت على مكة ومعى جبريل فصليت به الغداة ثم قال صلى الله عليه وسلم لأم هانىء بعد أن أخبرها بذلك أنا أريد ان أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت قالت أم هانىء فعلقت بردائه صلى الله عليه وسلم وقلت أنشدك الله أى بفتح الهمزة أسألك بالله ابن عم أى يا ابن عم أن تحدث أى لا تحدث بهذا قريشا فيكذبك من صدقك وفى رواية إنى أذكرك الله عز وجل أنك تأتى قوما يكذبونك وينكرون مقالتك فأخاف أن يسطوا بك فضرب بيده الشريفة على ردائه فانتزعه من يدى فارتفع على بطنه صلى الله عليه وسلم فنظرت إلى عكنه أى طبقات بطنه من السمن فوق ردائه صلى الله عليه وسلم وكأنه طى القراطيس أى الورق وإذا نور ساطع عند فؤاده كاد يخطف بفتح الطاء وربما كسرت بصرى فخررت ساجدة فلما رفعت رأسى إذ هو قد خرج فقلت لجاريتى نبعة أى وكانت حبشية معدودة فى الصحابة رضى الله عنها اتبعيه وانظرى ماذا يقول فلما رجعت أخبرتنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى نفر من قريش فى الحطيم هو مابين باب الكعبة والحجر الأسود وفى كلام بعضهم بين الركن والمقام سمى بذلك لأن الناس يحطم بعضهما بعضا فيه من الازدحام لأنه من مواطن إجابة الدعاء قيل ومن حلف فيه آثما عجلت عقوبته وربما أطلق كما تقدم على الحجر بكسر الحاء وأولئك النفر الذين انتهى صلى الله عليه وسلم إليهم فيهم المطعم بن عدى وأبو جهل بن هشام والوليد ابن المغيرة فقال صلى الله عليه وسلم إنى صليت الليلة العشاء أى أوقعت صلاة فى ذلك الوقت فى هذا المسمجد وصليت به الغداة أى أوقعت صلاة فى ذلك الوقت وإلا فصلاة العشاء لم تكن فرضت وكذا صلاة الغداة التى هى الصبح لم تكن فرضت كما تقدم وأتيت فيما بين ذلك بيت المقدس
أى لا يقال كان المناسب لذلك أن يقول وأتيت فى لحظة أو ساعات وعلى ما تقدم فيما بين ذلك ببيت المقدس ولم يوسع لهم الزمن لأنا نقول وسع لهم الزمن لأن الطباع لا تنفر منه نفرتها من تلك فليتأمل
قال وجاء أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد قطع وعرف أن الناس تكذبه أى وما أحب أن يكتم ما هو دليل على قدرة الله تعالى وما هو دليل على علو مقامه صلى الله عليه وسلم الباعث على اتباعه فقعد صلى الله عليه وسلم حزينا فمر به عدو الله أبو جهل فجاء حتى جلس إليه صلى الله عليه وسلم فقال كالمستهزىء هل كان من شيء قال نعم أسرى بى الليلة قال إلى أين قال إلى بيت المقدس قال ثم أصبحت بين ظهرانينا قال نعم قال فلم ير أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه قال أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم ما حدثتنى قال نعم قال يا معشر بنى كعب بن لؤى فانقضت إليه المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما فقال حدث قومك بما حدثتنى به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنى أسرى بى الليلة قالوا إلى أين قال إلى بيت المقدس الحديث انتهى فنشر لى رهط من الأنبياء منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام وصليت بهم وكلمتهم فقال أبو جهل كالمستهزىء صفهم لى فقال صلى الله عليه وسلم أما عيسى عليه الصلاة والسلام ففوق الربعة ودون الطويل أى لا طويل ولا قصير عريض الصدر ظاهر الدم أى لونه أحمر وفى رواية يعلوه حمرة كأنما يتحادر من لحيته الجمان وفى رواية كأنه خرج من ديماس أى من حمام وأصله الكن الذى يخرج منه الإنسان وهو عرقان وأصله الظلمة يقال ليل دامس والحمام لفظ عربى وأول واضع له الجن وضعته لسيدنا سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام وقيل الواضع له بقراط وقيل شخص سابق على بقراط استفاده من رجل كان به تعقيد العصب فوقع في ماء حار في جب فسكن فصار يستعمله حتى برىء
وجاء من طرق عديدة كلها ضعيفة لكن يقوى بعضها بعضا إن سليمان عليه الصلاة والسلام لما دخله ووجد حره وغمه قال أواه من عذاب الله لان دخول الحمام يذكر النار لأن الحمام أشبه شىء بجهنم لان النار أسفله والسواد والظلمة أعلاه وقد قيل خير الحمام ماقدم بناؤه واتسع فناؤه وعذب ماؤه قال بعضهم ويصير قديما بعد سبع سنين قال بعضهم ولم يعرف الحمام فى بلاد الحجاز قبل البعثة وإنما عرفه الصحابة بعد موته صلى الله عليه وسلم بعد أن فتحوا بلا د العجم
وفيه أن فى البخارى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون بيتا يقال له الحمام قالوا يا رسول الله إنه يذهب بالدرن وينفع المريض
قال فاستتروا وفى رواية أنه لما قال صلى الله عليه وسلم اتقوا بيتا يقال له الحمام فقالوا يا رسول الله إنه يذهب بالدرن وينفع المريض الوسخ ويذكر النار قال إن كنتم لا بد فاعلين فمن دخله فليستتر وهو صريح فى أن الصحابة رضى الله تعالى عنهم عرفوه فى زمنه صلى الله عليه وسلم إلا أن يقال جاز أن يكونوا عرفوه من غيرهم بهذا الوصف لهم والمنفى فى كلام هذا البعض معرفتهم له بالدخول فيه ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم بيتا يقال له الحمام وقوله صلى الله عليه وسلم ستفتح عليكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتا يقال لها الحمامات
وأما ما جاء عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم دخل حمام الجحفة فلا يرد لأنه على تقدير صحته فالمراد به أنه محل للاغتسال فيه لا بالهيئة المخصوصة وكذا لا يرد مافى معجم الطبرانى الكبير عن أبى رافع أنه قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بموضع فقال نعم موضع الحمام هذا فبنى فيه حمام لجواز أن يكون بنى ذلك بعد موته صلى الله عليه وسلم فهو من أعلام نبوته قال بعضهم ولعله قال ذلك لقبح الموضع أى فقول بعضهم ويكفى ذلك فى فضيلة الحمام ليس فى محله
وفيه أن هذا البعض لم يعول فى الفضيلة على هذا فقط بل عليه وعلى ما رواه البخارى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما الذى فيه لأنه يذهب بالدرن وينفع المريض
ولايرد أيضا مافى مسند أحمد عن أم الدرداء رضى الله تعالى عنها أنها خرجت من الحمام فلقيها رسول اله صلى الله عليه وسلم فقال لها من أين يا أم الدرداء قالت من الحمام لأن فى سنده ضعيفا ومتروكا ولأنه يجوز أن يكون المراد به أنه محل الاغتسال لا أنه المبنى على الهيئة المخصوصة كما تقدم وبه يجاب أيضا عما فى مسند الفردوس إن صح عن ابن عمر رضى اله تعالى عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما وقد خرجا من الحمام طاب حمامكما
قال ابن القم ولم يدخل المصطفى صلى الله عليه وسلم حماما قط ولعله ما رآه بعينيه هذا كلامه وعن فرقد السنجى أنه ما دخل الحمام نبى قط ويشكل عليه ماتقدم عن سليمان عليه الصلاة والسلام
واعترض بعضهم قول ابن القيم لعله صلى الله عليه وسلم مارأى الحمام بعينه بأنه صلى الله عليه وسلم دخل الشام وبها حمامات كثيرة فيبعد أنه ما رأها نعم لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم دخل شيئا منها
وفيه أنه قد يقال هو صلى الله عليه وسلم لم يدخل بلاد الشام إلا بصرى وجاز أن لا يكون بها حمام حين دخوله صلى الله عليه وسلم إليها
وفى الطبرانى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما مرفوعا شر البيوت الحمام تعلو فيه الأصوات وتكشف فيه العورات فمن دخله لا يدخله إلا مستترا ورجاله رجال الصحيح إلا شخص منهم فيه مقال وما أحسن قول الإمام الغزالى ورد نعم البيت الحمام يطهر البدن ويذهب الدرن ويذكر النار وبئس البيت الحمام يبدى العورة ويذهب الحياء فهذا تعرض لأنفه وذلك تعرض لفائدته ولا بأس بطلب الفائدة مع التحرز عن الآفة
والحاصل أن الحمام تعتريه الأحكام الخمسة فيكون واجبا وحراما ومندوبا ومكروها ومباحا والاصل فيه عندنا معاشر الشافعية الإباحة للرجال مع ستر العورة مكروه للنساء مع ستر العورة حيث لا عذر وهو محمل ما جاء من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم فلا يدخل الحمامات ومع عدم ستر العورة حرام وهو محمل ما جاء الحمام حرام على نساء أمتى
وأول من اتخذ الحمام فى القاهرة العزيز ابن المعز العبيدى أحد الفواطم قال بعضهم ليس فى شأن الحمام ما يعول عليه إلا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم فى صفة عيسى عليه الصلاة والسلام كأنما خرج من ديماس
وقال غيره أصح حديث فى هذا الباب حديث اتقوا بيتا يقال له الحمام فمن دخله فليستتر وقال ابن عمر فى وصف عيسى عليه الصلاة والسلام إنما هو آدم وحلف بالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل فى عيسى إنه أحمر وإنما قال آدم وإنما اشتبه على الراوى وأجاب الإمام النووى بأن الراوى لم يرد حقيقة الحمرة بل ما قاربها أى والحمرة المقاربة لها أى للأدمة يقال لها أدمة أى كما يقال لها حمرة فلا منافاة قال صلى الله عليه وسلم جاعد الشعر أى فى شعره تثن وتكسر
أقول ينبغى حمل جعد الذى جاء فى بعض الروايات وإذا هو بعيسى جعد على هذا ثم رأيت النووى قال قال العلماء المراد بالجعد هنا جعوده الجسم وهو اجتماعه واكتنازه وليس المراد جعودة الشعر فليتأمل والله أعلم تعلوه صهبة أى يعلو شعره
شقرة كأنه عروة بن مسعود الثقفى أى رضى الله تعالى عنه فإنه بعد انصرافه صلى الله عليه وسلم من الطائف لحق به قبل أن يدخل المدينة وأسلم ثم جاء إلى قومه ثقيف يدعوهم إلى الإسلام فقتلوه وقال صلى الله عليه وسلم فى حقه إن مثله فى قومه كصاحب يس كما سيأتى ذلك
وأما موسى عليه الصلاة والسلام فضخم آدم أى أسمر ومن ثم كان خروج يده بيضاء مخالفا لونها لسائر لون جسده آية طويل كأنه من رجال شنوءة طائفة من اليمن أى ينسبون إلى شنوءة وهو عبد الله بن كعب من أولاد الأزد لقب بذلك لشنآن كان بينه وبين اهله وقيل لأنه كان فيه شنوءة وهو التباعد من الأدناس وفى رواية كأنه من رجال أزدعمان هو أبو حى من اليمن وعمان هذه بضم العين المهملة وتخفيف الميم بلدة باليمن سميت بذلك لأنه نزلها عمان بن سنان من ولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام زأما عمان بفتح العين وتشديد الميم فيلدة بالشام سميت بذلك لأن عمان بن لوط كان سكنها وكما يقال أزدعمان يقال أزد شنوءة ورجال الأزدمعروفون بالطول
قال صلى الله عليه وسلم كثير الشعر غائر العينين متراكم الأسنان مقلص الشفتين خارج اللثة أى وهو اللحم الذى حول الأسنان عابس وأما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فوالله إنه لأشبه الناس بى خلقا وخلقا وفى رواية لم أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه يعنى نفسه صلى الله عليه وسلم فضجوا وأعظموا ذلك وصار بعضهم يصفق وبعضهم يضع يده على رأسه تعجبا فقال المطعم بن عدى إن أمرك قبل اليوم كان أمما أى يسيرا غير قولك اليوم وأنا أشهد أنك كاذب نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا شهرا ومنحدرا شهرا أتزعم أنك أتيته فى ليلة واحدة واللات والعزى لا أصدقك وما كان هذا الذى تقول قط وقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه يا مطعم بئس ماقلت لابن أخيك جبهته أى استقبلته بالمكروه وكذبته أنا أشهد أنه صادق وفى رواية حين حدثهم بذلك ارتد ناس كانوا أسلموا أى وحينئذ فقول المواهب فصدقه الصديق وكل من آمن بالله فيه نظر إلا أن يراد من ثبت على الإسلام
وفى رواية سعى رجال من المشركين إلى أبى بكر رضى الله تعالى عنه فقالوا هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس قال أوقد قال ذلك
قالوا نعم قال لئن قال ذلك لقد صدق قالوا تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح قال نعم إنى لاصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه فى خبر السماء فى غدوته أى وهى ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس وروحة أى وهى اسم للوقت من الزوال إلى الليل أى وهذا تفسير لهما بحسب الأصل وإلا فالمراد أنه ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض فى ساعة واحدة من ليل أو نهار فأصدقه فهذا أى مجىء الخبر له من السماء بواسطة الملك أبعد مما تعجبون منه أى وحينئذ يجوز أن يكون قول أبى بكر للمطعم ما تقدم كان بعد هذا القول أى قاله بعد أن اجتمع به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقود بلغته مقالته فلا مخالفة بين الروايتين وإلى إسرائه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وتحديثه قريشا بذلك أشار صاحب الهمزية بقوله ** حظى المسجد الحرام بممشا ** هـولم ينس حظه إيلياء ** ** ثم وافى يحدث الناس شكرا ** إذ أتته من ربه النعماء **
أى جميع المسجد الحرام حصل له الحظ الأوفر بممشاه صلى الله عليه وسلم فيه ففضل سائر البقاع ولم ينس حظه من ممشاه صلى الله عليه وسلم بيت المقدس بل شرفه الله تعالى بمشيه فيه أيضا ففضل على ما عدا المسجدين أى مسجد مكة ومسجد المدينة ثم وافى صلى الله عليه وسلم مكة يحدث الناس لأجل قيامه بالشكر لله تعالى أو حال كونه شاكرا له تعالى وقت أو لأجل أن أتته من ربه النعماء فى تلك الليلة
ثم قال المطعم يا محمد صف لنا بيت المقدس أراد بذلك إظهار كذبه وقيل القائل له ذلك أبو بكر قال له صفه لى فإنى قد جئته أراد بذلك إظهار صدقه صلى الله عليه وسلم لقوله فقال دخلته ليلا وخرجت منه ليلا فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فصوره فى جناحه أى جاء بصورته ومثاله فى جناحه فجعل صلى الله عليه وسلم يقول باب منه كذا فى موضع كذا وباب منه كذا فى موضع كذا وأبو بكر رضى الله تعالى عنه يقول صدقت أشهد انك رسول الله حتى أتى على أوصافه أى ومعلوم أن من ذهب بيت المقدس من قريش يصدق على ذلك أيضا
وفى رواية لما كذبتنى قريش أى وسألتنى عن اشياء تتعلق ببيت المقدس لم أثبتها أى قالوا له كم للمسجد من باب فكربت كربا شديدا لم أكرب مثله قط قمت فى الحجر
فجلى الله عزوجل لى بيت المقدس أى وجلى بتشديد اللام وربما خففت كشفه لى أى بوجود صورته ومثاله فى جناح جبريل
وفى رواية فجىء بالمسجد أى بصورته وأنا أنظر إليه حتى وضع أى بوضع محله الذى هو جناح جبريل فلا مخالفة بين الروايات وهذا من باب التمثيل ومنه رؤية الجنة والنار فى عرض الحائط لا من باب طى المسافة وزوى الأرض ورفع الحجب المانعة من الاستطراق الذى ادعى الجلال السيوطى أنه أحسن ما يحمل عليه حديث رفع بيت المقدس حتى رآه النبى صلى الله عليه وسلم بمكة حال وصفه إياه لقريش صبيحة الإسراء إذ ذلك لا يجامع مجىء صورته فى جناح جبريل وإنما قلنا إن ذلك من باب التمثيل لأن من المعلوم أن أهل بيت المقدس لم يفقدوه تلك الساعة من بلدهم فرفعه إنما هو برفع محله الذى هو جناح جبريل
ثم رأيت ابن حجر الهيتمى قال الأظهر أنه رفع بنفسه كما جىء بعرش بلقيس إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فى اسرع من طرفة عين ولك أن تتوقف فيه فان عرش بلقيس فقد بخلاف بيت المقدس وكان ذلك التجلى عند دار عقيل وتقدم أنها عند الصفا وأنها استمرت فى يد أولاد عقيل إلى أن آلت إلى يوسف أخى الحجاج وأن زبيدة أو الخيزران جعلتها مسجدا لما حجت كما تقدم وتقدم مافيه قال صلى الله عليه وسلم فطفقت أى جعلت أخبرهم عن آياته أى علاماته وأنا أنظر إليه أى وذلك قبل أن تحول الأبنية بين الحجرتلك الدار أى لقوله صلى الله عليه وسلم فقمت فى الحجر وهم يصدقونه صلى الله عليه وسلم على ذلك
ومن ثم قيل إن حكمة تخصيص الإسراء إلى المسجد الأقصى أن قريشا تعرفه فيسألونه عنه فيخبرهم بما يعرفونه مع علمهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيت المقدس قط فتقوم الحجة عليهم وكذلك وقع
وأما قول المواهب ولهذا لم يسألوه صلى الله عليه وسلم عما رأى أى فى السماء لأنهم لا عهد لهم بذلك يقتضى سياقه أنه أخبرهم بالمعراج عند إخباره لهم بالإسراء وسيأتى ما يخالفه على أنه سيأتى أنه قيل إن المعراج كان بعد الإسراء فى ليلة أخرى وقيل فى حكمة ذلك أيضا أن باب السماء الذى يقال له مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس فيحصل العروج مستويا من غير تعويج
قال الحافظ ابن حجر وفيه نظر لورود أن فى كل سماء بيتا معمورا وأن الذى فى السماء الدنيا حيال الكعبة فكان المناسب أن يصعد من مكة ليصل إلى البيت المعمور من غير تعويج هذا كلامه ويقال عليه وإن سلم ذلك لكن لم يكن الباب فى تلك الجهة فإن ثبت أن فى السماء بابا يقابل الكعبة اتجه سؤاله
قالت نبعة جارية أم هانىء فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ يا أبا بكر إن الله تعالى قد سماك الصديق أى ومن ثم كان على رضى الله تعالى عنه يحلف بالله تعالى إن الله تعالى أنزل اسم أبى بكر من السماء الصديق
وأما ما رواه إسحاق بن بشر بسنده إلى أبى ليلى الغفارى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سيكون بعدى فتنة فإذا كان ذلك فالزموا على بن أبى طالب فإنه أول من يرانى وأول من يصافحنى يوم القيامة وهو الصديق الأكبر وهو فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل وهو يعسوب المؤمنين والمال يعسوب المنافقين قال فى الاستيعاب إسحاق بن بشر لا يحتج بنقله إذا انفرد لضعفه ونكارة أحاديثه هذا كلامه وفى مسند البزار بسند ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلى بن أبى طالب أنت الصديق الأكبروأنت الفاروق الذى يفرق بين الحق والباطل
وفى رواية أن كفار قريش لما أخبرهم صلى الله عليه وسلم بالإسراء إلى بيت المقدس ووصفه لهم قالوا له ما آية ذلك يا محمد أى ما العلامة الدالة على هذا الذى أخبرت به فإنا لم نسمع بمثل هذا قط أى هل رأيت فى مسراك وطريقك ما نستدل بوجوده على صدقك أى لأن وصفك لبيت المقدس يحتمل أن تكون حفظته عمن ذهب إليه قال صلى الله عليه وسلم آية ذلك أنى مررت بعير بنى فلان بوادى كذا فأنفرهم أى أنفر عيرهم حس الدابة يعنى البراق فند لهم بعير أى شرد فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام ثم أقبلت حتى إذا كنت بمحل كذا مررت بعير بنى فلان فوجدت القوم نياما ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه وشربت مافيه ثم غطيت عليه كما كان أى وفى كلام بعضهم فعثرت الدابة يعنى البراق فقلب بحافره القدح الذى فيه الماء الذى كان يتوضأ به صاحبه فى القافلة وشرب الماء الذى للغير جائز لأنه كان عند العرب كاللبن مما يباح لكل مجتاز من أبناء السبيل على أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن له أن يأخذ ما يحتاج إليه من مالكه المحتاج إليه ويجب على مالكه حينئذ بذله وأما الجواب عن ذلك
بأنه مال حربى غير صحيح لأن هذا كان قبل مشروعية الجهاد ومع عدم مشروعيته لا يحل مال أهل الحرب كما لا يحل قتالهم لأن الواجب حينئذ مسالمتهم ولاتتم إلا بترك التعرض لأموالهم كنفوسهم قاله ابن حجر فى شرح الهمزية لكن فى قطعة التفسير للجلال المحلى فى تفسير قوله تعالى فرددناه إلى أمه كى تقر عينها أن أمه أرضعته بأجرة وساغ لها أخذها لأنها مال حربى أى من مال فرعون إلا أن يقال ذاك أى أخذ مال الكافر كان جائزا فى شريعتهم قال صلى الله عليه وسلم وآية ذلك أى علامته المصدقة لما أخبر به صلى الله عليه وسلم أن عيرهم الآن تصوب من الثنية يقدمها جمل أورق وهو ما بياضه إلى سواد وهو أطيب الإبل لحما عند العرب وأخسها عملا عندهم أي ليس بمحمود عندهم في عمله وسيره عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء أى فيها بياض وسواد كما تقدم فابتدر القوم الثنية فأول مالقيهم الجمل الأورق عليه الغرارتان فسألوهم عن الإناء وعن نفار العير وعن ند البعير وعن الشخص الذى دلهم عليه فصدقوا قوله
أقول قد علم أن العير التى نفرت وند منها البعير ودلهم عليه مر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى الشام والعير التى كان بها الإناء الذى شربه صلى الله عليه وسلم مر عليها وهو راجع إلى مكة وهى التى صوبت من الثنية وحينئنذ لا يحسن سؤال أهلها عما وقع لأهل تلك العير تصديقهم له صلى الله عليه وسلم فيما أخبر إلا أن يقال يجوز أن تكون هذه العير التى مر عليها صلى الله عليه وسلم فى العود اجتمعت فى عودها بتلك العير الذاهبة إلى الشام وأخبروهم بما ذكر والله تعالى أعلم
وفى رواية قالوا يا مطعم دعنا نسأله عما هو أغنى لنا عن بيت المقدس أى فقولهم ذلك كان بعد أن أخبرهم بيت المقدس يا محمد أخبرنا عن عيرنا أى عيراتنا الذاهبة والآتية هل لقيت منها شيئا فقال نعم أتيت على عير بنى فلان بالروحاء أى وهو محل قريب من المدينة أى بينه وبين المدينة ليلتان قد أضلوا ناقة لهم فانطلقوا فى طلبها فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد وإذا قدح ماء فشربت منه فاسألوهم عن ذلك فقالوا هذه واللات والعزى آية أى علامة
أقول وهذه العير هو التى مر صلى الله عليه وسلم عليها فى العود وهى قادمة إلى مكة وفى هذه الرواية زيادة أنهم أضلوا ناقة وتقدم فى تلك الرواية أنه صلى الله عليه
وسلم وجدهم نياما وفى هذه الرواية إنه ليس بها منهم أحد وقد يقال لا مخالفة بين الروايتين لأنه يجوز أن يكون الراوى أسقط منها هذه الزيادة وهى إضلال الناقة وأن قوله صلى الله عليه وسلم ليس بها منهم أحد أى مستيقظ بل بعضهم ذهب فى طلب تلك الناقة وبعضهم كان نائما لكن فى هذه الرواية انه صلى الله عليه وسلم مر عليها وهى بالروحاء وهو لا يناسب قوله فى تلك إنها الآن تصوب من الثنية لأن كونها تأتى من الروحاء إلى مكة فى ليلة واحدة من أبعد البعيد إلا أن يقال إن الروحاء مشتركة بين المحل المعروف المتقدم ذكره ومحل آخر قريب من مكة والله أعلم
ثم قال صلى الله عليه وسلم فانتهيت إلى عير بنى فلان فنفرت منها أى من الدابة التى هى البراق الإبل أى التى هى العير وبرك منها جمل أحمر عليه جوالق مخطط ببياض لا أدرى أكسر البعير أم لا وهذه الرواية يحتمل أنها ثالثة ويمكن أن تكون هى الأولى أسقط من تلك قوله فى هذه وبرك منها جمل إلى آخره كما أسقط من هذه قوله فى تلك فند لهم بعير
وفى رواية ثم انتهيت إلى عير بنى فلان بمكان كذا وكذا فيها جمل عليه غرارتان غرارة سوداء وغرارة بيضاء فلما حاذت العير نفرت وصرع ذلك البعير وانكسر أى وأضلوا بعير لهم قد جمعه فلان أى بدلالتى لهم عليه فسلمت عليهم فقال بعضهم هذا صوت محمد فاسألوهم عن ذلك فعلم أن هذه الرواية والتى قبلها هى الأولى غاية الأمر أن زيد فى هذه قوله فسلمت عليهم فقالوا هذه واللات والعزى آية قال صلى الله عليه وسلم ثم انتهيت إلى عير بنى فلان بالأبواء أى وهو كما تقدم غير مرة أنه محل بين مكة والمدينة يقدمها جمل أورق أى بياضه إلى سواد كما تقدم هاهى تطلع عليكم من الثنية فانطلقوا لينظروا فوجدوا الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم فقالوا صدق الوليد فيما قال أى فى قوله إنه ساحر وأنزل الله تعالى وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس وهذا يدل على أن المراد رؤيا الإسراء وأنها رؤيا العين وأنه يقال في مصدرها رؤيا كما يقال رؤية بالتاء خلافا لمن أنكر ذلك إذ لو كان رؤيا الإسراء مناما لما أنكر عليه فى ذلك أى وقيل نزلت وقد رأى النبى صلى الله عليه وسلم ولد الحكم بن أبى العاص أبى مروان وهم بنو أمية على منبره كأنهم القردة وقد ورد رأيت بنى مروان يتعاورون منبرى وفى لفظ ينزلون على منبرى نزو القردة زاد وفى رواية فما استجمع
صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى مات وأنزل الله تعالى فى ذلك وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس وفى رواية فنزل إنا أعطيناك الكوثر وفى رواية فنزل إنا أنزلناه فى ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر قال بعضهم أى خير من ألف شهر يملكها بنو أمية فإن مدة ملك بنى أمية كانت أثنتين وثمانين سنة وهى ألف أشهر وكان جميع من ولى الخلافة منهم أربعة عشر ر جلا أولهم معاوية وآخرهم مروان بن محمد
وقد قيل لبعضهم ما سبب زوال ملك بنى أمية مع كثرة العدد والعدد والأموال والموالى فقال أبعدوا أصدقائهم ثقة بهم وقربوا أعداءهم جهلا منهم فصار الصديق بالإبعاد عدوا ولم يصر العدو صديقا بالتقريب له وحديث رأيت بنى مروان إلى آخره قال الترمذى هو حديث غريب وقال غيره منكر قال صلى الله عليه وسلم ورأيت بنى العباس يتعاورون منبرى فسرنى ذلك وقيل إن هذه الآية أى آية وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس إنما نزلت فى رؤيا الحديبية حيث راى النبى صلى الله عليه وسلم أنه وأصحابه يدخلون المسجد محلقين رؤوسهم ومقصرين ولم يوجد ذلك بل صدهم المشركون وقال بعض الصحابة له صلى الله عليه وسلم ألم تقل إنك تدخل مكة آمنا قال بلى أفقلت لكم من عامى هذا قالوا لا قال فهو كما قال جبريل عليه الصلاة والسلام كما سيأتى ذلك فى قصة الحديبية
وقيل إنما نزلت هذه الآية فى رؤيا وقعة بدر حيث أراه جبريل مصارع القوم ببدر فأرى النبى صلى الله عليه وسلم الناس مصارعهم فتسامعت بذلك قريش فخروا منه أى ولا مانع من تعدد نزول هذه الآية لهذه الأمور فقد يتعدد نزول الآية لتعدد أسبابها
قال ابن حجر الهيتمى إن اتحاد النزول لا ينافى تعدد أسبابه أى وذلك ذا تقدمت الأسباب ويروى أنه عين لهم اليوم الذى تقدم فيه العير أى قالوا له متى تجىء قال لهم يأتوكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل أورق عليه مسح آدم وغرارتان فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون ذلك وقد ولى النهار ولم تجىء حتى كادت الشمس أن تغرب أى دنت للغروب فدعا الله تعالى فحبس الشمس عن الغروب حتى قدم العير أى كما وصف صلى الله عليه وسلم
أقول يجوز أن يكون هذا بالنسبة لبعض العيرات التى مر عليها فلا يخالف ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال فى بعض العيرات إنها الآن تصوب من الثنية وإلى حبس الشمس عن المغيب أشار الإمام السبكى فى تائيته بقوله ** وشمس الضحى وقت مغيبها ** فما غربت بل وافقتك بوقفة **
وجاء فى بعض الروايات أنها حبست له صلى الله عليه وسلم عن الطلوع ففى رواية أن بعضهم قال له أخبرنا عن عيرنا قال مررت بها بالتنعيم قالوا فما عدتها وأحمالها وعدة من فيها وقال تطلع عند طلوع الشمس فحبس الله تعالى الشمس عن الطلوع حتى قدمت العير
فلما خرجوا لينظروا فإذا قائل يقول هذه الشمس قد طلعت وقال آخر وهذه العير قد أقبلت فيها فلان وفلان كما أخبر محمد صلى الله عليه وسلم وعلى تقدير صحة هذه الروايات يجاب عنها بمئل ما تقدم والله أعلم وحبس الشمس وقوفها عن السير أى عن الحركة بالكلية وقيل بطء حركتها وقيل ردها إلى ورائها قالوا ولم تحبس له صلى الله عليه وسلم إلا ذلك اليوم وما قيل إنها حبست له صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن الغروب أيضا حتى صلى العصر معارض بأنه صلى الله عليه وسلم صلى العصر بعد غروب الشمس وقال شغلونا عن الصلاة الوسطى كما سيأتى ثم رأيت فى كلام بعضهم ما يؤخذ منه الجواب وهو أن وقعة الخندق كانت أياما فحبست الشمس فى بعض تلك الأيام إلى الإحمرار والاصفرار وصلى حينئذ وفى بعضها لم تحبس بل صلى بعد الغروب قال ذلك البعض ويؤيده أن راوى التأخير إلى الغروب غير راوى التأخير إلى الحمرة والصفرة
وجاء فى رواية ضعيفة أن الشمس حبست عن الغروب لداود عليه الصلاة السلام وذكرى البغوى أنها حبست كذلك لسليمان عليه الصلاة والسلام
أى فعن على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه أن الله أمر الملائكة الموكلين بالشمس حتى ردوها على سليمان حتى صلى العصر فى وقتها وهذا رد لها لا حبس لها عن غروبها الذى الكلام فيه والذى فى كلام بعضهم إنما ضرب سيدنا سليمان سوق خيله واعناقها حيث عرضها عليه عن صلاة العصر حتى كادت الشمس أن تغرب ولم يتصدق بها مبادرة
لتعظيم أمر الله تعالى بالصلاة فى وقتها لأن التصديق يحتاج إلى صرف زمن في دفعها وأخذها وحبست كذلك ليوشع ابن أخت موسى عليه الصلاة والسلام وهو ابن نون بن يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام أى وهو الذى قام بالأمر بعد موسى لأن موسى عليه الصلاة والسلام لما وعده الله تعالى أن يورثه وقومه بنى إسرائيل الأرض المقدسة التى هى أرض الشام وكان سكنها الكنعانيون الجبارون وأمر بمقاتلة أولئك الجبارين وهم العماليق سار بمن معه وهم ستمائة ألف مقاتل حتى نزل قريبا من مدينتهم أريحا فبعث إليهم اثنى عشر رجلا من كل سبط واحدا ليأتوه بخبر القوم فدخلوا المدينة فرأوا أمرا هائلا من عظم أجسادهم فقد ذكر بعضهم أنه رأى فى فجاج أى نقرة عين رجل منهم ضبعة رابضة أى جالسة هى وأولادها حولها والفجاج فى الأصل الطريق الواسع واستظل سبعون رجلا من قوم موسى فى قحف رجل منهم أى فى عظم أم رأسه وفى العرائس وكان لا يحمل عنقود عنبهم الا خمسة أنفس منهم ويدخل فى قشرة الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربعة وإن رجلا من العماليق أخذ الاثنى عشر ووضعهم فى كمه مع فاكهة كانت فيه وجاء بهم إلى ملكهم فسألهم فقالوا نحن عيون موسى فقال ارجعوا وأخبروه وفى العرائس أنه عوج بن عنق إحدى بنات آدم عليه السلام من صلبه ويقال إنها أول بغى فى الأرض
وفى العرائس أنه لما لقيهم كان على رأسه حزمة حطب وأخذ الاثنى عشر فى حجره وانطلق بهم لامرأته وقال انظرى إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها وقال لها ألا أطحنهم برجلى فقالت امرأته لا ولكن خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل ذلك فلما رجعوا أخبروا موسى عليه الصلاة والسلام فقال اكتموا خوفا من بنى إسرائيل أن يفشلوا ويرتدوا عن موسى فلم يفعلوا وأخبر كل واحد سبطه بشدة ما رآه من أمرهم الهائل ففشلوا وجنبوا عن القتال إلا رجلان لم يخبرا سبطيهما وهما يوشع بن نون من سبط يوسف وكالب بن يوقنا من سبط بنيامين وقالوا لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون فدعا عليهم وقال رب إنى لا املك إلا نفسى وأخى أى فإنه لم يبق معه موافق يثق به غير أخيه هرون وكالب ويوشع وهما المذكوران بقوله تعالى قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون لأن الله منجز وعده وإنا قد
خبرناهم فوجدنا أجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة فلا تخشوهم { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } وحينئذ يكون مراد موسى بقوله وأخى من واخاه ووافقه لا خصوص هرون ثم دعا بقوله فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين اى باعد بيننا وبينهم فضرب عليه التيه فتاهوا أى تحيروا فى ستة فراسخ من الأرض يمشون النهار كله ثم يمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا وأنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى لأنهم شغلوا عن المعاش وأبقيت عليهم ثيابهم لا تخلق ولا تتسخ وتطول مع الصغير إذا طال وظلل عليهم الغمام من الشمس ولما رأى موسى عليهم الصلاة والسلام ما بهم من التعب ندم على دعائه عليهم
وفى حياة الحيوان لما عبد بنو إسرائيل العجل أربعين يوما عوقبوا بالتيه أربعين سنة لكل يوم سنة فأوحى الله تعالى له فلا تأس أى لا تحزن على القوم الفاسقين أى الذين فسقوا أى خرجوا عن أمرك
قال في أنس الجليل وفى زمن الاسلام منزل حكام الشرطة فإنها الآن قرية من قرى بيت المقدس ثم مات وهرون بالتيه مات هرون أولا ثم موسى بعد سنتين وفى ذلك رد على من قال إن قبر هرون أخى موسى بأحدكما سيأتى وفيه رد أيضا على من يقول موسى مات قبل هرون وأنه دفنه وقيل إن هرون رأى سريرا فى بعض الكهوف فقام عليه فمات وإن بنى إسرائيل قالوا قتل موسى هرون حسدا له على محبة بنى إسرائيل له فقال لهم موسى ويحكم كان أخى ووزيرى أفترنى أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا فنزل السرير الذى قام عليه فمات حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه وعلى الأول أن موسى انطلق ببنى إسرائيل إلى قبره ودعا الله أن ينجيه فأحياه الله تعالى وأخبرهم أنه مات ولم يقتله موسى وعند ذلك قام بالأمر يوشع بن نون المذكور أى فإن موسى لما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبى وإن الله أمره بقتال الجبارين فسار بهم يوشع وقاتل الجبارين وكان يوم الجمعة ولما كاد أن يفتحها كادت الشمس أن تغرب فقال للشمس أيتها الشمس إنك مأمورة وأنا مأمور بحرمتى عليك إلا ركدت أى مكثت ساعة من النهار
وفى رواية قال اللهم احبسها على فحبسها الله تعالى حتى افتتح المدينة أى قال
ذلك خوفا من دخول السبت المحرم عليهم فيه المقاتلة وقد عبر الإمام السبكى عن حبسها ليوشع نردها فى قوله ** وردت عليك الشمس بعد مغيبها كما أنها قدما ليوشع ردت **
ولولا قوله بعد مغيبها لما أشكل وأمكن أن يراد بالرد وقوفها وعدم غروبها ومن ثم ذكر ابن كثير فى تاريخه أن فى حديث رواه الإمام أحمد وهو على شرط البخارى إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع عليه السلام ليالى سار إلى بيت المقدس وفيه دلالة على أن الذى فتح بيت المقدس هو يوشع بن نون لا موسى وأن حبس الشمس كان في فتح بيت المقدس لا في فتح أريحا هذا كلامه وهو خلاف السياق
وفى العرائس أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يمت فى التيه بل سار ببنى إسرائيل إلى أريحا وعلى مقدمته يوشع فدخل يوشع وقتل الجبارين ثم دخلها موسى عليه الصلاة والسلام ببنى إسرائيل فأقام فيها ما شاء الله ثم قبض ولا يعلم موضع قبره من الخلق أحد قال وهذا أولى الأقاويل بالصدق وأقربها إلى الحق وذكر بعد ذلك أن موسى لما حضرته الوفاة قال يا رب أدننى من الأرض المقدسة برمية حجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أنى عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر
قال ابن كثير قوله صلى الله عليه وسلم لم تحبس لبشر يدل على أن هذا من خصائص يوشع عليه الصلاة والسلام فيدل على ضعف الحديث الذى رويناه أن الشمس رجعت أى بعد مغيبها فى خيبركما سنذكره هنا حتى صلى علي بن أبى طالب العصر بعد ما فاتته بسبب نوم النبى صلى الله عليه وسلم على ركبته وهو حديث منكر ليس فى شئ من الصحاح ولا الحسان وهو مما تتوفر الدواعى على نقله وتفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها هذا كلامه وسيأتى قريبا ما فيه على أن قوله صلى الله عليه وسلم لم تحبس لبشر أى غيره صلى الله عليه وسلم وقد علمت أن الحبس لها يكون منعا لها عن مغيبها والرد لها يكون بعد مغيبها فليتأمل
وفى كلام سبط ابن الجوزى إن قيل حبسها ورجوعها مشكل لأنها لو تخلفت أو ردت لاختلت الأفلاك ولفسد النظام قلنا حبسها وردها من باب المعجزات ولا مجال للقياس فى خرق العادات
وذكر أنه وقع لبعض الوعاظ ببغداد إذ قعد يعظ بعد العصر صم أخذ فى ذكر فضائل
آل البيت فجاءت سحابة غطت الشمس فظن وظن الناس الحاضرون عنده أن الشمس غابت فأرادوا الانصراف فأشار إليهم أن لا يتحركوا ثم أدار وجهه إلى ناحية الغرب وقال ** لا تغربى يا شمس حتى ينتهى مدحى لآل المصطفى ولنجله ** **
إن كان للمولى وقوفك فليكن هذا الوقوف لولده ولنسله **
فطلعت الشمس فلا يحصى ما رمى عليه من الحلى والثياب هذا كلامه
ولما افتتحوا المدينة التى هى أريحا أصابوا بها أموالا عظيمة وكانوا أى الأمم السابقة إذا أصابوا الغنائم قربوها فتجئ النار تأكلها أى إذا لم يكن فيها غلول كما تقدم فمجئ النار وأكلها دليل على قبولها ولم تحل إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم كما سيأتى فلما أصابوا تلك الغنائم قربوها فلم تجئ إليها النار فقالوا له يا نبى الله ما لها لا تأكل قرباننا قال فيكم الغلول فدعا رأس كل سبط وصافحه فلصق كف واحد منهم فى كف يوشع عليه السلام فقال الغلول فى سبطك فقال كيف أعلم ذلك قال تصافح واحدا بعد واحد فلصقت كفه بكف واحد منهم فسئل فقال نعم رأيت رأس بقرة من ذهب عيناها من ياقوت وأسنانها من لؤلؤ فأعجبتنى فغللتها فجاء بها ووضعها فى الغنيمة فجاءت النار فأكلتها
وذكر البغوى أن الشمس حبست عن الطلوع لموسى عليه الصلاة والسلام كما حبست كذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم وكذا القمر حبس لموسى عليه الصلاة والسلام عن الطلوع له فعن عروة بن الزبير رضى الله تعالى عنه قال إن الله تعالى حين أمر موسى عليه الصلاة والسلام بالمسير ببنى إسرائيل إلى بيت المقدس أمره أن يحمل معه عظام يوسف عليه الصلاة والسلام وأن لا يخلفها بأرض مصر وأن يسير بها حتى يضعها بالأرض المقدسة أى وفاء بما أوصى به يوسف عليه الصلاة والسلام
فقد ذكر أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما أدركته الوفاة أوصى أن يحمل إلى مقابر آبائه فمنع أهل مصر أولياءه من ذلك فسأل موسى عليه الصلاة والسلام عمن يعرف موضع قبر يوسف فما وجد أحدا يعرفه إلا عجوزا من بنى إسرائيل فقالت له يا نبى الله أنا أعرف مكانه وأدلك عليه إن أنت أخرجتنى معك ولم تخلفنى بأرض مصر قال أفعل وفى لفظ إنها قالت أكون معك فى الجنة فكأنه ثقل عليه ذلك فقيل له أعطها طلبتها فأعطاها
وقد كان موسى عليه الصلاة والسلام وعدبنى إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع القمر فدعا ربه أن يؤخر طلوعه حتى يفرغ من أمر يوسف عليه الصلاة والسلام ففعل فخرجت به العجوز حتى أرته أيلة فى ناحية من النيل وفى لفظ فى مستنقعة ماء أى وتلك المستنقعة فى ناحية من النيل فقالت لهم أنضبوا عنها الماء أى ارفعوه عنها ففعلوا قالت احفروا فحفروا وأخرجوه وفى لفظ أنها انتهت به إلى عمود على شاطئ النيل أى فى ناحية منه فلا يخالفه ما سبق فى أصله سكة من حديد فيها سلسلة أى ويجوز أن يكون حفرهم الواقع فى تلك الرواية كان على إظهار تلك السكة فلا مخالفة ووجدوه فى صندوق من حديد وسط النيل فى الماء فاستخرجه موسى عليه الصلاة والسلام وهو فى صندوق من مرمر أى داخل ذلك الصندوق الذى من الحديد فاحتمله
وفى أنس الجليل أن موسى عليه الصلاة والسلام جاءه شيخ له ثلثمائة سنة فقال له يا نبى الله ما يعرف قبر يوسف إلا والدتى فقال له موسى قم معى إلى والدتك فقام الرجل ودخل منزله وأتى بقفة فيها والدته فقال لها موسى ألك علم بقبر يوسف فقالت نعم ولا أدلك على قبره إلا إن دعوت الله تعالى أن يرد على شبابى إلى سبع عشرة سنة ويزيد فى عمرى مثل ما مضى فدعا موسى لها وقال لها كم عمرك قالت له تسعمائة سنة فعاشت ألفا وثمانمائة سنة فأرته قبر يوسف وكان فى وسط نيل مصر ليمر النيل عليه فيصل إلى جميع مصر فيكونون شركاء فى بركته
وأما عود الشمس بعد غروبها فقد وقع له صلى الله عليه وسلم فى خيبر فعن أسماء بنت عميس أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ورأسه فى حجر على ولم يسر عن النبى صلى الله عليه وسلم حتى غربت الشمس وعلى لم يصل العصر أى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أصليت العصر فقال لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إنه كان فى طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس
قالت أسماء فرأيتها طلعت بعد ما غربت
قال بعضهم لا ينبغى لمن سبيله العلم أن يتخلف عن حفظ هذا الحديث لأنه من أجل أعلام النبوة وهو حديث متصل وقد ذكر فى الإمتاع أنه جاء عن أسماء من خمسة طرق وذكرها وبه يرد ما تقدم عن ابن كثير بأنه تفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها وبه يرد على ابن الجوزى حيث قال فيه إنه حديث موضوع بلا شك
لكن فى الامتاع ذكر فى خامس الطرق أن عليا اشتغل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قسمة الغنائم يوم خيبر حتى غابت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا على صليت العصر قال لا يا رسول الله فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس فى المسجد فتكلم بكلمتين أو ثلاثة كأنها من كلام الحبش فارتجعت الشمس كهيئتها فى العصر فقام على فتوضأوصلى العصر ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما تكلم به قبل ذلك فرجعت إلى مغربها فسمعت لها صريرا كالمنشار فى الخشب وذلك مخالف لسائر الطرق إلا أن هذه الطريق فيها حذف والأصل اشتغل مع النبى صلى الله عليه وسلم فى قسمة غنائم خيبر ثم وضع رأسه فى حجر على فما استيقظ حتى غابت الشمس فلا مخالفة
قال وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قبل وصوله إلى بيت المقدس ساروا حتى بلغوا أرضا ذات نخل فقال له جبريل انزل فصل هنا ففعل ثم ركب فقال أتدرى أين صليت قال لا قال صليت بطيبة وإليها المهاجرة وسيأتى ما فيه فى الكلام على الهجرة فانطلق البراق يهوى يضع حافره حيث أدرك طرفه حتى إذا بلغ أرضا فقال له جبريل انزل فصل ههنا ففعل ثم ركب فقال له جبريل أتدرى أين صليت قال لا قال صليت بمدين أى وهى قرية تلقاء غزة عند شجرة موسى سميت باسم مدين بن إباهيم لما نزلها ثم ركب فانطلق البراق يهوى به ثم قال انزل فصل ففعل ثم ركب فقال له أتدرى أين صليت قال لا قال صليت ببيت لحم أى وهى قرية تلقاء بيت المقدس حيث ولد عيسى عليه الصلاة والسلام أى وفى الهدى وقيل إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه ولا يصح عنه ذلك البتة وبينا هو يسير على البراق إذ رأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار كلما التفت رآه فقال له جبريل ألا أعلمك كلمات تقولهن إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه فقال صلى الله عليه وسلم بلى فقال جبريل قل أعوذ بوجه الله الكريم وبكلمات الله التامات التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ماذرأ فى الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن فتن الليل والنهار ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن أي فقال ذلك فانكب لفيه وطفئت شعلته ورأى حال المجاهدين في سبيل الله أى كشف له عن حالهم فى دار الجزاء بضرب مثاله فرأى قوما يزرعون فى يوم أى فى وقت ويحصدونه فى يوم
أى فى ذلك الوقت كما يرشد إليه الحال كلما حصدوا عاد كما كان فقال يا جبريل ما هذا قال هؤلاء المجاهدون فى سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف وما انفقوا من خير فهو يخلفه هذا الثانى هو المناسب لحالهم دون الأول فالأولى الاقتصار عليه إلا أن يدعى أنه صلى الله عليه وسلم شاهد الحصاد والعود العدد المذكور الذى هو سبعمائة مرة على أن المضاعفة المذكورة لا تختص بالمجاهدين فقد جاء كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا أن يقال المراد تكرر الجزاء العدد المذكور للمجاهدين أمر مؤكد لا يكاد يتخلف وفى غيرهم بخلافه
ووجد صلى الله عليه وسلم ريح ماشطة بنت فرعون ووجد داعى اليهود وداعى النصارى فأما الأول فقد رأى عن يمينه داعيا يقول يا محمد انظرنى أسالك فلم يجبه فقال ما هذا يا جبريل فقال داعى اليهود أما إنك لو أجبته لتهودت أمتك أى لتمسكوا بالتوراة والمراد غالب الأمة وأما الثانى فقد رأى عن يساره داعيا يقول يا محمد انظرنى أسألك فلم يجبه فقال ما هذا يا جبريل قال هذا داعى النصارى أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك أى لتمسكت بالإنجيل وحكمة كون داعى اليهود على اليمين وداعى النصارى على اليسار لاتخفى
ورأى صلى الله عليه وسلم حال الدنيا أى كشف له عن حالتها بضرب مثال فرأى امرأة حاسرة عن ذراعيها كأن ذلك شأن المقتص لغيره وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى أى ومعلوم أن النوع الواحد من الزينة يجذب القلوب إليه فكيف بوجود سائر أنواع الزينة فقالت يا محمد انظرنى أسألك فلم يلتفت إليها فقال من هذه يا جبريل قال تلك الدنيا أما إنك لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة ورأى عجوزا على جانب الطريق فقالت يا محمد انظرنى أسالك فلم يلتفت إليها فقال من هذه يا جبريل فقال إنه لم يبق من عمر الدنيا إلا ما بقى من عمر تلك العجوز أى فزينتها لا ينبغى الالتفات إليها لأنها على عجوز شوهاء لم يبق من عمرها إلا القليل ولينظر لم لم يقل تلك الدنيا ولم يبق من عمرها إلى آخره
وفى كلام بعضهم الدنيا قد يقال لها شابة وعجوز بمعنى يتعلق بذاتها وبمعنى يتعلق بغيرها الأول وهو حقيقة أنها من أول وجود هذا النوع الإنسانى إلى أيام إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه سبعة بعدها تسمى الدنيا شابة وفيما بعد ذلك إلى بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم كهلة ومن بعد ذلك إلى يوم القيامة تسمى عجوزا
واعترض بأن الأئمة صرحوا بأن الشباب ومقابله إنما يكون فى الحيوان ويجاب بأن الغرض من ذلك التمثيل
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يقبل الأمانة مع عجزه عن حفظها بضرب مثال فأتى على رجل قد جمع حزمة حطب عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها فقال ما هذا يا جبريل قال هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها ويريد أن يتحمل عليها
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يترك الصلاة المفروضة فى دار الجزاء فأتى على قوم ترضح رءوسهم كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شئ فقال يا جبريل ما هؤلاء قال هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة المكتوبة أى المفروضة عليهم
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يترك الزكاة الواجبة عليه ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ويأكلون الضريع وهو اليابس من الشوك والزقوم ثمر شجر مر له زفرة قيل إنه لايعرف بشجر الدنيا وإنما هو لشجرة من النار وهى المذكورة فى قوله تعالى { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم } أى منبتها فى أصل الجحيم وتقدم الكلام عليها عند الكلام على المستهزئين ويأكلون رضف جهنم أى حجاراتها المحماة لآن الرضف بالضاد المعجمة الحجارة المحماة التى يكوى بها فقال من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم المفروضة عليهم
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال الزناة بضرب مثال ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج فى قدور ولحم نئ أيضا فى قدور خبيث فجعلوا يأكلون من ذلك النئ الخبيث ويدعون النضيج الطيب فقال ما هذا يا جبريل قال هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب فيأتى امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح والمرأة تقوم من عنده زوجها حلالا طيبا فتأتى رجلا خبيثا فتبيت عنده حتى تصبح
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يقطع الطريق بضرب مثال ثم أتى على خشبة لا يمر بها ثوب ولا شئ إلا خرقته فقال ما هذه يا جبريل قال هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه وتلا ولا تقعدوا بكل صراط توعدون
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يأكل الربا أى حالته التي يكون عليها فى دار الجزاء فرأى رجلا يسبح فى نهر من دم يلقم الحجارة فقال له من هذا قال آكل الربا وقد شبهه الله تعالى فى القرآن بقوله { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أى إذا بعث الناس يوم القيامة خرجوا مسرعين من قبورهم إلا أكلة الربا فإنهم لا يقومون من قبورهم إلا مثل قيام الذى يصرعه الشيطان فكلما قاموا سقطوا على وجوههم وجنوبهم وظهورهم كما أن المصروع حاله ذلك أى فهذه حالته فى الذهاب إلى المحشر زيادة على حالته المتقدمة التى تكون فى دارالجزاء
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يعظ ولا يتعظ ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شيء فقال من هؤلاء يا جبريل فقال هؤلاء خطباء الفتنة خطباء أمتك يقولون مالا يفعلون
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال المغتابين للناس فمر على قوم لهم أظفار من نجاس يخدشون وجوههم وصدورهم فقال من هؤلاء يا جبريل فقال هؤلاء الذين يأكلون لحوم لحوم الناس ويقعون فى أعراضهم وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يتكلم بالفحش بضرب مثال فأتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث يخرج فلا يستطيع فقال ما هذا الرجل يا جبريل فقال هذا الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من أحوال الجنة فأتى على واد فوجد ريحا طيبة باردة وريح المسك وسمع صوتا فقال يا جبريل ما هذا قال هذا صوت الجنة تقول يا رب ائتنى بما وعدتنى أى لأنه يجوز أن يكون محل الجنة من السماء السابعة مقابلا لذلك الوادى
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من أحوال النار فأتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا خبيثة فقال ما هذا يا جبريل قال هذا صوت جهنم تقول يا رب ائتنى بما وعدتنى أى وليست جهنم بذلك الوادى كما سيأتى أن الوادى التى هى به هو الذى ببيت المقدس ولعل هذا الوادى مقابل لذلك الوادى وينبغى أن لا يكون هذا هو المراد بما فى الخصائص الصغرى للسيوطى
وخص صلى الله عليه وسلم باطلاعه على الجنة والنار بل المراد بذلك رؤية ذلك فى المعراج وعند وصوله صلى الله عليه وسلم إلى الوادى الذى ببيت المقدس بالنسبة للنار ورأى صلى الله عليه وسلم الدجال شبيها بعبد العزى بن قطن أى وهو ممن هلك فى الجاهلية أى قبل البعثة
ومر صلى الله عليه وسلم على شخص متنحيا على الطريق يقول هلم يا محمد قال جبريل سر يا محمد قال من هذا قال هذا عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه اه
وفى رواية لما وصلت بيت المقدس وصلت فيه ركعتين أى إماما بالأنبياء والملائكة أخذنى العطش أشد ما أخذنى فأتيت بإناءين فى إحداهما لبن وفى الأخرى عسل فهدانى الله تعالى فأخذت اللبن فشربت وبين يدى شيخ متكئ على منبر له فقال أى مخاطبا لجبريل أخذ صاحبك الفطرة إنه لمهدى فلما خرجت منه جائنى جبريل عليه الصلاة والسلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل اخترت الفطرة أى الاستقامة التى سببها الإسلام ومنه كل مولود يولد على الفطرة أى على الإسلام
وفى رواية أخرى فأتى بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها فأتى بإناء منها فيه ماء فشرب منه قليلا وفى رواية أنه لم يشرب منه شيئا وأنه قيل له لو شربت الماء أى جميعه أو بعضه لغرقت أمتك أى وفى رواية أنه سمع قائلا يقول إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته ثم رفع إليه إناء آخر فيه لبن فشرب منه حتى روى
أى وفى روايه سمع قائلا يقول إن أخذ اللبن هدى وهديت أمته ثم رفع إليه إناء فيه خمر فقيل له اشرب فقال لا أريده فقد رويت فقال له جبريل إنها ستحرم على أمتك أى بعد إباحتها لهم
وفى رواية أنه قيل له لو شربت الخمر لغويت أمتك ولم تتبعك أى لايكون على طريقتك منهم إلا قليل أى وفى رواية أنه سمع قائلا يقول إن أخذ الخمر غوى وغويت أمته
أقوم وهذه الرواية محتملة لأن تكون وهو فى بيت المقدس ولأن تكون وهو خارج عنه ومن هذا كله تعلم أنه تكرر عليه عرض اللبن والخمر داخل بيت المقدس
وخارجه ولا مانع من تكرر عرض آنيتى الخمر واللبن قبل خروجه من بيت المقدس وبعد خروجه منه قبل العروج
ولا تعارض بين الإخبار بأن إحداهما كان فيه عسل مع اللبن وبين الإخبار بأن إحداهما كان فيه خمر مع اللبن ولا بين الإخبار بإناءين والإخبار بأوانى ثلاثة لأنه يجوز أن يكون بعض الرواة اقتصر على إناءين ولا بين كون الإناء الثالث كان فيه عسل أو ماء لأنه يجوز أن يكون إحدى الأوانى الثلاثة كان فيها عسل ثم جعل فيها الماء بدل العسل أو مزج العسل به وغلب الماء على العسل أو تكون الأوانى أربعة وبعض الرواة اقتصر
وقد قال ابن كثير مجموع الأوانى أربعة فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التى تخرج من أصل سدرة المنتهى ولكن لم يسقط اللبن وفى رواية بخلاف غيره فإنه تارة ذكر معه الخمر فقط وتارة ذكر معه العسل فقط وتارة ذكر معه الماء والخمر
وعلى الاحتمال الأول يسأل عن سر عدم ذكر جبريل عليه الصلاة والسلام حكمة عدم الشرب من العسل والله أعلم
قال ومر على موسى عليه الصلاة والسلام وهو يصلى فى قبره عند الكثيب الأحمر وهو يقول برفع صوته أكرمته فضلته اه
وفى رواية سمعت صوتا وتذمرا هو بالذال المعجمة الحدة فسلم عليه فرد عليه السلام فقال يا جبريل من هذا قال هذا موسى بن عمران قال ومن يعاتب قال يعاتب ربه فيك قال أو يرفع صوته على ربه والعتاب مخاطبة فيها إدلال وهذا يدل على أن الصوت الذى سمعه كان مشتملا على عتاب وتذمر مع رفعه وفى رواية على من كان تذمره أى حدته قال على ربه قلت أعلى ربه قال جبريل إن الله عز وجل قد عرف له حدته وهذا كما علمت كان كالذى بعده قبل وصوله إلى مسجد بيت المقدس والله أعلم
وجاء وليلة أسرى بى مر بى جبريل على قبر أبى إبراهيم فقال انزل فصل ركعتين قال ومر على شجرة تحتها شيخ وعياله فقال ومن هذا فقال هذا أبوك إبراهيم عليه الصلاة والسلام فسلم عليه فرد عليه السلام فقال من هذا الذى معك يا جبريل فقال هذا ابنك أحمد قال مرحبا بالنبى العربى الأمى ودعا له بالبركة أى فموسى
عرفه فلم يسأل عنه وإبراهيم لم يعرفه فسأل عنه لكن فى السيرة الهاشمية أن موسى سأل عنه أيضا فقال من هذا يا جبريل فقال هذا أحمد فقال مرحبا بالنبى العربى الذى نصح أمته ودعا له بالبركة وقال اسأل لأمتك اليسير والظاهر أن قبر إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان تحت تلك الشجرة أو قريبا منها فلا مخالفة بين الروايتين
وسار صلى الله عليه وسلم حتى أتى الوادى الذى فى بيت المقدس فإذا جهنم تنكشف عن مثل الزرابى أى وهى النمارق أى الوسائد فقيل يا رسول الله كيف وجدتها قال مثل الحممة أى الفحمة اه
قال صلى الله عليه وسلم ثم عرج بنا إلى السماء أى من الصخرة كما تقدم أى على المعراج بكسر الميم وفتحها الذى تعرج أرواح بنى آدم فيه وهو كما فى بعض الروايات سلم له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب أى عشر مراقى وهو المراد بقول بعضهم وكانت المعاريج ليلة الإسراء عشرة سبع إلى السماوات والثامن إلى سدرة المنتهى والتاسع إلى المستوى والعاشر إلى العرش والرفرف أى فأطلق على كل مرقاة معراجا وهذا المعراج لم ير الخلائق أحسن منه أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحا إلى السماء أى بعد خروج روحه فإن ذلك عجبه بالمعراج الذى نصب لروحه لتعرج عليه وذلك شامل للمؤمن والكافر إلا أن المؤمن يفتح لروحه إلى السماء دون الكافر فترد بعد عروجها تحسيرا وندامة وتبكيتا له وذلك المعراج أتى به من جنة الفردوس وإنه منضد بالؤلؤ أى جعل فيه اللؤلؤ بعضه على بعض عن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة فصعد هو وجبريل عليهما الصلاة والسلام قال الحافظ ابن كثير ولم يكن صعوده على البراق كما توهمه بعض الناس أي ومنهم صاحب الهمزية كما يأتي عنه حتى انتهى إلى باب من أبواب سماء الدنيا أى ويقال له باب الحفظة عليه ملك يقال له إسمعيل أى وهذا يسكن الهواء لم يصعد إلى السماء قط ولم يهبط إلى الأرض قط إلا مع ملك الموت لما نزل لقبض روحه الشريفة وتحت يده اثنا عشر ألف ملك
أى وفى رواية أن تحت يده سبعين ألف ملك تحت يد كل ملك سبعون ألف ملك فاستفتح جبريل فقيل من أنت وفى رواية فضرب بابا من أبوبها فناداه أهل سماء الدنيا أى حفظتها من هذا قال جبريل فقيل ومن معك أى فإنهم رأوهما ولم يعرفوهما ولعل جبريل لم يكن على الصورة التى يعرفونه بها قال محمد وفى رواية قال معك
أحد يجوز أن يكون هذا القائل لم يرهما ويكون الرائى له معظم الحفظة قال نعم معى محمد قيل وقد بعث إليه أى للإسراء والعروج أى لأنه كان عندهم علم بأنه سيعرج به إلى السموات بعد الإسراء به إلى بيت المقدس وإلا فبعثه صلى الله عليه وسلم ورسالته إلى الخلق يبعد أن تخفى على أولئك الملائكة إلى هذه المدة وأيضا لو كان هذا مرادهم لقالوا أو قد بعث ولم يقولوا إليه
فإن قيل قد جاء فى حديث أنس إن ملائكة سماء الدنيا قالت لجبريل أو قد بعث قلنا تقدم أن حديث أنس كان قبل أن يوحى إليه وأنه كان مناما لا يقظة قال السهيلى ولم نجد فى رواية من الروايات أن الملائكة قالوا وقد بعث إلا فى هذا الحديث
وفى رواية بدل بعث إليه أرسل إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا قال صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بآدم فرحب بى ودعا لى بخير
واختلف فى لفظ آدم فقيل أعجمى ومن ثم منع الصرف وقيل عربى لأنه مشتق من الأدمة التى هى السمرة والمراد بها هنا لون بين البياض والحمرة حتى لا ينافى كونه أحسن الناس أو هو مشتق من أديم الأرض أى وجهها لأنه مخلوق منه وعلى أنه عربى يكون منع صرفه للعلمية ووزن الفعل
وفي رواية تعرض عليه أرواح بنيه فيسر بمؤمنها أي عند رؤيته ويعبس بوجهه عند رؤية كافرها
قال وفى رواية فإذا فيها آدم كيوم خلقه الله تعالى على صورته أى على غاية من الحسن والجمال فإذا هو تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول روح طيبة ونفس طيبة خرجت من جسد طيب اجعلوها فى عليين وتعرض عليه أرواح ذريته الكفار فيقول روح خبيثة ونفس خبيثة خرجت من جسد خبيث اجعلوها فى سجين
أقول وهذا وإن اقتضى كون أرواح العصاة من المؤمنين فى عليين كأرواح الطائفين منهم لكن لا يقتضى تساويهما فى الدرجة كما لا يخفى
وفى رواية تعرض عليه أعمال ذريته وهو إما على حذف المضاف أى صحف أعمالهم التى وقعت منهم وهى التى فى صحف الحفظة أو التى ستقع منهم وهى ما فى صحف الملائكة غير الحفظة أو تعرض عليه نفس أعمال تجسمت لما سيأتى أن المعانى تجسم ففى كل من الروايتين اقتصار والله أعلم
وفى رواية سندها ضعف كما قاله الحافظ ابن حجر وعن يمينه أسودة وباب يخرج منه ريح طيبة وعن شماله أسودة وباب يخرج منه ريح خبيثة فإذا نظر عن يمينه أى إلى تلك الأسودة ضحك واستبشر وإذا نظر عن شماله أى إلى تلك الأسودة حزن وبكى فسلم عليه صلى الله عليه وسلم فقال مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح فقال النبى صلى الله عليه وسلم من هذا فقال هذا أبوك آدم أى وزاد فى الجواب قوله وهذه الأسودة نسم أى أرواح بنيه فأهل اليمين أهل الجنة وأهل الشمال أهل النار فإذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر وإذا نظر عن شماله حزن وبكى وزاد فى الجواب أيضا قوله وهذا الباب الذى عن يمينه باب الجنة إذا نظر من سيدخله من ذريته ضحك واستبشر والباب الذي عن شماله باب جهنم إذا نظر من سيدخله من ذريته حزن وبكى اه أى إذا نظر إلى أرواح من سيدخلهما وفيه أن الجنة فوق السماء السابعة والنار فى الأرض السابعة وهى محيطة بالدنيا فكيف يكون بابهما فى السماء الدنيا وأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء كما تقدم
وأجيب عن الثانى بأن عرضها أى أرواح ذريته الكفار عليه نظرة إليها وهى دون السماء لأنها شفافة أو من ذلك الباب أى وكونها عن يساره الذى أخبر به صلى الله عليه وسلم أى فى جهة يساره
ويجاب عن الأول بأن الباب الذى على يمينه يجوز أن يكون محاذيا لموضع الجنة من السماء السابعة ولهذا قيل له باب الجنة وكذا يقال فى باب جهنم لأن الإضافة تأتى لأدنى ملابسة وبما أجبنا به عن كون أرواح ذريته الكفار عن جهة يساره يعلم أنه لا حاجة فى الجواب عن ذلك إلى قول الحافظ ابن حجر ويحتمل أن يقال إن النسم المرئية هى الأرواح التى لم تدخل الأجساد بعد أى الآن ومستقرها عن يمين آدم وشماله وقد أعلم بما سيصيرون إليه بناء على أن الأرواح مخلوقة قبل أجسادها على أنه لا يناسب قوله روح طيبة ونفس طيبة خرجت من جسد طيب إلى آخره
ولا حاجة لما نقل عن القرطبى فى الجواب عن ذلك من أن الكفار التى لا يفتح لها أبواب السماء المشركون دون الكفار من أهل الكتاب فيجوز أن تكون تلك الأسودة أرواح كفار أهل الكتاب إذ هو يقتضى أن المراد بأرواح بنيه فى الرويتين السابقتين الأرواح التى خرجت من أجسادها
قال صلى الله عليه وسلم ورأيت رجالا لهم مشافر كمشافرالإبل أى كشفاه الإبل أى وفى أيديهم قطع من نار كالأفهار أى الحجارة التى كل واحد منها ملء الكف يقذفونها فى أفواههم تخرج من أدبارهم قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما وهؤلاء لم تتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم فى الارض أى ولعل المراد بالرجال الأشخاص أو خصوا بذلك لأنهم أولياء الأيتام غالبا قال صلى الله عليه وسلم ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط وفى رواية أمثال البيوت زاد فى رواية فيها حيات ترى من خارج البطون بسبيل أى طريق آل فرعون يمرون عليهم كالإبل المهيومة حين يعرضون على النار ولا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك أى فتطؤهم آل فرعون الموصوفون بما ذكر المقتضى لشدة وطئهم لهم والمهيومة التى أصابها الهيام وهو داء ياخذ الإبل فتهيم فى الأرض ولا ترعى وفى كلام السهيلى الإبل المهيومة العطاش والهيام شدة العطش أى وفى رواية كلما نهض أحدهم خر أى سقط قال قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة الربا وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم فى الأرض لا بهذا الوصف بل إن الواحد منهم يسبح فى نهر من دم يلقم الحجارة أى ولا مانع من اجتماع الوصفين لهم أى فيخرجون من ذلك النهر ويلقون فى طريق من ذكر وهكذا عذابهم دائما
قال صلى الله عليه وسلم ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم خبيث منتن يأكلون من الغث أى الخبيث المنتن ويتركون السمين الطيب قال قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن أى وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم أي الرجال والنساء في الأرض بنحو هذا الوصف
وفي رواية رأى أخونة عليها لحم طيب ليس عليها أحد وأخرى عليها لحم منتن عليها ناس يأكلون قال جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام أي من الأموال أعم مما قبله أي وهؤلاء لم تتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم فى الأرض
قال صلى الله عليه وسلم ثم رأيت نساء متعلقات بثديهن فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء اللاتى أدخلن على الرجال ما ليس من أولادهم أى بسبب زناهن أى وهؤلاء لم يتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهن فى الأرض والذى تقدم رؤيته لهن الزانيات لا بهذا القيد وهو إدخالهن على أزواجهن ما ليس من أولادهم على أنه يجوز أن يكون المراد مطلق الزانيات لأن الزنا سبب فى حصول ما ذكر غالبا ولا مانع من اجتماع الوصفين لهن
قال ثم مضى هنيهة فإذا هو بأقوام يقطع اللحم من جنوبهم فيلقمونه فيقال له أى لكل واحد منهم كل كما كنت تأكل لحم أخيك قال يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون أى المغتابون للناس النمامون لهم اه أى وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم للمغتابين فى الأرض بغير هذا الوصف أى وروى أنه صلى الله عليه وسلم رأى فى هذه السماء النيل والفرات يطردان أن يجريان وعنصرهما أى أصلهما وهو يخالف ما يأتى أنه صلى الله عليه وسلم رأى في أصل سدرة المنتهى أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران وأن الظاهرين النيل والفرات
وأجيب بأنه يجوز أن يكون منبعهما من تحت سدرة المنتهى ومقرهما وهو المراد بعنصرهما الذى هو أصلهما فى السماء الدنيا أى بعد مرورهما فى الجنة ومن سماء الدنيا ينزلان إلى الأرض فقد جاء فى تفسير قوله تعالى { وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض } أنهما النيل الفرات أنزلا من الجنة من أسفل درجة منها على جناح جبريل عليه الصلاة والسلام فأودعهما بطون الجبال ثم إن الله سبحانه وتعالى سير فعهما ويذهب بهما عند رفع القرآن وذهاب الإيمان وذلك قوله تعالى وإنا على ذهاب به لقادرون وذكره السهيلى وفى زيادة الجامع الصغير أن النيل ليخرج من الجنة ولو التمستم فيه حين يسبح لوجدتم فيه من ورقها
قال صلى الله عليه وسلم ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل عليه الصلاة والسلام فقيل من أنت قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل قد بعث إليه قال نعم قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابنى الخالة عيسى ابن مريم ويحيى ابن زكريا صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما أى شبيه أحدهما بصاحبه ثيابهما وشعرهما ومعهما نفر من قومهما فرحبا بى ودعوا لى بخير وفى بعض الروايات التى حكم عليها بالشذوذ أنهما فى السماء الثالثة وقد ذكرها الجلال السيوطى فى أوائل الجامع الصغير وذكر بعضهم أنها رواية الشيخين عن أنس والشذوذ لا ينافى الصحة المطلقة
======================
============ج6. كتاب:السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون
المؤلف:علي بن برهان الدين الحلبي
فقد قال سيخ الإسلام فى شرح ألفية العراقى عند قوله من غير ما شذوذ خرج الشاذ وهو ما خالف فيه الراوى من هو أرجح منه ولا يرد عليه الشاذ الصحيح عند بعضهم لأن التعريف للصحيح المجمع على صحته لا مطلقا هذا كلامه
وفى كلام السخاوى نقلا عن شيخه ابن حجر أن من تأمل الصحيحين وجد فيهما أمثلة من ذلك أى من الصحيح الموصوف بالشذوذ
أقول وكونهما ابنى الخالة أى أن أم كل خالة الآخر هو المشهور وعليه قال ابن السكيت يقال ابنا خالة ولا يقال ابنا عمة ويقال ابنا عم ولا يقال ابنا خال لكن فى عيون المعارف للقضاعى أن يحيى إنما هو ابن خالة مريم أم عيسى لا ابن خالة عيسى لأن أم يحيى أخت أم مريم لا أخت مريم
وكذا فى كلام ابن إسحاق أن عمران وزكريا كلاهما من ذرية سليمان عليهم الصلاة والسلام وأنهما تزوجا أختين فزوجة زكريا ولدت يحيى قبل عيسى بستة أشهر ثم ولدت مريم عيسى وزوجة عمران ولدت مريم فأم يحيى أخت أم مريم فعيسى ابن بنت خالة يحيى وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بابنى الخالة على التجوز وكذا قول عيسى ليحيى يا ابن الخالة كما فى تفسير التسترى على التجوز
ففيه حكى عن يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام أنهما خرجا يمشيان فصدم يحيى امرأة فقال له عيسى يا ابن الخالة لقد أخطأت اليوم خطيئة ما أرى الله عز وجل يغفرها لك قال وما هى قال صدمت امرأة قال والله ما شعرت بها قال عيسى سبحان الله بدنك معى فأين قلبك قال معلق بالعرش ولو أن قلبى اطمأن إلى جبريل صلوات الله وسلامه عليه طرفة عين لظننت أنى ما عرفت الله عز وجل ووجه التجوز أنه أطلق على بنت الأخت لفظ الأخت وقال بعضهم وهو كثير شائع فى كلامهم
ثم رأيت المولى أبا السعود ذكر ما يجمع به بين القولين وهو أنه قيل إن أم يحيى أخت أم مريم من الأم وأخت مريم من الأب فليتأمل تصويره بناء على تحريم نكاح المحارم لأن أم مريم حينئذ بنت موطوءة أبيها لأنها ربيبته إلا أن يكون فى شريعتهم جواز ذلك
ثم رأيت بعضهم ذكر ذلك حيث قال لا يبعد أن عمران تزوج أولا أم حنة فولدت
أشياع أى التى هى أم يحيى ثم تزوج حنة بعد ذلك التى هى ربيبته بنت موطوءته فجاء منها بمريم بناء على جواز ذلك فى شريعتهم
وفيه أنه تقدم أن نوحا عليه الصلاة والسلام بعث بتحريم نكاح المحارم إلا أن يقال المراد محارم النسب دون المصاهرة ولم يسم أحد يحيى بعد يحيى هذا إلا يحيى بن خلاد الأنصارى جيء به للنبى صلى الله عليه وسلم يوم ولد فحنكه بتمرة وقال لأسمينه باسم لم يسم به بعد يحيى بن زكريا فسماه يحيى
ومما يدل على شرف سيدنا يحيى بن زكريا ما فى الكشاف عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما كنا فى المسجد نتذاكر فضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فذكرنا نوحا بطول عبادته وإبراهيم بخلته وموسى بتكليم الله تعالى إياه وعيسى برفعته إلى السماء وقلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منهم بعث إلى الناس كافة وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو خاتم الأنبياء أى فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيم أنتم فذكرنا له فقال لا ينبغى لأحد أن يكون خيرا من يحيى بن زكريا فذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولا هم بها أى ففى الحديث مامن أحد إلا ويلقى الله عز وجل وقد هم بمعصية عملها إلا يحيى بن زكريا فإنه لم يهم بها ولم يعملها فليتأمل ما فى ذلك
وقد ذكر أن والد زكريا لامه على كثرة العبادة والبكاء فقال له أنت أمرتنى بذلك يا أبت ألست أنت القائل إن بين الجنة والنار عقبة لا يجوزها إلا البكاءون من خشية الله عز وجل فقال بلى فجد واجتهد
وقد جاء فى الحديث أن يحيى هو الذى يذبح الموت يوم القيامة يضجعه ويذبحه بشعرة تكون فى يده والناس ينظرون إليه أى فإن الموت يكون فى صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ويقال لأهلهما أتعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت أى يلقى الله عز وجل معرفته فى قلوبهم وتجسم المعانى جاء به الحديث الصحيح
على أنه جاء فى تفسير قوله تعالى خلق الموت والحياة أن الموت فى صورة كبش لايمر على أحد إلا مات وخلق الحياة فى صورة فرس لا يمر على شيء إلا حيى وهو بدل على أن الموت جسم وأن الميت يشاهد حلول الموت به
وقيل الذى يذبح الموت جبريل عليه الصلاة والسلام وقيل إن فى هذه السماء الثانية إدريس وهو قول شاذ وقيل يوسف جاءت به رواية ذكرها الجلال السيوطى فى أوائل
والجامع الصغير وذكر فيها أن ابنى الخالة فى السماء الثالثة كما تقدم وتقدم أن بعضهم ذكر أنها رواية الشيخين عن أنس
قال أبو حيان وعيسى لفظ أعجمى والظاهر أن مثله يحيى هذا كلامه وفى كلام غيره أن يحيى عربى ومنع صرفه العلمية ووزن الفعل
وقيل فى عيسى إنه عربى مشتق من العيس وهو بياض يخالطه صفرة وعلى أنه أعجمى قيل عبرانى وقيل سريانى
ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم أى ومعه نفر من قومه وإذا هو أعطى شطر الحسن أى وفى رواية صورته صورة القمر ليلة البدر والمراد بشطر الحسن نصف الحسن الذى أعطيه الناس
وفى الحديث أعطى يوسف وأمه ثلث حسن الدنيا وأعطى الناس الثلثين ويحتاج للجمع بينها وبين ما جاء فى رواية قسم الله ليوسف من الحسن والجمال ثلثى حسن الخلق وقسم بين سائر الخلق الثلث وعن وهب بن منبه الحسن عشرة أجزاء تسعة منها ليوسف وواحد منها بين الناس
وفى كلام بعضهم كان فضل يوسف فى الحسن على الناس كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء وكان إذا سار فى أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يتلألأ نور الشمس وضوء القمر على الجدران والمراد بالناس غير نبينا صلى الله عليه وسلم لأن حسن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يشارك فى شئ منه كما أشار إليه صاحب البردة بقوله فجوهر الحسن فيه غير منقسم خلافا لابن المنير حيث ادعى أن يوسف أعطى شطر الحسن الذى أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم وتبعه على ذلك شارح تائية الإمام السبكى
وعبارته فإذا هو أى يوسف عليه الصلاة والسلام أعطى شطر الحسن الذى أعطيه كله صلى الله عليه وسلم
هذا وقد قيل إن يوسف ورث الحسن من إسحاق الذى هو جده وإسحاق ورث الحسن من سارة التى هى أمه وسارة أعطيت سدس الحسن ورثت ذلك من حواء
أى وفى رواية وصف يوسف وإنه أحسن ما خلق الله تعالى قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب أى كفضل القمر ليلة البدر على بقية الكواكب الليلية والمراد بخلق الله تعالى وبالناس غير نبينا صلى الله عليه وسلم لما علمت أنه أعطى شطر الحسن الذى لغير نبينا صلى الله عليه وسلم ولأن المتكلم لا يدخل فى عموم خطابه على ما فيه
وقد جاء إن يوسف أعطى نصف حسن آدم وفى رواية ثلث حسن آدم وقد جاء كان يوسف يشبه آدم يوم خلقه ربه
وفى الخصائص الصغرى للسيوطى وخص بأنه صلى الله عليه وسلم أوتى كل الحسن ولم يعط يوسف إلا شطره فلينظر الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها
وقد حاء ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه وحسن الصوت وكان نبيكم أحسنهم وجها أحسنهم صوتا
قال فرحب بى ودعا لى بخير وفى بعض الروايات إن فى هذه السماء الثالثة ابنى الخالة يحيى وعيسى كما مر ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بى ودعا لى بخير وفى رواية قال مرحبا بالأخ الصالح
وفي رواية قتادة مرحبا بالابن الصالح قال بعضهم وهو القياس لأنه جده الأعلى لأنه من ولد شيث بينه وبين شيث أربعة آباء أرسل بعد موت آدم بمائتي سنة وهو أول من أعطى الرسالة من ولد آدم وهو يقتضي أن شيئا لم يكن رسولا ونوح من ولده بينه وبينه ابنان فإدريس في عمود نسبه صلى الله عليه وسلم وحينئذ قوله بالأخ الصالح فى تلك الرواية محمول على التواضع منه خلافا لمن تمسك بذلك
على أن إدريس ليس جدا لنوح ولا هو من آباء النبى صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل ورفعناه مكانا عليا أى حال حياته لأنه رفع إلى السماء قيل من مصر بعد أن خرج منها وجار الأرض كلها وعاد إليها ودعا الخلائق إلى الله تعالى باثنتين وسبعين لغة خاطب كل قوم بلغتهم وعلمهم العلوم
وهو أول من استخرج علم النجوم أى علم الحوادث التى تكون فى الأرض باقتران الكواكب
قال الشيخ محيى الدين بن العربى وهو علم صحيح لا يخطيء فى نفسه وإنما الناظر فى ذلك هو الذى يخطيء لعدم استيفاء النظر ودعوى إدريس عليه السلام الخلائق يدل على أنه كان رسولا وفى كلام الشيخ محيى الدين لم يجئ نص فى القرأن برسالة إدريس بل قيل فيه صديقا نبيا
وأول شخص افتتحت به الرسالة نوح عليه الصلاة والسلام ومن كانوا قبله إنما كانوا أنبياء كل واحد على شريعة من ربه فمن شاء دخل معه فى شرعه ومن شاء لم يدخل فمن دخل ثم رجع كان كافرا
ومما يؤثر عنه عليه الصلاة والسلام حب الدنيا والآخرة لايجتمعان فى قلب أبدا الناس اثنان طالب لايجد وواجد لا يكتفى من ذكر عار الفضيحة هان عليه لذتها خير الإخوان من نسى ذنبك ومعروفه عندك وقد قبضت روحه فى هذه السماء الرابعة فصلت عليه الملائكة ومدفنه بها تصلى عليه الملائكة كلما هبطت وحينئذ لا يقال من كان فى السماء الخامسة والسادسة والسابعة أرفع منه على أنه قيل لما مات أحياه الله تعالى وأدخله الجنة وهو فيها الآن أي غالب أحواله في الجنة فلا ينافي وجوده في السماء المذكورة فى تلك الليلة لأنها الجنة أرفع من السموات لأنها فوق السماء السابعة ولا ما جاء فى الحديث أنه فى السماء حى كعيسى عليهما الصلاة والسلام وفى بعض الروايات أن فى هذه السماء الرابعة هرون
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهرون أى ونصف لحيته بيضاء ونصف لحيته سوداء تكاد تضرب إلى سرته من طولها وحوله قوم من بنى إسرائيل وهو يقص عليهم فرحب بى ودعالى بخير أى وفى رواية فقال يا جبريل من هذا قال هذا الرجل المحبب فى قومه هرون بن عمران أى لأنه كان ألين لهم من موسى عليه الصلاة والسلام لإن موسى عليه الصلاة والسلام كان فيه بعض الشدة عليهم ومن ثم كان له منهم بعض الإيذاء
ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل
ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى صلى الله عليه وسلم فرحب بى ودعا لى بخير أى وفى رواية جعل يمر بالنبى والنبيين معهم القوم والنبى والنبيين ليس معهم أحد ثم مر بسواد عظيم فقال من هذا قيل موسى وقومه المناسب هذا قوم موسى كما لا يخفى لكن ارفع رأسك فإذا هو بسواد عظيم قد سد الأفق من ذا الجانب ومن ذا الجانب فقيل هؤلاء أمتك هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب أى منهم بدليل ما جاء فى رواية قيل لى هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وهم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقال عكاشة بن محصن أنا منهم قال نعم ثم قال رجل آخر أنا منهم قال صلى الله عليه وسلم سبقك بها عكاشة لأن هذا الرجل كان منافقا فلم يقل له صلى الله عليه وسلم لست منهم لأنك منافقا بل أجابه بما فيه ستر عليه والقول بأن ذلك الرجل هو سعد بن عبادة مردود وهذا تمثيل أى مثل له صلى الله عليه وسلم أمته أى وأمة موسى أيضا إذ يبعد وجودها حقيقة فى السماء السادسة وهذا السياق يدل على أن الذى مر بهم من النبى والنبيين فى السماء السادسة فلما خلصا أى جاوزا ما ذكر من النبى والنبيين والسواد العظيم فإذا موسى بن عمران رجل آدم طوال كأنه من رجال شنوءة كثير الشعر أى مع صلابته لو كان عليه قمصان لنفذ الشعر منهما أى وكان إذا غضب يخرج شعر من رأسه من قلنسوته وربما اشعتلت قلنيونه نارا لشدة غضبه
وفى كلام بعضهم كان إذا غضب خرج شعره من مدرعته كسل النخل ولشدة غضبه لما فر الحجر بثوبه صار يضربه حتى ضربه ست ضربات أو سبعا مع أنه لا إدراك له ووجه بأنه لما فر صار كالدابة والدابة إذا جمحت بصاحبها يؤدبها بالضرب فسلم عليه النبى صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام ثم قال مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح ثم دعا له ولأمته بخير وقال يزعم الناس أنى أكرم على الله من هذا بل هذا أكرم على الله منى فلما جاوزه بكن فقيل له ما يبكيك فقال أبكى لأن غلاما بعث بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل الجنة من أمتى أى وبل من سائر الأمم
فقد ذكر الجلال السيوطى فى الخصائص الصغرى أن مما اختص به صلى الله عليه وسلم
فى أمته فى الآخرة أن أهل الجنة أى من الأمم مائة وعشرون صفا هذه الأمة منها ثمانون وسائر الأمم أربعون
وجاء فى المرفوع كل أمة بعضها فى الجنة وبعضها فى النار إلا هذه الأمة فإنها كلها فى الجنة
وفى العرائس عن أبى هريرة رضى الله عنه لما كلم الله عز وجل موسى كان بعد ذلك سيمع دبيب النملة السوداء فى الليلة الظلماء على الصفا من مسيرة عشرة فراسخ
وفى الحديث ليس أحد يدخل الجنة إلا جرد مرد إلا موسى بن عمران فإن لحيته إلى سرته ثم عرج بنا إلى السماء السابعة واسمها عريبا واسم الأرض السابعة جريبا
روى الخطيب بإسناد صحيح أن وهب بن منبه قال من قرأ البقرة وأل عمران يوم الجمعة كان له ثواب يملأ ما بين عريبا وجريبا فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال نعم قد بعث إليه ففتح لنا فإذا بإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أى رجل أشمط وفى لفظ كهل ولا ينافى ذلك ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم فى وصفه إنه أشبه بصاحبكم يعنى نفسه صلى الله عليه وسلم خلقا وخلقا جالس عند باب الجنة أى فى جهتها كما تقدم وإلا فالجنة فوق السماء السابعة على كرسى مسندا ظهره إلى البيت المعمور أى وهو من عقيق ويقال له الضراح بضم الضاد المعجمة وتخفيف الراء وفى آخره حاء مهملة من ضرح إذا بعد ومنه الضريح
أى وفى كلام الحافظ ابن حجر يقال له الضراح والضريح وجاء إنه مسجد بحذاء الكعبة لو خر لخر عليها أى فهو فى تلك السماء فى محل يحاذى الكعبة أى وقيل فى السماء الرابعة وبه جزم فى القاموس وقيل فى السادسة وقيل فى الأولى وتقدم أن فى كل سماء بيتا معمورا وأن كل بيت منها بحيال الكعبة وإذا هو يدخله كل يوم ألف ملك لا يعودون إليه
أقول عن بعضهم أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك وفى رواية سبعون وجيها مع كل وجيه سبعون ألف ملك والوجيه الرئيس ولعله صلى الله عليه وسلم علم ذلك بإعلام جبريل وإلا فرؤيته صلى الله عليه وسلم له تلك الليلة لا تقتضى ذلك
ثم رأيت الشيخ عبدالوهاب الشعرانى أشار إلى ذلك حيث قال وسما له البيت المعمور فنظر إليه وركع فيه ركعتين وعرفه أي جبريل أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك من الباب الواحد ويخرجون من الباب الآخر فالدخول من باب مطالع الكواكب والخروج من باب مغاربها والظاهر أن دخول هؤلاء الملائكة خاص بالذى فى السماء السابعة
وقال السهيلى وقد ثبت فى الصحيح أن أطفال المؤمنين والكافرين فى كفالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل حين رأهم مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أولاد المؤمنين الذين يموتون صغارا قال له وأولاد الكافرين قال له وأولاد الكافرين خرجه البخارى فى الحديث الطويل فى كتاب الجنائز وخرجه فى موضع آخر فقال فيه أولاد الناس
وقد روى فى أطفال الكافرين أيضا أنهم خدم أهل الجنة هذا كلامه وجاء فى حديث مرفوع لكن سنده ضعيف إن فى السماء الرابعة نهرا يقال له الحيوان يدخله جبريل كل يوم أى سحرا كما فى بعض الروايات فينغمس ثم يخرج فينتقض فيخرج منه سبعون ألف قطرة يخلق الله تعالى من كل قطرة ملكا وفى لفظ يخلق الله عز وجل من كل قطرة كذا وكذا ألف ملك يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور يصلون فيه فهم الذين يصلون في البيت المعمور ثم لا يعودون إليه أبدا يولى عليهم أحدهم يؤمر أن يقف بهم فى السماء موقفا يسبحون الله عز وجل إلى أن تقوم الساعة وذكر الشيخ عبد الوهاب الشعرانى أن جبريل أخبره بذلك فى تلك الليلة والله أعلم وفى رواية وإذا أنا بأمتى شطرين شطرا عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس وشطرا عليهم ثياب رمدة فدخلت البيت المعمور ودخل معى الذين عليهم الثياب البيض وحجب الآخرون الذين عليهم الثياب الرمدة فصليت أنا ومن معى فى البيت المعمور أى والظاهر أنه ليس المراد بالشطر النصف حتى يكون العصاة من أمته بقدر الطائعين منهم وإن الصلاة محتملة للدعاء ولذات الركوع والسجود ويناسبه ما تقدم من قوله ركعتين وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال له يا نبى الله إنك لاق ربك الليلة وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها فإن استطعت أن تكون حاجتك فى أمتك فافعل
وفى السيرة الشامية أن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال له صلى الله عليه وسلم
ذلك فى الأرض قبل وصول بيت المقدس وقال له هنا مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة فقال له وما غراس الجنة فقال لا حول ولا قوة إلا بالله وفى رواية أخرى أقرئ أمتك منى السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
وقد يقال لا مخالفة بين الروايتين لأنه يجوز أن يكون غراس الجنة مجموع ما ذكر وأن بعض الرواة اقتصر
قال صلى الله عليه وسلم واستقبلتنى جارية لعساء وقد أعجبتنى فقلت لها يا جارية أنت لمن قالت لزيد بن حارثة أى ولعل تلك الجارية خرجت من الجنة فيكون استقبالها له صلى الله عليه وسلم بعد مجاوزة السماء السابعة لكن فى رواية فرأيت فيها أى فى الجنة جارية الحديث
وقد يقال يجوز أن يكون رأها مرتين خارج الجنة وداخلها فيكون سؤالها فى المرة الأولى واللعس لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا وذلك مستملح قاله فى الصحاح
وفى رواية فلما انتهى إلى السماء السابعة رأى فوقه رعدا وبرقا وصواعق أى وهذه الرواية ظاهرة فى أنه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك فى السماء السابعة محتملة لأن يكون رآه قبل دخوله فيها وحينئذ يكون قوله ثم أتى بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل على الاحتمالين المذكورين
وعند عرض تلك الأوانى عليه صلى الله عليه وسلم أخذ اللبن فقال جبريل أصبت الفطرة أى بأخذك اللبن الذى هو الفطرة أصاب الله عز وجل بك أمتك على الفطرة أى أوجدهم على الفطرة ببركتك وفى رواية هذه الفطرة التى أنت عليها وأمتك أي وتقدم أن المراد بها الإسلام
وورد أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام فى السماء السادسة وموسى فى السماء السابعة وهذه الرواية فى البخارى عن أنس وتقدم أن ذلك كان فى الإسراء بروحه صلى الله عليه وسلم لا بجسده وفيه أن رؤيا الأنبياء حق
فالأولى الجمع بين الروايات بالانتقال وأن بعض الأنبياء نزل من محله إلى ما تحته لملاقاته صلى الله عليه وسلم عند صعوده وبعضهم خرج عن محله وصعد إلى
ما فوقه لملاقاته صلى الله عليه وسلم عند هبوطه فأخبر صلى الله عليه وسلم عنه تارة بأنه فى سماء كذا وتارة بأنه في سماء كذا والحافظ ابن حجر لايرى الجمع بل يحكم على ما خالف أصح الروايات بأنه لا يعمل به قال والجمع إنما هو مجرد استرواح لا ينبغى المصير إليه هذا كلامه
وعندى فيه نظر ظاهر والجمع أولى من إثبات المعارضة لاسيما بين الأصح والصحيح وإن كان الصحيح شاذا لأنا لا نقدم الأصح أو الصحيح على غيره إلا حيث تعذر الجمع فليتأمل
وعلى المشهور من الروايات الذى صدرنا به أبدى بعضهم لاختصاص هؤلاء الأنبياء بملاقاته صلى الله عليه وسلم واختصاص كل واحد منهم بالسماء الذى لقيه فيها حكمة يطول ذكرها
قال صلى الله عليه وسلم ثم ذهب بى أى جبريل إلى سدرة المنتهى وإذا أوراقها كآذان الفيلة وفى رواية مثل آذان الفيول وفى رواية الورقة منها تظل الخلق وفى رواية تكاد الورقة تغطى هذه الأمة وفى رواية لو أن الورقة الواحدة ظهرت لغطت هذه الدنيا وحينئذ يكون المراد بكونها كآذان الفيلة فى الشكل وهو الاستدارة لا فى السعة وإذا ثمرها كالقلال وفى رواية كقلال هجر قرية بقرب المدينة والواحدة من قلالها تسع قربتين ونصفا من قرب الحجاز والقربة تسع من الماء مائة رطل بغدادى فلما غشيها من أمر الله عز وجل ما غشيها تغيرت أى صار لها حالة من الحسن غير تلك الحالة التى كانت عليها فما أحد من خلق الله عز وجل يستطيع أن ينعتها من حسنها أى لأن رؤية الحسن تدهش الرائى وهذا السياق يدل على أن سدرة المنتهى فوق السماء السابعة أى وهو قول الأكثر وفى بعض الروايات أن أغصانها تحت الكرسى وعن وهب أن العرش والكرسى فوق السماء السابعة قال ويسأل هل ثمرة سدرة المنتهى كالثمار المأكولة فى أنه يزول ويعقبه غيره هذا الزائل يؤكل أو يسقط أى فلا يؤكل انتهى
قال صلى الله عليه وسلم ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ أى بالمعجمة قباب اللؤلؤ وفى لفظ حبائل اللؤلؤ المعقود والقلائد وإذا ترابها المسك ورمانها كالدلاء وطيرها كالبخت فدخوله صلى الله عليه وسلم للجنة كان قبل عروجه للسحابة
وفى الحديث ما فى الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهى فى الجنة حتى الحنظل والذى نفس محمد بيده لا يقطف رجل ثمرة من الجنة فتصل إلى فيه حتى يبدل الله مكانها خيرا منها وهذا القسم يرشد إلى أن ثمرة الجنة كلها حلوة تؤكل وأنها تكون على صورة ثمرة الدنيا المرة
وفى كلام الشيخ محيى الدين بن العربى فاكهة الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة أى تؤكل من غير قطع أى يؤكل منها فالأكل موجود والعين باقية فى غصن الشجرة وليس المراد أن الفاكهة غير مقطوعة فى شتاء ولا صيف أو يخلق مكان قطعها أخرى على الفور كما فهمه بعضهم فعين ما يأكل العبد هو عين ما يشهد وأطال فى ذلك وكأنه لم يقف على هذا الحديث أو لم يثبت عنده فليتأمل
قال ويخرج من أصل تلك الشجرة أربعة أنهار نهران باطنان أى يبطنان ويغيبان فى الجنة بعد خروجهما من أصل تلك الشجرة ونهران ظاهران أى يستمران ظاهرين بعد خروجهما من أصل تلك الشجرة فيجاوزان الجنة فقال ما هذه أى الأنهار يا جبريل قال أما الباطنان ففى الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات انتهى
أقول قول جبريل أما الباطنان ففى الجنة لا يحسن أن يكون جوابا عن هذا السؤال أى الذى هو سؤال عن بيان الحقيقة ويحصل بذكر اسمها فكان المناسب بحسب الظاهر أن يقول وأما الباطنان فنهر كذا ونهر كذا وهذا السياق يدل على أن النيل والفرات يمران فى الجنة ويجاوزانها وأن ما عداهما كسيحان وجيحان بناء على أنهما ينبعان من أصل شجرة المنتهى يغيبان فيها ولا يجاوزانها والنيل نهر مصر والفرات نهر الكوفة ويحتمل أن النهرين اللذين هما ما عدا النيل والفرات بناء على أنهما سيحان وجيحان يبطنان فى الجنة ولا يظهران إلا بعد خروجهما منها لوجودهما فى الخارج بخلاف النيل والفرات فإنهما يستمران ظاهرين فيها إلى أن يخرجا منها
وقد جاء فى حديث ما من يوم إلا وينزل ماء من الجنة فى الفرات قال بعضهم ومصداقه أن الفرات مد فى بعض السنين فوجد فيه رمان كل واحدة مثل البعير فيقال إنه رمان الجنة وهذا الحديث ذكره ابن الجوزى فى الأحاديث الواهية وفى حديث موقوف على ابن عباس إذا حان خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل فرفع من الأرض هذه الأنهار والقرآن والعلم والحجر والمقام وتابوت موسى بما فيه إلى السماء
هذا وفى بعض الروايات ما يدل على أن سيحان وجيحان لا ينبعان من أصل شجرة المنتهى فليسا هما المراد بالباطنين
وعن مقاتل الباطنان السلسبيل والكوثر أى ومعنى كونهما باطنين أنهما لم يخرجا من الجنة أصلا ومعنى كون النيل والفرات ظاهرين أنهما يخرجان منها
وفى السيرة الشامية لم يثبت فى سيحان وجيحان أنهما ينبعان من أصل شجرة المنتهى فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك وأما الباطنان المذكوران أى فى الحديث فهما غير سيحان وجيحان قال القرطبى ولعل ترك ذكرهما أى سيحان وجيحان فى حديث الإسراء كونهما ليسا أصلا برأسهما وإنما يحتمل أن يتفرعا عن النيل والفرات هذا كلامه ولعل المراد أنهما يتفرعان عنهما بعد خروجهما من الجنة فهما لم يخرجا من أصل السدرة ولا يبطنان فى الجنة أصلا
قال وإذا فيها فى تلك الشجرة عين أى فى أصلها أيضا يقال لها السلسبيل فينشق منها نهران أحدهما الكوثر والآخر يقال له نهر الرحمة فاغتسلت منه فغفر لى ما تقدم من ذنبى وما تأخر انتهى أى فهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى لكن لا من المحل الذى يخرج منه النيل والفرات وحينئذ يحسن القول بأنه يخرج من أصل تلك الشجرة أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان وفى جعل الكوثر قسما من السلسبيل يخالفه جعله قسيما كما تقدم عن مقاتل فالباطنان الكوثر ونهر الرحمة فالأنهار التى تخرج من أصل سدرة المنتهى أربعة بناء على أن سيحان وجيحان لا يخرجان منها أو ستة بناء على أنهما يخرجان منها
وعلى الأول لا ينافى قول القرطبى ما فى الجنة نهر إلا ويخرج من أصل سدرة المنتهى لأن المراد إما خروجه بنفسه أو أصله الذى يتفرع منه بناء على ما تقدم من أن سيحان وجيحان يتفرعان عن النيل والفرات
ولا ينافى ما عند مسلم يخرج من أصلها يعنى سدرة المنتهى أربعة أنهار من الجنة وهى النيل والفرات وسيحان وجيحان ولا ما عند الطبرانى سدرة المنتهى يخرج من أصلها أربعة أنهار من ماء غير آسن ومن لبن لم يتغير طعمه ومن خمر لذة للشاربين ومن عسل مصفى وعن كعب الأحبار إن نهر العسل نهر النيل أى ويدل لذلك قول بعضهم لولا دخول بحر النيل فى البحر الملح الذى يقال له البحر الأخضر قبل أن يصل
إلى بحيرة الزنج ويختلط بملوحته لما قدر أحد على شربه لشدة حلاوته ونهر اللبن نهر جيحان ونهر الخمر نهر الفرات ونهر الماء نهر سيحان لأن غاية ذلك سكوتهما عن النهرين الآخرين وهما الكوثر ونهر الرحمة ومعنى كونها تخرج من أصل سدرة المنتهى من الجنة أنه يحتمل أن تكون سدرة المنتهى مغروسة فى الجنة والأنهار تخرج من أصلها فصح أنها من الجنة هكذا ذكره العارف ابن أبى جمرة ولم أقف على ما يدل على ثبوت هذا الاحتمال أى أن سدرة المنتهى مغروسة فى الجنة ولا حاجة لهذا الاحتمال فى تصحيح هذه الرواية لأن المعنى أن تلك الأنهار تخرج من أصل تلك الشجرة ثم تكون خارجة من الجنة ثم لايخفى أن فى كلام القاضى عياض أن سيحان يقال فيه سيحون وجيحان يقال فيه جيحون
ويخالفه قول صاحب النهاية اتفقوا كلهم على أن جيحون غير جيحان وسيحون غير سيحان ومن ثم أنكر الإمام النووى على القاضى عياض حيث قال الثانى أى من وجوه الإنكار على القاضى قوله سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون فجعل الأسماء مترادفة وليس كذلك فسيحان وجيحان غير سيحون وجيحون هذا كلامه
وذكر صاحب النهاية أن جيحون نهر وراء خراسان عند بلخ وسكت عن بيان سيحون فليتأمل
قال والذى غشى الشجرة فراش من ذهب والفراش هو الحيوان الذى يلقى نفسه فى السراج ليحترق وملائكته على كل ورقة ملك يسبح الله تعالى وملائكه أى آخرون يغشونها كأنهم الغربان يأوون إليها متشوقين إليها متبركين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة انتهى
ورأى صلى الله عليه وسلم جبريل عند تلك السدرة على الصورة التى خلقه الله عز وجل عليها له ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق يتناثر من أجنحته تهاويل الدر والياقوت مما لا يعلمه إلا الله عز وجل وغشيت تلك السدرة سحابة فتأخر جبريل عليه الصلاة والسلام ثم عرج به صلى الله عليه وسلم أى فى تلك السحابة حتى ظهر لمستوى سمع فيه صرير الأقلام وفى رواية صريف أى صوت حركتها حال الكتابة أى ما تكتبه الملائكة من الأقضية وهذا السياق يدل على أن جبريل لم يتعد سدرة المنتهى ويدل
على ما تقدم من أن سدرة المنتهى فوق السماء السابعة إلى آخر ما تقدم وهو الموافق لقول بعضهم إنها على يمين العرش
وفى رواية ثم انطلق بى أى جبريل إلى ظهر السماء السابعة حتى انتهى إلى نهر عليه خيام الياقوت واللؤلؤ والزبرجد وعليه طير أخضر نعم الطير رأيت قال جبريل هذا الكوثر الذى أعطاك الله فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجرى على رضاض من الياقوت والزمرد بالذال المعجمة كما تقدم وماؤه أشد بياضا من اللبن فأخذت من آنيته واغترفت من ذلك فشربت فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك
أقول قد تقدم أن هذا النهر من العين التى تخرج من سدرة المنتهى التى يقال لها السلسبيل أى فهو يخرج من تلك الشجرة ويمر على ما ذكر ثم يدخل الجنة ويستقر بها فلا ينافى كون الكوثر نهرا فى الجنة وأن السلسبيل عين فى الجنة لأن السلسبيل على ما تقدم أصل الكوثر والله أعلم
وفى رواية إنها أى سدرة المنتهى فى السماء السادسة وإليها ينتهى ما يعرج من الأرض فيفيض منها وإليها ينتهى ما يهبط من فوقها فيفيض منها وعندها تقف الحفظة وغيرهم فلا يتعدونها ومن ثم سميت سدرة المنتهى
وعن تفسير ابن سلام عن بعض السلف قال إنما سميت سدرة المنتهى لأن روح المؤمن ينتهى بها إليها فتصلى عليها هناك الملائكة المقربون وجمع وجمع الحافظ ابن حجر بين كون سدرة المنتهة فى السادسة وكونها فى السابعة بأن أصلها فى السادسة وأغصانها فى السابعة أى فوق السابعة أى جاوزت السابعة فلا ينافى القول بأنها فوق السابعة على ما تقدم وهذا الحمل المقتضى لكون أصلها فى السادسة لا يناسب كون الأنهار تخرج من أصلها إلى آخر ما تقدم
ويروى أن جبريل لما وصل إلى مقامه وهو سدرة المنتهى فوق السماء السابعة قال له صلى الله عليه وسلم ها أنت وربك هذا مقامى لا أتعداه فزج بى فى النور أى لما غشيته تلك السحابة ويعبر عن تلك السحابة بالرفوف قال الشيخ عبدالوهاب الشعرانى وهو نظير المحفة عندنا
وفى تاريخ الشيخ العينى شارح البخارى عن مقاتل بن حيان قال انطلق بى جبريل حتى انتهى إلى الحجاب الأكبر عند سدرة المنتهى قال جبريل تقدم يا محمد قال
فتقدمت حتى انتهيت إلى سرير من ذهب عليه فراش من حرير الجنة فنادى جبريل من خلفى يل محمد إن الله يثنى عليك فاسمع وأطع ولا يهولنك كلامه فبدأت بالثناء على الله عز وجل الحديث أى وفى ذلك النور المستوى الذى يسمع فيه صريف الأقلام ثم العرش والرفوف والرؤية وسماع الخطاب
وفى رواية أنه لما وقف جبريل قال له صلى الله عليه وسلم فى مثل هذا المقام يترك الخليل خليله قال إن تجاوزت احترقت بالنار فقال النبى صلى الله عليه وسلم يا جبريل هل لك من حاجة إلى ربك قال يا محمد سل الله عز وجل لى أن أبسط جناحى على الصراط لأمتك حتى يجوزوا عليه قال ثم زج بى فى النور فخرق بى إلى سبعين الف حجاب ليس فيها حجاب يشبه حجابا غلظ كل حجاب خمسمائة عام وانقطع عنى حس كل ملك فلحقنى عند ذلك استيحاش فعند ذلك نادى مناد بلغة أبى بكر رضى الله تعالى عنه قف إن ربك يصلى فبينما أنا أتفكر فى ذلك أى فى وجود أبى بكر فى هذا المحل وفى صلاة ربى فأقول هل سبقنى ابو بكر وكيف يصلى ربى وهو غنى عن أن يصلى كما يدل على ذلك ما يأتى فإذا النداء من العلى الأعلى ادن يا خير البرية ادن يا أحمد ادن يا محمد فأدنانى ربى حتى كنت كما قال عز وجل { ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى }
وفى الخصائص الصغرى وخص بالإسراء وما تضمنه اختراق السموات السبع والعلو إلى قاب قوسين ووطئه مكانا ما وطئه نبى مرسل ولا ملك مقرب وهذه الرواية ككلام الخصائص تدل على أن فاعل دنا وتدلى واحد وكان هو صلى الله عليه وسلم وحينئذ يكون معنى تدلى زاد فى القرب وجعل بعض العلماء من جملة ما خالف شريك فيه المشهور من الروايات أنه جعل فاعل دنا فتدلى الحق سبحانه وتعالى أى دنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان من محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى ثم رأيت الحافظ ابن حجر ذكر عن البيهقى أنه روى بسند حسن ما يوافق ما ذكر شريك ومعلوم أم معنى الدنو والتدلى الواقعين من الله سبحانه وتعالى كمعنى النزول منه فى ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير وهو أى ذلك عند أهل الحقائق من مقام التنزل بمعنى أنه تعالى يتلطف بعباده ويتنزل فى خطابه لهم فيطلق على نفسه ما يطلقونه على أنفسهم فهو فى حقهم حقيقة وفى حقه تعالى مجاز
ورأيت بعضهم ذكر أن فاعل دنا جبريل وفاعل تدلى محمد صلى الله عليه وسلم أى سجد لربه سبحانه وتعالى شكرا على ما أعطى من الزلفى
ورأيت بعضا آخر ذكر أن فاعل تدلى الرفرف وفاعل دنا محمد صلى الله عليه وسلم أى تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم حتى جلس عليه ثم دنا محمد صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه وتعالى أى قرب قرب منزلة وتشريف لا قرب مكان تعالى الله عز وجل عن ذلك
قال صلى الله عليه وسلم وسألنى ربى فلم أستطع أن أجيبه عز وجل فوضع يده عز وجل بين كتفى بلا تكييف ولا تحديد أى يد قدرته تعالى لأنه سبحانه منزه عن الجارحة فوجدت بردها فأورثنى علم الأولين والآخرين وعلمنى علوما شتى فعلم أخذ على كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله غيرى وعلم خيرنى فيه وعلم أمرنى بتبليغه إلى العام والخاص من أمتى وهى الإنس والجن أى وكذلك الملائكة على ما تقدم
أقول هذا التفصيل يدل على أن العلوم الشتى هى هذه العلوم الثلاثة إلا أن يقال كل علم من هذه الثلاثة يشتمل على أنواع من العلوم والله أعلم
قال صلى الله عليه وسلم ثم قلت اللهم إنه لما لحقنى استيحاش سمعت مناديا ينادى بلغة تشبه لغة أبى بكر فقال لى قف فإن ربك يصلى فعجبت من هاتين هل سبقنى أبو بكر إلى هذا المقام وإن ربى لغنى أن يصلى فقال تعالى أنا الغنى عن أن أصلى لأحد وإنما أقول سبحانى سبحانى سبقت رحمتى غضبى اقرأ يا محمد { هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما } فصلاتى رحمة لك ولأمتك وأما أمر صاحبك يا محمد فإن أخاك موسى كان أنسه بالعصا فلما أردنا كلامه قلنا وما تلك بيمينك يا موسى قال هى عصاى وشغل بذكر العصا عن عظيم الهيبة وكذلك أنت يا محمد لما كان أنسك بصاحبك أبى بكر خلقنا ملكا على صورته ينادى بلغته ليزول عنك الاستيحاش لما يلحقك من عظم الهيبة
أقول لعل المراد خلقنا صورة على صورة صوته لأنه ليس فى الرواية أنه رأى ذلك الملك على صورة أبى بكر وإنما سمع صوته والله أعلم
ثم قال الله عز وجل يا محمد وأين حاجة جبريل فقلت اللهم إنك أعلم فقال يا محمد قد أجبته فيما سأل ولكن فيمن أحبك وصحبك
أقول لعل المراد بمن صحبك من كان تابعا لك فى دينك عاملا بسنتك أى وهو مراد جبريل بأمته صلى الله عليه وسلم فى قوله أن أبسط جناحى لأمتك على الصراط والله أعلم
وفى رواية إنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الحق سبحانه وتعالى خر ساجدا قال صلى الله عليه وسلم فأوحى الله عز وجل إلى ما أوحى
وقد ذكر الثعلبى والقشعرى فى تفسير قوله تعالى { فأوحى إلى عبده ما أوحى } أن من جملة ما أوحى إليه إن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك قال القشيرى وأوحى إليه خصصتك بحوض الكوثر فكل أهل الجنة أضيافك بالماء ولهم الخمر واللبن والعسل ففرض على خمسين صلاة فى كل يوم وليلة
أقول تقدم أن من جملة ما أوحى إليه فى هذا الموطن من القرآن خواتيم سورة البقرة وبعض سورة الضحى وبعض ألم نشرح وقد تقدم ذلك عند الكلام على أنواع الوحى وقدمنا أنه يضم لذلك هو الذى يصلى عليكم وملائكته الآية على ما تقدم
هذا وفى حديث رواته ثقات لما وصلت إلى السماء السابعة قال لى جبريل عليه السلام رويدا أى قف قليلا فإن ربك يصلى قلت أهو يصلى وفى لفظ كيف يصلى وفى لفظ أخر قلت يا جبريل أيصلى ربك قال نعم قلت وما يقول قال يقول سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبقت رحمتى غضبى ولا مانع من تكرر وقوع ذلك له صلى الله عليه وسلم من جبريل ومن غيره فى السماء السابعة وفيما فوقها لكن يبعد تعجبه صلى الله عليه وسلم من كونه عز وجل يصلى فى المرة الثانية وما بعدها
وورد أن بنى إسرائيل سألوا موسى هل يصلى ربك فبكى موسى عليه الصلاة والسلام لذلك فقال الله تعالى يا موسى ما قالوا لك فقال قالوا الذى سمعت قال أخبرهم أنى أصلى وأن صلاتى تطفئ غضبى والله أعلم
قال صلى الله عليه وسلم فنزلت إلى موسى أى وفى رواية ثم انجلت تلك السحابة أى عند وصوله إلى سدرة المنتى الذى هو المحل الذى وقف فيه جبريل فأخذ بيده جبريل فانصرف سريعا فأتى على إبراهيم فلم يقل شيئا ثم أتى على موسى وهذا
يدل على ما هو المشهور فى الروايات أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان فى السابعة وموسى كان فى السادسة لا على غير المشهور أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان فى السادسة وموسى كان فى السابعة كما تقدم
ولما أتى إلى موسى عليه الصلاة والسلام قال له ما فرض ربك عليك أى وفى لفظ بم أمرت قال خمسين صلاة قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك فإنى بلوت بنى إسرائيل وخبرتهم أى وفى البخارى إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم وإنى والله قد جربت الناس قبلك وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة أى فإنه فرض عليهم صلاتان فما قاموا بهما أى ركعتان بالغداة وركعتان بالعشى وقيل فرض ركعتان عند الزوال أى فما قاموا بذلك
وفى تفسير البيضاوى أن الذى فرض على بنى إسرائيل خمسون صلاة فى اليوم والليلة وسيأتى ذكر ذلك فى بعض الروايات
ويرده قولهم إن سبب طلب التخفيف أنه استكثر الخمس التى هى المرة الأخيرة فهو إنما يناسب ما تقدم
ثم رأيت القاضى البيضاوى قال فى تفسير قوله تعالى { ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } أن من ذلك الإصر الذى كلفت به بنو إسرائيل خمسون صلاة فى اليوم والليلة وكتب عليه الجلال السيوطى فى الحاشية أن كون بنى إسرائيل كلفوا بخمسين صلاة فى اليوم والليلة باطل وبسط الكلام على ذلك
ثم قال موسى فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك أى وإنما كانت أمته مأمورة بما أمر به ومفروض عليها ما فرض عليه لأن الفرض عليه صلى الله عليه وسلم فرض على أمته والأمر له صلى الله عليه وسلم أمر لها لأن الأصل أن ما ثبت فيه حق كل نبى ثبت فى حق أمته إلا أن يقوم الدليل على الخصوصية
قال فرجعت إلى ربى أى انتهى إلى الشجرة فغشيته السحابة وخر ساجدا فقلت يا رب خفيف عن أمتى فحط عنى خمسا فرجعت إلى موسى فقلت حط عنى خمسا قال إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك واسأله التخفيف قال فلم أزل أرجع بين ربى تبارك وتعالى وبين موسى صلى الله عليه وسلم حتى قال الله تعالى يا محمد إنهن خمس صلوات فى كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة ومن هم
بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له سيئة واحدة قال صلى الله عليه وسلم فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فقلت قد رجعت إلى ربى حتى استحييت منه أى وفي رواية أنه وضع عنه عشر صلوات عشر صلوات إلى أن أمر بخمس صلوات وجاء في الحديث أكثروا من الصلاة على موسى فما رأيت أحدا من الأنبياء أحوط على أمتى منه
أقول فى الوفاء أن رواية وضعت خمس صلوات من أفراد مسلم ورواية وضع عنه عشر صلوات أصح لأنه قد أتفق البخارى ومسلم عليها والرواية التى فيها حط خمسا خمسا غلط من الرواة هذا كلامه فليتأمل
والمتبادر من قوله إلى أن مر بخمس صلوات أنه رفع التعلق بجمع الخمسين وأثبت تعلقا جديدا بخمس ليست من الخمسين فالمنسوخ جميع الخمسين
ويحتمل أنه رفع التعلق بجملة الخمسين مع إثبات التعلق بخمسة منها التى هى بعضها فيكون المنسوخ ما عدا الخمس من الخمسين قيل وفى هذا وقوع النسخ قبل البلاغ وقد اتفق أهل السنة والمعتزلة على منعه
ورد بأن هذا وقع بعد البلاغ بالنسبة للنبى صلى الله عليه وسلم لأنه كلف بذلك ثم نسخ فقد قال شيخ الإسلام زكريا الأنصارى رحمه الله تعالى وما قيل إن الخمس فى ليلة الإسراء ناسخة للخمسين إنما هو فى حقه صلى الله عليه وسلم لبلوغه له لافى حق الأمة أى لعدم بلوغه لهم هذا كلامه وإذا نسخ فى حقه صلى الله عليه وسلم نسخ فى حق أمته كما هو الأصل إلا أن تثبت الخصوصية بدليل صحيح وهذا يرد ما فى الخصائص الصغرى للسيوطى رحمه الله تعالى من أن وجوب الخمسين لم ينسخ فى حقه صلى الله عليه وسلم وإنما نسخ فى حق الأمة ولعل مستنده فى ذلك رواية فرض الله على أمتى ليلة الإسراء خمسين صلاة فلم أزل أراجعه وأسأله التخفيف حتى جعلها خمسا فى كل يوم وليلة أى على الأمة كما هو المتبادر وقول موسى عليه الصلاة والسلام له صلى الله عليه وسلم إن أمتك لا تطيق ذلك وربما يوافق ذلك قول الإمام السبكى فى تائيته
** وقد كان رب العالمين مطالبا بخمسين فرضا كل يوم وليلة ** **
فأبقيت أجر الكل ما اختل ذرة وخففت الخمسون عنا بخمسة **
وفيه النسخ قبل التمكن من الفعل وهو يرد قول المعتزلة القائلين بأنه لا يجوز النسخ قبل التمكن من الفعل ودخول وقته
والظاهر من الخمسين التى فرضت أولا أن كل صلاة من الخمس تكرر عشر مرات فما زاد على الخمس مساولها
ويحتمل أن تكون صلوات أخر مغايرة لتلك الخمس ولم أقف على بيان تلك الصلوات
وعلى أن الخمسين لم تنسخ فى حقه صلى الله عليه وسلم لم أقف على ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلاها ولا على كيفية صلاته صلى الله عليه وسلم صلاها ولا على كيفية صلاته صلى الله عيله وسلم لها وإلى عروجه صلى الله عليه وسلم ورجوعه أشار صاحب الهمزية بقوله ** وطوى الأرض سائرا والسموات العلا فوقها له إسراء ** **
فصف الليلة التى كان للمختا ر فيها على البراق استواء ** ** وترقى به إلى قاب قوسين وتلك السيادة القعساء ** **
رتب تسقط الأمانى حسرى دونها ما وراءهن وراء ** ** وتلقى من ربه كلمات كل علم فى شمسهن هباء ** **
زاخرات البحار يغرق فى قط رتها العالمون والحكماء **
أى وطوى الأرض حالة كونه صلى الله عليه وسلم سائرا عليها إلى المدينة عند الهجرة كما طويت له صلى الله عليه وسلم قبل ذلك السموات العلا لما كان له صلى الله عليه وسلم فوقها إسراء أى ليلة الإسراء إلى أن جاوزها جميعها فى أسرع وقت فصف تلك الليلة التى كان للمختار فيها على البراق استواء واستقرار وصعد به ذلك البراق إلى مقدار قاب قوسين وتلك الرتبة التى وصل إليها صلى الله عليه وسلم هى السعادة الثابتة التى لا يعتريها نقص ولا زوال وهذه رتب تسقط دونها الأمانى حسرى ذات إعياء وتعب ما قدامهن قدام أى ليس بعدها من رتبة ينالها أحد غيره صلى الله عليه وسلم وتلقى من ربه كلمات ما عداها بالنسبة إليها كالهباء وهو ما يرى فى ضوء الشمس وبث سبحانه
وتعالى إليه علوما لا يدرك العلماء الحكماء شذرة منها وكونه صلى الله عليه وسلم صعد السموات على البراق يوافقه ما فى حياة الحيوان
إن قيل لم عرج بالنبى صلى الله عليه وسلم إلى السماء على البراق ولم ينزل عند منصرفه عليه فالجواب أنه عرج به إلى دار الكرامة ولم ينزل به عليه إظهارا لقدرة الله تعالى هذا كلامه فليتأمل
وتقدم عن الحافظ ابن كثير إنكار صعوده صلى الله عليه وسلم على البراق وقد جاء كان موسى أشد على حين مررت عليه وخيرهم إلى حين رجعت ونعم الصاحب كان لكم أى فإنه صلى الله عليه وسلم كما تقدم لما جاوزه عند الصعود بكى فنودى ما يبكيك قال رب هذا غلام أى لأنه صلى الله عليه وسلم كان حديث السن بالنسبة لموسى صلى الله عليه وسلم هذا هو المناسب للمقام بعثته بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتى وفى رواية تزعم بنو إسرائيل أى وهو يعقوب بن إسحاق عليهما الصلاة والسلام ومعنى إسرائيل عبدالله وقيل صفوة الله وفى لفظ تزعم الناس أنه أكرم على الله منى ولو كان هذا وحده هان ولكن معه أمته وهم أفضل الأمم عند الله تعالى أى انضم إلى شرفه شرف أمته على سائر الأمم
أقول والغرض من هذا وما تقدم عنه عند مروره صلى الله عليه وسلم على قبره عليه الصلاة والسلام عند الكثيب الأحمر إظهار فضيلة نبينا صلى الله عليه وسلم وفضيلة أمته بأنه أفضل الأنبياء وأمته بأنها أفضل الأمم وفى رواية عن ابن عمر كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرات وغسل الثوب من البول سبع مرات ولم يزل صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا وغسل الجنابة مرة وغسل الثوب من البول مرة
قال وعن أنس رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسرى بى مكتوبا على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر فقلت لجبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة قال لأن السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة انتهى هذا والراجح عند أئمتنا أن درهم الصدقة أفضل من درهم القرض
وبيان كون درهم القرض بثمانية عشر درهما أن درهم القرض بدرهمين من دراهم
الصدقة كما جاء فى بعض الرويات ودرهم الصدقة بعشرة تصير الجملة عشرين ودرهم القرض يرجع للمقرض بدله وهو بدرهمين من عشرين يتخلف ثمانية عشر
وعرضت عليه صلى الله عليه وسلم النار فإذا فيها غضب الله تعالى أى نقمته لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتهما وفى هذه الرواية زيادة على ما تقدم وهى فإذا قوم يأكلون الجيف فقال صلى الله عليه وسلم من هؤلاء يا جبريل فقال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس أى وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم رأى هؤلاء فى الأرض وأن لهم أظفارا من حديد يخمشون بها وجوههم وصدورهم ورآهم فى السماء الدنيا وأنهم يقطعون اللحم من جنوبهم فيلقمونه ولينظر ولينظر ما الحكمة في تكرير رؤية هؤلاء دون غيرهم من بقية أهل الكبائر الذين رآهم الأرض وفى السماء الدنيا ولعل الحكمة فى ذلك المبالغة فى الزجر عن الغيبة لكثرة وقوعها
ورأى فيها رجلا أحمر أزرق فقال من هذا يا جبريل فقال هذا عاقر الناقة أى لعل دخول الجنة وعرض النار عليه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن تغشاه السحابة ويزج به فى النور ولا مانع من أن تعرض عليه النار وهو فوق السماء السابعة وهى فى الأرض السابعة
أقول ونقل القرطبى فى تفسيره عن الثعلبى عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسرى بى إلى السماء تحت العرش سبعين مدينة كل مدينة مثل دنياكم هذه سبعين مرة مملوآت من الملائكة يسبحون الله عز وجل ويقدسونه ويقولون فى تسبيحهم اللهم اغفر لمن شهد الجمعة أى صلاتها اللهم اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة أي لصلاتها وهذا يفيج أن هذه التسمية أي تسمية ذلك اليوم بيوم الجمعة معروفة عند الملائكة وعنده صلى الله عليه وسلم وهو يوافق ما قيل إن المسمى لها بذلك كعب بن لؤي كما تقدم ويخالف ما سيأتي من أن تسمية ذلك اليوم بيوم الجمعة هداية من الله عز وجل للمسلمين بالمدينة وأنه لما أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلوها فى ذلك اليوم لم يسمه بيوم الجمعة بل اقتصر على قوله اليوم الذى يليه اليوم الذى تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم أى فى أكثر الروايات وإلا فقد رأيت السهيلى ذكر حدثنا عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه سمى ذلك اليوم بيوم الجمعة ونصه كتب صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير أما بعد فانظر اليوم
الذى يليه اليوم الذى تجهرفيه اليهود بالزبور لسبتهم فاجمعو نساءكم وأبناءكم فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله تعالى فيه بركعتين فعلى أكثر الروايات يجوز أن يكون إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك هنا أى قصة المعراج كان بعد التسمية وصلاة الجمعة وعبر بهذه العبارة لكونها عرفت لهم فيكون الذى سمعه من الملائكة يوم العروبة مثلا والله أعلم
قال ورأى صلى الله عليه وسلم مالكا خازن النار فإذا هو رجل عابس يعرف الغضب فى وجهه فبدأ النبى صلى الله عليه وسلم أى بالسلام ثم أغلقت دونه انتهى
وفى الأصل وفى حديث أبى هريرة رضى الله تعالى عنه وقد رأيتنى أى يخبر أنه صلى الله عليه وسلم رأى نفسه فى جماعة من الأنبياء فحانت الصلاة أى حضرت إرادة الصلاة فأممتهم أى صليت بهم إماما قال قائل يا محمد هذا مالك خازن النار فسلم عليه فبدأنى بالسلام قال وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل مالى لم آت لأهل سماء إلا رحبوا بى وضحكوا إلا غير واحد سلمت عليه فرد على السلام ورحب بى ودعا لى ولم يضحك إلى قال ذلك مالك خازن النار لم يضحك منذ خلق ولو ضحك لأحد لضحك إليك انتهى
أقول وهذا السياق يدل على أن ضحك من لقيه من الأنبياء والملائكة فى السموات له صلى الله عليه وسلم سقط من جميع روايات المعراج إذ لم يذكر فى شيء منها على ما علمت ويدل على أن مالكا خازن النار وجده فى السماء السابعة وأنه مرة بدأ النبى صلى الله عليه وسلم بالسلام ومرة بدأه النبى صلى الله عليه وسلم بالسلام والمناسب أن يكون فى المرة الأولى هو الذى بدأ النبى صلى الله عليه وسلم وهو عند الباب ثم رأيت الطيبى صرح بذلك حيث قال إنما بدأ خازن النار بالسلام عليه ليزيل ما استشعره من الخوف منه لما ذكر من أنه رأى رجلا عابسا يعرف الغضب فى وجهه فلا ينافيه ما ذكره السهيلى من أنه صلى الله عليه وسلم لم يره على الصورة التى يراه عليها المعذبون فى الآخرة ولو رآه عليها لم يستطع أن ينظر إليه
وقوله صلى الله عليه وسلم لم آت أهل سماء إلى آخره قد يعارضه ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل مالى لم أر ميكائيل ضاحكا قال ما ضحك منذ خلقت النار وفيه أن هذا يفيد أن ميكائيل كان موجودا قبل خلق النار وإيجادها وهذا لا ينافى أن
ميكائيل ضحك بعد ذلك فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم تبسم فى الصلاة فسئل عن ذلك فقال رأيت ميكائيل راجعا من طلب القوم أى يوم بدر وعلى جناحه الغبار فضحك إلى فتبسمت إليه
ولعل هذا كان بعد ما أخرجه أحمد فى مسنده عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لجبريل إنى لم أر ميكائيل ضاحكا قط قال ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار ومما يدل على أن جبريل عليه الصلاة والسلام خلق قبل النار أيضا ما فى مسند أحمد عن أنس بن مالك قال قال صلى الله عليه وسلم لجبريل لم تأتنى إلا رأيتك صارا بين عينيك قال إنى لم أضحك منذ خلقت النار وهذا مع ما تقدم من رؤية الجنة والنار يرد على الجهمية وبعض المعتزلة كعبد الجبار وأبى هاشم حيث زعموا أن الله تعالى لم يخلق الجنة والنار وأنهما ليستا موجودتين الآن وإنما يخلقهما سبحانه وتعالى يوم الجزاء مستدلين بأنه لا يحسن من الحكيم أن يخلق الجنة دار النعمة والنار دار النقمة قبل خلق أهلهما وبأنهما لو كانا مخلوقتين فى السماء والأرض والأرض لفنيا بفنائهما
وأجيب عن الأول بأنه يحسن من الحكيم خلقهما قبل يوم الجزاء لأن الإنسان إذا علم ثوابا مخلوقا اجتهد فى العبادة لتحصيل ذلك الثواب وأذا علم عقابا مخلوقا اجتهد فى اجتناب المعاصى لئلا يصيبه ذلك الثواب وأذا علم عقابا مخلوقا اجتهد فى اجتناب المعاصى لئلا يصيبه ذلك العقاب فليتأمل
وأجيب عن الثانى بأن الله استثناهما من قوله تعالى { فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء }
وفيه أن هذه صعقة الموت ولا يتصف بالموت غير ذى الروح ولأن الجنة كما قيل ليست فى السماء السابعة بل فوقها والنار ليست فى الأرض السابعة بل تحتها وحينئذ يكون القول بأن الجنة فى السماء السابعة والنار فى الأرض السابعة فيه تجوز والله أعلم
قال واختلف فى رؤيته صلى الله عليه وسلم لربه تبارك وتعالى تلك الليلة فأكثر العلماء على وقوع ذلك أى أنه صلى الله عليه وسلم رآه عز وجل بعين رأسه واستدل له بحديث رأيت ربى فى أحسن صورة ورد بأن هذا الحديث مضطرب الإسناد والمتن
وقد قال بعض العارفين شاهد الحق سبحانه وتعالى القلوب فلم ير قلبا أشوق إليه
من قلب محمد صلى الله عليه وسلم فأكرمه بالمعراج تعجيلا للرؤية والمكالمة وأنكرتها عائشة رضى الله تعالى عنها وقالت من زعم أن محمد رأى ربه أى بعين رأسه فقد أعظم الفرية على الله عز وجل أى أتى بأعظم الافتراء والكذب على الله عز وجل ووافقها على ذلك من الصحابة ابن مسعود وأبو هريرة رضى الله تعالى عنهما وجمع من العلماء
ونقل عن الدارمى الحافظ أنه نقل إجماع الصحابة على ذلك ونظر فيه وذهب إلى الرؤية أى المذكورة أكثر الصحابة وكثير من المحدثين والمتكلمين بل حكى بعض الحفاظ على وقوع الرؤية له بعين رأسه الإجماع وإلى ذلك يشير صاحب الأصل بقوله ** ورآه وما رآه سواه رؤية العين يقظة لا المرائى **
واحتجت عائشة رضى الله عنها على منع الرؤية بقوله تعالى { لا تدركه الأبصار } قال وروى أن مسروقا قال لها ألم يقل الله عز وجل ولقد رآه نزلة أخرى أى مرة أخرى أي بناء على أن الضمير المستتر له صلى الله عليه وسلم والبارز له سبحانه وتعالى فقالت أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك فقال إنما رأيت جبريل منهبطا أي فالضمير البارز إنما هو لجبريل وفي رواية قال لها ذاك جبريل لم أره فى صورته التى خلق عليها إلا مرتين أى مرة فى الأرض ومرة فى السماء فى هذه الليلة كما تقدم وعلى ظاهر الآية أى من جعل الضمير المستتر له صلى الله عليه وسلم والبارز له سبحانه وتعالى وقطع النظر عن هذه الرواية التى جاءت عن عائشة رضى الله تعالى عنها يلزم أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى الحق سبحانه وتعالى ليلة المعراج مرتين مرة فى قاب قوسين ومرة عند سدرة المنتهى ولا مانع من ذلك ولعل ذلك هو المعنى بقول الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم برؤيته للبارى عز وجل مرتين وفيها وجمع له بين الكلام والرؤية وكلمه عند سدرة المنتهى وكلم موسى بالجبل
قال بعضهم يجوز أنه صلى الله عليه وسلم خاطب عائشة رضى اللع تعالى عنها بما ذكر أى بقوله إنما رأيت جبريل إلى آخره على قدر عقلها أى فى ذلك الوقت انتهى وأيد قولها بما روى عن أبى ذر رضى الله تعالى عنه قلت يا رسول الله هل رأيت ربك قال رأيت نورا أى حجبنى ومنعنى عن رؤيته عز وجل ومن ثم جاء فى رواية نور أنى أراه أى كيف أراه مع وجود النور لأن النور إذا غشى البصر حجبه عن رؤية
ما وراء أى وليس المراد أنه سبحانه وتعالى هو النور المرئى له خلافا لمن فهم ذلك وأيده بما روى نورانى أى لأن هذه الرواية كما قيل تصحيف ومن ثم قال القاضى عياض لم أرها فى أصل من الأصول ومحال أن تكون ذاته تعالى نورا لأن النور من جملة الأعراض أى لأنه كيفية تدركها الباصرة أولا وبواسطة تلك الكيفية تدرك سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما والله تعالى يتعالى عن ذلك أى فحجابه تعالى النور كما رواه مسلم أى ومن ثم قيل فى قوله تعالى { الله نور السماوات والأرض } أى ذو نور أو هو على المبالغة أى وجاء رأيته فى صورة شاب أمرد عليه حلة خضراء دونه ستر من لؤلؤ وجاء رأيت ربى فى أحسن صورة قال الكمال بن الهمام إن كان المراد به رؤية اليقظة فهو حجاب الصورة
قال وقيل رآه بفؤاده مرتين لابعينى رأسه فعن بعض الصحابة قلنا يا رسول الله هل رأيت ربك قال لم أره بعينى رأيته بفؤادى مرتين ثم تلا ثم دنا فتدلى الآية وهذا السياق يدل على أن فاعل دنا فتدلى الحق سبحانه وتعالى والمراد بالفؤاد القلب أى خلقت الرؤية فى القلب أو خلق الله لفؤاده بصرا رأى به انتهى
أقول وكون الفؤاد له بصر واضح لقوله تعالى { ما زاغ البصر وما طغى } وأجيب عما احتجت به عائشة رضى الله عنها من قوله تعالى { لا تدركه الأبصار } بأنه لا يلزم من الرؤية الإدراك أي الذي هو الإحاطة فالنور إنما منع الإحاطة به لا من أصل الرؤية وقد قال بعضهم للإمام أحمد بأى معنى تدفع قول عائشة رضى الله تعالى عنها من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفرية فقال يدفع بقول النبى صلى الله عليه وسلم رأيت ربى وقول النبى صلى الله عليه وسلم أكبر من قولها
هذا وقد قال أبو العباس بن تيمية الإمام أحمد إنما يعنى رؤية المنام فإنه لما سئل عن ذلك قال نعم رآه فإن رؤيا الأنبياء حق ولم يقل إنه رآه بعين رأسه يقظة ومن حكى عنه ذلك فقد وهم وهذه نصوصه موجودة ليس فيها ذلك
أقول وفيه أنه يبعد أن يكون الإمام أحمد يفهم عن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها تنكر رؤيا المنام حتى يرد عليها وقد ضعف حديث أبى ذر المتقدم وهو قلت يا رسول الله رأيت ربك فقال نور أنى أراه وهو من جملة الأحاديث التى فى مسلم التى نظر فيها والله أعلم
قال أبو العباس بن تيمية وأهل السنة متفقون على أن الله عز وجل لا يراه أحد بعينه فى الدنيا لا نبى ولا غير نبى ولم يقع النزاع إلا فى نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة مع أن أحاديث المعراج المعروفة ليس فى شئ منها أنه رآه وإنما روى ذلك باسناد موضوع باتفاق أهل الحديث
وفى صحيح مسلم وغيره عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وقد سأله موسى الرؤية فمنعها
وقد نقل القرطبى عن جماعة من المحققين القول بالوقف فى هذه المسألة لأنه لا دليل قاطع وغاية ما استدل به الفريقان ظواهر متعارضة قابلة للتأويل وهو من المعتقدات التى يكتفى فيها بخبر الآحاد الصحيح وهى فلا بد فيها من الدليل القطعي هذا كلامه
ونازع فيه السبكى بأنه ليس من المعتقدات التي يشترط فيها الدليل القطعي وهي التي تكلف فاعتقادها كالحشر والنشر بل من المعتقدات التى لم نكلف باعتقادها كما نحن فيه وفى الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم برؤيته من آيات ربه الكبرى وحفظه حتى ما زاغ البصر وما طغى وبرؤيته للبارى مرتين
وفى كلام ابن دحية خص صلى الله عليه وسلم بألف خصلة منها الرؤية والدنو والقرب قال بعضهم قد صحت الأحاديث عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فى إثبات الرؤية وحينئذ يجب المصير إلى إثباتها ولا يجترئ أحد أن يظن فى ابن عباس أن يتكلم فى هذه المسألة بالظن والاجتهاد
قال الإمام النووى والراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه أى وأما رؤيته عز وجل يوم القيامة فى الموقف فعامة لكل أحد من الخلق الإنس والجن من الرجال والنساء المؤمن والكافر والملائكة جبريل وغيره
وأما رؤيته عز وجل فقيل لا تراه الملائكة وقيل يراه منهم جبريل خاصة مرة واحدة قال بعضهم وقياس عدم رؤية الملائكة عدم رؤية الجن ورد ذلك واختلف في رؤية النساء من هذه الأمة له تعالى فى الجنة فقيل لا يرينه لأنهن
مقصورات أى محبوسات فى الخيام وقيل يرينه فى أيام الأعياد دون أيام الجمع بخلاف الرجال فإنهم يرونه فى كل يوم جمعة
فقد جاء أنه تعالى يتجلى فى مثل عيد الفطر ويوم النحر لأهل الجنة تجليا عاما ومن أهل الجنة مؤمن الجن على الراجح
وجاء إن كل يوم كان للمسلمين عيدا فى الدنيا فإنه عيد لهم فى الجنة يجتمعون فيه على زيارة ربهم ويتجلى لهم فيه ويدعى يوم الجمعة فى الجنة بيوم المزيد قال بعضهم هذا لعموم أهل الجنة وأما خواصهم فكل يوم لهم عيد يرون ربهم فيه بكرة وعيشا
وأما رؤية الله عز وجل فى النوم ففى الخصائص الصغرى ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يجوز له رؤية الله وعز وجل فى المنام ولا يجوز ذلك لغيره صلى الله عليه وسلم فى أحد القولين وهو اختيارى وعليه أبو منصور الماتريدى وفى كلام الإمام النووى قال القاضى عياض اتفق العلماء على صفة لا تليق بجلاله من صفات الأجساد لأن ذلك المرئى غير ذات الله تعالى والله أعلم
ثم لا يخفى أن أكثر العلماء على أن الإسراء إلى بيت المقدس ثم المعراج إلى السماء كانا فى ليلة واحدة أى وقيل كان الإسراء وحده فى ليلة ثم كان هو والمعراج فى ليلة أخرى
قال وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل إلى سماء الدنيا نظر إلى أسفل منه فإذا هو برهج ودخان وأصوات فقال ما هذا يا جبريل قال هذه الشياطين يحومون على أعين بنى آدم لا يتفكرون أى وذلك مانع لهم من التفكر فى ملكوت السموات والأرض أى لعدم نظرهم للعلامات الموصلة لذلك لولا ذلك لرأوا العجائب أى أدركوها
ثم ركب صلى الله عليه وسلم البراق منصرفا أى بناء على أنه لم يعرج على البراق فمر بعير لقريش إلى آخر ما تقدم انتهى
أقول ذكر بعضهم أن مما نزل عليه صلى الله عليه وسلم بين السماء والأرض أى عند نزوله من السماء قوله تعالى { وما منا إلا له مقام معلوم } الآيات الثلاث وقوله تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا الآية والآيتان من آخر سورة البقرة وتقدم أنهما نزلتا بقاب قوسين والله أعلم
واستدل على أن كلا من الإسراء والمعراج كان يقظة بجسده صلى الله عليه وسلم وروحه بقوله تعالى { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } لأن العبد حقيقة هو الروح والجسد قال تعالى { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى } وقال وأنه لما قام عبد الله يدعوه ولو كان الإسراء مناما لقال بروح عبده ولأن الدواب التى منها البراق لا تحمل الأرواح وإنما تحمل الأجساد
واستدل على أنه الرؤية كانت بعين بصره صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى { ما زاغ البصر وما طغى } لأن وصف البصر بعدم الإزاغة يقتضى أن ذلك يقظة ولو كانت الرؤية قلبية لقال ما زاغ قلبه
أقول فيه أن لقائل أن يقول يجوز أن يكون المراد بالبصر بصر قلبه لما تقدم أن الله تعالى خلق لقلبه بصرا والله أعلم
وقيل كان الإسراء بجسده والمعراج بروحه الشريفة أى بذاتها عرج بها حقيقة من غير إماتة للجسد وكان حالها فى ذلك أرقى منه كحالها بعد مفارقتها لجسدها بموته فى صعودها فى السموات حتى بين يدى الله تعالى وهذا أمر فوق ما يراه النائم وغيره صلى الله عليه وسلم لا تنال ذات روحه الصعود إلا بعد الموت لجسدها قيل ومن ثم لم يشنع كفار قريش إلا أمر الإسراء دون المعراج
أقول الظاهر أن إخباره صلى الله عليه وسلم بالمعراج لم يكن عند إخباره بالإسراء بل تأخر عن إخباره بالإسراء بناء على أنهما كان فى ليلة واحدة وإلا فقد ذكر بعضهم أن المعراج لم يكن ليلة الإسراء الذى أخبر به كفار قريش قال إذ لو كان أى فى تلك الليلة لأخبر به حين أخبرهم بالأسراء أى ولم يخبر به حينئذ إذ لو أخبر به حينئذ لنقل ولذكره سبحانه وتعالى مع الإسراء لأن المعراج أبلغ فى المدح والكرامة وخرق العادة من الإسراء إلى المسجد الأقصى
وأجيب عنه بأنه على تسليم أنه كان فى ليلة الإسراء الذى أخبر به قريشا هو صلى الله عليه وسلم استدرجهم إلى الإيمان بذكر الإسراء أولا فلما ظهرت لهم أمارات صدقه على تلك الآية الخارقة التى هى الإسراء أخبرهم بما هو أعظم منها وهو المعراج بعد ذلك أى وحيث أخبرهم بذلك لم ينكروه لذلك أى لثبوت صدقه صلى الله عليه وسلم فيما ادعاه من الإسراء وتقدم عن المواهب أنهم لم يسألوه عن علامات تدل على صدقه صلى الله
عليه وسلم فى ذلك لعدم علمهم ومعرفتهم بشئ فى السماء والحق سبحانه وتعالى أرشده إلى ذلك أى إلى أن يخبرهم بالإسراء أولا ثم بالمعراج ثانيا حيث لم ينزل قصة المعراج فى سورة الإسراء بل أنزل ذلك فى سورة النجم
ومما يؤيد أنهما كانا فى ليلة واحدة قول الإمام البخارى فى صحيحه باب كيف فرضت الصلاة ليلة الإسراء لأن من المعلوم أن فرض الصلاة أى الصلوات الخمس إنما هو فى المعراج
وأما إفراده كلا من الإسراء والمعراج بترجمة فلا يخالف ذلك لأنه إنما أفرد كلا منهما بترجمة لأن كلا منهما يشتمل على قصة منفردة وإن كانا وقعا معا
وقد خالف الحافظ الدمياطى فى سيرته فذكر أن المعراج كان فى رمضان والإسراء كان فى ربيع الأول والله أعلم
وقيل الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم أى بعد البعثة مرتين مناما أولا ويقظة ثانيا أى فكانت مرة المنام توطئة وتبشيرا لوقوعه يقظة وبذلك يجمع بين الاختلاف الواقع فى الأحاديث أى فبعض الرواة خلط الواقع له صلى الله عليه وسلم منامنا بالواقع له صلى الله عليه وسلم يقظة
وعلى هذا لا يشكل قول شريك فلما استيقظت لكنه قال إن مرة المنام كانت قبل البعثة ففى رواية وذلك قبل أن يوحى إلى وقد أنكر الخطابى عليه ذلك وعده من جملة أو هامه الواقعة فى حديث الإسراء والمعراج ورد على الخطابى الحافظ ابن حجر فى ذلك بما ينبغى الوقوف عليه
وقيل كان المعراج يقظة ولم يكن ليلا ولم ويكن من بيت المقدس بل كان من مكة وكان نهارا فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل ربه عز وجل أن يريه الجنة والنار فلما كان نائما ظهرا أتاه جبريل وميكائيل فقالا انطلق إلى ما سألت الله تعالى فانطلقا بى إلى ما بين المقام وزمزم فأتى بالمعراج فإذا هو أحسن شئ منظرا فعرجا بى إلى السموات سماء سماء الحديث ولا يخفى أن سياق هذا الحديث يدل على أن ذلك كان مناما فلا يحسن أن يكون دليلا على قوله يقظة
وقد جاء عن أبى ذر رضى الله تعالى عنه أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال فرج سقف بيتى وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدرى ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغهما فى صدرى ثم أخذ بيدى فعرج إلى السماء الحديث وقد يدعى أن فى رواية أبى ذر اختصارا وليس فيها أن ذلك كان مناما أو يقظة
أى وأما ما ادعاه بعضهم أن المعراج تكرر يقظة فغريب إذ كيف يتكرر يقظة سؤال أهل كل باب من أبواب السماء هل بعث إليه وكيف يتكرر سؤاله صلى الله عليه وسلم عن كل نبى وكيف يتكرر فرض الصلوات الخمس والمراجعة وأما مناما فلا بعد فى بكرر ذلك توطئة لوقوعه يقظة أى وهذا منشأ اختلاف الروايات أدخل بعض الرواة ما وقع فى المنام ما وقع فى اليقضة خلافا لمن زعمه ومن ثم قال الحافظ ابن كثير من جعل كل رواية خالفت الأخرى مرة واحدة بروحه وجسده يقظة والباقى بروحه رؤيا رآها أى ومن ذلك ما وقع له صلى الله عليه وسلم فى المدينة بعد الهجرة وهو محمل قول عائشة رضى الله تعالى عنها ما فقدت جسده الشريف
وفى صبيحة ليلة المعراج حين زالت الشمس من اليوم الذى يلى الليل التى فرضت فيها الصلوات الخمس كان نزول جبريل عليه الصلاة والسلام وإمامته بالنبى صلى الله عليه وسلم ليعلمه أوقات الصلوات أى وكيفيتها أى لأنه لا يلزم من علمه صلى الله عليه وسلم بكيفية صلاة الركعتين وصلاة قيام الليل علم كيفية الصلوات الخمس وإن قلنا بأن الرباعية منها فرضت ركعتين فأمر صلى الله عليه وسلم فصيح بأصحابه الصلاة جامعة فاجتمعوا فصلى به صلى الله عليه وسلم جبريل وصلى النبى صلى الله عليه وسلم بالناس فسميت تلك الصلاة الظهر لأنها أول صلاة ظهرت ولأنها فعلت عند قيام الظهيرة اى شدة الحر أو عند نهاية ارتفاع الشمس وهذا الحديث ظاهر بأن صلاته صلى الله عليه وسلم بالناس كانت بعد صلاته مع جبريل محتمل لأن يكون صلى الله عليه وسلم صلى بصلاة جبريل والناس صلوا بصلاته صلى الله عليه وسلم
ففى بعض الروايات لما نودى بالصلاة جامعة فزعوا لذلك واجتمعوا فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أربع ركعات لا يقرأ فيهنى علانية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدى الناس وجبريل بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتدى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل ثم يصلى كذلك فى العصر ولما غابت الشمس صلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب ثلاث ركعات يقرأ فى الركعتين علانية وركعة لا يقرأ فيها علانية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدى الناس وجبريل بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل
وفى كلام الإمام النووى قوله إن جبريل نزل فصلى إمام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بكسر الهمزة ويوضحه قوله فى الحديث نزل جبريل فأمنى واستدل بذلك بعضهم على جواز الاقتداء بمن هو مقتد بغيره لا كما يقوله أئمتنا من منع ذلك
وأجيب عنه من جانب أئمتنا بأن معنى كونه صلى الله عليه وسلم مقتديا بجبريل أنه متابع له فى الأفعال من غير نية اقتداء ولا إيقاف فعله على فعل جبريل فلا يشكل على أئمنتا نعم هذا حينئذ يشكل على أئمتنا القائلين بأنه لا بد من علم كيفية الصلاة قبل الدخول فيها ولا يكفى علمها بالمشاهدة
وقد يجاب بأنه يجوز أن يكون جبريل عليه الصلاة والسلام علمه صلى الله عليه وسلم كيفيتها بالقول ثم أتبع القول الفعل وهو صلى الله عليه وسلم علم أصحابه كذلك وبما تقرر يسقط الإستدلال بذلك على جواز الفرض خلف النفل لأن تلك الصلاة لم تكن واجبة على جبريل لأن الملائكة ليسوا مكلفين بذلك
وأجيب بأنها كانت واجبة على جبريل لأنه مأمور بتعليمها له صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا وكان ذلك عند البيت أي الكعبة مستقبلا بيت المقدس أى صخرته واستقباله صلى الله عليه وسلم لبيت المقدس قيل كان باجتهاد منه وقيل كان بأمر من الله تعالى له قيل بقرآن وقيل بغيره أى وعلى أنه بقرآن يكون مما نسخت تلاوته وقد قال أئمتنا ونسخ قيام الليل بالصلوات الخمس إلى بيت المقدس كما تقدم وكان صلى الله عليه وسلم إذا استقبل بيت المقدس يجعل الكعبة بينه وبينه فيصلى بين الركن اليمانى وركن الحجر الأسود أى كما صلى به جبريل الركعتين أول البعث كما تقدم
وحينئذ لا يخالف هذا قول بعضهم لم يزل صلى الله عليه وسلم يستقبل الكعبة حتى خرج منها أى من مكة أى لم يستدبرها فلما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة استقبل بيت المقدس أى تمحض استقباله واستدبر الكعبة وظاهر إطلاقهم أن هذا أى استقباله بيت المقدس وجعل الكعبة بينه وبينه كان شأنه صلى الله عليه وسلم غالبا وإن صلى خارج المسجد بمكة ونواحيها
والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك أدبا لا وجوبا وإلا فقد جاء أن صلاة جبريل به صلى الله عليه وسلم كانت عند باب الكعبة كما رواه إمامنا الشافعى رضى الله تعالى عنه فى الأم
وروى الطحاوى عند باب البيت مرتين أى وذلك فى المحل المنخفض الذى تسميه العامة المعجنة كما تقدم وصلاته صلى الله عليه وسلم عند باب الكعبة فى المحل المذكور لبيت المقدس لا يكون مستقبلا للكعبة بل تكون على يساره لأنه لا يتصور أن يستقبل بيت المقدس ويكون مستقبلا للكعبة أيضا إلا إذا صلى بين اليمانيين كما تقدم
وأيضا ذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم كان يسجد نحو بيت المقدس ويجعل الكعبة وراء ظهره وهو بمكة أى فى بعض الأوقات حتى لا يخالف ما سبق أنه صلى الله عليه وسلم كان يستقبلها لبيت المقدس
ولا ينافى ذلك ما فى زبدة الأعمال أقام صلى الله عليه وسلم بعد نزول جبريل ثلاث عشرة سنة وكان يصلى إلى بيت المقدس مدة إقامته بمكة يجعلها أى الكعبة بين يديه ولا يستدبرها لإمكان حمل مدة إقامته على غالبها
ومما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم مع الصحابة كانوا يصلون إلى بيت المقدس وهم بمكة ما سيأتى عن البراء بن معرور أنه لما عدل عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة قبل أن يهاجر صلى الله عليه وسلم وسأله عن ذلك قال له قد كنت على قبلة لو صبرت عليها
وأم به صلى الله عليه وسلم جبريل مرتين مرة أول الوقت ومرة آخر الوقت لكن الوقت الاختيارى بالنسبة للعصر والعشاء والصبح لا الآخر الحقيقى ليعلمه الوقت
أى ولما جاءه صلى الله عليه وسلم جبريل أمر مصيح بأصحابه الصلاة جامعة كما تقدم أى لأن الإقامة المعروفة للصلوات الخمس لم تشرع إلا بالمدينة على ما تقدم وسيأتى
قال فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم وصلى به فى أول يوم الظهر حين زالت الشمس كما تقدم أى عقب زوالها وصلى به العصر حين ظل كل شئ مثله أى زيادة على ظل الاستواء أو على الظل الحاصل عقب الزوال وصلى به المغرب حين أفطر الصائم أى دخل وقت فطره وهو غروب الشمس وصلى به العشاء حين غاب الشفق وصلى به أى فى غد ذلك وهو اليوم الثانى الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم أى حين دخل وقت حرمة ذلك وهو الفجر
أى فإن قيل صلاة جبريل به صلى الله عليه وسلم حينئذ لم يكن الصوم الذى هو رمضان فرض
أجيب بأنه على تسليم أنه لم يفرض عليه صوم قبل رمضان وهو صوم عاشوراء وثلاث أيام من كل شهر على ما سيأتى جاز أن يكون إخباره صلى الله عليه وسلم بهذه العبارة كل بعد فرض رمضان
وصلى به الظهر حين كان ظل الشئ مثله وصلى به العصر حين كان ظل الشئ مثليه وصلى به المغرب حين افطر الصائم وصلى به العشاء ثلث الليل الأول وصلى به الفجر أى فى اليوم الثالث فأسفر ثم التفت وقال يا محمد هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين اه
وأما رواية صلى بى الظهر إلى أن قال وصلى بى الفجر فلما كان الغد صلى بى الظهر المقتضى ذلك لأن يكون الفجر ليس من اليوم الثاني بل من تتمة ما قبله
ففيه دليل على أن اليوم من طلوع الشمس كما يقول الفلكيون أى ولا يخفى أن قوله والوقت ما بين هذين الوقتين محمول عند إمامنا الشافعى رضى الله عنه على الوقت الاختيارى بالنسبة للعصر والعشاء والفجر وإلا فوقت العصر لايخرج إلا بغروب الشمس ووقت العشاء لا يخرج إلا بطلوع الفجر ووقت الصبح لا يخرج إلا بطلوع الشمس خلافا للإصطخرى حيث ذهب إلى خروج وقت العصر بمصير ظل الشئ مثليه والعشاء بثلث الليل والصبح بالإسفار متمسكا بظاهر الحديث والبداءة بالظهر هو ما عليه أكثر الروايات وروى أن البداءة كانت بالصبح عند طلوع الفجر وعلى الأول إنما لم تقع البداءة بالصبح مع أنها أول صلاة تحضر بعد ليلة الإسراء لأن الإتيان بها يتوقف على
بيان علم كيفيتها المعلق عليه الوجوب كأنه قيل أوجبت عليه حيثما تبين كيفيته فى وقته والصبح لم تتبين كيفيتها فى وقتها فلم تجب فلا يقال هذا من تأخير البيان عن وقت الحاجة
وأجاب الإمام النووى بأنه حصل التصريح بأن أول وجوب الخمس من الظهر كانه قيل أوجبت ما عدا صلاة الصبح يوم هذه الليلة فعدم وجوبها ليس لعدم علم كيفيتها فهى غير واجبة وإن فرض علم كيفيتها
وفيه أنه يلزم حينئذ أن الخمس صلوات فى اليوم والليلة لم توجد إلا فيما عدا ذلك اليوم وليلته قال أبو بكر بن العربى ظاهر قوله هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك أن هذه الصلوات فى هذه الأوقات كانت مشروعة لكل واحد من الأنبياء قبلك وليس كذلك وإنما معناه أن وقتك هذا المحدود الطرفين مثل وقت الأنبياء قبلك فإنه كان محدود الطرفين وإلا فلم تكن هذه الصلوات الخمس على هذه المواقيت إلا لهذه الأمة خاصة وإن كان غيرهم قد شاركهم فى بعضها أى فقد جاء عن عائشة رضى الله عنها أن آدم لما تيب عليه كان ذلك عند الفجر فصلى ركعتين فصارت الصبح وفدى إسحاق عند الظهر أة يعلى القول بأنه الذبيح فصلى أربع ركعات فصارت الظهر وبعث عزير فقيل له كم لبثت قال لبثت يوما فلما رأى الشمس قريبة من الغروب قال أو بعض يوم فصلى أربع ركعات فصارت العصر وغفر لداود عند المغرب أى الغروب فقام يصلى أربع ركعات فجهد أى تعب فجلس فى الثالثة أى سلم منها فصارت المغرب ثلاثا وأول من صلى العشاء الآخرة نبينا صلى الله عليه وسلم فصلاتها من خصائصه
وفى شرح مسند إمامنا الشافعى رضى الله تعالى عنه للإمام الرافعى رحمه الله تعالى كانت الصبح صلاة آدم والظهر صلاة داود أى فقد اشترك داودوإسحاق فى صلاة الظهر والعصر صلاة سليمان فقد اشترك سليمان وعزير فى صلاة العصر صلاة يعقوب أى فقد اشترك يعقوب وداود فى صلاة المغرب والعشاء صلاة يونس وأورد فى ذلك خبرا وعليه فليست صلاة العشاء من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم والأصل أن ما ثبت فى حق أمته إلا أن يقوم الدليل على الخصوصية فليست من خصائص هذه الأمة
وذكر بعضهم أن المغرب كانت صلاة عيسى أى وكانت أربعا ركعتين عن نفسه وركعتين عن أمه أى فقد اشترك عيسى ويعقوب وداود فى صلاة المغرب
وفي كلام بعضهم أول من صلى الفجر آدم والظهر إبراهيم أي وعليه فقد اشترك إبراهيم وإسحاق وداود في صلاة الظهر وأول من صلى العصر و يونس أي وعليه فقد اشترك سليمان وعزيز ويونس في صلاة العصر أول من صلى المغرب عيسى وأول من صلى العتمة التي هي العشاء موسى أي وعليه فقد اشترك موسى ويونس ونبينا صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء
وفي الخصائص الكبرى خص صلى الله عليه وسلم بأنه أول من صلى العشاء ولم يصلها نبي قبله ومن لازمه انه لم يصلها أحد من الأمم وقد جاء التصريح به في بعض الروايات أنكم فضلتم بها أي العشاء على سائر آلام وعليه فهي من خصائصنا ومن خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم وقد تقدم عند بناء الكعبة أن جبريل صلى بإبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم الصلوات الخمس فليتأمل
قال قيل فرضت الصلوات في المعراج ركعتين ركعتين أي حتى المغرب ثم زيدت في صلاة الحضر فأكملت أربعا في الظهر أي في غير يوم الجمعة وأربعا في العصر والعشاء وثلاثا في المغرب وأقرت صلاة السفر على ركعتين أي حتى في المغرب
فعن عائشة رضي الله تعالى عنها فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين أي في الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء فلما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أي بعد شهر وقيل وعشرة أيام من الهجرة زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان وتركت صلاة الفجر أي لم يزد عليها شيء لطول القراءة أي فإنها يطلب فيها زيادة القراءة على الظهر والعصر المطلوب فيهما قراءة طوال المفصل وصلاة المغرب أي تركت صلاة المغرب فلم يزد فيها ركعتان بل ركعة فصارت ثلاثة لأنها وتر النهار أي كما في الحديث فتعود عليه بركة الوترية أن الله وتر يحب الوتر والمراد أنها وتر عقب صلاة النهار وتركت صلاة السفر فلم يزد فيها شيء أي في غير المغرب هذا هو المفهوم من كلام عائشة رضي الله تعالى عنها وهو يفيد أن صلاة السفر استمرت على ركعتين أي في غير المغرب أي وحينئذ يلزم أن يكون القصر في الظهر والعصر والعشاء عزيمة لأرخصة ولا يحسن ذلك مع قوله تعالى { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة }
وفي كلام الحافظ ابن حجر المراد بقول عائشة فأقرت صلاة السفر باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف أي لأنه لما استقر فرض الرباعية خفف منها أي في السفر
لأنه استقر أمرها بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر أو بأربعين يوما ثم نزلت آية القصر فى ربيع الأول من السنة الثانية إلا أنها استمرت منذ فرضت فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة
وقيل فرضت أى الصلوات الخمس فى المعراج أربعا إلا المغرب ففرضت ثلاثا وإلا الصبح ففرضت ركعتين أى وإلا صلاة الجمعة ففرضت ركعتين ثم قصرت لأربع فى السفر أى وهو المناسب لقوله تعالى { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ومن ثم قال بعضهم إن هذا هو الذى يقتضيه ظاهر القرآن وكلام جمهور العلماء
ويمكن أن يكون المراد من كلام عائشة رضى الله تعالى عنها أنها فرضت ركعتين بتشهد ثم ركعتين بتشهد وسلام
وفيه أن هذا لا يأتى فى الصبح والمغرب وقال بعضهم ويبعد هذا الحمل ما روى عنها كان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى أى الصلوات الخمس التى فرضت بالمعراج بمكة ركعتين ركعتين فلما قدم المدينة أى وأقام شهرا أو وعشرة أيام فرضت الصلاة أربعا أو ثلاثا وتركت الركعتان تماما أى تامة للمسافر
وعن يعلى بن أمية قال قلت لعمربن الخطاب { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } وقد أمن الناس قال عمر عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته أى فصار سبب القصر مجرد السفر لا الخوف
وهذا قد يخالف ما فى الإتقان سأل قوم من بنى النجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنا نضرب فى الأرض فكيف نصلى فأنزل الله عز وجل { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ثم انقطع الوحى فلما كان بعد ذلك غزا النبى صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر فقال المشركون لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم فقال قائل منهم إن لهم أخرى مثلها فى أثرها فأنزل الله عز وجل بين الصلاتين { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } إلى قوله { عذابا مهينا } فنزلت صلاة الخوف فتبين بهذا الحديث أن قوله { إن خفتم } شرط فيما بعده وهو صلاة الخوف إلا في صلاة القصر قال ابن جرير هذا تأويل فى الآية حسن لو لم يكن فى الآية إذا قال ابن الغرس يصح مع إذا على جعل الواو زائدة
قلت ويكون من اعتراض الشرط على الشرط وأحسن منه أن يجعل إذا زائدة بناء على قول من يجيز زيادتها هذا كلامه فليتأمل
وقيل فرضت أى الرباعية أربعا فى الحضر وركعتين فى السفر فعن عمررضى الله تعالى عنه صلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان وصلاة الغد ركعتان غير قصر أى تامة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أى وفيه بالنسبة لصلاة السفر ما تقدم
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فرضت فى الحضر أربعا وفى السفر ركعتين وفى الخوف ركعة أى وفيه فى صلاة السفر ما تقدم وقوله فى الخوف ركعة أى يصليها مع الإمام وينفرد بالأخرى وذلك فى صلاة عسفان حيث يحرم بالجميع ويسجد معه صف أول ويحرس الصف الثانى فإذا قاموا سجد من حرس ولحقه وسجد معه فى الركعة الثانية وحرس الآخرون فقد صلى كل صف مع الإمام ركعة فلا يقال إن فى كلام ابن عباس ما يفيد أن صلاة الفجر تقصر وفرض التشهد والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم متأخر عن فرض الصلاة
فعن ابن مسعود كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل السلام على ميكائيل السلام على فلان أى من الملائكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام وقال له بعض الصحابة كيف نصلى عليك إذا نحن صلينا عليك فى صلاتنا فقال قولوا اللهم صل على محمد إلى آخره ولم أقف على الوقت الذى فرض فيه التشهد والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فيه ولا على أن قولهم السلام على الله إلى إخره هل كان واجبا أو مندوبا
قال بعضهم والحكمة فى جعل الصلوات فى اليوم والليلة خمسا أن الحواس لما كانت خمسة والمعاصى تقع بواسطتها كانت كذلك لتكون ما حية لما يقع فى اليوم والليلة من المعاصى أى بسبب تلك الحواس وقد أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله أرأيتم لو كان بباب أحدكم نهر يغتسل منه فى اليوم والليلة خمس مرا ت أكان ذلك يبقى من درنه شيئا قالوا لا قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا
قيل وجعلت مثنى وثلاث ورباع ليوافق أجنحة الملائكة كأنها جعلت أجنحة للشخص يطير بها إلى الله تعالى
وسئل ابن عباس رضى الله تعالى عنهما هل تجد الصلوات الخمس فى كتاب الله تعالى فقال نعم وتلا قوله تعالى { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون } أراد بحين تمسون المغرب والعشاء وبحين تصبحون الفجر وبعشيا العصر وبحين تظهرون الظهر
وإطلاق التسبيح بمعنى الصلاة جاء فى قوله تعالى { فلولا أنه كان من المسبحين } قال القرطبى أى من المصلين وفى الكشاف عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما كل تسبيح فى القرآن فهو صلاة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب = باب عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل
من العرب ان يحموه ويناصروه على ما جاء به من الحق
أى لأنه صلى الله عليه وسلم أخفى رسالته ثلاث سنين ثم أعلن بها فى الرابعة على ما تقدم ودعا إلى الإسلام عشر سنين يوافى الموسم كل عام يتبع الحجاج فى منازلهم أى بمنى والموقف يسأل عن القبائل قبيلة قبيلة ويسأل عن منازلهم ويأتى إليهم في أسواق المواسم وهى عكاظ ومجنة وذو المجاز فقد تقدم أن العرب كانت إذا حجت تقيم بعكاظ شهر شوال ثم تجئ إلى سوق مجنة تقيم فيه عشرين يوما ثم تجئ سوق ذى المجاز فتقيم به إلى أيام الحج يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه
فعن جابر بن عبدالله رضى الله تعالى عنه قال كان النبى صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس فى الموقف ويقول ألا رجل يعرض على قومه فإن قريشا قد منعونى أن أبلغ كلام ربى وعن بعضهم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر إلى المدينة يطوف على الناس فى منازلهم أى بمنى يقول يا أيها الناس إن الله يأمركم أن تتركوا دين آبائكم فسألت من هذا الرجل فقيل أبو لهب يعنى عمه
وفى رواية عن أبى طارق رضى الله تعالى عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوق ذى المجاز يعرض نفسه على قبائل العرب يقول يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله
تفلحوا وخلفه له غديرتان أى ذؤابتان يرجمه بالحجارة حتى أدمى كعبه يقول يا أيها الناس لا تسمعوا منه فإنه كذاب فسألت عنه فقيل إنه غلام عبد المطلب فقلت ومن الرجل الذى يرجمه فقيل هو عمه عبد العزى يعنى أبا لهب
أى وفى السيرة الهشامية عن بعضهم قال إنى لغلام شاب مع أبى بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف فى منازل القبائل من العر ب فيقول يا بنى فلان إنى رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد وأن تؤمنوا بى وتصدقونى وتمنعونى حتى أبين عن الله عز وجل ما بعثنى به قال وخلفه رجل أحول وضئ له غديرتان عليه حلة عذنية فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله قال ذلك الرجل يابنى فلان إن هذا الرجل إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه فقلت لأبى من هذا الرجل الذى يتبعه يرد عليه ما يقول قال هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب
وذكر ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم عرض نفسه على كندة وكلب أى إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله فقال لهم إن الله قد أحسن اسم أبيكم أى عبد الله أى فقد قال صلى الله عليه وسلم أحب الأسماء إلى الله عز وجل عبد الله وعبد الرحمن ثم عرض عليهم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم وعرض على بنى حنيفة وبنى عامر بن صعصعة أى فقال له رجل منهم أرأيت إن نحن بإيعناك على أمرك ثم أظفرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك فقال الأمر إلى الله يضعه حيث شاء قال فقال له أنقاتل العرب دونك وفى رواية أنهدف نحورنا للعرب دونك أى نجعل نحورنا هدفا لنبلهم فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك وأبوا عليه فلما رجعت بنو عامر إلى منازلهم وكان فيهم شيخ أدركه السن حتى لا تقدر أن يوافى معهم الموسم فلما قدموا عليه سألهم عما كان فى موسمهم فقالوا جاءنا فتى من قريش أحد بنى عبد المطلب يزعم أنه بني يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال يا بنى عامر هل لها من تلاف أى تدارك هل لها من مطلب والذى نفس فلان بيده ما يقولها أى ما يدعى البنوة كاذبا أحد من بنى إسمعيل قط وإنها لحق وإن رأيكم غاب عنكم
وذكر الواقدى أنه صلى الله عليه وسلم أتى بنى عبس أى وبنى سليم وغسان وبنى محارب أى وفزارة وبنى نضر ومرة وعذرة والحضارمة فيردون عليه صلى الله عليه وسلم أقبح الرد ويقولون أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك ولم يكن أحد من العرب أقبح ردا عليه من بنى حنيفة أى وهم أهل اليمامة قوم مسيلمة الكذاب وقيل لهم بنو حنيفة لأن أمهم قيل لها ذلك لحنف كان فى رجلها وثقيف أى ومن ثم جاء شر قبائل العرب بنو حنيفة وثقيف
أى ودفع صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر رضى الله تعالى عنه إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلم وقال ممن القوم قالوا من ربيعة قال وأى ربيعة من هامتها أو من لهازمها قالوا بل الهامة العظمى قال من أيها قالوا من ذهل الأكبر قال منكم حامى الذمار ومانع الجار فلان قالوا لا قال منكم قاتل الملوك وسالبها فلان قالوا لا قال منكم صاحب العمامة الفردة فلان قالوا لا قال فلستم من ذهل الأكبر أنتم ذهل الأصغر فقال إليه شاب حين بقل وجهه أى طلع شعر وجهه فقال له إن على سائلنا أن نسأله يا هذا إنك قد سألتنا فأخبرناك فممن الرجل فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه أنا من قريش فقال الفتى بخ بخ أهل الشرف والرياسة فمن أى قريش أنت قال من ولد تيم بن مرة فقال الفتى أمكنت أمنكم قصى الذى كان يدعى مجمعا قال لا قال فمنكم هاشم الذى هشم الثريد لقومه قال لا قال فمنكم شبية الحمد عبد المطلب مطعم طير السماء الذى كأن وجهه القمر يضئ فى الليلة الظلماء قال لا واجتذب أبو بكر رضى الله تعالى عنه زمام ناقته ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له على رضى الله تعالى عنه لقد وقعت من الأعرابى على باقعة أى داهية أى ذى دهاء وهو فى الأصل اسم لطائر حذر يطير يمنة ويسرة قال أجل أبا حسن مامن طامة إلا فوقها طامة والبلاء موكل بالمنطق أى واستفهام الفتى توبيخى لا حقيقى لأن من المعلوم أن من ذكر ليسوا من تيم لأن أبا بكر كما تقدم إنما يجتمع مع النبى صلى الله عليه وسلم فى مرة ومرة جد لقصى فكأنه يقول له إن قبيلتكم لم تشمل على هؤلاء الأشراف أى كما أن قبيلتنا لم تشتمل على أولئك الأشراف
وعن عبد الله بن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لقى جماعة من
شيبان بن ثعلبة وكان معه أبو بكر وعلى رضى الله تعالى عنهما وأن أبا بكر سألهم ممن القوم فقالوا من شيبان بن ثعلبة فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بأبى أنت وأمى هؤلاء غرر أى سادات فى قومهم وفيهم مفروق بن عمرو وهانئ بالهمز ابن قبيصة بفتح القاف ومثنى بن حارثة والنعمان بن شريك وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالا ولسانا له غديرتان أى ذؤابتان من شعر وكان أدنى القوم أى أقرب مجلسا من أبى بكر رضى الله تعالى عنه فقال له أبو بكر كيف العدد فيكم قال مفروق إنا لنزيد على الألف ولن تغلب الألف من قلة والذى قاله صلى الله عليه وسلم لن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة قاله لما أراد أن يغزو هوزان وكان جيشه العدد المذكور كما سيأتى فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه كيف المنعة فيكم قال مفروق علينا الجهد أى بفتح الجيم وضمها أى الطاقة ولكل قوم جد بفتح الجيم أى حظ وسعادة أى علينا أن نجهد وليس علينا أن يكون لنا الظفر لأنه من عند الله يؤتيه من يشاء فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم فقال الفرق إنا لأشد ما يكون غضبا حين نلقى وإنا لأشد ما يكون لقاء حين نغضب وأنا لنؤثر الجياد أى من الخيل على الأولاد والسلاح على اللقاح أى ذوات اللبن من الإبل المهملة أى ينصرنا مرة ويديل علينا مرة أى ينصر علينا أخرى لعلك أخو قريش فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه أو قد بلغكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها هوذا فقال مفروق بلغنا أنه يذكر ذلك فإلام تدعو يا أخا قريش فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنى رسول الله وإلى أن تؤوونى وتنصرونى فإن قريشا قد تظاهرت أى تعاونت على أمر الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغنى الحميد قال مفروق وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } قال مفروق ما هذا من كلام أهل الأرض ولو كان من كلامهم عرفناه ثم قال وإلام
تدعو أيضا يا أخا قريش فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون }
وهذه الآيه ذكر العز بن عبد السلام أنها اشتملت على جميع الأحكام الشرعية وبين ذلك فى سائر الأبواب الفقهية وضمن ذلك كتابا سماه الشجرة فقال مفروق دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم أى صرفوا عن الحق كذبوك وظاهروا أى عاونوا عليك وكان مفروق أراد أن يشركه أى يشاركه فى الكلام هانئ بن قبيصة فقال هذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا فقال هانئ قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش وإنى أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لزلة فى الرأى وقلة نظر فى العاقبة وإنما تكون الزلة مع العجلة ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا ولكن نرجع وترجع وننظر وتنظر وكأنه أحب أن يشركه فى الكلام المثنى بن حارثه فقال هذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا فقال المثنى قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة فى تركنا ديننا واتباعنا دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر وإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلى مياه العرب دون ما يلى أنهار كسرى فعلنا فإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا وأن لا نؤوى محدثا وإنى أرى هذا الأمر الذى تدعونا إليه أنت هو مما تكرهه الملوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسأتم فى الرد إذ أفصحتم بالصدق وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من أحاط به من جميع جوانبه أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا ختى يورثكم الله أرضهم وأموالهم ويغرسكم نساءهم تسبحون الله وتقدسونه فقال النعمان بن شريك اللهم لك ذا فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وبشر المؤمنين } ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم أى وهؤلاء لم أقف على إسلام أحد منهم إلا أن فى الصحابة شخصا يقال له المثنى بن حارثة الشيبانى وكان فارس قومه وسيدهم والمطاع فيهم ولعله هو هذا لقول هانئ بن قبيصة فيه إنه صاحب حربنا
ورأيت بعضهم ذكر أن النعمان بن شريك له وفادة فيكون من الصحابة أى وفى
أسد الغابة أن مفروق بن عمرو من الصحابة ونقل عن أبى نعيم أنه قال لا أعرف لمفروق إسلاما
ولما قدمت بكر بن وائل مكة للحج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكرائتهم فاعرضنى عليهم فأتاهم فعرض عليهم فقال لهم كيف العدد فيكم قالوا كثيرا مثل الثرى قال فكيف المنعة قالوا لا منعة جاورنا فارس فنحن لا نمنع منهم ولا نجير عليهم قال فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم وتستنكحوا نساءهم وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين وتحمدوه ثلاثا وثلاثين وتكبروه ثلاثا وثلاثين قالوا ومن أنت قال أنا رسول الله ثم مر بهم أبو لهب فقالوا له هل تعرف هذا الرجل قال نعم فأخبروه بما دعاهم إليه وأنه زعم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم لا ترفعوا بقوله رأسا فإنه مجنون يهذى من أم رأسه فقالوا لقد رأينا ذلك حيث ذكر من أمر فارس ما ذكر
وفى رواية أنه لما سألهم قالوا له حتى يجئ شيخنا حارثة فلما جاء قال إن بيننا وبينك من الفرس حربا فإذا فرغنا عما بيننا وبينهم عدنا فنظرنا فيما تقول فلما التقوا مع الفرس قال شيخهم ما اسم الرجل الذى دعاكم إليه قالوا محمد قال فهو شعاركم فنصروا على الفرس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بى نصروا أى نصروا بذكرهم اسمى
ولا زال صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل فى كل موسم ويقول لا أكره أحدا على شئ من رضى الذى أدعوه إليه فذلك ومن كره لم أكرهه إنما أريد منعى من القتل حتى أبلغ رسالات ربى فلم يقبله أحد من تلك القبائل ويقولون قوم الرجل أعلم به ترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه
وعن ابن إسحاق لما أراد الله تعالى إظهار دينه وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم وإنجاز موعده له خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الموسم
وفى سيرة مغلطاى ومستدرك الحاكم أن ذلك كان فى شهر رجب يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع فى كل موسم فبينا هو عند العقبة التى تضاف إليها الجمرة فيقال جمرة العقبة أى وهى عند يسار الطريق لقاصد منى مكة وبها الآن مسجد يقال له مسجد البيعة إذ لقى بها رهطا من الخزرج أى لأن الأوس والخزرج كانوا يحجون
فيمن يحج من العرب أى والأوس فى الأصل أى اللغة العطية ويقال للذئب ويقال لرجل اللهو واللعب والخزرج فى الأصل الريح الباردة قيل هى الجنوب خاصة وكانوا ستة نفر وقيل ثمانية أراد الله تعالى بهم خيرا وقد عد الستة فى الأصل وبين الناس اختلاف فى ذكرهم فقال لهم من أنتم قالوا نفر من الخزرج فقال أمن موالى يهود أى من حلفاء يهود المدينة قريظة والنضير لأنهم تحالفوا معهم على التناصر والتعاضد على من سواهم وأن يأمن بعضهم من بعض وهذا كان فى أول أمرهم قبل أن تقوى شوكتهم على يهود قالوا نعم قال أفلا تجلسون أكلمكم قالوا بلى فجلسوا معه صلى الله عليه وسلم وفى لفظ وجدهم يحلقون رءوسهم فجلس إليهم فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام أى ورأوا أمارات الصدق عليه صلى الله عليه وسلم لائحة فقال بعضهم لبعض تعلمون والله أنه للنبى الذى يوعدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه لأن يهود كانوا إذا وقع بينهم وبينهم شئ من الشر قالوا لهم سيبعث نبى قد أظل أى قرب زمانه نتبعه نقتلكم معه قتلة عاد وإرم أى كما تقدم فى أخبار الأحبار والمراد نستأصلكم بالقتل فلما دعاهم إلى الإسلام أجابوه وصدقوه وأسلموا وقالوا له إنا تركنا قومنا يعنون الأوس والخزرج بينهم من العداوة والشر مابينهم أى فإن الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم فوقعت بينهما العداوة وتطاولت بينهما الحروب فمكثوا على المحاربة والمقاتلة أكثر من مائة سنة أى مائة وعشرين كما فى الكشاف فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك
أقول وفى رواية قالوا يا رسول الله إنما كانت بعاث أى بضم الموحدة ثم عين مهملة مخففة وفى آخره ثاء مثلثة وقيل بفتح الموحدة وبدل المهملة معجمة قيل وذكر المعجمة تصحيف فعن ابن دريد صحف الخليل بن أحمد يوم بغاث بالغين المعجمة وإنما هو بالمهملة وفى القاموس بالمهملة والمعجمة عام أول يوم من أيامنا اقتتلنا به ونحن كذلك لا يكون لنا عليك اجتماع حتى نرجع إلى غابرنا لعل الله أن يصلح ذات بيننا وندعوهم إلى ما دعوتنا فعسى الله أن يجمعهم عليك فإن اجتمعت كلمتهم عليك واتبعوك فلا أحد أعز منك وبعاث مكان قريب من المدينة على ليلتين منها عند بنى قريطة ويقال إنه حصن للأوس كان به القتال قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة بخمس سنين بين الأوس
والخزرج وسيد الأوس ورئيسهم حينئذ حضير والد أسيد وبه قتل مع من قتل من قومه وكان النصر فيهم أولا للخروج ثم صار للأوس
وسبب القتل أنه كان من قاعدنهم أن الأصيل لا يقتل بالحليف فقتل رجل من الأوس أى وهو سويد بن الصامت رجلا حليفا للخزرج أى وهو ذياد والد المحذر بن ذياد وذياد بالذال المعجمة مكسورة ومفتوحة وتخفيف المثناة تحت والمحذر بالذال المعجمة مشددة مفتوحة فأرادوا أن يقتلوا سويدا فيه فأبى عليه الأوس وذلك لأن سويدا هذا كان تسميه قومه الكامل لشرفه ونسبه وشعره وجلده كان ابن خالة عبد المطلب لأن أمه أخت سلمى أم عبد المطلب وكان قدم مكة حاجا أو معتمرا فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يسمع بقادم قدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله تعالى فدعا سويدا إلى الله عز وجل وإلى الإسلام فقال له سويد لعل الذى معك مثل الذى معى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الذى معك قال حكمة لقمان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اعرضها على فعرضها عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا الكلام حسن والذى معى أفضلا من هذا قرآن أنزله الله على هو هدى ونور فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال إن هذا القول حسن ثم انصرف وقدم المدينة فلم يلبث أن قتله الخزرج
وفى كلام بعضهم أنه آمن بالله ورسوله وسافر حتى دخل المدينة إلى قومه فشعروا بإيمانه فقتلته الخزرج بغتة وقيل القاتل له المحذر ولد ذياد الذى قتله سويد لأن سويدا كان قد شرب الخمر وجلس يبول وهو ممتلئ سكرا فضربه إنسان من الخزرج فخرج حتى أتى المحذر بن ذياد فقال هل لك فى الغنيمة الباردة قال ما هى قال سويد أعزل لأسلاح معه فخرج المحذر بالسيف مصلتا فلما أبصر سويدا قال له قد أمكن الله منك قال ما تريد منى قال قتلك فقتله فكان ذلك سبب الحرب بين الأوس والخزرج ببعاث فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم الحارث بن سويد والمحذر بن ذياد وشهدا بدرا فجعل الحارث بن سويد يطلب محذرا يقتله بأبيه فلم يقدر عليه حتى كان وقعة أحد قدر عليه فقتله غيلة كما سيأتى
وممن قتل فى هذه الحرب التى يقال لها بعاث شخص يقال له إياس بن معاذ قدم
مكة هو وشخص يقال له أبو الحيسر أنس بن رافع مع جماعة من قومهم يلتمسون الحلف من قريش على قومهم الخزرج فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إليهم وقال لهم هل لكم فى خير مما جئتم له قالوا وما ذاك قال أنا رسول الله بعثنى للعباد وأدعوهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وأنزل على الكتاب ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن فقال إياس بن معاذ وكان صغيرا أى قوم والله خير مما جئنا إليه فأخذ أبو الحيسر حفنة من تراب فضرب بها وجه إياس وانتهره وقال له دعنا منك لقد جئنا لغير هذا فسكت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فلما دنا موت إياس صار يحمد الله ويسبحه ويهلله ويكبره حتى مات والله أعلم ثم انصرف أولئك الرهط من الخزرج راجعين إلى بلادهم
قال وفى رواية أنهم لما آمنو به صلى الله عليه وسلم وصدقوه قالوا له إنا نشير عليك أن تمكث على رسلك أى على حالك باسم الله حتى نرجع إلى قومنا فنذكر لهم شأنك وندعوهم إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم لعل الله يصلح ذا ت بينهم ونواعدك الموسم من العام المقبل فرضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى أى فلم يقع لهؤلاء الستة أو الثمانية مبايعة ويسمى هذا ابتداء الإسلام للأنصار وربما سماه بعضهم العقبة الأولى فلما كان العام المقبل قدم من الأوس والخزرج اثنا عشر رجلا أى عشرة من الخزرج واثنان من الأوس وقيل كانوا أحد عشر رجلا منهم خمسة من الستة أو الثمانية الذين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم عند العقبة أولا فاجتمع بهم صلى الله عليه وسلم عند العقبة أيضا فبايعهم أى عاهدهم صلى الله عليه وسلم أى وسميت المعاهدة مبايعة تشبيها بالمعاوضة المالية وتلا عليهم آية النساء أى الآية التى نزلت بعد ذلك فى شأن النساء يوم الفتح لما فرغ من مبايعة الرجال وأراد مبايعة النساء
فعن عبادة بن الصامت بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة النساء أى كبيعة النساء أى كمبايعة للنساء التى كانت يوم فتح مكة وهى على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزنى ولا نقتل أولادنا أى لأن قتل الأولاد كان سائغا فيهم وهو وأد البنات قيل والبنين خوف الإملاق
وفى النهر كان جمهور العرب لا يئدون بناتهم وكان بعض ربيعة ومضر يئدونهن وهو دفنهن أحياء فبعضهم يئد خوف العيلة والافتقار وبعضهم خوف السبى قال ولا نأتى بهتان أى الكذب الذى يبهت صاحبه سامعه نفتريه بين أيدينا وأرجلنا أى فى الحال والاستقبال قيل وغير ذلك ولا نعصيه فى معروف أى ما عرف من الشارع حسنه نهيا وأمرا
قال الحافظ ابن حجر المبايعة المذكورة فى حديث عبادة بن الصامت على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة وإنما نص بيعة العقبة ما ذكر ابن إسحاق وغيره عن أهل المغازى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لمن حضر من الأنصار أبايعكم على أن تمنعونى ما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم فبايعوه على ذلك وعلى أن يرحل إليهم هو صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم ذكر جملة من الأحاديث وقال هذه أدلة صريحة فى أن هذه البيعة بعد نزول الآية بعد فتح مكة
أقول ليس فى كلام عبادة أن هذه البيعة بيعة العقبة إذ لم يقل بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة وإن كان السياق يقتضيه وحينئذ فلا يحسن أن يكون كلام عبادة شاهدا لمن قال وتلا عليهم آية النساء فلا يحسن التفريع المتقدم بل هو دليل على أن هذه المبايعة متأخرة عن يوم الفتح كما قال الحافظ والله أعلم
زاد بعضهم والسمع والطاعة فى اليسر والعسر والمنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول الحق حيث كنا لا نخاف فى الله لومة لائم ثم قال ومن وفى بالتخفيف والتشديد أى ثبت على العهد فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فى الدنيا فهو أى العقاب طهرة له أو قال كفارة له
واستشكل بأن أبا هريرة روى أنه صلى الله عليه وسلم لا أدرى الحدود كفارة لأهلها أولا وإسلام أبى هريرة تأخر عن بيعة العقبة بسبع سنين كما سيأتى فإنه كان عام خيبر سنة سبع
ويجاب بأن هذه البيعة التى ذكرها عبادة ليست بيعة العقبة بل بيعة غيرها وقعت بعد فتح مكة كما علمت
وحينئذ يكون ما رواه أبو هريرة رضى الله تعالى عنه كان قبل أن يعلم صلى الله عليه وسلم ذلك ثم علمه أى أن الحدود كفارة قال صلى الله عليه وسلم ومن أصاب من
ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى عز وجل إن شاء غفر له وإن شاء عذبه أى وكون الحدود كفارة وطهرة مخصوص بغير الشرك فقتل المريد لا يكون كفارة وطهرة له لأن الله لا يغفر أن يشرك به
وفى رواية فإن رضيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئا فأصبتم بحد فى الدينا فهو كفارة لكم فى الدنيا وإن سترتم عليه فأمركم إلى الله وإن شاء عذب وإن شاء غفر أى وفى هذا رد على من قال بوجوب التعذيب لمن مات بلا توبة وعلى من قال بكفر مرتكب الكبيرة
فلما انصرفوا راجعين إلى بلادهم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ابن أم مكتوم واسمها عاتكة واسمه عمرو وقيل عبدالله وهو ابن خال خديجة بنت خويلد أم المؤمنين رضى الله تعالى عنها
قال الشعبى غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة غزوة ما فيها غزوة إلا واستخلف ابن ام مكتوم على المدينة وكان يصلى بهم وليس له رواية ومصعب ابن عمير وضى الله تعالى عنهما يعلمان من أسلم منهم القرآن ويعلمانهم أى من أراد أن يسلم الإسلام ويفقهانهم فى الدين ويدعوان من لم يسلم منهم إلى الإسلام وهذا ما فى أكثر الروايات وهو يفيد أنه صلى الله عليه وسلم بعث بهما معا ويدل له ما روى عن البراء بن عازب رضى الله تعالى عنه أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرئان الناس القرآن أى وفى رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم مصعبا حين كتبوا إليه يبعث إليهم
وفى رواية ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن عفراء ورافع بن مالك رضى الله تعالى عنهما أن ابعث إلينا رجلا من قبلك يفقهنا ويدعو الناس بكتاب الله وفى رواية كتبوا إليه صلى الله عليه وسلم بذلك فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وكان يقال له المقرى وهو أول من تسمى بهذا الاسم وهذا يدل على أن مصعبا لم يكن معهم
أقول وقد يقال لا منافاة لأنه يجوز أن يكون كتبوا وأرسلوا إليه صلى الله عليه وسلم بذلك عند خروجهم من مكة وقبل أن ينصرفوا منها راجعين إلى المدينة والاقتصار على مصعب لا ينافى ما تقدم من ذكر ابن أم مكتوم معه
ثم رأيت ما يبعد الجمع الأول وهو عن ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعثه يعنى مصعب بن عمير بعدهم وإنما كتبوا إليه إن الإسلام قد فشا فينا فابعث إلينا رجلا من أصحابك يقرئنا القرآن ويفقهنا فى الإسلام ويعلمنا بسنته وشرائعه ويؤمنا فى صلاتنا فبعث مصعب بن عمير وما يبعد الجمع الثانى وهو ما نقل عن الواقدى أن ابن أم مكتوم قدم المدينة بعد بدر بيسير وفى كلام ابن قتيبة وقدم ابن أم مكتوم المدينة مهاجرا بعد بدر بسنتين
وقد يقال لا منافاة لأنه يجوز أن يكون كل من مصعب بن عمير وابن أم مكتوم رجعا إلى مكة بعد محبيئهما مع القوم وأن مكاتبتهم بأن الإسلام فشا فينا إلى آخره كانت وهم بالمدينة فجاء إليهم مصعب وتخلف ابن أم مكتوم فليتأمل ذلك والله تعالى أعلم وهذه المبايعة يقال لها العقبة الأولى لوجود تلك المبايعة عندها
ولما قدم مصعب المدينة نزل على أبى أمامة أسعد بن زرارة رضى الله تعالى عنه دون بقية رفقته وكان سالم مولى أبى حذيفة رضى الله تعالى عنه يؤم المهاجرين بقباء قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مصعب يؤم القوم أى الأوس والخزرج لأن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض وجمع بهم أول جمعة جمعت فى الإسلام قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة وقبل نزول سورة الجمعة الآمرة بها فإنها مدنية
وقال الشيخ أبو حامد فرضت الجمعة بمكة ولم يتمكن من فعلها قال الحافظ ابن حجر وهو غريب أى وعلى صحته فهو ما تقدم حكمه على تلاوته
وعند ابن إسحاق أن أول من جمع بهم أبو أمامة أسعد بن زرارة وكانوا أربعين رجلا أى فعن كعب بن مالك قال أول من جمع بنا فى المدينة أسعد بن زرارة قبل مقدم النبى صلى الله عليه وسلم فى نقيع الخضمان والنقيع بالنون قيل أو بالباء الموحدة لكن قال الخطابى إنه خطأ والخضمان جمع خضمة وهى الماشية التى تخضم أى تأكل بفمها كله مما فى ذلك المحل من الكلأ وهو اسم لقرية من قرى المدينة قال وكنا أربعين رجلا أى ولا مخالفة لأن مصعب بن عمير كان عند أبى أمامة أسعد بن زرارة كما علمت فكان هو المعاون على الجمع وكان الخطيب والمصلى مصعب بن عمير فنسب الجمع لكل منهما أى ويكون ما فى الرواية الآتية من أن أسعد بن زرارة هو الذى صلى بهم على التجوز أى جمعهم على الصلاة ويؤيده ما تقدم من أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض وأيضا المأمور بالتجميع مصعب بن عمير كما سياتى
قال السهيلى وتسميتهم أى الأنصار إياها بهذا الاسم أى تسميتهم اليوم بيوم الجمعة لاجتماعهم فيه هداية من الله تعالى لهم وإلا فكانت تسمى فى الجاهلية العروبة أى يسمى ذلك اليوم بيوم العروبة أى الرحمة وقال عليه الصلاة والسلام فى حق ذلك اليوم إنه اليوم الذى فرض عليهم أى على اليهود والنصارى أى طلب منهم تعظيمه والتفرغ للعبادة فيه كما فرض علينا أضلته اليهود والنصارى وهداكم الله تعالى له أى إن كلا من اليهود والنصارى أمر بذلك اليوم يعظمون فيه الحق سبحانه وتعالى يتفرغون فيه لعبادته واختار اليهود من قبل أنفسهم بدله السبت لأنهم يزعمون أنه اليوم السابع الذى استراح فيه الحق سبحانه وتعالى من خلق السموات والأرض وما فيهن من المخلوقات أى بناء على أن أول الأسبوع الأحد وأنه مبدأ الخلق قال بعضهم وهو الراجح
وفى كلام بعضهم أول الأسبوع الأحد لغة وأوله السبت عرفا أى فى عرف الفقهاء فى الإيمان ونحوها ويؤيد الأول أن السبت مأخوذ من السبات وهى الراحة قال تعالى { وجعلنا نومكم سباتا } أى راحة ظنا منهم أنه أولى بالتعظيم لهذه الفضيلة
واختارت النصارى من قبل أنفسهم بدل يوم الجمعة يوم الأحد أى بناء على أنه أول يوم ابتدأ الله فيه بإيجاد المخلوقات ظنا منهم أنه أولى بالتعظيم لهذه الفضيلة وحينئذ يكون معنى قوله أضلوه تركوه مع علمهم به ويؤيد ذلك ما جاء إن الله تعالى فرض على اليهود الجمعة فأبوا وقالوا ياموسى اجعل لنا يوم السبت فجعل عليهم وهدى الله تعالى المسلمين ليوم الجمعة أى وهداية المسلمين له تدل على أنهم لم يعلموا عينه وإنما اجتهدوا فيه فصادفوه
وفى سفر السعادة كان من عوائده الكريمة صلى الله عليه وسلم أن يعظم يوم الجمعة غاية التعظيم ويخصه بأنواع التشريف والتكريم
وجاء إن أهل الجنة يتباشرون في الجنة بيوم الجمعة كما تتباشر به أهل الدينا فى الدينا واسمه عندهم يوم المزيد كما تقدم لأن الله تعالى يتجلى عليهم فى ذلك اليوم ويعطيهم كل ما يتمنونه ويقول لهم لكم ما تمنيتم ولدينا مزيد فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير
وقد جاء فى المرفوع يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله تعالى فهو فى الأيام كشهر رمضان فى الشهور وساعة الإجابة فيه كليلة القدر فى رمضان
والذى فى البخارى ثم هذا أى يوم الجمعة يومهم الذى فرض عليهم أى على اليهود والنصارى فاختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد وقوله فاختلفوا فيه يدل على انهم لم يعلموا عينه ويوافقه ما نقل عن بعض أهل العلم أن اليهود أمروا بيوم من الأسبوع يعظمون الله تعالى فيه ويتفرغون لعبادته فاختاروا من قبل أنفسهم السبت فأكرموه فى شرعهم وكذلك النصارى أمروا على لسان عيسى بيوم الأسبوع فاختاروا من قبل أنفسهم الأحد فالتزموه شرعا لهم وهو يخالف ما سبق فليتأمل
قال بعضهم والراجح أن أول الأسبوع السبت لأنه أول يوم ابتدئ فيه بايجاد المخلوقات فقد جاء فى الصحيح إن الله خلق التربة يوم السبت والجبال يوم الأحد والشجر يوم الأثنين والمكروه يوم الثلاثاء والنور يوم الأربعاء كذا فى مسلم وعليه يشكل تسمية اليوم الذى يليه الأحد وأجيب بأنه من تسمية اليهود وتبعهم غيرهم
وقد ذكر السهيلى أن تسمية هذه الأيام طارئة ولو كان الله سبحانه وتعالى سماها فى القرآن بهذه الأسماء المشتقة من العدد لقلنا هى تسمية صادقة لكن لم يذكر منها إلا الجمعة والسبت وإنهما ليسا مشتقين من العدد هذا كلامه
ورد بأنه جاء إن الله تعالى خلق يوما فسماه الأحد ثم خلق ثانيا فسماه الاثنين ثم خلق ثالثا فسماه الثلاثاء ثم خلق رابعا فسماه الأربعاء ثم خلق خامسا فسماه الخميس
وأجاب ابن حجر الهيتمى بأن هذه أى التسمية المذكورة لم تثبت وأن العرب تسمى خامس الورد أربعاء هذا كلامه فيكون أول الأسبوع السبت
ثم رأيت السهيلى قال لم يسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحد والاثنين إلى سائرها إلا حاكيا للغة قومه لا مبتدئا تسميتها ولعل قومه أن يكونوا أخذوا معانى هذه الأسماء من أهل الكتاب المجاورين لهم فألقوا عليها هذه الأسماء اتباعا لهم هذا كلامه فليتأمل
وفى السبعينات للهمدانى أكرم الله موسى عليه الصلاة والسلام بالسبت وعيسى بالأحد وداود بالاثنين وسليمان بالثلاثاء ويعقوب بالأربعاء وآدم بالخميس ومحمدا صلى الله عليه وسلم بالجمعة وهذا يدل على أن اليهود لم يختاروا يوم السبت والنصارى يوم الأحد من عند أنفسهم فليتأمل الجمع
وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن يوم السبت قال يوم مكر وخديعة أى وقع فيه المكر والخديعة أى لأنه اليوم الذى اجتمعت فيه قريش فى دار الندوة للاستشارة فى أمره صلى الله عليه وسلم وسئل عن يوم الأحد فقال يوم غرس وعمارة لأن الله تعالى ابتدأ فيه خلق الدنيا وعمارتها وفى رواية لأن الجنة بنيت فيه وغرست وسئل عن يوم الاثنين فقال يوم سفر وتجارة لأن فيه سافر شعيب فربح فى تجارته وسئل عن يوم الثلاثاء فقال يوم دم لأن فيه حاضت حواء وقتل ابن آدم أخاه
وذكر الهمدانى فى السبعيات أيضا أنه قتل فيه سبعة جرجيس وزكريا ويحيى ولده عليهم الصلاة والسلام وسحرة فرعون وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وبقرة بنى إسرائيل وهابيل بن آدم وبين قصة كل واحد
أى ومن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجامة يوم الثلاثاء أشد النهى وقال فيه ساعة لا يرقأ فيها الدم وفيه نزل إبليس إلى الأرض وفيه خلفت جهنم وفيه سلط الله ملك الموت على أرواح بنى آدم وفيه ابتلى أيوب وفى بعض الروايات أن اليوم الذى ابتلى الله فيه أيوب يوم الأربعاء
وسئل عن يوم الأربعاء قال يوم نحس لأن فيه أغرق فرعون وقومه وأهلك فيه عاد وثمود وقوم صالح أى ومن ثم كان يسمى فى الجاهلية دبار والدبار الملهى لكن الذى فى الحديث الموقوف على ابن عباس الذى لا يقال من قبل الرأى آخر أربعاء فى الشهر يوم نحس مستمر وجاء يوم الأربعاء لا أخذ ولا عطاء
وذكر الزمخشرى أن بعضهم قال لأخيه اخرج معى في حاجة فقال هذا الأربعاء قال فيه ولد يونس قال لاجرم قد بانت له بركته أى حيث ابتلعه الحوت قال وفيه ولد يوسف قال فما أحسن ما فعل به إخوته طال حبسه وغربته قال وفيه نصر المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال أجل ولكن بعد أن زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر
وورد فى بعض الآثار النهى عن قص الأظفار يوم الأربعاء وأنه يورث البرص
وعن ابن الحاج صاحب المدخل أنه هم بقص أظفاره يوم الأربعاء فتذكر ذلك فترك ثم رأى أن قص الأظفار سنة حاضرة ولم يصح عنده النهى فقصها فلحقه البرص فرأى النبى صلى الله عليه وسلم فى النوم فقال له ألم تسمع نهى عن ذلك فقال
يا رسول الله لم يصح ذلك عندى فقال يكفيك أن تسمع ثم مسح صلى الله عليه وسلم بيده على بدنه فزال البرص جميعا قال ابن الحاج فجددت مع الله توبة أنى لا أخالف ما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا
وجاء فى حديث أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر مرفوعا وخرجه الحاكم من طريقين آخرين لا يبدو جذام ولا مرض إلا يوم الأربعاء وكره بعضهم عيادة المريض يوم الأربعاء
وفى منهاج الحليمى وشعب الإيمان للبيهقى إن الدعاء مستجاب يوم الأربعاء بعد الزوال قبل وقت العصر لأنه صلى الله عليه وسلم استجيب له الدعاء على الأحزاب فى ذلك اليوم فى ذلك الوقت وكان جابر يتحرى ذلك بالدعاء فى مهماته وذكر أنه ما بدئ بشئ يوم الأربعاء إلا وتم فينبغى البداءة بنحو التدريس فيه
وسئل عن يوم الخميس فقال يوم قضاء الحوائج لأن فيه دخل إبراهيم الخليل على ملك مصر فقضى حاجته وأعطاه هاجر ومن ثم زاد فى رواية والدخول على السلطان وسئل عن يوم الجمعة فقال يوم نكاح نكح فيه آدم حواء ويوسف زليخا وموسى بنت شعيب وسليمان بلقيس أى ونكح فيه صلى الله عليه وسلم خديجة وعائشة
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أذن النبى صلى الله عليه وسلم لهم قبل الهجرة أى قبل أن يهاجر صلى الله عليه وسلم فى إقامة الجمعة أى فلم يفعلوها باجتهاد بل بإذنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بن عمير رضى الله تعالى عنه أما بعد فانظر اليوم الذى تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم أى اليوم الذى يليه يوم السبب فاجمعوا نساءكم وأبناءكم فإذا مال النهار عن شطره فتقربوا إلى الله بركعتين فجمع مصعب بن عمير عند الزوال أى صلى الجمعة حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أى استمر على ذلك حتى قدم النبى صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم عين لهم ذلك اليوم وهو خلاف قوله السابق فهداكم الله له الظاهر فى أن هدايتهم له باجتهاد منهم
ويدل له ما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما باسناد صحيح أن الأنصار قالوا إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك فهلم فلنجعل يوما نجتمع فيه فنذكر الله ونصلى ونشكره فجعلوه يوم العروبة أى لأنه اليوم الذى وقع
فيه خلق آدم الذى هو مبدأ هذا الجنس وجعل فيه فناء الخلق وانقضاءهم إذ فيه تقوم الساعة ففيه المبدء والمعاد إذ هو المروى عن ابن عباس يقتضى أن الأنصار اختاروه باجتهاد منهم إلا أن يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون هذا العزم على ذلك حصل منهم أولا ثم أرسلوا له صلى الله عليه وسلم يستأذنونه فى ذلك فأذن لهم فيه فقد جاء الوحى موافقة لما اختاروه
وفيه أنه لو كان كذلك لقال صلى الله عليه وسلم لمصعب بن عمير افعلوا ذلك ولم يقل له انظروا إلى اليوم إلى آخره إلا أن يقال يجوز أنهم لما استأذنوه صلى الله عليه وسلم فى الاجتماع لم يعينوا له اليوم فبينه صلى الله عليه وسلم لهم وتقدم عن الشيخ أبى حامد أن الجمعة أمر بها صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وتركها لعدم التمكن من فعلها تقدم عن الحافظ ابن حجر أنه غريب ويؤيده أنه لو كان أمر بها صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وتركها لعدم التمكن من فعلها لأمر بها مصعب بن عمير عند إرساله للمدينة ولم يأمره بها إلا بعد ذلك إلا أن يقال إنما لم يأمره بها حينئذ لأنه يجوز أن يكون إنما أمر بها بعد ذهاب مصعب إلى المدينة أو أنه إنما ألم يأمره بذلك لأن لإقامتها شروطا منها العدد وهو عند إمامنا الشافعى رضى الله تعالى عنه أربعون بشروط ولم يكن ذلك موجودا عند إرساله صلى الله عليه وسلم ومن ثم لما علم صلى الله عليه وسلم وجود العدد المذكور أرسل له يأمره بذلك فى قوله أما بعد فانظر اليوم الخ
ثم لا يخفى أن ظاهر سياق الروايات يدل على أن الذى هداهم الله إليه إنما هو إيقاع العبادة فى هذا اليوم لا تسميته بيوم الجمعة كما تقدم عن السهيلى على أن تسميتهم له بذلك لم أقف عليها فى رواية
على أن السهيلى ذكر عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم سماها يوم الجمعة لما أرسل لمصعب بن عمير أن يفعلها كما تقدم فى الإسراء وذكر أيضا أ كعب بن لؤى أول من سمى يوم العروبة الجمعة
وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن تكون الأنصار ومن معهم من المهاجرين لم يبلغهم ما ذكر عن كعب بن لؤى إن ثبت أنهم سموها بهذا الاسم اجتهادا منهم
وعن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبب تسمية هذا اليوم بيوم الجمعة فقال لأن فيها جمعت طينة أبيك آدم وقدمنا أنه لا مخالفة بين ما هنا وما تقدم فى الإسراء والله أعلم
وأسلم سعد بن معاذ وابن عمه أسيد بن حضير رضى الله تعالى عنهما على يد بن مصعب ابن عمير وكان إسلام أسيد قبل سعد فى يومه
فعن ابن إسحاق أن أسعد بن زرارة رضى الله تعالى عنه خرج بمصعب بن عمير إلى حائط أى بستان من حوائط بنى ظفر فجلسا فيه واجتمع إليهما رجال ممن أسلم وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير يؤمئذ سيدا قومهما أى بنى عبد الأشهل وكلاهما مشرك على دين قومه فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير لا أبالك انطلق بنا إلى هذين الرجلين يعنى أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير اللذين أتيا دارينا تثنية دار وهى المحلة والمراد قبيلتنا وعشيرتنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما أى وفى لفظ قال له ائت أسعد بن زرارة فازجره عنا فليكف عنا ما نكره فإنه بلغنى أنه قد جاء بهذا الرجل الغريب يسفه سفهاءنا وضعفاءنا فإنه لولا أسعد بن زرارة منى حيث علمت لكفيتك ذلك هو ابن خالتى ولا أجد عليه مقدما فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه ثم قال مصعب إن يجلس هذا كلمته قال فوقف عليهما متشمتا قال ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة وفى لفظ قال يا أسعد ما لنا ولك تأتينا بهذا الرجل الغريب تسفه به سفهاءنا وضعفاءنا
وفى رواية علام أتيتنا فى دورنا بهذا الرجل الوحيد الغريب الطريد يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه فقال له مصعب أو تجلس بفتح الواو استفهاما فتسمع بالنصب فى جواب الاستفهام فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره أى منعنا عنك ما تكره قال أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليها فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن فقال ما أحسن هذا وأجمله بالنصب على التعجب كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا فى هذا الدين قالا له تغتسل وتتطهر وتغسل ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلى فقام واغتسل وطهر ثوبه وشهد بشهادة الحق ثم قام فركع ركعتين أى وهما صلاة التوبة
فقد روى أصحاب السنن وقال الترمذى حديث حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال ما من عبد يذنب دنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلى ركعتين ثم يستغفر الله عزوجل إلا غفر له ثم قال لهما إن ورائى رجلا أن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه
وسأرسله إليكما الآن وهو سعد بن معاذ رضى الله تعالى عنه ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس فى ناديهم فلما نظر إليه سعد مقبلا قال أحلف بالله لقد جاءكم أسيدين بن حضير بغير الوجه الذى ذهب به من عندكم فلما وقف على النادى قال له سعد ما فعلت قال كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما فقالا نفعل ما أحببت وقد حدثت أن بنى حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك أى ينقضوا عهدك فقام سعد مغضبا مبادرا فأخذ الحربة من يده وقال والله ما أراك أغنيت شيئا ثم خرج إليهما ولما أقبل سعد قال أسعد لمصعب لقد جاءك والله سيد من وراءه من قومه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان فلما رآهما سعد مطمئنين عرف سعد أن أسيدا إنما أراد منه أن يسمع منهما فوقف عليهما متشمتا ثم قال لأسعد بن زرارة يا أبا أمامة والله لولا ما بينى وبينك من القرابة ما رمت منى هذا هذا يغشانا فى دارنا بما نكره فقال له مصعب أو تقعد تسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهت عزلنا عنك ما تكره فقال سعد أنصفت ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام وعرض عليه القرآن فقال لهما كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم فى هذا الدين فقال تغتسل وتتطهر وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تركع ركعتين فقام سعد فاغتسل وطهر ثوبه ثم شهد شهادة الحق ثم ركع ركعتين ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادى قومه ومعه أى مع ذلك النادى أسيد بن حضير فلما رآه قومه مقبلا قالوا نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذى ذهب به من عندكم فلما وقف عليهم قال يا بنى عبد الأشهل كيف تعلمون أمرى فيكم قالوا سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا وأبركنا نقيبة أى نفسا وأمرا قال فإن كلام رجالكم ونسائكم على حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله قال فوالله ما أمسى فى دارى أى قبيلة بنى عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة فأسلموا فى يوم واحد كلهم وكان ذلك بعد العقبة الأولى وقبل العقبة الثانية إلا ما كان من الأصيرم وهو عمرو بن ثابت من بنى عبد الأشهل فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم واستشهد ولم يسجد لله سجدة وأخبره صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة
أى وفى كلام ابن الجوزى أول دار أى قبيلة أسلمت من دور الأنصار دار بنى عبد الأشهل ثم رجع مصعب إلى دار أسعد بن زرارة رضى الله تعالى عنه فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا فيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان
من سكان عوالى المدينة أى قراها من جهة نجد قال وفى كلام بعضهم إلا جماعة من الأوس بن حارثة وذلك أنه كان فيهم أبو قيس وهو صيفى بن الأسلت وكان شاعرا لهم يسمعون منه ويطيعونه لأنه كان قوالا بالحق معظما وقد ترهب فى الجاهلية ولبس المسوح واغتسل من الجنابة ودخل بيتا له فاتخذه مسجدا وقال اعبد إله إبراهيم لا يدخل فيه حائض ولا جنب فوقف بهم عن الإسلام فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر واحد والخندق فاسلم وحسن إسلامه وهو شيخ كبير اه أى سبب تأخر إسلامه ما ذكره بعضهم أنه لما أراد الإسلام عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة لقيه أبى ابن سلول وكلمه بما أغضبه ونفره عن الإسلام وقال أبو قيس لا أتبعه إلا آخر الناس فلما احتضر أرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قل لا إله إلا بالله أشفع لك بها فقالها وهم ابنه أن ينكح امرأة أبيه أى على ما هو عادة الجاهلية أى وكان ذلك فى المدينة حتى فى أول الإسلام أن أكبر أولاد الرجل يخلفه على زوجته بعد موته فنزل التحريم أى قوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } وتقدم الكلام على سبب نزول هذه الآية مستوفى
ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة مع من خرج من المسلمين من الأنصار إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة أى وأخبر النبى صلى الله عليه وسلم بمن أسلم فسر بذلك
وعن كعب بن مالك قال خرجنا فى حجاج قومنا من المشركين ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا والبراء بالمد لغة آخر ليلة من الشهر سمى بذلك لأنه ولد فيها ومعرور معناه لغة مقصود فلما خرجنا من المدينة قال البراء لنا إنى قد رأيت رأيا ما أدرى أتوافقونى عليه أم لا قال قلنا وما ذاك قال رأيت أن لا أدع هذه البنية أى بفتح الموحدة وكسر النون وتشديد المثناة تحت المفتوحة ثم تاء التأنيث على وزن فعيلة يعنى الكعبة منى بظهر وأن أصلى إليها قال قلنا والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلى إلا إلى الشام يعنون بيت المقدس أى صخرته وما نريد أن نخالفه قال فقال إنى أصلى إليها قال فقلنا له لكنا لا نفعل قال فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام يعنى بيت المقدس أى واستدبرنا الكعبة وصلى إلى الكعبة أى مستديرا للشام حتى قدمنا مكة وقد كنا عبنا عليه ذلك وأبى إلاقامة على ذلك فلما قدمنا مكة
قال لي يا ابن أخي انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شيء لما رأيت من خلافكم إياي فيه قال فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا لا نعرفه لأنا لم نره قبل ذلكن فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعرفانه قلنا لا قال فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه قلنا نعم وكنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجرا قال فإذا دخلتما المسجد فإذا هو الرجل الجالس مع العباس فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم معه فسلمنا حين جلسنا إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل قال نعم هذا البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب ابن مالك قال كعب فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاعر قال نعم فقال له البراء بن معرور يا رسول الله إني خرجت في سفري هذا وقد هداني الله بالإسلام فرأيت أن لا أجعل هذه البنية منى بظهر يعني الكعبة فصليت إليها وخالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شيء فماذا ترى يا رسول الله قال قد كنت على قبلة لو صبرت عليها فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بيت المقدس أي ولم يأمره بإعادة ما صلاه مع أنه كان مسلما وبين له أنه كان الواجب عليه استقبال بيت المقدس لأنه كان متأولا فليتأمل
وفي هذا تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا بمكة قبل الهجرة وبعدها يصلون إلى بيت المقدس قبل أن تحول القبلة وقد تقدم الوعد بذلك
قال كعب ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة أي إلى أن يوافوه في الشعب الأيمن إذا انحدروا من منى أسفل العقبة حيث المسجد اليوم أي الذي يقال له مسجد البيعة كما تقدم وأمرهم أن لا ينبهوا نائما ولا ينتظروا غائبا وذلك في ليلة اليوم الذي هو يوم النفر الأول قال فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا وكان من جملة المشركين أبو جابر عبد الله بن عمرو بن حرام بفتح الحاء والراء المهملتين سيد من ساداتنا فكلمناه وقلنا له يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا ثم دعوناه
إلى الإسلام فأسلم وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة فمكثنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعد هدءة يتسلل الرجل والرجلان تسلل القطا مستخفين حتى إذا اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاث وسبعون رجلا وامرأتان نسيبة بالتصغير وهي أم عمارة من بني النجار أي وكانت تشهد الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وزوجها وابناها حبيب وعبد الله رضي الله تعالى عنهم وحبيب هذا اكتنفه مسيلمة الكذاب وصار يعذبه يقول له أتشهد أن محمدا رسول الله فيقول نعم ثم يقول وتشهد أني رسول الله فيقول لا فيقطع عضوا من أعضائه وهكذا حتى فنيت أعضاؤه ومات وسيأتي ما وقع لها رضي الله تعالى عنها في حرب مسيلمة وأم منيع أي وهذه الرواية لا تخالف رواية الحاكم حمسة وسبعون نفسا نعم تحالف قول ابن مسعود وهم سبعون رجلا يزيدون رجلا أو رجلين وامرأتان أي منهم أحد عشر رجلا من الأوس قال فلا زلنا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم حتى جاءنا أي وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقهم وانتظرهم
أقول وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون سبقهم وانتظرهم فلما لم يجيئوا ذهب ثم جاءهم بعد مجيئهم والله أعلم ومعه عمه العباس بن عبد المطلب أي ليس معه غيره وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له
أقول وهذا لا يخالف ما جاء أنه كان معه أيضا أبو بكر وعلى لأن العباس أوقف عليا على فم الشعب عينا له وأوقف أبا بكر على فم الطريق الآخر عينا فلم يكن معه عندهم إلا العباس والله أعلم فلما جلسوا كان العباس أول من تكلم فقال يا معشر الخزرج أي قال ذلك لأن العرب كانت تطلق الخزرج على ما يشمل الأوس وكانت تغلب الخزرج على الأوس فيقولون الخزرجين إن محمدا منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فهو في عز من قومه ومنعة في بلده وقد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن تدعونه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده فقال البراء بن معرور أنا
والله لو كان في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه ولكنا نريد الوفاء والصدق وبذل مهج أنفسنا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أي والبراء بن معرور هو اول من أوصى بثلث ماله
وفي رواية أن العباس قال قد أبي محمد الناس كلهم غيركم فإن كنتم أهل قوة وجلد وبصر بالحرب واستقلال بعداوة العرب قاطبة ترميكم عن قوس واحدة فأروا رايكم وائتمروا بينكم ولا تفرقوا إلا عن ملأ منكم واجتماع فإن أحسن الحديث أصدقه
أقول قول العباس قد أبى محمد الناس كلهم غيركم ربما يفيد أن الناس غير الأنصار وافقوه على مناصرته فأباهم ولا يساعد عليه ما تقدم ولولا التأكيد بلفظ كلهم لأمكن أن يراد بالناس قبيلة شيبان بن ثعلبة فإنهم كما تقدم قالوا له ننصرك بما يلي مياه العرب دون ما يلي مياه كسرى فأبى ذلك ويحتمل أن المراد بالناس الذين أباهم أهله وعشيرته والله أعلم
وعندما تكلم العباس بما ذكر قالوا له قد سمعنا مقالتك فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت وفي رواية خذ لنفسك ما شئت واشترط لربك ما شئت فقال النبي صلى الله عليه وسلم أشترط لربي عز وجل أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم ونساءكم فقال ابن رواحة فإذا فعلنا فما لنا فقال صلى الله عليه وسلم لكم الجنة قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل
وفي رواية فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله عز وجل ورغب في الإسلام ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم أي وفي رواية أنهم قالوا له يا رسول الله نبايعك قال تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة فاخذ البراء بن معرور بيده صلى الله عليه وسلم ثم قال نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع به أزرنا أي نساءنا وأنفسنا لأن العرب تكنى بالإزار عن المرأة وعن النفس فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة أي السلاح ورثناها كابرا عن كابر وبينا البراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو الهيثم بن التيهان بتشديد المثناة تحت وتخفيفها نقبله على مصيبة المال وقتل
الأشراف فقال العباس اخفوا جرسكم أي صوتكم فإن علينا عيونا ثم قال أبو الهيثم يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال يعني اليهود حبالا أي عهودا وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال بل الدم الدم والهدم الهدم بفتح الدال وسكونها إهدار دم القتيل أي دمي دمكم أي تطلبون بدمي وأطلب بدمكم فدمي ودمكم واحد وفي لفظ بدل الدم اللدم وهو بالتحريك الحرم من القرابات أي حرمكم خرمكم تقول العرب اللدم اللدم إذا أرادت تأكيد المحالفة هدمي وخدمكم واحد أي وإذا أهدرتم الدم أهدرته وذمتي ذمتكم ورحلتي مع رحلتكم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم أي وعند ذلك قال لهم العباس رضي الله تعالى عنه عليكم بما ذكرتم ذمة الله مع ذمتكم وعهد الله مع عهدكم في هذا الشهر الحرام والبلد الحرام يد الله فوق أيديكم لتجدن في نصرته ولتشدن من أزره قالوا جميعا نعم قال العباس اللهم إنك سامع شاهد وإن ابن أخي قد استرعاهم ذمته واستحفظهم نفسه اللهم كن لابن أخي عليهم شهيدا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجوا إلي منكم اثنى عشر نقيبا فلا يحدث أحد في نفسه أن يؤخذ غيره فإنما يختار لي جبريل أي لأنه عليه الصلاة والسلام حضر البيعة فلما تخيرهم أي وهم سعد بن عبادة وأسعد بن زرارة وسعد بن الربيع وسعد بن أبي خيثمة والمنذر بن عمرو وعبد الله بن رواحة والبراء بن معرور وأبو الهيثم بن التيهان وأسيد بن حضير وعبد الله بن عمرو بن حرام وعبادة بن الصامت ورافع بن مالك كل واحد على قبيلة رضي الله تعالى عنهم أجمعين وقال صلى الله عليه وسلم لأولئك النقباء أنتم كفلاء على غيركم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي يعني المهاجرين
وقيل إن الذي تولى الكلام من الأنصار وشد العقدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة أي وهو من اصغرهم فإنه أخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم وقال رويدا يا أهل يثرب إنا لن نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن إخراجه اليوم مفارقة لجميع العرب وقتل خياركم وإن تعطكم السيوف
فإما أنتم قوم تصبرون عليها إذا مستكم بقتل خياركم ومفارقة العرب كافة أي جميعا فخذوه وأجركم على الله تعالى وإما أنتم تحافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو عذر لكم عند الله عز وجل فقالوا يا أسعد أمط عنا يدك فوالله لا نذر أي نترك هذه البيعة ولا نستقيلها أي لا نطلب الإقالة منها
وقيل إن الذي تكلم مع الأنصار وشد العقدة العباس بن عبادة بن نضلة قال يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس أي على من حاربه منهم وإلا فهو صلى الله عليه وسلم لم يؤذن له في البداءة بالمحاربة إلا بعد أن هاجر إلى المدينة بمدة كما سيأتي وكان قبل ذلك مأمورا بالدعاء إلى الله تعالى والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل ثم ذكر ما تقدم عن أسعد بن زرارة أي ثم توافقوا على ذلك وقالوا يا رسول الله ما لنا بذلك إن نحن قضينا قال رضوان الله والجنة قالوا رضينا ابسط يدك فبسط يده صلى الله عليه وسلم فبايعوه أي وأول من بايعه صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور وقيل أسعد بن زرارة وقيل أبو الهيثم بن التيهان ثم بايعه السبعون كلهم أي وبايعه المرأتان المذكورتان من غير مصافحة لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصافح الناس إنما كان يأخذ عليهن فإذا أحرزن قال اذهبن فقد بايعتكن كما سيأتي فكانت هذه البيعة على حرب الأسود والأحمر أي العرب والعجم فهؤلاء الثلاثة لم يتقدم عليهم أحد غيرهم وحينئذ تكون الأولية فيهم حقيقية وإضافية
أي ويقال إن أبا الهيثم قال أبايعك يا رسول الله على ما بايع عليه الاثنا عشر نقيبا من بني إسرائيل موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام وأن عبد الله بن رواحة قال أبايعك يا رسول الله على ما بايع عليه الاثنا عشر من الحواريين عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وقال أسعد بن زرارة أبايع الله عز وجل يا رسول الله فأبايعك على أن أتم عهدي بوفائي واصدق قولي بفعلي في نصرك وقال النعمان بن حارثة أبايع الله عز وجل يا رسول الله وأبايعك على الإقدام في أمر الله عز وجل لا أرأف فيه القريب ولا البعيد أي لا أعامل فيه بالرأفة والرحمة وقال عبادة بن الصامت ابايعك يا رسول الله على أن لا تأخذني في الله لومة لائم وقال سعد بن الربيع أبايع الله وأبايعك يا رسول الله على أن
لا أعصى لكما أمرا ولا أكذبكما حديثا فلما انتهت البيعة وهذه البيعة يقال لها العقبة الثانية ولما وقعت صرخ الشيطان من رأس العقبة بأشد صوت وأبعده يا أهل الجباجب أي بجيمين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وبعد كل جيم باء موحدة وهي منازل منى وفي الهدى يا أهل الأخاشب هل لكم في مذمم والصباة معه يعني بمذمم النبي صلى الله عليه وسلم لأن قريشا كانت تقول بدل محمد صلى الله عليه وسلم مذمم ويعني بالصباة أصحابه الذين بايعوه لأنهم كانوا يقولون لمن أسلم صابيء لأن الصابىء من خرج من دين إلى دين وقد جاء ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم يسبون مذمما وأنا محمد فإنهم قد أجمعوا أي عزموا على حربكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا إزب العقبة أسمع أي عدو الله أما والله لا أفزعن وإزب بكسر الهمزة وإسكان الزاي ثم بالباء الموحدة الخفيفة وقيل بفتح الهمزة وفتح الزاي وتشديد الموحدة أي شيطان سمي بهذا الاسم المركب من المضاف والمضاف إليه عامرها والإزب في الأصل القصير ومن ثم رأى عبد الله بن الزبير رجلا طوله شبران على برذعة رحله فقال له ما أنت قال إزب قال وما إزب قال رجل من الجن فضربه على رأسه بعود سوطه فهرب
وعند ذلك قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفضوا وفي لفظ انفضوا إلى رحالكم
أقول وفي رواية لما بايع الأنصار بالعقبة صاح الشيطان من راس الجبل يا معشر قريش هذه بنو الاوس والخزرج تحالف على قتالكم ففزعوا أي الأنصار عند ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يروعكم هذا الصوت فإنما هو عدو الله إبليس وليس يسمعه أحد مما تخافون ولا مانع من اجتماع صراخ إزب العقبة وصراخ إبليس الذي هو أبو الجن ويجوز أن يكون المراد بعدو الله إبليس إزب العقبة لأنه من الأبالسة وإنه أتى باللفظين معا وقد حضر البيعة جبريل كما تقدم
فعن حارثة بن النعمان رضي الله تعالى عنه لما فرغوا من المبايعة قلت يا نبي الله لقد رأيت رجلا عليه ثياب بيض انكرته قائما على يمينك قال وقد رأيته قلت نعم قال ذاك جبريل والله أعلم
ثم إن الحديث نما سمع المشركون من قريش بذلك أي وفي كتاب الشريعة أن الشيطان لما نادى بما ذكر شبه صوته بصوت منبه بن الحجاج فنال عمرو بن العاص ما نال أبو جهل قال عمرو ذهبت أنا وهو إلى عتبة بن ربيعة فأخبره بصوت منبه بن الحجاج فلم يرعه ما راعنا وقال هل أتاكم فأخبركم بهذا منبه قلنا لا فقال لعله إبليس الكذاب الحديث وفيه طول وأمور مستغربة
ولا ينافي سماع عمرو وأبي جهل صوت إبليس قوله صلى الله عليه وسلم ليس يسمعه أحد مما تخافون لأن سماعهم لم يحصل منه خوف لهم وعند فشو الخبر جاء أجلتهم وأشرافهم حتى دخلوا شعب الأنصار فقالوا يا معشر الأوس والخزرج وفي رواية يا معشر الخزرج أي بالتغليب بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا لتخرجوه من بين أظهرنا وتبايعوه على حربنا والله ما من حي أبغض إلينا أن نشب الحرب بيننا وبينه منكم فصار مشركو الأوس والخزرج يحلفون لهم ما كان من هذا شيء وما علمناه أي حتى إن أبي ابن سلول جعل يقول هذا باطل وما كان هذا وما كان قومي ليفتاتوا علي بمثل هذا لو كنت بيثرب ما صنع هذا قومي حتى يؤامروني وصدقوا لأنهم لم يعلموه كما علم مما تقدم كما علم مما تقدم أي ونفر الناس من مني وبحثت قريش عن خبر الأنصار فوجدوه حقا فلما تحققوا الخبر اقتفوا آثارهم فلم يدركوا إلا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو فاما سعد فأمسك وعذب في الله وأما المنذر فأفلت ثم أنقذ الله سعدا من أيدي المشركين قال نقل عنه أنه قال لما ظفروا بي ربطوا يدي في عنقي فلا زالوا يلطموني على وجهي ويحذبوني بجمتي أي وكان ذا شعر كثير حتى أدخلوني مكة فأومأ إلي رجل أي وهو أبو البختري بن هشام مات كافرا وقال ويحك ما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد قال بلى قد كنت أجير لجبير بن مطعم تجارة وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي وللحارث بن حرب بن أمية أي وهو أخو أبي سفيان والأول أسلم بعد الحديبية والثاني لا يعلم له إسلام فقال ويحك فاهتف باسم الرجلين ففعلت فخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما في المسجد فقال لهما إن رجلا من الخزرج يضرب بالأبطح يهتف باسمكما فقالا من هو قال يقول إنه سعد بن عبادة فجاءا فخلصاني من أيديهم أه
وعن سعد بينا أنا مع القوم أضرب إذ طلع علي رجل أبيض وضيء شعشاع أي طويل زائد الحسن حلو من الرجال فقلت في نفسي إن يكن عند أحد من القوم خير
فعند هذا فلما دنا مني رفع يديه ولكمني لكمة شديدة فقلت في نفسي والله ما عندهم بعد هذا خير أي وهذا الرجل سهيل بن عمرو رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك
فلما قدم الأنصار المدينة أظهروا الإسلام أي إظهارا كليا وتجاهروا وإلا فقد تقدم أن الإسلام فشافيهم قبل قدومهم لهذه البيعة وكان عمرو بن الجموح وهو من سادات بني سلمة بكسر اللام وأشرافهم ولم يكن أسلم وكان ممن أسلم ولده معاذ بن عمرو وكان لعمرو في داره صنم أي من خشب يقال له المناة لأن الدماء كانت تمني أي تصب عنده تقربا إليه وكان يعظمه فكان فتيان قومه ممن أسلم كمعاذ بن جبل وولده عمرو بن معاذ ومعاذ بن عمرو يدلجون بالليل على ذلك الصنم فيطرحونه أي ولعله بعد إخراجه من داره في بعض الحفر التي فيها خرء الناس منكسا فإذا أصبح عمرو قال ويحكم من عدا على إلهنا هذه الليلة ثم يعود يلتمسه حتى إذا وجده غسله فإذا أمسى عدوا عليه وفعلوا به مثل ذلك إلى أن غسله وطيبه وحماه بسيف علقه في عنقه ثم قال له ما أعلم من يصنع بك فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك فلما أمسى عدوا عليه وأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل ثم القوه في بئر من آباء بني سلمة فيها خرء الناس فلما أصبح عمرو عدا إليه فلم يجده ثم تطلبه إلى أن وجده في تلك البئر فلما رآه كذلك رجع إلى عقله وكلمه من أسلم من قومه فأسلم وحسن إسلأمه وأنشد أبياتا منها ** والله لو كنت إلها لم تكن ** ** أنت وكلب وسط بئر في قرن **
وأمر صلى الله عليه وسلم من كان معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة أي لأن قريشا لما علمت أنه صلى الله عليه وسلم آوى أي استند إلى قوم أهل حرب وتحمل ضيقوا على أصحابه ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالونه من الشتم والأذى وجعل البلاء يشتد عليهم وصاروا ما بين مفتون في دينه وبين معذب في أيديهم وبين هارب في البلاد شكوا إليه صلى الله عليه وسلم واستأذنوه في الهجرة أي فمكث أياما لا يأذن لهم ثم قال لهم أريت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هى هى والسراة بفتح السين أعظم جبال بلاد العرب ثم خرج إليهم مسرورا فقال قد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب فأذن لهم وقال من اراد أن يخرج فليخرج إليها فخرجوا إليها أرسالا أي متتابعين يخفون ذلك أي وفي
رواية أريت في المنام أنى هاجرت من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلى أي وهمي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب
وفي الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أوحى إلي أي هؤلاء الثلاثة نزلت هي دار هجرتك المدينة أو البحرين أو قنسرين قال الترمذي هذا حديث غريب وزاد الحاكم فاختار المدينة
أقول فيه أن هذا السياق المتقدم يدل على أن استئذانهم في الهجرة عبارة عن خروجهم من مكة لا لخصوص المدينة وأن عدم إذنه صلى الله عليه وسلم لهم في الهجرة لعدم تعيين المحل الذي يهاجرون إليه له صلى الله عليه وسلم وكل ذلك لا يناسب ما تقدم في حديث المعراج من قول جبريل له صليت بطيبه وإليها المهاجرة
وقد يجاب بانه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم أنسى قول جبريل المذكور حينئذ ثم تذكره بعد ذلك في قوله قد أخبرت بدار هجرتكم إلى آخره
وفيه أن هذا لا يحسن بعد مبايعته صلى الله عليه وسلم للأوس والخزرج على مناصرته ومحاربة عدوه مع علمه بأن وطنه المدينة وكونهم يباعيونه على مناصرته مع كونه ساكنا في البحرين أو قنسرين في غاية البعد
على أنه سيأتي في غزوة بدر أنه صلى الله عليه وسلم خشى أن الأنصار لا ترى مناصرته إلا في المدينة أي فإن في بعض الروايات وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم بيثرب والله أعلم
وقبل الهجرة آخى صلى الله عليه وسلم بين المسلمين أي المهاجرين على الحق والمواساة فآخى بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وآخى بين حمزة وزيد بن حارثة وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف وبين الزبير وابن مسعود وبين عبادة بن الحارث وبلال وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وفاص وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله وبين علي ونفسه صلى الله عليه وسلم وقال أما ترضى أن أكون أخاك قال بلى يا رسول الله رضيت الله تعالى عنه قال فأنت أخي في الدنيا والآخرة قال وأنكر العباس بن تيمية المؤاخاة بين المهاجرين سيما مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه قال لأن المؤاخاة بين
المهاجرين والأنصار إنما جعلت ليرتفق بعضهم ببعض ولتألف قلوب بعضهم ببعض فلا معنى لمؤاخاة مهاجري لمهاجري
قال الحافظ ابن حجر هذا رد للنص بالقياس وبعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة فآخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق وليستعين الأدنى والأعلى وليستعين الأعلى بالادنى ولهذا تظهر مؤاخاته صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه كان هو الذي يقوم بأمره قبل البعثة
وفي الصحيح في عمرة القضاء أن زيد بن حارثة قال إن بنت حمزة بنت أخي أي بسبب المؤاخاة اه وكان أول من هاجر منهم إليها أي لامعهم أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي هو أخوه من الرضاع وابن عمته وهو أول من يدعى للحساب اليسير كما تقدم فإنه لما قدم من الحبشة لمكة آذاه اهلها وأراد الرجوع إلى الحبشة فلما بلغه إسلام من أسلم من الانصار أي الاثني عشر الذين بايعوا البيعة الأولى خرج إليهم وقدم المدينة بكرة النهار ولما عزم على الرحيل رحل بعيره وحمل عليه أم سلمة وابنها سلمة في حجرها وخرج يقود البعير رآه رجال من قوم أم سلمة فقاموا إليه وقالوا يا أبا سلمة قد غلبتنا على نفسك فصاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد ثم نزعوا خطام البعير منه فجاء رجال من قوم أبي سلمة وقالوا إن ابننا معها إذا نزعتموها من صاحبنا ننزع ولدنا منها ثم تجاذبوه حتى خلعوا يده وأخذه قوم أبيه ففرق بينها وبين زوجها وولدها فكانت تخرج كل غداة بالأبطح فتبكي حتى المساء مدة سنة فمر بها رجل من بني عمها فرأى ما بها فرحمها وقال لقومها أما ترحمون هذه المسكينة فرقتم بينها وبين ولدها وزوجها فقالوا لها الحقي بزوجك فلما بلغ ذلك قوم أبي سلمة ردوا عليها ولدها فارتحلت بعيرا وجعلت ولدها في حجرها وخرجت تريد المدينة وما معها أحد من خلق الله تعالى حتى إذا كانت بالتنعيم لقيها عثمان بن طلحة أي الحجبي صاحب مفتاح الكعبة وكان عثمان بن طلحة يومئذ مشركا ثم أسلم رضي الله تعالى عنه في هدنة الحديبية وهاجر مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص كما سيأتي فتبعها إلى المدينة حتى إذا وافى على قباء قال لها هذا زوجك هنا ثم انصرف وهي أول ظغينة دخلت من المهاجرين المدينة رضي الله تعالى عنها وكانت أم سلمة تقول ما رأيت صاحبا أكرم من عثمان بن طلحة قال وقال ابن إسحاق وابن سعد ثم كان أول من قدمها بعد أبي سلمة عامر بن
ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بالحاء المهملة المفوحة وسكون الثاء المثلثة وهي أول ظعينة قدمت المدينة اه
أقول فأم سلمة أول ظعينة قدمت المدينة لا مع زوجها وليلى أول ظعينة قدمت المدينة مع زوجها فلا منافاة
وفي كلام ابن الجوزي أول من هاجر إلى المدينة من النساء أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط والله أعلم
قال بينت أي أم سلمة ما تقدم عنها في حق عثمان بن طلحة بقولها فإنه لما رآني قال إلى أين قلت إلى زوجي قال أو ما معك أحد قلت لا ما معي إلا الله وابني هذا فقال والله لا أتركك ثم أخذ بخطام البعير وسار معي فكان إذا وصلنا المنزل أناخ بي ثم استأخر فإذا نزلت جاء وأخذ بعيري فحط عنه ثم قيده في الشجرة ثم أتى إلى شجرة فاضطجع تحتها فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحله وقدمه ثم استأخر عني وقال اركبي فإذا ركبت أخذ بخطأمه فقادني اه
أي وقد قال فقهاؤنا من الصغائر مسافرة المرأة بغير زوج ولا محرم ولا امرأة ثقة في غير الهجرة وفرض الحج والعمرة أما في ذلك فيجوز حيث أمنت الطريق
وقلنا لا معهم لا ينافى أن أول من قدم المدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير لأن قدومه كان معهم على ما تقدم أو يقال أبو سلمة أول من قدم المدينة بوازع طبعه وأما مصعب فكان بإرسال منه صلى الله عليه وسلم ثم رأيت في السيرة الهشامية أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليهن وسلم من بني مخزوم أبو سلمة وعليه فلا إشكال ثم جاء عمار وبلال وسعد
وفي رواية ثم قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إرسالا بعد العقبة الثانية فنزلوا على الأنصار في دورهم فأووهم وواسوهم ثم قدم المدينة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعياش بن أبي ربيعة في عشرين راكبا وكان هشام بن العاص واعد عمر بن الخطاب أن يهاجر معه وقال تجدني أو أجدك عند محل كذا فتفطن بهشام قومه فحبسوه عن الهجرة
وعن علي رضي الله تعالى عنه الله قال ما علمت أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا
إلا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فإنه لما هم بالهجرة تقلد بسيفه وتنكب قوسه وانتضى في يديه أسهما واختصر عنزته أي وهي الحربة الصغيرة علقها عند خاصرته ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها فطاف بالبيت سبعا ثم أتى المقام فصلى ركعتين ثم وقف على الحلق واحدة واحدة فقال شاهت الوجوه لا يرغم الله إلا هذه المعاطس أي الأنوف من أراد أن تثكله أمه أي تفقده او يوتم ولده أو ترمل زوجته فليلقنى وراء هذا الوادي قال علي رضي الله تعالى عنه فما تبعه أحد ثم مضى لوجهه ثم إن أبا جهل وأخاه شقيقه الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك يوم الفتح قدما المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة لم يهاجر فكلما عباس بن أبي ربيعة وكان أخاهما لأمهما وابن عمهما كان أصغر ولد أمه وأخبراه أن أمه قد نذرت أن لا تغسل رأسها وفي لفظ ولا يمس رأسها مشط ولا تستظل من شمس حتى تراه أي وفي لفظ أن لا تاكل ولا تشرب ولا تدخل مسكنا حتى يرجع إليها وقالا له وأنت أحب ولد أمك إليها وأنت في دين منه بر الوالدين فارجع إلى مكة فاعبد ربك كما تعبده بالمدينة فرقت نفسه وصدقهما أي واخذ عليهما المواثيق أن لا يغشياه بسوء وقال له عمر إن يريدا إلا فتنتك عن دينك فاحذرهما والله لو آذى أمك القمل امتشطت ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت فقال عياش أبر امي ولي مال هناك آخذه فقال عمر خذ نصف مالي ولا تذهب معهما فأبى إلا ذلك فقال له عمر فحيث صممت فخذ ناقتي هذه فإنها نجيبة ذلول فالزم ظهرها فإن رابك منهما ريب فانج عليها فأبى ذلك وخرج راجعا معهما إلى مكة فلما خرجا من المدينة كتفاه بتخفيف التاء أي شدا يديه إلى خلف بالكتاف في الطريق أي وفي السيرة الهشامية أنه أخذ الناقة وخرج عليها معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل يا أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا أفلا تعقبني على ناقتك هذه قال بلى قال فاناخ وأناخ ليتحول عليها فلما استووا بالأرض عدوا عليه وأوثقاء رباطا ودخلا به مكة نهارا موثقا وقالا يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفهائنا وفي لفظ بسفيهنا فجلس بمكة مع هشام بن العاص فإنه كما تقدم منه وحبس عن الهجرة وجعل كل في قيد
وفي لفظ أنهما لما ذكرا له أن أمه حلفت أن لا يظلها سقف بيت حتى تراه وأعطياه موثقا أن لا يمنعاه وان يخليا سبيله بعد أن تراه أمه فانطلق معهما حتى إذا خرجا من
المدينة عمدا إليه فشداه وثاقا وجلداه نحوا من مائة جلدة وكان أعانهما عليه رجل من بني كنانة أي يقال له الحارث بن يزيد القرشي وفي كلام ابن عبد البر أنه كان ممن يعذبه بمكة مع أبي جهل
وفي الينبوع جلده كل واحد منهما مائة جلدة وأنه لما جيء به إلى مكة ألقي في الشمس وحلفت أمه أنه لا يحل عنه حتى يرجع عن دينه ففتن قيل وكان ذلك سبب نزول قوله تعالى { ووصينا الإنسان بوالديه } الآية
وفيه أنه نقدم أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص إلا أن يقال يجوز أن يكون مما تكرر نزوله فتكون نزلت فيهما وحلف عياش ليقتلن ذلك الرجل إن قدر عليه قيل ولم يزل عياش محبوسا حتى فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فخرج عياش فلقي ذلك الرجل الكناني وكان قد أسلم وعياش لا يعلم بإسلأمه فقتله وأعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأنزل الله تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم وقال لعياش قم فحرر أي أعتق رقبة وما ذكر من أن عياشا استمر محبوسا إلى الفتح يخالف قول بعضهم مكث صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة كما سيأتي أربعين صباحا يقنت في صلاة الصبح بعد الركوع أي من الركعة الاخيرة وكان يقول في قنوته اللهم أنج الوليد بن الوليد وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص والمستضعفين من المؤمنين بمكة الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فإن هذا يدل على أن هشام ابن العاص وعياش بن أبي ربيعة لم يفتتنا ولم يرجعا عن الإسلام وفي السيرة الهشامية ما يفيد أنهما فتنا الأول صريحا والثاني ظاهرا
وفي السيرة الهشامية التصريح بافتتانهما وفيه نظر لما ذكر ولأنهما لو كان فتنا لأطلقا من الحبس والقيد وإدامة ذلك إلا أن يقال فعل بهما ذلك بعدم الوثوق برجوعهما عن الإسلام ومما يدل على أن رجوعهما عن الإسلام إن صح إنما كان ظاهرا فقط دعاؤه صلى الله عليه وسلم لهما
أي وسيأتي أن الوليد كان سببا لتخليص عياش بن أبي ربيعة وهشام بن أبي العاص بعد أن تخلص من الحبس وهاجر إلى المدينة فإن الوليد كان أسر ببدر ثم افتداه أخوه خالد وهشام ابنا الوليد بن المغيرة وذهبا به إلى مكة فأسلم وأراد الهجرة فحبساه بمكة وقيل له هلا أسلمت قبل أن تفدي قال كرهت أن يظن في أني جزعت من الأسر ثم نجا وتوصل
إلى المدينة ورجع إلى مكة مستخفيا وخلص عياشا وهشاما وجاء بهما إلى المدينة فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وشكر صنيعه وبه يعلم ضعف ما تقدم من أن عياشا لم يزل محبوسا إلى يوم الفتح
وممن هاجر قبل النبي صلى الله عليه وسلم سالم مولى أبي حذيفة بن عبتة بن ربيعة أي لأنه لما أعتقته زوجة أبي حذيفة وكانت أنصارية تبناه أبو حذيقة وكان يؤم المهاجرين بالمدينة فيهم عمر بن الخطاب لأنه كان أكثرهم أخذا للقرآن فكان عمر بن الخطاب يثني عليه كثيرا حتى قال لما أوصى عند قتله لو كان سالم مولى أبي خذيفة حيا ما جعلتها شورى قال ابن عبد البر معناه أنه كان يأخذ برأيه فيمن يوليه الخلافة أي فإنه قتل في يوم اليمامة وأرسل عمر بميراثه لمعتقته فأبت ان تقبله فجعله في بيت المال
ولما أراد صهيب الهجرة إلى المدينة أي بعد أن هاجر إليها صلى الله عليه وسلم خلافا لما يوهمه كلام الأصل والشامي قال له كفار قريش أتيتنا صعلوكا فقيرا فكثر مالك عندنا ثم تريد أن تخرج بمالك لا والله لا يكون ذلك فقال لهم صهيب أرايتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي قالوا نعم قال فإني جعلته لكم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ربح صهيب
أقول وذكر أن صهيبا تواعد معه صلى الله عليه وسلم أن يكون معه في الهجرة فلما أراد صلى الله عليه وسلم الخروج للغار أرسل إليه أبا بكر مرتين أو ثلاثا فوجده يصلي فكره أن يقطع عليه صلاته كما سيأتي وحينئذ يكون قول صهيب المذكور بعد هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كما تقدم وهو ما في الخصائص الكبرى عن صهيب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وخرج معه أبو بكر وقد كنت هممت بالخروج معه فصدني قتيان من قريش أي بعد أن أردت الخروج بعده وقالوا له جئتنا فقيرا حقيرا صعلوكا فكثر مالك عندنا وتريد أن تخرج بمالك ونفسك لا يكون ذلك أبدا قال فقلت لهم أنا أعطيكم أواقي من الذهب وفي لفظ ثلث مالي وفي لفظ مالي وتخلون سبيلي ففعلوا فقلت احفروا تحت أسكفة الباب فإن تحتها الأواقي وخرحت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء قبل أن يتحول منها فلما رآني قال يا أبا يحيى ربح البيع ثلاثا فقلت يا رسول الله إنه ما سبقني إليك أحد وما أخبرك إلا جبريل عليه الصلاة والسلام
أي وأخراج أبو نعيم في الحلية عن سعيد بن المسيب قال أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذ سيفه وكنانته وقوسه فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال يا معشر قريش قد علمتم أني من أرحاكم رجلا وأيم الله لا تصلون إلى حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي فقالوا نعم فقال لهم ما تقدم وفي رواية أنهم قالوا له دلنا على مالك ونخلي عنك وعاهدوه على ذلك ففعل
وذكر بعض المفسرين أن المشركين أخذوه وعذبوه فقال لهم إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني وتتركوا لي راحلة ونفقة ففعلوا ونزل قوله تعالى ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله قال فلما قدمت وجدت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر جالسين فلما رآني أبو بكر قام إلي فبشرني بالآية التي نزلت في أي وفي رواية فتلقاني أبو بكر وعمر ورجال فقال لي أبو بكر ربح بيعك أبا يحيى فقلت وبيعك هلا تخبرني ماذاك فقال أنزل الله فيك كذا وقرأ علي الآية
وفي تفسير سهل بن عبد الله التستري أن صهيبا كان من المشتاقين لم يكن له قرار كان لا ينام لا باللييل ولا بالنهار
وقد حكى أن امرأة اشترته فرأته كذلك فقالت لا ارضى حتى تنام بالليل لأنك تضعف فلا يتهيأ لك الاشتغال بأعمالي فبكى وقال إن صهيبا إذا ذكر النار طار نومه وإذا ذكر الجنة جاء شوقه وإذا ذكر الله طال شوقه أي وليتأمل هذا مع ما في تاريخ ابن كثير أن الروم أغارت على بلاد صهيب وكانت على دجلة وقيل على الفرات فأسرته وهو صغير ثم اشتراه منهم بنو كلب فحملوه إلى مكة فابتاعه عبد الله بن جدعان فأعتقه واقام بمكة حينا فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم وكان إسلامه وإسلام عمار بن ياسر في يوم واحد وقد يقال يجوز أن تكون تلك المرأة التي اشترته كانت من بني كلب
وعن صهيب رضي الله تعالى عنه صحبت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه وأنه قال له عمر رضي الله تعالى عنه يا صهيب اكتنيت وليس لك ولد فقال كناني
رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي يحيى فهو من جملة من كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ولد له وكان في لسانه عجمة شديدة وكان فيه دعابة رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل قثاء ورطبا وهو أرمد إحدى عينيه فقال له تأكل رطبا وأنت أرمد فقال إنما آكل من ناحية عيني الصحيحة فضحك صلى الله عليه وسلم
وفي المعجم الكبير للطبراني عن صهيب قال قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه تمر وخبز فقال ادن فكل فأخذت آكل من التمر فقال لي أتأكل التمر وعينك رمدة فقلت يا رسول الله أمصه من الناحية الأخرى فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ولا مانع من التعدد ولما أذن صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة وهاجروا مكث صلى الله عليه وسلم بعد أصحابه ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ولم يتخلف معه إلا على بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وابو بكر أي وصهيب كما علمت ومن كان محبوسا أو مريضا أو عاجزا عن الخروج وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه كثيرا ما يستاذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فيقول له لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا فيطمع أبو بكر أن يكون هو وفي رواية تجهز أبو بكر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي فقال له أبو بكر هل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي قال نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين عنده الخبط أي وفي لفظ ورق السمر بفتح المهملة وضم الميم قال الزهري وهو الخبط قال ابن فارس والخبط ما يخبط بالعصا فيسقط من روق الشجر وكان مدة علفها أربعة أشهر وكان اشتراهما بثمانمائة درهم
أقول ظاهر هذا السياق أن علفه للراحلتين كان بعد قول المصطفى صلى الله عليه وسلم له ما ذكر ومعلوم أن ذلك بعد مبايعة الأنصار له صلى الله عليه وسلم والمدة بين مبايعة الأنصار له صلى الله عليه وسلم والهجرة كانت ثلاثة أشهر أو قريبا منها لأنها كانت في ذي الحجة ومهاجرته صلى الله عليه وسلم كانت في ربيع الأول
وفي السيرة الشامية ما يصرح بأن علفه للراحلتين كان بعد قول المصطفى صلى الله عليه وسلم له ما ذكر ففيها أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لأبي بكر وقد استأذنه في الهجرة لأتعجل لعل الله يجعل لك صاحبا طمع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يعني نفسه فابتاع راحلتين فحبسها في داره يعلفهما إعدادا لذلك وسيأتي عن الحافظ ابن حجر
أن بين ابتداء هجرة الصحابة وبين هجرته صلى الله عليه وسلم شهرين ونصف شهر على التحرير والله أعلم
فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صار له شيعة أي أنصار وأصحاب من غيرهم ورأوا خروج أصحابه إليهم وأنهم أصابوا منعة لأن الانصار قوم أهل حلقة أي سلاح وبأس حذروا أي خافوا أن يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يجمع على حربهم فاجتمعوا في دار الندوة يتاشورون فيما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت محل مشورتهم لا يقطعون أمرا الا فيها أي وهي أول دار بنيت بمكة كانت منزل قصي بن كلاب كما تقدم ثم صارت لولده عبد الدار ثم ابتاعها معاوية لما حج وهو خليفة من أولاد عبد الدار
وتقدم أن معاوية إنما اشتراها من حكيم بن حزام ويدل لذلك ما جاء عن مصعب ابن عبد الله قال جاء الإسلام ودار الندوة بيد حكيم بن حزام فباعها من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم فقال له عبد الله بن الزبير بعت مكرمة قريش فقال له حكيم ذهبت المكارم إلا التقوى يا ابن أخي إلى آخر ما تقدم وكانت دار الندوة جهة الحجر عند المقام الحنفي الآن وكان لها باب للمسجد وكان لا يدخلها عند المشورة من ولد قصي إلا ابن أربعين سنة
وفي كلام بعضهم ساد أبو جهل وما طر شاربه ودخل دار الندوة وما استدارت لحيته وقد أدخلت في المسجد قيل لها دار الندوة لاجتماع الندى وهو الجماعة فيها وكان ذلك اليوم يسمى يوم الرحمة لأنه اجتمع فيه أشراف بني عبد شمس وبني نوفل وبني عبد الدار وبني أسد وبني مخزوم وبني سهم وبني جمح وغيرهم مما لا يعد من قريش ولم يتخلف من أهل الرأي والحجا أحد ثم إن إبليس جاء إليهم في صورة شيخ نجدي عليه طيلسان من خز وقيل من صوف أي وإنما فعل ذلك ليقبل منه ما يشير به لأن أهل الطيالسة في العادة من أهل الوقار والمعرفة ووقف ذلك الشيخ على الباب فقالوا له من الشيخ قال شيخ من أهل نجد سمع بالذي اجتمعتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا قالوا أجل أي نعم فادخل فدخل معهم أي وإنما قال لهم من أهل نجد لأن قريشا قالوا لا يدخلن معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة لأن هواهم كان مع محمد صلى الله عليه وسلم
قيل لما سمعهم يقولون لا يدخل معكم اليوم إلا من هو معكم قال لهم لما سألوه وقالوا له من أنت قال شيخ من نجد وأنا ابن أختكم فقالوا ابن أخت القوم منهم
قيل إن إبليس لما دخل عليهم أنكروه وقالوا له من أنت وما أدخللك علينا في خلوتنا هذه بغير إذننا فقال إني رجل من أهل نجد رأيتكم حسنة وجوهكم طيبة ريحكم فأحببت أن أجلس إليكم وأسمع كلامكم فإن كرهتم ذلك خرجت عنكم فقال بعضهم لبعض هذا نجدي ولا عين عليكم منه وفي لفظ هذا من أهل نجد لا من مكة فلا يضركم حضوره معكم وعند المشورة قال بعضهم لبعض إن هذا الرجل يعني النبي صلى الله عليه وسلم قد كان من أمره ما قد رأيتم وإنا والله لا نأمنه الوثوب علينا بمن قد ابتعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأيا فتشاوروا فقال قائل أي وهو أبو البختري بن هشام احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما اصاب أشباهه من الشعراء حتى يصيبه ما أصابهم من هذا الموت فقال الشيخ النجدي لا والله ما هذا لكم براي والله لو حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلا تشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم حتى يبلغوكم على أمركم ما هذا براي فأنظروا رايا غيره فتشاوروا فقال قائل منهم أي وهو الأسود بن ربيعة بن عمير نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين يذهب فقال الشيخ النجدي والله ما هذا براي ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي الله به والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل بفتح أوله وضم الحاء المهملة أي ينزل ويجوز أن يكون بكسرها أي يسقط على حي من العرب فيغلب بذلك عليهم من قوله وحديثه حتى يبايعوه ثم يسير به إليكم حتى يطأكم به فيأخذوا أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد دبروا فيه رايا غير هذا فقال أبو جهل بن هشام والله إني لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد قالوا وما هو يا أبا الحكم قال الرأي أن تأخذوا من كل قبيلة شابا جلدا أي قويا حسيبا في قومه نسيبا وسطا ثم يعطى كل فتى منهم سيفا صارما ثم يغدون إليه فيضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا قلم تقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فيرضوا منا بالعقل أي الدية فعقلنا لهم فقال النجدي القول ما قال هذا الرجل هذا هو الرأي ولا ارى غيره فتفرق القوم على ذلك فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال لا تبت هذه الليلة في فراشك الذي كنت تبيت عليه أي وأخبره بمكرهم وأنزل الله عز وجل عليه { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } الآية فلما كان عتمة من الليل أي الثلث الأول من الليل اجتمعوا على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرصدونه حتى ينام فيثبتوا عليه أي وكانوا مائة
أقول في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي خاتم عن عبيد بن عمير لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه قال له أبو طالب هل تدري ما ائتمروا بك قال يريدون أن يحبسوني أو يقتلوني أو يخرجوني قال من حدثك بهذا قال ربي قال نعم الرب وربك فاستوص به خيرا قال أنا أستوصى به بل هو يستوصي بي هذا كلامه ولم يتعقبه بأن هذا كان بعد موت أبي طالب قال وكان ائتمارهم يوم السبت
فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم السبت فقال مكر وخديعة قالوا ولم يا رسول الله قال إن قريشا أرادوا أن يمكروا فيه بي أي أرادوا فيه المكر فأنزل الله تعالى { وإذ يمكر بك الذين كفروا }
وفي سيرة الحافظ الدمياطي فاجتمع أولئك القوم من قريش يتطلعون من صير الباب أي شقه ويرصدونه يريدون بياته أي يوقعون به الأمر ليلا ويأتمرون أيهم يحمل على المضطجع وفيه أن ائتمارهم في ذلك لا يناسب ما اجتمع رأيهم عليه من أنهم يجتمعون على قتله ليتفرق دمه في القبائل
ثم رأيت بعضهم قال وأحدقوا ببابه صلى الله عليه وسلم وعليهم السلاح يرصدون طلوع الفجر ليقتلوه ظاهرا فيذهب دمه لمشاهدة بني هاشم قاتله من جميع القبائل فلا يتم لهم أخذ ثأره وهو المناسب لما ذكر والله اعلم
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم أي علم ما يكون منهم قال لعلي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه نم على فراشي واتشح بردائي هذا الحضرمي وقد كان يشهد فيه العيدين وقد كان طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر وهل كان أخضر أو أحمر يدل للثاني قول جابر كان يلبس رداء أحمر في العيدين والجمعة ثم رأيت في بعض الروايات أنه كان أخضر فلينظر الجمع
وفي سيرة الدمياطي وارتد بردائي هذا الأحمر والحضرمي منسوب إلى حضرموت
التي هي البلدة أو القبيلة باليمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسجى بذلك البرد عند نومه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم
أقول وأما ما روى أن الله تعالى أوحى إلى جبريل ومكائيل إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة فاختار كلاهما الحياة فأوحى الله إليهما ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم فبات على فراشه ليفديه بنفسه ويؤثره بالحياة اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فنزلا فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه فقال جبريل بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب باهى الله بك الملائكة وأنزل الله عز وجل ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله قال فيه الإمام ابن تيمية إنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث والسير
وأيضا قد حصلت له الطمأنينة بقول الصادق له لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم فلم يكن فيه فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة والآية المذكورة في سورة البقرة وهي مدنية باتفاق وقد قيل إنها نزلت في صهيب رضي الله تعالى عنه لما هاجر أي كما تقدم لكنه في الإمتاع لم يذكر أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي ما ذكر وعليه فيكون فداؤه للنبي صلى الله عليه وسلم بنفسه واضحا ولا مانع من تكرر نزول الآية في حق علي وفي حق المصطفى صلى الله عليه وسلم وفي حق صهيب بمعنى اشترى أي اشترى نفسه بماله ونزول هذه الآية بمكة لا يخرج سورة البقرة عن كونها مدنية لأن الحكم يكون للغالب
وفي السبعيات أنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى أصحابه وقال أيكم يبيت على فراشي وأنا أضمن له الجنة فقال علي أنا ابيت وأجعل نفسي فداءك هذا كلامه ولعله لا يصح
ثم رايت في الإمتاع ما يدل لعدم الصحة وهو قال ابن إسحاق ولم يعلم فيما بلغني بخروجه صلى الله عليه وسلم حين خرج إلا علي وأبو بكر الصديق فليتأمل والله تعالى أعلم
وكان في القوم الحكم بن أبي أبي العاص وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وأمية
ابن وزمعة بن الأسود وأبو لهب وأبو جهل فقال وهم على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن أي بضم الهمزة وتشديد النون وهو محل بأرض الشام يقرب بيت المقدس وإن لم تفعلوا كان فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحترقون فيها وسمعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم وهو يقول نعم أنا أقو ذلك وأخذ حفنة من تراب وتلا قوله تعالى { يس والقرآن الحكيم } إلى قوله { فأغشيناهم فهم لا يبصرون } فأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فلم يروه
وفي مسند الحارث بن أبي أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر في فضل يس أنها إن قرأها خائف أمن أو جائع شبع أو عار كسى أو عاطش سقى أو سقيم شفى وعند خروجه صلى الله عليه وسلم جعل ينثر التراب على رءوسهم فلم يبق رجل إلا وضع على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد فأتاهم آت فقال ما تنتظرون ههنا قالوا محمدا فقال قد خيبكم الله والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته أفما ترون ما بكم قال فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب قال في النور وهذا يعارضه حديث مارية خادم النبي صلى الله عليه وسلم تكنى أم الرباب أنها طأطأت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد حائطا ليلة فر من المشركين وينبغي أن يوفق بينهما إن صحا وإلا فالعبرة بالصحيح منهما هذا كلامه
أقول التوفيق حاصل وهو أنه يجوز أنه يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يحب أن يخرج عليهم من الباب فتسور الحائط التي نزل منها عليهم والله أعلم أي وكان ذهابه صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم في تلك الليلة إلي بيت أبي بكر رضي الله تعالى عنه فكان فيه إلى الليل أي إلى الليلة المقبلة ثم خرج هو وأبو بكر رضي الله عنه ثم مضيا إلى جبل ثور كذا في سيرة الدمياطي ثم أي بعد إخبارهم بخروجه صلى الله عليه وسلم ووضعه التراب على رءوسهم جعلوا يطلعون فيرون عليا نائما على الفراش مسجى ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون والله إن هذا محمد نائما عليه برده فلم يزالوا كذلك أي يريدون أن يوقعوا به بالفعل والله مانع لهم من ذلك حتى أصبحوا واتضح النهار
فقام علي رضي الله تعالى عنه عن الفراش فقالوا والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا أي ولما قام علي رضي الله تعالى عنه سألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا علم لي به وفي رواية فلما أصبحوا صاروا إليه يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأوا عليا رضي الله تعالى عنه رد الله تعالى مكرهم فقالوا أين صاحبك قال لا أدري فأنزل الله تعالى قوله { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } وأنزل الله عز وإذ يمكر بك الذي كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين كذا في الأصل تبعا لابن إسحاق ولا يخفى أن الآية الثانية موفية بما ذكروه من المشاورة
قال والمانع من اقتحام الجدار عليه في الدار مع قصر الجدار وقد جاءوا لقتله أنهم هموا بذلك فصاحت امرأة من الدار فقال بعضهم لبعض إنها لسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم وهتكنا ستر حرمتنا انتهى
أقول لا يخفى أن هذا لا يناسب ما قدمناه عن بعضهم أنهم إنما أرادوا قتله صلى الله عليه وسلم عند طلوع الفجر ليظهر لبني هاشم قاتلوه فلا يثبوا عليه لئلا يتسور الجدار إلا أن يقال إرادة ذلك منهم كانت عند طلوع الفجر ووجود الأسباب المانعة لهم من الوثوب عليه لا ينافى أن المانع لهم عن الوثوب عليه الذي جاءوا بصدده وهم مائة رجل من صناديد قريش إنما هي حماية الله تعالى الموجبة لخذلانهم وإظهار عجزهم وفي ذلك تصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال لعلي لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم على ما تقدم والمراد بقول بعضهم كان المشركون يرمونه بأبصارهم لا بنحو حجارة أو نبل كما لا يخفى
فإن قيل هلا نام صلى الله عليه وسلم على فراشه قلنا لو فعل ذلك لفات إذلالهم بوضع التراب على رءوسهم وإظهار حماية الله تعالى له بخروجه عليهم ولم يبصره أحد منهم وفي رواية أنهم تسوروا عليه صلى الله عليه وسلم ودخلوا شاهرين سيوفهم فثار في وجوههم فعرفوه فقالوا هو أنت أين صاحبك فقال لا أدري وهذا مخالف لما تقدم فلينظر الجمع بناء على صحة هذا
وفي لفظ أمروه بالخروج فضربوه وأدخلوه المسجد وحبس به ساعة ثم خلوا عنه والله أعلم
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن له في الهجرة إلى المدينة أي وأنزل الله تعالى عليه { وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا } قال زيد بن اسلم جعل الله عز وجل مدخل صدق المدينة ومخرج صدق مكة وسلطانا نصيرا الأنصار
ويعارضه ما جاء أن عند رجوعه صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة قال له جبريل سل ربك فإن لكل نبي مسالة فقال ما تأمرني أن أسأله قال قل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا فأنزل الله تعالى عليه ذلك في رجعته م نتبوك بعد من ختمت السورة أي إلا أن يدعى تكرار النزول وعند الإذن له صلى الله عليه وسلم في الهجرة قال لجبريل من يهاجر معي قال جبريل أبو بكر الصديق
أي ومن الغريب قول بعضهم ومن ذلك اليوم سماه الله تعالى صديقا فقد تقدم أن تسميته بذلك كان عند تصديقه له صلى الله عليه وسلم عند إخباره بالإسراء وعن صفة بيت المقدس
ومن الغريب أيضا ما في السبعيات أن النبي صلى الله عليه وسلم تشاور مع أصحابه فقال أيكم يوافق معي ويرافقني فقد أمرني الله تعالى بالخروج من مكة إلى المدينة فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه أنا يا رسول الله
ويرده ما في السير أنه صلى الله عليه وسلم أتى أبا بكر ذات يوم ظهرا فناداه فقال أخرج من عندك فقال يا رسول الله إنما هما ابنتاي يعني عائشة وأسماء رضي الله تعالى عنهما قال شعرت أي علمت أنه قد أذن لي في الهجرة فقال يا رسول الله الصحبة أي أسألك الصحبة فقال أي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحبة أي لك الصحبة عندي فانطلقا أي ليلا كما تقدم عن سيرة الدمياطي لكن تقدم عنها أنه دخل بيت أبي بكر في ليلة خروجه من على فراشه وأنه مكث ببيت ابي بكر إلى الليلة القابلة التي كان فيها خروجه صلى الله عليه وسلم إلى جبل ثور فيحتاج إلى الجمع
وقد يقال إن مجيئه صلى الله عليه وسلم ظهرا كان قبل تلك الليلة ومع خروجهما خرجا مستخفين حتى أتيا الغار وهو بجبل ثور فتواريا فيه
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال عند خروجه من
مكة أي متوجها إلى المدينة والله إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله وأكرمها على الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت
أي وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم وقف أي على راحتله بالحزورة ونظر إلى البيت وقال والله إنك لأحب أرض الله إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك قهرا ما خرجت
وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم وقف في وسط المسجد والتفت إلى البيت فقال إني لأعلم ما وضع الله بيتا أحب إلى الله منك وما في الأرض بلد أحب إليه منك وما خرجت منك رغبة ولكن الذين كفروا أخرجوني
أي وهذا السياق يدل على أن وقوفه صلى الله عليه وسلم على الحزورة أو في وسط المسجد يقتضي أنه جاء بعد خروجه من الغار إلى ما ذكر ثم ذهب إلى المدينة وفي رواية وقف صلى الله عليه وسلم على الحجون وقال والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولو لم أخرح منك ما خرجت وفي لفظ ولو تركت فيك لما خرجت منك ولا مانع من تكرر ذلك ثم رأيت في كلام بعضهم أن وقوفه صلى الله عليه وسلم على الحجون كان في عام الفتح وفي لفظ آخر قال لمكة ما أطيبك من بلدة وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني ما سكنت غيرك
أي وفي جمال القراء للسخاوي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توجه مهاجرا إلى المدينة وقف ونظر إلى مكة وبكى فأنزل الله عز وجل عليه { وكأين من قرية هي أشد قوة } الآية
وأما ما روى الحاكم عن أبي هريرة مرفوعا اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكني في أحب البقاع إليك فقال الذهبي إنه موضوع وقال ابن عبد البر لا يختلف أهل العلم أنه منكر موضوع
أقول والذي رأيته عن المستدرك للحاكم اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إلي فأسكني أحب البلاد إليك والمعنى واحد وإليه ما روى عن الزهري اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي فاسكني أحب البلاد إليك استند من قال بتفضيل المدينة على مكة قال لأن الله تعالى أجاب دعاءه فأسكنه المدينة قيل وعليه جمهور العلماء ومنهم الإمام مالك رضي الله تعالى عنه وإلى الأحاديث الأول استند من
قال بتفضيل مكة على المدينة وهم الجمهور ومنهم إمامنا الشافعى رضى الله تعالى عنه واستندوا فى ذلك إلى أنه صلى الله عليه وسلم قال فى حجة الوداع أى بلد تعلمونه أعظم حرمة قالوا لا نعلم إلا بلدنا هذه يعنون مكة وهذا إجماع من الصحابة أقرهم عليه صلى الله عليه وسلم أنها أى مكة أفضل من سائر البلاد لأن ما كان أعظم حرمة فهو أفضل وقد قال صلى الله عليه وسلم المقام بمكة سعادة والخروج منها شقاوة وقال صلى الله عليه وسلم من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائة عام
قال ابن عبد البر وإنى لأعجب ممن ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله والله إنى لأعلم أنك خير أرض وأحبها إلى الله ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت وهذا حديث صحيح ويميل إلى تأويل لا يجامع ما تأوله عليه أى ولأن الحسنه فيها بمائة ألف حسنة فعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال من حج ماشيا كتبت له بكل خطوه سبعمائة حسنة من حسنات الحرم قيل وما حسنات الحرم قال الحسنة فيه بمائة ألف حسنة
والكلام فى غير ماضم أعضاءه الشريفة صلى الله عليه وسلم من أرض المدينة وإلا فذاك أفضل بقاع الأرض بالإجماع بل حتى من العرش والكرسى
على أن صاحب عوارف المعارف ذكر أن الطوفان موج تلك التربة المكرمة عن محل الكعبة حتى أرساها بالمدينة فهى من جملة أرض مكة وحينئذ لا يحسن الاستنادفى تفضيل المدينة على مكة بقول أبى بكر رضى الله تعالى عنه إنهم لما اختلفوا فى أى محل يدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبضه الله إلا فى أحب البقاع إليه ليدفن فيه كما سيأتى والله أعلم
وعن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها قالت بينا نحن جلوس يوما فى بيت أبى بكر الصديق فى نحر الظهيرة أى وسطها وهو وقت الزوال قال قائل لأبى بكر أى وهذا القائل هى أسماء بنت أبى بكر وفى كلام بعض الحفاظ يحتمل أن يفسر بعامر بن فهيرة أى مولى أبى بكر قالت أسماء قلت يا أبت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا أى متطيلسا فى ساعة لم يكن يأتينا فيها أى فعن عائشة رضى الله تعالى عنها لم يمر علينا يوم أى قبل الهجرة إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفى النهار بكرة وعشيا
وفى لفظ كان لا يخطئ أن يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أبى بكر أحد طرفى النهار إما بكرة وإما عشيا أى ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحة الثانية وإلا فالأولى فى البخارى وتفسير التقنع بالتطيلس ذكره الحافظ ابن حجر حيث قال قوله متقنعا أى متطيلسا وهو أصل فى لبس الطيلسان هذا كلامه
واعترضه ابن القيم حيث قال لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه لبس الطيلسان ولا أحد من أصحابه وحينئذ لا يكون القناع هنا هو الطيلسان بل التقنع تغطية الرأس وأكثر الوجه بالردء من غير أن يجعل منه شئ تحت رقبته الذى يقال له التحنيك وحمل قول ابن القيم المذكورعلى الطيلسان المقور التى تلبسها اليهود قال بعضهم وهذا الطيلسان المقور هو المعروف بالطرحة وقد اتخذت خلفاء بنى العباس الطرحة السوداء على العمامة عند الخطبة واستمر ذلك شعارا للخلفاء
فالحاصل أن ما يغطى به الرأس مع اكثر الوجه إن كان معه تحنيك أى إدارة على العنق قيل له طيلسان وربما قيل له رداء مجازا وإن لم يكن معه تحنيك قيل له رداء أو قناع وربما قيل له مجازا طيلسان وهو ما كان شعارا فى القديم لقاضى القضاة الشافعى خاصة قال بعضهم بل صار شعارا للعلماء ومن ثم صار لبسه يتوقف على الإجازة من المشايخ كالإفتاء والتدريس وكان الشيخ يكتب فى إجازته وقد أذنت له فى لبس الطيلسان لأنه شهادة بالأهلية وما يجعل على الأكتاف دون الرأس يقال له رداء فقط وربما قيل له طيلسان أيضا مجازا وصح عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه وله حكم المرفوع التقنع من أخلاق الأنبياء وقد ذكر بعضهم أن الطيلسان الخلوة الصغرى وفى حديث لا يتقنع إلا من استكمل الحكمة فى قوله وفعله وكان ذلك من عادة فرسان العرب فى المواسم والجموع كالأسواق
وأول من لبس الطيلسان بالمدينة جبير بن مطعم رضى الله تعالى عنه وعن الكفاية لابن الرفعة أن ترك الطيلسان للفقيه مخل بالمروءة أى وهو بحسب ما كان فى زمنه رحمه الله وفى الترمذى لم تكن عادته صلى الله عليه وسلم التقنع إنما كان يفعله لحر أو برد وتعقب بأن فى حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان يكئر التقنع وفى طبقات ابن سعد مرسلا أنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا ثوب لا يؤدى شكره أى لأن فيه غض البصر ومن ثم قيل إنه الخلوة الصغرى كما تقدم
ولما قيل لأبى بكر رضى الله تعالى عنه ذلك أى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا قال أبو بكر فدا له أبى وأمى والله ما جاء به فى هذه الساعة إلا أمر قال فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل أى وتنحى أبو بكر عن سريره وجلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبى صلى الله عليه وسلم لأبى بكر رضى الله تعالى عنه أخرج من عندك قال أبو بكر إنما هى أهلك أى لأنه صلى الله عليه وسلم كان عقد على عائشة رضى الله تعالى عنها كما تقدم فأمها من جملة أهله وأختها كذلك وقيل هو على حد قول الشخص لآخر أهلى أهلك وفى رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج من عندك فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه لا عين عليك إنما هما ابنتاى أى وسكت عن أمهما سترا قال فإنه قد أذن لى فى الخروج فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله بأبى أنت وأمى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم أى فبكى أبو بكر سرورا قالت عائشة رضى الله تعالى عنها فرأيت أبا بكر يبكى وما كنت أحسب أن أحدا يبكى من الفرح حتى رأيت أبا بكر ولله در القائل ** ورد الكتاب من الحبيب بأنه ** ** سيزورنى فاستعبرت أجقانى ** ** غلب السرور على حتى إننى ** ** من فرط ما قد سرنى أبكانى ** ** يا عين صار الدمع عندك عادة ** ** تبكين من فرح ومن أحزان **
أى ومنه أقر الله عينه لمن يدعى له وهو قرة عين لمن يفرح به وأسخن عينه لمن يدعى عليه وهو سخنة العين لما يحزن به لأن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة
وقد روى أن نبيا من الأنبياء اجتاز بحجر يخرج منه الماء فسأل ربه عن ذلك فأنطق الله تعالى الحجر فقال منذ سمعت أن لله تعالى نارا وقودها الناس والحجارة وأنا أبكى هذا الدمع خوفا من تلك النار فاشفع لى عند ربك فشفع له فشفع فيه وبشره بذلك ثم مر به بعد مدة فإذا الماء يخرج منه فقال ألم أبشرك أن الله أنجاك من النار فما هذا فقال يا نبى الله ذاك بكاء الخوف والخشية وهذا بكاء الفرح والسرور ومن ثم لما قال صلى الله عليه وسلم لأبى بن كعب إن الله أمرنى أن أقرأ عليك سورة كذا أى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب بكى من الفرح وقال أو ذكرت هناك أى ذكرنى الله عز وجل وفى لفظ وسمانى قال نعم
وفى سفر السعادة قال العلماء البكاء على عشرة أنواع بكاء فرح وبكاء حزن لما فات وبكاء رحمة وبكاء خوف لما يحصل وبكاء كذب كبكاء النائحة فإنها تبكى بشجو غيرها وبكاء موافقة بأن يرى جماعة يبكون فيبكى مع عدم علمه بالسبب وبكاء المحبة والشوق وبكاء الجزع من حصول ألم لا يحتمله وبكاء الخور والضعف وبكاء النفاق وهو أن تدمع العين والقلب قاس والبكى بالقصر دمع العين من غير صوت والممدود ما كان معه صوت وأما التباكى فهو تكلف البكاء وهو نوعان محمود ومذموم فالأول ما يكون لاستجلاب رقة القلب وهو المراد بقول سيدنا عمر رضى الله تعالى عنه لما رأى المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبا بكر يبكيان فى شأن أسارى بدر أخبرنى ما يبكيك يا رسول الله فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكت ومن ثم لم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم ذلك والثانى ما يكون لأجل الرياء والسمعة
قال أبو بكر فخذ بأبى أنت وأمى يا رسول الله إحدى راحلتى هاتين فإنى أعددتهما للخروج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل بالثمن أى لتكون هجرته صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى بنفسه وماله أى وإلا فقد أنفق أبو بكر رضى الله تعالى عنه أكثر ماله عليه صلى الله عليه وسلم أى فعن عائشة رضى الله تعالى عنها أنفق أبو بكر على النبى صلى الله عليه وسلم أربعين ألف درهم وفى لفظ دينار ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم ليس من أحد أمن على فى أهل ومال من أبى بكر وفى رواية ما أحد أمن على فى صحبته وذات يده من أبى بكر وما نفعنى مال أبى بكر فبكى أبو بكر وقال هل أنا ومالى إلا لك يا رسول الله وفى رواية ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدا الله يكافئه بها يوم القيامة
أقول ولا ينافى كونه صلى الله عليه وسلم أخذ إحدى ناقتى أبى بكر بالثمن ما رواه أبان بن أبى عياش أحد التابعين عن أنس رضى الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر رضى الله تعالى عنه ما أطيب مالك منه بلال مؤذنى وناقتى التى هاجرت عليها وزوجتنى ابنتك وواسيتنى بمالك كأنى أنظر إليك على باب الجنة تشفع لأمتى لأن أبان بن أبى عياش معدود من الضعفاء
وقد قال شعبه لأن أشرب من بول حمار حتى أروى أحب إلى من أن أقول حديثاعن أبان بن أبى عياش وقال فيه مرة أخرى لأن يزنى الرجل من أن يروى عن
أبان وقد طلب من شعبة أن يكف عن أبان هذا فقال الأمر دين وهذا يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بين ابن حبان عذر أبان بأنه كان يروى عن أنس وأبان مجالس الحسن البصرى فكان يسمع كلامه فإذا حدث ربما جعل كلام الحسن عن أنس مرفوعا وهو لا يعلم وعلى تقدير صحة ما قاله لا منافاة أيضا لأنها كانت من مال أبى بكر قبل أن يأخذها صلى الله عليه وسلم بثمنها
على أن فى الترمذى ما يوافق ما رواه أبان ففيه عن على رضى الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى رحم الله أبا بكر زوجنى ابنته وحملنى إلى دار الهجرة وصحبنى فى الغار وأعتق بلالا من ماله
قال وهذا حديث غريب والله أعلم
وكان الثمن عن تلك الناقة التى هى القصواء وقد عاشت بعده صلى الله عليه وسلم وماتت فى خلافة أبى بكر رضى الله تعالى عنه أو الجدعاء أربعمائة درهم أى لما علمت أن الناقتين اشتراهما أبو بكر بثمانمائة درهم
وأما ناقته صلى الله عليه وسلم العضباء فقد جاء أن بنته فاطمة رضى الله تعالى عنها تحشر عليها
قالت عائشة رضى الله تعالى عنها فجهزناهما أحب الجهاز أى أسرعه والجهاز بكسر الجيم أفصح من فتحها ما يحتاج إليه فى السفر ووضعنا لهما سفرة فى جراب أى زادا فى جراب لأن السفرة فى الأصل الزاد الذى يصنع للمسافر ثم استعمل فى وعاء الزاد وكان فى السفرة شاة مطبوخة فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب أى وأبقت الأخرى نطاقا لها وهو يوافق ما فى صحيح مسلم عن أسماء رضى الله تعالى عنها أنها قالت للحجاج بلغنى أنك تقول أى لولدها عبدالله بن الزبير تعيره بابن ذات النطاقين أما أنا والله ذات النطاقين أما أحدخما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه وأما الآخر فنطاق المرأة أى الذى لا تستغنى عنه أى عند اشتغالها لأن النطاق ما تشد به المرأة وسطها لئلا تعثر فى ذيلها على ثوب يلقى على أسلفه وقيل النطاق إزار فيه تكة ومن ثم جاءت ذا ت النطاق أى وكلاهما صحيح لكن فى لفظ قطعت نطاقها قطعتين فأوكت بقطعة منه فم الجراب وشدت فم القرية بالباقى أى فلم يبق لها شئ منه
ويوافقه ما فى البخارى عن أسماء لم نجد لسفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أى لمحلها الذى هو الجراب ولا لسقائه الذى هو القربة ما نربطهما به فقلت لأبى بكر لا والله ما أجد شيئا أربط به إلا نطاقى قال فشقيه اثنين واربطى بواحد السقاء الذى هو القربة وبواحد السفرة ففعلت فلذلك سميت ذا ت النطاقين أى سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين فى الجنة
وفيه أن الرواية الأولى التى عن عائشة والرواية الثانية التى عن أسماء رواها مسلم لم يذكر السقاء وفى رواية البخارى ذكر السقاء وإسقاط الجراب لكن ذكر بعد الجراب السفرة
وقد يقال المراد بربط محلها الذى هو الجراب كما أشار إليه قال بعضهم وما تقدم عن مسلم ينبغى أن يكون أقرب إلى الضغط لأن أسماء قالت فى آخر عمرها مخبرة عن نفسها أى ولم تربط إلا الجراب بأحد شقى النطاق وأبقت لها الآخر
وقد يقال الحصر ليس فى محله لمنافاته لرواية البخارى وحينئذ يجمع بأنه بجوازها لما شقت النطاق نصفين قطعت أحدهما قطعتين فشدت بإحداهما الجراب والأخرى السقاء فهى ذا ت النطاقين الذى أبقته والذى فعلت به ماذكر
وفى السيرة الهشامية أن أسماء بنت أبى بكر جاءت إليهما لما نزلا من الغار بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصاما فدهشت لغلق السفرة فإذا ليس لها عصام فشقت نطاقها فجعلته عصاما فعلقتها به وانتطقت الآخر أى وهذا يدل على أن المراد بقول عائشة فجهزناهما أحب الجهاز أى عند خروجهما من الغار لا عند ذهابهما إلى الغار كما قد يتبادر من السياق ثم على المتبادر جرى ابن الجوزى حيث قال أسماء بنت أبى بكر أسلمت بمكة قديما وبايعت وشقت نطاقها ليلة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار فجعلت واحدا لسفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر عصاما لقربته فسميت ذا تالنطاقين هذا كلامه
وقد قال لا مانع من تعدد ذلك وكون النطاق ماتشد به المرأة وسطها لئلا تعثر فى ذيلها يخالفه قول بعضهم النطاق هو ثوب تلبسه المرأة ثم تشد وسطها بحبل ثم ترسل الأعلى على الأسفل وهذا يوافق القيل المتقدم ولعل له إطلاقين ويوافق الثانى ما قيل أول من فعله هاجر أم إسمعيل اتخذته لتخفى أثر مشيتها على سارة ولعله عند خروجها
لما أمره الله عز وجل بإخراجها مع إبراهيم فيذهب بها إلى مكة قبل أن تركت مع إبراهيم على البراق
ثم استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بنى الديل وهو عبدالله بن أريقط ويقال ابن أرقط أو أرقد اسم أمه فأريقط مصغرها ليدلهما على الطريق للمدينة وكان على دين قريش أى ثم أسلم بعد ذلك وقيل لم يعرف له إسلام
وفى الروض ما وجدنا من طريق صحيح أنه أسلم بعد ذلك فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه على جبل ثور بعد ثلاث ليال وقيل للجبل ذلك لأنه على صورة الثور الذى يحرث عليه وسياق النسائى يدل على أن استئجار عبد الله المذكور كان قبل التجهيز
قالت عائشة رضى الله تعالى عنها ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار فى جبل ثور أى ليلا كما تقدم
وعن ابن سعد لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته إلى بيت أبى بكر رضى الله تعالى عنه فكان فيه إلى الليل ثم خرج هو وأبو بكر فمضيا إلى غار ثور فدخلاه أى وكان خروجهما من خوخة فى ظهر بيت أبى بكر فعن عائشة بنت قدامه رضى الله تعالى عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لقد خرجت من الخوحة متنكرا فكان أول من لقينى أبو جهل لعنه الله فأعمى الله بصره عنى وعن أبى بكر حتى مضينا
وفى كلام سبط ابن الجوزى وعن وهب بن منبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج إلى الغار من بيت أبى بكر فخرج من خوخة فى ظهر الدار والأصح إنما كان خروجه من بيت نفسه
وجعل أبو بكر رضى الله تعالى عنه يمشى مرة أمام النبى صلى الله عليه وسلم ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن شماله فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون خلفك ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك
أقول فى الدر المنثور فمشى صلى الله عليه وسلم ليلته على اطراف أصابعه لئلا يظهر أثر رجليه على الأرض حتى حفيت رجلاه فلما رآهما أبو بكر قد حفيتا حمله على كاهله وجعل يشتد به حتى أتى على فم الغار فأنزله وفى لفظ لم يصب رسول الله صلى الله عليه
وسلم الغار حتى قطرت قدماه دما وفى كلام السهيلى عن أبى بكر رضى الله تعالى عنه أنه قال نظرت إلى قدمى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الغار وقد تقطرتا دما
قال بعضهم وبشبه أن يكون ذلك من خشونة الجبل وإلا فبعد المكان لا يحتمل ذلك أو لعلهم ضلوا طريق الغار حتى بعدت المسافة ويدل عليه قوله فمشى ليلته رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى لفظ فانتهينا إلى الغار مع الصبح ولا يحتمل ذلك مشى ليلته إلا بتقدير ذلك أو أنه صلى الله عليه وسلم كما قيل ذهب إلى جبل حنين فناداه اهبط عنى فإنى اخاف أن تقتل على ظهرى فأعذب فناداه جبل ثور إلى يا رسول الله وساق فى الأصل رواية تقتضى أنه ذهب إلى غار ثور راكبا ناقته الجدعاء ث 4 م رأيته فى النور أشار إلى أن ركوبه صلى الله عليه وسلم الجدعاء إنما كان بعد خروجه من الغار لا أنه ركبها من منزل أبى بكر إلى الغار كما هو ظاهر الرواية
وفى الخصائص الكبرى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما لما تشاور المشركون فى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلع الله نبيه على ذلك فخرج تلك الليلة حتى أتى الغار فلما أصبحوا اقتفوا أثره صلى الله عليه وسلم فلما بلغوا الجبل الحديث أى وهو مخالف لما تقدم من أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الغار كان فى الليلة الثانية لا فى ليلة حروجه على قريش
وقد يقال لا منافاة لأن قوله حتى لحق بالغار غاية لمطلق الخروج من بيته لافى خصوص تلك الليلة أى خرج من بيته واستمر على خروجه حتى لحق بالغار وذلك فى الليلة الثانية لكن تقدم أنه صلى الله عليه وسلم جاء إلى بيت أبى بكر متقنعا فى وقت الظهيرة فليتأمل
وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا بخروجه إلى الهجرة وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدى عنه الودائع التى كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس لأنه لم يكن بمكة أحد عنده شئ يخشى عليه إلا وضعه عنده صلى الله عليه وسلم لما يعلمون من أمانته أى ولعل إعلام على بذلك كان عند توجهه صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبى بكر لأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم اجتمع بعلى رضى الله تعالى عنه بعد ذلك إلا فى المدينة لكن سيأتى عن الدر ما تقتضى أنه اجتمع به عند خروجه من الغار
وفى الفصول المهمة أنه صلى الله عليه وسلم وصى عليا رضى الله تعالى عنه بحفظ
ذمته وأداء أمانته ظاهرا على أعين الناس وأمره أن يبتاع رواحل للفواطم فاطمة بنت النبى صلى الله عليه وسلم وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب ولمن هاجر معه من بنى هاشم ومن ضعفاء المؤمنين وشراء على رضى الله عنه الرواحل مخالف لما يأتى فى الأصل أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى على حلة وأرسل يقول تشقها خمرا بين الفواطم وهى فاطمة ابنة حمزة وفاطمة بنت عتبة وفاطمة أم على وفاطمة بنته صلى الله عليه وسلم وإرساله لتلك الحلة كان بعد وصوله إلى المدينة فليتأمل
قال فى الفصول المهمة وقال له أى لعلى إذا أبرمت ما أمرتك به كن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله وبقدوم كتابى عليك وإذا جاء أبو بكر توجهه خلفى نحو بئر أم ميمون وكان ذلك فى فحمة العشاء والرصد من قريش قد أحاطوا بالدار ينتظرون أن تنتصف الليلة وتنام الناس ودخل أبو بكر على على وهو يظنه أى وأبو بكر يظن عليا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له على إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج نحو بئر أم ميمون وهو يقول لك أدركنى فلحقه أبو بكر ومضيا جميعا يتسايران حتى أتياجبل ثور فدخلا الغار فليتأمل الجمع بينه وبين ما تقدم
ولما انتهيا إلى فم الغار قال أبو بكر للنبى صلى الله عليه وسلم والذى بعثك بالحق لا تدخل حتى أدخله قبلك فإن كان فيه شئ نزل بى قبلك فدخل رضى الله تعالى عنه فجعل يلتمس بيده كلما رأى جحرا قال بثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بجميع ثوبه فبقى جحر وكان فيه حية فوضع عقبه عليه ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن الحية التى فى الجحر لما أحست بعقب سيدنا أبى بكر جعلت تلسعه وصارت دموعه تتحدر قال ابن كثير وفى هذا السياق غرابة ونكارة أى وقد كان صلى الله عليه وسلم وضع رأسه فى حجر أبى بكر رضى الله تعالى عنه ونام فسقطت دموع أبى بكر رضى الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مالك يا أبا بكر قال لدغت بالدال المهملة والغين المعجمة فداك أبى وأمى فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم على محل اللدغة فذهب ما يجده قال بعضهم وقاه فبورك فى عقبه
قال بعضهم والسر فى اتخاذ رافضة العجم اللباد المقصص على رءوسهم تعظيما للحية التى لدغت أبا بكر فى الغار أى لأنهم يزعمون أن ذلك على صورة تلك الحية
ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر أين ثوبك فأخبره
الخبر زاد فى رواية وأنه رأى على أبى بكر أثر الورم فسأل عنه فقال من لدغة الحية فقال صلى الله عليه وسلم الله صلى الله عليه وسلم هلا أخبرتنى قال كرهت أن أوقظك فمسحه النبى صلى الله عليه وسلم فذهب ما به من الورم والألم
أى ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما وحين أخبره أبو بكر بذلك رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال اللهم اجعل أبا بكر معى فى درجتى فى الجنة فأوحى الله تعالى إليه قد استجاب الله لك
وروى أنه لما صار يسد كل جحر وجده أصاب يده ما أدماها فصار يمسح الدم عن أصبعه وهو يقول ** هل أنت إلا أصبع دمت ** ** وفى سبيل الله ما لقيت **
وسيأتى أن هذا البيت من كلام ابن رواحة وقيل من كلامه صلى الله عليه وسلم وأنه يجوز أن يكون ابن رواحة ضم ذلك البيت لأبياته
ومما قد يؤيد أن ذلك من كلامه صلى الله عليه وسلم ما ذكره سبط ابن الجوزى أن أبا بكر لما لحقه صلى الله عليه وسلم فى اثناء الطريق ظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار فأسرع فى المشى فانقطع قبال نعله ففلق إبهامه حجر فسال الدم فرفغ أبو بكر صوته ليعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه
ومما يصرح بذلك ما رأيت عن جندب البجلى قال كنت مع النبى صلى الله عليه وسلم فى غار كذا فدميت أصبعه فذكر البيت المذكور وأراد بالغار غارا من الغيران لا هذا الغار كما توهم
وجاء فى الصحيحين عن جندب بن عبدالله بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أصابه حجر فدميت أصبعه فقال ** هل انت إلا إصبع دميت ** البيت
أى ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرالغار أمر الله تعالى شجرة أى وهى التى يقال لها العشار وقيل أم غيلان فنبتت فى وجه الغار فسترته بفروعها
أى ويقال إنه صلى الله عليه وسلم دعا تلك الشجرة وكانت أمام الغار فأقبلت حتى وقفت على باب الغار وأنها كانت مثل قامة الإنسان وبعث الله العنكبوت فنسجت ما بين فروعها أى نسجا مترا كما بعضه على بعض أى كنسج أربع سنين كما قال بعضهم
وقد نسج العنكبوت أيضا على عبدالله بن أنيس رضى الله تعالى عنه لما قتل سفيان بن خالد وقطع رأسه وأخذها ودخل فى غار فى الجبل وكن فيه حتى انقطع عنه الطلب كما سيأتى ونسج على نبى الله داود لما طلبه طالوت ونسج أيضا على عورة سيدنا زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنهم وهو أخو الإمام محمد الباقر وعم الإمام جعفر الصادق وهو الذى ينسب إليه الزيدية كان إماما مجتهدا وكان ممن أخذ عن واصل بن عطاء الآخذ عن الحسن البصرى
ولما أثبت ابن عطاء المنزلة بين المنزلتين أمره الحسن البصرى باعتزال مجلسه فقيل له معتزلى وصار يقال لأصحابه معتزلة
ولا يلزم من كون شيخ سيدنا زيد معتزليا أن يسلك زيد مسلكه وصلب سيدنا زيد عربانا وأقام مصلوبا أربع سنين وقيل خمس سنين فلم ترعورته وقيل إن بطنه الشريف ارتخى على عورته فغطاها ولا مانع من وجود الأمرين وكان عند صلبه وجهوه إلى غير القبلة فدارت خشبته التى صلب عليه إلى أن صار وجهه إلى القبلة أى وقد وقع لخبيب نحو ذلك كما سيأتى ثم أحرقوا خشبة زيد وجسده وذرى رماده فى الرياح على شاطئ الفرات فإنه خرج على هشام بن عبد الملك وقد سمت نفسه للخلافة فحاربه يوسف بن عمر الثقفى أمير العراقين من قبل هشام بن عبد الملك فانهزم أصحاب زيد عنه بعد أن خذله وانصرف عنه أكثرهم
فقد بايعه ناس كثير من أهل الكوفة وطلبوا منه أن يتبرأ من الشيخين أبى بكر وعمر لينصروه فقال كلا بل أتولاهما فقالوا إذن نرفضك فقال اذهبوا فأنتم الرافضة فسموا بذلك من حينئذ رافضة وجاءت إليه طائفة وقالوا نحن نتولاهما من ونبرأ منهما وقاتلوا معه فسموا الزيدية
أقول والعجب ممن يتمذهب بمذهب سيدنا زيد ويتبرأ من الشيخين ويكرههما ويكره من يذكرهما بخير بل ربما سبهما
وعند مقاتلته أصابته جراحات وأصابه سهم فى جهته وحال الليل بين الفريقين فطلبوا حجاما من بعض القرى لينزع له النصل فاستخرجه فمات من ساعته فذفنوه من ساعته وأخفوا قبره وأجروا عليه الماء واستكتموا الحجام ذلك فلما أصبح
الحجام مشى إلى يوسف بن عمر منتصحا وأخبره ودله على موضع قبره فاستخرجه وبعث برأسه إلى هشام فكتب إليه هشام أن اصلبه عريانا فصلبه كذلك
ويقال إن هشام بن عبد الملك قال يوما لزيد بلغنى أنك تريد الخلافة ولا تصلح لك لأنك ابن أمة فقال قد كان إسماعيل ابن أمة وإسحاق ابن حرة فأخرج الله من صلب إسماعيل خير ولد آدم فقال له هشام قم قال إذن لا ترانى إلا حيث تكره ومن شعره ** لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ** ** وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا **
قيل ورأس زيد دفنت بمصر القديمة بمسجد يقال له مشهد زين العابدين بن الحسين وكذلك وقع في طبقات الشيخ الشعرانى نفعنا الله به وببركاته وليس كذلك بل هو محل زيد بن زين العابدين كما ذكره المقريزى فى الخطط ويقال له زيد الأزياد
وذكر فى حياة الحيوان أن ما ينسجه العنكبوت يخرج من خارج جلدها لا من جوفها وعن على رضى الله تعالى عنه طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه فى البيوت يورث الفقر
وأمر الله تعالى حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغاز أى ويروى أنهما باضتا أى وفرختا قال لأبى بكر ضع قدمك موضع قدمى فإن الرمل لاينم وتقدم ما فى ذلك أى لأن المشركين لما فقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شق عليهم ذلك وخافوا ذلك وطلبوه بمكة أعلاها وأسفلها وبعثوا القافة أى الذين يقصون الأثر فى كل وجه يقفون أثره فوجدوا الذى ذهب إلى جبل ثور أثره وقال ما تقدم
وأقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وسيوفهم أى ولما أقبلوا أشفق صلى الله عليه وسلم على صهيب وخاف عليه وقال واصهيباه ولا صهيب لى أى لأنه تواعد معهما أن يكون ثالثهما فلما أراد صلى الله عليه وسلم الخروج للغار أرسل له أبو بكر مرتين أو ثلاثا فوجده يصلى فقال يا رسول الله وجدت صهيبا يصلى فكرهت أن أقطع عليه صلاته فقال أصبت وتقدمت الحوالة على هذا
فلما كان فتيان قريش على أربعين ذراعا من الغار تعجل بعضهم ينظر فى الغار فلم ير إلا حمامتين وحشيتين أى مع العنكبوت فقال ليس فيه أحد فسمع النبى صلى الله عليه وسلم ما قال فعرف أن الله عز وجل قد درأ عنه أى دفع عنه
وفى رواية فلما انتهوا إلى فم الغار قال قائل منهم ادخلوا الغار فقال أمية بن خلف وما أربكم أى حاجتكم إلى الغار أن عليه لعنكبوتا كان قبل ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم أى ولو دخل الغار لانفتح ذلك العنكبوت وتكسر البيض وهذا يدل على أن البيض لم يكن فرخ أى ويحتمل أن بعض البيض فرخ وبعضه لم يفرخ ثم جاء قبالة فم الغار فبال فقال أبو بكر يا رسول الله إنه يرانا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر لو كان يرانا ما فعل هذا وفى بعض الروايات لو رآنا ما تكشف عن فرجه أى ما استقبلنا بفرجه وبوله وقال أبو جهل أما والله إنى لأحسب قريبا يرانا ولكن بعض سحره قد أخذ على أبصارنا فانصرفوا
وذكر ابن كثير أن بعض أهل السير ذكر أن أبا بكر رضى الله تعالى عنه لما قال للنبى صلى الله عليه وسلم لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه قال له النبى صلى الله عليه وسلم لو جاءونا من ها هنا لذهبنا من ها هنا فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر وإذا البحر قد اتصل به وسفينة مشدودة إلى جانبه قال ابن كثير وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة ولكن لم يرد ذلك بإسناد قوى ولا ضعيف ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا ونهى النبى صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العنكبوت وقال إنها جند من جند الله انتهى
وعن أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه أنه قال لا أزال أحب العنكبوت منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبها ويقول جزى الله العنكبوت عنا خير فإنها نسجت على وعليك يا أبا بكر إلا أن البيوت تطهر من نسجها أى ينبغى ذلك لما تقدم أن وجود نسجها فى البيوت يورث الفقر
وفى الجامع الصغير جزى الله العنكبوت عنا خيرا فإنها نسجت على الغار
أقول فيه أن فى الحديث العنكبوت شيطان فاقتلوه وفى لفظ العنكبوت شيطان مسخه الله فاقتلوه فإن صح وثبت تأخره فهو ناسخ له وإن كان متقدما على ما هنا وصح ما هنا فهو منسوخ به والله أعلم وبارك صلى الله عليه وسلم على الحمامتين وفرض جزاء الحمام وانحدرتا فى الحرم فأفرختا كل شئ فى الحرم من الحمام أى ولأجل ذلك ذهب الغزالى من أئمتنا إلى صحة الوقف على حمام مكة دون غيره من الطيور وهو الراجح
ونظر فى الإمتاع فى كون حمام الحرم من نسل ذلك الزوج فإنه روى فى قصة نوح عليه الصلاة والسلام أنه بعث الحمامة من السفينة لتأتيه نخبر الأرض فوقعت بوادى الحرم فإذا الماء قد نضب من موضع الكعبة وكانت طينتها حمراء فاختضبت رجلاها ثم جاءته فمسح عنقها وطوقها طوقا ووهب لها الحمرة فى رجليها وأسكنها الحرم ودعا لها بالبركة
وفى شعر الحادث بن مضاض الذى أوله ** كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ** ** أنيس ولم يسمر بمكة سامر ** ** ويبك لبيت يؤذى حمامه ** ** يظل به أمنا وفيه العصافر **
ففى هذا أن الحمام قد كان فى الحرم من عهد جرهم أى ونوح وذكر بعضهم أن حمام مكة أظله صلى الله عليه وسلم يوم فتحها فدعا له بالبركة
ويروى أن أبا بكر رضى الله تعالى عنه لما رأى قريشا أقبلت نحو الغار خصوصا ومعهم القافة بكى أى ويقال لما سمع القائف يقول لقريش والله ما جاز مطلوبكم من هذا الغار حزن وبكى وقال والله ما على نفسى أبكى ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحزن إن الله معنا وأنزل الله تعالى سكينته على أبى بكر رضى الله تعالى عنه أى وأنزل عليه أمنته التى تسكن عندها القلوب قيل قال له لا تحزن ولم يقل له لا تخف لأن حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا النهى تأنيس وتبشير له كما فى قوله تعالى له صلى الله عليه وسلم { ولا يحزنك قولهم } وبه يرد ما زعمته الرافضة أن ذلك غضبا من أبى بكر وذماله لأن حزنه رضى الله تعالى عنه إن كان طاعة فالنبى صلى الله عليه وسلم لا ينهى عن الطاعة فلم يبق إلا أنه معصية
وفى رواية عن أبى بكر رضى الله تعالى عنه قلت للنبى صلى الله عليه وسلم ونحن فى الغار لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه أى لأنهما علوا على رؤوسهما
فعن أبى بكر قال نظرت إلى أقدام المشركين ونحن فى الغار وهم على رءوسنا فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما
قال بعضهم كان معهما وثالثهما باللفظ والمعنى أما باللفظ فكان يقال يا رسول الله ويقال لأبى بكر يا خليفة رسول الله وأما بالمعنى فكان مصاحبا لهما بالنصر والهداية
والإرشاد والضمير فى أيده بجنود لم تروها راجع للنبى صلى الله عليه وسلم وتلك الجنود ملائكة أنزلهم الله تعالى عليه فى الغار يبشرونه صلى الله عليه وسلم بالنصر على أعدائه
وروى أ ن أبا بكر رضى الله تعالى عنه عطش فى الغار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب إلى صدر الغار فاشرب فانطلق أبو بكر رضى الله تعالى عنه إلى صدر الغار فوجد ماء أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأزكى رائحة من المسك فشرب منه فقال له رسول الله صلى إن الله أمر الملك الموكل بأنهار الجنة أن يخرق نهرا من جنة الفردوس إلى صدر الغار لتشرب قال أبو بكر يا رسول الله ولى عند الله هذه المنزلة فقال النبى صلى الله عليه وسلم نعم وأفضل والذى بعثنى بالحق نبيا لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان عمله عمل سبعين نبيا
أى وذكر بعضهم قال كنت جالسا عند أبى بكر رضى الله تعالى عنه فقال من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة فليقم فقام رجل رجل فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدتى بثلاث حثيات من تمر فقال أرسلوا إلى على فجاء فقال يا أبا الحسن إن هذا يزعم كذا وكذا فاحث له فحثى له فقال أبو بكر عدوها فعدوها فوجدوها كل حثية ستين تمرة لا تزيد ولا تنقص فقال أبو بكر صدق الله ورسوله قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة فى الغار كفى وكف على فى العدد سواء ذكر الذهبى أنه موضوع ولعل قول الصديق صدق الله ورسوله علة لاختياره عليا على نفسه فى أن يحثو لا أن ذلك علة لكون كل حثية جاءت ستين حبة
ولما أيست قريش منهما أرسلو لأهل السواحل إن من أسر أو قتل أحدهما كان له مائة ناقة أى ويقال إن أبا جهل أمر مناديا ينادى فى أعلى مكة وأسفلها من جاء بمحمد أو دل عليه فله مائة بعير وإلى قصة الغار أشار صاحب الهمزية بقوله ** أخرجوه منها وآواه غار ** ** وحمته حمامة ورقاء ** ** وكفته بنسجها عنكبوت ** ** ما كفته الحمامة الحصداء ** ** واختفى منهم على قرب مرآ ** ** ومن شدة الظهور الخفاء **
أى كانوا سببا لإخراجه من تلك الأرض التى هى مولده صلى الله عليه وسلم ومرباه ووطنه ووطن آبائه بسبب مبالغتهم فى إيدائه وإيذاء أصحابه خصوصا ضعفاءهم وآواه
غار وحمته منهم حمامة فى لونها بياض وسواد وكفته أعداءه عنكبوت بنسجها الذى كفته إياهم الحمامة الكثيرة الريش فتلك الحمامة كانت ورقاء حصداء واستتر منهم مع قرب محل رؤيته
وحكمة خفائه واستتاره منهم مع ظهوره لهم لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه شدة ظهوره عليهم بالغلبة والمعونة الإلهية ومكثا فى الغار ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبى بكر وهو غلام يعرف ما يقال يأتيهما حين يختلط الظلام ويدلج من عندهما بفجر فيصبح مع قريش كبائت فى بيته فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه ويخبرهما به
وكان عامر بن فهيرة مولى أبى بكر رضى الله تعالى عنهما كان مملوكا للطفيل فأسلم وهو مملوك وكان ممن يعذب فى الله عز وجل فاشتراه أبو بكر من الطفيل وأعتقه كما تقدم فكان يروح عليهما بمنحة غنم أى قطعة من غنم أبى بكر فكان يرعاها حيث تذهب ساعة من العشاء ويغدو بها عليهما ثم يغلس أى إذا خرج من عندهما عبد الله تبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يقفو أثر قدميه يفعل ذلك فى كل ليلة من تلك الليالى الثلاث أى وذلك بارشاد من أبى بكر رضى الله تعالى عنه
ففى السيرة الهشامية وأمر أبو بكر ابنه عبدالله رضى الله تعالى عنهما أن يستمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون فى ذلك اليوم من الخبر وأمر عامر بن فهيرة أن يرعى عنمه نهارا ثم يريحها عليهما إذا أمسى فى الغار وكانت أسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنها تأتيهما إذا أمست بما يصلحهما من الطعام
أقول وفى الدر عن عائشة رضى الله تعالى عنهما ما كان أحد يعلم مكان ذلك الغار إلا عبد الله بن أبى بكر وأسماء بنت أبى بكر فإنهما كانا يختلفان إليهما وعامر بن فهيرة فإنه كان إذا سرح غنمه مر بهما فحلب لهما
وفى الفصول المهمة وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام بلياليها فى الغار وقريش لا يدرون أين هو وأسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنها تأتيهما ليلا بطعامهما وشرابهما فلما كان بعد الثلاث أمرها صلى الله عليه وسلم أن تأتى عليا وتخبره بموضعهما وتقول له يستأجر لهما دليلا ويأتى معه بثلاث من الإبل بعد مضى ساعة من الليلة الآتية أى وهى الرابعة فجاءت أسماء إلى على كرم الله وجهه فأخبرته بذلك فاستأجر لهما رجلا يقال له الأريقط بن عبد الله الليثى وأرسل معه بثلاث من الإبل فجاء بهن إلى أسفل
الجبل ليلا فلما سمع النبى صلى الله عليه وسلم رغاء الإبل نزل من الغار هو وأبو بكر فعرفاه أى والذى فى البخارى فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا وتقدم أن المستأجر لهما للدليل النبى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر
وقد يجمع بأن المراد باستئجار على رضى الله تعالى عنه إعطاؤه الأجرة وكونه استأجر لهما ثلاث رواحل وأتى بها معه فيه نظر ظاهر وركب النبى صلى الله عليه وسلم وركب أبو بكر وركب الدليل
وفى الدر المنثور فمكث هو صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فى الغار ثلاثة أيام يختلف إليهما بالطعام عامر بن فهيرة وعلى يجهزهما فاشترى ثلاثة أباعر واستأجر لهم دليلا فلما كان فى بعض الليل من الليلة الثالثة أتاهم على بالإبل والدليل فليتأمل ذلك مع ما قبله
وفى حديث مرسل مكثت مع صاحبى فى الغار بضعة عشر يوما ما لنا طعام إلا ثمر البرير أى الأراك وتقدم فى باب رعيه الغنم أن ثم الأراك النضيج يقال له الكباث بكاف فباء موحدة مفتوحتين فتاء مثلثة
قال ابن عبد البر وهذا أى القول بأنهما مكثا فى الغار بضعة عشر يوما غير صحيح عند أهل العلم بالحديث قال الحافظ ابن حجر والمراد كما قال الحاكم أنهما مكثا مختفيين من المشركين فى الغار وفى الطريق بضعة عشر يوما وذكر فى الغار أى الاقتصار عليه من بعض الرواة والله أعلم
قال وعن أسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنهما أن أبا بكر أرسل ابنه عبد الله فحمل ماله وكان خمسة آلاف درهم أو أربعة آلاف وكان حين أسلم أربعين ألف درهم وفى لفظ أربعين ألف دينار أى ويؤيد ذلك ما جاء عن أنس رضى الله تعالى عنه أنفق أبو بكر على النبى صلى الله عليه وسلم أربعين ألف دينار فحمل إليه ذلك فى الغار قالت أسماء فدخل علينا جدى أبو قحافة رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك وكان قد ذهب بصره فقال والله إنى لأراه يعنى أبا بكر قد فجعكم بماله مع نفسه فقال كلا يا أبت إنه ترك لنا خيرا كثيرا قالت فأخذت أحجارا فوضعتها فى كوة أى طاقة فى البيت كان أبى يضع ماله فيها ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقلت ضع يدك على هذا المال قالت فوضع يده عليه فقال لا بأس إن كان ترك لكم هذا
فى هذا بلاغ لكم ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكن أردت أن أسكن قلب الشيخ اه
أى ولما بلغ ضمرة بن جندب خروجه صلى الله عليه وسلم وكان مريضا فقال لا عذر لى فى مقامى بمكة فأمر أهله فخرجوا به فلما وصل إلى التنعيم مات به فأنزل الله تعالى { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما } وقيل نزلت فى خالد بن حرام بن خويلد بن أسد أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة فى المرة الثانية فمات من نهش حية قبل أن يصل وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لحسان رضى الله تعالى عنه هل قلت فى أبى بكر شيئا قال نعم قال قل وأنا أسمع فقال ** وثانى اثنين فى الغار المنيف وقد ** ** طاف العدو به إذ صاعدوا الجبلا ** ** وكان حب رسول الله قد علموا ** ** من البرية لم يعدل به رجلا **
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه أى وفى لفظ فتبسم ثم قال صدقت يا حسان هو كما قلت إنه أحب البرية إليه أى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعدل به غيره
أقول فى ينبوع الحياة والذى أعرف فى هذين البيتين أنهما من أبيات رثى بهما حسان أبا بكر رضى الله تعالى عنهما هذا كلامه
وقد يقال لا مانع أن يكون أدخلهما حسان فى مرثيته لأبى بكر بعد ذلك والله أعلم وعن أبى بكر رضى الله تعالى عنه قال لجماعة أيكم يقرأسورة التوبة قال رجل أنا أقرأ فلما بلغ { إذ يقول لصاحبه لا تحزن } بكى وقال أنا والله صاحبه
وعن أبى الدرداء رضى الله تعالى عنه قال رآنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمشى أمام أبى بكر فقال يا أبا الدرداء أتمشى أمام من هو أفضل منك فى الدنيا والآخرة فوالذى نفس محمد بيده ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبى بكر وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أتانى جبريل فقال إن الله تعالى يأمرك أن تستشير أبا بكر وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حب أبى بكر واجب على أمتى
= باب الهجرة إلى المدينة
لا يخفى أنه لما كان صبيحة الليلة الثالثة من دخولهما الغار على ما تقدم جاءهما الدليل الذى هو الرجل الدؤلى براحلتيهما فركبا وانطلق بهما وانطلق معهما عامربن فهيرة أى رديفا لأبى بكر يخدمهما أى وفى البخارى أن أبا بكر كان رديفا له صلى الله عليه وسلم أى ولامخالفة لما سيأتى
ويروى أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار وركب أخذ أبو بكر بغرزه أى يركابه والغرز بغين معجمة مفتوحة وراء ساكنة وزاى ركاب الإبل خاصة فقال صلى الله عليه وسلم ألا أبشرك قال بلى فداك أبى وأمى قال إن الله عز وجل يتجلى للخلائق يوم القيامة عامة ويتجلى لك خاصة قال الخطيب هذا الحديث لا أصل له قال السيوطى رأيت له متابعات ودعا صلى الله عليه وسلم بدعاء منه اللهم اصحبنى فى سفرى واخلفنى فى أهلى
وأخذ بهم الدليل على طريق السواحل وصار أبو بكر إذا سأله سائل عن النبى صلى الله عليه وسلم من هذا الذى معك أى وفى رواية من هذا الذى بين يديك وفى رواية من هذا الغلام بين يديك أى بناء على أنه كان رديفا له صلى الله عليه وسلم يقول هذا الرجل يهدينى الطريق يعنى طريق الخير أى لأنه صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر أله الناس أى أشغل الناس عنى أى تكفل عنى بالجواب لمن سأل عنى فإنه لا ينبغى لنبى أن يكذب أى ولو صورة كالتورية فكان أبو بكر يقول لمن سأله عن النبى صلى الله عليه وسلم ما ذكر وإنما لم يسأل أبو بكر عن نفسه لأن أبا بكر كان معروفا لهم لأنه كان يكثر المرور عليهم فى التجارة للشام أى معروفا لغالبهم فلا ينافى ما جاء فى بعض الروايات أنه كان إذا سئل من أنت يقول ياغى أى طالب حاجة فعلم أن الأنبياء لا ينبغى لهم الكذب ولو صورة ومن ذلك التورية لكن سيأتى فى غزوة بدر وقوع التورية منه صلى الله عليه وسلم
وفى رواية ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء أبى بكر ناقته وفى التمهيد لأبن عبد البر أنه لما أتى براحلة أبى بكر سأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركب ويردفه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنت اركب وأردفك أنا فإن
الرجل أحق بصدر دابته فكان إذا قيل له من هذا وراءك قال هذا يهدينى السبيل
أقول لا مخالفة بين هذا وما تقدم لأنه يجوز أن يكون ركب صلى الله عليه وسلم تارة خلف أبى بكر على ناقة أبى بكر وتارة ركب صلى الله عليه وسلم على ناقة نفسه أمامه وأن ركوبه لها كان فى أثناء الطريق ويكون صلى الله عليه وسلم إما أركب راحلته عامر بن فهيرة أو ترك ركوبها لأجل إراحتها والهداية كما تكون من المتقدم تكون من المتأخر وإن كان الأول هو الغالب والله أعلم وإلى توجهه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أشار صاحب الهمزية بقوله ** ونحا المصطفى المدينة واشتا ** ** قت إليه من مكة الأنحاء **
أى وقصد صلى الله عليه وسلم واشتاقت إليه الجهات والنواحى من مكة وقد جاء أنه لما خرج صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة مهاجرا وبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة فأنزل الله تعالى عليه { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } أى إلى مكة
وأهل الرجعة يقولون إلى الدينا أى من يقول بأن النبى صلى الله عليه وسلم يرجع إلى الدنيا كما يرجع عيسى وقد أظهرها عبد الله بن سبأ كان يهوديا وأمه يهودية سوداء ومن ثم كان يقال له ابن السوداء أظهر الإسلام فى خلافة عمر رضى الله تعالى عنه وقيل فى خلافة عثمان رضى الله عنه وكان قصده بإظهار الإسلام بوار الإسلام فكان يقول العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع إلى الدينا ويكذب برجعة محمد صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } فمحمد أحق بالرجعة من عيسى عليهما الصلاة والسلام وتقدم ذلك فى أثناء الكلام على بدء الوحى وسيأتى ذلك عند بناء المسجد وكانت قريش كما تقدم أرسلت لأهل السواحل أن من قتل أو أسر أبا بكر أو محمدا كان له مائة ناقة أى فمن قتلهما أو أسرهما كان له مائتان
فعن سراقة جاءنا رسل كفار قريش يجعلون فيهما إن قتلا أو أسرا ديتين فبينا أنا جالس فى مجلس من مجالس قومى بنى مدلج أى بقديد وهو محل قريب من رابغ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال يا سراقة إنى رأيت أسودة أى أشخاصا بالسواحل أراه محمدا وأصحابه قال سراقة فعرفت أنهم هم فقلت إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا أى بمعرفتنا يطلبون ضالة لهم أى وفى
لفظ قال رأيت ركبة بالتحريك جمع راكب ثلاثا مروا على آنفا أى قريبا إنى لأراهم محمدا وأصحابه قال سراقة فأومأت إليه أن اسكت ثم قلت إنما هم بنو فلان يتبعون ضالة لهم ثم لبثت فى المجلس ساعة ثم قمت إلى منزلى فأمرت جاريتى أن تخرج فرسى خفية إلى بطن الوادى وتحبسها على وأخذت رمحى وخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه فى الأرض والزج الحديدة التى تكون فى أسفل الرمح وخفضت عاليه أى أمسكت بأعلاه وجعلت أسفله فى الأرض لئلا براه أحد وإنما فعل ذلك كله ليفوز بالجعل المتقدم ذكره ولا يشركه فيه أحد من قومه بخروجه معه لقتلهما أو أسرهما زاد فى رواية ثم انطلقت فلبست لامتى وجعلت أجر الرمح مخافة أن يشركنى أهل الماء يعنى قومه قال حتى أتيت فرسى أى وكان يقال لها العود والفرس لغة تقع على الذكر والأنثى قال فى النور والمراد هنا الأنثى لقوله فركبتها ولقوله فرقعتها أى بالغت فى إجرائها حتى دنوت منهم
وفى لفظ فرفعتها تقرب بى وحينئذ يكون المراد أسرعت بالسير بها لأن التقريب دون العدو وفوق العادة فعثرت بى فرسى أى فوقعت لمنخريها كما فى حديث أسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنهما
زاد فى رواية ثم قامت تحمحم فخررت عنها فقمت فأهويت بيدى على كنانتى فاستخرجت الأزلام أى وهى عيدان السهام التى لا ريش لها ولم تركب فيها النصال واستقسمت بها أضرهم أم لا فخرج الذى أكره وهو عدم إضرارهم أى لأنه مكتوب عليها أفعل لا تفعل ويقال للأول الآمر ويقال للثانى الناهى فركبت فرسى وعصيت الأزلام تقرب بى حتى سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الألتفات ساخت أى غابت يدا فرسى فى الأرض حتى بلغتا الركبتين أى وكانت الأرض جلدة فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها عثان أى غبار ساطع فى السماء مثل الدخان أى مع كون الأرض جلدة فاستقسمت بالأزلام فخرج الذى أكره فناديتهم بالأمان أى وقلت أنظرونى لا أوذيكم ولا يأتيكم منى شئ تكرهونه
أى وفى رواية ناديت القوم وقلت أنا سراقة بن مالك أنظرونى أكلمكم أنا لكم نافع غير ضار وإنى لا أدرى لعل الحى فزعوا لركوبى أى أن بلغهم ذلك وأنا راجع
رادهم عنكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر قل له ماذا تبتغى فوقفوا فأخبرتهم بما تريد الناس منهم
وفى رواية قال يا محمد ادع الله أن يطلق فرسى وأرجع عنك وأرد من ورائى وفى رواية قال ياهذان ادعوا لى الله ربكما ولكما أن لا أعود ففعل أى دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق الفرس وحينئذ يكون زجره لها ونهوضها بعد الدعاء فلا مخالفة قال فركبت فرسى أى بعد نهوضها حتى جئتهم فقلت إن قومك جعلوا فيك الدية أى مائة من الإبل لمن قتلك أو أسرك وهذا هو المراد بقوله فى الرواية السابقة فأخبرتهم بما يريد الناس منهم وكأنه رأى أن ذلك كاف فى لحوقه بهم عن ذكر أبى بكر قال سراقة وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يفبلا وقالا اخف عنا أى وفى رواية عرضت عليهما الزاد والحملان أى ولعل الحملان هو المراد بالمتاع أى لأنه جاء أنه قال لهما خذا هذا السهم من كنانتى وغنمى وإبلى بمحل كذا وكذا فخذا منهما ما شئتما فقالا اكفنا نفسك فقال كفيتماها
أقول وفى رواية قال له صلى الله عليه وسلم يا سراقة إذا لم ترغب فى دين الإسلام فإنى لا أرغب فى إبلك ومواشيك وفى رواية عن أبى بكر رضى الله عنه قال لما أدركنا سراقة قلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا { لا تحزن إن الله معنا } أى وقد تقدم أنه قال ذلك له فى الغار فلما كان بيننا وبينه قيد أى مقدار رمح أو ثلاثة قلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت قال لم تبكى قلت أما والله ما على نفسى أبكى ولكن أبكى عليك فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اللهم اكفناه بما شئت فساخت به فرسه فى الأرض إلى بطنها وكانت الأرض صلبة أى ولا يخالف ما سبق أنها بلغت الركبتين لجواز أن يكون ذلك فى أول أمرها ثم صارت إلى بطنها وذلك كله فى المرة الأولى فلا يخالف ما فى الإمتاع لما قرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخت يدا فرسه فى الأرض إلى بطنها فقال ادع لى يا محمد أن يخلصنى الله تعالى ولك على أن أرد عنك الطلب فدعا فخلص فعاد فتبعهم فساخت قوائم فرسه فى الأرض أشد من الأولى فقال يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك على الحديث إذ هو يدل على أنها فى المرة الأولى وصلت إلى بطنها وفى الثانية وصلت إلى ما هو زائد على ذلك وقد يدل له ما يأتى عن الهمزية ولعل المراد أنه دخل جزء من بطنها فى الأرض
فى المرة الثانية وفى لفظ فقال يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله ينجينى مما أنا فيه فو الله لأعمين على من ورائى من الطلب فدعا له فانطلق راجعا
وفى السبعيات للهمدانى أن سراقة لما دنا منه صلى الله عليه وسلم صاح وقال يا محمد من يمنعك منى اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنعنى الجبار الواحد القهار ونزل جبريل عليه السلام وقال يا محمد إن الله عز وجل يقول جعلت الأرض مطيعة لك فأمرها بما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أرض خذيه فأخذت الأرض أرجل جواده إلى الركب فساق سراقة فرسه فلم يتحرك فقال يا محمد الأمان وعزة العزى لو أنجيتنى لأكونن لك لا عليك فقال يا أرض أطلقيه فأطلقت جواده
وروى فى بعض التفاسير أن سراقة عاهد سبع مرات ثم ينكث العهد وكلما ينكث العهد تغوص قوائم فرسه فى الأرض وهذا أى الاقتصار على غوص قوائم فرسه فى الأرض لا ينافى الزيادة فلا يخالف ما سبق وفى السابعة تاب توبة صدق
وفى الفصول المهمة لما اتصل خبر مسيره صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وذلك فى اليوم الثانى من خروجه صلى الله عليه وسلم من الغار جمع الناس أبو جهل وقال بلغنى أن محمدا قد مضى نحو يثرب على طريق الساحل ومعه رجلان آخران فأيكم يأتينى بخبره فوثب سراقة فقال أنا لمحمد يا أبا الحكم ثم إنه ركب راحلته واستجنب فرسه وأخذ معه عبدا له أسود كان ذلك العبد من الشجعان المشهورين فسارا أى فى أثر النبى صلى الله عليه وسلم سيرا عنيفا حتى لحقا به فقال أبو بكر يا رسول الله قد دهينا هذا سراقة قد أقبل فى طلبنا ومعه غلامه الأسود المشهور فلما أبصرهم سراقة نزل عن راحلته وركب فرسه وتناول رمحه وأقبل نحوهم فلماقرب منهم قال النبى صلى الله عليه وسلم اللهم اكفنا أمرسراقة بما شئت وكيف شئت وأنى شئت فغابت قوائم فرسه فى الأرض حتى لم يقدر الفرس أن يتحرك فلما نظر سراقة إلى ذلك هاله ورمى نفسه عن الفرس إلى الأرض ورمى رمحه وقال يا محمد أنت أنت وأصحابك أى أنت كما أنت أى آمن وأصحابك فادع ربك يطلق لى جوادى ولك عهد وميثاق أن أرجع عنك فرفع النبى صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء وقال اللهم إن كان صادقا فيما يقول فأطلق له جواده فال قأطلق الله تعال له قوائم فرسه حتى وثب على الأرض سليما أى ولعل هذا فى المرة الثانية أو المرة الأخيرة من السبع على ما تقدم وتقدم أن الاقتصار على القوائم لا ينافى
الزيادة عليها فلا يخالف ما سبق فى هذه الرواية ورجع سراقة إلى مكة فاجتمع الناس عليه فأنكر أنه رأى محمدا فلا زال به أبو جهل حتى اعترف وأخبرهم بالقصة وفى ذلك يقول سراقة مخاطبا لأبى جهل ** أبا حكم والله لو كنت شاهدا ** ** لأمر جوادى إذ تسوخ قوائمه ** ** علمت ولم تشكك بأن محمدا ** ** رسول ببرهان فمن ذا يقاومه **
وسياق هذه الرواية يدل على أنه خرج خلف النبى صلى الله عليه وسلم من مكة ويدل لذلك ما ذكر أنه كان أحد القاصين لأثره صلى الله عليه وسلم فى الجبل لكنه مخالف لما تقدم أنه خرج خلفه صلى الله عليه وسلم من قديد من مجلس قومه وأخفى خروج فرسه وخروجه عن قومه
وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون لما خرج من مكة سلك طريقا غير الطريق الذى سلكها النبى صلى الله عليه وسلم فلم يجده وسبقه على قديد فجلس فى مجلس قومه فلما أخبر بمرورهم فعل ما تقدم ثم وجد عبده الأسود فى مروره وكان معه راحلته فركبها واستجنب فرسه وصحب عبده
ولا مانع أن يخرج من مكة بعد خروجهم من الغار ويسبقهم على قديد ولا ينافى ذلك قوله فأتانا رسل كفار قريش لأنه يجوز أن يكون ذلك هو الحامل لسراقة على الذهاب إلى مكة لعله يجده بطريقه ولا ينافى ذلك كونه كان أحد القصاصين لأثره صلى الله عليه وسلم لأنه يجوز أن يكون عاد إلى قديد قبل أن يجعل الجعل وفى كلام بعضهم أنه أرسل بهذين البيتين إلى أبى جهل ولا منافاة لجواز أن يكون أرسل بهما قبل أن يشافهه بهما
وفى رواية أنه لما لحق بهم قال صلى الله عليه وسلم اللهم اصرعه فصرع عن فرسه فقال يا نبى الله مرنى بما شئت قال تقف مكانك لا تتركن أحدا يلحق بنا
ثم لا يخفى أن صرعه عن فرسه يحتمل أن يكون لما ساخت ويحتمل أنه صرع عنها قبل ذلك وهو ظاهر سياق الرواية الأولى وهى فعثرت بى فرسى فخررت عنها وحينئذ يكون عثورها بدعائه صلى الله عليه وسلم والله أعلم
قال سراقة فسألته أن يكتب لى كتاب أمن لأنه وقع فى نفسى حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفى السبعيات قال سراقة يا محمد إنى لأعلم أنه سيظهر أمرك فى العالم وتملك رقاب الناس فعاهدنى أنى إذا أتيتك يوم ملكك فأكرمني فأمر عامر بن فهيرة أى وقيل أبا بكر فكتب لى فى رقعة من أدم أى وقيل فى قطعة من عظم وقيل فى خرقة
أقول وحينئذ يمكن أن يكون كتب عامر بن فهيرة أولا فطلب سراقة أن يكون أبو بكر هو الذى يكتب فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة ذلك فأحدهما كتب فى الرقعة من الأدم والآخر كتب فى العظم أو الخرقة أو المراد بالخرقة الرقعة من الأدم فلا مخالفة
ولما اراد الانصراف قال له كيف بك ياسراقة إذا تسورت بسوارى كسرى قال كسرى بن هرمز قال نعم وسيأتى أن سراقة أسلم بالجعرانة ولما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بها قال له مرحبا بك
وعن سراقة لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين والطائف خرجت ومعى الكتاب لألقاه فلقيته بالجعرانة فدخلت فى كتيبة من خيل الأنصار فجعلوا يقرعوننى بالرماح ويقولون إليك ماذا تريد قال فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته فرفعت يدى بالكتاب ثم قلت يا رسول الله هذا كتابى وأنا سراقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم وفاء وبشر أدنه فدنوت منه وأسلمت
ولما جئ لعمر رضى الله تعالى عنه فى زمن خلافته بسوارى كسرى وتاجه ومنطقته أى وبساطه وكان ستين ذراعا فى ستين ذراعا منظوما باللؤلؤ والجواهر الملونة على ألوان زهر الربيع كان يبسط له فى إيوانه ويشرب عليه إذا عدمت الزهور وجئ له بمال كثير من مال كسرى وبنات كسرى وكن ثلاثا وعليهن الحلى والحلل والجواهر ما يقصر اللسان عن وصفه وعند ذلك دعا سراقة وقال ارفع يديك وألبسه السوارين وقال له قل الحمد لله الذى سلبهما كسرى بن هرمز الذى كان يقول أنا رب الناس وألبسهما سراقة بن مالك أى ورفع عمر بها صوته وصب المال الذى جئ به من أموال كسرى فى صحن المسجد وفرقه على المسلمين ثم قطع البساط وفرقه بين المسلمين فأصاب عليا رضى الله تعالى عنه منه قطعة باعها بخمسين ألف دينار ثم جئ ببنات الملك الثلاث فوقفن بين يديه وأمر المنادى أن ينادى عليهن وأن يزيل نقابهن عن
وجوههن ليزيد المسلمون فى ثمنهن فامتنعن من كشف نقابهن ووكزن المنادى فى صدره فغضب عمر رضى الله تعالى عنه وأراد أن يعلوهن بالدرة وهن يبكين فقال له على رضى الله تعالى عنه مهلا يا أمير المؤمنين فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ارحموا عزيز قوم ذل وغنى قوم افتقر فسكن غضبه فقال له على إن بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن من بنات السوقة فقال له عمركيف الطريق إلى العمل معهن فقال يقومن ومهما بلغ ثمنهن يقوم به من يختارهن فقومن وأخذهن على رضى الله تعالى عنه فدفع واحدة لعبد الله بن عمر فجاء منها بولده سالم وأخرى لمحمد بن أبى بكر فجاء منها بولده القاسم والثالثة لولده الحسين فجاء منها بولده على الملقب بزين العابدين وهؤلاء الثلاثة فاقوا أهل المدينة علما وورعا وكان أهل المدينة قبل ذلك يرغبون عن التسرى فلما نشأ هؤلاء الثلاثة فيهم رغبوا فيه
ومن غريب الانفاق ما حكاه بعضهم قال كنت أجالس سعيد بن المسيب واعجب سعيد بى يوما فقال لى من أخوالك فقلت أمى فتاة فكأنى نقصت من عينه فأنا عنده إذ دخل عليه سالم بن عبد الله بن عمر فلما خرج من عنده قلت له ياعم من هذا قال سبحان الله أتجهل مثل هذا من قومك هذا سالم بن عبد الله بن عمر قلت فمن أمه قال فتاه ثم دخل القاسم بن محمد فجلس عنده ثم نهض فلما خرج قلت يا عم من هذا قال ما أعجب أمرك أتجهل مثل هذا هذا القاسم بن محمد بن أبى بكر قلت فمن أمه قال فتاه ثم دخل عليه على بن حسين فجلس ثم نهض فلما خرج قلت له من هذا قال عجبت منك أتجهل مثل هذا هذا على زين العابدين بن الحسين قلت فمن أمه قال فتاة قلت يا عمى رأيتنى نقصت من عينك لما علمت أن أمى فتاة فما لى فى هؤلاءأسوة فقال أجل وعظمت فى عينه جدا
ولما رجع سراقة صار يرد عنهم الطلب لا يلقى أحدا إلا رده يقول سيرت أى اختبرت الطريق فلم أر أحدا وفى لفظ قال لقريش أى لجماعة منهم قصدوه صلى الله عليه وسلم كأنهم أخبروا بمكان مسيره ذلك قد عرفتم بصرى بالطريق وقد سرت فلم أر شيئا فرجعوا أى فإن كفار قريش لما سمعوا من الهاتف أى ومن غيره بأنه صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم نزل فى خيمة أم معبد كما سيأتى أرسلوا سرية فى طلبه يقول قائلهم اطلبوه قبل أن يستعين عليكم بكلبان العرب فيحتمل أن هؤلاء هم الذين ردهم سراقة
فكان سراقة أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر النهار مسلحة أى سلاحا له
وفى رواية قال سراقة خرجت وأنا أحب الناس فى تحصيلهما ورجعت وأنا أحب الناس فى أن لا يعلم بهما أحد ويحتمل أنه بعد أن ردهم سراقة ذهبوا إلى أم معبد
ففى تتمة الخبر أن تلك السرية جاءت إلى أم معبد فسألوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشفقت أى خافت عليه منهم فتعاجمت عليهم أى أظهرت عدم علمها بذلك فقالت إنكم تسألونى عن أمر ما سمعت به قبل عامى هذا ثم قالت لئن لم تنصرفوا عنى لأصرخن فى قومى عليكم وكانت فى عز من قومها فانصرفوا ولم يعلموا أين توجه أى من أى طريق توجه أى ولعلها قالت لهم ذلك لما رأت منهم التثقيل عليها وهذا السياق يدل على أن قصة أم معبد وإلى قصة سراقة أشار صاحب الأصل بقوله ** غرت سراقة أطماع فساخ به ** ** جواده فانثنى للصلح مطلبا ** وإليها أشار أيضا صاحب الهمزية بقوله ** واقتفى أثره سراقة فاستهوته ** ** فى الأرض صافن جرداء ** ** ثم ناداه بعد ما سمت الخسف ** ** وقد ينجد الغريق النداء **
أى وتبع أثره سراقة فهوت أى سقطت به صافن وهى الفرس التى تقوم على ثلاث قوائم وتقيم الرابعة على طرف الحافر وهو وصف محمود فى الخيل جرداءقصيرة الشعر وذلك وصف محمود فى الخيل أيضا بعد أن قاربت أن يخسف بها كلها وقد يخلص الدعاء الغريق كما وقع ليونس صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه
قال وعن أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه أنه قال سرنا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يرى فيه أحد رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسويت بيدى مكانا ينام فيه رسول الله عليه وسلم في ظلها ثم بسطت له فروة معي ثم قلت يا رسول الله نم وأنا أتجسس وأتعرف من تخافه فنام صلى الله عليه وسلم وإذا براع يقبل نغنمه إلى الصخرة يريد منها الذى أردناه أى وهو الظل فلقيته فقلت له لمن أنت يا غلام فقال لرجل من أهل مكة فسماه فعرفته أى وقال الحافظ ابن حجر لم أقف على اسم هذا الراعى ولا على اسم صاحب الغنم قال
أبو بكر رضى الله تعالى عنه فقلت هل فى غنمك من لبن قال نعم قلت أفتحلب لى قال نعم فأخذ شاة فحلب لى فى قعب معه وفى رواية فى إداوة معى على فيها خرقة فأتيت النبى صلى الله عليه وسلم وكرهت أن أوقظه من نومه فوقفت حتى استيقظ فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله فقلت يا رسول الله اشرب من هذا اللبن فشرب لأنه جرت العادة بإباحة مثل ذلك لابن السبيل إذا احتاج إلى ذلك فكان كل راع مأذونا له فى ذلك أى كما تقدم فلا ينافى ما جاء لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه أو أن هذا الحديث محمول على فعل ذلك اختلاسا من غيرمعرفة الراعى
وأما قول بعضهم إنما استجاز شربه لأنه مال حربى ففيه نظر لأن الغنائم أى أموال الحربيين لم تكن أبيحت له حينئذ ثم قال يعنى النبى صلى الله عليه وسلم ألم يأن للرحيل قلت بلى فارتحلنا بعد ما زالت الشمس انتهى
أى وفى رواية أن أبا بكر قال قد آن الرحيل يا رسول الله أى دخل وقته قال الحافظ ابن حجر يجمع بينهما بأن يكون النبى صلى الله عليه وسلم بدأ فسأل فقال له أبو بكر بلى ثم أعاد عليه بقوله قد آن الرحيل واجتازوا فى طريقهم بأم معبد أى واسمها عاتكة وكان منزلها بقديد أى وهو محل سراقه كما تقدم ولعلها كانت بطرفه الأخير الذى يلى المدينة ومنزل سراقة بطرفه الذى يلى مكة وكانت مسافته متسعة فليتأمل
وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تختبى بفناء بيتها وتطعم وتسقى وهى لا تعرفهم أى وسألوها لحما وتمرا أى وفى رواية أو لبنا يشترونه فقالت والله لو كانت عندنا شئ ما أعوزناكم أى للشراء وفى رواية ما أعوزناكم القرى لأنهم كانوا مسنتين أى مجدبين فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أم معبد هل عندك من لبن قالت لا والله فرأى شاة خلفها الجهد عن الغنم أى لم تطق اللحاق بها لما بها من الهزال قال هل بها من لبن قالت هى أجهد من ذلك قال أتأذنين فى حلابها قالت والله ما ضربها من فحل قط فشأنك أى أصلح شأنك بها إن رأيت منها حلبا فاحلبها فدعا بها فمسح ظهرها بيده أى وفى رواية فبعث النبى صلى الله عليه وسلم معبدا وكان صغيرا فقال ادع هذه الشاة ثم قال يا غلام هات فرقا فمسح ظهرها وفى رواية فمسح بيده ضرعها وظهرها وسمى الله تعالى أى وقال اللهم بارك لنا شاتنا فدرت واجترت وتفاحجت أى فتحت ما بين رجليها للحلب ثم دعا بإناء يربض الرهط أى يروبهم
بحيث يغلب عليهم الرى فيربضون وينامون والرهط من الثلاثة للعشرة وقيل من التسعة إلى الأربعين فحلب فيها ثجا أى بقوة لكثرة اللبن ومن ثم قال حتى علاه البهاء وفى رواية حتى علته الثمالة بضم المثلثة أى الرغوة وفى رواية فسقاها فشربت حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا عللا بعد نهل أى مرة ثانية بعد الأولى ثم شرب صلى الله عليه وسلم فكان آخرهم شربا وقال ساقى القوم آخرهم شربا ثم حلب فيه وغادره أى تركه عندها وارتحل وإلى ذلك أشار الإمام السبكى بقوله فى تائيته ** مسحت على شاة لدى أم معبد ** ** بجهد فألفتها أدر حلوبة ** وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله فى وصف راحته الشريفة ** درت الشاة حين مرت عليها ** ** فلها ثروة بها ونماء **
أى أرسلت لبنها حين مرت راحته الشريفة على تلك الشاة فلتلك الشاة بسبب تلك الراحة كثرة لبن وزيادة
وعن أم معبد أن هذه الشاة بقيت إلى خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه إلى سنة ثمانى عشرة وقيل سبع عشرة من الهجرة ويقال لتلك السنة عام الرمادة أى وكانت تلك السنة أجدبت الأرض إجدابا شديدا حتى جعلت الوحوش تأوى إلى الإنس ويذبح الرجل الشاة فيعافها أى لخبث لحمها وكانت الريح إذا هبت ألقت ترابا كالرماد فسمى ذلك العام عام الرمادة وعند ذلك آلى عمر رضى الله تعالى عنه أن لا يذوق لبنا ولا سمنا ولا لحما حتى تحيا الناس أى تجئ عليهم الحيا وهو المطر وقال كيف لا يعنينى شأن الرعية إذ لم يمسنى مامسهم وهذا السياق يدل على أن الذى حلبه صلى الله عليه وسلم عند أم معبد شاة واحدة
وفى تاريخ العينى شارح البخارى قال يونس عن أبن إسحاق أنه دعا ببعض غنمها فمسح ضرعها بيده ودعا الله وحلب فى العس حتى أرغى وقال اشربى يا أم معبد فقالت أشرب أشرب فأنت أحق به فرده عليها فشربت ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى دليله ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامر بن فهيرة وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا أم معبد فسألوا عنه صلى الله عليه وسلم ووصفوه لها فقالت ما أدرى ما تقولون قد ضافنى حالب الحائل فقالوا ذلك الذى نريده
وعند قول عمر رضى الله تعالى عنه ذلك قال كعب لعمر يا أمير المؤمنين إن بنى إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعصبة الأنبياء فقال عمر هذا عم النبى صلى الله عليه وسلم وصنو أبيه وسيد بنى هاشم يعنى العباس فمشى إليه عمر وشكا إليه ما فيه الناس فصعد عمر المنبر ومعه العباس وقال اللهم إنا قد توجهنا إليك بعم نبينا وصنو أبيه صلى الله عليه وسلم فاسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ثم قال عمر للعباس يا أبا الفضل قم وادع فقام وحمد الله وأثنى عليه ودعا بدعاء منه اللهم شفعنا فى أنفسنا وأهلينا اللهم إنا نشكو إليك جوع كل جائع اللهم إنا لا نرجو إلا إياك ولا ندعو غيرك ولا نرغب إلا إليك فسقوا قبل أن يصلوا إلى منازلهم وخاضوا فى الماء وأخصبت الأرض وعاش الناس فقال عمر هذا والله هو الوسيلة إلى الله تعالى فصار الناس يتمسحون بالعباس ويقولون هنيئا لك سقينا فى الحرمين
وذكر السهيلى أن جماعة كانت مقبلة إلى المدينة فى ذلك اليوم فسمعوا صائحا يصيح فى السحاب أتاك الغوث أبا حفص أتاك الغوث أبا حفص
هذا وذكر العلامة ابن حجر الهيتمى فى الصواعق عن تاريخ دمشق أن الناس كرروا الاستسقاء عام الرمادة سنة سبع عشرة من الهجرة فلم يسقوا فقال عمر رضى الله تعالى عنه لأستسقين غدا بمن يسقينى الله به فلما أصبح غدا للعباس رضى الله تعالى عنه فدق عليه الباب فقال من قال عمر قال ما حاجتك قال اخرج حتى نستسقى الله بك قال اقعد فأرسل إلى بنى هاشم أن تطهروا والبسوا من صالح ثيابكم فأتوه وأخرج طيبا وطيبهم ثم خرج وعلى أمامه بين يديه والحسن عن يمينه والحسين عن يساره وبنو هاشم خلف ظهره وقال يا عمرلا تخلط بنا غيرنا ثم أتى المصلى فوقف فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال اللهم إنك خلقتنا ولم تؤامرنا وعلمت ما نحن عاملون قبل أن تخلقنا فلم يمنعك علمك فينا عن رزقنا اللهم فكما تفضلت علينا فى أوله فتقضل علينا فى آخره قال جابر فما برحنا حتى سحت السماء علينا سحا فما وصلنا إلى منازلنا إلا خوضا فقال العباس أنا ابن المسقى ابن المسقى ابن المسقى ابن المسقى ابن المسقى خمس مرات أشار إلى أن أباه عبد المطلب استسقى خمس مرا ت فسقى هذا كلامه فلينظر الجمع
قال ابن شهاب كان أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم يعرفون للعباس فضله
ويقدمونه ويشاورونه ويأخذون برأيه أى وكان لايمرعمر وعثمان وهما راكبان إلا ترجلا حتى يجوز العباس وربما مشيا معه إلى بيته إجلالا له أى لأنه صلى الله عليه وسلم قال احفظونى فى العباس فإنه عمى وصنو أبى وفى رواية فإنه بقيه آبائى
قالت أم معبد فى وصف تلك الشاة وكنا نحلبها صبوحا وغبوقا أى بكرة وعشية وما فى الأرض قليل ولا كثير أى مما يتعاطى الدواب أكله ولما جاء زوجها أبو معبد قال السهيلى لا يعرف اسمه وقيل اسمه أكثم بالثاء المثلثة كما تقدم وقيل خنيس وقيل عبد الله جاء عند المساء يسوق اعنزا عجافا ورأى اللبن الذى حلبه صلى الله عليه وسلم عجب وقال يا أم معبد ما هذا اللبن ولا حلوب فى البيت أى والشاة عازب أى لم يطرقها فحل لكن رأيته فى النور فسر العازب بالبعيدة المرعى التى لا تأوى إلى المنزل فى الليل وفى الصحاح العازب الكلأ البعيد الذى لم يؤكل ولم يوطأ
قالت مر بنا رجل مبارك قال صفيه قالت رأيت رجلا ظاهر الوضاءة متبلج الوجه أى مشرقه فى أشفاره أى أجفان عينيه أى شعرها النابت بها وطف أى طول وفى عينيه دعج بشدة السواد وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بياض عينيه شديد البياض بل كان أشكل العين والشكلة خمرة فى بياض العين وهو دليل الشهامة وهى من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم فى الكتب القديمة كما تقدم وفى صوته صحل أى بحة بضم الموحدة أى ليس حاد الصوت غصن بين الغصنين لا تشنؤه من طول أى لا تبغضه لفرط طوله ولا تقتحمه من قصر أى تحتقره من قصره لم تعبه ثجلة أى عظم البطن وكبرها ولم تزر به صعلة أى صغر الرأس كأن عنقه إبريق فضة أى والإبريق السيف الشديد البريق إذا نطق فعليه البهاء وإذا صمت فعليه الوقار له كلام كخرزات النظم أزين أصحابه منظرا وأحسنهم وجها أصحابه يحفون به إذا أمر ابتدروا أمره وإذا نهى انتهوا عند نهيه
قال وفى لفظ أنها قالت رأيت رجلا ظاهر الوضاءة أبلج الوجه أى مشرقه حسن الخلق لم تعبه ثجلة ولم تزره صعلة وسيما قسيما أى حسنا فى عينيه دعج وفى أشفاره وطف وفى صوته صحل أو قالت صهل أحور أكحل أى فى أجفان عينيه سواد خلقة وفى عنقه سطع أى نور وفى لحيته كثافة أى لا طويلة ولادقيقة
أزج أى رقيق طرف الحاجب أقرن أى مقرون الحاجبين شديد سواد الشعر إن صمت فعليه الوقار وإن تكلم سما به أى ارتفع على جلسائه وعلاه البهاء أجمل الناس وأبهاهم من بعيد وأحسنهم من قريب حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر كأن منطقه خززا ت نظمن يتحدرن ربعة لا تشنؤه أى تبغضه من طول أى من فرط طوله ولا تقتحمه عين من نظر أى لا تتجاوزه إلى غيره اختيارا له غصنا بين عصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا له رفقاء يحفون به إن قال أنصتوا لقوله وإن أمر ابتدروا إلى أمره محفود مخدوم محشود له حشد وجماعة لا عابس ولا مفند أى يكثر اللوم اه قال هذه والله صفة صاحب قريش ولو رأيته لا تبعته ولأجتهدن أن أفعل
أى وفى الإمتاع ويقال إنها أى أم معبد ذبحت لهم شاة وطبختها فأكلوا منها ووضعت لهم فى سفرتهم منها ما وسعته تلك السفرة وبقى عندها أكثر لحمها
وفى الخصائص الكبرى أنه صلى الله عليه وسلم بايعها أى أسلمت قبل أن يرتحلوا عنها وفى كلام ابن الجوزى أن أم معبد هاجرت واسلمت وكذا زوجها هاجر وأسلم
اقول فى شرح السنة للبغوى وهاجرت هى وزوجها وأسلم أخوها حبيش بن الأصفر واستشهد يوم الفتح وكان أهلها يؤرخون بيوم نزول الرجل المبارك ويقال بأن زوجها خرج فى أثرهم فأدركهم وبايعه صلى الله عليه وسلم ورجع
وفى الأجوبة المسكتة لابن عون قيل لأم معبد ما بال صفتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه به من سائر صفات من وصفه أى من الرجال فقالت أما علمتم أن نظر المرأة من الرجل أشفى من نظر الرجل إلى الرجل
وفى ربيع الأبرار للزمخشرى عن هند بنت الجون أنه صلى الله عليه وسلم لما كان بخيمة خالتها أم معبد قام من رقدته فدعا بماء فغسل يديه ثم تمضمض ومج ذلك فى عوسجة إلى جانب الخيمة فأصبحت وهى أعظم دوحة أى شجرة ذات فروع كثيرة وجاءت بثمر كأعظم ما يكون فى لون الورس ورائحة العنبر وطعم الشهد ما أكل منها جائع إلا شبع ولا ظمآن إلا روى ولا سقيم إلا برئ ولا أكل من ورقها بعير إلا در فكنا نسميها المباركة فأصبحنا فى يوم من الأيام وقد سقط ثمرها واصفر
ورقها ففزعنا لذلك فما راعنا إلا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والعجب كيف لم يشتهر أمر هذه الشجرة كما اشتهر أمر الشاة
وعن أم معبد أنها قالت مر على خيمتى غلام سهيل بن عمرو ومعه قربتان فقلت ما هذا قال إن النبى صلى الله عليه وسلم كتب إلى مولاى يستهديه ماء زمزم فأنا أعجل السيركى لا تنشف القرب أى فإنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى سهيل بن عمرو إن جاءك كتابى ليلا فلا تصبحن أو نهارا فلا تمسين حتى تبعث إلى من ماء زمزم فجاء بقربتين فملأهما من ماء زمزم وبعث بهما على بعير مولاه أزهر ولا زال كفار قريش بمكة لا يعلمون أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حتى سمعوا هاتفا يذكرهما ويذكر أم معبد فى أبيات منها ** جزى الله رب الناس خير جزائه ** ** فيقين قالا خيمتى أم معبد ** ** هما نزلا بالبر ثم ترحلا ** ** فأفلح من أمسى رفيق محمد **
فعلموا توجهه ليثرب أى وفى طريق اليمن محل يقال له الدهيم وبئر أم معبد قال بعضهم وليست بأم معبد التى نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ويجوز أن يكون الخبر الذى وصل إليهم فى اليوم الثانى من خروجه من الغار هو قول هذا الهاتف أو عقبه من شخص رآهم وإلى قول الهاتف أشار صاحب الهمزية بقوله ** وتغنت بمدحه الجن حتى ** ** أطرب الإنس منه ذاك الغناء **
أى وأظهرت الجن أوصافه صلى الله عليه وسلم الحميدة فى صورة الغناء الذى تتولع به النفس حتى أطرب ذلك الغناء الإنس حيث سمعوه وأما قول بعضهم إنهم علموا ذلك من هاتف هتف بقوله ** إن يسلم السعدان يصبح محمد من الأمر لا يخشى خلاف المخالف **
فقالوا السعود سعد بن بكر وسعد بن زيد مناة وسعد هديم فلما كانت القابلة سمعوا ذلك الهاتف يقول ** فياسعد سعد الأوس كن أنت مانعا ** ** ويا سعد الخزرجين الغطارف **
فقالوا سعد الأوس سعد بن معاذ وسعد الخزرجين سعد بن عبادة ففيه نظر لأن السعدين المذكورين كانا أسلما قبل ذلك فلا يحسن قوله إن يسلم السعدان
أقول يجوز أن يكون أن هنا بمعنى إذ أى صيرورته صلى الله عليه وسلم آمنا لا يخشى
خلاف المخالف إسلام السعدين أو المراد دوامهما على الإسلام على أنه ذكر فى الأصل أن إنشاد هذين البيتين وسماع أهل مكة له كان قبل إسلام سعد بن معاذ
وذكر بعضهم أن السعود من الأنصار سبعة أربعة من الأوس سعد بن معاذ وسعد بن خيثمة وسعد بن عبيد وسعد بن زيد وثلاثة من الخزرج سعد بن عبادة وسعد بن الربيع وسعد بن عثمان أبو عبيدة والله أعلم
قال وتقديم قصة سراقة على قصة أم معبد هو ما فى الأصل وقد التزم فيه ترتيب الوقائع وقضية الترتيب ذكر قصة أم معبد قبل قصة سراقة لأنه الصحيح الذى صرح به جماعة اه
أقول ومما يدل لذلك ما تقدم من أن كفار قريش لم يعلموا أين توجه صلى الله عليه وسلم حتى سمعوا الهاتف يذكر أم معبد
وعن أسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنهما قالت لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل وقفوا على الباب فخرجت إليهم فقالوا أين أبوك قلت والله لا أدرى فرفع أبو جهل يده فلطم خدى لطمة خرم منها قرطى أى وفى لفظ طرح منها قرطى والقرط ما يعلق فى شحمة الأذن قالت ثم انصرفوا فمضى ثلاث ليال ولم ندر أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يغنى بأبيات وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته حتى خرج بأعلى مكة يقول جزى الله رب الناس الأبيات كذا فى الأصل
وفيه أن قولها لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر فى خروجه للغار وقولها فمضى ثلاث لا ندرى أين توجه يقتضى أن المراد خروجه من الغار وتقدم أنهم علموا بخروجه إلى المدينة فى اليوم الثانى من خروجه من الغار وتقدم أنهم لم يعلموا بذلك إلا من الهاتف فليتأمل
وقد تبع الأصل فى ذلك شيخه الحافظ الدمياطى حيث قدم خبر سراقة على قصة أم معبد إلا أن يقال الدمياطى لم يلتزم الترتيب فلا تحسن تبعيته وهنا قصة أخرى فيها زيادة ونقص قيل هى قصة أم معبد وقيل غيرها وهى أنه اجتاز صلى الله عليه وسلم بغنم فقال لراعيها لمن هذه فقال لرجل من أسلم فالتفت صلى الله عليه وسلم لأبى بكر وقال سلمت إن شاء الله تعالى ثم قال للراعى ما اسمك قال مسعود فالتفت إلى أبى بكر رضى الله تعالى عنه فقال سعدت إن شاء الله تعالى
وفى الإمتاع ولقى بريدة بن الحصيب الأسلمى رضى الله تعالى عنه فى ركب من قومه فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا أى والحصيب بضم الحاء المهملة وفتح الصاد
وفى الشرف أن بريدة لما بلغه ما جعلته قريش لمن يأخذ النبى صلى الله عليه وسلم طمع فى ذلك فخرج هو فى سبعين من أهل بيته وفى لفظ كانوا نحو ثمانين بيتا وجينئذ يراد ببيته قومه فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال له من أنت قال بريدة ابن الحصيب فالتفت النبى صلى الله عليه وسلم وقال يا أبا بكر برد أمرنا وصلح قال ممن أنت قال من أسلم من بنى سهم قال النبى صلى الله عليه وسلم سلمنا وخرج سهمك يا أبا بكر أى لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتفاءل ولا يتطير كما تقدم ثم قال بريدة للنبى صلى الله عليه وسلم من أنت قال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله فقال بريدة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فأسلم بريدة وكل من كان معه أى وصلوا خلفه صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة ثم قال بريدة يا رسول الله لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء فحل بريدة عمامته ثم شدها فى رمح ثم مشى بين يديه أى وقال له كما فى الوفاء تنزل علام يا نبى الله فقال النبى صلى الله عليه وسلم إن ناقتى هذه مأمورة فقال بريدة الحمد لله الذى أسلمت بنو سهم يعنى قومه طائعين غير مكرهين
ولما سمع المسلمون بالمدينة بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة كانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة
أقول ولعل خروجهم كان فى ثلاثة أيام وهى المدة الزائدة على المسافة المعتادة بين مكة والمدينة التى كان بها فى الغار والله أعلم
فاتقلبوا يوما بعد أن طال انتظارهم أى وأحرقتهم الشمس وإذا رجل من اليهود صعد على أطم أى محل مرتفع من آطامهم أى من محالهم المرتفعة لأمر ينظر إليه فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين أى لأنهم لقوا الزبير فى ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا كما فى البخارى
وقيل إن الذى كساهما طلحة بن عبيد الله قال فى النور ولعلهما لقياه معا أو متعاقبين فكسواه وأبا بكر ما ذكر وهذا الجمع أولى من ترجيح الحافظ الدمياطى لهذا القيل
ومن ثم ذكر الحافظ ابن حجر أن هذا القيل هو الذى فى السير ومال الدمياطى إلى ترجيحه على عادته فى ترجيح ما فى السير على ما فى الصحيح لكنه ذكر أن ذلك كان شأنه فى ابتداء أمره فلما تضلع من الأحاديث الصحيحة كان يرى الرجوع عن كثير مما وافق عليه أهل السير وخالف الأحاديث الصحيحة
فلما رآهم ذلك اليهودى يزول بهم السراب أى يرفعهم ويظهرهم أى والسراب ما يرى كالماء فى وسط النهار فى زمن الحر فلم يملك اليهودى أن قال بأعلى صوته يا معشر العرب هذا جدكم أى حظكم الذى تنتظرون أى وفى رواية فلما دنوا من المدينة بعثوا رجلا من أهل البادية إلى أبى أمامة وأصحابه من الأنصار أى ولا مانع من وجود الأمرين فثار المسلمون إلى السلاح فبلغوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة أى وفى لفظ فوافوه وهو مع أبى بكر فى ظل نخلة ولعل تلك النخلة كانت بظهر الحرة فلا مخالفة ثم قالوا لهما ادخلا آمنين مطاعين فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بقباء فى دار بنى عمرو بن عوف وذلك فى يوم الأثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول على كلثوم بن الهدم أى لأنه كان شيخ بنى عمرو بن عوف أى وهم بطن من الأوس قيل وكان يومئذ مشركا ثم أسلم وتوفى قبل بدر بيسير وقيل أسلم قبل وصوله صلى الله عليه وسلم المدينة أى وعند نزوله صلى الله عليه وسلم نادى كلثوم بغلام له يا نجيح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنجحت يا أبا بكر وكان يجلس للناس ويتحدث مع أصحابه فى بيت سعد بن خيثمة أى لأنه كان عزبا لا أهل له هناك أى وكان منزله يسمى منزل العزاب والعزب من الرجال من لا زوجة له ولا يقال أعزب وقيل هى لغة رديئة
أقول وبذلك يجمع بين قول من قال نزل على كلثوم وقول من قال نزل على سعد ابن خيثمة ثم رايت الحافظ الدمياطى أشار إلى ذلك والله أعلم
ونزل على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه لما قدم المدينة على كلثوم أيضا بقباء بعد ان تأخر بمكة بعده صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال يؤدى الودائع التى كانت عند النبى صلى الله عليه وسلم لأمره له صلى الله عليه وسلم يذلك كما تقدم
فلما توجه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قام على رضى الله تعالى عنه بالأبطح ينادى
من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وديعة فليأت إليه أمانته فلما نفد ذلك ورد عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشخوص إليه فابتاع ركائب وقدم ومعه الفواطم ومعه أم أيمن وولدها أيمن وجماعة من ضعفاء المؤمنين
أقول سيأتى ما يخالف ذلك وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل فى دار أبى أيوب بعث زيد بن حارثه وأبا رافع إلى مكة وأعطاهما خمسمائة درهم وبعيرين يقدمان عليه بفاطمة وأم كلثوم بنته وسودة زوجته وأم أيمن وولدها أسامة إلاأن يقال يجوز أن يكون الكتاب الذى فيه استدعاء سيدنا على رضى الله تعالى عنه للهجرة كان مع زيد وأبى رافع رضى الله تعالى عنهما وأنهما صحباه ولا ينافى ذلك ما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم تأخر بعد على رضى الله تعالى عنه بمكة ثلاث ليال يؤدى الودائع لأن تلك الليالى الثلاث كانت مدة تأدية الودائع ومكث بعدها إلى أن جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينئذ يكون قدم على صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد نزوله بقباء على كلثوم فلا مخالفة لكن فى السيرة الهشامية فنزل أى على معه أى مع النبى صلى الله عليه وسلم على كلثوم وهو لا يتأتى إلا على القول بأنه صلى الله عليه وسلم مكث فى قباء بضع عشرة ليلة كما سيأتى وحينئذ يخالف ما سبق من مجيئه مع زيد وأبى رافع لما علمت أنه صلى الله عليه وسلم إنما أرسلهما بعد أن تحول من قباء إلى المدينة
وفى الإمتاع لما قدم على من مكة كان يسير الليل ويكمن النهار حتى تقطرت قدماه فاعتنقه النبى صلى الله عليه وسلم وبكى رحمة لما بقدميه من الورم وتفل فى يديه وأمرهما على قدميه فلم يشكهما بعد ذلك ولا مانع من وقوع ذلك من على مع وجود ما يركبه لأنه يجوز أن يكون هاجر ماشيا رغبة فى عظيم الأجر
وفى السيرة الهشامية أن إقامة على بقباء كانت ليلة أو ليلتين وأنه رأى امرأة مسلمة لا زوج لها يأتيها إنسان من جوف الليل يضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه قال على فسألتها فقالت هذا سهل بن حنيف قد عرف أنى امرأة لا أحد لى فإذا أمسى غدا على أوثان قومه فكسرها ثم جاءنى بها فقال احتطبى بهذا أى اجعليه للنار فكان على يعرف ذلك لسهل بن حنيف والله أعلم
قال ونزل أبو بكر على حبيب بن أبى إساف وقيل على خارجة بن زيد بالسنح بضم السين المهملة فنون ساكنة فجاء مهملة
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ولد نبيكم يوم الأثنين وحملت به أمه يوم الاثنين وخرج من مكة أى من الغار يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين
قال الحاكم تواترت الأخبار أن خروجه صلى الله عليه وسلم كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين زاد بعضهم وفتح مكة كان يوم الاثنين ووضع الركن كان يوم الاثنين
ومن الغريب ما حكاه بعضهم عن الربيع المالكى وكان بمصر كان يوم الاثنين خاصة إذا نام فيه تنام عيناه ولا ينام قلبه وقيل خرج من مكة أى إلى الغار يوم الخميس وعليه يكون مكث صلى الله عليه وسلم فى الغار تلك الليلة التى هى ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد وعليه يكون خروجه من الغار صبيحة ليلة الأحد
ففى البخارى أتاهما أى الدليل براحلتهما صبح ثلاث وتقدم أن خروجهما إلى الغار كان ليلا من بيت أبى بكر وقول أبى بكر سرنا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة يقتضى أنهما خرجا من الغار ليلا بل أول الليل لأن مع التأكد يبعد أن يكون المراد بقية ليلتنا وتقدم عن البخارى أتاهما براحلتيهما صبح ثلاث وحمل ذلك على ماقارب الصبح من الليل بعيد فلتيأمل هذا المحل وقيل دخلها أى المدينة ليلا كما فى رواية لمسلم أى وقال الحافظ ابن حجر ويجمع بأن القدوم كان آخر الليل فدخلها نهارا
أقول لعل مراد الحافظ أن الوصول كان ليلا إلى قرب المدينة فأقاموا بذلك المحل إلى أن أسفر النهار وساروا فما وصلوا إلا وقت الظهيرة فلا يخالف ما تقدم وقيل دخلها يوم الجمعة وذكر الحافظ ابن حجر أنه شاذ والله أعلم
وسرى السرور إلى القلوب بحلوله صلى الله عليه وسلم فى المدينة فعن البراء رضى الله تعالى عنه قال ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشئ فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم
وعن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه قال لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شئ وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير أى الأسطحة عند قدومه صلى الله عليه وسلم يعلن بقولهن طلع البدر علينا الخ
وعن عائشة رضى الله تعالى عنها لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن ** طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع **
** وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داعى ** ** أيها المبعوث فينا ** جئت بالأمر المطاع **
قال واستشكل بأن ثنيات الوداع ليست من جهة القادم من مكة بل هى من جهة الشام فقد قال ابن القيم فى الهدى فى غزوة تبوك ثنيات الوداع من جهة الشام لا يطؤها القادم من مكة ونقل الحافظ ابن حجر عنه عكس ذلك وليس فى محله وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم جاء من جهتها فى دخوله للمدينة عند خروجه من قباء اه
أى وفى كلام بعضهم ما كان أحد يدخل المدينة إلا منها فإن لم يعبر منها مات قبل أن يخرج لوبائها كما زعمت اليهود فإذا وقف عليها قيل قد ودع فسميت به وقيل قيل لها ثنية الوداع لأن المودع يمشى مع المسافر من المدينة إليها وهو اسم قديم جاهلى وقيل إسلامى سمى ذلك المحل لذلك وقيل لأن الصحابة رضى الله تعالى عنهم ودعوا فيها النساء اللاتى استمتعوا بهن فى خيبرعند رجوعهن من خيبر أو وقع توديع من خرج إلى غزوة تبوك فيها أو لكونه صلى الله عليه وسلم ودع بعض المسافرين عندها وهذا يدل على أن هذا الشعر قيل له عند دخوله المدينة لا عند دخوله قباء وسياق بعضهم يقتضيه وسياق بعض آخر يقتضى أنه كان عند دخوله قباء ومن هذا تعلم أن المدينة تطلق ويراد بها ما يشمل قباء ومنه قولنا وسرى السرور إلى القلوب بحلوله صلى الله عليه وسلم فى المدينة فعن البراء إلى آخره وهى المرادة بدخوله المدينة يوم الاثنين على ما تقدم وتطلق ويراد بها ما قابل قباء وحينئذ تكون هذه المرادة بقول أنس لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة إلى آخره ولعل منه ما فى بعض الروايات المتقدمة دخل المدينة يوم الجمعة الذى حكم الحافظ ابن حجر بشذوذه كما تقدم
ولما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر للناس أى وأبو بكر شيخ أى شيبه ظاهر والنبى صلى الله عليه وسلم شاب أى شعر لحيته أسود مع كونه أسن من أبى بكر كما تقدم وقد قال أنس لم يكن فى الذين هاجروا أشمط غير أبى بكر فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يجئ أبا بكر فيعرفه بالنبى صلى الله عليه وسلم حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرفه الناس أى عرفه من جاء منهم بعد ذلك أى لأن عدم تأثير الشمس فيه لتظليل الغمامة كان قبل البعثة إرهاصا كما تقدم
ومما يدل على أن خروجه من قباء كان يوم الجمعة قول بعضهم ولبث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بنى عمرو بن عوف أى فى قباء بقية يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وخرج يوم الجمعة وقيل لبث بضع عشرة ليلة وهو المنقول عن البخارى
وعن ابن عقبة أقام صلى الله عليه وسلم ثنتين وعشرين ليلة وفى الهدى أقام أربعة عشر يوما وهو ما فى صحيح مسلم فليتأمل وأسس فى قباء المسجد الذى أسس على التقوى أى الذى نزلت فيه الآية وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فى الهدى ولا ينافى هذا قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن المسجد الذى أسس على التقوى فقال مسجدكم هذا وأشار لمسجد المدينة أى وفى رواية فأخذ حصاة فضرب بها الأرض وقال مسجدكم هذا يعنى مسجد المدينة لأن كلا منهما مؤسس على التقوى هذا كلامه ويوافقه ما نقل عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه كان يرى كل مسجد بنى بالمدينة الشاملة لقباء أسس على التقوى أى لكن الذى نزلت فيه الآية مسجد قباء وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من قباء يوم الجمعة حين ارتفع النهار قال قيل وكان محل مسجد قباء مربد أى محلا يجفف فيه التمر لكلثوم بن الهدم وهو أول مسجد بنى فى الإسلام لعموم المسلمين فلا ينافى أنه بنى قبله غيره من المساجد لكن لخصوص الذى بناه كالمسجد الذى بناه الصديق بفناء داره بمكة كما تقدم انتهى
أى وفى كلام ابن الجوزى أول من بنى مسجدا فى الإسلام عمار بن ياسر
وفى السيرة الهشامية عن الحكم بن عيينة لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قباء قال عمار بن ياسر ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم بد من أن يجعل له مكانا يستظل به إذا استيقظ ويصلى فيه فجمع حجارة فبنى مسجد قباء أى فانه لما جمع الحجارة أسسه صلى الله عليه وسلم واستتم بنيانه عمار فعمار أول من بنى مسجدا لعموم المسلمين
قال وعن جابر لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم النبى صلى الله عليه وسلم بسنتين نعمر المساجد ونقيم الصلاة انتهى
ونعمر يحتمل أن يكون بالتخفيف فيكون عطف نقيم الصلاة من عطف التفسير ويحتمل أن يكون بالتشديد فيكون بناء المساجد تعدد فى المدينة قبل قدومه صلى الله عليه وسلم
وفيه أن الحافظ ابن حجر قال كان بين ابتداء هجرة الصحابة وبين هجرته صلى الله
عليه وسلم شهران ونصف شهر على التحرير كما تقدم أى ورواية جابر تدل على أنه كان بين اجتماع الاثنى عشر من الأنصار به صلى الله عليه وسلم ومجيئهم إلى المدينة وبين قدومه صلى الله عليه وسلم للمدينة سنتان
وقد يقال ليس مراد جابر أن ابتداء المدة من قدوم الاثنى عشر عليه بل مراده أن ابتداءها من قدوم الستة عليه الذين منهم جابر والمدة تزيد على السنتين فليتأمل وهو أى مسجد قباء أول مسجد صلى فيه صلى الله عليه وسلم بأصحابه جماعة ظاهرين أى آمنين
وقيل إن هذا المسجد بناه المهاجرون والأنصار يصلون فيه فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وورد قباء صلى فيه ولم يحدث فيه شيئا
ويخالفه ما تقدم عن السيرة الهشامية وما فى الطبرانى بسند رجاله ثقات عن الشموس بفتح الشين المعجمة بنت النعمان رضى الله تعالى عنها قالت نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم ونزل وأسس المسجد مسجد قباء فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يصهره الحجر أى يتبعه فيأتى الرجل من أصحابه فيقول يا رسول الله بأبى أنت وأمى تعطينى أكفك فيقول لآخذ مثله حتى أسسه
أى وجاء أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد بناءه قال يا أهل قباء ائتونى بأحجار من الحرة فجمعت عنده أحجار كثيرة فخط القبلة وأخذ حجرا فوضعه ثم قال يا أبا بكر خذ بحجر فضعه إلى جنب حجرى ثم قال يا عمر خذ حجرا فضعه إلى جنب حجر أبى بكر ثم قال يا عثمان خذ حجرا فضعه إلى جنب حجر عمر قال بعضهم كأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى ترتيب الخلافة وسيجئ فى بناء مسجد المدينة نحوه ويحتاج للجمع بين هذه الروايات
وبعد تحوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان يأتيه يوم السبت ماشيا وراكبا وقال من توضأ وأسبغ الوضوء ثم جاء مسجد قباء فصلى فيه كان له أجر عمرة وروى أى الترمذى والحاكم وصححاه عن أسيد بن حضير عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال صلاة فى مسجد قباء كعمرة وفى رواية من صلى فى مسجد قباء يوم الاثنين والخميس انقلب بأجر عمرة وكان عمر رضى الله تعالى عنه يأتيه يوم الاثنين ويوم الخميس وقال لو كان بطرف من الأطراف وفى رواية فى افق من الآفاق لضربت إليه أكباد الإبل
أى وصح الحاكم عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الاختلاف إلى قباء ماشيا وراكبا وعن أبى سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه عن أبيه قال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين إلى قباء وعن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتى مسجد قباء فيصلى فيه ركعتين وعنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء فقام يصلى فجاءته الأنصار تسلم عليه فقلت لبلال كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم قال يشير إليهم بيده وهو يصلى أى يجعل باطنها إلى أسفل وظهرها إلى فوق
وقد وقعت له صلى الله عليه وسلم الإشارة فى الصلاة برد السلام لما قدمت عليه ابنته رضى الله تعالى عنها من الحبشة وهو يصلى فسلمت فأومأ إليها برأسه
وفى الهدى وأما حديث من أشار فى الصلاة إشارة تفهم عنه فليعد صلاته فحديث باطل وفى كلام بعضهم قد ثبت فى الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم عليه أحد وهو فى الصلاة أشار بأصبعه المباركة جواب السلام وليس لهذه الأحاديث معارض إلا حديث مجهول وهو من أشار فى صلاته إشارة مفهمة فليعد صلاته وهذا الحديث لا يصلح للمعارضة ولما نزل قوله تعالى { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألهم عن ذلك فقال ما هذا الطهور الذى أثنى الله عليكم به فقالوا يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه فقال هو هذا وفى لفظ أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسجد قباء أى وفى الكشاف ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال أمؤمنون أنتم فسكت القوم ثم أعادها فقال عمر يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا منهم فقال عليه الصلاة والسلام أتؤمنون بالقضاء قالوا نعم قال وتصبرون على البلاء قالوا نعم قال أتشكرون على الرخاء قالوا نعم قال عليه الصلاة والسلام مؤمنون ورب الكعبة فجلس وقال يامعشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذى تتبعون عند الوضوء وعند الغائط أى المعبر عنه بالطهور فقالوا يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبى صلى الله عليه وسلم { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } هذا كلامه وفى رواية فقال إن الله قد أحسن إليكم الثناء فى الطهور فما هذا الطهور الذى تتطهرون به قالوا يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق