ج3. وج4. كتاب : الروضتين في أخبار النورية و الصلاحية
المؤلف : أبو شامة المقدسي
فهو يجلوك للعيون بكنبو ... ش جديد مستحسن منقوش
كم عدو من بأسه في عثار ... وولى بجوده منعوش
والموالي على الأسرة، والأع ... داء تحت الهوان فوق النعوش
قال: وأقطع أسد الدين حمص وأعمالها، فسار إليها؛ فسد ثغورها، وضبط أمورها، وحمى جمهورها. وكان نور الدين قد جدد سورها وحصن دورها، وبلى الفرنج منه بالمغاور والمراوغ، ذي البأس الدامغ. وسأله نور الدين في السُّلُوِّ عن حب مصر، وقال: قد عتبت مرتين واجتهدت، ولم يحصل لك ما طلبت؛ وقد أذعنوا بالطاعة، وشفعوا السؤال بالشفاعة، وسمحوا بكل ما يدخل تحت الاستطاعة.
قلت: وأنشد العماد أسد الدين في رجب من هذه السنة:
دمت في الملك آمراً ذا نفاذ ... أسد الدين شيركوه بن شاذي
يا كريماً عن كل شر بطيئاً ... وإلى الخير دائم الإغذاذ
وملاذ الإسلام أنت، فلا زل ... ت لأهل الإسلام خير ملاذ
في نفوس الكفار رعبك قد حلَّ ... بصَدع الأكباد والأفلاذ
لم تدعْ بالظبُّا، رؤساً وأصنا ... ماً من المشركين غير جذاذ
أنت من نازل الدعيين في مص ... ر لنصر الإمام في بغداذ
وبلاد الإسلام أنقذتها أن ... ت من الشرك أيما إنقاذ
فصل في وفاة زين الدينقال ابن الأثير، وغيره: في سنة ثلاث وستين سار زين الدين علي بن بكتكين، نائب أتابك قطب الدين، عن الموصل إلى إرْبِل، وسلم جميع ماكان من البلاد والقلاع إلى قطب الدين ماعدا إربل، فإنها كانت له من أتابك زنكي رحمه الله تعالى. فمن ذلك سنجار وحرَّان وقلعة عَقْر الحُمَيدية، وقلاع الهكارية جميعها. وكان نائبه بتكريت الأمير تبر، فأرسل إليه ليسلمها، فقال: إن المولى أتابك لايقيم بتكريت ولابد له من نائب فيها، وأنا أكون ذلك النائب، فليس له مثلي؛ فما أمكن محاققته لأجل مجاورة بغداد. وأما شَهْرَزَوْر فكان بها الأمير بوزان، فقال مثله أيضاً، فأُقرَّت بيده؛ فكان في طاعة قطب الدين.
وسبب فراق زين الدين أنه أصابه عمى وصمم، وأقام بإربل إلى أن توفي بها، في ذي الحجة من هذه السنة، وكان قد استولى عليه الهرم وضعفت قوته.
وكان خيِّراً عادلا حسن السيرة، جواداً، محافظاً على حسن العهد وأداء الأمانة، قليل الغدر بل عديمه. وكان إذا وعد بشئ لابد له من أن يفعله وإن كان فعله خطيراً. وكان حاله من أعجب الأحوال، بينما يبدو منه ما يدل على سلامة صدره وغفلته حتى يبدو منه ما يدل على إفراط الذكاء وغلبة الدهاء. بلغني أنه أتاه بعض أصحابه بذنب فرس ذكر أنه نفق له، فأمر له بفرس؛ فأخذ ذلك الذنب أيضاً غيره من الأجناد فأحضره وذكر أنه نفق له دابة، فأمر له بفرس وتدوال ذلك الذنب اثنا عشر رجلا كلهم يأخذ فرساً. فلما أحضره آخرهم قال لهم: أما تستحيون مني كما أستحيي أنا منكم؟ قد أحضر هذا عندي اثنا عشر رجلا وأنا أتغافل لئلا يخجل أحدكم. أتظنون أنني لاأعرفه؟ بلى والله، وإنما أردت أن يصلكم عطائي بغير مَنٍ ولاتكدير، فلم تتركوني!
ليس الغبيّ بسيِّدٍ في قومه ... لكنّ سيد قومه المتغابي
قال: وكان يعطي كثيراً ويخلع عظيماً؛ وكان له البلاد الكثيرة، فلم يخلف شيئاً بل أنفذه جميعاً في العطايا والإنعام على الناس. وكان يلبس الغليظ ويشدّ على وسطه كلّ ما يحتاج إليه من سكين ودرفش ومطرقة ومسلة وخيوط ودسترك وغير ذلك. وكان أشجع الناس، ميمون النقيبة، لم تنهزم له راية. وكان يقوم المقام الخطير فيسلم منه بحسن نيته وكان تركياً أسمر اللون خفيف العارضين قصيرا جدا؛ وبنى مدارس ورُبطاً بالموصل وغيرها. وبلغني أنه مدحه الحيص بيص، فلما أراد الإنشاد قال له: أنا لاأدري ما تقول لكن أعلم أنك تريد شيئاً؛ وأمر له بخمسمائة دينار وأعطاه فرساً وخلعة وثياباً، يكون مجموع ذلك ألف دينار. قال ومكارمه كثيرة.
ولما توفي بإربل كان الحاكم بها خادمه مجاهد الدّين قايماز، وهو المتولي لأمورها. وولى بعد زين الدين ولده مظفر الدين كوكبري مدة ثم فارقها لُخْلِفٍ كان بينه وبين مجاهد الدّين قايماز؛ وجرت أمورٌ يطول ذكرها.
ولما فارق زين الدين الموصل استناب أتابك قطب الدين بقلعة الموصل بعده مملوكه فخر الدين عبد المسيح، فسلك غير طريق زين الدين، فكرهه الناس وذّموه فلم تَطُلْ أيامه: وسيجئ ذكر عزله في أخبار سنة ست وستين إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائةففي أولها ملك نور الدين رحمه الله تعالى قلعة جعبر، وأخذها من صاحبها شهاب الدين مالك بن عليّ بن مالك العقبلي من آل عقيل من بني المسيّب؛ وكانت بيده ويد آبائه من قبله من أيام السلطان ملكشاه، وقد تقدم ذكر ذلك. وهي من أمنع الحصون وأحسنها، مطلَّة على الفرات لايطمع فيها بحصار؛ وقد أعجز جماعة من الملوك أخذها منه، وقُتِلَ عليها عماد الدين زنكي والد نور الدين.
ثمّ اتفقَّ أنه خرج صاحبها منها يوماً يتصيد، فصاده بنو كلب، فأخذوه أسيراً وأوثقوه، وحملوه إلى نورالدين، فتقربوا به إليه، وذلك في رجب من سنة ثلاث وستين؛ فحبسه بحلب وأحسن إليه، ورغبه في الإقطاع والمال ليسلم إليه القلعة فلم يفعل؛ فعدل به نور الدين إلى الشدة والعنف وتهدده فلم يفعل أيضاً؛ فسير إليها عسكرا مقدمه الأمير فخر الدين مسعُود بن أبي علي الزعفراني، فحصرها مدة فلم يظفر منها بشئ؛ فأمدهم بعسكر آخر وجعل على الجميع مجد الدين أبا بكر المعروف بابن الداية، وهو أكبر أمراء نور الدين ورضيعه ووالى معاقله، فأقام عليها وطاف حواليها فلم ير له في فتحها مجالا، ورأى أخذها بالحصر متعذرا محالا. فسلك مع صاحبها طريق اللين، وأشار عليه بأخذ العوض من نور الدين؛ ولم يزل يتوسط معه حتى أذعن على أن يعطي سروج وأعمالها والملاّحة التي في عمل حلب والباب وبزاعة وعشرين ألف دينار معجلة؛ فأخذ جميع ما شرطه مكرها في صورة مختار. قال ابن الأثير: وهذا إقطاع عظيم جدا لكنه لاحصن فيه.
وتسلم مجد الدين قلعة جعبر وصعد إليها منتصف المحرم. ووصل كتابه إلى نور الدين بحلب، فسار إليها وصعد القلعة في العشرين من المحرم؛ ثم سلمها نور الدين إلى مجد الدين ابن الداية، فولاها أخاه شمس الدين علياً. وكان هذا آخر أمر بني مالك، ولكل أمر آخر ولكل ولاية نهاية؛ يؤتي الله الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء.
قال ابن الأثير: بلغني أنه قيل لشهاب الدين أيُّما أحب إليك وأحسن مقاماً، أسَرُوج والشام أم القلعة؟ فقال: هذا أكثر مالا، والعز بالقلعة فارقناه.
قال العماد: وأنشدت نور الدين بقلعة جعبر قصيدة أولها:
اسلم لبكر الفتوح مفترعاً ... ودُمْ لًملك البلاد منتزعا
فإن أولى الورى بها ملك ... غدا بعبء الخطوب مضطلعاً
إن ضاق أمر فغير همته ... لكشف ضيق الأمور لن يسعا
يا محيي العدل بعد ميتته ... ورافع الحق بعدما اتضعا
ونور دين الهدى الذي قمع الش ... رك، وعفَّى الضلال والبدعا
أنت سليمان في العفاف وفي ال ... مُلك، وتحكى بزُهدك اليَسَعَا
حُزت البقا، والحياءَ، والكرم المح ... ضَ، وحُسن اليقين، والورعا
أسقطت أقساط ما وجدت من المك ... س بعدلٍ، والقاسط ارتدعا
ولم تدع في ابتغاء مصلحة الدّ ... ين لنا باقياً، ولنْ تدعا
وكل ما في الملوك مُفترق ... من المعالي لملكك اجتمعا
همتك الرُّبط والمدارس تب ... نيها ثواباً وتهدم البيعا
ما زلت ذا فطنة مؤيدة ... على غيوب الأسرار مطلعاً
ببأسك البيض والطُّلي اصطحبت ... بعدلك الذئب والطَّلا رتعا
كم صائدٍ لم يقع له قنص ... في شرك وهو فيه قد وقعا
ومالكٍ حين رُمت قلعته ... غدا مطيعاً للأمر متبَّعا
عنا خُشُوعاً لرب مملكة ... لغير ربّ السماء ما خشعا
كان مقيما منها على الفلك ال ... أعلى شهاباً بنوره سطعا
لكنما الشهب ما تنير إذا ... لاح عمودُ الصباح فانصدعا
يدفعها طائعاً إليك، وكم ... عنها إباءً بجهده دفعا
هي التي في علوها زحل ... كرَّ على وردها وما كرعا
وهي التي قاربت عطارد في ال ... أفق فلاحاً والفرقدين معا
كأن منها السُّها إذا استرق السَّ ... معَ أتاها في خيفة ودعا
هضبة عزّ لولاك ما أرتقيت ... وطود ملك لولاك ما فرعا
ما قبلت في ارتقاء ذروتها ... من ملكٍ لارُقي ولا خدعا
عزت على المالك الشهيد وأع ... طتك قيادا ما زال ممتنعاً
للأب لو جلَّ خطبها لغدا ... محرِّماً لابنه وما شرعا
لازلت محمودُ في أمورك محمو ... داً بثوب الإقبال مدَّرعا
وفيها وفي سابع عشر صفر من هذه السنة توفي بهاء الدين عمر أخو مجد الدين بن الداية. وفيه وفي أخويه يقول العماد الكاتب من قصيدة:
أنتم لمحودٍ كآل محمد ... متصادفي الأفعال والأسماء
يتلو أبا بكر عَلَى حسناته ... عمرُ الممدَّح في سنا وسناء
ويليه عثمان المرَّجي للعُلا ... وعليُّ المأمول في اللأواء
وتقبل الحسن الممجَّد مجدهم ... فهمُ ذُوو الإحسان والنعماء
فرعت لمجد الدين إخوته الذّرا ... دون الزرى في المجد والعلياء
من سابق كرماً وشمس ساده ... شرفاً وبدر دُجنة وبهاء
سُرُج الهدى، سُحُب النَّدى، شُهُب النُّهى ... أسدُ الحروب، ضراغم الهيجاء
يريد سابق الدين عثمان، وشمس الدين علياً وبدر الدين حسنا، وبهاء الدين عمر؛ ومجد الدين الأكبر، فهم خمسة، رحمهم الله.
فصلوفي هذه السنة فتحت الديار المصرية، سار إليها أسد الدين مرة ثالثة، فهزم العدو وقتل شاوراً وولى الوزارة مكانه، ثم مات، فوليها صلاح الدين.
وسبب ذلك ان الفرنج كانوا في النوبتين الأوليين اللتين استعان بهم شاور فيهما على أسد الدين شيركوه قد خبروا الديار المصرية واطلعوا على عوراتها، فطمعوا فيها ونقضوا ما كان استقر بينهم وبين المصريين وأسد الدين من القواعد. فجمعوا وحشدوا، وقالوا: ما بمصر من يصدنا، وإذا أردناها فمن يردنا؟ ثم قالوا: نور الدين في البلاد الشمالية والجهة الفُراتية، وعكسر الشام متفرق كل في بلده، حافظ لما في يده؛ ونحن ننهض إلى مصر، ولانطيل بها الحصر، فإنه ليس لها معقل، ولالأهلها منّا موئل؛ وإلى أن تجمع عساكر الشام، نكون قد حصلنا على المرام، وقوينا بتملك الديار المصرية على سائر بلاد الإسلام. فتوجههوا إليها سائرين، ونحوها ثائرين، وأظهروا أنهم على قصد حمص وشايعهم على قصد مصر جماعة من أهلها كابن الخياط وابن قرجلة، وغيرهما من أعداء شاور.
وكان الفرنج قد جعلوا لهم شحنة بمصر والقاهرة، وسكر فرسانهم أبواب البلدين، والمفاتيح معهم، على ماسبق ذكره، وتحكموا تحكماً كبيراً، فطمعوا في البلاد، وأرسلوا إلى ملكهم مُرَّى - ولم يكن ملك الفرنج منذ خرجوا إلى الشام مثله شجاعة ومكراً ودهاءً - يستدعونه لتملك البلاد. وأعلموه خلوها من ممانع عنها، وسهلوا أمرها عليه؛ فلم يجبهم إلى المسير. واجتمع فرسان الفرنج وذوو الرأي والتقدم وأشاروا عليه بالمسير إليها والاستيلاء عليها، فقال لهم: الرأي عندي ألا نقصدها فإنها طعمة لنا، وأموالها تساق إلينا، نتقوى بها على نور الدين، وإن نحن قصدناها لتملكها فإن صاحبها وعساكره، وعامة أهل بلاده وفلاحيه، لايسلمونها إلينا ويقاتلوننا دونها، ويحملهم الخوف منا على تسليمها إلى نور الدين. وإن أخذها وصار له فيها مثل أسد الدين فهو هلاك الفرنج وإجلاؤهم من أرض الشام. فلم يصغوا إلىقوله وقالوا: إن مصر لامانع لها ولاحافظ، وإلى أن يصل الخبر إلى نور الدين ويجهز العساكر ويسيرهم إلينا نكون نحن قد ملكناها وفرغنا من أمرها، وحينئذ يتمنى نور الدين منا السلامة فلا يقدر عليها.
وكانوا قد عرفوا البلاد وانكشف لهم أمرها؛ فأجابهم إلى ذلك على كره شديد، وتجهزوا، وأظهروا أنهم على قصد الشام، وخاصة مدينة حمص، وتوجهوا من عسقلان في النصف من المحرم، ووصلوا أول يوم من صفر إلى بلبيس ونازلوها، وحصروها، فملكوها قهراً ونهبوها، وسبوا أهلها، وأقاموا بها خمسة أيام ثم أناخوا على القاهرة وحصروها عاشر صفر، فخاف الناس منهم أن يفعلوا بهم مثل فعلهم بأهل بلبيس، فحملهم الخوف منهم على الامتناع، فحفظوا البلد وقاتلوا دونه، وبذلوا جهدهم في حفظه. ولو أن الفرنج أحسنوا السيرة مع أهل بلبيس لملكوا مصر والقاهرة سرعةً، ولكن الله تعالى حسَّن لهم ذلك ليقضي الله أمراً كان مفعولا.
وكان شاور أمر بإحراق مدينة مصر، تاسع صفر، قبل نزول الفرنج عليهم بيوم واحد، خوفاً عليها من الفرنج؛ فبقيت النار فيها تحرقها أربعة وخمسين يوماً إلى خامس ربيع الآخر.
ثم ضاق الحصار وخيف البوار، وعرف شاور أنه يضعف عن الحماية، فشرع في تمحُّل الحيل، وأرسل إلى ملك الفرنج يذكر له مودته ومحبته القديمة، وأن هواه معه، وتخوفه من نور الدين والعاضد، وإنما المسلمون لايوافقونه على التسليم إليه؛ ويشير بالصلح وأخذ مال لئلا يسلم إلى نور الدين. فأجابه إلى الصلح على أخذ ألف ألف دينار مصرية، يعجل البعض ويؤخر البعض؛ واستقرت القاعدة على ذلك. ورأى الفرنج أن البلاد امتنعت عليهم وربما سلمت إلى نور الدين، فأجابوه كارهين، وقالوا: نأخذ المال نتقوى به، ونكثر من الرجال ثم نعود إلى البلاد بقوة لانبالي معها بنور الدين ولاغيره. (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ، وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِين). فعجل لهم شاور مائة ألف دينار وسألهم الرحيل عن البلد ليجمع لهم المال، فرحلوا قريباً.
وكان خليفة مصر العاضد عقيب حريق مصر أرسل إلى نور الدين يستغيث به ويعرفه ضعف المسلمين عن الفرنج، وأرسل في الكتب شعور النساء وقال له: هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لتُنقذهن من الفرنج. فقام نور الدين لذلك وقعد، وشرع في تجهيز العساكر إلى مصر. ولما صالح شاور الفرنج على ذلك المال عاود العاضد مراسلة نور الدين وإعلامه بما لقي المسلمون من الفرنج، وبذل له ثلث بلاد مصر، وأن يكون أسد الدين شيركوه مقيماً عنده في عسكر وإقطاعهم عليه خارجاً عن الثلث الذي لنور الدين. هذا قول ابن الأثير.
وقال العماد: عجل شاور لملك الفرنج بمائة ألف دينار حيلة وخداعاً، وإرغاماً له وإطماعاً، وواصل بكتبه إلى نور الدين مستصرخاً مستنفراً، وبما ناب الإسلام من الكفر مخبراً؛ ويقول: إن لم تبادر ذهبت البلاد. وسيَّر الكتب مسودة بمدادها، كاسية لباس حدادها، في طيها ذوائب مجزوزة، وعصائب محزوزة، أظن أنها شعور أهل القصر، للأشعار بما عراهم من بليَّة الحصر. وأرسلها تباعاً، وأردف بها نجَّابين سراعاً؛ وأقام منتظراً، ودام متحيراً، وعامل الفرنج بالمطال، ينقدهم في كل حين مالا، ويطلب منهم إمهالا. وما زال يعطيهم ويستمهلهم، حتى أتى الغوث بعساكر نور الدين رحمه الله تعالى.
فصل فيما فعله نور الدين
كان نور الدين لما أتاه الرسل أولاً من العاضد قد أرسل إلى أسد الدين يستدعيه من حمص، وهي إقطاعه، فلما خرج القاصد من حلب لقي أسد الدين قد وصلها. وكان سبب وصوله أن كتب المصريين أيضاً وصلته في هذا الأمر فبقي مسلوب القرار، مغلوب الاصطبار، لأنه كان قد طمع في بلاد مصر فخاف خروجها من يده، وأن يستولي عليها الكفر. فساق في ليلة واحدة من حمص إلى حلب، واجتمع بنور الدين ساعة وصوله. فتعجب نور الدين من ذلك وتفاءل به وسرَّه، وأمره بالتجهز إلى مصر والسرعة في ذلك، وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الثياب والدواب والآلات والأسلحة، وحكمه في العساكر والخزائن، فاختار من العسكر ألفي فارس، وأخذ المال، وجمع من التركمان ستة الآف فارس. وكان في مدة حشد التركمان سار نور الدين لتسلم قلعة جعبر؛ ثم سار هو ونر الدين إلى دمشق، ورحلا في جميع العساكر إلى رأس الماء وأعطى نور الدين كل فارس من العسكر الذين مع أسد الدين عشرين ديناراً معونة لهم على الطريق غير محسوبة من القرار الذي له. وأضاف إلى أسد الدين جماعة من الأمراء منهم مملوكه عز الدين جرديك، وغرس الدين قليج، وشرف الدين بزغش، وناصح الدين خمارتكين، وعين الدولة ابن الياروقي، وقطب الدين ينال بن حسان المنبجي، وغيرهم. ورحلوا على قصد مصر، مستنزلين من الله تعالى النصر، وذلك منتصف ربيع الأول.
وخيَّم نور الدين فيمن أفام برأس الماء، وأقام ينتظر ورود المبشرات؛ فوصل المبشر برحيل الفرنج عن القاهرة عائدين إلى بلادهم لما سمعوا بوصول عسكر نور الدين، وسبَّ الملك كل من أشار عليه بقصد مصر؛ وأمر نور الدين بضرب البشائر في سائر بلاده، وبث رسله إلى الآفاق بذلك.
وقال القاضي أبو المحاسن: لقد قال لي السلطان، يعني صلاح الدين: كنت أكره الناس للخروج في هذه الدفعة، وما خرجت مع عمي باختياري. قال: وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُو خَيْرٌ لَكُمْ). وقال ابن الأثير: أحب نور الدين مسير صلاح الدين وفيه ذهاب بيته، وكره صلاح الدين المسير وفيه سعادته وملكه.
حُكى لي عنه أنه قال: لما وردت الكتب من مصر إلى الملك العادل نور الدين رضي الله عنه، مستصرخين ومستنجدين، أحضرني وأعلمني الحال، وقال تمضي إلى عمك أسد الدين بحمص مع رسولي إليه يأمره بالحضور، وتحثه أنت على الإسراع فما يحتمل الأمر التأخير. قال ففعلت. فلما فارقنا حلب على ميل منها لقيناه قادماً في هذا المعنى؛ فقال له نور الدين: تجهز للمسير، فامتنع خوفاً من غدرهم أولا، وعدم ما ينفقه في العساكر ثانياً، فأعطاه نور الدين الأموال والرجال، وقال له: إن تأخرت أنت عن المسير إلى مصر فالمصلحة تقتضي أن أسير أنا بنفسي إليها، فإننا إن أهملنا أمرها ملكها الفرنج، ولايبقى لنا معهم مقام بالشام وغيره. قال فالتفت إليَّ عمي أسد الدين وقال: تجهز يا يوسف. قال: فكأنما ضرب قلبي بسكين! فقلت: والله لو أعطيت ملك مصر ماسرت إليها، فلقد قاسيت بالإسكندرية من المشاق ما لاأنساه أبداً. فقال عمي لنور الدين: لابد من سيره معي، فترسم له. فأمرني نور الدين وأنا استقيله. فانقضى المجلس، ثم جمع أسد الدين العساكر من التركمان وغيرهم ولم يبق غير المسير، فقال لي نور الدين: لابد من مسيرك مع عمك. فشكوت إليه الضائقة وقلة الدواب وما أحتاج إليه؛ فأعطاني ما تجهزت به، وكأنما أساق إلى الموت. وكان نور الدين مهيباً مخوفاً مع لينه ورحمته، فسرت معه. فلما أستقر أمره وتوفي، أعطاني الله من ملكها مالا كنت أتوقعه.
قلت: وحرضه أيضاً حسان العرقلة بأبيات من شعره من جملة قصيدة مدحه بها. قال:
وهل أخشى من الأنواء بخلا ... إذا ما يوسفٌ بالمال جادا
فتى للدين لم يبرح صلاحا ... وللأعداء لم يبرح فسادا
لئن أعطاه نور الدين حصناً ... فإن الله يعطيه البلادا
إلى كم ذا التواني في دمشق ... وقد جاءتكم مصرٌ تهادى
عروس بعلها أسد هزبر ... يصيد المعتدين ولن يصادا
ألا يا معشر الأجناد سيروا ... وراء لوائه تلقوا رشادا
فما كل امرئ صلى مع النا ... س مأموماً كمن صلى فرادا
فلما سار صلاح الدين إلى مصر عبر العرقلة على داره، فوجدها مغلقة، فقال:
عبرت على دار الصلاح وقد خلت ... من القمر الوضاح والمنهل العذب
فو الله لولا سرعةٌ مثل عزمه ... لغرَّقها طرفي وأحرقها قلبي
يقول فيها:
الناصر الملك الموفى بذمته ... ومن ندى كفه يغني عن الديم
ومن إذا جرد البيض الصوارم في ال ... هيجاء أغمدها في البيض والقمم
ومن حوى الملك من بعد الطماعة في ان ... زاعه بشبا الهندية الحذم
ورد طاغية الإفرنج يحسب ما ... رجاه من مُلك مصرٍ كان في الحلم
وليَّ وراحته صفر وقد ملئت ... بعد الطماعة من يأس ومن ندم
يصعدون على ما فاتهم نفسا ... لو لافح البحر أضحى الموج كالحمم
وفي السلامة، لولا جهلهم، ظفر ... لمن أراد نزال الأسد في الأجم
وهو أسود الشرى، لكن أذلهم ... ملك لديه الأسود الغُلب كالغنم
وله من قصيدة أخرى:
أقمت عمود الدين حين أماله ... لطاغي الفرنج الغُتم طاغي بني سعد
وجاهدت حزب الكفر، حتى رددتهم ... خزايا، عليهم خيبة الذل والرد
أفدت بما قدمت ملكاً مخلداً ... وذكراً مدى الأيام يقرن بالحمد
وذكرك في الآفاق يسري، كأنه الص ... باح له نشر الأوَّة والنَّد
ولأبي الحسن بن الذروي فيه من قصيدة يذكر فيها ملك الفرنج مُرِّي:
ولكم أشمت الروم أشأم بارق ... أضحت مياه نفوسها من قطره
وافاك بحر دروعها عن مده ... ومضى وقد حكمت ظُباك بجزره
ولقيت مُرِّياً وطعم حياته ... حلو، فبدله القتال بمره
فاعقد إليه الرأي في عذب القنا ... واحلل بها عِجلاً معاقد مكره
واطرده من وكر الشآم، فإنه ... قد طار منك بخافق من ذعره
فصل في القبض على شاور وقتلهوصل أسد الدين القاهرة رابع ربيع الآخر واجتمع بالعاضد خليفة مصر، فخلع عليه وأكرمه، وأجريت عليه وعلى عساكره الجرايات الكثيرة والإقامات الوافرة؛ ولم يمكن شاور المُنع من ذلك لأنه رأى العساكر كثيرة بظاهر البلد، ورأى هوى العاضد معهم من داخله، فلم يتجاسر على إظهار ما في نفسه، فكتمه، وهو يماطل أسد الدين في تقرير ماكان له من المال والإقطاع للعساكر، وإفراد ثلث البلاد لنور الدين. وهو يركب كل يوم إلى أسد الدين ويسير معه، ويعده ويمنيه (وَمَا يَعِدُهُم الشَّيْطَان إلاَّ غُرُوراً).
ثم إنه عزم على أن يعمل دعوة لأسد الدين ومن معه من الأمراء، ويقبض عليهم؛ فنهاه ابنه الكامل وقال له: والله لئن عزمت على هذا الأمر لأعرفن أسد الدين. فقال له أبوه والله لئن لم أفعل هذا لنقتلن جميعاً. فقال: صدقت، ولأن نقتل ونحن مسلمون والبلاد بيد المسلمين خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج، فليس بينك وبين عود الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل فارساً واحداً، ويملكون البلاد؛ فترك ماكان عزم عليه فلما رأى العسكر النُّوري المطل من شاور اتفق صلاح الدين يوسف، وعز الدين جرديك، وغيرهما، على قتل شاور، وأعلموا أسد الدين بذلك، فنهاهم؛ فقالوا: إنا ليس لنا في البلاد شئ مهما هذا على حاله؛ فأنكر ذلك. واتفق أن أسد الدين سار بعض الأيام إلى زيارة قبر الشافعي، رضي الله عنه، وقصد شاور عسكره على عادته للاجتماع به، فلقيه صلاح الدين وعز الدين جرديك، ومعهما جمع من العسكر، فخدموه وأعلموه أن أسد الدين في الزيارة؛ فقال: نمضي إليه. فسار، وهما معه قليلاً، ثم ساوروه وألقوه عن فرسه؛ فهرب أصحابه وأخذ أسيراً، ولم يمكنهم قتله بغير أمر أسد الدين، فسجنوه في خيمته وتوكلوا بحفظه. فعلم أسد الدين الحال فعاد مسرعاً، ولم يمكنه إلا إتمام ما عملوه. وأرسل العاضد لدين الله، صاحب مصر، في الوقت، إلى أسد الدين يطلب منه رأس شاور ويحثه على قتله؛ وتابع الرسل بذلك. فقتل شاور في يومه، وهو سابع عشر ربيع الآخر، وحمل رأسه إلى القصر، ودخل أسد الدين إلى القاهرة، فرأى من كثرة الخلق واجتماعهم ماخاف منه على نفسه، فقال لهم: أمير المؤمنين قد أمركم بنهب دار شاور؛ فقصدها الناس ينهبونها، فتفرقوا عنه. هذا قول ابن الأثير.
وقال ابن شداد: أقام أسد الدين بها يتردد إليه شاور في الأحيان، وكان وعدهم بمال في مقابلة ما خسروه من النفقة، فلم يوصل إليهم شيئاً. وعلقت مخاليب الأسد في البلاد، وعلم الفرنج متى وجدوا فرصة أخذوا البلاد، وأن ترددهم إليها في كل وقت لايفيد، وأن شاوراً يلعب بهم تارة وبالإفرنج أخرى، وملاكها قد كانوا على البدعة المشهورة عنهم، وعلموا أنه لاسبيل إلى الاستيلاء على البلاد مع بقاء شاور. فأجمعوا أمرهم على قبضه إذا خرج إليهم، وكانوا هم يترددون إلى خدمته دون أسد الدين، وهو يخرج في الأحيان إلى أسد الدين يجتمع به. وكان يركب على قاعدة وزارتهم بالطبل والبوق والعلم، فلم يتجاسر على قبضه منهم إلا السلطان نفسه، يعنى صلاح الدين، وذلك أنه لما سار إليهم تلقاه راكباً وسار إلى جانبه ثم أخذ بتلابيبه، وأمر العسكر أخ خذوا على أصحابه، ففروا ونهبهم العسكر، وقُبض شاور وأنزل إلى خيمة مفردة. وفي الحال جاء التوقيع من المصريين على يد خادم خاص يقول لابد من رأسه، جرياً على عادتهم في وزارتهم في تقرير قاعدة من قوى منهم على صاحبه، فحزت رقبته وأنفذوا رأسه إليهم.
قال العماد: ودخل أسد الدين في الرابع من شهر ربيع الآخر الإيوان، وخُلع عليه ولقي الإحسان. وتردد شاور إلى أسد الدين وتودد، وتجدد بينهما من الوداد ما تأكد. وأقام للعسكر الضيافات الكثيرة، والأطعمة الواسعة، والحلاوات والميرة. فقال صلاح الدين: هذا أمر يطول، ومسألة فرضها يُعول، ومعنا هذا العسكر الثقيل، وإقامته بالإقامة يقصر عنها الأمد الطويل، ولاأمر لنا مع استلاء شاور، ولاسيما إذا راوغ وغادر. فأنفذ أسد الدين الفقيه عيسى إلى شاور يشير عليه بالاحتراز، وقال له: أخشى عليك من عندي من الناس. فلم يكترث بمقاله، وركب على سبيل انبساطه واسترساله، فاعترضه صلاح الدين في الأمراء النورية وهو راكب على عادته في هيبته الوزيرية، فبغته وشحته، وقبضه وأثبته، ووكل به في خيمة ضربها له، وحاول إمهاله. فجاء من القصر من يطلب رأسه، ويعجل من العمر يأسه. وجاء الرسول بعد الرسول، وأبوا أن يرجعوا إلا بنجح السُّول. فحم حمامه، وحمل إلى القصر هامه.
قلت: وبلغني أن الذي حز رقبة شاور هو عز الدين جرديك، وكان صلاح الدين لما لقيه في اصحابه سار بجنبه وأراد إفراده عن العسكر، فالتمس منه المسابقة بفرسيهما، فأجابه، ووافقهما في ذلك جُرديك. وكان ذلك عن أمر قد تقرر، فحركوا خيلهم، فلما بعدوا عن العسكر ووقفوا قبض صلاح الدين وجرديك على شاورداخل الخيمة.
وقد كثر هجاء شاور بغدره ومكره حتى قال عرقلة:
لقد فاز بالملك العقيم خليفة ... له شيركوه العاضديُّ وزير
كأن ابن شاذي والصلاح وسيفه ... عليُّ لديه شيَّرُ وشّبير
هو الأسد الضاري الذي جل خطبه ... وشاور كلب للرجال عقور
بغي وطغى، حتى لقد قال قائل ... على مثلها كان اللعين يدور
فلا رحم الرحمن تربة قبره ... ولا زال فيها منكر ونكير
وقال أيضاً:
إن أمير المؤمنين الذي ... مصر حِماه وعليُّ أبوه
نص على شاور فرعونها ... ونص موساها على شيركوه
وقد وصف الفقيه الشاعر أبو حمزة عمارة اليمني في كتاب الوزراء المصرية الذي صنفه حال شاور في وزارته الأولى، ثم قال: وزارة شاور الثانية: فيها تكشفت صفحاته، وأحرقت لفحاته، وأغرقت نفحاته، وغّضَّه الدهر وعضه، وأوجعه الثُّكل وأمضه، وبان غمره وثماده، وجمره ورماده، ولم يجف من الأنكاد لبده، ولاصفا من الأقذاء وِرْده. وما هو إلا أن تسلمها بالراحة، وسُلمت له الهموم عوضاً عن الراحة.
وفي أول ليلة دخل القاهرة ارتحل أسد الدين طالباً بلبيس، فأقام بها، ثم عاد إلى القاهرة، فكسر الناس يوم التاج وأسر أخوه صبح، وأصيب على باب القنطرة بحجر كاد يموت منه، وتعقب ذلك تنقل القتال على القاهرة حتى دخلت من الثغرة. ثم تبع هذا مجئ الفرنج، وعمل البرج، وحصار بلبيس؛ ثم تلا ذلك قيام يحيى بن الخياط طالباً للوزارة؛ ثم تلا ذلك نفاق لواته ومن ضامَّها من قيس، وخروج أخيه نجم الدين وابنه سليمان وجماعة من غلمانهم لحربهم ثم خروج ابنه الكامل في بقية العسكر. وفي أثناء هذه المدة قبضُه على الأثير بن جلب راغب وقتله، وأسر معالي بن فُريج ثم قتله.
واتصل إليه الخبر من قدوم أسد الدين إلى أطفيح بأم النوائب الكُبَر؛ ووافق مجئ الغز قدوم الفرنج ناصرين للدولة، وتوجهوا من مصر في البر الشرقي تابعين للغزِّ. ثم لاحت الفرصة للفرنج فعادوا إلى مصر واقترحوا من المال، ماتنقطع دونه الآمال، وخيموا على ساحل المقسم، وأظهروا رجوعهم إلى الشام؛ فتجهز الكامل للمسير صحبة الإفرنج. حدثني القاضي الأجل الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني، قال: أنا أذكر وقد خلونا في خيمة وليس معنا أحد، إنما هو شاور وابنه الكامل وأخوه نجم، فعزم الكامل على النهوض مع الفرنج، وعزم نجم الدين على التغريب إلى سليم وماوراءها، وقال شاور: لكن لاأبرح أقاتل بمن صفا معي حتى أموت. فنحن في ذلك حتى وصل إلينا الداعي ابن عبد القويّ وصنيعة المُلك جوهر وعزُّ الأستاذ وقد التزموا المال. وتفرع على هذا الأصل مقام الغز بالجيزة، ونوبة البابين، وحصار الإسكندرية، وانصراف الغز راجعين، والفرنج بعدهم.
فما هو إلا أن توهم شاور أن الدهر قد نام وغفا، وصفح عن عادته وعفا؛ وإذا الأيام لاتخطب إلا زواله وفوته، ولاتريد إلا انتقاله وموته. فكان من قدوم الفرنج إلى بلبيس وقتل من فيها وأسرهم بأسرهم ما أوجب حريق مصر، ومكاتبة الأجل نور الدين بن القسيم، وإنجاده كلمة الإسلام بأسد الدين ومن معه من المسلمين الذين قلت فيهم وقد ربط الإفرنج الطريق عليهم:
أخذتم على الإفرنج كل ثنَّية ... وقلتم لأيدي الخيل مرِّي على مرِّي
لئن نصبوا في البر جسراً، فإنكم ... عبرتم ببحر من حديد على الجسر
قلت: وهذان البيتان من قصيدة ستأتي. ومُرِّي هم أسم ملك الإفرنج.
قال عمارة: فقضى قدوم الغز برحيل الفرنج عن الديار المصرية، ولم يلبث شاور ان مات قتيلا بعد قدوم الغز بثمانية عشر يوماً. وهذه السنوات التي وزر فيها شاور وزارته الثانية كثيرة الوقائع والنوازل، وفيها ماهو عليه أكثر مما هوله.
قال: ولم يربِّ أحد رجال الدولة مثل مارباهم الصالح بن رُزّضيك، ولا أفنى أعيانهم مثل ضرغام، وكانت وزارته تسعة أشهر مدة حمل الجنين، ولا أتلف أموالهم مثل شاور؛ وشاور هو الذي أطمع الغز والإفرنج في الدولة حتى انتقلت عن أهلها.
ولما عاد من حصار الإسكندرية أكثر من سفك الدماء بغير حق: كان يأمر بضرب الرقاب بين يديه في قاعة البستان من دار الوزارة، ثم تسحب القتلى إلى خارج الدار.
وقال الحافظ أبو القاسم: لما خيف من شر شاور ومكره، لما عرف من غدره وضرّه، واتضح الأمر في ذلك واستبان، تمارض الأسد ليقتنص الثعلبان. فجاءه قاصداً لعيادته، وأراحا العباد والبلاد من شره وما شاورا. وكان ذلك برأي صلاح الدين، فإنه أول من تولى القبض عليه، ومد يده الكريمة بالمكروه إليه. وصفا الأمر لأسد الدين وملك، وخلع عليه الخلع وحنك؛ واستولى أصحابه على البلاد، وجرت أموره على السداد، وظهر منه جميل السيرة، وظهرت كلمة السنة.
فصل في وزارة أسد الدينوذلك عقيب قتل شاور وتنفيذ رأسه إلى القصر. أنفذ إلى أسد الدين خلعة الوزارة فلبسها، وسار ودخل القصر، وترتب وزيرا، ولقب بالملك المنصور أمير الجيوش، وقصد دار الوزارة فنزلها، وهي التي كان بها شاور فمن قبله من الوزراء، فلم ير فيها ما يقعد عليه. واستقر في الأمر ولم يبق له فيه منازع ولامناوئ. وولى الأعمال من يثق إليه، واستبد بالولاية، فأقطع البلاد العساكر التي قدمت معه؛ وصلاح الدين مباشر للأمور مقرر لها، وزمام الأمر والنهي مفوض إليه لمكان كفايته ودرايته، وحسن تأتيه وسياسته.
قال العماد: وكُتب لأسد الدين منشور من القصر، بسيط الشرح طويل الطي والنشر، كتب العاضد في طُرَّته بخطه، ولاشك أنه بإملاء كاتبه: " هذا عهد لاعهد لوزير بمثله، وتقلد أمانة رآك أمير المؤمنين أهلا لحمله، والحجة عليك عند الله بما أوضحه لك من مراشد سبله. فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة، واسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتك إلى نبوة النبوة. واتخذه للفوز سبيلا، ولاتنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا " .
ونسخة المنشور: من عبد الله ووليه أبي محمد العاضد لدين الله أمير المؤمنين، إلى السيد الأجل، الملك المنصور، سلطان الجيوش، ولى الأئمة، مجير الأمة، أسد الدين، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، أبي الحارث شيركوه العاضدي، عضد الله به الدين، وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته، وأعلى كلمته. سلام عليك، فإنه يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وعلى آله الطاهرين، والأئمة المهديين وسلم تسليما).
ثم ذكر باقي المنشور، وهو مشتمل على كلام طويل، وحشو غير قليل، على عادة الكتاب المتأخرين الذين نراهم بالألفاظ الكثيرة عن المعتى اليسير معبرين، والبلاغة عكس ذلك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " بعثت بجوامع الكلم واختُصر لي الكلام اختصاراً " .
ولما أستقل أسد الدين بالوزارة طلب من القصر كاتب إنشاء، فأرسل إليه بالقاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني. وكان أبوه من أهل بيسان الشام. ثم ولي قضاء عسقلان؛ وخرج الفاضل إلى الديار المصرية فولي كاتباً بالإسكندرية على باب السِّدرة. ثم إنه أتصل بالكامل بن شاور فاستكتبه وزارحم به كتّاب القصر، فثقل عليهم أمره، فلما طلب أسد الدين كاتباً أُرسل إليه، وظن رؤساء ديوان المكاتبات أن هذا أمر لايتم، وأن أسد الدين سيقتل كما قتل من كان قبله، فأرسلوا بالفاضل إليه وقالوا لعله يُقتل معه فنخلص من مزاحمته لنا. فكان من أمره ماكان، واستمر في الدولة، ولم يزدد في كل يوم إلا تقدماً، بصدقه ودينه وحسن رأيه، رحمه الله.
وأنفذ العماد قصيدة طويلة تهنئة لأسد الدين أولها:
بالجد أدركت ما أدركت لا اللعب ... كم راحة جُنيت من دوحة التعب
ياشيركوه بن شاذي الملك دعوة من ... نادى، فعرَّف خير ابن بخير أب
جرى الملوك وما حازوا بركضهم ... من المدى في العلا ماحزت بالخبب
تَمَلَّ من ملك مصر رتبة قصرت ... عنها الملوك فطالت سائر الرتب
فتحت مصر، وأرجو أن تصير بها ... ميسراً فتح بيت القدس عن كثب
قد أمكنت أسد الدين الفريسة من ... فتح البلاد، فبادر نحوها، وثِب
أنت الذي هو فرد من بسالته ... والدين من عرفه في جحفل لجب
في حلق ذي الشرك من عدوي سطاك شجاً ... والقلب في شجن، والنفس في شجب
زارت بني الأصفر البيض التي لقيت ... حمر المنايا بها مرفوعة الحجب
وإنها نَقَد من خلفها أسد ... أرى سلامتها من أعجب العجب
لقد رفعنا إلى الرحمن أيدينا ... في شكرنا ما به الإسلام منك حُبى
شكا إليك بنو الإسلام يُتْمهم ... فقمت فيهم مقام الوالد الحدب
في كل دار من الإفرنج نادبة ... بما دهاهم، فقد باتوا على ندب
من شر شاور أنقذت العباد، فكم ... وكم قضيت لحزب الله من أرب
هو الذي أطمع الإفرنج في بلد ال ... إسلام حتى سعوا للقصد والطلب
وإن ذلك عند الله محتسب ... في الحشر من أفضل الطاعات والقرب
أذله الملك المنصور منتصراً ... لما دعا الشرك: هذا قد تعزز بي
وما غضبت لدين الله منتقماً ... إلا لنيل رضا الرحمن بالغضب
وأنت من وقعت في الكفر هيبته ... وفي ذويه وقوع النار في الحطب
وحين سرت إلى الكفار فانهزموا ... نُصرت نصر رسول الله بالرعب
يامحيي الأمة الهادي بدعوته ... للرشد كل غَوِيّ منهم وغبي
لما سعيت لوجه الله مرتقباً ... ثوابه، نلت عفواً كل مرتقب
أعدت نقمة مصرٍ نعمةً، فغدت ... تقول: كم نكتٍ لله في النكب
أركبت رأس سنان رأس ظالمها ... عدلا، وكنت لوزرٍ غير مرتكب
ردَّ الخلافة عباسيةً، ودع الد ... عيَّ فيها يصادف شر منقلب
لا تقطعن ذنب الأفعى وتريله ... فالحزم عندي قطع الرأس كالذنب
وقال العماد في الخريدة: أنشدني الحافظ أبو القاسم لنفسه، وقد أعفى الملك العادل نور الدين، قدس الله روحه، أهل دمشق من المطالبة بالخشب فورد الخبر باستيلاء عسكره على مصر، فكتب إليه يهنيه:
لما سمحت لأهل الشام بالخشب ... عُوضِّت مصر بما فيها من النشب
وإن بذلت لفتح القدس محتسباً ... للأجر جوزيت أجراً غيرَ محتسب
والأجر في ذاك عند الله مرتقب ... فيما يثيب عليه خيرُ مرتقب
والذكر بالخير بين الناس تكسبه ... خير من الفضة البيضاء والذهب
ولست تعذر في ترك الجهاد وقد ... أصبحت تملك من مصر إلى حلب
وصاحب الموصل الفيحاء ممتثل ... لما تريد، فبادر فجأة النوب
فأحزم الناس من قويَّ عزيمته ... حتى ينال بها العالي من الرتب
فالجَدُّ والْجِدُّ مقرونان في قرن ... والحزم في العزم، والإدراك بالطلب
فطهر المسجد الأقصى وحوزته ... من النجاسات، والإشراك، والصلب
عساك تظفر في الدنيا بحسن ثناً ... وفي القيامة تلقى خير منقلب
فصل في وفاة أسد الدين شيركوه وولاية ابن أخيه صلاح الدين مكانهتوفي أسد الدين فجأة يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة فكانت وزارته شهرين وخمسة أيام.
وقال ابن شداد: كان أسد الدين كثير الأكل شديد المواظبة على تناول اللحوم الغليظة، تتواتر عليه التخم والخوانيق وينجو منها بعد معاناة شدة عظيمة، فأخذه مرض شديد، واعتراه خانوق عظيم، فقتله رحمه الله. وفَوض الأمر بعده إلى صلاح الدين واستقرت القواعد واستتبت الأحوال على أحسن نظام. وبذل الأموال، وملك الرجال، وهانت عنده الدنيا فملكها، وشكر نعمة الله عليه فتاب عن الخمر وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمص بلباس الجد والاجتهاد، وما عاد عنه ولا ازداد إلا جدا، إلى أن توفاه الله تعالى إلى رحمته. ولقد سمعت منه، رحمه الله، يقول: لما يسر الله لي الديار المصرية علمت أنه أراج فتح الساحل لأنه أوقع ذلك في نفسي. ومن حين استتب له الأمر مازال يشن الغارات على الفرنج إلى الكرك والشوبك وبلادهما، وغشى الناس من سحائب الأفضال والنعم ما لم يؤرخ عن غير تلك الأيام. هذا كله وهو وزير متابع للقوم، لكنه مُقوٍّ مذهب السنة، غارسٌ في البلاد أهل العلم والفقه والتصوف والدين، والناس يهرعون إليه من كل صوب ويفدون إليه من كل جانب؛ وهو رحمه الله، لايخيب قاصداً، ولايعدم وافداً.
ولما عرف نور الدين استقرار أمر صلاح الدين بمصر أخذ حمص من نواب أسد الدين، وذلك في رجب من هذه السنة.
وقال ابن الأثير: أما كيفية ولاية صلاح الدين فإن جماعة من الأمراء النُّورية الذين كانوا بمصر طلبوا التقدم على العساكر وولاية الوزارة، منهم الأمير عين الدولة الياروقي، وقطب الدين خسرو بن تليل، وهو ابن أخي أبي الهيجاء الهذَباني الذي كان صاحب إربل، ومنهم سيف الدين علي بن أحمد الهطاري، وجده كان صاحب قلاع الهَكّارية، ومنهم شهاب الدين محمود الحارمي وهو خال صلاح الدين؛ وكل من هؤلاء قد خطبها، وقد جمع ليغالب عليها. فأرسل الخليفة العاضد إلى صلاح الدين، فأمره بالحضور في قصره ليخلع عليه خلع الوزارة، ويوليه الأمر بعد عمه.
وكان الذي حمل العاضد على ذلك ضعف صلاح الدين، فإنه ظن أنه إذا ولى صلاح الدين وليس له عسكر ولارجال، كان في ولايته بحكمه ولايجسر على المخالفة، وأنه يضع على العسكر الشامي من يستميلهم إليه، فإذا صار معه البعض أخرج الباقين وتعود البلاد إليه، وعنده من العساكر الشامية من يحميها من الفرنج ونور الدين. فامتنع صلاح الدين وضعفت نفسه عن هذا المقام، فألزم به وأخذ كارهاً. إن الله ليعجب من قوم يقادون إلى الجنة بسلاسل! فلما حضر في القصر خلع عليه خلعة الوزارة: الجبة والعمامة وغيرهما، ولقب بالملك الناصر، وعاد إلى دار أسد الدين فأقام بها، ولم يلتفت إليه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم ولا خدموه.
وكان الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري معه فسعى مع سيف الدين علي بن أحمد حتى أماله إليه، وقال له: إن هذا الأمر لايصل إليك مع وجود عين الدولة والحارمي وابن تليل، فمال إلى صلاح الدين. ثم قصد شهاب الدين الحارمي وقال له: إن صلاح الدين هو ابن أختك وملكه لك، وقد أستقام الأمر له، فلا تكن أول من يسعى في إخراجه عنه فلا يصل إليك؛ ولم يزل به حتى أحضره أيضاً عنده وحلَّفه له. ثم عدل إلى قطب الدين وقال له: إن صلاح الدين أن أصله من الأكراد فلا يخرج الأمر عنه إلى الأتراك؛ ووعده وزاد في إقطاعه؛ فأطاع صلاح الدين أيضاً. وعدل إلى عين الدولة الياروقي، وكان أكبر الجماعة وأكثرهم جمعاً، فلم تنفعه رقُاه ولانفذ فيه سحره، وقال: أنا لاأخدم يوسف أبداً، وعاد إلى نور الدين ومعه غيره، فأنكر عليهم فراقه وقد فات الأمر، ليقضى الله أمراً كان مفعولا، وثبت قدم صلاح الدين ورسخ ملكهه؛ وهو نائب عن الملك العادل نور الدين، والخطبة لنور الدين في البلاد كلها، ولايتصرفون إلا عن أمره.
وكان نور الدين يكاتب صلاح الدين بالأمير الأسفهسلار ويكتب علامته في الطتب تعظيماً أن يكتب اسمه، ولايفرده في كتاب بل يكتب: الأمير الأسفهسلار صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا وكذا.
واستمال صلاح الدين قلوب الناس وبذل لهم الأموال مما كان أسد الدين جمعه، وطلب من العاضد شيئاً يخرجه، فلم يمكنه منعه. فمال الناس إليه وأحبوه، وقويت نفسه على القيام بهذا الأمر والثبات فيه، وضعف أمر العاضد، وكان كالباحث عن حتفه بظلفه.
وأرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه إخوته، فلم يجبه إلى ذلك، وقال: أخاف أن يخالف أحد منهم عليك فتفسد البلاد. ثم إن الفرنج اجتمعوا ليسيروا إلى مصر، فسير نور الدين العساكر، وفيهم إخوة صلاح الدين، منهم شمس الدولة تورانشاه بن أيوب وهو أكبر من صلاح الدين. فلما أراد أن يسير قال له: إن كنت تسير إلى مصر وتنظر إلى أخيك أنه يوسف الذي كان يقوم في خدمتك وأنت قاعد فلاتسر، فإنك تفسد البلاد، وأُحضرك حينئذ وأعاقبك بما تستحقه؛ وإن كنت تنظر إليه أنه صاحب مصر وقائم فيها مقامي، وتخدمه بنفسك كما تخدمني، فسر إليه واشدد أزره، وساعده على ما هو بصدده. فقال: أفعل معه من الخدمة والطاعة مايصل إليك إن شاء الله تعالى، فكان كما قال.
وقال العماد: لما فُرغ بعد ثلاثة أيام من التعزية بأسد الدين اختلفت آراؤهم واختلطت أهواؤهم، وكاد الشمل لاينتظم، والخلل لايلتئم. فاجتمع الأمراء النُّورية على كلمة واحدة، وأيد متساعدة، وعقدوا لصلاح الدين الرأي والراية، وأخلصوا له الولاء والولاية، وقالوا: هذا قائم مقام عمه ونحن بحكمه، والتزموا لصاحب القصر بتوليته. ونادت السعادة بتلبيته، وشرع في ترتيب الملك وتربيته، وفض ختوم الخزائن، وابضَّ رسوم المزائن، وأنارت على منار العلا أناة آياته، ورأى أولياءه تحت ألويته وراياته، وأحبوه، ومازالت محبته غالبة على مهابته، وهو يبالغ في تقريبهم كأنهم ذوو قرابته. ومازاده الملك ترفعاً، وما أفاده إلا تأصلا في السماح وتفرعاً؛ وضم من أمر المملكة ماكان منشوراً، وكتب له العاضد صاحب القصر منشوراً، وهو بالمثال الكريم الفاضلي الذي هو السحر الحلال، والعذب الزلال. ثم أورده العماد وهو شبيه بمنشور عمه أسد الدين. وجرى القلم فيه بما خط له القلم في الأزل من وصف جهاده وسلمه.
ففي ذلك المنشور: والجهاد أنت رضيع دَرِّه، وناشئة حجره، وظهور الخيل مواطنك، وظلال الخيام مساكنك، وفي ظلمات قساطله تُجلى محاسنك، وفي أعقاب نوازله تتلى مناقبك. فشمر له عن ساق من القنا، وخُض فيه بحراً من الظبا، واحلل في عقد كلمة الله وثيقات الحبا، وأَسل الوهاد بدم العدا، وارفع برؤسهم الربا، حتى يأتي الله بالفتح الذي يرجو أمير المؤمنين أن يكون مذخوراً لأيامك، وشهوداً لك يوم مقامك).
وفي طرَّته بالخط العاضدي، ولم يذكره العماد في كتابه: هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عند الله سبحانه عليك، فأوف بعهدك ويمينك، وخذ كتا أمير المؤمنين بيمينك، ولمن مضى بجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن أسوة، ولمن تبقى بثقته بنا أعظم سلوة. تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين).
يعني بمن مضى أسد الدين وبمن بقي صلاح الدين.
ثم قال العماد: وهذا آخر منشور طويت به تلك الدولة وختمت، وتبددت عقودها وما انتظمت.
ووصلت كتب صلاح الدين إلينا إلى الشتم، بما تسنى له من المرام، ولمن يقصده بالاستدعاء والاستبطاء، ولمن تأخر عنه بالخلع والعطاء. وترددت الكتب الصلاحية بذكر الأشواق، وشكو الفراق، وشرح الاستيحاش، وبرح القلوب العطاش، فإن أصحابنا وإن ملكوا، ونالوا مقاصدهم وأدركوا، حصلوا بين أمة لايعرفونها، بل ينكرونها فإن أجناد مصر كانوا في الدين مخالفين، وعلى عقيدتهم معاقدين محالفين.
وكتب صلاح الدين إلى بعض أصدقائه كتاباً أوله:
أيها الغاائبون عني، وإن كن ... تم لقلبي بذكركم جيرانا
إنني مذ فقدتكم لأراكم ... بعيون الضمير عندي عياناً
فسألني المكتوب إليه أن أكتب جوابه، فقلت:
أيها الظاعنون عني، وقلبي ... معهم لايفارق الأظعانا
ملكوا مصر مثل قلبي، وفي ه ... ذا وهاتيك أصبحوا سكاناً
فاعدلوا فيهما فإنكم اليو ... م ملكتم عليهما سلطاناً
لاتروعُوا بالهجر قلب محب ... أورثته روعاته الخفقانا
حبذا معهد قضينا به العي ... ش فكنا بربعه جيرانا
إذ وجدنا من الحوادث أمناً ... وأخذنا من الخطوب أمانا
ورتعنا من المنى في رياض ... وسكنا من المغاني جنانا
وبعد، فإن وفود الهناء، وأمداد الدعاء، متواصلة على الولاء، صادرة عن محض الولاء، إلى غاية جنابه المأنوس، ومنيع كنفه المحروس، فليهنه اظفران: بالملك وبالعدو، وفرع هضاب المجد والعلو؛ وكيف لايكون النصر مساوقا لدين هو صلاحه، والتأييد مرافقاً لعزم نجاحه وفلاحه:
فالشام يغبط مصراً مذ حللت بها ... كما الفرات عليكم يحسد النيلا
نلتم من الملك عفواً ما الملوك به ... عُنوا قديماً وراموه فما نيلا
قال العماد: و رثيت أسد الدين بقصيدة خدمت بها نور الدين وعزيت بها أخاه نجم الدين، منها:
تضعضع في هذا المصاب المباغت ... من الدين، لولا نوره، كل ثابت
فأيام نور الدين دامت منيرة ... لنا، خلفاً من كل مودٍ وفائت
فما بالنا نبدي التصامم غفلةً ... وداعي المنايا ناطق غير صامت
نؤمل في دار الفناء بقاءنا ... ونرجو من الدنيا صداقة ماقت
وما الناس إلا كالغصون، يد الردى ... تقرِّب منها كل عود لناحت
لقد أبلغت رًسل المنايا وأسمعت ... ولكنها لم تحظ منا بناصت
فلهفي على تلك الشمائل، إنها ... لقد كرمُت في الحسن عن نعت ناعت
وله من أخرى عزى بها أخاه نجم الدين أيوب وولده ناصر الدين محمداً، يقول:
ما بعد يومك للمعنى المدنف ... غير العويل وحسرة المتأسف
ما أجرا الحدثان! كيف سطا على ال ... أسد المخوف سطا ولم يتخوف
من ذا رأى الأسد الهصور فريسة ... أم أبصر الصبح المنير وقد خفى
من ثابتٌ دون الكماة سواه إن ... زلت بهم أقدامهم في الموقف؟
ومنها:
ياناصر الدين استعذ بتصبر ... مُدْن إلى مرضاة ربٍ مزلف
وتعزَّ نجم الدين عنه مهنَّأً ... أبد الزمان بملك مصر ويوسف
لاتستطيع سوى الدعاء، فكلنا ... إلا بما في الوسع، غير مكلف
ولعمارة اليمني في صلاح الدين مدائح، منها قوله:
لك الحسب الباقي على عقب الدهر ... بل الشرف الراقي إلى قمة النَّسر
كذا فليكن سعى الملوك إذا سعت ... بها الهمم العليا إلى شرف الذكر
نهضتم بأعباء الوزارة نهضة ... أقلتم بها الأقدام من زلة العثر
وقال أيضاً من قصيدة:
ياشبيه الصديق عدلا وحسناً ... وسميَّاً حكاه معنى ومغنى
هذه مصر يوسف، حل فيها ... يوسفٌ مالكا وما حل سجنا
أنت حرَّمت أن يثلَّث فيها ... بسوى الله وحده أو يثنى
إنما الملك والوزارة جسم ... أنت روح فيه، وفي اللفظ معنى
وقال أيضاً من قصيدة:
ملكُ صلاح الدين، لاقوضت ... أطنابه، ملك التقى والصلاح
سيرة عدل حسَّنت عندنا ... ماكان من وجه الليالي القباح
سافر في الدنيا وأقطارها ... ذكرٌ غدا عنه جميلا وراح
قل لابن أيوب، وكم ناصح ... أنفع ممن هو شاكي السلاح
حارب على مثل نجوم السما ... فملك مصر ما عليه اصطلاح
قولا لمن في عزمه فترة ... ارجع إلى الجد وخل المزاح
فالقدس قد أذَن إغلاقه ... على يدي يوسف بالإنفتاح
وقال أيضاً من قصيدة:
ونُبت بمصر عن سميك يوسفٍ ... كما ناب عن سكب الحيا واكفٌ سكب
فصلوهذا الذي ذكرناه من قصة شاور وما جرى بسببه في الديار المصرية إلى أن تمت وزارة صلاح الدين قد وجدته مبسوطاً مشتملاً على زيادات وفوائد في كتاب ليحيى ابن أبي طيّ الحلبي في السيرة الصلاحية، فأحببت ذكره مختصراً.
ذكر أن الملك الصالح طلائع بن رُزيك، وزير الديار المصرية، لما قتل في رمضان سنة ست وخمسين، بتدبير عمه العاضد عليه، أوصى عند موته ابنه رزيك بشاور، وقال له: لاتزلزله من ولايته فإنه أسلم لك. ويقال إنه أنشد أبياتاً منها:
فإذا تبدد شمل عقدكما ... لاتأمنا من شاور السعدي
وكان شاور متولي قوص والصعيد الأعلى؛ فلما دفن الصالح استوزر ابنه رزيك ولقب بالعادل. ولما أستقرت أحواله أرسل إلى عمة العاضد فخنقها؛ واجتمع إلى رزيك أولاد عمته، ومن جملتهم عز الدين حسام، وأشاروا عليه بعزل شاور، فامتنع، ثم ألحوا عليه فأجاب. وبلغ شاوراً فجاهر بالعصيان وجمع العربان وأهل الصعيد وصار إلى القاهرة، وخرج إليه جماعة من أمرائها كانوا كاتبوه، فخرج رزيك تحت الليل فضل الطريق وتاه، فوقع عند إطفيح، وثمَّ بيوت عرب، فقبضوا عليه؛ وحُمل إلى شاور وقد دخل القاهرة وتسلمها، وأخرجت إليه خلع الوزارة وتم أمره.
ولما حصل رُزَّيك عند شاور أكرمه وصلب الذي أتى به ونادى عليه: هذا جزاء من لايراعي الجميل؛ وكان للصالح إليه إحسان. وتفرَّق آل رزيك في البلاد، ونجا حسام الذي كان سبب هلاك بني رزيك بأموال وصار إلى حماة فأقام بها واشترى القرى، ولم يزل بها إلى أن مات. وكان في خروجه أودع عند الفرنج سبعين ألف دينار فوفوا له وردوها عليه. ثم أراد تقي الدين أخذها منه، فقال: من العجب أن الفرنجي يفي لي بردها وةأخذها أنت مني. فكف عنه.
وتمكن شاور، وكان له ثلاثة أولاد: طيّ، والكامل، وسليمان، فتبسطوا على الناس وتعاظموا فمجتهم الأنفس.
وكان مُلهم وأخوه ضرغام من صنائع الصالح بن رزيك؛ فلما شاهدا ميل الناس عن شاور بسبب أولاده أخذا في مراسلة رزيك بن الصالح، وهو في السجن، والعمل له في إعادته إلى الوزارة. واتصل ذلك بطيّ بن شاور، فدخل على أبيه وقال له: أنت غافل ومُلْهم وضرغام يفسدان أمرك، وقد شرعا في أمر رزيك واستحلفا له جماعة من الأمراء، ولايمكن تلافي حالك إلا بقتل رزيك. فقال له: إن الصالح أولاني جميلا وبسببه حللت هذا المحل. فتركه ولده طيّ، ودخل على رزيك فقتله في سجنه، وسمع شاور ذلك فقامت قيامته؛ ونُمى الخبر إلى ضرغام وأخيه ملهم فثارا وأثارا من استحلفاه من الأمراء، وزحفا بالعساكر إلى شاور فانهزم وخرج من باب القاهرة وهرب إلى الشام. وأدرك ضرغام ولديه طياً وسليمان فقتلهما، وأسر الكامل فأخذه ملهم واعتقله عنده، وأراد ضرغام قتله فمنعه منه ملهم وحفظ له جميلا كان قد فعله معه.
واستقر أمر ضرغام في الوزارة وخلُع عليه ولقب بالملك المنصور. ولما استقر به الأمر بلغه أن جماعة من الأمراء حسدوه واستصغروه وكاتبوا شاوراً، وكان صار إلى الشام، فأخذ في إعمال الحيلة عليهم وأحضرهم إلى دار الوزارة ليلاً فقتلهم جميعاً، ولم يتعرض لأموالهم ولا لمنازلهم. وقيل إنه قتل منهم سبعين أميراً، ويقال إنه جعلهم في توابيت وكتب على كل تابوت اسم صاحبه، فكان ذلك أكبر الأسباب في هلاكه، وخروج دولة المصريين عن يد أصحابها لأنه أضعف عسكر مصر بقتل الأمراء.
وأما شاور فإنه لما خرج من القاهرة سار على وجهه حتى وصل إلى دمشق بعد تحققه قتل ولديه. ولما وصل إلى بُصرى اتصل خبره بنور الدين فندب جماعة إلى تلِّقيه، وأنزله في جوسق الميدان الأخضر، وأحسن ضيافته وإكرامه. ثم بعد سبعة أيام من مقدمه أحضر نور الدين ابن الصوفي وجماعة من وجوه الدمشقيين وقال لهم: اخرجوا إلى هذا الرجل وسلموا عليه وعرفوه اعذارنا في التقصير في حقه، وسلوه فيما قدم، وماحاجته، فإن كان ورد علينا مختاراً للإقامة أفردنا له من جهاتنا ما يكفيه ويقوم بأربه وأوده، ونكون عوناً له على زمانه، وإن كان ورد لغير ذلك فيصفح عن حاجته. فخرج الجماعة إليه بالرسالة فشكر إحسان نور الدين وسكت عما وراء ذلك. فسأله القوم الجواب، فقال: إذا لم يبيَّت الرأي جاء فطيراً. فعاد القوم إلى نور الدين وعرفوه مادار بينهم وبينه، فأمرهم بالعود إليه من غد ذلك اليوم، ففعلوا، وطلبوا الجواب، فسكت وأطال أيضاً، ثم قال: إن رأي نور الدين، أطال الله بقاءه، الاجتماع بي فله علُّو الرأي. فعرَّفوا نور الدين بمقالته، فأجاب نور الدين أن يكون الاجتماع على ظهر بالميدان الأخضر. وركب نور الدين من الغد في وجوه دولته وخواص مملكته في أحسن زي وأكمل شارة. فلما دخل الميدان ركب شاور من الجوسق والتقيا في وسط الميدان بالتحية فقط، ولم يترجل أحد منهما لصاحبه. ثم سارا من موضع اجتماعهما، وهو نصف الميدان، إلى آخره، ثم انفصلا من هناك وعاد نور الدين إلى قلعة دمشق، وأخذ وقته ذلك في جمع العساكر.
وأما ضرغام فإنه حين استقر به الأمر أنشأ كتاباً إلى نور الدين، على يد علم الملك ابن النحاس، يظهر فيه الطاعة ويعرِّض بخذلان شاور، فأظهر نور الدين لعلم الملك القبول في الظاهر وهو شاور في الباطن، وأجاب عن الكتاب، وانفصل علم الملك عن دمشق. فلما كان بظاهر الكرك أخذه فيليب بن الرفيق الفرنجي وحصل على جميع ماكان معه، وانهزم علم الملك بنفسه وتوجه إلى الساحل وسار إلى مصر.
وكان شاور قد أطمع نور الدين في أموال مصر ورغبه في ملكها، وأنه إذا ملكها كان من قبله فيها.
ولما بلغ شاوراً استتبابُ أمر العسكر سأل عن المقدم عليه، فقيل له أسد الدين شيركوه، فلم يطب له ذلك، لأنه ظن أن التقدمة تكون له، فلما زُحم بهذا العود سُقط في يده، وفت في عضده، ولم يجد بداً من المسير. فخرج واجتمع بأسد الدين وسارا جميعاً حتى وصلوا أطراف البلاد المصرية ونزلوا على تل في الحوف قريب من بلبيس يعرف بتل بسطة، وضربوا خيامهم هناك.
ولما اتصل بضرغام خبر ورود شاور وأسد الدين بالعساكر الشامية جمع أمراء مصر واستشارهم؛ فأشار شمس الخلافة محمد بن مختار بأن تجتمع العساكر وتخرج جريدة وتلقى العساكر الشامية بصدر، وهي على يومين من القاهرة، فإنهم لايثبتون، لكونهم خرجوا من البرية ضعفاء، ولمكان قلة الماء عليهم، لأن المسافر إلى مصر يحمل الماء من أيْلة مسيرة ثلاثة أيام، فلم يروا ذلك واختاروا أن يلقوهم على بلبيس. فأمر ضرغام الأمراء بالخروج، فخرجوا في أحسن زي وأكمل عدة، والمقدَّم عليهم ناصر الدين مُلْهم، أخو ضرغام، وجاءوا حتى أحاطوا بالتل الذي كان أسد الدين نازلا عليه.
ولما عاين أسد الدين كثرة العساكر وأنهم قد ملكوا عليهم الجهات وسدوا منافذ الطرقات، قال لشاور: ياهذا، لقد أرهقتنا وغررتنا، وقلت إنه ليس بمصر عساكر، فجئنا في هذه الشرذمة! فقال له شاور: لايهولنك ما تشاهد من كثرة الجموع فأكثرها الحاكة والفلاحون الذين يجمعهم الطبل وتفرقهم العصا، فما ظنك بهم إذا حمى الوطيس وكلبت الحرب! وأما الأمراء فإن كتبهم عندي وعهودهم معي، وسترى ذلك إذا لقيناهم. ثم قال: أريد أن تأمر العساكر بالاستعداد للوثوب، ففعل، ونهاهم شاور عن القتال.
ووقف الفريقان مصطفين من غير حرب إلى أن حمى النهار والتهب الحديد على أجساد الرجال، فضرب أكثر أهل مصر الخيم الصغار، وخلعوا السلاح، ونزلوا عن الخيول، وجلسوا في الظل. فأمر شاور الناس بالحملة فكان أسعد أهل مصر من ركب فرسه وأطلق عنانه وولى منهزماً. وتركوا خيمهم وأموالهم ليس بها حافظ، فاحتوى عليها أصحاب أسد الدين، وأُسر شمس الخلافة وجماعة من أمراء المصريين، ولم يمكن شاور من تقييدهم والاحتياط عليهم فهربوا. وساق أسد الدين وشاور في أثر الناس، ونزلوا على القاهرة وقاتلوها أياماً. وراسل شاورُ العاضد في إصلاح الحال وأن يأذن له في الدخول إلى القاهرة، فأذن له.
وكان ضرغام صار إلى تحت القصر وقال: أريد أمير المؤمنين يكلمني لأسأله عما أفعل، فلم يجبه أحد. فذهب على وجهه منهزماً، وخرج من باب زويلة والعامة تلعنه وتصيح عليه، فالتحقه رجل من أهل الشام ليقتله، فقال له ضرغام: أوصلني إلى أسد الدين ولك مناك، فلم يقبل منه وحمل عليه فطعنه، فأرداه، ونزل إليه واحتز رأسه وحمله إلى أسد الدين، وأعلمه بما جرى بينهما، فصعب على أسد الدين وأوجعه ضرباً، وأراد قتله، فشفع فيه شاور. ودخل شاور القاهرة وقتل ملهماً أخا ضرغام عند بركة الفيل، وخرج ابنه الكامل من دار ملهم، وكان معتقلاً فيها، وخرج معه القاضي الفاضل، وكان أيضاً معتقلا فيها معه.
واستقام أمر شاور في الوزارة، وأقام أسد الدين على المقسم ينتظر أمر شاور فيما ضمن لنور الدين، وأرسل إليه يقول له: قد طال مقامنا في الخيم وقد ضجر العسكر من الحر والغبار. فأرسل إليه شاور ثلاثين ألف دينار وقال: ترحل الآن في أمن الله تعالى ودعته. فلما سمع أسد الدين ذلك أرسل إليه: إن نور الدين أوصاني عند انفصالي عنه، إذا ملك شاور تكون مقيما عنده، ويكون لك ثلث مُغَلِّ البلاد، والثلث الآخر لشاور وللعسكر، والثلث الآخر لصاحب القصر يصرفه في مصالحه. فقال شاور: أنا ما قررت شيئاً مما تقول، أنا طلبت نجدة من نور الدين، فإذا انقضى شغلي عادوا إلى الشام. وقد سيرت إليكم نفقةً فخذوها وانصرفوا، وأنا أتصرف مع نور الدين. فقال أسد الدين: أنا لايمكنني مخالفة نور الدين، ولا أقدر على الانصراف إلا بإمضاء أمره. فأمر شاور بإغلاق باب القاهرة، وأخذ في الاستعداد للحصار، واستعد أسد الدين أيضاً، وسيَّر صلاح الدين في قطعة من الجيش إلى بلبيس لجمع الغلال والأتبان والأحطاب وما تدعوا الحاجة إليه، ويكون جميع ذلك في بلبيس ذخيرة، وأخذ في قتال القاهرة.
وكاتب شاور ملك الفرنج مُرِّي يستنجده ويقول له: إن شيركوه طلع معي نجدةً على ضرغام، فلما حصلوا في البلاد طمعوا فيها، ومتى ملكوها مضافةً إلى بلاد الشام لم يكن لك معهم عيش ولاقرار. وضمن له في كل مرحلة يرحلها إلى ديار مصر ألف دينار، وقرر شيئاً لقضيم دوابهم وشيئاً لاسبتاريته. فخرج مُرِّي من عسقلان في جموعه إلى فاقوس في سيع وعشرين مرحلة، وقبض عنها سبعة وعشرين ألف دينار.
ولما تحقق أسد الدين قرب الفرنج من القاهرة أجفل عنها إلى بلبيس، وانضاف إليه من أهلها الكنانَّية. وخرج شاور في عساكر مصر واجتمع بالفرنج، وجاء حتى خيَّم على بلبيس وأحاط بها محاصراً لأسد الدين، يباكر الحرب ويراوحها، وأقاموا على ذلك مدة ثمانية أشهر.
وانقطعت أخبار مصر ومن بها عن نور الدين، وكان اتصل بنور الدين، وهو بدمشق خبر مسير الفرنج إلى ديار مصر وغدر شاور؛ فكاتب الأطراف بقدوم العساكر، فقدم عليه عساكر الشرق جميعها واجتمعوا بأرض حلب، فنزل بهم مجد الدين بن الدّاية، وكان نائب نور الدين بحلب، وسار إلى جهة حارم ونزل على أرتاح، وخرج نور الدين من دمشق وشن الغارة على الساحل، وقتل وأسر عالماً عظيماً، ثم قصد جهة حلب وجعل طريقه حصن الأكراد؛ فلما حصل بأرضه شن الغارة فيها وغنم غنيمة عظيمة، ونزل في مرجه، فخرج إليه الفرنج الإخوة من حصن الأكراد وهجموا عسكره، وقتلوا جماعة من المسلمين؛ وكان عسكر نور الدين غافلا فلم يتماسك الناس وساروا على وجوههم.
وسار نور الدين إلى أن اجتمع بعساكره على أرتاح، وكان أخوه نصرة الدين مع الفرنج، فلما عاين أعلام نور الدين لم يتماسك أن حمل بجميع أصحابه قاصداً أخاه نور الدين، فلما قَرُب منه نزل وقبل الأرض فلم يلتفت عليه، فتم على وجهه. واصطف الناس للحرب، فحملت الفرنج فكسرت الميسرة، ثم عادت فوجدت راجلها جميعه قد قتل والخيل قد أطبقت عليهم، فنزلوا عن الخيل وألقوا أسلحتهم وأذعنوا بالأمان، فأخذوا جميعاً قبضاً بالأيدي.
وسار إلى حارم ففتحها، وأراد النزول على أنطاكية فلم يتمكن لشغل قلبه بمن في مصر من المسلمين؛ فانحرف قاصداً لدمشق، ونزل على بانياس، فافتتحها. وأغار على بلد طبرية وجمع أعلام الفرنج وشعافهم وجعلها في عيبة وسلمها إلى نَجَّاب، وقال له: أريد أن تُعمل الحيلة في الدخول إلى بلبيس، وتخبر أسد الدين بما فتح الله على المسلمين، وتعطيه هذه الأعلام والشعاف، وتأمره بنشرها في أسواق بلبيس، فإن ذلك مما يفتُّ في أعضاد الكفار ويدخل الوهن عليهم. ففعل ذلك. فلما رأى الفرنج الأعلام والشعاف قلقوا لذلك وخافوا على بلادهم، وسألوا شاوراً الإذن في الانفصال. فانزعج شاور لذلك، وخاف من عاقبة الأمر، وسألهم التَّمُّهل أياماً؛ وجمع أمراءه للمشورة، فأشاروا عليه بمصالحة أسد الدين. وتكفل إتمام الصلح له الأمير شمس الخلافة؛ فأنفذه إليه، فتم الصلح على يديه، على أن يحمل شاور إلى أسد الدين ثلاثين ألف دينار أخرى.
وحكى أن شاوراً أرسل إلى أسد الدين، وهو محصور ببلبيس، يقول له: اعلم أنني أبقيت عليك ولم أمكن الفرنج منك لأنهم كانوا قادرين عليك؛ وإنما فعلت ذلك لأمرين: أحدهما أني ما أختار أن أكسر جاه المسلمين وأُقوي الفرنج عليهم. والثاني أني خفت أن الفرنج إذا فتحوا بلبيس فيها، وقالوا هذه لنا؛ لأنا فتحناها بسيوفنا؛ وما من يوم كان يمضي بمصر إلا وأنا أُنفذ إلى كبار الفرنج الجملة من المال، وأسألهم أن يكسروا همة الملك عن الزحف.
قال: وأقام أسد الدين بظاهر بلبيس ثلاثة أيام، ورحلت الفرنج إلى جهة الساحل، وسار أسد الدين قاصداً الشام، وجهل مسيره على البرِّية.
واتفق أن البرنس أرناط صاحب الكَرَك والشَّوْبَك تأول ليمينه التي حلفها لأسد الدين، وقال: أنا حلفت أني ما ألحق أسد الدين ولا عسكره في البر، وأنا أريد ألحقه في البحر. وركب في البحر وصار في يوم واحد إلى عسقلان، وخرج منها إلى الكرك والشوبك وجمع عسكره المقيم هناك، وقعد مرتقباً خروج أسد الدين من البرية ليوقع به. وعلم أسد الدين بمكيدة أرناط بالحدس والتخمين، فسلك طريقاً من خلف المكان الذي كان فيه أرناط: شق إلى الغور وخرج من البلقاء، وسلمه الله تعالى منه. ودخل دمشق فاجتمع بنور الدين وأخبره بالأحوال، وأعلمه بضعف ديار مصر، ورغبه فيها وشوقه إلى ملكها، فرغب فيها نور الدين وأمره بتجنيد الأجناد واستخدام الرجال.
وأما شاور فإنه بعد رحيل أسد الدين والفرنج إلى بلادهم عاد إلى القاهرة، ولم يكن له همة إلا تتبع من علم أن بينه وبين أسد الدين معرفة أو صحبة. وكان استفسد جماعة من عسكر أسد الدين منهم خشترين الكردي وأقطعه شطنوف؛ وقتل شاور جماعة من أهل مصر وشردّ آخرين.
ثم توجه أسد الدين في ربيع الأول سنة اثنتين وستين قاصداً الديار المصرية، وكتم أخباره، فما راع شاوراً إلا ورود كتاب مُرِّي ملك الافرنج، يعرفه فيه أن أسد الدين قد فصل عن دمشق بعساكره قاصداً ديار مصر. فطلب شاور منه إعادة النجدة، والمقرر من المال يصل إليه على ماكان يصل إليه في العام الماضي. فسار مُرِّي في عساكر الفرنج إلى مصر على جانب البحر، وكان أسد الدين سائراً في البر، فسبقه الفرنج ونزلوا على ظاهر بلبيس، وخرج شاور بعساكر مصر واجتمع بالملك، وقعدوا جميعاً في انتظار أسد الدين.
وعلم أسد الدين باجتماع الفرنج بشاور على بلبيس، فنكب عن طريقهم وأم الجبل، وخرج على إطفيح، وهي في الجنوب من مصر، وشن الغارة هناك. واتصل بشاور خبره، فسار في عساكره، والفرنج في صحبته، يقفو أثره. واتصل بأسد الدين ذلك فأندفع بين أيديهم حتى بلغ شرونة من صعيد مصر، وتحيَّل في مراكب ركبها، وعدى إلى البر الغربي. ولما استكمل تعديته أدرك شاور بعض ساقته ومنقطعي عسكريته، فأوقع بهم. وأحضر شاور أيضاً مراكب وقطع النيل في أثر أسد الدين بجميع جيوشه وجيوش الفرنج، وسار أسد الدين إلى الجيزة وخيم بها مقدار خمسين يوماً، واستمال قوماً يقال لهم الأشراف الجعفريون والطلحيون والقرشيون، فأنفذ أسد الدين إلى شاور يقول له: أنا أحلف لك بالله الذي لا إله إلا هو، وبكل يمين يثق بها المسلم من أخيه، أنني لاأقيم ببلاد مصر ولا أعاود إليها أبداً، ولاامكن أحداً من التعرض إليها، ومن عارضك فيها كنت معك إلباً عليه، وما أؤمِّل منك إلا نصر الإسلام فقط، وهو أن العدو قد حَصَل بهذه البلاد، والنجدة عنه بعيدة، وخلاصه عسير، وأريد منك أن نجتمع أنا وأنت عليه، وننتهز فيه الفرصة التي قد أمكنت والغنيمة التي قد كُتبت، فنستأصل شأفته ونخمد ثأرته، وما أظن أنه يعود يتفق للإسلام مثل هذه الغنيمة أبداً.
فلما صار الرسول إلى شاور وأدى إليه الرسالة أمر به فقتل، وقال: ماهؤلاء الفرنج، هؤلاء الفَرَج! ثم أعلم الفرنج بما أرسل به إليه أسد الدين وأعلمهم بما أجابه، وجدد لهم أيماناً وثقوا بها. وبلغ ذلك أسد الدين فأكل يديه أسفاً على مخالفة شاور له في هذا الرأي، وقال: لعنه الله، لو أطاعني لم يبق بالشام أحد من هؤلاء الفرنج! ونزل شاور في اللوق والمقسم، وأمر بعمل الجسر بين الجيزة والجزيرة، وأمر بالمراكب فشحنت بالرجال، وأمرهم أن يجيئوا من خلف عسكر أسد الدين.
ولما رأى أسد الدين ذلك كتب إلى أهل الإسكندرية يستنجدهم على شاور لأجل إدخاله الفرنج إلى دار الإسلام وتضييعه أموال بيت مال المسلمين فيهم؛ فقاموا معه وأمروا عليهم نجم الدين بن مصال، وهو ابن أحد وزراء المصريين، وكان لجأ إلى الإسكندرية مستخفياً فظهر في هذه الفتنة.
حدثني الشريف الإدريسي، نزيل حلب، قال: كنت بالإسكندرية يومئذ فكتب معي ابن مصال كتاباً إلى أسد الدين، وقال لي: قل له إني أخبرك أن السلاح واصل. وكان أنفذ لأسد الدين خزانة من السلاح، قال فسبقتها بيومين، وحضرت بين يدي أسد الدين وأعطيته الكتب، وشافهته بمقالة ابن مصال في معنى السلاح والآلات، ثم وصلت الخزانة بعد يومين مع ابن أخت الأمير ابن عوف. قال: وبقينا على الجيزة يومين، فوصل إلينا رسول ابن مدافع يخبر أسد الدين بقرب شاور منه ويأمره بالنجاة، فترك أسد الدين الخيام والمطابخ وما يثقل حمله، وسار سيراً حثيثاً حتى قارب دَلَجْة، فأمر أسد الدين بنهبها فنهبت. ونزل الناس لتغشية الدواب فلم تستتم عليقها حتى أمر أسد الدين بالرحيل وأوقد المشاعل ليلا وسرنا، فإذا الجاووش ينادي في الناس بالرجوع، وعاد أسد الدين إلى دجلة فنزل عليها، فأصبحوا على ذلك والتقوا، فقتل من أصحاب أسد الدين جماعة كبيرة وانهزموا. وكان أسد الدين قد فرق أصحابه فريقين: فريقاً معه وفريقاً جعله مع صلاح الدين وأنفذه ليأتي من خلف عسكر شاور، فدخل الضعف من هذا الطريق. ثم إن أصحاب أسد الدين تجمعوا وتماسكوا، وعلموا أنه لاملجأ لهم إلا الصبر، فتحالفوا على الموت وحملوا، وطلع صلاح الدين من ورائهم. فلم تزل الحرب قائمة إلى الليل، فولت عساكر الإفرنج والمصريين الإدبار، وكاد مُرِّي ملك الإفرنج يؤسر، وصار شاور ومن سلم معه إلى منية ابن خصيب. وسار أسد الدين على الفيوم إلى الإسكندرية فدخلها، ونزل القصر وجعل فيه محبس الفرنج الذين أسرهم، وكان فيها ابن الزبير متولياً ديوانها، فحمل إلى أسد الدين الأموال، وقواه بالسلاح. وخاف أسد الدين أن يقصده شاور والفرنج فيحصروه، فربما تأذى بالحصار، فأمر صلاح الدين بالمقام بالإسكندرية وترك عنده جماعة من العسكر، ومن به مرض أو جراح أو ضعف، واستحلف له وجوه الإسكندرية وأوصاهم به، ورحل في أقوياء عسكره قاصداً إلى الصعيد. ونزل الفرنج وشاور على الإسكندرية وحاصروها مدة ثلاثة أشهر بأشد القتال، وبذل أهلها في نصرة الملك الناصر أموالهم وأنفسهم، وقتل منهم جماعة عظيمة.
ولما صار أسد الدين بالصعيد حصَّل من تلك البلاد أموالا عظيمة، ولم يزل هناك حتى صام شهر رمضان. واتصل به اشتداد الأمر على الإسكندرية فرحل من قوص إلى جهتها، واتبعه جماعة كثيرة من العربان وأهل تلك البلاد. وبلغ ذلك شاوراً فرحل هو والفرنج، واضطر إلى الصلح، وضجرت الفرنج أيضاً، فتوسط ملك الفرنج في ذلك، فتقرر أمر الصلح على أن شاوراً يحمل إلى أسد الدين جميع ما غرمه في هذه السفرة، ثم يعطي الفرنج ثلاثين ألف دينار، ويعود كل منهم إلى بلاده. وطلب صلاح الدين من ملك الفرنج مراكب يحمل فيها الضعفاء من أصحابه فأنفذ له عدة مراكب.
قال الإدريسي: كنت في جملة من خرج في المراكب، فلما وصلنا إلى ميناء عكا أخذنا واعنقلنا في معصرة القصب إلى أن وصل الملك مُرِّي فأطلقنا، فخرجنا إلى دمشق.
وخرج صلاح الدين من الإسكندرية بعد أن استحلف شاوراً لأهلها بألا يعرض لهم بسوء، واجتمع بعمه أسد الدين.
ثم أنفذ شاور وقبض على ابن مصال وجماعة ممن أعان صلاح الدين وضيق عليهم، وتتبع أهل الإسكندرية. واتصل ذلك بصلاح الدين فاجتمع بملك الفرنج وقال له: إن شاوراً نقض الأيمان. قال: وكيف ذلك؛ قال: لأنه قبض على من لجأ إلينا. فقال: ليس له ذلك. وأنفذ إلى شاور وقال له: إن الأيمان جرت على ألا تعرض لأحد من أهل مصر ولا الإسكندرية؛ وألزمه يميناً أخرى في ألا يعرض لأحد ممن لجأ إلى أسد الدين أو صلاح الدين.
ولما شاهد من التجأ إلى الأسد والصلاح فساد تلك الأحوال خافوا من شاور، فأخذوا في الرحيل إلى الشام. واتصل ذلك بشاور، فخرج بنفسه وجمع من عزم على الرحلة إلى الشام، وحلف لهم على الإحسان إليهم وحماية أنفسهم وأموالهم، فمنهم من سكن إلى أيمانه، ومنهم من لم يسكن ورحل.
وألهم الله تعالى أسد الدين أن الفرنج ربما خطر لهم في مصر خاطر فقصدتها، فراسل الملك مري وقال له: قد سأل أهل مصر يمين الملك ألا يدخل إليهم ولا يتعر لهم. فامتنع الملك، ثم أجاب خوفاً أن يتحقق أسد الدين وشاور أنه ربما قصد ديار مصر، فربما اجتمعا عليه، فلم يجد بداً من اليمين فحلف وحلف أصحابه؛ وخرج أسد الدين من مصر وفي قلبه الداء الدوي منها، لأنه شاهدها وشاهد مُغَلاّتها فوجدها أمراً عظيماً. فأخذ نور الدين في تهوين أمرمصر عليه، وأقطعه حمص وأعمالها.
وحدثني أبي رحمه الله: قال: حدثني غير واحد أن شاوراً كاتب نور الدين في ذلك وضمن له أن يحمل في كل سنة عن ديار مصر مالا مصانعة.
ولما بلغ شاوراً أن نور الدين صرف همة أسد الدين عن ذكر مصر والتعرض لها أنفذ رسولاً بهدية سنية، وأصحبه كتاباً حسناً، أوله: ورد كتاب استدعى شكري وحمدي، واستخلص من الصفاء ماعندي، واستفرغ في الثناء على مرسله جهدي، فكأنما استمليت معانيه مما عندي، واشتملت على حقائق قصدي؛ وسررت للإسلام وأهله، والدين الذي وعد الله أن يظهره على الدين كله، وأن يكون مثله ملكا من ملوكه، يُرجع إليه في عقده وحله، وتشير الأصابع وتعقد الخناصر على علو محله. والله يزيده بمكانه تثبيتاً وقوة، ويحقق على يديه مخايل النصر المرجوة؛ فما أسعد رأسا دل على نصرة الكلمة، ودعا إلى سبيل الفئة المسلمة، ووفر على مصالح الأمة قلوب رعاياها المنقسمة. وأنا متمم من هذا الأمر ما صدر مني، وباق منه على ما نُقل عني، لاأتغير عن المصلحة فيه، ولايخالف ما أظهره منه لما أخفيه، ولا أستكثر كبيراً أصل إليه وأتوصل به لما سبق للملك العادل من حقوق استوجب شكرها قولا وفعلا، ونصرة كانت في هجير الخطوب برداً وظلا، وأنعم لاتزال آياتها بألسُن الحمد تتلى وتملى. ولعمري لقد بني بها فخراً، وارتفع على الأملاك قدراً وذكراً. ووجب أن ستتمها فلا يصل إلى مواردها الكدر، ويحوطها فلا تتطرق إلى جوانبها الغير. ووراء هذه المكاتبة من اهتمامي ما لايعوقه عائق إلا انتظام العقد على الأمور المألوفة، وتمام التوثقة باليمين المنصوصة الموصوفة، مع أن قوله كيمينه، وكتابه كصفحة يمينه، والثقة به واقعة على كل حال، والمحبة له توجب الاحتراس على الوداد من تطرق أسباب الاختلال).
قال: وفي سنة أربع وستين طمع مري ملك الفرنج في مصر وعول على الدخول إليها والاستيلاء عليها، وذلك لما أنكشف له من عوارها، وظهر له من ضعف من بقي فيها. فجمع إليه ملوك الفرنج وكبراء الداوية والاسبتارية، وتشاوروا، فجرت بينهم في ذلك خطوب؛ ثم أجابوه إلى الخروج معه إلى الديار المصرية فأحضرو وزيره وأمره بإقطاع بلاد مصر لخيالته، وفرق قراها على أجناده. وكان، لعنه الله، لما دخل ديار مصر قد أقام من أصحابه من كتب له أسماء قرى مصر جميعها، زتعرف له خبر ارتفاعها. ثم سار حتى نزل الداروم، فقامت قيامة شاور لما بلغه الخبر، وانتخب أميراً من أمرائه، يقال له بدران، وسيره إلى لقاء مري يسأله عن السبب في قصده. فاجتمع به وسأله؛ فتلكأ عليه، ثم استلان جانبه، وضمن له رضيخة على أن يورِّي عنهم، ولايكشف لشاور حالهم. ويقال إن الملك أقطعه ثلاث عشرة قرية على أن يتمم على المصريين الحيلة، ويعلم شاوراً أنه إنما قصد مصر للخدمة؛ ففعل ذلك بدران. ولما سمع ذلك شاور أشفق منه، وأحضر الأمير شمس الخلافة محمد بن مختار وقال له: كأن بدران قد غشني ولم ينصحني، وأنا فواثق بك: فأريد تخرج وتكشف لي حال الفرنج. فسار شمس الخلافة إلى مُري، وكان بينهما مؤانسة.
فلما دخل على الملك قال له: مرحباً بشمس الخلافة. فقال: مرحباً بالملك الغدار، ولإلا ما الذي أقدمك إلينا؟ قال: اتصل بي أن الفقيه عيسى تزوج أخت الكامل بن شاور من صلاح الدين يوسف بن أيوب، وتزوج الكامل أخت صلاح الدين، فقلنا هذا عمل علينا. فقال له شمس الخلافة: ليس لهذا صحة، ولو فعل ذلك لم يكن فيه نقض للعهد. فقال له الملك: الصحيح أن قوماً من وراء البحر انتهوا إلينا وغلبونا على رأينا، وخرجوا طامعين في بلادكم، فخفنا من ذلك فخرجنا لنتوسط الأمر بينكم وبينهم. فقال شمس الخلافة: فأي شئ قد طلبوا؟ قال: ألفي ألف دينار. فقال: مكانكم حتى أصل إلى شاور وأبلغه مقالكم وأعود بالجواب. فقال له ملك الفرنج: فنحن ننزل على بلبيس إلى أن تعود.
قال: وحكى أن ملك الفرنج لما وصل إلى الداروم كتب إلى شاور يقول له: إني قد قصدت الخدمة على ما قررته لي من العطاء في كل عام. فأجابه شاور: إن الذي قررته لك إنما جعلته متى احتجت إليك وإذا قدم عليّ عدو، فأما مع خلو بالي من الأعداء فلا حاجة إليك ولا لك عندي مقرر. فأجابه مري أن لابد من حضوري وأخذي المقرر. فعلم شاور أنه قد غدر بالعهد ونقض الأيمان، وأنه قد طمع في البلاد. فأخذ في تجنيد الأجناد وحشد العساكر إلى القاهرة، وأنفذ إلى بلبيس قطعة من الجيش وفيرة وعُدة.
ثم إن ملك الفرنج سار خلف رسول شاور لايلوي على قول حتى خيم على بلبيس في صفر، وكان معه جماعة من المصريين منهم علم الملك ابن النحاس، وابن الخياط يحيى، وابن قرجلة. وأرسل إلى طي بن شاور، وكان بلبيس، وقال له: أين ننزل؟ قال: على أسنة الرماح. وقال له: أتحسب أن بلبيس جبنة تأكلها؟ فأرسل إليه مري: نعم هي جبنة والقاهرة زبدة. ثم قاتل بلبيس ليلاً ونهاراً حتى افتتحها بالسيف، وقتل من أهلها خلقاً عظيماً وخرب أكثرها، وأحرق جُلَّ آدرها؛ ثم أخرج الأسارى إلى ظاهر البلد وحشروا في مكان واحد، وحمل في وسطهم برمحه ففرقهم فرقتين، فأخذ الفرقة التي كانت عن يمينه لنفسه، وأطلق الفرقة التي كانت عن يساره لعسكره، وقال لفرقته: قد أطلقتكم شكراً لله تعالى على ما أولاني من فتح بلاد مصر، فإني قد ملكتها بلا شك. ووقف إلى أن عدى أكثرهم النيل إلى جهة منية حمل، وأخذ العسكر نصيبهم من الأسارى فاقتسموهم؛ وبقي أهل بلبيس الذين أسروا أكثر من أربعين سنة في أسر الفرنج، وهلك أكثرهم في أيديهم، وأفلت منهم اليسير. لأن الملك الناصر رحمه الله لما ملك ديار مصر وقف مُغَلَّ بلبيس على كثرته على فكاك الأسرى منهم؛ وسامح أهل بلبيس بخراجهم إلى آخر أيامه.
ولما أتصل بشاور ما جرى على أهل بلبيس من القتل والأسر، وأن الفرنج شحنوها بالرجال والعُدد وجعلوها لهم ظهراً، أشفق من ذلك وطلب الإذن على العاضد؛ فلما اجتمع به بكي بين يديه وقال: اعلم أن البلاد قد ملكت علينا، ولم يبق إلا أن تكتب إلى نور الدين وتشرح له ما جرى وتطلب نصرته ومعونته. فكتب جميع ذلك، وأرسل شاور طيَّ تلك الكتب كتباً وسخم أعاليها بالمداد.
قال: وحدثني شمس الخلافة موسى بن شمس الخلافة محمد بن مختار قال: إنما كتب هذا الكتاب برأي أبي شمس الخلافة، لأنه لما رجع من عند مرِّي، لعنه الله، بعد أخذ بلبيس اجتمع بالكامل بن شاور وقال له. عندي أمر لايمكنني أن أفضي به إليك إلا بعد أن تحلف لي أنك لاتطلع أباك عليه. فلما حلف له قال له: إن أباك قد وطَّن نفسه على المصابرة وآخر أمره يسلم البلاد إلى الفرنج ولا يكاتب نور الدين، وهذا عين الفساد؛ فاصعد أنت إلى العاضد وألزمه أن يكتب إلى نور الدين، فليس لهذا الأمر غيره. فقصده الكامل وكتب الكتاب. فلما وصل إلى نور الدين انزعج انزعاجاً عظيماً، وأنفذ أسد الدين، وكان ذلك من مُناه، وأرسل الفقيه عيسى الهكاري إلى مصر برسالة ظاهرة إلى شاور يعلمه أن العساكر واصلة، وبرسالة سرية إلى العاضد، وأمره أن يستحلفه على أشياء عيَّنها، وأن يكتم ذلك من شاور.
وأما الفرنج فساروا إلى جهة مصر، وأمر شاور بإحراق مصر وأنذر أهلها، فخرج الناس منها على وجوههم وهجُوا في بلاد مصر، وبلغ أجرة الجمل إلى القاهرة ثلاثين ديناراً، وترك الناس أكثر أموالهم فنهبت. وأحرقت مصر في تاسع صفر، وأقامت النار تعمل فيها أربعة وخمسين يوماً.
ثم إن الفرنج، لعنهم الله، نزلوا في بركة الحبش، وانبثت أخبارهم في الأطراف، وتخطفوا من ظفروا به. فأنفذ شاور شمس الخلافة إلى مرِّي، لعنه الله، فلما دخل عليه سأله أن يخرج إلى باب الخيمة ففعل، فأراه شمس الخلافة جهة مصر وقال له: أترى دخاناً في السماء؟ قال: نعم. قال: هذا دخان مصر، ما أتيت إلا وقد أحرقت بعشرين ألف قارورة نفط، وفرقت فيها عشرة آلاف مشعل، وما بقي فيها ما يؤمل بقاؤه ونفعه؛ فخلَّ الآن عنك مدافعتي ومخاتلتي، وكوني كلما قلت لك انزل في مكان تقدمت إلى غيره، ومابقي لك إلا أن تنزل القاهرة. فقال: هو كما تقول، ولابد من نزول القاهرة، ومعي فرنج من وراء البحر قد طمعوا في أخذها. ثم رحل فنزل على القاهرة مما يلي باب البرقية نزولاً قارب به البلد حتى صارت سهام الجرخ تقع في خيمته؛ فقاتلوا البلد أياماً.
فلما تيقن شاور الضعف عدل إلى طريق المخادعة والمخاتلة، والمغاورة والمدافعة، إلى أن تصل عساكر الشام. فأنفذ شمس الخلافة إلى مري، لعنه الله تعالى، برسالة طويلة فيِّل بها في غاربه ودار من حواليه؛ وفي ضمنها: " إن هذا بلد عظيم كبير وفيه خلق كثير، ولايمكن تسليمه ألبتة ولا أخذه إلا بعد أن يقتل من الفريقين عالم عظيم، وما تعلم أنت ولا أنا لمن الدائرة. والرأي أن تحقن دماء أصحابك ودماء أصحابي، وتحصِّل شيئاً أدفعه لك فيحصل لك عفواً " . فاستقرت المصالحة على أربعمائة ألف دينار، وقيل ألفي ألف دينار، يعجل له منها مائة ألف دينار. فأجاب مري إلى ذلك وانعقدت الهدنة، وحلف مري، ورحل إلى بركة الحبش، وحمل شاور إليه مائة ألف دينار في عدة دفعات سوّف فيها الأوقات؛ ثم أخذ يمطله في الباقي انتظاراً لقدوم العساكر، ويوهم أنه يجمع لهم الأموال. فلم يشعر الفرنج إلا بهجوم عسكر الشام عليهم؛ فلما رأوهم رحلوا إلى بلبيس، ونزل أسد الدين بالمقس. ثم رحل ملك الفرنج ونزل على فاقوس واتبعه أسد الدين ونزل على بلبيس.
وكان لما اتصل بشاور وصول أسد الدين إلى صَدْر أنفذ شمس الخلافة إلى ملك الفرنج يستطلق له منه بعض المال؛ فصار إليه واجتمع به، وقال: قد قلَّ علينا المال. فقال ملك الفرنج: اطلب منه ما شئت قال: أشتهي أن تهب لي النصف. قال: قد فعلت. فقال شمس الخلافة: ما بلغني أن ملكا في مثل حالك وقدرتك علينا وهب مثل هذه الهبة لقرم هم في مثل حالنا. فقال ملك الفرنج: أنا أعلم أنك رجل عاقل وأن شاوراً ملك، وأنكما ما سألتماني أن أهبكما هذا المال العظيم إلاَّ لأمر قد حدث. فقال له: صدقت. هذا أسد الدين قد وصل إلى صدر نُصرة لنا، وما بقي لك مقام، وشاور يقول لك أرى لك أن ترحل ونحن باقون على الهدنة فإنه أوفق لك ولنا، وإذا حصل هذا الرجل عندنا أرضيناه من هذا المال بشئ وحملنا الباقي إليك متى قدرنا، وإن نحن أخرجنا في رضاهم أكثر من هذا المال عدنا عليك بما يبقى علينا من المقدار. فقال ملك الفرنج: أنا راضٍ بذلك وإن بقي على شئ حملته إليكم؛ وعول على الرحيل؛ فقال له: بعد أن تطلق طيَّ ابن شاور وجميع من في عسكرك من الأسارى ولا تأخذ من بلبيس بعد انصرافك شيئاً. فأجابه إلى جميع ذلك.
ولما رحلت الفرنج عن القاهرة نزل أسد الدين بأرض يقال لها اللوق، وأخرج إليه شاور الإقامات الحسنة والخدم الكثيرة ولما اجتمعا قال شاور لاسد الدين: قد رأيت من الرأي أن أخرج أنا وأنت وأن ندرك الفرنج ونوقع بهم. فقال أسد الدين: هذا كان رأيي والفرنج على البر الغربي وليس لهم وزر، وأما الآن فلا، لأنهم على البر المتصل ببلادهم ونحن فقد خرجنا من البر في أسوأ حال من الضعف والتعب؛ وقد كفانا الله شرهم ونحن إلى الراحة والاستجمام أحوج.
ولما نزل أسد الدين باللوق أرسل له العاضد هدية عظيمة وخلعاً كثيرة، وأخرج إلى خدمته أكابر أصحابه. ثم إنه خرج إليه في الليل سراً متنكراً، واجتمع به في خيمته، وأفضى إليه بأمور كثيرة، منها قتل شاور، ثم عاد إلى قصره. وكان شاور قد رأى ليلة نزل أسد الدين على القاهرة كأنه دخل دار الوزارة فوجد على سرير ملكه رجلا وبين يديه دواة الوزارة وهو يوقع منها بأقلامه، فسأل عنه، فقيل هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما حصل أسد الدين بالديار المصرية وانفصل عنها الفرنج أمنت البلاد، وتراجع الناس إلى بيوتهم وأخذوا في إصلاح ما شعثه الفرنج وأفسدوه. وتقاطر الناس إلى خدمة أسد الدين فتلقاهم بالرحب والسعة وأحسن إليهم.
وأما شاور فإنه أخذ في التودُّد إلى أسد الدين والتقرب إلى قلبه بجميع ما وجد السبيل إليه، وأقام له ولعسكره الميرة الكثيرة والنفقات الغزيرة، حتى استحوذ على قلبه،زنوى تبيقيته في ملكه وصفا له قلبه حتى نفذ اليه سرا:احرس نفسك عن عساكر الشام.
واما عسكر الشام فانهم لما رأوا طيب بلاد مصر وكثرة خيرها وسعة اموالها تافت اتفسهم الى الاقامة بها،واختاروا سكناها ، ورغبوا فيها رغبة عظيمة ؛فقوى الطمع اسد الدين في الاستيلاء بملكها، ثم علم انه لا يتم ذلك وشاور باقٍ فيها ،فأخذ في اعمال الحيلة عليه وكان العاضد قد تقدم اليه بقتله ؛ فجمع اصحابه وشاورهم في امر شاور ، وقال لهم:قد علمتم رغبتي في هذه البلاد ومحبتي لها وحرصي عليها، لا سيما وقد تحققت ان عند الفرنج منها ما عندي، وعلمت انهم قد كشفوا عورتها ، وعلموا مسالك رقعتها، وتيقنت اني متى خرجت منها عادوا اليها واحتَووُا عليها؛وهي معظم دار الاسلام وحلوبة بيت مالهم؛ وقد قوى عندي ان اثب عليها قبل وثوبهم، واملكها قبل مملكتهم ، واتخلص من شاور الذي يلعب بنا وبهم ، ويغرنا ويغرهم، ويضرب بيننا و بينهم ؛ وقد ضيع اموال هذه البلاد في غير وجهها، وقًّوى بها الفرنج علينا ؛ وما كل وقت ندرك الفرنج ونسبقهم الى هذه البلاد التي قد قل رجالها وهلكت ابطالها .فتنخلت الاراء بين الامراء انه لا يتم لهم امر الا بعد القبض على شاور؛وتفرقوا على ايقاع القبض عليه.
وكان شاور يركب في الابهة العظيمة،والعدة الحسنة، والالة الجميلة على عادتهم الاولى.وكان من جملة قواعدهم ان الوزير اذا ركب حمل في موكبه الطبل والبوق.وكان شاور قليل الركوب، فجعل الامراء يترصدونه .ورأى اسد الدين قبل قبض شاور بليلة كأن شاور داخل اليه داره، وناوله سيفه وعمامته ؛فتأوله اسد الدين بالقبض عليه واخذ منصبه.
ثم ان شاورا ركب يوما في ابهته وجلالته ،فلما عاينه الامراء هابوه واحجموا عنه ، وكان يوما عظيما الضباب؛ وكان خروج شاور من باب القنطرة للسلام على اسد الدين ؛فتقدم صلاح الدين فسلم عليه ودخل في موكبه ، ثم سايره ، ثم مد يده الى تلابيبه وصاح عليه فرجًّله.ولما رأى ذلك عسكر الشام قويت عزماتهم ووقعوا في عسكر شاور فنهبوا ما كان مع رجاله،وقتلوا منهم جماعة، وحمل الملك الناصر شاورا راجلا الى خيمة لطيفة واراد قتله، فلم يمكنه قتله دون مشاورة اسد الدين.وفي الحال ورد على اسد الدين توقيع من العاضد على يد خادم يأمره فيه بقتل شاور ، فأنفذ التوقيع الى صلاح الدين فقتله في الحال، وانفذ رأسه الى القصر.وبلغ الكامل بن شاور قتل ابيه فهرب الى القصر وخلع العاضد على اسد الدين وقلده الوزارة ، وانفذ اليه فضة فيه رأس الكامل بن شاور ورؤوس اولاد اخوته.
ولما خرج منشور الوزارة الى اسد الدين امر بقراءته على رؤوس الاشهاد وفرح به غاية الفرح ، واعيدت قراءته عليه عدة دفعات استحسانا لمعانيه،واستظرافا لما اودع من بدائع الكلام فيه.
قال،ولما اتصل بنور الدين فتح الديار المصرية فرح بذلك فرحا شديدا،وواصل الحمد والثناء على الله تعالى اذ كان في زمنه وعلى يده؛وامر بضرب البشائر في جميع ولايته وتزيين جميع بلاده؛وجلس الهنا بذلك ، وانشده الشعراء في فتحها عدة اشعار.غير انه لما اتصل به ان اسد الدين وزر للعاضد واستبد بالامر في ذلك الصقع امضه ذلك واقلقه، وظهرت في مخايل قسماته وفلتات كلماته الكراهة، واخذ في الفكرة في امره وسهر له ليالي،وافضى بسره الى مجد الدين بن الداية.حدثني جماعة عن شمس الدين على بن الداية، اخي مجد الدين، وحدثني الموفق محمود بن النحاس الفقيه الحلبي وقد جرى ذكر فتح مصر وان نور الدين ابتهج به، فقال:والله ما ابتهج به، لقد كان وده الا يفتح والا يصير اسد الدين وصلاح الدين الى ما صارا اليه.ولقد ظهرت الكراهية منه لذلك في الفاظه ووجهه.ولقد اعمل الحيلة في افساد امر اسد الدين وصلاح الدين فما تهيأ له، لا سيما يوم بلغه حصول صلاح الدين على خزائن مصر، فأنه اقام ثلاثة ايام لا يقدر احد ان يراه؛واهتم لذلك حتى افضى عليه الهم، ولو لم يكن الفتح اليه منسوبا، وعليه فضله محسوبا ،لما صبر على مل جرى، ولا اغضى للملك الناصر على القذى.ولقد كاتب العاضد عدة دفعات في امر الاسد والصلاح، فلم يحصل له فيهما النجاح ، وكثيرا ما يوجد في كتب نور الدين الى العاضد التعريض بانفاذ اسد الدين، ولو امكنه المجاهرة بالقول لقال.
فمن بعض مكاتباته : " وقد افتقر العبد الى بعثته،واعوز عسكره يُمن نقيبته، واشتد حزب الضلال على المسلمين لغيبته،لانه ما يزال يرمي شياطين الضلال بشهابه الثاقب، ويُصمي معقل الشرك بسهمه النافذ الصائب " .
قلت:لعل نور الدين رحمه الله انما اقلقه من ذلك كون اسد الدين وزر للعاضد فخاف من ميله الى القوم والى مذهبهم ،وان يفسد جنده عليه بذلك السبب.هذا ان صح ما نقله ابن ابي طي، والله اعلم.
قال:وكان اسد الدين لما ولى الوزارة لم يتغير على احد شيئا، واجرى اصحاب مصر على قواعدهم وامورهم، الى ان انقضت ايامه،وفنيت اعوامه.
وكان قرما يحب اكل اللحوم ويواظب عليه ليلا ونهارا، فتواترت عليه التخم، واتصلت به مرضاته،الى ان ظهرت بحلقه خوانيق كان فيها تلافه.ويقال انه اكل في ذلك اليوم مضيرة ودخل الحمام، فلما خرج منها اصابه الخناق.
قال:وكان شجاعا،بارعا،قويا،جلدا في ذات الله شديدا على الكفار وطاته، عظيمة في ذات الله صولته،عفيفا ديناً،كثير الخير.وكان يحب اهل الدين والعلم ،كثير الايثار،حدبا على اهله واقاربه.وكان فيه امساك ،وخلف مالا كثيرا، وخلف من الخيل والدواب والجمال شيئا كثيرا، وخلف جماعة من الغلمان ، خمسمائة مملوك، وهم الاسدية.
وهو كان مشيد قواعد الدولة الشاذية والمملكة الناصرية، وكان ابتداء امره يخدم مع صاحب تكريت على اقطاع مبلغه تسعمائة دينار، وتنقل الى ان ملك الديار المصرية.وعقد له العزاء بالقاهرة ثلاثة ايام.
قلت:اليه تنسب المدرسة الاسدية بالشرف القبلي ظاهر دمشق ، وهي المطلة على الميدان الاخضر؛وهي على الطائفتين الشافعية والحنفية، والخانقاه الاسدية داخل باب الجابية بدرب الهاشميين.
قال ابن ابي طي:وساعة وفاته وقع الاختلاف فيمن يولي الوزارة بين العسكر الشامي ،ومالت الاسدية الى صلاح الدين.وفي تلك الساعة انفذ العاضد وسأل عمن يصلح للوزارة،فأرشد من جماعة من الامراء الى شهاب الدين محمود الحارمي خال صلاح الدين، فأنفذ اليه واحضره وخاطبه في تولي الوزارة، فأمتنع من ذلك، واشار بولاية الملك الناصر.
وكان الحارمي اولا قد رغب في الوزارة وتحدث فيها، وحصل ما يحتاجه ،فلما رأى مزاحمة عين الدولة بن ياروق وغيره عليها خاف ان يشتغل بطلبها فيفوته، وربما فاتت صلاح الدين فأشار به لانها اذا كانت في ابن اخته كانت في بيته.
وكان صلاح الدين قد وقع من العاضد بموقع،واعجبه عقله وسداد رأيه، وشجاعته، واقدامه على شاور في موكبه، وانه قتله حين جاءه امره ولم يتريث ولا توقف.فسارع الى تقليده الوزارة، وما خرج شهاب الدين الحارمى من حضرة العاضد الا وخلع الوزارة قد سبقت الى الملك الناصر.
وكانت خلعة الوزارة عمامة بيضاء تَنِّيسي بطرز ذهب وثوب دبيقي بطراز ذهب ،وجبة تحتها سقلاطون بطرازي ذهب، وطليسان دبيقي ذهب، وعقد جوهر قيمته الاف دينار، وسيف محلى بجوهر قيمته خمسة الاف دينار، وفرس حجر صفراء من مراكب العاضد قيمتها ثمانية الاف دينار لم يكن بالديار المصرية اسبق منها، وطوق، وتخت وسرفسار ذهب مجوهر ، وفي رقبة الحر مشدة بيضاء ، وفي رأسها مائتا حبة جوهر ، وفي اربع قوائم الفرس اربع عقود جوهر، وقصبة ذهب في رأسها طالعة مجوهرة، وفي رأسها مشدة بيضاء بأعلام ذهب، ومع الخلعة عدة بقج، وعدة من الخيل ، واشياء اخر؛ومنشور الوزارة ملفوف في ثوب اطلس ابيض.
وكان ذلك يوم الاثنين الخامس والعشرين من جمادي الاخرة، سنة اربع وستين وخمسمائة؛ وقرئ المنشور بين يدي الملك الناصر يوم جلوسه في دار الوزارة ؛وحضر جميع ارباب الدولتين المصرية والشامية ؛وكان يوما عظيما.
وخلع السلطان على جماعة الامراء والكبراء ،ووجوه البلد، وارباب دولة العاضد،وعمَّ الناس جميعهم بالهبات والصلات.
ولما استقرت قدمه في الوزارة والرياسة قام في الرعية مقام من قام بالشريعة والسياسة، ونظم بحسن تدبيره من الدولة بددها،وجرى في مناهج العدل على جددها،وحَيُعَلَ الى وجوده وفضله، ونادى الى رفده بذله؛ وكاتب الأطراف بما صار إليه من السلطان، وسر قلوب الأصدقاء والأحباب بما حصل عليه من شريف الرتبة والمكان؛ واستدعى إلى حوزته الأصحاب والأهل، وروَّي بفسيح كرمه مَنْ بعد منه وقرب من أهل الفضل؛ وتاب من الخمر وعدل عن اللهو، وتيقظ للتدبير وسها عن السهو، وتقمص بلباس الدين، وحفظ ناموس الشرع المبين؛ وشمر عن ساق الجد والاجتهاد، وأفاض على الناس من كرمه وَجُود جوده شآبيب فضله الغائب عن العهاد؛ وورد عليه القصاد والزوار، وأُمَّ بنفائس الخطب وجواهر الأشعار.
حدثني بعض الأمراء قال: أقبل العاضد على السلطان الملك الناصر وأحبه محبة عظيمة، وبلغ من محبته له أنه كان يدخل إليه القصر راكباً، فإذا حصل عنده أقام معه في قصره اليوم والعشرة لايعلم أين مقره.
قال: ولما استولى الملك الناصر على الوزارة، ومال إليه العاضد، وحكَّمه في ماله وبلاده، حسده من كان معه بالديار المصرية من الأمراء الشامية، كابن ياروق وجرديك وجماعة من غلمان نور الدين. ثم إنهم فارقوه وصاروا إلى الشام.
وحدثني أبي رحمه الله تعالى قال: حدثني جماعة من أصحاب نور الدين أن نور الدين لما اتصل به وفاة أسد الدين ووزارة صلاح الدين وما قد انعقد له من المحبة في قلوب الرعايا أعظم ذلك وأكبره، وتأفف منه وأنكره، وقال: كيف أقدم صلاح الدين أن يفعل شيئاً بغير أمري! وكتب في ذلك عدة كتب، فلم يلتفت الملك الناصر إلى قوله، إلا أنه لم يخرج عن طاعته وأمره، وأنه ما فارق قبول رأيه وإشارته. وأمر نور الدين من بالشام من أهل صلاح الدين وأصحابه بالخروج إليه، وطلب منه حساب مصر وما صار إليه. وكان كثيراً ما يقول: ملك ابن أيوب! قلت: هذا كله مما تقتضيه الطباع البشرية والجبلة الآدمية. وقد أجرى الله سبحانه وتعالى العادة بذلك، إلا من عصم الله، ومن أنصف عذر، ومن عرف صبر. والذي أنكره نور الدين هو إفراط صلاح الدين في تفرقة الأموال واستبداده بذلك من غير مشاورته؛ هذا مع أن ابن أبي طيّ متهم فيما ينسبه إلى نور الدين مما لايليق به، فإن نور الدين رحمه الله كان قد أذل الشيعة بحلب وأبطل شعارهم وقوى أهل السنة؛ وكان والد ابن أبي طي من رؤس الشيعة فنفاه من حلب. وقد ذكر ذلك كله ابن أبي طي في كتابه مفرقاً في مواضع، فلهذا هو في الكتاب الذي له كثير الحمل على نور الدين رحمه الله، فلا يُقبل منه ما ينسبه إليه مما لايليق به. والله أعلم.
قال: ولما ملك الملك الناصر مصر انتزع نور الدين حمص والرحبة من ناصر الدين ابن أسد الدين، وفرق عماله وأعطاه تل باشر ثم أخذها منه؛ ولقد كان يتألم لملك الملك الناصر. ويقال إنه لما مرض قال: ما أخطأت إلا في إنفاذي أسد الدين إلى مصر بعد علمي برغبته فيها، وما يحزنني شئ كعلمي بما ينال أهلي من يوسف بن أيوب. ثم التفت إلى أصحابه فقال: إذا أنا مت فصيروا بابني إسماعيل إلى حلب فإنه لايبقى عليه غيرها.
قال ابن أبي طي: ولقد كان يبلغ الملك الناصر من أقوال نور الدين وأقوال أصحابه أشياء تؤلمه وتمضه، غير أنه يلقاها بصدر رحب، وخلق عذب. حدثني أبي عن ابن قاضي الدهليز، وكان من خواص الملك الناصر، قال: جرى يوماً بين يدي السلطان ذكر نور الدين فأكثر الترحم عليه، ثم قال: والله لقد صبرت منه على مثل حزَّ المدى ووخز الإبر، وما قدر أحد من أصحابه أن يجد عليّ ما يعتده ذنباً؛ ولقد اجتهد هو بنفسه أيضاً أن يجد لي هفوة يعتدها عليّ فلم يقدر. ولقد كان يعتمد في مخاطباتي ومراسلاتي على الأشياء التي لايصبر على مثلها لعليَّ أتضرر أو أتغير، فيكون ذلك وسيلة له إلى منابذتي، فما أبلغته أربه يوماً قط.
قلت: وقد وقفت على كتاب بخط نور الدين رحمه الله يشكر فيه من صلاح الدين رحمه الله تعالى، وذلك ضد ما قاله ابن أبي طي. كتب نور الدين ذلك الكتاب إلى الشيخ شرف الدين بن أبي عصرون رحمه الله وهو بحلب ليوليه قضاء مصر. صورته: حسبي الله وكفى. وفق الله الشيخ الإمام شرف الدين لطاعته وختم له بخير. غير خافٍ عن الشيخ ما أنا عليه وفيه، وكل غرضي ومقصودي في مصالح المسلمين، وما يقربني إلى الله، والله ولي التوفيق، والمطلع على نيتي. وأنت تعلم نيتي كما قال عز من قائل: (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابِ - . أنت تعلم أن مصر اليوم قد لزمنا النظر فيها، فهي من الفتوحات الكبار، التي جعلها الله تعالى دار إسلام بعد ما كانت دار كفر ونفاق؛ فلله المنة والحمد. إلا أن المقدم على كل شئ أمور الدين التي هي الأصل، وبها النجاة؛ وأنت تعلم أن مصر وإقليمها ما هي قليلة، وهي خالية من أمور الشرع، وما تُدخر الدموع إلا للشدائد، وأنا ماكنت أسخى ولا أشتهي مفارقتك. والآن فقد تعين عليك وعليّ أيضاً أن ننظر إلى مصالحها، وما لنا أحد اليوم لها إلا أنت، ولا أقدر أولي أمولها ولا أقلدها إلا لك حتى تبرأ ذمتي عند الله. فيجب عليك، وفقك الله، أن تشمر عن ساق الاجتهاد وتتولى قضاءها، وتعمل ما تعلم أنه يقربك إلى الله. وقد برئت ذمتي، وأنت تجاوب الله. فإذا كنت أنت هناك وولدك أبو المعالي، وفقه الله، فيطيب قلبي وتبرأ ذمتي. وقد كتبت هذا بخطي حتى لايبقى عليّ حجة. تصل أنت وولدك عندي حتى أسيركم إلى مصر والسلام. بموافقة صاحبي واتفاق منه صلاح الدين، وفقه الله، فأنا منه شاكر كثير كثير كثير، جزاه الله خيراً وأبقاه، ففي بقاء الصالحين والأخيار صلاح عظيم، ومنفعة لأهل الإسلام. الله تعالى يكثر من الأخيار وأعوان الخير، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
قال ابن أبي طيّ: وأبطل صلاح الدين من المكوس والمظالم: ما يستخرج بديوان صناعة مصر مائة ألف دينار، وما يستخرج بالأعمال القبلية والبحرية مائة ألف دينار؛ فسامح بجميع ذلك، وأمر بكتابة سجل به من ديوان الإنشاء، وأنفذ إلى سائر أعمال مصر يُقرأ على المنابر. وعرض عليه سياقه جرائد الدوواين في جهات المستخدمين والمعاملين لعدة سنين متقدمة، آخرها سنة أربع وستين وخمسمائة، فكان مبلغه ينيف عن ألف ألف دينار وألفي ألف أردب غلة، فسامح في جميع ذلك، وأبطله من الدواوين، وأسقطه عن المعاملين. وأنهى إليه ما يستأدي من الحجاج بالحجاز المحروس من المكوس، فأنكره وأكبره، وعوض عنه بعدة ضياع؛ فأغاث أهل الحجاز بما أوسعهم من العين والغلة يطول شرحها.
قلت: وسيأتي كل ذلك في موضعه. ونسخة منشور إسقاط المكوس في أخبار سنة سبع وستين، وذلك بإشارة نور الدين رحمه الله، وفي أيامه.
فصلذكر العماد في ديوانه قصيدة يمدح بها نور الدين ويهنئه بملك مصر، ولم يذكرها في كتاب البرق. منها:
بملك مصر أهني مالك الأمم ... فاسعد وأبشر بنصر الله عن أَمم
أضحى بعدلك شمل الملك ملتئما ... وهل بعدلك شئ غير ملتئم
يافاعل الخير عن طبع بلاكلف ... ومُولى العرف عن خلق بلا سأم
ووامقاً ثلم ثغر الكفر تعجمه ... لا لثم ثغر شنيب واضح شم
لله درك نور الدين من ملك ... بالعزم مفتتح بالنصر مختتم
آثار عزمك في الإسلام واضحة ... وسره لك باد غير مكتتم
بما من العدل والإحسان تنشره ... تخاف ربك خوف المذنب الأثم
أوردت مصر خيول النصر عادمة ... ثني الأعنة إقداماً على اللجم
فأقبلت في سحاب من ذوابلها ... وقضبها بدماء الهام منسجم
تمكن الرعب في قلب العدو بها ... تمكن النار بالإحراق في الفحم
سرت لتقطع ما للكفر من سبب ... واهٍ، وتوصل ما للدين من رحم
مستسهلات وعور الطرق في طلب ال ... علياء، مقتحمات أصعب القحم
وجاعلات من الإفرنج غلَّهم ... والقيد في موضع الأطواق والحزم
لقد شفت غلة الإسلام وانتقمت ... من العدو بحد الصارم الحَذِم
أعانها الله في إطفاء جمر أذى ... من شر شاور في الإسلام مضطرم
وأصبحت بك مصر بعد خيفتها ... للأمن والعز والإقبال كالحرم
والسُّنة اتسقت، والبدعة انمحقت ... وعاودت دولة الإحسان والكرم
ملوكها لك صاروت أعبداً، وغدا ... بها عبيدك أملاكا ذوي حُرم
أنَبْت عنك بها قرما ينوب بها ... في البأس عن عنتر، في الجود عن هرم
لله درك نور الدين من ملك ... عدلٍ لحفظ أمور الدين ملتزم
كانت ولاية مصر قبل عزتا ... بكشف دولتها لحماً على وضم
فالنيل ملتطم، جار على خجل ... جاراً لبحر نوال منك ملتطم
أُغْزُ الفرنج، فهذا وقت غزوهم ... واحطم جموعهم بالذابل الحطِم
وطهر القدس من رجس الصليب وثبِ ... على البغاث وثوب الأجدل القطم
فملك مصر وملك الشام قد نظما ... في عِقد عز من الإسلام منتظم
محمود، الملك الغازي، يسوسهما ... بالفضل، والعدل، والإفضال، والنعم
بالشكر كل لسان ناطق أبداً ... محمودُ الملك محمود بكل فم
فأشك مصر وأظهر عز سنتها ... كم تقتفي، وإلى كم تشتكي، وكم
ولعلم الدين الشاتاني في نور الدين رحمه الله:
مانال شأوَك في المعالي سنجر ... كلا، ولاكسرى، ولا الإسكندر
يا خير من ركب الجياد، وخاض في ... لجج المنايا والأسنة تقطر
هل حاز غيرك ملك مصر، وصار من ... أتباعه مَن جده المستنصر
والمستضي بالله معتد به ... وبجده، وبحده مستظهر
أو سدَّ بالشام الثغور محامياً ... للدين حتى عاد عنها قيصر
يبكي فيروي الأرض بحر دموعه ... والجو من أنفاسه يتسعر
أوما أبوك بسيفه فتح الرُّها ... والأسد تقتنص الكماة وتزأر
هابت ملوك الأرض بأس كماتها ... فتقاعدوا عن قصدها وتأخروا
ما ضره طيُّ المنية ذاته ... وصفاته بين البرية تنشر
فلكم على كل الملوك مزية ... لوقائع مشهورة لاتنكر
وإذا عددنا للأنام مناقباً ... فعليك قبل الكل يثني الخنصر
في الرأي قيس، في السماحة حاتم ... في النطق قس، في البسالة حيدر
دانت لك الدنيا وأنت تعافها ... وسواك في آماله يتعثر
من ذا يصون الصين عنك وأنت من ... أسد الشرى منه تخاف وتحذر
قال العماد: وأنفذ صلاح الدين من مصر خلعاً لجماعة من الأعيان، وأنفذ للعماد عمامة ملبوسة، فكتب إليه قصائد في هذا المعنى، منها:
يا صلاح الدين الذي أصلح الفا ... سد بالعدل من خطوب الزمان
أنت أجريت نيل مصر إلى الشا ... م نوالاً، أم سال نيل ثاني!
وعلى نيلها لكفيك فضل ... فهما بالنضار جاريتان
وصلت أعطياتك الغر غزراً ... فتلقت آمالنا بالتهاني
خلع راقت العيون ورقت ... وعلا وصفها عن الإمكان
مذهبات كأنها خلع الرض ... وان قد أهديت لأهل الجنان
مشرقات بطرزها الذهبيا ... ت الحسان الرفيعة الأثمان
فالعمامات كالغمامات، والطرو ... ز بروق كثيرة اللمعان
والموالي بها من التيه والفخ ... ر على الدهر ساحبو الأردان
كيف خُص العماد بالأدْوَن المخْ ... لَق من دون عصبة الديوان
أخليقُ من نسجه لك في المد ... ح جديدُ بأمهن الخلقان!
وكذا عادة الليالي: تخص ال ... فاضل المستحق بالحرمان
لم تزل سائرات جودك بالشا ... م لديه غزيرة التهتان
فإذا لم تزده مصر كمالا ... في المنى فاحمه من النقصان
وكتب إلى فخر الدين أخي صلاح الدين قصيدة، منها:
عبدك شمس الدولة المرتجى ... منتظر تشريفك المذهبا
فاعتب صلاح الدين لي حالتي ... عساه بالإصلاح أن يعتبا
عرِّفه ما ثمَّ، فإني أرى ... من فضله للفضل أن يغضبا
وكيف يرضى ذاك بعض الرضا ... ومجده يأباه كل الإبا
وقل له: جاءته ملبوسةً ... تخلفت من تُبَّع في سبا
عمامة رقَّت ورثت، فما ... نشرتها إلا وطارت هبا!
قال: فوصل إلىّ من صلاح الدين عمامة مذهبة، وكتب يعتذر عن العمامة التي قبلها. وكتب إلى سعد الدين كمشتكين كتاباً يقول قيه: استعير لسانه في الاعتذار إلى العماد فإني أستقل لمرامه إرم ذات العماد. فكتب العماد:
أما العماد فقد تضاعف شكره ... نعماك، شكر الروض نُعمى الصَّيِّب
لعمامة ذهبية كغمامة ... يبدو بها برق الطراز المغربي
ماكان أحسن حاله لو أنه ... شُفعت عمامته بثوب مذهب
قال: وكتب إليه:
أهني الملك الناصِ ... رَ بالملك وبالنصر
وما مهد من بنيا ... ن دين الحق في مصر
وما أسداه من برّ ... بلا عدٍ ولا حصر
وما أحياه من عدل ... وما خفف من إصر
وإعلاء سنا السن ... ة في بحبوبة القصر
قد استولى على مصرٍ ... بحق يوسف العصر
وأحيا سنة الإحسا ... ن في البدو وفي الحضر
وكتب إليه الأمير أسامة بن منقذ من قصيدة يقول:
ديارَ الهوى حيَّا معالمك القطر ... وجادك جود الناصر الغدق الهمر
به رجعت في عنفوان شبابها ... ونضرتها من بعد ما هرمت مصر
وكم خاطبٍ ردته لم يك كفئها ... إلى أن أتاها خاطب سيفه المهر
حماها حمى الليث العرين، وصانها ... كما صان عيناً من مُلِمِّ القذي شفر
وكان بها بحر أجاج، فأصبحت ... ومن جوده العذب النمير بها بحر
وله فيه من أخرى:
فما أنت إلا الشمس، لولاك لم تزل ... على مصر ظلماء الضلالة سرمدا
وكان بها طغيان فرعون لم يزل ... كما كان لما أن طغى وتمردا
فبصَّرتهم بعد الغواية والعمى ... وأرشدتهم بعد الضلال إلى الهدى
وله فيه من أخرى:
قل للملوك: تزحزحوا عن ذروة ال ... علياء للملك الهمام الناصر
يعطي الألوف ويلتقيها باسما ... طلق المحيا في القنا المتشاجر
وقرأت في ديوان العَرْقلة: وقال في المولى الملك الناصر وقد أنفذ له من ديار مصر ذهباً ولغيره سلاما:
صلاح الدين قد أصلحت دنيا ... شقي لم يبت إلا حريصا
وأرسلت السلام لنا عموما ... وجودك جاءني وحدي خصوصا
فكنت كيوسف الصديق لما ... تلقى منه يعقوب القميصا
وكان العرقلة من جملة المتردّدين إلى صلاح الدين أيام كونه بدمشق، فلما صار إلى مصر وعد أنه متى ملكها أعطاه ألف دينار. فلما تم أمره بمصر كتب إليه العرقلة قصيدة منها:
إليك صلاح الدين مولاي أشتكي ... زماناً على الحُر الكريم يجور
تُرى أُبصر الألف التي كنت وَاعدي ... بها في يدي قبل الممات تصير
وهيهات والإفرنج بيني وبينكم ... سياجُ قتيل دونه وأسير
ومن عجب الأيام أنك ذو غنى ... بمصر، ومثلي بالشآم فقير
وقال أيضاً:
قل للصلاح مُعيني عند إعساري ... يا ألفَ مولايَ أين الألفُ دينارُ؟
أخشى من الأسر إن حاولت أرضكم ... وما تفي جنة الفردوس بالنار
فجد بها عاضِدِيَّاتٍ مسطرة ... من بعض ما خلف الطاغي أبو الطاري
حمراً كأسيافكم، غرا كخيلكمُ ... عُتْقاً ثقالا كأعدائي وأطماري
وأنفذ له من مصر عشرين ألف دينار. فقال:
يامالكا ما برحت كفه ... تجود بالمال على كفي
أفلح بالعشرين من لم يزل في ... رأس عشرين من الكهف
ياألف مولاي ولكنها ... محسوبة من جملة الألف
وذكر العماد في الخريدة أن العرقلة قصد صلاح الدين إلى مصر فأعطاه ذلك، وأخذ له من إخوته مثله؛ فعاد إلى دمشق وهو مسرور مجبور، وكان ذلك ختام حياته. ودنا أجل وفاته فمات بدمشق في سنة ست، أو سبع، وستين وخمسمائة.
قلت: وفي ديوانه ما يدل على قدومه مصر، فإن فيه: وقال: وكتبها على حمام عمَّرها المولى الملك الناصر بديار مصر:
ياداخل الحمام هُنئتها ... دائرة كالفلك الدائر
تأمل الجنة قد زُخرفت ... وعمرت للملك الناصر
كأنما فيض أنابيبها ... نداه للوارد والصادر
فصلفي قتل المؤتمن بالخرقانية، ووقعة السودان بين القصرين، وغير ذلك.
قال العماد: وشرع صلاح الدين في نقض إقطاع المصريين، فقطع منهم الدابر من أجل من معه من العساكر. وكان بالقصر خصي، يدعى بمؤتمن الخلافة، متحكم في القصر، فأجمع هو ومن معه على أن يكاتبوا الفرنج ويقبضوا على الأسدية والصلاحية، لأن صلاح الدين يخرج إلى الفرنج بمن معه، فيؤخذ مَن بقي من أصحابه بالقاهرة، ويُتبع من ورائهم، فتكون عليهم الدائرة فكاتبوا الفرنج؛ واتفق أن رجلا من التركمان عبر البئر البيضاء فرأى مع إنسان ذي خلقان نعلين جديدين ليس بهما أثر مشي، فأنكرهما، فأخذهما، وجاء بهما إلى صلاح الدين، ففتقهما، فوجد مكاتبة للفرنج فيهما من أهل القصر، يرجون بحركتهم حصول النصر. فأخذ الكتاب وقال: دلوني على كاتب هذا الخط؛ فدلوه على يهودي من الرهط. فلما أحضروه ليسألوه، ويعاقبوه على خطه ويقابلوه، نطق بالشهادة قبل كلامه، ودخل في عصمة إسلامه؛ ثم اعترف بما جناه، وشيده من الأمر وبناه، وأن الآمر به مؤتمن الخلافة، وأنه برئ من هذه الآفة. فحسن لدى السلطان إسلامه، وثبت اعتصامه، وعرف استسلامه، ورؤى إخفاء هذا السر واكتتامه.
واستشعر الخصيّ العَصِيّ، وخشى أن تسبقه على شق العصا العِصيّ؛ فما صار يخرج من القصر مخافة، وإذا خرج لم يبعد مسافة؛ وصلاح الدين عليه مغضب وعنه مغض، لايأمر فيه ببسط ولاقبض؛ إلى أن استرسل واستبسا، فظن أن ما نسله من الشر العقيم فصل. وكان له قصر في قرية يقال لها الخرقانية لخُرقه، ورقع ما يتسع عليه من خرقه، وهو بقرب قليوب؛ فخلا فيه يوماً للذته، ولم يدر أنه يوم ذلته، وانقضاء ساعاته بانقضاء دولته؛ فأنهض إليه صلاح الدين من أخذ راسه، ونزع ما جاء به لباسه، وذلك يوم الأربعاء الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة أربع؛ فورد موارده مِن رَداه على أدون مشرع.
قال: ولما قتل غار السودان وثاروا، وكانوا أكثر من خمسين ألفاً. وكانوا إذا قاموا على وزير قتلوه، واجتاحوه وأذلوه، واستباحوه واستحلوه؛ فحسبوا أن كل بيضاء شحمة، وأن كل سواد فحمة. مثار أصحاب صلاح الدين إلى الهيجاء، ومقدمهم الأمير أبو الهيجاء؛ واتصلت الحرب بين القصرين، وأطاحت بهم العسكرية من الجانبين، ودام الشر يومين، حتى أحس الأساحم بالحَيْن وكلما لجئوا إلى محلة أحرقوها عليهم، وحوَوْا ما حواليهم، وأخرجوا إلى الجيزة، وأذلوا بالنفي عن منازلهم العزيزة؛ وذلك يوم السبت الثامن والعشرين من ذي القعدة، فما خلص السودان بعدها من الشدة؛ ولم يجدوا إلى الخلاص سبيلا، وأينما وقفوا أُخذوا وقتِّلوا تقتيلا.
وكانت لهم على باب زويلة محلة تسمى المنصورة، وكانت بهم المعمرة المعمورة، فأخلى بنيانها من القواعد فأصبحت خاوية، ثم حرثها بعض الأمراء واتخذها بستاناً، فهي الآن جنة لها ساقية.
قال: وكان قد وصل إلى صلاح الدين قبيل هذه النوبة أخوه الأكبر، فخر الدين شمس الدولة تورانشاه بن أيوب، أنفذه إليله نور الدين من دمشق يشد أزره بمصر، لما سمع حركة الفرنج وأهل القصر، فوصل القاهرة في ثالث ذي القعدة. قال: وباشر بنفسه وقعة السودان هذه، وكان له فيها أثر عظيم.
ومن عجيب ما اتفق أن العاضد كان يتطلع من المنظرة يعاين الحرب بين القصرين، فقيل إنه أمر مَنْ بالقصر أن يقذفوا العساكر الشامية بالنشاب والحجارة ففعلوا؛ وقيل إن ذلك كان من غير اختياره. فأمر شمس الدولة الزراقين بإحراق منظرة العاضد، فهمَّ أحد الزراقين بذلك، وإذا بباب المنظرة قد فتح وخرج منه زعيم الخلافة وقال: أمير المؤمنين يسلم على شمس الدولة ويقول: دونكم والعبيد الكلاب، أخرجوهم من بلادكم. وكانت العبيد مشتدة الأنفس بأن العاضد راضٍ بفعالهم، فلما سمعوا ذلك فُتَّ في اعضادهم، فجبنوا وتخاذلوا وأدبروا.
ومما كتبه العماد على لسان غيره إلى صلاح الدين قصيدة منها:
بالملك الناصر استنارت ... في عصرنا أوجه الفضائل
عليّ من حقه فروض ... شكراً لما جاد من نوافل
يوسف مصر الذي إليه ... تشد آمالنا الرواحل
أجريت نيلين في ثراها: ... نيل نجيع ونيل نائل
وما نفيت السودان حتى ... حكَّمت البيض في المقاتل
صيرت رحب الفضاء ضيقاً ... عليهم كفة لحابل
وكل رأي منهم كراء ... وأرض مصر كلام واصل
وقد خلت منهم المغاني ... وأقفرت منهم المنازل
وما أصيبوا إلا بَطلّ ... فكيف لو أمطروا بوابل
والسود بالبيض قد أبيحوا ... فهي بَوَازٍ بهم نوازل
مؤتمن القوم خان حتى ... غالته من شره غوائل
عاملكم بالخنا، فأضحى ... ورأسه فوق رأس عامل
يا مخجل البحر بالأيادي ... قد آن أن تُفتح السواحل
فقدِّس القدس من خباث ... أرجاس كفر غُتم أراذل
قال العماد: ومما مدحت به صلاح الدين في ذلك التاريخ تهنئة له بالملك وتعزية بعمه:
أيا يوسف الإحسان والحسن، خير من ... حوى الفضل والإفضال والنهي والأمرا
ومن للهدى وجه النجاح برأيه ... تجلَّى، وثغر النصر من عزمه افتَرَّا
حمى حوزة الدين الحنيف بحوزه ... من الخالق الحسني ومن خلقه الشكرا
أبوه أبي إلا العلاء، وعمه ... بمعروفه عمَّ الورى: البدو والحضرا
وطال الملوك شيركوه بطوله ... وما شاركوه في العلا فحوى الفخرا
بنو الأصفر الإفرنج لاقوا ببيضه ... وسمر عواليه مناياهم حمرا
وما ابيضَّ يوم النصر واخضر روضه ... من الخصب حتى اسودَّ بالنقع واغبرَّا
رأى النصر في تقوى الإله، وكل من ... تقوَّى بتقوى اللهلايعدم النصرا
ولما رأى الدنيا بعين ملالة ... أغذَّ من الأولى مسيراً إلى الأخرى
وقام صلاح الدين بالملك كافلا ... وكيف ترى شمس الضحى تخلف البدرا
ولما صبت مصرُ إلى عصر يوسف ... أعاد إليها الله يوسف والعصرا
فأجرى بها من راحتيه بجوده ... بحاراً، فسماها الورى أنمْلا عشرا
هزمتم جنود المشركين برعبكم ... فلم يلبثوا خوفاً ولم يمكثوا ذعرا
وفرقتم من حول مصر جموعهم ... بكسر، وعاد الكسر من أهلها جبرا
وأمَّنتم فيها الرعايا بعدلكم ... وأطفأتم من شر شاورها الجمرا
بسفك دم حطتم دماء كثيرة ... وحزتم بما أبديتم الحمد والشكرا
وما يرتوي الإسلام حتى عذابها ... بأن تقسموا ما بينها القتل والأسرا
ولاتهملوا البيت المقدس، واعزموا ... على فتحه غازين، وافترعوا البكرا
تديمون بالمعروف طيِّب ذكركم ... وما الملك إلا أن تديموا لكم ذكرا
وإن الذي أثرى من المال مُقْتِرُ ... وإن يُفْنِه في كسب محمدة أثري
قال: وكثرت كتب صلاح الدين إلى أصدقائه مبشرةبطيِّب أنبائه. فمنها كتاب ضمه هذا البيت:
ما كنت بالمنظور أقنع منكم ... ولقد رضيت اليوم بالمسموع
فقلت في جوابه أبياتاً منها هذه:
ياهلْ لسالف عيشتي بفنائكم ... من عودة محمودة ورجوع
قد غبتم عن ناظري ما أذنت ... للقلب شمسُ مَرة بطلوع
كنتُ المشفَّع في المطالب عندكم ... فغدوت أطلب طيفكم بشفيع
أصبحت أقنع بالسلام على النوى ... وبقربكم كم بتُّ غير قنوع
قال: ووصل أيضاً منه كتاب ضمنه هذا البيت:
وأنثر در الدمع من قبل أبيضا ... وقد حال مذ بِنْتم فأصبح ياقوتا
فنظمت في جوابه أبياتاً منها:
هنيئاً لمصر حوز يوسف ملكها ... بأمر من الرحمن قد كان موقوتا
وما كان فيها قتلُ يوسف شاوراً ... يماثل إلا قتل داود جالوتا
وقلت لقلبي: أبشر اليوم بالمنى ... فقد نلتَ ماأملت، بل حزت ما شيتا
قال: وفي هذه السنة قتل العاضد بالقصر ابني شاور الكامل وأخاه، يعني الطاري، يوم الاثنين الرابع من جمادي الآخرة وذلك أنه لما قتل شاور عادوا في القصر، فكأنما نزلوا في القبر؛ فلو أنهم جاءوا إلى أسد الدين سلموا، وامتنعوا وعصموا، فإنه ساءه قتل شاور وإن كان أمن بقتله ماحاذر.
قلت: الكامل هو شجاع بن شاور، وكان له أخوان: طي تقدم ذكر قتل ضرغام له والآخر الطاري قال الفقيه أبو الحسن علي بن محمد بن أبي السرور الروحي في تاريخه: أخذ ابنا شاور، شجاع الملقب بالكامل والطاري الملقب بالمعظم، وأخوه الملقب بفارس المسلمين؛ فقتلوا ودير برؤسهم.
قال: ولما وَلي صلاح الدين ساس الرعية وأظهر لهم من العدل ما لم يعلموه، فاجتمع أهل البلاد وكرهوه، فأوقع براجلهم وأخرجهم من القاهرة إخراجاً عنيفاً، وأخرج بعد ذلك فارسهم وشتت شملهم؛ (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيةً بِما ظَلَمَوُا).
قال: ولما كانت سنة ست وستين رفع جميع المكوس صادرها وواردها، جليلها وحقيرها؛ وغزا بلاد الشام غزوتين.
قال ابن شداد: وفي المحرم من هذه السنة توفي ياروق الذي تنسب إليه الياروقة، يعني المحلة التي بظاهر حلب.
قال غيره: وفيها احترق جامع حلب وأسواق البز، وأخذ نور الدين في عمارته آخر السنة.
ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة
ففي أول صفر منها نزل الفرنج، خذلهم الله تعالى، على دمياط من الديار المصرية. قال ابن الأثير: كان فرنج الساحل لما ملك أسد الدين مصر قد خافوا وأيقنوا بالهلاك، فكاتبوا الفرنج الذين بالأندلس وصقلية يستمدونهم ويعرفونهم ما تجدد من ملك مصر، وأنهم خائفون على البيت المقدس من المسلمين؛ وأرسلوا جماعة من القسوس والرهبان يحرضون الناس على الحركة؛ فأمدوهم بالمال والرجال والسلاح، وأتعدوا على النزول على دمياط، ظناً منهم أنهم يملكونها ويتخذونها ظهراً يملكون به ديار مصر. فلما نازلوها حصروها، وضيقوا على من بها، فأرسل إليها صلاح الدين العساكر في النيل، وحشر فيها كل من عنده، وأمدهم بالمال والسلاح والذخائر، وتابع رسله إلى نور الدين يشكو له ماهو فيه من المخاوف، وأنه إن تخلف عن دمياط ملكها الفرنج، وإن سار إليها خلفه المصريون في مخلّفيه ومخلفيّ عسكره بالسوء، وخرجوا من طاعته، وصاروا من خلفه والفرنج من أمامه فجهز إليه نور الدين العساكر أرسالا، كلما تجهزت طائفة أرسلها؛ فسارت إليه يتلو بعضها بعضاً. ثم سار نور الدين فيمن عنده من العساكر فدخل بلاد الإفرنج فنهبها، وأغار عليها واستباحها، ووصلت الغارات إلى ما لم تكن تبلغه لخلو البلاد عن ممانع.
فلما رأى الإفرنج تتابع العساكر إلى مصر ودخول نور الدين بلادها، ونهبها وإخراجها، رجعوا خائبين ولم يظفروا بشئ؛ وهذا موضع المثل: ذهبت النعامة تطلب قرنين فعادت بلا أذنين!، فوصلوا إلى بلادهم فأوها خاوية على عروشها.
وكان مدة مقامهم على دمياط خمسين يوماً، أخرج منها صلاح الدين أموالاً لاتحصى حكى عنه أنه قال ما رأيت أكرم من العاضد: أرسل إليّ مدة مُقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار مصرية سوى الثياب وغيرها.
قال القاضي ابن شداد: لما علم الفرنج ما جرى من المسلمين وعساكرهم وماتم للسلطان من استقامة الأمر في الديار المصرية علموا أنه يملك بلادهم ويخرب ديارهم ويقلع آثارهم لما حدث له من القوة والملك فاجتمع الفرنج والروم جميعا وحدثوا نفوسهم بقصد الديار المصرية، والاستيلاء عليها وملكها، ورأوا قصد دمياط لتمكن القاصد لها من البر والبحر، ولعلمهم أنها إن حصلت لهم حصل لهم مغرس قدم يأوون إليه. فاستصبحوا المنجنيقات والدبابات والجروخ وآلات الحصار وغير ذلك. ولما سمع الفرنج بالشام ذلك اشتد أمرهم، فسرقوا حصن عكا من المسلمين، وأسروا صاحبها، وكان مملوكاً لنور الدين يسمى خطلخ العلمدار، وذلك في ربيع الآخر منها.
وفي رجب منها توفي العمادي صاحب نور الدين وأمير حاجبه، وكان صاحب بعلبك وتدمر.
ولما رأى نور الدين ظهور الفرنج ونزولهم على دمياط قصد شغل قلوبهم، فنزل على الكرك محاصراً لها في شعبان من هذه السنة، فقصده فرنج الساحل، فرحل عنها وقصد لقاءهم فلم يقعوا له. ثم بلغه وفاة مجد الدين بن الداية بحلب في رمضان، فاشتغل قلبه لأنه كان صاحب أمره، فعاد يطلب الشام، فبلغه خبر الزلزلة بحلب التي ضربت كثيراً من البلاد، وكانت في ثاني عشر شوال من السنة المذكورة وهو بعشترا. فسار يطلب حلب، فبلغه موت أخيه قطب الدين بالموصل؛ وكانت وفاته في الثاني والعشرين من ذي الحجة، وبلغه الخبر وهو بتل باشر فسار ليلته طالباً بلاد الموصل.
ولما علم صلاح الدين شدة قصد العدو دمياط أنفذ إلى البلد وأودعه من الرجال والأبطال والفرسان والميرة والآت السلاح ما أمن معه عليه، ووعد المقيمين فيه بإمدادهم بالعساكر والآلات، وإزعاج العدو عنهم إن نزل عليهم، وبالغ في الهدايا والعطايا والهبات. وكان وزيراً متحكماً لايرد أمره في شئ. ثم نزل الفرنج عليها في التاريخ المذكور واشتد زحفهم عليها وقتالهم لها، وهو رحمه الله تعالى يشن الغارات عليهم من خارج، والعسكر يقاتلهم من داخل. ونْصرُ الله للمسلمين يؤيدهم، وحسن قصده في نصرة دين الله يسعدهم وينجدهم، حتى بان لهم الخسران، وظهر على الكفر الإيمان، ورأوا أنهم ينجون برؤسهم، ويسلمون بنفوسهم، فرحلوا خائبين خاسرين، فحرقت مجانيقهم، ونهبت الآتهم، وقتل منهم خلق عظيم، وسلم البد بحمد الله ومنِّه.
وقال العماد: أقام صلاح الدين بالقاهرة في دار ملكه، ومدار فلكه، يُنهض إليها المدد بعد المدد، ويرسل إليها العدد بعد العدد، ويسهر ليله، ولايقيل نهاره، وقد أخلص لله سره وجهاره، ولاينام ولاينيم، وعنده من ذلك المُقْعِد المقيم. وسبق تقيّ الدين، ابن أخي السلطان، إلى دمياط فدخلها، وكذا خاله شهاب الدين محمود فنزلها. واتَّصل الحصار، وتواصل الأنصار، ودب في الفرنج الفناء، وهب عليهم البلاء، فرحلوا عنها في الحادي والعشرين من ربيع الأول، بالذل الأكمل، والصغار الأشمل.
وكان لما وصل الخبر بوصولهم، واجتماعهم على دمياط ونزولهم، اغتم واهتم، واستصعب الملم، وأنهض من عنده عسكراً ثقيلاً مقدّضمه الأمير قطب الدين خسرو الهذباني، وكان مقداماً مقدّما، وهُماما مُعْلما، وأمره أن يسير بالعسكر، ويخوض بهم بحر العجاج الأكدر، فوصل في النصف من ربيع الأول قبل رحيل الفرنج بأسبوع، فوقع رَوْعه من الكفر في كل رُوع.
قُلت: وبلغني من شدة اهتمام نور الدين رحمه الله بامر المسلمين حين نزل الفرنج على دمياط أنه قرئ عليه جزء من حديث كان له به رواية، فجاء في جملة تلك الأحاديث حديث مسلسل بالتبسُّم، فطلب منه بعض طلبة الحديث أن يتَبَسَّم لتتم السلسلة، على ما عرف من عادة أهل الحديث، فغضب من ذلك وقال: إني لأستحيي من الله تعالى أن يراني متبسما والمسلمون محاصرون بالفرنج. وبلغني أن إماماً لنور الدين رأى ليلة رحيل الفرنج عن دمياط في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أَعْلم نور الدين أن الفرنج قد رحلوا عن دمياط في هذه الليلة، فقال يا رسول الله ربما لايصدقني فاذكر لي علامة يعرفها، فقال: قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم وقلت: يارب انصر دينك ولاتنصر محموداً، من هو محمود الكلب حتى ينصر!! قال: فانتهيت ونزلت إلى المسجد، وكان من عادة نور الدين أنه كان ينزل إليه بغلس ولايزال يتركع فيه حتى يصلي الصبح، قال: فتعرضت له، فسألني عن أمري، فأخبرته بالمنام، وذكرت له العلامة، إلا أنني لم أذكر لفظة الكلب. فقال نور الدين رحمه الله تعالى: اذكر العلامة كلها؛ وألح علي في ذلك، فقلتها؛ فبكى رحمه الله وصدَّق الرؤيا. وأرخت تلك الليلة فجاء الخبر برحيل الفرنج بعد ذلك في تلك الليلة.
فصلأرسل نور الدين كتاباً إلى العاضد صاحب القصر يهنيه برحيل الفرنج عن ثغر دمياط، وكان قد ورد عليه كتاب العاضد بالاستقالة من الأتراك في مصر خوفاً منهم، والاقتصار على صلاح الدين وألزمه وخواصه. فكتب إليه نور الدين يمدح الأتراك ويعلمه أنه ماأرسلهم واعتمد عليهم إلا لعلمه بأن قنطاريات الفرنج ليس لها إلا سهام الأتراك فإن الفرنج لايرعبون إلا منهم، ولولاهم لزاد طمعهم في الديار المصرية، وتحصلوا منها على الأمنية، فلعل الله ييسر فتح المسجد الأقصى، مضافاً إليه نعمه التي لاتحصى. قلت: ولعمارة اليمني من قصيدة:
من شاكر، والله أعظم شاكر ... ماكان من نُعمى بني أيوب
طلب الهدى نصراً، فقال، وقد أتوا: ... حسبي، فأنتم غاية المطلوب
جلبوا إلى دمياط عند حصارهم ... عز القويِّ وذلة المغلوب
وجلوا عن الإسلام فيها كربة ... لو لم يجلُّوها أتت بكروب
فالناس في أعمال مصر كلها ... عتقاؤهم من نازح وقريب
إن لم تظن الناس قشراً فارغاً ... وهم اللباب، فأنت غير لبيب
وللشهاب فتيان الشاغوري من قصيدة يقول:
ولاغرو أن عاد الفرنج هزيمة ... ولو لم تعد لم يبق للشرك ساحل
فقد أيقنت أعداؤه أن حظهم ... لديه رماح أشرعت أو سلاسل
ولما أتوا دمياط كالبحر طامياً ... وليس له من كثرة القوم ساحل
يزيد عن الإحصاء والعد جمعهم ... ألوف ألوف خيلهم والرواحل
رأوا دونهم أسداً، بأيديهم القنا ... وبيضاً رقاقاً أحكمتها الصياقل
وداروا بها في البحر من كل جانب ... ومن دونها سد من الموت حائل
رجا الكلب، ملك الروم إذ ذاك، فتحها ... فخاف، فأم الملك والروم هابل
فعادوا على الأعقاب منها هزيمةكأنهمذلاًّنعام جوافل
وما أمَّلوا أن يلحقوا ببلادهم ... لتعصمهم مما رأوه المعاقل
قال العماد: وسألني كريم الملك أن أعمل له أبياتاً في صلاح الدين تهنئة بالنصر في دمياط، فعملت قصيدة منها:
يايوسف الحسن والإحسان، ياملكا ... بجده صاعداً أعداؤه هبطوا
حللت من وسط العلياء في شرف ... ومركز الشمس من أفلاكها الوسط
هنيت صونك دمياط التي اجتمعت ... لها الفرنج فما حلوا ولا ربطوا
مصر بيوسفها أضحت مشرَّفة ... وكل أمر لها بالعدل منضبط
وحين وافى صلاح الدين أصلحها ... فللمصالح من أيامه نمط
قال العماد: ومما سيَّرته إلى صلاح الدين قصيدة منها:
كأن قلبي وحبَّ مالكه ... مصر وفيها المليك يوسفها
هذا بسلب الفؤاد يظلمني ... وهو بقتل الأعداء ينصفها
الملك الناصر الذي أبداً ... بعز سلطانه يُشرِّفها
قام بأحوالها يدبرها ... حسناً، واثقالها يخففها
بعدله والصلاح يعمرها ... وبالندى والجميل يكنفها
من دنس الغادرين يرحضها ... ومن خباث العدا ينظفها
وإن مصراً بملك يوسفها ... جنة خلد يروق زخرفها
وإنه في السماح حاتمها ... وإنه في الوقار أحنفها
يوسف مصر الذي ملاحمها ... جاءت بأوصافه تعرفها
كتب التواريخ لايزينها ... إلا بأيامه مصنفها
وحُطت دمياط إذ أحاط بها ... من برجوم البلاء يقذفها
لاقت غواة الفرنج خيبتها ... فزاد من حسرة تأسفها
أوردت قلُب القلوب أرشيةً ... من القنا للدماء تنزفها
وليتها سفكها فعاملها ... عاملها، والسنان مشرفها
يُمضي لك الله في قتالهم ... عزيمة للجهاد ترهفها
وله فيه من أخرى:
قد استقرت أموري ... فيه بحسب اقتراحي
كما استقر صلاح الدُّ ... نيا بملك الصلاح
تنير شمس أيادي ... ه في سماء السماح
وأمْرُه مستفاد ... من القضاء المتاح
وأرسله نور الدين إلى خلاط، ومتوليها حينئذ ظهير الدين سكمان المعروف بشاه أرمن. فلما كنت بماردين كتبت إلى بعض المعارف:
قد نزلنا في جوارك ... وحللنا قرب دارك
وسرينا في الدياجي ... فهدانا ضوء نارك
فتدارك أمرنا اليو ... م بطول متدارك
وتفردْ باغتنام الشُّ ... كر من غير مشارك
قال العماد: وفي هذه السنة خرج نور الدين إلى دارياً فأعاد عمارة جامعها، وعمر مشهد أبي سليمان الداراني، وشتَّى بدمشق.
فصل في مسير نجم الدين أيوب إلى مصر بباقي أولاده وأهلهوقد وصف ذلك عمارة في قصيدة مدح بها السلطان صلاح الدين، تقدم بعضها، يقول فيها:
صحَّت به مصر، وكانت قبله ... تشكو سقاماً لم يعن بطبيب
عجباً لمعجزة أتت في عصره ... والدهر ولاَّد لكل عجيب!
رد الإله به قضية يوسف ... نسقاً على ضرب من التقريب
جاءته إخوته ووالده إلى ... مصر على التدريج والترتيب
فاسعد بأكرم قادم، وبدولة ... قد ساعدتك رياحها بهبوب
قال العماد: لما دخل فصل النيروز وزاد استأذن الأمير نجم الدين أيوب نور الدين في قصده ولده صلاح الدين والخروج من دمشق إلى مصر بأهله وجماعته وسبده ولبده، وخيَّم بظاهر البلد إلى أن بان وضوح جدده؛ وسار في حفظ الله تعالى، فوصل إلى مصر في السابع والعشرين من رجب، وقضى صاحب القصر العاضدُ من حق قدومه ماوجب، وركب لاستقباله، وزاد إقبال البلاد بإقباله.
ولما عزم على التوجه إلى مصر شرع في تفريق أملاكه، وتوفير ماله في شركه على أشراكه، وما استصحب شيئاً من موجوده، وجعله نهبة لجوده.
قلت: ووقف رباطاً داخل الدرب بزقاق العونية بباب البريد.
ثم قال العماد: ولما نصب نجم الدين أيوب لقصد مصر مضاربه، وسحب للعلا على روض الرضا سحائبه، خرج نور الدين إلى رأس الماء بعسكره وخيامه، وأرهف للجد في الجهاد حد اعتزامه. ثم أقام بعد توديعه، والوفاء بحق تشييعه، إلى أن اجتمعت إليه عساكره، وحضر بادي جنده وحاضره، وعب بحره، وماح زاخره.
ثم توجهنا إلى بلاد الكرك مستهل شعبان، ونزلنا أياماً بالبلقاء على عَمّان، وأقمنا على الكرك أربعة أيام نحاصرها، ونصبنا عليها منجنيقين. فورد الخبر أن الفرنج قد تجمعوا ووصلوا إلى ماعين، فقال نور الدين: نرى أن نعطف أعنتنا وبالله نستعين، فإنا إذا كسرناهم وقسرناهم، وقتلناهم وأسرناهم، أدركنا المراد، وملكنا البلاد. فرحلنا إليهم فولوا مدبرين حين سمعوا برجوعنا، وقالوا رحيلهم عن الحصن قد حصل وهو مقصودنا. وعاد نور الدين إلى حوران فخيم بعشترا وصام رمضان.
وقال ابن الأثير: كان سبب حصر نور الدين الكرك أن نجم الدين أيوب، والد صلاح الدين، سار عن دمشق إلى مصر فسير نور الدين معه عسكراً، فاجتمع معهم من التجار ومن كان له مع صلاح الدين أنس ومودة مالايُعد؛ فخاف نور الدين عليهم، فسار إلى الكرك فنزل عليه وحصره، وسار نجم الدين أيوب ومن معه سالمين، ونصب نور الدين على الكرك المجانيق، فأتاه الخبر أن الفرنج قد جمعوا وساروا إليه، وأن ابن الهنفري وفليب بن الرفيق، وهما فارسا الفرنج في وقتهما، في المقدمة إليه. فرحل نور الدين، رحمه الله تعالى، نحوهما للقائهما ومن معهما قبل أن يلخق بهما باقي الفرنج، وكانا في مائتي فارس وألف تركبلي ومعهم من الراجل خلق كثير. فلما قاربهما رجعا القهقري إلى من وراءهم من الفرنج، وقصد نور الدين وسط بلادهم، ونهب ماكان على طريقه، ونزل بعشترا، وأقام ينتظر حركة الفرنج ليلقاهم، فلم يبرحوا من مكانهم خوفاً منه.
وقال ابن شداد: أنفذ صلاح الدين في طلب والده ليكمل له السرور، ويجمع القصة مشاكلة ما جرى للنبي يوسف الصديق عليه السلام. فوصل والده نجم الدين إليه، وسلك معه من الأدب ماكان عادته، وألبسه الأمر كله فأبى أن يلبسه، وقال: يا ولدي، ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت كفءُ له، فما ينبغي أن نغير موقع السعادة؛ فحكمَّه في الخزائن كلها. وكان رحمه الله تعالى كريماً يطلق ولايرد. ولم يزل صلاح الدين وزيراً محكماً إلى أن مات العاضد أبو محمد عبد الله، وبه ختم أمر المصريين.
وقال ابن أبي طي الحلبي: أرسل الخليفة المستنجد بالله من بغداد إلى نور الدين يعاتبه في تأخير إقامة الدعوة بمصر، فأحضر الأمير نجم الدين أيوب وألزمه الخروج إلى ولده بمصر بذلك، وحملَّه رسالة منها: " وهذا أمر تجب المبادرة إليه لنحظى بهذه الفضيلة الجليلة، والمنقبة النبيلة، قبل هجوم الموت، وحضور الفوت، لاسيما وإمام الوقت متطلع إلى ذلك بكليته، وهو عنده من أهم أمنيته " .
وسار نجم الدين، وأصحبه نور الدين هدية سنية للملك الناصر، وخرج العاضد لتلقيه إلى ظاهر باب الفتوح عند شجرة الإهليلج، ولم يجر بذلك عادة لهم. وكان من أعجب يوم شهده الناس، وخلع العاضد عليه ولقبَّه الملك الأفضل، وحمل إليه من القصر الألطاف والتحف والهدايا، وأظهر السلطان من بره وتعظيم أمره ما أحرز به الشكر والأجر، وأفرد له داراً إلى جانب داره، وأقطعه الإسكندرية ودمياط والبحبرة، وأقطع شمس الدولة تورانشاه أخاه قوص وأسوان وعيذاب، وكانت عبرتها في هذه السنة مائتي ألف وستة وستين ألف دينار.
وسار شمس الدولة إلى قوص وولاها شمس الخلافة محمد بن مختار. وكان السلطن قبل إقطاعها شمس الدولة قد سيَّر رسلان بن دغمش لجباية خراجها، فخرج عليه عباس بن شلذي في جماعة من الأعراب والعبيد في مرج بني هميم، فغنمه رسلان وعاد إلى القاهرة. وفي هذه السنة ليلة عيد الفطر رزق السلطان ولده الملك الأفضل نورالدين علياً وفرح به فرحاً عظيماً، وخلع وأعطى، وتصدق بما بهر به العقول.
ومن قصيدة للحكيم عبد المنعم، قد تقدم بعضها:
في مشرق المجد نجم الدين مطلعه ... وكل أبنائه شهب، فلا أقلوا
جاءوا كيعقوب والأسباط، إذ وردوا ... على العزيز من أرض الشام واشتملوا
لكنَّ يوسف هذا جاء إخوته ... ولم يكن بينهم نزع ولازلل
وملكوا أرض مصر في شماخته ... ومثلها لرجال مثلهم نزلوا
فصل في ذكر الزلزلة الكبرىقال ابن الأثير: وفي ثاني عشر شوال كانت زلزلة عظيمة لم ير الناس مثلها، عمت أكثر البلاد من الشام ومصر والجزيرة والموصل والعراق وغيرها؛ إلا أن أشدها وأعظمها كان بالشام. فخربت بعلبك وحمص، وحماة، وشيزر، وبعرين، وغيرها؛ وتهدمت أسوارها وقلاعها، وسقطت الدور على أهلها، وهلك من الناس ما يخرج عن العد والإحصاء فلما أتى نور الدين خبرها سار إلى بعلبك ليعمر ما انهدم من أسوارها وقلعتها، وكان لم يبلغه خبر غيرها. فلما وصلها أتاه خبر باقي البلاد بخراب أسوارها، وخلوها من أهلها؛ فرتب ببعلبك من يحميها ويعمرها، وسار إلى حمص ففعل مثل ذلك، ثم إلى حماة، ثم إلى بارين. وكان شديد الحذر على البلاد من الفرنج لاسيما قلعة بارين، فإنها مع قربها منهم لم يبق من سورها شئ البتة، فجعل فيها طائفة صالحة من العسكر مع أمير كبير، ووكل بالعمارة من يحث عليها ليلا ونهاراً. ثم أتى مدينة حلب فرأى فيها من آثار الزلزلة ماليس بغيرها من البلاد، فإنها قد أتت عليها، وبلغ الرعب بمن نجا كل مبلغ، فكانوا لايقدرون يأوون إلى بيوتهم السالمة من الخراب خوفاً من الزلزلة، فإنها عاودتهم غير مرة؛ وكانوا يخافون يقيمون بظاهر حلب من الفرنج. فلما شاهد ما صنعت الزلزلة بها وبأهلها أقام فيها وباشر عمارتها بنفسه، وكان هو يقف على استعمال الفعلة والبنائين. ولم يزل كذلك حتى أحكم أسوارها، وجميع البلاد وجوامعها، وأخرج من الأموال مالايقدَّر قدره.
وأما بلاد الفرنج، خذلهم الله تعالى، فإنها أيضاً فعلت بها الزلزلة قريباً من هذا، وهم أيضاً يخافون نور الدين على بلادهم، فاشتغل كل منهم بعمارة بلاده من قصد الآخر.
قال العماد: وكانت قلاع الفرنج المجاورة لبعرين ولحصن الأكراد وصافيثا والعُريمة وعرقا في بحر الزلازل غرقى، لاسيما حصن الأكراد، فإنه لم يبق له سور، وقد تم عليه فيه دحور وثبور. فشغلهم سوءُهم عن سواه، وكل اشتغل بما دهاه. وتواصلت الأخبار من جميع بلاد الشام بما أحدثته الزلزلة من الانهداد والانهدام.
قال: وما سكنت النفوس من رعبها، وتسلت القلوب عن كربها، إلا بما دهم الكفار من أمرها وعراهم من ضرها، فلقد خصتهم بالأمضِّ الأشق، وأخذتهم الرجفة بالحق، فإنها وافقت يوم عيدهم وهم في الكنائس، فأصبحوا للردى فرائس، شاخصة أبصارهم ينظرون (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَأَتَاهُمُ العْذَابُ منْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُون).
ثم ذكر العماد قصيدة في مدح نور الدين ووصف الزلزلة مطلعها:
هل لعاني الهوى من الأسر فادي ... ولساري ليل الصبابة هادي
جنِّبوني خطب البعاد، فسهلُ ... كل خطب سوى النوى والبعاد
كنت في غفلة من البين حتى ... صاح يوم الأثيل بالبين حادي
قد حللتم من مهجتي في السويدا ... ء، ومن مقلتي محل السواد
وبخلتم من الوصال بإسعا ... في، أما كنتمُ من الأجواد
وبعثتم نسيمكم يتلافا ... ني، فعاد النسيم من عُوّادي
سُمتموني تجلداً واشتياقاً ... ومحال تجمُّع الأضداد
أبقاءُ بعد الأحبة ياقلْ ... بيَ! ماهذه شروط الوداد
ذاب قلبي وسال في الدمع لما ... دام من نار وجده في اتقاد
ما الدموع التي تحدرها الأش ... واق إلا فتائت الأكباد
حبذا ساكنو فؤادي، وعهدي ... بهمُ يسكنون سفح الوادي
أتمنى بالشام أهلي ببغدا ... د، وأين الشآم من بغداد
ما اعتياضي عن حبهم يعلم الل ... ه تعالى إلا بحب الجهاد
واشتغالي بخدمة الملك العا ... دل محمودٍ، الكريم، الجواد
أنا منه على سرير سروري ... راتع العيش في مراد مُؤادي
قيدتني بالشام منه الأيادي ... والأيادي للحر كالأقياد
قد وردت البحر الخضم وخلَّف ... تُ ملوك الدنيا به كالثماد
هو نعم الملاذ من نائب الده ... ر ونعم المعاذ عند المعاد
جل رزء الفرنج فاستبدلوا من ... ه بلبسُ الحديد لبس الحداد
فرَّق الرعب منه في انفس الكف ... ار بين الأرواح والأجساد
سطوة زلزلت بسكانها الأر ... ض وهدت قواعد الأطواد
أخذتهم بالحق رجفة بأس ... تركتهم صرعى صروف العوادي
خفضت في قلاعها كل عال ... وأعادت قلاعها كالوهاد
أنفذ الله حكمه فهو ماض ... مظهر سر غيبه فهو بادي
آية آثرت ذوي الشرك بالُهْل ... ك وأهل التوحيد بالإرشاد
والأعادي جرى عليهم من التد ... مير ما قد جرى على قوم عاد
أشركت في الهلاك بين الفريقي ... ين: دعاة الإشراك والإلحاد
ولقد حاربوا القضاء، فأمضى ... حكمه فيهم بغير جلاد
والإله الرؤوف في الشام عنا ... دافع لطفه بلاء البلاد
قال العماد: ومنها معنى مبتكر ابتدعته في الزلزلة، وهو:
وبحق أصيبت الأرض لما ... سكنت من مقام أهل الفساد
قال العماد: في هذه السنة عند وصولنا إلى حلب في الخدمة النورية كنت مقرِّظاً للفضائل الشَّهْرَزَوْرِية، وكان الحاكم بها القاضي محيي الدين أبو حامد محمد، ابن قاضي قضاة الشام كمال الدين أبي الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشَّهْرَزَوْرِي. وكان كمال الدين قد علق به تنفيذ الأحكام وإليه أمور الديوان، وهو ذو المكانة والإمكان، في بسط العدل والإحسان؛ ومحيي الدين ولده ينوب عنه في القضاء بحلب وبلدانها، وينظر أيضاً في أمور ديوانها؛ وبحماة وحمص من بني الشهرزوري قاضيان، وهما حاكمان متحكمان. وكان هذا محيي الدين من أهل الفضل، وله نظم ونثر، وخطب وشعر؛ وكانت معرفتي به في أيام التفقه ببغداد في المدرسة النظامية، منذ سنة خمس وثلاثين، والمدرس شيخنا معين الدين سعيد بن الرزّاز؛ وكان مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه بعلمه مُعلماً مذهب الطراز. وكانت الزلزلة بحلب قد خربت دار محيي الدين وسلبت قراره، وغلبت اصطباره، وحلبت أفكاره؛ فكتبت إليه قصيدة مطلعها:
لو كان من شكوى الصبابة مشكيا ... لعدا على عدوى الصبابة معدياً
ومنها:
مات الرجاء، فإن أردت حياته ... ونشوره، فارجُ الإمام المحييا
أقضى القضاة، محمد بن محمد ... من لست منه للفضائل محصيا
قاضٍ به قضت المظالم نحبها ... وغدا على آثارهن معفيا
يا كاشفاً للحق في أيامه ... غُررا يدوم لها الزمان مغطيا
لم تنعش الشهباء عند عثارها ... لو لم تجدك لطود حلمك مرسيا
رجفت لسطوتك التي أرسلتها ... نحو الطغاة لحد عزمك ممهيا
وتظلمت من شرهم فتململت ... عجل أجازتها عليها مبقيا
أنفت من الثقلاء فيها إذ رمت ... أثقالها ورأتك منها ملجيا
حَلَبُ لها حلب المدامع سُيّل ... أن لاقت الخطب الفظيع المبكيا
وبعدل نور الدين عاود أفقها ... من بعد غم الغم جواً مصحيا
لأمورها متدبراً، لشتاتها ... متألفاً، لصلاحها متولياً
فالشرع عاد بعدله مستظهراً ... والحق عاد بظله مستذرياً
والدهر لاذ بعفوه مستغفراً ... مما جناه، مطرقا، مستحييا
فصل في غزو صاحب البيرة ووفاة صاحب الموصل
قال ابن الأثير: كان شهاب الدين محمد بن إلياس بن إيلغازي بن أرتق، صاحب قلعة البيرة قد سار في عسكر، وهم مائتا فارس، إلى الخدمة النورية وهو بعشترا. فلما وصل إلى اللبوة، وهي من أعمال بعلبك، ركب متصيداً فصادف ثلثمائة فارس من الفرنج قد ساروا للغارة على بلاد الإسلام، وذلك سابع عشر شوال، فوقع بعضهم على بعض واقتتلوا، وصبر الفريقان لاسيما المسلمون، لأن ألف فارس منهم لاتصبر لحملة ثلثمائة فارس من الفرنج. وكثر القتلى بينهم وانهزم الفرنج، وعمهم القتل والأسر، فلم يفلت منهم إلا من لايعتد به. (وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ في المِيعَادِ، وَلَكِنْ لَيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كاَنَ مَفْعُولا) وسار شهاب الدين بالأسرى ورؤس القتلى إلى نور الدين، فركب هو وعسكره إلى لقائه، واستعرض الأسرى ورؤس القتلى، فرأى فيها رأس مقدم الأستبارية صاحب حصن الأكراد، وكانت الفرنج تعظمه لشجاعته ودينه عندهم، ولأنه شجي في حلوق المسلمين؛ وكذلك أيضاً رأى رأس غيره من مشهوري الفرنج، فازداد سروراً، ولله الحمد.
قال: وفي شوال سنة خمس وستين توفي الملك قطب الدين مودود بن زنكي بالموصل. وكان لما أشتد مرضه أوصى بالملك بعده لولده عماد الدين زنكي بن مودود، وهو أكبر أولاده، وأعزهم عليه، وأحبهم إليه. وكان النائب عن قطب الدين حينئذ والقيم بأمر دولته فخر الدين عبد المسيح، وكان يكره عماد الدين زنكي لأنه كان قد أكثر المقام عند عمه الملك العادل نور الدين رحمه الله تعالى، وتزوج ابنته، وكان عزيزه وحبيبه. وكان نور الدين يبغض عبد المسيح لظلم كان فيه، ويذمه ويلوم أخاه قطب الدين على توليته لأموره. فخاف عبد المسيح أن يتصرف عماد الدين في أموره عن أمر عمه فيعزله ويبعده، فاتفق هو والخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش، زوجة قطب الدين، فردوه عن هذا الرأي. فلما كان الغد أحضر قطب الدين مودود الأمراء واستحلفهم لولده سيف الدين غازي. وتوفي وقد جاوز عمره أربعين سنة.
وكان تام القامة كبير الوجه، أسمر اللون، واسع الجبهة، جهوري الصوت. وكانت ولايته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً.
ولما توفي استقر سيف الدين غازي في الملك ورحل عماد الدين إلى عمه نور الدين شاكياً ومستنصراً. وكان عبد المسيح هو متولى أمور سيف الدين ويحكم في مملكته، وليس لسيف الدين من الأمر إلا اسمه، لأنه في عنفوان شبابه وعزة حداثته.
قال: وهذه حادثة تحث على العدل: كان من جملة أعمال جزيرة ابن عمر قرية تسمى العُقَيمة مقابل الجزيرة من الجانب الشرقي، يفصل بينهما دجلة لها بساتين كثيرة، بعضها تمسح أرضه ويؤخذ على كل جريب من الأرض التي قد زرعت شئ معلوم وبعضها عليه خراج ولا مساحة عليه، وبعضها مطلق منهما. فالممسوح منها لايحصل لأصحابه منه إلا القدر القريب، وكان لنا بها عدة بساتين. فحكى لي والدي قال: جاءنا كتاب فخر الدين عبد المسيح إلى الجزيرة، وأنا حينئذ أتولى ديوانها، يأمر بأن تجعل بساتين العقيمة كلها ممسوحة؛ فشق ذلك عليَّ لأجل أصحابها، ففيها ناس صالحون ولي بهم أنس وهم فقراء. فراجعته، وقلت له: لاتظن أني أقول هذا لأجل ملكي، لا والله، وإنما أريد أن يدوم الناس على الدعاء للمولى قطب الدين وأنا أمسح ملكي جميعه. قال: فأعاد الجواب بأمر المساحة ويقول: تمسح أولا ملكك ليقتدي بك غيرك، ونحن نطلق لك ما يكون عليه. فشرع النواب يمسحون. وكان بالعقيمة رجلان صالحان بيني وبينهما مودة، اسم أحدهما يوسف والآخر عبادة، فحضرا عندي وتضرّرا من هذه الحال، وسألاني المكاتبة في المعنى؛ فأظهرت لهما كتاب عبد المسيح جواباً عن كتابي، فشكراني، وقالا: وأيضاً تعودُ تراجعهُ. فعاودت القول، فأصر على المساحة؛ فعرَّفتهما الحالة. فلما مضى عدة أيام عدت يوماً إلى داري وإذا هما قد صادفاني على الباب، فقلت لنفسي: عجباً لهذين الشيخين، قد رأيا مراجعتي وهما يطلبان مني مالا أقدر عليه! فقلت لهما: والله إني لأستحيي منكما كلما جئتما في هذا المعنى، وقد رأيتما الحال كيف هو. فقالا: صدقت، ولم نحضر إلا لنعرفك أن حاجتنا قضيت. فظننت أنهما أرسلا إلى الموصل من شفع لهما، فدخلت إلى داري وأدخلتهما معي، وسألتهما عن الحال كيف هو، ومن الذي سعى لهما. فقالا: إن رجلا من الصالحين الأبدال شكونا إليه حالنا، فقال: قد قضيت حاجة أهل العقيمة جميعهم. قال: فوقع عندي من هذا ولكن تارة أصدقهما لما أعلم من صلاح أحوالهما، وتارة أعجب من سلامة صدورهما، كيف يعتمدان على هذا القول ويعتقدانه واقعاً لاشك فيه! فلما كان بعد أيام وصل قاصد من الموصل بكتاب يأمر فيه بإطلاق مساحة العقيمة وإطلاق كل مسجون وبالصدقة، فسألت القاصد عن السبب، فأخبرنا أن قطب الدين شديد المرض. قال: فأفكرت في قولهما وتعجبت منه، ثم توفي بعد يومين من هذا. ورأيت والدي إذا رأى أحد الرجلين يبالغ في إكرامه، ويحترمه، ويقضي أشغاله، واتخذهما صديقين.
قال: وكان قطب الدين من أحسن الملوك، وأعفَّهم عن أموال رعيته، محسنا إليهم، كثير الإنعام عليهم، محبوباً إلى صغيرهم وكبيرهم، حليماً عنالمذنين، سريع الانفعال للخير. حدَّثني والدي قال: استدعاني يوما وهو بالجزيرة، وكنت أتولى أعمالها، فلامني في بعض الأمر. فقلت: أخاف من الاستقصاء؛ لو دُعي على بعض هؤلاء الملوك، وأومأت إلى أولاده، لكانت شعرة منه تساوي الدنيا ومافيها، ولنا مواضع تحتمل العمارة لو عمرت لتحصل منها أضعاف هذا. فقال: جزاك الله خيراً! لقد نصحت وأديت الأمانة، فاشرع في عمارة هذه الاماكن. ففعلت، وكبرت منزلتي عنده، ولم يزل يثني عليّ.
قال: وكان كثير الصبر والاحتمال من أصحابه. لقد صبر من نوابه زين الدين وجمال الدين وغيرهما على مالم يصبر عليه سواه. وكان حسن الاتفاق مع اخيه الملك العادل نور الدين كثير المساعدة والإنجاد له بنفسه وعسكره وأمواله؛ حضر معه المصافَّ بحارم وفتحها وفتح بانياس. وكان يخطب له في بلاده باختيار من غير خوف. وكان إحسانه إلى أصحابه متتابعاً من غير طلب منهم ولاتعريض. وكان يبغض الظلم وأهله، ويعاقب من يفعله. قال: وبالله أقسم إذا فكرت في الملوك أولاد زنكي: سيف الدين ونور الدين وقطب الدين، وما جمع الله فيهم من مكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، وحسن السيرة، وعمارة البلاد، والرفق بالرعية؛ إلى غير ذلك من الأسباب التي يحتاج الملك إليها، أذكر قول الشاعر:
من تلقَ منهم تقلْ لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها السَّاري
قلت: وقرأت بخط الشيخ عمر الملا، رحمه الله، في كتاب كتبه إلى بعض الصالحين وسأله فيه الدعاء لقطب الدين صاحب الموصل وقال فيه: " يأخي، لو ذهبت أشرح لك سيرته في بلاده وعيش رعيته في ولايته أطلت وأضجرت. غير أني أذكر لك ماخصه الله به من الأخلاق الصالحة: هو من أكثر الناس رحمة، وأشدهم حياء، وأعظمهم تواضعاً، وأقلهم طمعاً، وأزهدهم في الظلم، وأكثرهم صبراً، وأبعدهم غضباً، وأسرعهم رضا. وهو من هذه الأخلاق على حدٍ أحبه أنا محبة لاأقدر أصفها، وبيني وبينه إخاء ومزاورة، يزورني وأزوره " .
فصلقال ابن الأثير: ولما بلغ نور الدين وفاة أخيه قطب الدين وملك ولده سيف الدين بعده، واستيلاء عبد المسيح واستبداه بالأمور، وحكمه على سيف الدين أنف من ذلك وكبر لديه، وشق عليه. وكان يبغض عبد المسيح لما يبلغه من خشونته على الرعية والمبالغة في إقامة السياسة: وكان نور الدين رحمه الله تعالى ليناً رفيقاً عادلا، فقال: أنا أولى بتدبير أولاد أخي وملكهم. ثم سار من وقته فعبر الفرات عند قلعة حعبر أول المحرم.
ثم دخلت سنة ست وستين وخمسمائةوقصد الرَّقَّة فامتنع بها شيئاً من الامتناع، ثم سلمها على شئ اقترحه. فاستولى نور الدين عليها وقرر أمورها؛ وسار إلى الخابور فملكه جميعه؛ ثم ملك نصيبين وأقام يجمع العساكر، فإنه كان قد سار جريدة، فأتاه بها نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب الحصن وديار بكر، واجتمعت عليه العساكر؛ وقد كان ترك أكثر عسكره بالشام لحفظ ثغوره وأطرافه من الفرنج وغيرهم. فلما اجتمعت العساكر سار إلى سنجار فحصرها، وأقام عليها، ونصب المجانيق، وكان بها عسكر كبير من الموصل. فكاتبه عامة الأمراء الذين بالموصل يحثونه على السُّرعة إليهم ليسلموا البلد إليه وأشاروا بترك سنجار، فلم يقبل منهم، وأقام حتى ملك سنجار وسلمها إلى ابن أخيه الأكبر عماد الدين زنكي. ثم سار إلى الموصل فأتى مدينة بَلَد وعبر دجلة في مخاضة عندها إلى الجانب الشرقي، وسار فنزل شرقي الموصل على حصن نينوى، ودجلة بينه وبين الموصل.
وقال: ومن العجب أنه يوم نزوله سقط من سور الموصل بدنة كبيرة. وكان عبد المسيح قد سيَّر عز الدين مسعود بن قطب الدين أتابك إيلْدكِز صاحب بلاد الجبل وآذربيجان وأرّان وغيرها يستنجده، فأرسل إيلْدِكِز رسولا إلى نور الدين ينهاه عن قصد الموصل ويقول له: إن هذه البلاد للسلطان ولاسبيل لك إليها. فلم يَلْتَفت نور الدين إلى رسالته، وكان بسنجار، فسار إلى الموصل، وقال للرسول: قل لصاحبك: أنا أرفق ببني أخي منك فلاتدخل نفسك بيننا، وعند الفراغ من إصلاحهم يكون الحديث معك على باب همدان، فإنك قد ملكت نصف بلاد الإسلام وأهملت الثغور حتى غلب الكُرْج عليها؛ وقد بليت أنا وحدي بأشجع الناس، الفرنج، فأخذت بلادهم، وأسرت ملوكهم، فلايجوز لي أن أتركك على ما أنت عليه، فإنه يجب علينا القيام بحفظ ما أهملت من بلاد الإسلام، وإزالة الظلم عن المسلمين. فعاد الرسول بهذا الجواب.
وحصر نور الدين الموصل، فلم يكن بينهم قتال، وكان هوى كل من بالموصل، من جندي وعامي، معه، لحسن سيرته وعدله. وكاتبه الأمراء يعلمونه أنهم على الوثوب على عبد المسيح وتسليم البلد إليه. فلما علم عبد المسيح ذلك راسله في تسليم البلد إليه وتقريره على سيف الدين، ويطلب الأمان وإقطاعاً يكون له. فأجابه إلى ذلك وقال: لاسبيل إلى إبقائه بالموصل، بل أن يكون عندي بالشام، فإني لم آت لأخذ البلاد من أولادي، إنما جئت لأخلص الناس منك وأتولى أنا تربية أولادي. فاستقرت القاعدة على ذلك، وسلمت الموصل إليه، فدخلها ثالث عشر جمادي الأولى، وسكن القلعة. وأقر سيف الدين غازي على الموصل، وولى بقلعتها خادماً يقال له سعد الدين كمشتكين، وجعله دُزداراً فيها، وقسم جميع ماخلفه أخوه قطب الدين بين أولاده بمقتضى الفريضة.
ولما كان يحاصر الموصل جاءته خلعة من الخليفة فلبسها، فلما دخل الموصل خلعها على سيف الدين. وأطلق المكوس جميعها من الموصل وسائر ما فتحه من البلاد، وأمر ببناء الجامع النوري بالموصل، فبنى وأقيمت الصلاة فيه سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة.
وأقام بالموصل نحو عشرين يوماً، وسار إلى الشام، فقيل له: إنك تحب الموصل والمقام بها ونراك أسرعت العود؛ فقال: تغير قلبي فيها فإن لم أفارقها ظلمت؛ ويمنعني أيضاً أنني ههنا لاأكون مرابطاً للعدو وملازماً للجهاد. ثم أقطع نصيبين والخابور العساكر، وأقطع جزيرة ابن عمر سيف الدين غازي ابن أخيه مع الموصل، وعاد إلى الشام ومعه عبد المسيح، فغير اسمه وسماه عبد الله، وأقطعه إقطاعاً كثيراً.
وقال العماد: استدعاني نور الدين ونحن بظاهر الرقَّة وقال لي: قد أنست بك وأمنت إليك، وأنا غير مختار للفرقة، ولكن المهم الذي عرض، لايبلغ فيه غيرك الغرض، فتمضي إلى الديوان العزيز جلايدة، وتؤدي عني رسالة سديدة سعيدة، وتنُهي أني قصدت بيتي وبيت والدي، ومغنَي طريفي وتالدي، وأنا كبيره ووراثه، والذي له حديثه وحادثه. فامض وخذ لي إذناً فإني أعد كل جارحة لما أخاطب به أُذناً، وأمثل ما يصلني من المثال لدفع كل مكروه ركناً. وأمر ناصر الدين محمد بن شيركوه أن يسيرني إلى الرحبة، في رجال مأموني الصحبة وسرت منها على البرية غربي الفرات، بخفير من بني خفاجة. فذكر أنه وصل وقضى الحاجة، ثم رجع من عند الخليفة المستنجد إلى نور الدين، وهو يحاصر سنجار، فأحذها وسلمها إلى ختنه ابن أخيه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي.
قال: ثم رحل على عزم الموصل وقصد بلد، واستوضح فيها الجدد، ودُلَّ هناك في دجلة على مخاضة، وكان ذا أخلاق وهمم مرتاضة، فاستسهل من خوضها والعبور فيها ماظن مستعصيا، وسهل لنا الله ذلك ورأيناه أمراً عجيباً؛ وجاء دليل تركماني قدامنا، وهو يقطع دجلة تارة طولا وتارة عرضاً أمامنا، ونحن وراءه كخيط واحد لانميل يميناً ولايساراً، ولانجد لنا في سوى المجاز اختياراً؛ حتى عبرنا من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي برجالنا وأثقالنا، وخيلنا وبغالنا وجمالنا؛ وأقمنا بقية ذلك اليوم، حتى تمَّ عبور القوم.
ثم رحلنا ونزلنا على الموصل من شرقها، وخيمنا على تلِّ توبة، فاستعظم أهلها تلك النوبة، وما خطر ببالهم أننا نعبر بغير مراكب، وأنَّا نأخذ عليهم ذلك الجانب. فعرفوا أنهم محصورون، مقهورون، محسورون؛ وانقطعت عنهم السيل من الشرق، وتعذر عليهم الرقع لاتساع الخرق؛ وبسط العطاء، وكشف الغطاء، وتكلم في المصلحة والمصالحة الوسطاء؛ ومُد الجسر، وقضى الأمر، وأنعم نور الدين على أولاد أخيه، ومثلوا بناديه؛ وأقر سيف الدين غازياً على قاعدة أبيه، وألبسه التشريف الذي وصله من أمير المؤمنين المستضيء.
ثم دخل قلعة الموصل وأقام بها سبعة عشر يوماً، وجدد مناشير أهل المناصب وتوقيعات ذوي المراتب من القضاة والنقابة وغيرهما. وأمر بإسقاط جميع المكوس والضرائب، وأنشأ بذلك منشوراً يقرأ على الناس، فمنه: " وقد قنعنا من كنز الأموال باليسير من الحلال؛ فسحقاً للسحت، ومحقاً للحرام الحقيق بالمقت؛ وبعداً لما يبعد من رضا الرب، ويقصي من محل القرب. وقد استخرنا الله وتقربنا إليه، وتوكلنا في جميع الأحوال عليه، وتقدمنا بإسقاط كل مكس وضريبة، في كل ولاية لنا بعيدة أو قريبة؛ وإزالة كل جهة مشتبهة مشوبة، ومحو كل سنَّة سيئة شنيعة، ونفي كل مظلمة مُظلمى فظيعة؛ وإحياء كل سنة حسنة، وانتهاز كل فرصة في الخير ممكنة، وإطلاق كل ما جرت العادة بأخذه من الأموال المحظورة، خوفاً من عواقبها الرديئة المحذورة، فلا يبقى في جميع ولايتنا جور جائر جارياً، ولاعمل لايكون به الله راضياً، إيثاراً للثواب الآجل، على الحطام العاجل. وهذا حق لله قضيناه، وواجب علينا أديناه، بل هي سنة استنناها، ومحجة واضحة بيناها، وقاعدة محكمة مهدناها، وفائدة مغتنمة أفدناها " .
فصلقال العماد: وكان بالموصل رجل صالح يعرف بعمر الملاَّ، سمى بذلك لأنه كان يملأ تنانير الجص بأجرة يتقوَّت بها، وكل ما عليه من قميص ورداء، وكسوة وكساء، قد ملكه سواه واستعاره، فلا يملك ثوبه ولا إزاره. وكن له شئ فوهبه لأحد مريديه، وهو يتجر لنفسه فيه، فإذا جاءه ضيف قراه ذلك المريد. وكان ذا معرفة بأحكام القرآن والأحاديث النبوية.
وكان العلماء والفقهاء، والملوك والأمراء، يزورونه في زاويته، ويتبركون بهمته، ويتيمنَّون ببركته. وله كل سنة دعوة يحتفل بها في أيام مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضره فيها صاحب الموصل، ويحضر الشعراء وينشدون مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحفل.
وكان نور الدين من أخص محبيه يستشيرونه في حضوره، ويكاتبه في مصالح أموره. وكانت بالموصل خربة واسعة في وسط البلد أشيع عنها أنه ما شرع في عمارتها إلا من ذهب عمره، ولم يتم على مراده أمره. فأشار الشيخ عمر على نور الدين بابتياعها، ورفع بنائها جامعاً تقام فيه الجمع والجماعات؛ ففعل وأنفق في فيه أموالاً كثيرة، ووقف عليه ضيعة من ضياع الموصل، ورتب فيه خطيباً ومدرساً. وكان قد وصل في تلك السنة وافداً يكون مدرساً في ذلك الجامع وكتب له به منشوراً.
قال: وحضر مجاهد الدين قايماز صاحب إربل إلى الخدمة النورية في الموصل. وكان دخولهم إياها في بحبوبة الشتاء؛ فكتب العماد إلى بعض كبراء الموصل قصيدة، منها:
مايمنع الخادم من قصْده الْ ... خدمة غير الطُّرْق والوحل
كأنما مَوْصلكم مقطع ... مايهتدي فيه إلى وصل
وكلّ معروف بها منكر ... كما تراه ضيّق السّبل
وكل من حلّ بها لايرى ... في زمن الخصب سوى المحل
ومذ دخلناها حصلنا بها ... كَرهاً على خرج بلا دخل
أصعب ما نلقاه من أهلها ... قول بلا أهل ولاسهل
وكنت أهاوها، ولكنني ... لقيت منها كلّ ما يسلى
وانت من أصبح إحسانه ... حلية هذا الزمن العُطل
قال: وعاد نور الدين إلى سنجار فأعاد عمارة أسوارها. ثم أتى حرّان وقد اقتطعها عن صاحب الموصل هي ونصيبين، والخابور، والْمِجْدل. ووصل حلب في خامس رجب.
قال ابن شدّاد: دخل حلب في شعبان وزوّج صاحب الموصل ابنته.
قال العماد: وفوّض القضاء والحُكم بنصيبين وسنجار والخابور إلى الشيخ شرف الدين ابن أبي عصرون، فولّى بها نوابه وحكّم فيها أصحابه.
وقال القاضي ابن شداد: لما صارت الموصل إلى سيف الدين، ابن أخي نور الدين، كان قد استولى عليه وتولى أمر البلد رجل يقال له عبد المسيح كان نصرانياً فأسلم، وقيل إنه كان باقياً على نصرانيته وله بيعة في داره، وتتبع أرباب العلم والدّين وشتتّهم وأبعدهم وآذى المسلمين. فبلغ نور الدين ذلك، وكُتب له قصص في ذلك. فسار ونزل على الموصل من جانب الشطِّ، والشط بينه وبينها، وقال: لاأقاتل هذه البلدة وأهتك حرمتها وهي لولدي. وراسل سيف الدين وقال له: أنا ليس مقصودي البلد وإنما مقصودي حفظ البلد لك، فإنه قد كتب إلي في عبد المسيح كذا وكذا ألف قصة بما يفعل مع المسلمين، وإنما مقصودي أزيل هذا النصراني عن ولاية المسلمين.
قال: وعبد المسيح يدبر البلد ويدور فيه، والأمر إليه. وبذل الصلح لنور الدين؛ فقال نور الدين: أنا قد جئت ولابد لي من دخول البلد. فقال: نعم لايدخل إلا من باب السِّر، فقال نور الدين: ماأدخل إلا من باب السر. فجرت بين نور الدين وبين ابن أخيه مراسلات، إلى أن علم أن نيته صالحة، فصالحه في السر؛ وركب عبد المسيح وخرج يدور بين السورين، فجاءه بعض أصحابه وقال له: أنت نائم؟ دمُك قد راح وأنت غافل! فقال: مالخبر؟ فقال: سيف الدين قد صالح عمه وأنت في مقابلة نور الدِّين. فجاء ودخل على سيف الدين وألقى شربوشه بين يديه، وقال له: أنت قد صالحت عمك وقد عمِلتُ ما عملت في حفظ بلدك، وما لي طاقة بمقابلة نور الدين؛ فالله الله في دمي! فقال له: ما لي طاقة بدفعه عنك، ولكن عليك بالشيخ عمر الملا! فقال: والله لو مضيت إليه لم يفتح لي - لعلمه بما جرى منه في حق المسلمين - ولكن تسيِّر أنت إليه. فأنفذ سيف الدين إليه وأحضره، وكان معتكفاً، فقال له: مالخبر! فقال سيف الدين لعبد المسيح: منك إليه؛ فوقف بين يديه يبكي؛ فالتفت إليه الشيخ عمر وقال: من يعادى الرجال يبكي مثل النساء! فقال له: قد تمسكت بك وأطلب منك حقن دمي! فقال: أنت آمن على دمك؛ فقال: وعلى مالي! فقال: وعلى مالك؛ فقال: وعلى أهلي! فقال: وعلى أهلك.
وكان شرف الدين بن أبي عصرون مع نور الدين حينئذ؛ فقال سيف الدين لعمر الملاّ: تخرج تحلِّف نور الدين؛ فأحضر الفقهاء وعملوا له نسخة يمين لنور الدين ونسخة يمين لعبد المسيح؛ فأخذهما عمر وخرج إلى نور الدين، فقام نور الدين وخرج من خيمته والتقاه وأكرمه. فقال له عمر: الناس يعملون حُسْن عقيدتك فيّ، وقد خرجت في كذا وكذا، وناوله النسخة التي تتعلق بسيف الدين، فقرأها وناولها لابن أبي عصرون، فقال: نسخة جيدة. فقال له الشيخ عمر الملاّ: إيش تقول في هذه النسخة؟ فقال: جيدة؛ فقال: إذا حلف بها على هذا الوجه أليس أنها تقع لازمة؟ فقال: بلى. فقال للحاضرين: اشهدوا على الشيخ بذلك، يشير إلى نور الدين كان يجري منه أيمان في وقائع، وكان ابن أبي عصرون يفتيه بالخروج منها، فقيَّد عليه القول، فأجاب نور الدين إلى ذلك، فقال له: قد علم الناس حسن عقيدتك فيّ، وأن قولي مسموع عندك، وقد خرجت إليك ولابدّ لي من ضيافة، فقال: كيف لي بذلك وأنت لاتأكل طعامي ولاتقبل مني شيئاً! فقال: تحلف لي بهذه النسخة، فوقف عليها وتغير وجهه، وقال: أنا ما جئت إلا في هذا لأخلص المسلمين منه! فقال له الشيخ عمر: فما نطلب منك أن توليه على المسلمين! فقال: قد أمنته على نفسه، فقال: وعلى أهله! فقال: ومن أهله؟ فقال: نصارى، فقال: أمنتهم، فقال: وعلى ماله، فقال: ومن أين لهذا الكلب مال؟ هذا مملوك لنا، فقال: قد أُعتق وماله له، وهو اليوم كان صاحب الموصل، قال: قد أمنته على ماله. فحلف له على ذلك جميعه، واستقرّ الصلح.
وخرج سيف الدين إلى خدمة نور الدين، فوقف بين يديه، فأكرمه نور الدين، وكان وصله خلعة أمير المؤمنين فخلعها عليه، فدخل إلى الموصل بها، وانتقل إلى جانب الشط الآخر، ولم يدخل إلى الموصل إلى أن جاء مطر شديد جدّاَ فدخل من باب السر إليها، وأقام بها مدة ورتب أمورها وولي فيها كمشتكين فرأى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وهو يقول له: جئت إلى بلدك وطاب لك المقام به، وتركت الجهاد وقتال أعداء الدين! فاستيقظ من منامه وسار سحرة ذلك اليوم ولم يلبث، ولم يعلم به أكثر الناس حتى خرج ولحقوه، رحمه الله تعالى.
فصلوصل الخبر بموت الإمام المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي، ونورُ الدين مخيم بشرقي الموصل بتل توبة. وكانت وفاته يوم السبت تاسع ربيع الآخر، وبويع ابنه المستضئ بأمر الله أبو محمد الحسن.
وكان مولد المستنجد مستهل ربيع الآخر سنة عشر وخمسمائة، وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وستة أيام. وهو الثاني والثلاثون من خلفاء بني العباس. وهذا العدد له بحساب الجمَّل، اللام والباء، فيه يقول بعض الأدباء:
أصبحت لب بني العباس كلهم ... إن عُدِّت بحساب الجمَّل الخلفا
وكان أسمر تام القامة طويل اللحية، وكان من أحسن الخلفاء سيرة مع الرعية؛ كان عادلا فيهم كثير الرفق بهم، وأطلق من المكوس كثيراً، ولم يترك بالعراق مكسا. وكان شديداً على أهل العيث والفساد والسعاية بالناس.
قال ابن الأثير: بلغني أنه قبض على إنسان كان يسعى بالناس ويكتب فيهم السِّعايات فأطال حبسه، فحضر بعض أصحابه وشفع فيه، وبذل عنه عشرة آلاف دينار فقال له: أنا أعطيك عشرة آلاف دينار وتحضر لي إنساناً آخر مثله أحبسه لأكفَّ شره عن الناس.
وتوفي في أيامه شيخ الشيوخ إسماعيل بن أبي سعد، وصار بعده ابنه صدر الدين عبد الرحيم شيخ الشيوخ، وذلك سنة إحدى وأربعين.
وفي سنة ثمان وأربعين توفي محمد بن نصر القيسراني، وأحمد بن منير، الشاعران. وقد تقدم ذلك.
وفي سنة تسع ةأربعين توفي الحكيم أبو الحكم الشاعر الأندلسي.
وفي سنة إحدى وخمسين توفي الوأواء الشاعر الحلبي.
وفي سنة ثلاث وستين توفي الشيخ أبو النجيب الصوفي الفقيه الواعظ.
قال العماد: وجاءنا رسل دار الخلافة مبشرين بخلافة المستضئ، واتفق ذلك يوم عبور دجلة. وركب يوم النزول على تل توبة في الأهبة السوداء، واليد البيضاء، وذلك بمرأى ومنظر أهل الموصل الحدباء. ثم أرسل الشيخ شرف الدين بن أبي عصرون إلى بغداد نائباً عنه في خدمة الإمام. ومما نظمه العماد فيه:
قد أضاء الزمان بالمستضىِّ ... وارث البُرد، وابن عم النبيِّ
جاء بالحق، والشريعة، والعد ... ل، فيا مرحباً بهذا المجيِّ
فهنيئاً لأهل بغداد، فازوا ... بعد بؤس بكل عيش هنيِّ
ومضىُّ إن كان في الزمن المظ ... لم، فالعود في الزمان المضي
وله من قصيدة أخرى:
لهفي على زمن الشباب، فإنني ... بسوى التأسف عنه لم أتعوض
نقضت عهود الغانيات، وإنها ... لولا نقاء شيبتي لن تنقض
ياحسن أيام الصبا، وكأنها ... أيام مولانا الإمام المستضى
ذو البهجة الزهراء يشرق نورها ... والطلعة الغراء، والوجه الوضيَ
قَسَم السعادة والشقاوة ربُّنا ... في الخلق، بين محبِّه والمبغض
ومنها:
فضل الخلائف والخلائق بالتقي ... والفضل، والإفضال، والخُلق الرضي
فانعم أمير المؤمنين بدولة ... ما تنتهي، وسعادة ما تنقضي
قال: ووصل نور الدين، رحمه الله تعالى، إلى دمشق وأدى فرض الصيام، وخرج بعد العيد إلى الخيام، وأخرج سرادقه إلى جسر الخشب، وسرنا إلى عشترا. ثم ذكر العماد هنا سرّية صاحب البيرة الأرتقي باللبوة، وقد مضت في أخبار سنة خمس وستين فَثَمَّ ذكرها ابن الأثير.
فصل فيما جرى بمصر في هذه السنةقال العماد: كان بمصر حبس للشحن يعرف بدار المعونة فأعادها صلاح الدين مدرسة للشافعية في أول سنة ست وستين، وعمل في النصف من المحرم دار الغزل مدرسة للمالكية، وولى صدر الدين عبد الملك بن درباس القضاء والحكم بمصر والقاهرة وأعمالها، وذلك في الثاني والعشرين من جمادي الآخرة. ثم خرج إلى الغزاة وأغار على الرملة وعسقلان وهجم ربض غزة، ثم رجع إلى القاهرة.
ثم وصله الخبر بخروج قافلة من دمشق فيها أهله فأشفق عليها وأحب أن يجتمع بها شمله، فخرج في النصف من ربيع الأول. وكانت بأيلة قلعة في البحر قد حصنها أهل الكفر، فعمر لها مراكب وحملها إلى ساحلها على الجمال، وركبها الصنّاع هناك وشحنها بالرجال، وفتح القلعة في العشر الأول من ربيع الآخر، واستحلها واستباح بالقتل والأسر أهلها، وملأها بالعدد والعدد، وحصَّنها بأهل الجلاد والجلد. واجتمع بأهله وسار بهم على سمت القاهرة، ودخلوا في السادس والعشرين من جمادي الأولى إليها. وسار إلى الإسكندرية في الثالث والعشرين من شعبان ليشاهدها ويرتب قواعدها، وهي أول دفعة سار إليها في أيام سلطانه، وعم أهلها بإحسانه، وأمر بعمارة أسوارها وابراجها وابدانها.
وفي النصف من شعبان اشترى تقي الدين عمر بن شاهنشاه، وهو ابن أخي صلاح الدين، منازل العز بمصر وجعلها مدرسة للشافعية، واشترى الروضة وحمام الذهب وغيرهما من الأملاك ووقفها عليها.
وفي النصف من جمادى الآخرة أغار شمس الدولة، أخو السلطان، بالصعيد على العربان، ثم دخل القاهرة في عاشر شهر رمضان.
وفي الثالث والعشرين من جمادي الآخرة توفي القاضي الموفق أبو الحجاج يوسف ابن الخلال، وكان من الأماثل الأفاضل، ولم يزل صاحب ديوان الإنشاء إلى أن كبر. وكان الأجل الفاضل يوصل إليه كل ماكان له، وقام به مدة حياته يكرم عهده ويكفله. وقال العماد في الخريدة: هو ناظر ديوان مصر وإنسان ناظره، وجامع مفاخره؛ وكان إليه الإنشاء، وله قوة على الترسل يكتب ما يشاء، عاش كثيراً وعطل في آخر عمره، وأضر ولزم بيته إلى أن تعوض منه القبر. ومن شعره:
ياأخا الغرة، حسب الدهر من ... عظة المغرور ما أصبح يبدي
تؤثر الدنيا، فهل نلت بها ... لحظة تخلص من همّ وكدِّ!!
قلت: وذكر ضياء الدين أبو الفتح نصر الله بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري في أول كتابه المسمى بالوشي المرقوم في حل المنظوم، قال حدثني عبد الرحيم بن علي البيساني رحمه الله بمدينة دمشق في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة قال: كان فن الكتابة بمصر في زمن بني عبيد غضاً طرياً، وكان لايخلو ديوان المكاتبات من رأس يرأس مكاناً وبياتاً، ويقيم لسلطانه بقلمه سلطاناً. وكان من العادة أن كلا من أرباب الدَّواوين إذا نشأ له ولدو شدا شيئاً من علم الأدب أحضره إلى ديوان المكاتبات ليتعلم فن الكتابة ويتدرب ويرى ويسمع. قال: فأرسلني والدي، وكان إذا ذاك قاضياً بثغر عسقلان، إلى الديار المصرية في أيام الحافظ، وهو أحد خلفائها، وأمرني بالمسير إلى ديوان المكاتبات، وكان الذي يرأس به في تلك الأيام رجل يقال له ابن الخلال. فلما حضرت الديوان ومثلت بين يديه وعرّفته من أنا وما طلبي، رحبَّ بي وسهل، ثم قال: ما الذي أعددت لفن الكتابة من الآلات؟ فقلت: ليس عندي شئ سوى أني أحفظ القرآن العزيز وكتاب الحماسة. فقال: وفي هذا بلاغ. ثم أمرني بملازمته؛ فلما ترددت إليه تدربت بين يديه، ثم أمرني بعد ذلك أن أحلّ شعر الحماسة، فحللته من أوله إلى آخره، ثم أمرني أن أحله مرة ثانية، فحللته.
وقال ابن أبي طيّ: في هذه السنة شرع السلطان، يعني صلاح الدين، في عمارة سور القاهرة، لأنه كان قد تهدم أكثره وصار طريقاً لايردُّ داخلاً ولاخارجاً، وولاه لقراقوش الخادم، وقبض على القصور وسلمها إليه، وأمر بتغيير شعار الاسماعيلية، وقطع من الأذان حيّ على خير العمل، وشرع في تمهيد أسباب الخطبة لبني العباس.
وفيها طلب شمس الدولة توانشاه؛ من أخيه السلطان ربع الكامل بالقاهرة وازداد على إقطاعه بوش وأعمال الجيزة وسمنود وغيرها.
قلت: وقد وقفت على كتاب فاضلي وصف فيه غزاة صلاح الدين رحمه الله في زمان وزارته وكان الكتاب إلى مدينة قوص، وأظن هذه الغزاة هي التي أشار إليها العماد في اثناء كلامه السابق أوّل الكتاب: (فانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وفَضْلٍ لَمْ يَمْسَهُمْ سُوءُ وَاتَّبَعُوا رِضْوَان اللهِ واللهِ ذُو فَضْلٍ عَظِيم).
وفيه: " توجهنا من بركة الجب يوم الخميس الخامس عشر من ربيع الأول، ووصلنا بتاريخ السابع والعشرين من الشهر المذكور، والعساكر بالتسهل والوعر منتظمة، والهمم على السهل والصّعب مزدحمة وجنود الله في الأرض المُعْلمة، قد أيّدتها جنود السماء المسوّمة. وصابحنا الديّر يوم الأربعاء بقتال جعل كلّ من في حصن الدّير راهبا، ونصبنا عليه منجنيقا لايزال بشهاب القذف ضاربا. فلما تعالى النهار ملكنا ربضه، وأطلقنا فيه النيران، ورملنا الرجال بالدم، وأرملنا النسوان؛ وزحفنا إلى أبراجه وهي أبراج قد استعدت للبلى جلبابا، فجعلنا لكلّ واحد جورة مفردة وبابا، وسرحنا إليهم رسل المنايا من النشاب، وقصدنا أحد الأبراج والبيوت تؤتى في الحرب من غير الأبواب، وتقدمت إليها نقابة الحلبية فباتت ليلتها تساوره، وتراجعه بألسنة المعاول وتشاوره. وأسفر الصبح وقد أمكن تعليقه، وتيسر تحريقه، فأودعنا تلك العقود آلات الوقود، فلم يكن إلا مقدار اشتعالها حتى خرّ صريعا سريعا، وعفرّ بين أيدينا سامعا مطيعا. وانتظمت الرجال على أحجاره، وتواثبت إلى أمثاله من الأبراج وأنظاره؛ فحصلت في القبضة، وعجز من كان فيها عن النهضة؛ واحتكم فيها العذاب بالسيف والنار، وضاق عليهم مجال النفس والقرار " .
" واستقبلنا يوم الخميس نقب القلعة وتقديم المنجنيق، وتيسير السبيل للقتال وتخليص الطريق، هذا والسّلوب والنهوب قد امتارت منها العساكر، وخرجت فيها مكنونات الذخائر، وأشبه اليوم يوم تُبلى السرائر، وظهر الأرض منهم بالدم المائر " .
فلما كان بكرة الجمعة وردتنا الأخبار بأن الملك قد زحف من غزة في فارسه وراجله، ورامحه ونابله، وحشود دياره، وجنود أنصاره؛ فركبنا مستبشرين بزحفه، موقنين بحتفه، ولقيناه، فأحطنا من بين يديه ومن خلفه. وناوشته الخيل الطِّراد، وأحدقت به أحداق الأغلال بالأجياد، وانتظرت حملته التي كان لها قبل ذلك اليوم موقع، وصدمته التي لها من رجال الحرب موضع؛ فملأ الله قلبه رعبا وثنى صدقه كذبا. ولم يزل يخاتل ولايقاتل، ويواصل المسير ولايصاول، والقتل في أعقابه، وأيدي السيوف وسةاعد الرّماح لاتني في عقابه، حتى تحصّل في الدير هو وخيله ورجله، ولم يبق له من ملك الشام إلا ما وطئته رجله. فناصبناه الحصار في ليلة السبت مستهل ربيع الآخر بالركوب إليه، والوقوف عليه، لعله يبرز ويبارز، ويخرج ولايحاجز؛ فخرست غماغمه، واستذابت ضراغمه، فتركناه وراء ظهورنا، وجعلنا بلاده أمام صدورنا؛ فكنا في توليته مرضين لله تعالى سبحانه لامغضبين، وفي تركه وراء ظهورنا ومباعدته من الله متقربين.
وواجهنا غزة بعساكرنا المنصورة، وأطفنا بها في أحسن صورة، وهي على ماعلم من كونها بكرا لم تفترعها الحوادث، وحصانا لم يطمثها أمل طامث؛ وهي معقل الديوية الذين هم جمرة الشرك، وداهية الإفك؛ وأتى الله ببنيانها من القواعد، وأنجز فيها من النّصر صادق المواعد، ووردناها بأيمن الموارد؛ وفتحناها من عدة جوانب، ووطئناها وإذا هي كأمس الذاهب، فألْقَت إلينا أفلاذ كبدها، وذخيرة يدها، فمن بين مواش بخراب البلاد التي منها خرجت، وخيول مسومة كأنها لركوبنا أُسرجت وأُلجمت، وحوامل أثقال وزوامل خففت عن عساكرنا وفرّجت، وميرة كثيرة تمكنت منها يد الأجناد وأفرجت، وأسارى المسلمين فكوا من القيد والقد، وأنقذوا بلطف الله من سوء المكيدة وشدة الجهد. فأما الرؤس المقطوعة وأسارى الفرنج الذين أيديهم إلى أعناقهم مجموعة، فإن القضاء الفضي تعصفر من دمائهم وتذهب، وجرى منها مابه اضطرم وقد الجحيم وتلهب. وفي الحال أمرنا بالنار أن تشتغل بها وتشتعل، وبالهدم أن ينقل عنها معاوله وينتقل، (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيةٍ)، أو تنظر إلا طلوعا على عروشها خاوية، وعراصا من سكانها خالية، قد بقيت عبرة للعابر، وذكرى للذاكر، وموعظة سارة للمسلم مرغمة للكافر).
ثم عدنا بقية يوم السبت إلى الملك، خذله الله تعالى، راجين أن يحمله الثكل على الإقدام، ويخرجه حر النار إلى مقام الانتقام، فإذا شيطانه قد نصحه، وقتل أصحابه قد جرحه؛ فبِتْنا عليه والألسنة بفراره تعيره، واسبتاره يقرعه ويقَرِّره.
واصبحنا يوم الأحد ثاني شهر ربيع الآخر والكسب قد أثقل المقاتلة، ونصر الله قد بلغ الغاية المستأصلة، ورحلنا والسلامة لصغير عسكرنا وكبيره شاملة، والعدو قد غزى في عُقره وعُقر، وأذل في دار ملكه واحتقر. ووصلنا إلى مستقر سلطاننا في يوم الاثنين الحادي عشر من الشهر المذكور، فاستقبلنا من مولانا، صلوات الله عليه، وتشريفه واستقبال ركابه، ومشافهتنا بمقبول دعائه الشريف ومجابه، ما عظمت به النعم وجلّت، وزالت به وعثاء الطريق وتجلّت، وجادتها سماء إنعامه التي لم تزل تجودنا واستهلت.
قلت ومن قصيدة لعمارة في مدح صلاح الدين أولها:
فؤاد بنار الشوق والوجد محرق
يقول فيها:
لعل بني أيوب إن علموا بما ... تظلمت منه أن يرقوا ويشفقوا
غزوا عُقر دار المشركين بغزةٍ ... جهاراً، وطرف الشرك خزيان مطرق
وزاروا مصلّى عسقلان بأرعن ... يفيض إناء البر منه ويفهق
وكانت على ما شاهد الناس قبلكم ... طرائق من شوك القنا ليس تُطرق
وما عصمتهم منك إلا معاقل ... تأنوا على تحصينها وتأنقوا
جلبت لهم من سورة الحرب ماالتقى ... وادره سورعليهم وخندق
وأخربت من أعمالهم كل عامر ... يمر به طيف الخيال فيفرق
أضفت إلى أجر الجهاد زيارة ال ... خليل، فأبشر، أنت غازٍ مُوفق
وهيجت للبيت المقدّس لوعة ... يطول بها منه إليك التشوق
تنشق من ملقاك أعظم نفحة ... تطيب على قلب الهدى حين تنشق
وغزوك هذا سُلم نحو فتحه ... قريباً، وإلا رائد ومطرق
هو البيت، إن تفتحه، والله فاعل، ... فما بعده باب من الشام مغلق
ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائةواستفتحها صلاح الدين رحمه الله تعالى بإقامة الخطبة في الجمعة الأولى منها بمصر لبني العباس، وفي الجمعة الثانية خطب لهم بالقاهرة، وانقطع ذكر خلفاء مصر. وتوفي العاضد يوم عاشوراء بالقصر، وانقضت تلك الدولة بانتهاء مادام لها من العصر.
وذكر العماد أيضا في أخبار سنة اثنتين وسبعين، كما سيأتي، أنّ الذي خطب بمصر لبني العباس أولا هو أبو عبد الله محمد بن المحسن بن الحسين بن أبي المضاء البعلبكي؛ وذكر ذلك أيضاً ابن الدبيثي في تاريخه. وقد أشار إليه القاضي الفاضل في كتاب له إلى وزير بغداد سيأتي ذكره.
قال ابن الأثير: كان السبب في ذلك أن صلاح الدين يوسف بن أيوب لما ثبتت قدمه في مصر وزال المخالفون له وضعف أمر العاضد، وهو الخليفة بها، ولم يبق من العساكر المصرية أحد كتب إليه الملك العادل نور الدين محمود يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة العباسية. فاعتذر صلاح الدين بالخوف من وثوب أهل مصر وامتناعهم من الإجابة إلى ذلك، لميلهم إلى العلويين؛ فلم يصغ نور الدين إلى قوله، وأرسل إليه يلزمه بذلك إلزاماً لافسحة له فيه.
واتفق أن العاضد مرض، وكان صلاح الدين قد عزم على قطع الخطبة له، فاستشار الأمراء كيف يكون الابتداء بالخطبة العباسية؛ فمنهم من أقدم على المساعدة وأشار بها، ومنهم من خاف ذلك إلا أنه لم يمكنه إلا امتثال أمر نور الدين. وكان قد دخل إلى مصر إنسان أعجمي يعرف بالأمير العالم، وقد رأيناه بالموصل كثيرا، فلما رأى ماهم فيه من الإحجام قال: أنا أبتدئ بها. فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب ودعا للمستضئ بأمر الله، فلم ينكر أحد ذلك عليه؛ فلما كان الجمعة الثانية أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد وإقامة الخطبة للمستضئ بأمر الله، ففعلوا ذلك ولم ينتطح فيها عنزان؛ وكتب بذلك إلى سائر الديار المصرية.
وكان العاضد قد اشتد مرضه، فلم يعلمه أهله وأصحابه بذلك، وقالوا، إن سلم فهو يعلم وإن توفي فلا ينبغي أن ننغص عليه هذه الأيام التي قد بقيت من أجله؛ فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم.
قال: ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصره وعلى جميع مافيه. وكان قد رتب فيه قبل وفاة العاضد بهاء الدين قراقوش، وهو خصيُّ، لحفظه، وجعله كأستاذ دار العاضد؛ فحفظ مافيه حتى تسلمه صلاح الدين، ونقل أهل العاضد إلى مكان منفرد، ووكل لحفظهم، وجعل أولاده وعمومته وأبناءهم في الإيوان في القصر، وجعل عندهم من يحفظهم، وأخرج من كان بالقصر من العبيد والإماء، فأعتق البعض ووهب البعض وباع البعض، وأخلى القصر من أهله وسكانه؛ فسبحان من لايزول ملكه ولايغيره ممر الأيام وتعاقب الدهور.
قال: ولما أشتد مرض العاضد أرسل يستدعي صلاح الدين، فظن أن ذلك خديعة، فلم يمض إليه، فلما توفي علم صدقه فندم على تخلفه عنه.
قلت: أخبرني الأمير أبو الفتوح بن العاضد، وقد اجتمعت به سنة ثمان وعشرين وستمائة وهو محبوس مقيد بقلعة الجبل بمصر، أن أباه في مرضه استدعى صلاح الدين فحضر، قال وأحضرنا، يعني أولاده وهم جماعة صغار، فأوصاه بنا، فالتزم إكرامنا واحترامنا، رحمه الله. وأما ندمُ صلاح الدين، فبلغني أنه كان على استعجال بقطع خطبته وهو مريض، وقال: لو علمت أنه يموت من هذا المرض ما قطعتها إلى أن يموت.
قال العماد: وجلس السلطان للعزاء، وأغرب في الحزن والبكاء، وبلغ الغاية في إجمال أمره؛ والتوديع له إلى قبره؛ ثم تسلم القصر بما فيه من خزائنه ودفائنه. وكان مذ نافق مؤتمن الخلافة وقتل، صُرف مَنْ هو زمام القصر وعُزل، ووكل بهاء الدين قراقوش بالقصر وجعله زمامه، واستنابه مقام نفسه وأقامه؛ فما دخل إلى القصر شئ ولا خرج إلا بمرأى منه ومسمع، ولاحصل أهل القصر بعد ذلك على صفو مشرع. فلما توفي العاضد بطلت تلك القواعد، ووهت المقاعد، وأمر السلطان بالاحتياط على أهله وأولاده في موضع خارج القصر جعله برسمهم على الانفراد، وقرر ما يكون لهم برسم الكسوات والأقوات والأزواد.
قلت: أخبرني أبو الفتوح أنه جعلهم في دار برجوان في الحارة المنسوبة إليه بالقاهرة، وهي دار كبيرة واسعة، كان عيشهم فيها طيبا؛ ثم نقلوا بعد الدولة الصلاحية منها، وأبعدوا عنها.
قال العماد: وهم إلى اليوم في حفظ قراقوش واحتياطه واستظهاره، يكلؤهم ويحرسهم بعين حزمه في ليله ونهاره؛ وجمع الباقين من عمومتهم وعترتهم من القصر في إيوان، واحترز عليهم في ذلك المكان بكل إمكان، وأبعد عنهم النساء لئلا يتناسلوا فيكثروا، وهم إلى الآن محصورون محسورون لم يظهروا، وقد نقص عددهم، وقلص مددهم. ثم عرض من بالقصر من الجواري والعبيد، والعدّة والعديد، والطريف والتليد، فوجد أكثرهن حرائر فأطلقهن، وجمع الباقيات فوهبهن وفرقهن؛ وأخلى دوره، وأغلق قصوره، وسلّط جوده على الموجود، وأبطل الوزن والعد عن الموزون والمعدود، وأخذ كل ما صلح له ولأهله وأمرائه، ولخواص مماليكه وأوليائه، من أخائر الذخائر، وزواهر الجواهر، ونفائس الملابس، ومحاسن العرائس، وقلائد الفرائد، والدّرة اليتيمة، والياقوتة العالية الغالية القيمة، والمصوغات التبريّة، والمصنوعات العنبرية، والأواني الفضية، والصوافي الصينية، والمنسوجات المغربية، والممزوجات الذهبية، والمحوكات النضارية، والكرائم واليتائم، والُعود والتمائم، والعقود والنقود، والمنظوم والمنضود، والمحلول والحبير، والوثير والنثير، والعيني واللجيني، والبسط والفرش، ومالا يعدّ إحصاء، ولايحد استقصاء؛ فوقع فيها الغناء، وكشف عنها الغطاء، وأسرف فيها العطاء؛ وأطلق البيع بعد ذلك في كل حدث وعتيق، ولبيس وسحيق، وبال وأسمال، ورخيص وغال، وكل منقول ومحمول، ومصوغ ومعمول. واستمر البيع فيها مدة عشر سنين، وتنقلت إلى البلاد بأيدي المسافرين الواردين والصادرين.
ونقلت من ديوان العماد بخطه قال. ولما وصل خبر موت العاضد الذي كان بمصر في القصر، موسوماً بالأمر، في ليلة عاشوراء سنة سبع وستين، بعد الخطبة بها للمستضئ بالله أمير المؤمنين، عملت هذه الأبيات. فذكر قصيدة منها:
توفي العاضد الدّعي، فما ... يفتح ذو بدعةٍ بمصر فما
وعصر فرعونها انقضى، وغدا ... يوسُفها في الأمور محتكما
وانطفأت جمرة الغواة، وقد ... باح من الشرك كل ما اضطرما
وصار شمل الصلاح ملتئما ... بها، وعقد السداد منتظما
لما غدا معلنا شعار بني ال ... عَبّاس حقا، والباطل اكتتما
وبات داعي التوحيد منتصرا ... ومن دُعاة الإشراك منتقما
وظلّ أهل الضلال في ظلل ... داجية من غيابة وعمى
وارتبك الجاهلون في ظلم ... لما أضاءت منابر العُلما
وعاد بالمستضئ مجتهدا ... بناءُ حق قد كان منهدما
واعتلت الدولة التي اضطهدت ... وانتصر الدين بعدما اهتضما
واهتز عطف الإسلام من جذل ... وافترّض ثغر الإيمان وابتسما
واستبشرت أوجه الهدى فرحاً ... فليقرع الكُفر سِنّهُ ندما
عاد حريم الأعداء منتهك ال ... حمى، وفئ الطغاة مقتسما
قصور أهل القصور أخربها ... عامر بيت من الكمال سما
أزعج بعد السكون ساكنها ... ومات ذلا وأنفه رُغما
ومن كتاب فاضلي عن السلطان صلاح الدين إلى وزير بغداد على يد الخطيب شمس الدين بن أبي المضاء في بعض السنين: " كتب الخادم هذه الخدمة من مستقره ودين الولاء مشروع، وعلم الجهاد مرفوع، وسؤدد السواد متبوع، وحكم السداد بين الأمة موصوع، وسبب الفساد مقطوع ممنوع. وقد توالت الفتوح غرباً ويمناً وشآما؛ وصارت البلاد بل الدنيا، والشهر بل الدهر، حرماً حراما، وأضحى الدين واحدا بعدما كان أديانا؛ والخلافة إذا ذكر بها أهل الخلاف لم يخروا عليها إلا صُمَّاً وعُميانا؛ والبدعة خاشعة، والجمعة جامعة، والمذلة في شيع الضلال شائعة؛ ذلك بأنهم أتخذوا عباد الله من دونه أولياء، وسموا أعداء الله أصفياء، وتقطعوا أمرهم بينهم شيعا، وفرقوا أمر الأمة وكان مجتمعا، وكذبوا بالنار فعجلت لهم نار الحتوف، ونثرت أقلام الظُّبا حروف رؤسهم نثر الأقلام للحروف، ومزقوا كل ممزق وأخذوا منهم كل مخنق، وقطع دابرهم، ووعظ آيبهم غابرهم، ورغمت أنوفهم ومنابرهم، وحقت عليهم الكلمة تشريدا وقتلا، وتمَّت كلمات رَبِّكَ صِدْقا وَعَدْلاً؛ وليس السيف عمن سواهم من كفار الفرنج بصائم، ولا الليل عن سير إليهم بنائم. ولاخفاء عن المجلس الصاحبي أن من شد عقد خلافة وحلّ عقد خلاف، وقام بدولة وقعد بأخرى قد عجز عنها الأخلاف والأسلاف، فإنه مفتقر إلى أن يُشكر ما نصح، ويُقلَّد مافتح، ويبَّلغ ما أقترح، ويقدم حقه ولا يطرَّح، ويقرب مكانه وإن نزح، وتأتيه التشريفات الشريفة، وتتواصل إليه أمداد التقويات الجليلة اللطيفة، وتُلَّبى دعوته بما أقام من دعوة، وتوصل عروته بما وصل من غزوة، وترفع دونه الحجب المعترضة، وترسل إليه السحب المروضة، فكل ذلك تعود عوائده، وتبدو فوائده، بالدولة التي كشف وجهه لنصرها، وجرد سيفه لرفع منارها، والقيام بأمرها. وقد أتى البيوت من أبوابها، وطلب النجعة من سحابها، ووعد آماله الواثقة بجواب كتابها، وأنهض لإيصال ملطفاته وتنجيز تشريفاته خطيب الخطباء بمصر، وهو الذي اختاره لصعود درجة المنبر، وقام بالأمر قيام من برّ، واستفتح بلباس السواد الأعظم، الذي جمع الله عليه السواد الأعظم، أملا أنه يعود إليه بما يطوي الرجاء فضل عقبه، ويخلد الشرف في عقبه " . ولصاحبنا مجد الدين محمد بن الظهير الإربلي من قصيدة في مدح بعض ذرية السلطان رحمه الله تعالى:
مليك من القوم الذين رماحهم ... دعائم هذا الدين في كل مشهد
هم نصروا التوحيد نصرا مؤزرا ... به عزّ في الآفاق كلّ موحد
وهم قهروا غُلب الفرنج ببأسهم ... فدانوا لهم بالرغم لاعنْ تؤدُّد
وردوا إلى البيت المقدس نُوره ... وقد كان في ليل من الشّرك أسود
وهم سهلوا سبل الحجيج وآمنوا ... بها الركب خوف الكافر المتشدد
وقد ركبت فرسانه بحر أيلة ... يخوضون في بحر من الكيد مُزبد
وهم رجعوا مصراً إلى دعوة الهدى ... بعزمٍ ورأى في العظائم محصد
وهم شيّدوا ركن الخلافة بالذّي ... أعادوه من حقّ طريفٍ ومتلد
وهم شرفوا قدر المنابر باسمها ... وذكر منوط بالرسول محمد
وهم وهبوا عزّ الممالك، واكتفوا ... بسُمر العوالي والعلاء المشيد
فَسَل عن ظُباهم يوم حطين كم مضت ... بمرّ مراد الله في كل أّصيد
وَضّعَّفْ حديث العدل والبأس والندى ... إذا كان عنْ أيامهم غَير مُسند
وقال ابن أبي طيّ الحلبي: قد قدمنا ذكر مكاتبة نور الدين رحمه الله وإلحاحه على صلاح الدين في إقامة الخطبة بمصر للعباسيين وأنه أنفذ إليه أباه الأمير نجم الدين أيوب لأجل ذلك لما كتب الخليفة المستنجد إلى نور الدين في ذلك. ولما ولي ابنه المستضئ أقبل أيضا على مكاتبة نور الدين فيه، وألح نور الدين على صلاح الدين في طلبه، وأفضى به ألمر إلى أنه أتهم صلاح الديم وشنع عليه بسببه، وأكثر القول في ذلك.
ولما قدم الأمير نجم الدين حداه على فعل ذلك فاعتذر إليه بأن أحواله لم تستقر بعد، وأموره مضطربة، وأعداؤه كثيرون، وأن المصريين لهم جماعة كبيرة متفرقة في بلاد مصر من السودان وغيرهم، وأن هذا الأمر إن لم يؤخذ على التدريج وإلاَّ فسدت أحواله. فلما أوقع السلطان الملك الناصر بالسودان والأرمن ونكث أمر المصريين وقطع أخبارهم، وترك أجناده في دورهم، ثم قطع إقطاع العاضد وقبض جميع ماكان بيده من البلاد، واستولى على القصور ووكل بها وبمن فيها قراقوش الخادم، خلت له بلاد مصر من معاند ومنابذ؛ ثم شرع وأبطل من الأذان " حيّ على خير العمل " ، وأنكر على من يتسم بمذهبهم الانتساب إليهم. فلما رأى أموره مواتية، وأعداؤه قليلين شرع حينئذ في الخطبة لبني العباس. ولما عول على ذلك أمر والده الأمير نجم الدين بالنزول إلى الجامع في جماعة من أصحابه وأمراء دولته، وذلك في أول جمعة من السنة، وأمره أن يحضر الخطيب إليه ويأمره بما يختاره. وإنما فعل الملك الناصر ذلك ووكل الأمر إلى غيره استظهارا وخوفا من فادحة ربما طرأت، أوعدو ربما ثار، فيكون هو معتذرا من ذلك.
ولما حصل نجم الدين بالجامع أحضر الخطيب وقال له: إن ذكرت هذا المقيم بالقصر ضربت عنقك. فقال فلمن أخطب؟ قال: للمستضئ العباسي. فلما صعد المنبر وخطب ووصل إلى ذكر العاضد لم يذكر أحداً لكنه دعا للأئمة المهديين وللسلطان الملك الناصر، ونزل، فقيل له في ذلك فقال: ما علمت اسم المستضئ ولانعوته، ولاتقرر معي في ذلك شئ قبل الجمعة، وفي الجمعة الثانية أفعل إن شاء الله ما يجب فعله في تحرير الاسم والألقاب على جاري العادة في مثل ذلك.
قال: وقيل إن العاضد لما اتصل به ما فُعل من قطع اسمه من الخطبة قال لمن خُطب؟ قيل له لم يخطب لأحد مسمى. قال: في الجمعة الأخرى يخطبون لرجل مسمى. واتفق أنه مات قبل الجمعة الثانية. قيل إنه أفكر واستولى عليه الفكر والهم حتى مات. وقيل إنه لما سمع أنه قطعت خطبته اهتم وقام ليدخل إلى داره فعثر وسقط، فأقام متعللاَ خمسة أيام ومات. وقيل إنه امتص فص خاتمه، وكان تحته سم، فمات.
ولما أتصل موته بالملك الناصر قال: لو علمنا أنه يموت في هذه الجمعة ما غصصناه برفع اسمه من الخطبة. فحُكي أن القاضي الفاضل قال للسلطان: لو علم أنكم ما ترفعون اسمه من الخطبة لم يمت؛ أشار إلى أن العاضد قتل نفسه. وكان موته يوم عاشوراء.
قال: وحكى ابن المارستاني في سيرة ابن هبيرة الوزير قال: إن من عجيب ماجرى في أمر المصريين أن رأى إنسان من أهل بغداد في سنة خمس زخمسين وخمسمائة، كأن قمرين أحدهما أنور من الآخر، والأنور منهما مُسامت للقبلة وله لحية سوداء فيها طول، ويهب أدنى نسيم فيحركها، وأثر حركتها وظلها في الأرض؛ وكان الرجل يتعجب من ذلك وكأنه سمع أصوات جماعة يقرؤون بألحان وأصوات لم يسمع قط مثلها، وكأنه سأل بعض من حضر فقال ماهذا، فقالوا قد استبدل الناس بإمامهم. قال وكان الرجل استقبل القبلة وهو يدعو الله أن يجعله إماماً برَّا تقياً، واستيقظ الرجل. وبلغ هذا المنام ابن هبيرة الوزير إذ ذاك ببغداد، فعبر المنام بأن الإمام الذي بمصر يستبدل به وتكون الدعوة لبني العباس لمكان اللحية السوداء، وقوى هذا عنده حتى كاتب نور الدين حين دخل أسد الدين إلى مصر في أول مرة بأنه يظفر بمصر وتكون الخطبة لبني العباس بها على يده.
وقيلت في ذلك الزمان أشعار في هذا، منها قصيدة شمس المعالي أبي الفضائل الحسين ابن محمد بن تركان، وكان حاجب ابن هبيرة، قالها حين سمع تأويله المنام:
لتهنك يامولى الأنام بشارة ... بها سيف دين الله بالحق مرهف
ضربت بها هام الأعادي بهمة ... تقاصر عنها السمهري المثقف
بعثت إلى شرق البلاد وغربها ... بعوثا من الآراء تحيي وتتلف
فقامت مقام السيف والسيف قاطر ... ونابت مناب الرمح والرمح يرعف
وقدت لها جيشا من الروع هائلا ... إلى كل قلب من عداتك يزحف
ملكت به أقصى المغارب عنوة ... وكادت بمن فيها المشارق ترجف
ليهنك يامولاي فتحا تتابعت ... إليك به حوص الركائب توجف
أخذت به مصرا وقد حال دونها ... من الشرك ناس في لهي الحق تقذف
وقد دنست منها المنابر عصبة ... يعاف التقي والدين منهم ويأنف
فطهرّها من كل شرك وبدعة ... أغر غرير بالمكارم يشغف
فعادت بحمد الله باسم إمامنا ... تتيه على كل البلاد وتشرف
ولاغرو أن دانت ليوسف مصره ... وكانت إلى عليائه تتشوف
تملكها من قبضة الكفر يوسف ... وخلصها من عصبة الرفض يوسف
قال يحيى بن أبي طيّ: يريد بيوسف الأول يوسف الصديق النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويوسف الثاني المستنجد بالله الخليفة يومئذ، وقاله على سبيل الفأل؛ ألا تراه قال بعد هذا البيت:
فشابهته خلقا وخلقا وعفة ... وكل عن الرحمن في الأرض يخلف
وجرى الفأل في البيت باسم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب لأن المستنجد مات قبل تغيير الخطبة لبني العباس، وهذا من عجيب الاتفاق.
قلت: وذكر ابن المارستاني في السيرة المذكورة قال: وكان هذا المنام سببا إلى أن كاتب الوزير ابن هبيرة نور الدين بن زنكي يحثه على التعرض لمصر والبعث إليها؛ واتفق في اثناء ذلك نوبة شاور وزير صاحب القصر وقدومه هارباً منه إلى نور الدين، فحرك ذلك ماكان تخمر في نفسه مما كان كاتبه به ابن هبيرة، فاستطلع من شاور الأسباب التي يمكن بها الدخول على المصريين، فشرحها وأوضحها، فسير إليها أسد الدين، كما سبق ذكره.
قال: ولما قطعت خطبة العاضد استطال أهل السنة على الإسماعيلية وتتبعوهم وأذلوهم، وصاروا لايقدرون على الظهور من دورهم، وإذا وجد أحد من الأتراك مصريا أخذ ثيابه، وعظمت الأذية بذلك؛ وجلا أكثر أهل مصر عنها إلى البلاد، وفرح الناس بذلك، وكتبت الكتب به إلى الأقطار وتحدث به السُّمار.
ولما وصل خبر ذلك إلى نور الدين ندب للبشارة إلى بغداد شهاب الدين أبا المعالي المطّهر بن أبي عصرون، وكتب معه نسخة بشارة تقرأ بكل مدينة يمر بها يقول فيها: " اصدرنا هذه المكاتبة إلى جميع البلاد الإسلامية عامة بما فتح الله على أيدينا رتاجه، وأوضح لنا منهاجه، وهو ما اعتمدنا من إقامة الدعوة الهادية العباسية، بجميع المدن والبلاد والأقطار والأمصار المصرية والإسكندرية، ومصر والقاهرة، وسائر الأطراف الدانية والقاصية والبادية والحاضرة؛ وانتهت إلى القريب والبعيد، وإلى قوص وأسوان بأقصى الصعيد؛ وهذا شرف لزماننا هذا وأهله، نفتخر به على الأزمنة التي مضت من قبله. وما برحت هممنا إلى مصر مصروفة، وعلى افتتاحها موقوفة، وعزائمنا في إقامة الدعوة الهادية بها ماضية، والأقدار في الأزل بقضاء آرائنا وإنجاز مواعدنا قاضية، حتى ظفرنا بها بعد يأس الملوك منها، وقدرنا عليها وقد عجزوا عنها. وطالما مرت عليها الحقب الخوالي، وآبت دونها الأيام والليالي، وبقيت مائتين وثمانين سنة ممنوَّة بدعوة المبطلين، مملوَّة بحزب الشياطين، سابغة ظلالعا للضلال، مقفرة المحل إلا من المحال، مفتقرة إلى نصرة من الله تملكها، ونظرة ستدركها، رافعة يدها في أشكائها، متظلمة إليه ليتكفل بإعدائها على أعدائها، حتى أذن الله لغُمتها بالانفراج، ولعلتها بالعلاج؛ وسبَّب قصد الفرنج لها، وتوجُّههم إليها طمعا في الاستلاء عليها. واجتمع داءان: الكفر والبدعة، وكلاهما شديد الروعة، فملكنا الله تلك البلاد، ومكنّ لنا في الأرض، وأقدرنا على ماكنا نؤملّه في إزالة الإلحاد والرفض، ومن إقامة الفرض، وتقدمنا إلى من استنَبنْاه أن يستفتح باب السعادة، ويستنجح مالنا من الإرادة، ويقيم الدعوة الهادية العباسية هنالك، ويورد الأدعياء ودعاة الإلحاد بها المهالك " .
وهو كتاب طويل اختصرت منه الغرض وهو هذا.
قال: وسار شهاب الدين بن أبي عصرون إلى جهة بغداد ولم يترك مدينة إلا دخلها بهذه البشارة الجليلة القدر، وقرأ فيها هذا المنشور العظيم الخطر والذكر، حتى وصل إلى بغداد، فخرج الموكب إلى تلقيه وجميع أهل بغداد، مكرمين لخطير وروده، معظمين لجليل موروده. ونثرت عليه دنانير الإنعام، وحُبى بكل إحسان وإكرام، وأرسلت التشريفات إلى نور الدين وصلاح الدين، كما سيأتي ذكره.
وقال العماد: كان صلاح الدين لايخرج عن أمر نور الدين، ويعمل له عمل القوى الأمين، ويرجع في جميع مصالحه إلى رأيه المتين. وقد كان كاتبه نور الدين في شوال سنة ست وستين بتغيير الخطبة، وتذليل أمورها هذه الصعبة، وافتراع بكر هذه القصبة، وفرع الرتبة؛ وأيقن أن أمره متبوع، وقوله مسموع، وحكمه مشروع، ونطقت بذلك قبل التمام، ألسُن الخواص والعوام، فسيَّر نور الدين شهاب الدين أبا المعالي المطهر، ابن الشيخ شرف الدين بن أبي عصرون، بهذه البشارة، وإشاعة ما تقدم له بها من الإشاعة، وأمرني بإنشاء بشارة عامة تقرأ في سائر بلاد الإسلام، وبشارة خاصة للديوان العزيز بحضرة الإمام، في مدينة السلام - ثم ذكر نسخة الكتابين.
ثم قال: ونظمت قصيدة مشتملة على الخطبة بمصر أولها:
قد خطبنا للمستضئ بمصر ... نائب المصطفى إمام العصر
وخذلنا لنصرة العضد العا ... ضدَ والقاصر الذي بالقصر
أراد بالعضد وزير بغداد عضد الدين بن رئيس الرؤساء.
قال العماد في كتاب الخريدة: قصدت بالعضد والعاضد المجانسة، ونصرة وزير الخليفة كنصرته. ثم قال:
وأشعْنا بها شعار بني العبّ ... اس، فاستبشرت وجوه النصر
وتركنا الدَّعي يدعو ثبورا ... وهو بالذل تحت حجر وحصر
وتباهت منابر الدين بالخط ... بة للهاشمي في أرض مصر
ولدينا تضاعفت نعم الل ... ه، وجلّت عن كل عدّ وحصر
فاغتدى الدين ثابت الرّكن في مص ... ر، محوط الحمى، مصون الثغر
واستنارت عزائم الملك العا ... دل نور الدين الكريم الأغر
وبنو الأصفر القوامص منه ... بوجوه من المخافة صُفر
عرف الحقَّ أهل مصر، وكانوا ... قبله بين منكر ومقر
قل لداعي الدعيّ: حسبك، فالل ... ه أقرّ الحقوق خير مقر
هو فتح بكر، و دون البرايا ... خصنا الله بافتراع البكر
وحصلنا بالحمد، والأجر، والنص ... ر، وطيب الثنا، وحسن الذكر
ونشرنا أعلامنا السود قهرا ... للعدا الزّرْق بالمنايا الحمر
واستعدنا من أدعياء حقوقا ... تدعيّ بينهم لزيد وعمرو
والذي يدعي الإمامة بالقا ... هرة انحط في حضيض القهر
خانه الدهر في مناه، ولا يط ... مع ذو اللب في وفاء الدهر
ما يقام الإمام إلا بحق ... ما تحاز الحسناء إلا بمهر
خلفاء الهدى سراة بني ... العباس والطيبون أهل الطهر
بهمُ الدين ظافر، مستقيم ... ظاهر قوة، قوى الظهر
كشموس الضحى، كمثل بدور الت ... مِّ، كالسحب، كالنجوم الزهر
قد بلغنا بالصبر كل مراد ... وبلوغ المراد عقبى الصبر
ليس مُثرى الرجال من مَلَك الما ... ل، ولكنما أخو اللب مثرى
ولهذا لم ينتفع صاحب القص ... ر، وقد شارف الدثور، بدثر
دام نصر الهدى بملك بني العب ... اس حتى يقوم يوم الحشر
قال العماد في ديوانه، ونقلته من خطه، قال: ووصل الخبر بأن الخطبة قامت في الإسكندرية يوم الجمعة سابع شهر رمضان، وفي مصر والقاهرة يوم الجمعة ثامن عشري شهر رمضان لمولانا الإمام المستضئ بأمر الله أمير المؤمنين، وإقامة شعار بني العباس بها. فقلت، ونحن نزول بجسر الخشب من دمشق في عاشر شوال، وكتبت بها إلى بغداد - فذكر هذه القصيدة.
وقال في البرق: ووصل من دار الخلافة في جواب هذه البشارة عماد الدّين صندل وهو من أكابر الخدم المقتفوية، من ذوي الروية والهمَّة القوية. وتولى أستاذية الدار العزيزة بعد عزل كمال الدين بن عضد الدين عنها، فأكرم نور الدين بإرسال مثله إليه، وعول في هذا الأمر المهم عليه. وهو أكرم رسول وصل، فأنجح الأمل، وجاء بالتشريف الشريف لنور الدين مكملا، معظما مجملا، بأهبته السوداء العراقية، وحلله الموشية، وطوقه الثقيل، ولوائه الجليل.
وعين يوم يحضر فيه الرسول، ونصوا على من يحضر في مجلس نور الدين وأغفلوا ذكر العماد، فطلبه نور الدين لما حضروا، وقام لقيام الرسل له لما حضر، وقصد أن يعرفهم منزلته عنده، وناوله الكتاب ليقرأه. قال: فتناوله منى الموفق بن القيسراني خالد، وكان عنده في مقام الوزير وله انبساط زائد، فداريته وماريته، وتركته يقرأ وأنا أرد عليه، وأرشده في التلاوة إلى ما لايهتدي إليه، حتى أنهاه، وأنا على افتياته عليّ لا أنهاه. فأعجب نور الدين صمتي وسمتي، وأحمد مني فضل التأني والتأتي. واجتاب الأهبة ولبس الفرجية فوقها، وتقلد مع تقلد السيفين طوقها؛ وخرج وركب من داخل القلعة، وهو حالٍ بما عليه من الخلعة؛ واللواء منشور، والنضار منثور، والمركبان الشريفان أحدها مركوبه، والآخر بحليته مجنوبه.
قال: وسألت عن معنى تقليده السيفين، واشتماله بالنجادين، فقيل لي هما للشام ومصر، والجمع له بين البلدين.
وخرج إلى ظاهر دمشق حتى انتهى إلى منتهى الميدان الأخضر ثم عاد شريف المفخر، جميل المنظر، حميد المخبر، سعيد المورد والمصدر، لبيقاً بالأعظمين السرير والمنبر. وكان وزن الطوق مع أكرته ألف دينار من الذهب الأحمر. وحملوا لصلاح الدين تشريفاً فاضلاً فائقاً، رائعا رائقاً، لجماله وكماله لائقاً؛ لكن تشريف نور الدين أميز وأفضل، وأجمل وأكمل؛ فسير تشريفه برمته إليه بمصر ليحتاجه، وسير أيضا بخلع من عنده يكرم بها أصحابه. ووصلت تلك الخلعة إليه ولبسها، وأنس من السعادة الدائمة قبسها؛ وطاف بها في الحادي والعشرين من رجب. وهي أول أهبة عباسية دخلت الديار المصرية؛ يعني بعد استيلاء بني عبيد عليها.
قال: وكانت وصلت مع الرسل أعلام وبنود، ورايات سود، وأُهب عباسية، للخطباء في الديار المصرية، فسيُرّت إلى صلاح الدين ففرقها على المساجد والجوامع والخطباء والقضاة والعلماء؛ والحمد لله على ما أنعم وأولى، ووهب وأعطى.
قال ابن أبي طيّ: ولما فرغ السلطان من أمر الخطبة أمر بالقبض على القصور وجميع ما فيها من مال وذخائر وفرش وسلاح وغير ذلك، فلم يوجد من المال كبير أمر، لأن شاور كان قد ضيّعه في إعطائه الفرنج في المرات التي قدمنا ذكرها، ووجد فيها ذخائر جليلة من ملابس وفرش وخيول وخيام وكتب وجواهر. ومن عجيب ما وجد فيه: قضيب زمرد طوله شبر وكَسْر، قطعة واحدة، وكان سمت حجمه مقدار الإبهام، ووجد فيه طبل للقولنج، ووجد فيه إبريق عظيم من الحجر المانع، ووجد فيه سبعمائة يتيمة من الجوهر. فأما قضيب الزمرد فإن السلطان أخذه وأحضر صانعاً ليقطعه، فأبى الصانع قطعه، فرماه السلطان فانقطع ثلاث قطع، وفرَّقه السُّلطان على نسائه. وأما طبل القولنج: فإنه وقع إلى بعض الأكراد فلم يَدْر ما هو فكسره، لأنه ضرب به فحبق. وأما الأبريق فأنفذه السلطان إلى بغداد.
واحتاط السلطان على أهل العاضد وأولاده في موضع خارج القصر جعله برسمهم على الانفراد، وقرر لهم ما يكفيهم، وجعل أمرهم إلى قراقوش الخادم، وفرّق بين النساء والرجال ليكون ذلك أسرع إلى انقراضهم. واستعرض من بالقصر من الجواري والعبيد، والعدّة والعديد، والطرّيف والتليد، فأطلق مَنْ كان منهم حرا، وأعتق من رأى إعتاقه، ووهب من أراد هبته. وفرق على الأمراء والأصحاب من نفائس القصر وذخائره شيئاً كثيرا، وحصل هو على اليتيمات وقطع البلخش والياقوت وقضيب الزمرد، وأطلق البيع بعد ذلك في كل جديد وعتيق، فأقام البيع في القصر مدّة عشر سنين.
قال: ومن جملة ما باعوا: خزانة الكتب، وكانت من عجائب الدنيا لأنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم من الدار التي بالقاهرة في القصر. ومن عجائبها: أنه كان بها ألف ومائتان وعشرون نسخة من تاريخ الطبري، ويقال إنها كانت تحتوى على ألفي ألف وستمائة ألف كتاب، وكان فيها من الخطوط المنسوبة اشياء كثيرة. وحصل للقاضي الفاضل قدر منها كبير حيث شغف بحبها؛ وذلك أنه دخل إليها واعتبرها، فكلّ كتاب صلح له قطع جلده ورماه في بركة كانت هناك، فلما فرغ الناس من شراء الكتب اشترى تلك الكتب التي ألقاها في البركة على أنها محرومات ثم جمعها بعد ذلك، ومنها حصل ما حصّل من الكتب، كذا أخبرني جماعة من المصريين منهم الأمير شمس الخلافة موسى بن محمد.
واقتسم الناس بعد ذلك دور القصر، وأعطى السلطان القصر الشمالي للأمراء فسكنوه وأسكن أباه نجم الدين في اللؤلؤة، وهو قصر عظيم على الخليج الذي فيه البستان الكافوري؛ ونقل الملك العادل إلى مكانه آخر منه، وأخذ باقي الأمراء دور من كان ينتمي إليهم، وزاد الأمر حتى صار كل من استحسن داراً أخرج منها صاحبها وسكنها. وانقضت تلك الدولة برمتها، وذهبت تلك الأيام بجملتها، بعد أن كانوا قد احتووا على البلاد، واستخدموا العباد، مائتين وثمانين سنة وكسورا.
قال: وحكى أن الشريف الجليس وهو رجل كان قريباً من العاضد يجلس معه ويحدثه، عمل دعوة لشمس الدولة بن أيوب أخي السلطان بعد القبض على القصور وأخذ ما فيها وانقراض دولتهم، وغرم هذا الشريف على هذه الدعوة مالا كثيراً، وأحضرها أيضاً جماعة من أكابر الأمراء. فلما جلسوا على الطعام قال شمس الدولة لهذا الشريف: حدّثني بأعجب ما شاهدته من أمر القوم. قال: نعم. طلبني العاضد يوماً وجماعة من الندماء، فلما دخلنا عليه وجدنا عنده مملوكين من الترك عليهم أقبية مثلر أقبيتكم وقلانس كقلانسكم وفي أوساطهم مناطق كمناطقكم، فقلنا له: ياأمير المؤمنين، ما هذا الزي الذي ما رأيناه قط؟ فقال: هذه هيئة الذين يملكون ديارنا ويأخذون أموالنا وذخائرنا.
قال العماد: وأخذت ذخائر القصر، فقصها كما سبق. ثم قال: ومن جملتها الكتب فإني أخذت منها جملة في سنة اثنتين وسبعين، وكانت خزائنها مشتملة على قريب مائة وعشرين ألف مجلدة، مؤيدة من العهد القديم مخلدة، وفيها بالخطوط المنسوبة ما اختطفته الأيدي، واقتطعه التعديّ؛ وكانت كالميراث مع أمناء الأيتام، يتصرف فيها بشره الانتهاب والالتهام، ونقلت منها ثمانية أحمال إلى الشام. وتقاسم الخواص بِدُور القصر وقُصوره، وشرع كل من سكن في تخريب معموره؛ وانتقل إليه الملك العادل سيف الدين لما ناب عن أخيه، واستمرت سكناه فيه؛ وخطب لإمامنا المستضئ في قوص وأسوان والصعيد، والقاصي والداني والقريب والبعيد. وشاعت البشائر، وذاعت المفاخر، وسار بها البادي والحاضر؛ وتملك السلطان أملاك أشياعهم، وضرب الألواح على دورهم ورباعهم، ثم ملكها أمراءه، وخص بها أولياءه؛ وباع أماكن، ووهب مساكن، وعفّى الآثار القديمة، واستأنف السنن الكريمة.
وقال ابن الأثير: لما استولى صلاح الدين على القصر وأمواله وذخائره اختار منه ماا{اد ووهب أهله وأمراءه وباع منه كثيرا؛ وكان فيه من الجواهر والأعلاق النفيسة مالم يكن عند ملك من الملوك، قد جمع على طول السنين وممر الدهور، فمنه القضيب الزمرد طوله نحو قبضة ونصف، والحبل الياقوت، وغيرهما؛ ومن الكتب المنتخبة بالخطوط المنسوبة والخطوط الجيدة نحو مائة ألف مجلد.
فصلولما خطب بالديار المصرية لبني العباس ومات العاضد انقرضت تلك الدولة، وزالت عن الإسلام بمصر بانقراضها الذلة. واستولى على مصر صلاح الدّين وأهله ونوابه، وكلُّهم من قَبِل نور الدين رحمه الله، هم أمراؤه وخدمه وأصحابه. وفيهم يقُول العرقلة:
أصبح الملك بعد آل عليّ ... مشرقا بالملوك من آل شاذي
وغدا الشرق يحسد الغرب للقو ... م، ومصرُ تزهو على بغداذ
ما حوَوْها إلا بحزم وعزم ... وصليل الفولاذ في الفولاذ
لا كفرعون والعزيز ومن كا ... ن بها كالخصيب والأستاذ
يعني بالأستاذ كافور الإخشيد. وقوله: بعد آل علي، يعني بذلك بني عبيد المستخلفين بها، أظهروا للناس أنهم شرفاء فاطميون، فملكوا البلاد، وقهروا العباد. وقد ذكر جماعة من أكابر العلماء أنهم لم يكونوا لذلك أهلا ولا نسبهم صحيحا، بل المعروف أنهم بنو عبيد.
وكان والد عبيد هذا من نسل القداح الملحد المجوسي، وقيل كان والد عبيد هذا يهودياً من أهل سَلَمْية من بلاد الشام، وكان حدادا؛ وعبيد هذا كان اسمه سعيداً، فلما دخل المغرب تسمى بعبيد الله، وزعم أنه علويّ فاطميّ، وادعى نسباً ليس بصحيح، لم يذكره أحد من مصنفي الأنساب العلوية، بل ذكر جماعة من العلماء بالنسب خلافه، وهو ما قدمنا ذكره. ثم ترقت به الحال إلى أن ملك وتسمى بالمهدي، وبني المهدية بالمغرب ونسبت إليه. وكان زنديقاً خبيثاً عدوًّا للإسلام، متظاهراً بالتشيع متستراً به، حريصاً على إزالة الملّة الإسلامية؛ قتل من الفقهاء والمحدثين والصالحين جماعة كثيرة، وكان قصده إعدامهم من الوجود، لتبقى العالم كالبهائم، فيتمكن من إفساد عقائدهم وضلالتهم، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون. ونشأت ذريّته على ذلك منطوين، يجهرون به إذا أمكنتهم الفرصة وإلا أسرُّوه، والدعاة لهم منبثون في البلاد، يضلون من أمكنهم إضلاله من العباد. وبقي هذا البلاء على الإسلام من أول دولتهم إلى آخرها، وذلك من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين إلى سنة سبع وستين وخمسمائة.
وفي أيامهم كثرت الرّافضة واستحكم أمرهم، ووضعت المكوس على الناس واقتدى بهم غيرهم، وأفسدت عقائد طوائف من أهل الجبال الساكنين بثغور الشام كالنصيرية والدَّرَزْيّة؛ والحشيشية نوع منهم. وتمكن دعاتهم منهم لضعف عقولهم وجهلهم مالم يتمكنوا من غيرهم. وأخذت الفرنج أكثر البلاد بالشام والجزيرة، إلى أن منَّ الله على المسلمين بظهور البيت الأتابكي وتقدمه مثل صلاح الدين، فاستردّوا البلاد، وأزالوا هذه الدولة عن رقاب العباد.
وكانوا أربعة عشر مستخلفاً، ثلاثة منهم بإفريقية، وهم الملقبون بالمهدي والقائم والمنصور، وأحد عشر بمصر وهم الملقبون بالمعزّ، والعزيز، والحاكم، والظاهر، والمستنصر، والمستعلي، والآمر، والحافظ، والفائز، والعاضد؛ يدعون الشرف ونسبتهم إلى مجوسي أو يهودي، حتى أشتهر لهم ذلك بين العوام فصاروا يقولون الدولة الفاطمية والدولة العلوية، وإنما هي الدَّولة اليهودية أو المجوسية الباطنية الملحدة. ومن قحتهم أنهم كانوا يأمرون الخطباء بذلك على المنابر، ويكتبونه على جدران المساجد وغيرها.
وخطب عبدهم جوهر، الذي أخذ لهم الديار المصرية وبنى لهم القاهرة المعزية، بنفسه خطبة طويلة قال فيها: " اللهم صلّ على عبدك ووليك، ثمرة النبوة وسليل العترة الهادية المهدية، معدّ أبي تميم الإمام المعز لدين الله أمير المؤمنين، كما صليت على آبائه الطاهرين، وسلفه المنتخبين الأئمة الراشدين " .
كذب عدوّ الله اللعين، فلا خير فيه ولا في سلفه أجمعين، ولا في ذريته الباقين، والعترة النبوية الطاهرة منهم بمعزل، رحمة الله عليهم وعلى أمثالهم من الصدر الأول.
وقد بيّن نسبهم هذا، وأوضح محالهم وماكانوا عليه من التمويه وعداوة الإسلام جماعة من سلف من الأئمة والعلماء، وكل متورع منهم لايسميهم إلا بني عبيد الأدعياء، أي يدعوّن من النسب بما ليس لهم. ورحمة الله على القاضي أبي بكر محمد بن الطيب، فإنه كشف في أول كتابه، المسمى بكشف أسرار الباطنية، عن بطلان نسب هؤلاء إلى علي رضي الله عنه، وأن القدّاح الذي انتسبوا إليه دَعيُّ من الأدعيتء، ممخرق كذاب، وهو أَضَلَّ دعاة القرامطة لعنهم الله.
وأما القاضي عبد الجبار البصري، فإنه استقصى الكلام في أصولها وبينها بياناً شافياً في آخر كتاب تثبيت النبوة له. وقد نقلت كلامهما في ذلك وكلام غيرهما في مختصر تاريخ دمشق في ترجمة عبد الرحيم بن إلياس، وهو من تلك الطائفة الذين هم بئس الناس. وهذان إمامان كبيران من أئمة أصول دين الإسلام.
وأظهر عبد الجبار القاضي في كتابه بعض ما فعلوه من المنكرات والكفريات التي يقف الشَّعر عند سماعها، ولكن لابد من ذكر شئ من ذلك تنفيرا لِمَن لعله يعتقد إمامتهم، وخفي عنه محالهم، ولم يعلم قحتهم ومكابرتهم، وليعذر من أزال دولتهم، وأمات بدعتهم، وقلل عدّتهم، وأفنى أمتهم، وأطفأ جمرتهم.
ذكر عبد الجبار القاضي أن الملقب بالمهدي، لعنه الله، كان يتخذ الجهال ويسلطهم على أهل الفضل؛ وكان يرسل إلى الفقهاء والعلماء فيذبحون في فرُشهم؛ وأرسل إلى الروم وسلطهم على المسلمين؛ وأكثر من الجور واستصفاء الأموال وقتل الرجال. وكان له دعاة يضلون الناس على قدر طبقاتهم، فيقولون لبعضهم: " هو المهدي ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجة الله على خلقه " . ويقولون: " هو رسول الله، صلى الله عليه وسلم وحجة الله " . ويقولون لطائفة أُخرى: " هو الله الخالق الرازق. لاإله إلا الله وحده لاشريك له " تبارك سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا " .
ولما هلك قام ابنه المسمى بالقائم مقامه، وزاد شرّه على شر أبيه أضعافاً مضاعفة، وجاهر بشتم الأنبياء، فكان ينادي في أسواق المهدية وغيرها: " ألعنوا عائشة وبَعْلَها، ألعنوا الغار ومن حوى " . اللهم صل على نبيك وأصحابه وأزواجه الطاهرين، والعن هؤلاء الكفرة الملحدين، وارحم من أزالهم وكان سبب قلعهم، ومن جرى على يديه تفريق جمعهم؛ وأصلهم سعيراً، ولَقِّهم ثبوراً، وأسكنهم النار جميعا، واجعلهم ممن قلت فيهم: (الَّذين ضَلّض سَعْيُهم في الحَيْاة الدُّنيا وَهُمْ يَحْسَبون أَنَّهم يُحْسِنُون صُنعاً).
وبعث إلى أبي طاهر القرمطي المقيم بالبحرين، وحثه على قتل المسلمين وإحراق المساجد والمصاحف.
وقام بعده ابنه المسمى بالمنصور فقتل أبا يزيد مخلداً الذي خرج على أبيه ينكر عليه قبيح فعله المقدم ذكره، وسلخه وصلبه، واشتغل بأهل الجبال يقتلهم ويشردهم، خوفاً من أن يثور عليه ثائر مثل أبي يزيد.
وقام بعده ابنه ىالملقب بالمعز، فبعث دعاته فكانوا يقولون: هو المهدي الذي يملك الأرض، وهو الشمس التي تطلع من مغربها. وكان يسره ما ينزل بالمسلمين من المصائب من أخذ الروّم بلادهم، واحتجب عن الناس أياماُ ثم ظهر وأوْهم أن الله رفعه إليه، وأنه كان غائباً في السماء، وأخبر الناس بأشياء صدرت منهم كان ينقلها إليه جواسيس له، فأمتلأت قلوب العامة والجهال منه. وهذا أول خلفائهم بمصر، وهو الذي تنسب إليه القاهرة المعزيّة. واستدعى بفقيه الشام أبي بكر محمد بن أحمد بن سهل الرّملي، ويعرف بابن النابلسي؛ فحمُل إليه في قفص خشب، فأمر بسلخه، فسلخ حيا، وحشى جلده تبنا وصلب، رحمه الله تعالى. قال أبو ذر الهروي سمعت أبا الحسن الدار قطني يذكره ويبكي، ويقول: كان يقول وهو يسلخ: (كَاَنَ ذَلِكَ فِي الكِتِابِ مَسْطُوراً).
قلت: وفي أيام الملقب بالحاكم منهم أمر بكتب سبّ الصحابة رضي الله عنهم على حيطان الجوامع، والقياسر والشوارع، والطرقات؛ وكتب السجلات إلى سائر الأعمال بالسبّ، ثم أمر بقلع ذلك؛ وأنا رأيته مقلوعاً في بعض أبواب دمشق في الأمكنة العليا منقوراً في الحجر، ودلّني أول الكلام وآخره على ذلك، ثم جدّد ذلك الباب وأزيل الحجر. وفي أيامه طُوّف بدمشق برجل مغربي ونودي عليه؛ هذا جزاء من يحبّ أبا بكر وعمر، ثم ضربت عنقه. وكان يجري في أيامهم من نحو هذا أشياء مثل قطع لسان أبي القاسم الواسطي، أحد الصالحين، وكان أَذّن ببيت المقدس وقال في أذانه " حيّ على الفلاح " فأُخذ وقطع لسانه. ذكر ذلك وما قبله من قتل المغربي وأبي بكر النابلسي الحافظُ أبو القاسم في تاريخه. وما كانت ولاية هؤلاء الملاعين إلا محنة من الله تعالى، ولهذا طالت مدتهم مع قلة عِدتهم، فإن عدتهم عدة خلفاء بني أمية أربعة عشر، وأولئك بقوا نيّفاً وتسعين سنة وهؤلاء بقوا مائتي سنة وثمانياً وستين سنة؛ فالحمد لله على ما تيسر من هُلكهم وإبادة ملكهم، ورضي الله عمن سعى في ذلك وأزالهم، ورِحم مَنْ بيّن مَخْرقتهم، وكذبهم ومحِالهم.
وقد كشف أيضاً حالهم الإمام أبو القاسم عبد الرَّحمن بن علي بن نصر الشاشي في كتاب الرَّدِّ على الباطنية، وذكر قبائح ما كانوا عليه من الكفر والمنكرات والفواحش في أيام نزار وما بعده. ووصل الأمر إلى أن وصف بعضهم ما كانوا في قصيدة سماها: الإيضاح عن دعوة القدّاح، أوَّلها:
حيَّ على مصر إلى خلع الرَّسَنْ ... فثمَّ تعطيل فروض وسنن
وقال لو وُفّق ملوك الإسلام لصرفوا أعنة الخيل إلى مصر لغزو الباطنية الملاعين، فإنهم من شر أعداء دين الإسلام، وقد خرجت من حد المنافقين إلى حدّ المجاهرين، لما ظهر في ممالك الإسلام من كفرها وفسادها، وتعيّن على الكافة فرض جهادها. وضرر هؤلاء أشد على الإسلام وأهله من ضرر الكفار؛ إذ لم يقم بجهادها أحد إلى هذه الغاية، مع العلم بعظيم ضررها وفسادها في الأرض.
قلت: ثم إنيّ لم يقنعني هذا من بيان أحوالهم، فأفردت كتاباً لذلك سميته كشف ما كان عليه بنو عبيد، من الكفر والكذب والمكر والكيد، فمن أراد الوقوف على تفاصيل أحوالهم فعليه به، فإني بتوفيق الله تعالى جمعت فيه ماذكره هؤلاء الأئمة المصنفون وغيرهم. ووقفت على كتاب كبير صنفه الشريف الهاشمي رحمه الله، وكان في أيام الملقب بالعزيز ثاني خلفاء مصر، فبين فيه أصولهم أتم بيان، وأوضح كيفية ظهورهم وغلبتهم على البلاد، وتتبع ذكر فضائحهم وما كان يصدر منهم من أنواع الزندقة والفسق والمخرقة، فنقلت منه إلى ما كنت جمعته قطعة كبيرة، وبالله التوفيق.
وما أحسن ماقال فيهم بعض من مدح بني أيوب بقصيدة منها:
ألَسْتم مزيلي دولة الكفر من بني ... عبيد بمصر، إن هذا هو الفضل
زنادقة، شيعية، باطنية ... مجوسُ، ومافي الصالحين لهم أصل
يُسِرُّون كفراً، يظهرون تشيَّعاً ... ليستتروا شيئاً، وعمهّم الجهل
أما مافعله هؤلاء من الانتساب إلى عليّ رضوان الله عليه والتستر بالتشيع فقد فعله جماعة القرامطة، وصاحب الزنج الخارج بالبصرة، وغيرهم من المفسدين في الأرض على ماعرف مِنْ سيرهم من وقف على أخبار الناس، وكلهم كذبة في ذلك وإنما غرضهم التقرب إلى العوام والجهال، واستتباعهم لهم، واستجلابهم إلى دعوتهم بذلك البلاء، ويفعل الله مايشاء. ولايغُتر بأبيات الشريف الرضي في ذلك، فقد حصل الجواب عنها في كتاب الكشف بوجوه حسنة، وبالله التوفيق.
وقد صنف الشريف العابد الدمشقي، رحمه الله، كتاباً في إبطال نسبهم إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وفصل ذلك تفصيلا حسناً، وأطنب في ذكر أخبار إخوانهم من القرامطة، لعنهم الله تعالى.
فصل في ذكر غزو الفرنج في هذه السنةقال ابن شداد: واستمرت القواعد على الاستقامة، وصلاح الدين كلما استولى على خزانة مال وهبها، وكلما فتح له خزائن ملك أنهبها، ولايُبقى لنفسه شيئاً. وشرع في التأهب للغزاة، وقصد بلاد العدو، وتعبئة الأمر لذلك، وتقرير قواعده.
وأما نور الدين فإنه عزم على الغزاة، واستدعى صاحب الموصل ابن أخيه، فوصل بالعساكر إلى خدمته. وكانت غزوة عرقة فأخذها نور الدين ومعه ابن أخيه في المحرم سنة سبع وستين.
وقال ابن أبي طي: جمع نور الدين عساكره وخرج إلى عرقة ونازلها، وقاتلها، أياماً حتى فتحها، واحتوى على جميع مافيها، وغنم الناس غنيمة عظيمة.
قال ابن الأثير: خرجت مراكب من مصر إلى الشام فأخذ الفرنج في اللاذقية مركبين منها مملوءتين من الأمتعة والتجار، وغدروا بالمسلمين، وكان نور الدين قد هادنهم فنكثوا. فلما سمع نور الدين الخبر استعظمه، وراسل الفرنج في ذلك، وأمرهم بإعادة ماأخذوه، فغالطوه، واحتجوا بأمور منها: أن المركبين كانا قد دخلهما ماء البحر لكسر فيهما؛ وكانت العادة بينهم أخذ كل مركب يدخله الماء، وكانوا كاذبين، فلم يقبل مغالطتهم. وكان رضي الله عنه لايهمل أمراً من أمور رعيته؛ فلم يردوا شيئاً، فجمع العساكر من الشام والموصل والجزيرة، وبث السرايا في بلادهم، بعضهم نحو أنطاكية، وبعضهم نحو طرابلس، وحصر هو حصن عرقة وأخرب ربضه، وأرسل طائفة من العسكر إلى حصني صافيثا والعريمة، فأخذهما عنوة وكذلك غيرهما؛ ونهب وخرّب، وغنم المسلمون الكثير، وعادوا إليه وهو بعرقة فسار في العساكر جميعها إلى قريب طربلس يخرب ويحرق وينهب. وأما الذين ساروا إلى أنطاكية فإنهم فعلوا في ولايتها مثل ما فعل من النهب والتحريق والتخريب بولاية طرابلس، فراسله الفرنج وبذلوا إعادة ما أخذوه من المركبين، ويحدد معهم الهدنة؛ فأجابهم. وكانوا في ذلك كما يقال: اليهودي لايعطي الجزية حتى يُلطم، فكذلك الفرنج ما أعادوا أموال التجار بالتي هي أحسن، فلمّا نُهبت بلادهم وخربت أعادوها.
قال: وكان لوالدي في المركبين تجارة مع شخصين، فلما أعادوا إلى الناس أموالهم لم يصل إلى كل إنسان إلا اليسير. وكان يُحمل المتاع فكل من كان اسمه عليه أو على ثوب أخذه. وكان في الناس من يأخذ ماليس له، وكان أحد هذين المضاربين فيه أمانة، وكان نصرانياً، فلم يأخذ إلا ما عليه اسمه وعلامته، فذهب من ماله ومالنا شئ كثير بهذا السبب. وكان الذي حصل من مالنا أكثر من الذي حصل له، فلما عاد إلينا سلّم الذي لنا إلى والدي، فامتنع من أخذه وقال: خذ أنت الجميع فإنك أحوج إليه وأنا في غنى عنه؛ فلم يفعل؛ فقال خذ النصف وأنا النّصف، واجتهد به والدي فلم يفعل. فلما كان بعض الأيام وإذا قد جاء الغلام ومعه عدّة من الأثواب السوسية وغيرها؛ وقال: هذا من قماشنا قد حضر اليوم. وسبب حضوره أن إنساناً فقاعياً من أهل تبريز كان معنا في المركب وقد أعادوا عليه ماله، فرأى هذه الأثواب واسمى عليها فلم يسهل عليه أن يردها، يعني عليهم، وسأل عني وقد قصدني، وهي معي، وحضر عندي الساعة وسلمها إليّ، وقال: قد تركت طريقي لتبرأ ذمتي. فأخذنا نحن ماعليه اسمنا بعد الجهد، وطلب والدي الرجل، وسأله أن يقيم عندنا لنسلم إليه مالاً يتجر فيه، فلم يفعل، وعاد إلى بلده. قال: وهذان الرجلان نادران في هذا الزمان.
فصل في عزم نور الدين على الدخول إلى مصرقال العماد: وكان صلاح الدين واعده نور الدين أن يجتمعا على الكرك والشوبك يتشاوران فيما يعود بالصلاح المشترك، فخرج من القاهرة في الثاني والعشرين من المحرم، بالعزم الأجزم، والرأي الأحزم؛ فاتفق للاجتماع عائق، ولم يقدر للاتفاق قدر موافق؛ فلقي في تلك السفرة شدة، وعدم خيلا وظهرا وعُدة؛ وعاد إلى القاهرة في النصف من ربيع الأول.
قال ابن الأثير: وفي سنة سبع وستين أيضاً جرى ما أوجب نفرة نور الدين من صلاح الدين.
وكان الحادث أن نور الدين أرسل إلى صلاح الدين يأمره بجمع العساكر المصرية والمسير بها إلى بلاد الفرنج والنزول على الكرك ومحاصرته، ليجمع هو أيضاً عساكره ويسير إليه، ويجتمعا هناك على حرب الفرنج والاسيلاء على بلادهم. فبرز صلاح الدين من القاهرة في العشرين من المحرم، وكتب إلى نور الدين يعرفه أن رحيله لايتأخر؛ وكان نور الدين قد جمع عساكره وتجهز، وأقام ينتظر ورود الخبر من صلاح الدين برحيله ليرحل هو. فلما أتاه الخبر بذلك رحل من دمشق عازماً على قصد الكرك، فوصل إليه، وأقام ينتظر وصول صلاح الدين إليه، فأتاه كتابه يعتذر فيه عن الوصول باختلال البلاد، وأنه يخاف عليها مع البعد عنها فعاد إليها؛ فلم يقبل نور الدين عذره.
وكان سبب تقاعده أن أصحابه وخواصه خوّفوه من الاجتماع بنور الدين. فحيث لم يمتثل أمر نور الدين شقّ ذلك عليه، وعظم عنده، وعزم على الدخول إلى مصر وإخراج صلاح الدين عنها. فبلغ الخبر صلاح الدين فجمع أهله، وفيهم والده نجم الدين، وخاله شهاب الدين الحارمي، ومعهم سائر الأمراء، وأعلمهم ما بلغه من عزم نور الدين على قصده وأخذ مصر منه؛ واستشارهم، فلم يجبه أحد منهم بشئ. فقام ابن أخيه تقيّ الدين عمر وقال: إذا جاءنا قاتلناه وصددناه عن البلاد؛ ووافقه غيره من أهله. فشتمهم نجم الدين أيوب وأنكر ذلك واستعظمه، وكان ذا رأى ومكر، وكيد وعقل، وقال لتقيّ الدّين: اقعد، وسبَّه؛ وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا شهاب الدّين خالك، أتظنّ في هؤلاء كلِّهم مَنْ يحبك ويريد لك الخير مثلنا؟ فقال: لا. فقال: والله لو رأيت أنا وهذا خالك نور الدين لم يمكنا إلا أن نترجل إليه ونقبل الأرض بين يديه، ولو أمر بضرب عنقك بالسيف لفعلنا؛ فإذا كنّا نحن هكذا كيف يكون غيرنا، وكلّ من تراه من الأمراء والعساكر لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسر على الثبات على سرجه، ولاوسعه إلا النزول وتقبيل الأرض بين يديه؛ وهذه البلاد له، وقد أقامك فيها، فإن أراد عزلك فأي حاجة به إلى المجئ؟ يأمرك بكتاب مع نجاب حتى تقصد خدمته ويولي بلاده من يريد! وقال للجماعة كلهم: قوموا عنا فنحن مماليك نور الدين وعبيده، ويفعل بنا مايريد. فتّفرقوا على هذا، وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر.
ولما خلا نجم الدين أيوب بابنه صلاح الدين قال: أنت جاهل قليل المعرفة؛ تجمع هذا الجمع الكبير وتُطلعهم على مافي نفسك، فإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه من البلاد جعلك أهمّ الأمور إليه وأولاها بالقصد، ولو قصدك لمم ترمعك من هذا العسكر أحدا، وكانوا أسلموك إليه؛ وأما الآن بعد هذا المجلس، فسيكتبون إليه ويعرفونه قولي، وتكتب أنت إليه وترسل في هذا المعنى وتقول: أيّ حاجة إلى قصدي؟ يجئ نجاب يأخذني بحبل يضعه في عنقي؛ فهو إذا سمع هذا عدل عن قصدك واشتغل بما هو أهم عنده، والأيام تندرج، والله كل وقت في شأن.
ففعل صلاح الدين ما أشار به والده. فلما رأى نور الدين رحمه الله تعالى الأمر هكذا عدل عن قصده، وكان الأمر كما قال نجم الدين؛ توفي نور الدين ولم يقصده ولا أزاله، وكان هذا من أحسن الآراء وأجودها.
فصل في الحَمَام
قال ابن الأثير: وفي سنة سبع وستين أمر الملك العادل نور الدين باتخاذ الحمام الهوادي، وهي المناسيب التي تطير من البلاد البعيدة إلى أوكارها، فاتخذت في سائر بلاده.
وكان سبب ذلك أنه اتسعت بلاده وطالت مملكته، فكانت من حد النوبة إلى باب همذان، لايتخللها سوى الفرنج. وكان الفرنج، لعنهم الله، ربما نازلوا بعض الثغور، فإلى أن يصله الخبر ويسير إليهم يكونون قد بلغوا بعض الغرض؛ فحينئذ أمر بذلك وكتب به إلى سائر بلاده، وأجرى الجرايات لها ولمربيها؛ فوجد بها راحة كبيرة. وكانت الأخبار تأتيه لوقتها، لأنه كان له في كل ثغر رجال مرتبون، ومعهم من حمام المدينة التي تجاورهم، فإذا رأوا أو سمعوا أمراً كتبوه لوقته وعلقوه على الطائر، وسرحوه إلى المدينة التي هو منها في ساعته، فتنقل الرقعة منه إلى طائر آخر من البلد الذي يجاورهم في الجهة التي فيها نور الدين؛ وهكذا إلى أن تصل الأخبار إليه. فانحفظت الثغور بذلك حتى إن طائفة من الفرنج نازلوا ثغراً له فأتاه الخبر ليومه، فكتب إلى العساكر المجاورة لذلك الثغر بالاجتماع والمسير بسرعة وكبس العدو، ففعلوا ذلك، فظفروا والفرنج قد أمنوا لبُعد نور الدين عنهم؛ فرحم الله نور الدين ورضي عنه، فما كان أحسن نظره للرعايا وللبلاد.
وقال العماد: وكان نور الدين لايقيم في المدينة أيام الربيع والصيف محافظة على الثغر، وصوناً من الحيف، ليحمي البلاد من العدو بالسيف، وهو متشوف إلى أخبار مصر وأحوالها، وتحقيق اعتدالها بتمحيق اعتلالها. فرأى اتخاذ الحمام المناسيب وتدريجها على الطيران، لتحمل إليه الكتب بأخبار البلدان؛ وتقدم إلى بكتب منشور لأربابها، وإعزاز أصحابها، وهو حينئذ بظاهر دمشق، مخيم بوادي اللّوان، ونحن مستظهرون في ذلك الأوان، عادُون على أهل العدوان؛ وذلك في سابع عشر ذي القعدة من السنة. ثم ذكر نسخة المنشور ووصف فيه الحمام، فقال: " هي برائد الأنباء، المخصوصة بفضيلة الإلهام والإيحاء، وهي فيوج الرسائل المأمونة الإبطاء، والسابقات الهُوج في الاهتداء؛ والحاملات مُلطَّفات الأسرار في أقرب مدة إلى أبعد غاية، والموصّلات مهمات الأخبار في وقتها من أقاصي الأمصار بأكمل هداية، والقاطعات في ساعتها إلى البلاد أجواز القفار والموامي، والنافذات بنجح المرام بعود السهام إلى المرامي؛ وهي تطوي الفراسخ البعيدة والأشواط في ساعة، وتنتهي إلى أقصى عنايات الطاعة بأتم استطاعة. وقد عمّ بها نفع المرابطين للغزاة والمجاهدين في سبيل الله، في إهداء أخبار الكفرة إليهم من أماكنها، دالة على مكايدها ومكامنها، طائرة بكتبهم إلى من وراءهم من الطلائع والسّرايا، مظهرة لهم من أحوالها خبايا الأمور الخفايا؛ وإنها لميمونة المطار، مأمونة العثار، سالمة على الأخطار، مهدية في الأسفار، أمينة على الأسرار، سابقة إلى الأوكار، صادرة بالأوطار، سائرة إلى المؤمنين بنبأ الكفار " .
قلت: وكل هذه أوصاف حسنة وعبارات مستحسنة. وقد بلغني عن القاضي الفاضل رحمه الله تعالى أنه وصفها بألطف من هذه الأوصاف وأخصر فقال: الطيور ملائكة الملوك؛ يشير إلى أن نزولها على الملوك من جوّ الهواء نزول الملائكة على الأنبياء عليهم السلام من السماء، مع فرط مافيها من الأمانة، لايتوهم من جهتها خيانة. فلقد أحسن فيما وصف، وأبدع فيما استنبط وأنصف، وهو بذلك أولى وأعرف. رحم الله الجميع.
فصل في باقي حوادث هذه السنة
قرأت نسخة سجل بإسقاط المكوس بمصر، قرئ على المنبر بالقاهرة يوم الجمعة بعد الصلاة ثالث صفر سنة سبع وستين وخمسمائة، عن السلطان الملك الناصر في أيام نور الدين رجمه الله، فهو كان الآمر وذاك المباشر، يقول فيه: " أما بعد؛ فإنا نحمد الله سبحانه على مامكنّ لنا في الأرض، وحسّنه عندنا من أداء كل نافلة وفرض، ونصبنا له من إزالة النّصب عن عباده، واختارنا له من الجهاد في الله حق جهاده، وزهدنا فيه من متاع الدّنيا القليل، وألهمنا من محاسبة أنفسنا على النّقير والفتيل، وأولانا من شجاعة السماحة، فيوماً نهب ما اشتملت عليه الدواوين، ويوماً نقطع ما سقاه النيل؛ فالبشائر في أيامنا تترى، شفعاً ووترا، والمسارُّ كنظام الجوهر تتبع الوادحة منها الأخرى، والمسامحات قد ملأت المسامع والمطامع، وأسخطت الخيمة والصنائع، وأرضت المنبر والجامع. ولما تقلدنا أمور الرّعية رأينا المكوس الديوانية بالقاهرة ومصر، أولى ما نقلناها من أن تكون لنا في الدنيا إلى أن تكون لنا في الآخرة، وأن نتجرد منها لنلبس أثواب الأجر الفاخرة، ونطهر منها مكاسبنا، ونصون عنها مطالبنا، ونكفي الرّعيّة ضرّهم الذي يتوجه إليهم، (وَنَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُم وَالأَغْلالَ الَّتي كانت عَلَيْهم)، ونعيدها اليوم كأمس الذاهب، ونضعها فلاترفعها من بعد يد حاسب، ولاقلم كاتب. فاستخرنا الله وعجلنا إليه ليرضى، ورأينا فرصة أجر لاتغض عليها بصائر الأبصار ولايُغضى؛ وخرج أمرنا بكتب هذا المنشور بمسامحة أهل القاهرة ومصر، وجميع التجار المترددين إليهما، وإلى ساحل المقسم، والمنية، بأبواب المكوس صادرها وواردها، فَيَرِدُ التاجر ويُسفر، ويغيب عن ماله ويحضر، ويقارض ويتجر براَ وبحراً، مركباً وظهرا، سرّا وجهراً، لايحلُّ ماشده، ولايحاول ما عنده، ولايكشف ما ستره، ولا يسأل عما أورده وأصدره، ولا يُستوقف في طريقه، ولايشرق بريقه، ولايؤخذ منه طعمه، ولا يستباح له حرمه. والذي اشتملت عليه المسامحة في السنة من العين مائة ألف دينار، مسامحة لايتعقبها تأويل، ولايتخونها تحويل، ولايعتريها زوال، ولايعتورها انتقال؛ دائمة بدوام الكلمة، قائمة ماقام دين القيِمَة؛ مَنْ عارضها ردّت أحكامه، ومن ناقضها نقض إبرامه، ومن أزالها زلَّت قدمه، ومن أحالها حل دمه، ومن تعقبها خلدت اللعنة فيه وفي عقبه، ومن احتاط لدنياه فيها أحاط به الجحيم الذَّي هو من خطبه. فمن قرأه، أو قُرى عليه من كافة ولاة الأمر من صاحب سيف وقلم، ومشارف أو ناظر، فليمتثل ما مثل من الأمر، ولْيُمْضه على ممر الدهر مُرضياً لربه، ممضياً لما أمر به " .
وفي هذه السنة توفي الشيخ أبو بكر يحيى بن سعدون القرطبي المقري النحوي، وهو نزيل الموصل رحمه الله تعالى.
وفيها ولد العزيز والظاهر ابنا صلاح الدين، والمنصور محمد بن تقي الدين.
وفيها في ثالث شوال توفي أبو الفتوح نصر بن عبد الله الإسكندري، المعروف بابن قلاقس الشاعر، بعيذاب، ومولده بالإسكندرية رابع ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، فيكون عمره نحواً من خمس وثلاثين سنة.
ثم دخلت سنة ثمان وستين وخمسمائةففيها توفي ملك البجاة الحسن بن صافي.
وفيها ترتب العماد الكاتب مشرفا بديوان نور الدين مضافا إلى كتابة الإنشاء.
قال: وكان نور الدين ذكيا ألمعيا، فطنا لوذعيا، لاتشتبه عليه الأحوال، ولا يتبهرج عليه الرجال، ولايتأهل لغير أهل الفضل منه الإفضال.
قال: ولما عرض صلاح الدين بعد العاضد خزائنه، واستخرج دفائنه، سير منها عدة من الأمتعة المستحسنة، والآلات المثمنة، وقطع البلور واليشم، والأواني التي لايتصور وجودها في الوهم، ومعها ثلاث قطع من البلخش، أكبرها نيف وثلاثون مثقالا، والثانية ثمانية عشر، والأخرى دونها، وقرن بها من اللآلئ مصونها ومكنونها؛ وحمل معها من الذهب ستين ألف دينار، ووصلت من غرائب المصنوعات بما لايجتمع مثله في أعصار وأعمار، ومن الطيب والعطر ما لم يخطر ببال عطار. فشكر نور الدين همته وذكر بالكرم شيمته، ووصف فضيلته، وفضل صفته، وقال: ما كانت بنا حاجة إلى هذا المال، ولا نسد به خلة الإقلال، فهو يعلم أنا ما أنفقنا الذهب في ملك مصر وبنا إلى الذهب فقر، وما لهذا المحمول في مقابلة ما جُدْنا به قدر. وتمثل بقول أبي تمام:
لم يُنفق الذهب المُرْبى بكثرته ... على الحصا وبه فقر إلى الذهب
لكنه يعلم أن ثغور الشام مفتقرة إلى السداد، ووفور الأعداد من الأجناد، وقد عم بالفرنج بلاء البلاد؛ فيجب أن يقع التعاقد على الإمداد بالمعونة، والمعونة بالإمداد.
فاستنزره وما استغزره، واستقل المحمول في جنب ماحرره، وتروى فيما يدبره، وأفكر فيما يقدمه من هذا المهم ويؤخره.
قال ابن أبي طيّ: لم تقع هذه الهدية من نور الدين بموقع، وجرد الموفق بن القيسراني وزيره إلى مصر وأمره بعمل حساب البلاد واستعلام أخبارها وارتفاعها، وأين صرفت أموالها؛ فإذا حصل جميع ذلك قرر على صلاح الدين وظيفة يحملها في كل سنة. وعظُم على نور الدين أمر مصر، وأخذه من إستيلاء صلاح الدين عليها المقيم المقعد، وأكثر في مراسلته في حمل الأموال.
حدثني أبي قال: لم تخف حال نور الدين في كراهية الملك الناصر؛ ولقد علم ذلك جميع الأجناد والأمراء وتحدثت به العوام، ولاسيما حين أنفذ هذه الهدية. واشتد بعد ذلك في مراسلته، وأنفذ ابن القيسراني لكشف الأحوال؛ ولو طال عمره لم يكن له بدُّ من الدخول إلى مصر.
قال العماد: وكان نور الدين مذُ مُلكت مصر، وتوجه له فيها النصر، يؤثر أن يقر له فيها مال للحمل، يستعين به على كلف الجهاد وتخفيف ماله من الثقل، والأيام تماطله، والأعوام تطاوله، وهو ينتظر أن صلاح الدين يبتدئ من نفسه بما يريده، وهو لايستدعي منه ولايستزيده. فلما حمل من أخائر الذخائر والمال الحاضر ما حمله، وعرف مجمله ومفصله، تقدم إلى الموفق خالد بن القيسراني أن يمضي، ويطالب ويقتضي، ويعمل أيضا بالأعمال المصرية جزازة، ولايبتغي في نفوس ديوانه من أمرها حزازة؛ وأرسل معه الهدايا، والتحف السنايا، وأقام العماد مقامه في ديوان الاستيفاء، فجمع بين الإشراف والاستيفاء، ومنصب الإنشاء. ثم كان من أمره ما سيأتي ذكره.
قال العماد: وخرج صلاح الدين في النصف من شوال ومعه الفيل، والحمارة العتابية، والذخائر النفيسة التي كان انتخبها من خزائن القصر، وهي معدودة من محاسن العصر، وقد سبق ذكر تسييرها إلى نور الدين، وقُوبلت بالإحسان والتحسين. ووصلت الحمارة وكثرت لها النظارة؛ وأما الفيل فإنه وصل إلينا في سنة تسع وستين ونحن بحلب في الميدان الأخضر، وأهداه نور الدين إلى ابن أخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل مع شئ من تحفة الثياب والعود والعنبر. ثم سيّره سيف الدين إلى بغداد هدية للخليفة، مع ما سيّره معه من التحف اللطيفة؛ وسير نور الدين الحمارة العتابية إلى بغداد مع هدايا، وتحف سنايا.
فصل في جهاد السلطانين للفرنج في هذه السنةقال العماد: ونزل صلاح الدين على الكرك والشوبك وغيرهما من الحصون فبرح بها، وفرق عنها عربها، وخرب عمارتها، وشنَّت على أعمالها سراياه بغاراته.
ووصل منه كتاب بالمثال الفاضلي: سبب هذه الخدمة إلى مولانا الملك العادل، أعز الله سلطانه ومد أبداً إحسانه، ومكن بالنصر إمكانه، وشيد بالتأييد مكانه، ونصر أنصاره، وأعان أعوانه. علم المملوك بما يؤثره المولى بأن يقصد الكفار بما يقص أجنحتهم ويقلل أسلحتهم، ويقطع موادهم، ويخرب بلادهم؛ وأكبر الأسباب المعينة على مايرومه من هذه المصلحة ألا يبقى في بلادهم أحدُ من العربان، وأن ينتقلوا من ذل الكفر إلى عز الإيمان. ومما اجتهد فيه غاية الاجتهاد، وعده من أعظم أسباب الجهاد ترحيل كثير من أنفارهم، والحرص في تبديل دارهم، إلى أن صار العدو اليوم إذا نهض لايجد بين يديه دليلاً، ولايستطيع حيلة، ولايهتدي سبيلا.
ثم ذكر باقي الكتاب.
قال ابن شداد: وهذه أول غزوة غزاها صلاح الدين من الديار المصرية. وإنما بدأ ببلاد الكرك والشوبك لأنها كانت أقرب إليه، وكانت في الطريق تمنع من يقصد الديار المصرية، وكان لايمكن أن تصل قافلة حتى يخرج هو بنفسه يعبرها بلاد العدو؛ فأراد توسيع الطريق وتسهيله لتتصل البلاد بعضها ببعض، وتسهل على السابلة. فخرج قاصداً لها أثناء سنة ثمان وستين، فحاصرها، وجرى بينه وبين الفرنج وقعات، وعاد عنها ولم يظفر منها بشئ في تلك الدفعة؛ وحصل ثواب القصد.
وأما نور الدين فإنه فتح مرعش في ذي القعدة من هذه السنة وأخذ بهسني في ذي الحجة منها.
وقال العماد: حضرت عند الملك العادل نور الدين بدمشق، في العشرين من صفر، ووجهه بنور الدين البشر قد سفر، والحديث يجري في طيب دمشق وحسن آلائها، ورقَّة هوائها، وبهجة بهائها، وإزهار أرضها كزهر سمائها، وكلّ منا يمدحها، وبحبه يمنحها، وكلّ منا يطريها؛ فقال نور الدين: أنا حُبّ الجهاد يسليني عنها، فما أرغب فيها. فارتجلت هذا المعنى في الحال، فقلت:
ليس في الدنيا جميعاً ... بلدةُ مثل دمشق
ويسليني عنها ... في سبيل الله عشقي
والنقي الأصل، ومن يت ... ركها يَشْقَى ويُشْقي
كم رشيقٍ شاغل عنه ... بسهم الغزو رشقي
وامتشاق البيض يغني ... عنه بالإقلام مشقي
قال: وسألني نور الدين أن أعمل دوبيتيات في معنى الجهاد على لسانه، فقلت:
للغزو نشاطي وإليه طربي ... مالي في العيش غيره من أرب
بالجد وبالجهاد نجح الطلب ... والراحة مستودعة في التعب
وقلت أيضا:
لاراحة في العيش سوى أن أغزو ... سيفي طربا إلى الطلي يهتز
في ذل ذوي الكفر يكون العز ... والقدرة في غير جهادٍ عجز
وقلت أيضا:
أقسمت سوى الجهاد مالي أرب ... والراحة في سواه عندي تعب
إلا بالجد لاينال الطلب ... والعيش بلا جدِّ جهادٍ لعب
قال: واتفق خروج كلب الروم اللعين، في جنود الشياطين، يقصد الغارة على زرَّا من ناحية حوران، وهم في جمع غلبت الخبر والعيان؛ ونزلوا في قرية تعرف بسمكين. فركب نور الدين وهو نازل بالكسوة إليهم، وأقدم بعساكره عليهم؛ فلما عرفوا وصوله رحلوا إلى الفوار ثم إلى السواد ثم نزلوا بالشلالة، ونزل نور الدين عشترا، وقد سرَّه ماجرى؛ فأنفذ سريّة إلى أعمال طبرية، واغتنم خلّوها، فأدلجت تلك الشجعان، وثبت من ثبته الإيمان، حتى عبرت السرية، وانفصلت تلك القضية. ورحل نور الدين من عشترا فنزل بظاهر زرَّا.
قال العماد: وكنت راكباً في لقائهم مع الملك العادل وهو يقول: كيف تصف ماجرى، فمدحته بقصيدة منها:
عُقدت بنصرك راية الإيمان ... وبدت لعصرك آية الإحسان
يا غالب الغُلب الملوك، وصائد الصِّ ... يد اللُّيوث، وفارس الفرسان
يا سالب التيجان من أربابها ... حُزت الفخار على ذوي التيجان
محمودُ المحمودُ مابين الورى ... في كل إقليم بكل لسان
ياواحدا في الفضل غير مُشارك ... أقسمت: مالك في البسيطة ثاني
أحلى أمانيك الجهادُ وإنهُ ... لك مؤذنُ أبداً بكل أمان
كم بكر فتح ولَّدته ظُباك من ... حرب لقمع المشركين عَوان
كم وقعةٍ لك بالفرنج، حديثها ... قد سار في الآفاق والبلدان
قمصت قومصهم رداءً من ردى ... وقرنت رأس برنسهم بسنان
وملكت رقّ مُلوكهم، وتركتهم ... بالذل في الأقياد والأسجان
وجعلت في أعناقهم أغلالهم ... وسحبتهم هُوناً على الأذقان
إذ في السوابغ تحطم السمر القنا ... والبيض تخضب بالنجيع القاني
وعلى غناء المشرفية في الطلى ... والهام رقص عوالي المّران
وكأن بين النقع لمع حديدها ... نارُ تألقُ من خلال دخان
في مأزق ورد الوريد مكفل ... فيه برىّ الصارم الظمآن
غطى العجاج به نجوم سمائه ... لتنوب عنها أنجم الخرصان
أو ما كفاهم ذاك حتى عاودوا ... طُرُق الضلال ومركب الطغيان
ومنها:
وجلْوتَ نور الدين ظلمة كفرهم ... لما أتيت بواضح البُرهان
وهزمتهم بالرأي قبل لقائهم ... والرأي قبل شجاعة الشجعان
أصبحت للإسلام رُكناً ثابتاً ... والكفر منك مضعض الأركان
قوَّضت آساس الضلال بعزمك ال ... ماضي، وشدْت مباني الإيمان
قُل أين مثلك في الملوك مجاهد ... لله في سِر وفي إعلان
لم تلقهم ثقةً بقوة شوْكةٍ ... لكن وثقت بنصرة الرحمن
مازال عزمك مستقلا بالذي ... لا يستقل بثقله الثقلان
وبلغت بالتأييد أقصى مبلغ ... ما كان في وسع ولا إمكان
دانت لك الدنيا، فقاصيها إذاحققتهلنفاذ أمركداني
فمن العراق، إلى الشآم، إلى ذرا ... مصر، إلى قوص، إلى أسوان
لم تله عن باقي البلاد، وإنما ... ألهاك فرض الغزو عن همذان
للروم والإفرنج منك مصائب ... بالترك، والأكراد، والعربان
أذعنت لله المهيمن إذ عنت ... لك أوجه الأملاك بالإذعان
أنت الذي دون الملوك وجدته ... ملآن من عرف ومن عرفان
في بأس عمرو، في بسالة حيدرٍ ... في نطق قسٍ، في تقى سلمان
سيرُ، لوان الوحي ينزل أنزلت ... في شأنها سورُ من القران
فاسلم، طويل العُمْر، ممتد المدى ... صافي الحياة، نخلد السلطان
وهي قصيدة طويلة، وصف فيها أمراءه الحاضرين الجهاد معه ومدحهم.
فصل في فتح بلاد النوبةقال العماد: وفي جمادي الأولى غزا شمس الدولة تورانشاه بن أيوب، أخو صلاح الدين، بلاد النوبة، وأراهم سُطاه الموهوبة وفتح حصناً لهم يعرف بإبريم، وآلى ألا يريم؛ وهي بلادُ عديمة الجدوى، عظيمة البلوى. ثم جمع السبْيّ وعاد به إلى أسوان، وفرّق على أصحابه في الغنائم السودان.
وقال ابن أبي طيّ الحلبي: وفي هذه السنة اجتمع السّودان والعبيد من بلاد النوبة وخرجوا في أمم عظيمة قاصدين ملك بلاد مصر، وصاروا إلى أعمال الصعيد، وصمموا على قصد أسوان وحصارها، ونهب قراها. وكان بها ألمير كنز الدولة، فأنفذ يُعلم الملك الناصر وطلب منه نجدة، فأنفذ قطعة من جيشه مع الشجاع البعلبكي. فلما وصل إلى أسوان وجد العبيد قد عادوا عنها بعد أن أخربوا أرضها؛ فأتبَّعهم الشجاع والكنز، فجرت حربُ عظيمة قُتل فيها من الفريقين عالم عظيم.
ورجع الشجاع إلى القاهرة وأخبر بفعال العبيد، وتمكنهم من بلاد الصعيد، فأنفذ الملك الناصر أخاه شمس الخلافة في عسكر كثيف، فوجدهم قد دخلوت بلاد النوبة، فسار قاصداً بلادهم وشحن مراكب كثيرة في البحر بالرجال والميرة، وأمرها بلحاقه إلى بلاد النوبة. وسار إليها ونزل على قلعة إبريم، وافتتحها بعد ثلاثة أيام، وغنم جميع ماكان فيها من المال والكُراع والميرة، وخلص جماعة من الأسرى، وأسر من وجده فيها، وهرب صاحبها.
وكتب إلى السلطان بذلك فأنشد السلطان أبو الحسن بن الذروي يهنئه بفتح إبريم قصيدة، منها:
فقدّم العَزْم فذا مُبتداه ... يقصر ملك الأرض عن منتهاه
واستحب ذيول الجيش حتى أرى ... أنجمه طالعة عن دُجاه
سواك من ألقى عصاه بها ... قناعةً لما استقرت نواه
عليك بالروم ودع صاحب ال ... باج إذا شئت وتورانشاه
فقد غدّت لإبريمُ في ملكه ... تُبرم أمراً فيه كبْتُ العداه
لابُد للنوبة من نوبة ... تُرضى لسخط الكفر دين الإله
تظل من نوبة منسوبة ... لعزمةٍ كامنة في أناه
تكسو الغزاة القاطني أرضها ... ما نسجت للحرب أيدي الغُزاه
سودُ وتحمرّ الظُّبا حولها ... كأعين الرُّمد بدت للأساه
أولا، فسُمرُ يحتميها القنا ... مثل دنان بزلتها السُّقاه
لله جيش منك لاينثني ... إلا بنصل دميت شفرتاه
ما بين عقبان ولكنها ... خيل وفرسان كمثل البزاه
آساد حرب فوق أيديهم ... أساود الطعن، فهم كالحواه
تقلّدوا الأنهار واستلأموا ال ... غُدران، فالنيران تجري مياه
قال: ثم رجع شمس الدولة إلى أسوان ثم إلى قوص، وكان في صحبته أمير يقال له إبراهيم الكردي، فطلب من شمس الدولة قلعة إبريم فأقطعه إياه وأنفذ معه جماعة من الأكراد البطالين، فلما حصلوا فيها تفرّقوا فرقا. وكانوا يشنون الغارات على بلاد النّوبة حتى برحوا بهم، واكتسبوا أموالاً كثيرة حتى عفت أرزاقهم وكثرت مواشيهم. وأتفق أنهم عدّوا إلى جزيرة من بلاد النوبة تعرف بجزيرة دندان فغرق أميرهم إبراهيم وجماعة من أصحابه ورجع من بقي منهم إلى قلعة إبريم وأخذوا جميع ماكان فيها وأخلوها بعد مقامهم بها سنتين، فعاد إليها وملكوها.
وأنفذ ملك النوبة رسولا إلى شمس الدولة وهو مقيم بقوص ومعه كتاب فيه طلب الصلح ومع الرسول هدية، عبد وجارية. فكتب له جواب كتابه وأعطاه زوجي نشاب، وقال مالك عندي جواب إلا هذا. وجهز معه رسولا يعرف بمسعود الحلبي وأوصاه أن يكشف له خبر البلاد ليدخلها؛ فسار الحلبي مع الرَّسول حتى وصل دنقله، وهي مدينة الملك. قال مسعود فوجدت بلادا ضيقة ليس لهم زرع إلا الذرة، وعندهم نخل صغار منه إدامهم. ووصف ملكهم بأوصاف منها أن قال: خرج علينا يوماً وهو عريان قد ركب فرسا عريا وقد التف في ثوب أطلس وهو أقرع ليس على رأسه شعر؛ قال فأتيت فسلمت عليه فضحك وتغاشى وأمر بي أن تكوى يدي، فكوى عليها هيئة صليب، وأمر لي بقدر خمسين رطلا من الدقيق، ثم صرفني. قال: وأما دنقلة فليس فيها عمارة إلا دار الملك فقط وباقيها أخصاص.
فصلفي وفاة نجم الدين أيوب، والد صلاح الدين، وطرف من أخباره.
قال العماد: وركب نجم الدين أيوب فشب به فرسه بالقاهرة عند باب النصر وسط المحجَّة، يوم الاثنين الثامن عشر من ذي الحجة، وحمل إلى منزله، وعاش ثمانية أيام، ثم توفي في يوم الثلاثاء السابع والعشرين من ذي الحجة.
وكان كريما رحيما، عطوفا حليما، وبابه مزدحم الوفود، وهو متلف الموجود، يبذل الجود؛ وكان ولده صلاح الدين عنه غائبا، وفي بلاد الكرك والشوبك على الغزاة مواظبا، فدفن إلى جانب قبر أخيه أسد الدين في بيت الدار السلطانية، ثم نقلا بعد سنتين إلى المدينة الشريفة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسّلام، والتحية والإكرام، والإجلال والإعظام، وعلى آله وصحبه وسلم.
قلت: وقبرهما في تربة الوزير جمال الدين الأصفهاني وزير الموصل المقدم ذكره، رحمهم الله.
وقال القاضي ابن شداد: ولما عاد صلاح الدين من غزاته بلغه قبل وصوله إلى مصر وفاة أبيه نجم الدين فشقّ ذلك عليه حيث لم يحضر وفاته. وكان سبب وفاته وقوعه من الفرس؛ وكان رحمه الله تعالى، شديد الرّكض ولعاً بلعب الكرة بحيث من رآه يلعب بها يقول مايموت إلا من وقوعه عن ظهر الفرس.
ومن كتاب فاضليّ عن السلطان إلى عز الدين فرخشاه بمصر يقول فيه: صحّ من المصاب بالمولى الدارج، غفر الله له ذنبه، وسقى بالرحمة تربه، ما عظمت به اللوعة، واشتدت الروعة، وتضاعفت لغيبتنا عن مشهده الحسرة، فاستنجدنا بالصبر فأبى وانحدرت العبرة، فياله فقيداً فقد عليه العزاء، وهانت بعده الأرزاء، وانتثر شمل البركة بفقده فهي بعد الاجتماع أجزاء.
وتخطفته يد الردى في غيبتي هبني حضرت، فكنت ماذا أصنع؟ قال ابن أبي طي الحلبي: وهو الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي، ولايُعرف في نسبه أكثر من والده شاذي. وحدثني أبي رحمه الله قال: كان تقي الدين عمر يزيد فيقول: شاذي بن مروان. قلت: وسمعت أنا من يقول شاذي بن مروان بن يعقوب.
قال ابن أبي طي: وقد أدّعى ابن سيف الإسلام لما ملك اليمن أنهم منة بني مروان ابن محمد الجعدي المعروف بالحمار، يعنى آخر خلفاء بني أمية. قال: وقد نقبت عن ذلك فأجمع الجماعة من آل أيوب أن هذا كذب، وأن جميع آل أيوب لايعرفون جدَّاً فوق شاذي. وكذلك أخبرني السلطان الملك الناصر رحمه الله.
قلت: ودليل صحة ذلك أني وقفت على كتاب وقف الرّباط النجمي بدمشق ولم يزد فيه على نجم الدين أبو سعيد أيوب بن شاذي العادلي. وابن سيف الإسلام هذا هو أبو الفداء اسماعيل، بن طغتكين بن أيوب بن شاذي، ابن أخي السلطان صلاح الدين؛ ملك اليمن بعد أبيه وتعاظم إلى أن ولي نفسه الخلافة وادعى أنه من بني أمية، وعزم على إعادة الخلافة من بني هاشم إلى بني أمية؛ وله في ذلك أشعار كثيرة؛ وتلقب بالإمام الهادي بنور الله المعز لدين الله أمير المؤمنين، ومدحه كثير من الشعراء بذلك وزينوا له فعله وما هو فيه. فمن شعره:
وإني أنا الهادي الخليفة والذي ... أدوس رقاب الغُلب بالضُّمَّر الجُرْد
ولابدّ مِنْ بغداد أطوي ربوعها ... وأنشرها نشر السماسر للبرد
وأنصب أعلامي على شرفاتها ... وأُحيي بها ماكان أسسه جدّي
ويُخطبُ لي فيها على كل منبر ... وأظهر دين الله في الغور والنّجد
ثم قال ابن أبي طيّ: وكان نجم الدين أيوب عدلا مرضيا كثير الصَّلات والصِّلات، غزير الصدقات والخيرات، يحبّ العلماء، ويميل إلى الفضلاء؛ وكان مُمَدّحا، مدحه العماد الكاتب بجملة قصائد.
قال: وكان مولد نجم الدين أيوب شبختان، كذا حكاه مؤيد الدين ابن منقذ. وحدّثني جماعة أن مولد نجم الدين كان بجبل جور، وربى في بلد الموصل. ونشأ شجاعا باسلا، وخدم السلطان محمد بن ملكشاه فرأى منه أمانة وعقلاً، وسداداً وشهامة؛ فولاّه قلعة تكريت، فقام في ولايتها أحسن قيام وضَبَطها أكرم ضبط، وأجلى من أرضها المفسدين وقطاع الطريق وأهل العيث، حتى عمرت أرضها، وحسن حال أهلها، وأمنت سبلها.
فلما ولي السلطان مسعود الملك أقطع قلعة تكريت لمجاهد الدّين بهروز الخادم شحنة بغداد ومُتولي العراق؛ وكان هذا بهروز أميراً ينفذ أمره في جميع العراق إلى الموصل إلى أصفهان، وكانت خيله خمسة الآف فارس؛ فأقر الأمير نجم الدين في ولاية تكريت، وأضاف إليه النظر في جميع الولاية المتاخمة له، وقرر أمره عند السلطان مسعود وجعل بهروز قلعة تكريت خزانة أمواله وبيت عقائله، وجعل جميع ذلك منوطا بالأمير نجم الدين ومعَعْذُوقاً بهمته.
وكان نجم الدين عظيماً في أنفس الناس بالدين والخير وحسن السياسة؛ وكان لايمر أحد من أهل العلم والدين به إلا حمل إليه المال والضيافة الجليلة، وكان لايسمع بأحد من أهل الدين في مدينة إلا أنفذ إليه.
وقد ذكر العماد الكاتب في سيرة السلجوقية الأمير نجم الدين وقرّضه وأثنى عليه، وذكر من دينه وعفته ووفور أمانته وكثرة خيره أشياء حسنة؛ وحكى قضية عمّه العزيز حين حبس عنده بقلعة تكريت من جهة الوزير الدركزيني وأمره بقتله، فأبى نجم الدين إلى أن قتله بهروز بنفسه بأمر الدركزيني.
ثم إن السلطان مسعوداً حشد وخرج في أخذ السلطنة وطمع هو وأتابك زنكي بن آق سنقر في بغداد، وجردا عسكراً ضخما وسارا إلى تكريت طامعين في بغداد، وانصل هذا الخبر بقراجه السّاقي، وهو أتابك ابن السلطان محمود، فجرد ألف فارس للقاء زنكي، ثم أ ردفهم بعسكر ضخم، فانهزم زنكي وقُتل جماعة من أصحابه ونهب جميع ماكان في عسكره، ولجأ إلى سور تكريت وبه عدة جراحات. وعلم مكانه الأمير نجم الدين وأخوه شيركوه فمتحاه إلى القلعة بحبال وداويا جراحاته، وخدماه أحسن خدمة وتقربا إليه؛ فأقام عندهما بتكريت خمسة عشر يوماً. ثم سار إلى الموصل، وأعوزه الظهر، فأعطياه جميع ماكان عندهما من الظهر حتى إنهما أعطياه جملة من البقر حمل عليها ماسلم معه من امتعته. فكان زنكي يرى لأيوب هذه اليد ويعرف له هذه الصنيعة، ويواصله بالهدايا والألطاف مدة مُقامه في تكريت. فلما انفصل نجم الدين عنها، على ما سنذكره، تلّقاه زنكي بالرحب والسعة، واحترمه احتراماً عظيماً وأقطعه عدة قطائع.
وكان نجم الدين قد ساس الناس بتكريت أحسن سياسة حتى ملك بذلك حبّات قلوبهم. وكان أخوه شيركوه معه في القلعة، وكان شجاعاً باسلا، ينزل من القلعة ويصعد إليها في أسبابه وحاجاته. وكان نجم الدين لايفارق القلعة ولاينزل منها. فاتفق أن أسد الدين نزل القلعة يوماً لبعض شأنه ثم عاد إليها، وكان بينه وبين كاتب صاحب القلعة قوارض، وكان رجلاً نصرانياً، فاتفق في ذلك اليوم أن النصراني صادف أسد الدين صاعداً إلى القلعة فعبث به بكلمة مُمضة، فجرد أسد الدين سيفه وقتل النصراني وصعد إلى القلعة، وكان مهيباً، فلم يتجاسر أحدُ على معارضته في أمر النصراني بشئ، وأُخذ النصراني برجله فألُقي من القلعة.
وبلغ بهروز صاحب قلعة تكريت ماجرى، وحضر عنده من خوفه جُرأة أسد الدين وأنه ذو عشيرة كبيرة، وأن أخاه نجم الدين قد استحوذ على قلوب الرعايا، وأنه ربما كان منهما أمرُ تخشى عاقبته ويصعب استدراكه. فكتب إلى نجم الدين يُنكر عليه ماجرى من أخيه ويأمره بتسليم القلعة إلى نائب سيّره صُحبة الكتاب؛ فأجاب نجم الدين إلى ذلك بالسمع والطاعة، وأنزل من القلعة جميع ماكان له بها من أهل ومال، واجتمع هو وأخوه أسد الدين وصمما على قصد عماد الدين زنكي بالموصل.
وقيل إن أسد الدين كان خرج إلى الموصل قبل نجم الدين.
وأعظم أهل تكريت خروج نجم الدبن من بين أظهرهم، ولم يبق أحدُ إلا خرج لتوديعه وأظهر البكاء والأسف على مفارقته.
ولما أتصل بأتابك زنكي قُدومُهما أفرحه ذلك وأمر الموكب بلقائهما وأكرمهما إكراماً عظيماً، وأقطعهما في بلد شهرزور إقطاعاً سنيّا؛ وقيل إنه أقطع أسد الدين بالمؤُزَّر.
وجرى بين أسد الدين وجمال الدين الوزير مودة عظيمة حتى حلف كل واحد منهما للآخر أنه يقوم بأمره في حياته وبعد وفاته. وتجرد جمال الدين في أمر أسد الدين وأمر أخيه نجم الدين حتى قربهما من قلب أتابك زنكي وجعلهما عنده بالمنزلة العظيمة. وخرجا معه إلى الشام وشهدا معه حروب الكفار وقتال الفرنج، لعنهم الله تعالى، وكان لأسد الدين في تلك الوقائع اليد البيضاء والفَعْلَةُ الغراء.
وحدثني أبي رحمه الله قال: حدثني سعد الدولة أبو الميامين المؤملي، وكان أحد أصحاب نجم الدين أيوب، قال: وحدثني أيضا بهذه الحكاية مجد الدين بن داية الملك الصالح قال: حدثني حسام سنقر غلام الأمير نجم الدين أبي طالب، وكان سنقر هذا يخدم مع الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي، قال: كنت في صحابة الأمير نجم الدين لما أنفذه نور الدين بن زنكي إلى ابنه السلطان الملك الناصر إلى مصر من أجل قطع خطبة المصريين وإقامة دعوى بني العباس، في أول سنة سبع وستين وخمسمائة؛ واتفق أني كنت حاضراً وقد اجتمع السلطان الملك الناصر ووالده الأمير نجم الدين في دار الوزارة وقد قعدا على طُرّاحة واحدة، والمجلس غاصُّ بأرباب الدولتين، وعند الناس من الفرح والسرور ماقد أذهل العقول. فبينا الناس كذلك إذ تقدم كاتب نصراني كان في خدمة الأمير نجم الدين فقبل الأرض بين يدي السلطان الملك الناصر ووالده نجم الدين، والتفت إلى نجم الدين وقال له: يامولاي هذا تأويل مقالتي لك بالأمس حين وُلد هذا السلطان. فضحك نجم الدين وقال: صدقت والله. ثم أخذ في حمد الله وشكره والثناء عليه، والتفت إلى الجماعة الذين حوله، من أكابر العلماء، والقضاة والأمراء، وقال: لكلام هذا أمرني صاحب قلعة تكريت بالرّحلة عنها بسبب الفعلة التي كانت من أخي أسد الدين شيركوه رحمه الله وقتله النصراني؛ وكنت قد ألفت القلعة وصارت لي كالوطن، فثُقل عليّ الخروج عنها والتحول عنها إلى غيرها، واغتممت لذلك. وفي ذلك الوقت جاءني من القلعة وأنا على طيرتي به لاأكاد أذكره ولاأسميه. وكان هذا النصراني معي كاتباً؛ فلما رأى مانزل بي من كراهية الطفل والتشاؤم به استدعى مني أن آذن له في الكلام، فأذنت له، فقال لي: يامولاي قد رأيت ماقد حدث عندك من الطيرة بهذا الصبي وأي شئ له من الذنب، وبما أستحق ذلك منك وهو لاينفع ولايضرّ ولايُغني شيئاً! وهذا الذي جرى عليك قضاء من الله تعالى سبحانه وقدر، ثم مايُدريك أن هذا الطفل يكون ملِكاً عظيم الصيت جليل المقدار. فعطفني كلامه عليه؛ وهاهو ذا قد أوقفني على ماكان قاله. فتعجبت الجماعة من هذا الاتفاق وحمد السلطان ووالده الله سبحانه وشكراه.
قلت: ولعُمارة في نجم الدين مدائح ومراثٍ. منها قوله:
ثغر الزمان بنجم الدين مبتسم ... ووجهه بدوام العز متسم
يقول فيها:
أضحى بك النّيل محجوجا ومعتمرا ... كأنما حلّ فيه الحلّ والحرم
جاءت بنوك وشمل الدين منتثر ... فقارعوا عنه، فهو اليوم منتظم
وما ادري أحدُ من قبل رؤيتهم ... أن الحظوظ بلثم الأرض تقتسم
نامت عيون الورى في دل سيرتهم ... كأن يقظتنا في عصرهم حلم
والناصر ابنك كافي كلِّ معضلة ... إذا الحوادث لم يُكشف لها غمم
أعز بالبأس والإحسان حوزتنا ... فلم يُلّم بنا خوف ولاعدم
تبسم الدّست من أيوب عن ملك ... تنحطّ عن قدره الأقدار والهمم
وقال في مرثية:
هي الصدمةُ الأولى فمن بان صبره ... على هول ملقاها تضاعف أجره
أذمُّ صباح الأربعاء، فإنه ... تبسم عن ثغر المنية فجره
أصاب الهدى في نجمه بمصيبة ... تداعى سماك الجوّ منها ونسره
فلا تعذلونا، واعذرونا، فمن بكى ... على فقد أيوبٍ فقد بان عُذره
أقام بأعمال الفرات، وخيله ... يُراع بها نيل العزيز ومصره
إلى أن رماها من أخيه بضغيم ... فرى نابه أهل الصليب وظفره
تعاقبتما مصراً تعاقب وابل ... يبيت بقطر النيل ينهلُّ قطره
وآخيته في البرّ حيّا وميتّا ... فقبرك في دار القرار وقبره
وقد شخصت أهل البقيع إليكما ... وإلا فسكان الحجون وحجره
هنيئاً لملك مات والعزّ عزه ... وقُدْرته فوق الرّجال وقدره
وأدرك من طول الحياة مراده ... وماطال إلا في رضا الله عمره
وأسعد خلق الله من مات بعدما ... رأى في بني أبنائه مايسره
شهيد تلقى ربه وهو صائم ... فكان على أجر الشهادة فطره
مضى وهو راض عنك لم ترم صدره ... لضيق، ولاجاشت من الغيظ قدره
حمى حوزة الإسلام والدين بعده ... ثمانية من أجلهم عزّ نصره
فكيف لخيس آل أيوب أسده ... لقد بان خوف الدهر منه وذعره
رعى الله نجماً تعرف الشمس أنه ... أبوها، ونور البدر منها، وزهره
وأبقى المقام الناصريّ، فإنه ... لدولتكم كنز الرّجاء وذخره
وقال أيضا:
صفو الحياة ولإن طال المدى كدر ... وحادث الموت لايبقى ولايذر
وما يزال لسان الدهر ينذرنا ... لو أثرت عندنا الآيات والنذر
فلا تقل غرت الدنيا مطامعنا ... فما مع الموت لاغشُّ ولاكدر
كأس إذا ما الردى حيا الحياة بها ... لم ينج من سكرها أنثى ولاذكر
كم شامخ العز لاقى الذل من يدها ... ما أضعف القدر إن ألوى به القَدَر
في كل جيلٍ وعصر من وقائعها ... شعواء يقطر منها الناب والظفر
أودى عليُّ وعثمان بمخلبها ... ولم يُفتْها أبو بكر ولاعُمر
ومن أراد التأسِّي في مصيبته ... فللورى برسول الله معتبر
نجمُ هوى من سماء الدين منكدرا ... والنجم من أفقه يهوى وينكدر
منظومة أنجم الجوزاء من جزع ... له، وعقد الثريا منه منتثر
وكيغ يُنسى محياه الكريم، ومن ... نُعماه في كلّ عيش صالح أثر
جددت من أسد الدين الشهيد لنا ... حُزنا، به يتساوى الصبر والصبر
قد كان للدين والدنيا بعزمكما ... ذكر يعبر عنه الصارم الذّكر
لإن فاح نشر كلام تُمدحان به ... مِسكاً فعترة أيوب هي العتر
تخفى ذبال مصابيح إذا طلعوا ... صُبحاً وتنسى مُلوك الأرض إن ذكروا
كأنما صّور الله الكمال بهم ... شخصاً، ويوسفُ منه السمع والبصر
لا شوبك منه معصوم ولا كرك ... ولا جليل ولا قدس ولا زغر
لم يرتحل قافلاً إلا وساكنها ... إما مباحُ حماه، أو دمُ هدر
مامات أيوب إلا بعد معجزة ... في المجد لو يؤتها من جنسه بشر
مضى سعيدا من الدنيا وليس له ... في رتبة أربُ باقٍ ولاوطر
وطوّل الله منه باع أربعة ... منها: النَّدى، والتقي، والملك، والعُمُر
وأشرف الملك ما امتَدَّت مسافته ... في صحة أخواها العقل والكبر
ومن سعادته أن مات لاسأم ... يشكوه منه مُعانيه ولاضجر
فصلقال العماد: وسار نور الدين قاصداً جانب الشمال لتسديد ما أختل هناك من الأحوال. فسار إلى بعلبك ومنها إلى حمص ثمّ حلب، وفعل في كلّ منها من المصالح ماوجب؛ وقصد بلاد قليج أرسلان ملك الروم ففتح مرعش في العشرين من ذي القعدة ثم فتح بهنسي، واتبع في كل منهما الطريقة الحسنى.
وكتب العماد إلى صديقٍ له بدمشق، وكان سافر عنها مع نور الدين في أطيب فصولها وهو زمن المشمش:
كتابي، فديتُك، من مرعش ... وخوف نوائبها مُرعشب
وما مرَّ في طرفها مُبصرٌ ... صحيحُ النواظر إلا غُشى
وما حلّ في أرضها آمن ... من الضيّم والضر إلا خشى
ترنحني نشوات الغرام ... كأني من كأسه منتشى
أُسِرُّ وأُعلن برح الجوى ... فقلبي يُسرُّ ودمعي يشي
بذلت لكم مهجتي رشوةً ... فحاكم حبّكم مرتشي
وكيف يلذّ الكرى مغرم ... بنار الغرام حشاه حشي
بمرعش أبقى وبلوطها ... مضاهاة جلق والمشمش
قال العماد في الخريدة: فسارت هذه القطعة ونُمى حديثها إلى نور الدين، فاستنشدنيها، فأنشدتها إياه ونحن سائرون في وادٍ كثير الأشجار مع بيتين بدهت بهما في الحال، وهما.
وبالملك العادل استأنست ... نجاحاً مُنى كل مستوحش
وما في الأنام كريمُ سواه ... فإن كنت تنكر ذا فتش
قال ابن الأثير: وفي سنة ثمان وستين سار نور الدين رحمه الله نحو ولاية الملك عز الدين قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان السلجوقي، وهي ملطية وسيواس وقونية وأقصرا، عازما على حربه وأخذ بلاده منه.
وكان سبب ذلك أن ذا النون بن دانشمند صاحب ملطية وسيواس وغيرهما من تلك البلاد قصده قليج أرسلان وأخذ بلاده وأخرجه عنها طريداً فريداً، فسار إلى نور الدين مستجيراً وملتجئاً إلى ظله، فأكرم نزله وأحسن إليه، وحمل له ما يليق أن يحمل للملوك، ووعده النصر والسعي في رد ملكه إليه. وكانت عادة نور الدين أنه لايقصد ولاية أحد من المسلمين إلا ضرورة، إما ليستعين بها على قتال الفرنج أو للخوف عليها منهم، كما فعل بدمشق ومصر وغيرهما. فلما قصده ذو النون راسل قليج أرسلان وشفع إليه في إعادة ما غلبه عليه من بلاده فلم يجبه إلى ذلك، فسار نور الدين نحوه فابتدأ بكيسون وبهنسي ومرعش ومرزبان فملكها وما بينها من الحصون، وسيّر طائفة من عسكره إلى سيواس فملكوها.
وكان قليج أرسلان لما بلغه قصد نور الدين بلاده قد سار من اطرافها التي تلي الشام إلى وسطها خوفاً وفرقاً، وراسل نور الدين يستعطفه ويسأله الصلح والصفح عنه؛ فتوقف نور الدين عن قصده رجاء أن ينصلح الأمر بغير حرب، فأتاه من الفرنج ما أزعجه فأجابه إلى الصلح.
وكان في جملة رسالة نور الدين إليه: " إنني أريد منك أموراً وقواعد ومهما تركت منها فلا أترك ثلاثة أشياء: أحدها أن تجدد إسلامك على يد رسولي حتّى يحلّ لي إقرارك على بلاد الإسلام، فإني لاأعتقدك مؤمناً - وكان قليج أرسلان يتهم باعتقاد مذاهب الفلاسفة - والثاني إذا طلبت عسكرك للغزاة تسيره فإنك قد ملكت طرفا كبيرا من بلاد الإسلام وتركت الروم وجهادهم وهادنتهم، فإما أن تكون تُنجدني بعسكرك لأقاتل بهم الفرنج وإما أن تجاهد من يجاورك من الروم وتبذل الوسع والجهد في جهادهم.والثالث أن تزوّج ابنتك لسيف الدين غازي ولد أخي " . وذكر أموراً غيرها.
فلما سمع قليج أرسلان الرسالة قال: ماقصد نور الدين إلا الشناعة علىّ بالزندقة، وقد أجبته إلى ماطلب، أنا أجددّ إسلامي على يد رسوله. واستقر الصلح وعاد نور الدين وترك عسكره في سيواس مع فخر الدين عبد المسيح في خدمة ذي النون، فبقي العسكر بها إلى أن مات نور الدين رحمه الله تعالى، فرحل العسكر عنها وعاد قليج أرسلان وملكها.
قال العماد: وفي هذه السنة وصل الفقيه الإمام الكبير قطب الدين النيسابوري، وهو فقيه عصره ونسيج وحده، فسر نور الدين به وأنزله بحلب بمدرسة باب العراق، ثم أطلعه إلى دمشق، فدرس بزاوية الجامع الغربية المعروفة بالشيخ نصر المقدسي رحمه الله، ونزل بمدرسة الجاروق. وشرع نور الدين في إنشاء مدرسة كبيرة للشافعية لفضله، وأدركه الأجل دون إدراك عملها لأجله.
قلت: هي المدرسة العادلية الآن التي بناها بعده الملك العادل أبو بكر بن أيوب أخو صلاح الدين وفيها تربته، وقد رأيت أنا ما كان بناه نور الدين ومن بعده منها وهو موضع المسجد والمحراب الآن. ثم لمّا بناها الملك العادل أزال تلك العمارة وبناها هذا البناء المتقن المحكم الذي لانظير له في بنيان المدارس، وهي المأوى وبها المثوى، وفيها قدر الله تعالى جمع الكتاب فلا أقفر ذلك المنزل ولا أقوى.
وبقي قطب الدين إلى أن توفي في الأيام الناصرية في سنة ثمان وسبعين. وقد وقف كتبه على طلبة العلم، ونقلت بعد بناء هذه المدرسة إليها، فما فاتها ثمرته إذ فاتها مباشرته رحمه الله تعالى.
قال العماد: وكان وفد في سنة أربع وستين شيخ الشيوخ عماد الدين أبو الفتوح محمد بن علي بن محمد بن حمويه، فأقبل عليه نور الدين وأمرني بإنشاء منشور له بمشيخة الصوفية، ورغبه في المقام بالإحسان إليه بالشام. ومن جملة ما أتحفه به عمامة بأعمدة ذهبية أنفذها صلاح الدين من مصر، فبذل فيها ألف دينار بزنة ذهبها فلميجب من سامها إلى طلبها.
قلت وقد سبق ذكر هذه العمامة في أخبار نور الدين أول الكتاب من كلام ابن الأثير، وابن المعكى إياه وهو الشيخ تاج الدين عبد الله، رحمهم الله تعالى.
ثم ذكر العماد نسخة المنشور وفيه: " فلينظر في رباط السميساطي وقبة الطواويس ورباط الطاحونة وغيرها من ربط الصوفية بدمشق المعمورة وبعلبك " .
ثم ذكر العماد أنه في آخر شعبان من هذه السنة قبل الرحيل من دمشق كان أهدى إلى صديقه الفاضل الأديب علم الدين الحسن بن سعيد الشاتاني قطائف وكتب إليه:
ماراقدات في صحون ... مستوطنات في سكون
يجلين أمثال العرا ... ئس بين أبكار وعون
أو كالعقائل في الخدو ... ر قد اعتقلن على ديون
هن اللذيذات اللوا ... ئذ بالسهول من الحزون
أو كالتمائم للصحا ... ف، وما نسبن إلى جنون
السّكريات الغري ... قات الغلائل والشئون
صرعى ومادارت لها ... يوما رحى الحرب الزبون
لُفّفن في أكفانهن ... على المنى لا المنون
يحيين بالتغريق بل ... يسمن في ضيق السجون
المستطابات الظهو ... ر المستلذات البطون
نضدن بالترصيع في ال ... جامات كالدرّ المصون
المستقيمات الصفو ... ف وقفن كالخيل الصَّفون
وقد اشتملن من اللطا ... ئف والصفات على فنون
اسمع حديثي في انبسا ... طي فالحديث أخو شجون
وهي أكثر من هذا.
فصل
قال العماد: قد سبق ذكر مليح بن لاون مقدم بلاد الأرمن والتجائه إلى نور الدين وتطاوله بقوته على الروم والأرمن. وكانت الدروب: أذنه، والمصيصة، وسيواس، يحميها كلب الروم ويضبطها بجنده، حتى استولى عليها مليح بن لاون فكسرهم وقتل وأسر، وساق لنور الدين من مقدمي الروم ثلاثين أسيرا. فأرسل نور الدين القاضي كمال الدين الشهرزوري بالأسرى والهدايا إلى الخليفة المستضئ بأمر الله ومعه كتاب يشرح هذه الكسرة وما فتح من البلاد ويقول فيه: " وقسطنطينية والقدس يجريام إلى أمد الفتوح في مضمار المنافسة، وكلاهما في وحشة ليل الظلام المدلهم على انتظار صباح المؤانسة، والله تعالى بكرمه يدني قطاف الفتحين لأهل الإسلام، ويوفق الخادم لحيازة مراضى الأمام " .
وفي آخره: " ومن جملة حسنات هذه الأيام الزاهرة ما تسنى في هذه النَّوبة، من افتتاح بعض بلاد النوبة والوصول إلى مواضع منها لم تطرقها سنابك الخيل الإسلامية في العصور الخالية. وكذلك استولت عساكر مصر أيضا على برقة وحصونها، وتحكموا في محكم معاقلها ومصونها، حتى بلغوا إلى حدود المغرب، فظفروا من السُّؤال بعنقاء مغرب " .
قلت: كان اتفق في هذه السنة وصول قراقوش غلام تقي الدين من الديار المصرية مع طائفة من الترك وانضم إليهم جماعة من العرب فاستولى على طرابلس وكثير من بلاد إفريقية ماخلا المهدية وسفاقي وقفصة وتونس.
وفي آخر ذلك الكتاب: " ونسأل الله التوفيق لاستدناء قواصي المنى، وإقصاء عبدة الصلي الأنجاس من المسجد الأقصى، وأن يجعل فتح البيت امقدس مفتتح مراده، ومقتدح زناده، ومقترحه في جهاده، وأن يملكه الساحل بجميع بلاده " .
وسير العماد معه قصيدة منها:
بالمستضئ أبي محمد الحسن ... رجعت أمور المسلمين إلى السنن
في أرض مصر دعا له خطباؤها ... وأتت لتخطب بكر خطبته عدن
فالمغرب الأقصى بذلك مشرق ... وبنصر مصر محقق يمن اليمن
ورأى الإله المستضئ لشرعه ... وعباده نعم الأمين المؤتمن
سر النبوة كامن فيه ومن ... فطر الإمامة مشرق نور الفطن
تقوى أبي بكر، ومن عمر الهدى ... وحياءُ عثمان، وعلم أبي الحسن
وبجده عرفت مقالة حيدر ... لامن ددٍ أنا، ولامنى الددن
كم من عدو ميت في جلده ... رعبا وخوفا، فهو حي في كفن
ومنها في مدح نور الدين رحمه الله:
هل مثل محمود بن زنكي مخلص ... متوحدُ يبغي رضاك بكل فن
ورعٌ لدى المحراب أروع محرب ... في حالتيه إن أقام وإن ظعن
يمسي ويصبح في الجهاد، وغيره ... يضحى رضيع سلافة وضجيع دَنّ
وبعزة الإسلام منتصراً حرٍ ... وبذلة الإشراك منتقماً قمن
قال ابن أبي طي وفيها وصل شهاب الدين بن أبي عصرون من بغداد ومعه توقيع لنور الدين بدرب هارون وصريفين وخمسين دينارا من دنانير النثار التي نثرت يوم دخل الشهاب إلى بغداد بالبشارة بالخطبة في مصر، وزن كل دينار عشرة دنانير.
قال العماد: وكانت ناحيتا درب هارون وصريفين من أعمال العراق لزنكي والد نور الدين قديما من إنعام أمير المؤمنين، فسأل نور ادين إحياء ذلك الرسم في حقه، فأنعم بهما الخليفة عليه ووجه بهما مثالُه الشريف إليه. وكان من مراده أن يستوهب ببغداد على شاطئ دجلة أرضا يبنيها مدرسة للشافعية ويقف عليها الناحيتين طلبا للأجر، والذكر الباقي على ممر الدهر، فقيل له ما ثمَّ موضع يصلح لهذا لإلا دار التمر، فعاقه أمر القدر عن قدرته على الأمر.
ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائةونور الدين قد فتح من حصون الرّوم مرعش وغيرها، ومليح بن لاون متملك الأرمن في خدمته. ووصل إلى خدمته أيضا ضياء الدين مسعود بن قفجاق صاحب ملطية؛ وكان في خدمته أيضا الأمراء من المجِدْل، فسرّحهم بالعطاء الأجزل، والسمت الأجمل؛ وأظهر أنه ينزل على قلعة الروم على الغزاة، فتقبله مستخلف الأرض بالبراة، وحمل خمسين ألف دينار، على سبيل الجزية مصانعة وصغار؛ وعاد إلى حلب وقد نجح في كل ما طلب.
وأراد أن يسرع إلى دمشق فالتأثت سريرته لالتياث سريَّته، وحظى بمرض القلب لمرض جسم حظيته، وجرت شكايته جاريته، فتصدق عنها بألوف، والتزم لله في شفائها بنذور ووقوف؛ ثم سيرها في محفة، تحمل على أيدي الرجال في خفة؛ وسارت على الطريق المهيع مع العسكر، يحملها من الخدم والخواص المعشر بعد المعشر؛ فما تُقرِّب إليه بمثل حملها والمشي معها، وتقدم بحق لازم من بخدمته شيعا. وتأخر نور الدين جريدة مع عدة من مماليكه وأمرائه المماحضين في ولايته، وتقدم إلىّ أن أسايره في طريقه وأحاوره، وأحاضره في منازله وأسامره.
وسرنا على طريق قبة ملاعب والمشهد وسلمية، فجاءه الخبر أن الفرنج قد أغارت على حوران، فثنى إلى الجهاد العنان؛ وسمع الفرنج فتفرقوا، وقلقوا بعد ما كانوا أقلقوا؛ ودخلنا دمشق.
قلت: وفي جمادي الأولى أبطل نور الدين رحمه الله فريضة الأتبان، ورأيت منشوره بذلك، وعلامته عليه بخطه الحمد لله؛ يقول فيه: وبعد فإن من سنتنا العادلة، وسير أيامنا الزاهرة، وعوائد دولتنا القاهرة، إشاعة المعروف وإغاثة الملهوف، وإنصاف المظلوم، وإعفاء رسم ما سنه الظالمون من جائرات الرسوم. وما نزال نجدد للرعية رسما ممن الإحسان يرتعون في رياضه، ويرتوون من حياضه، ونستقرْئ أعمال بلادنا المحروسة، ونصفيها من الشبه والشوائب، ونلحق ما يعثر عليه من بواقي رسومها الضائرة بما أسقطناه من المكوس والضرائب، تقربا إلى الله تعالى الكافل لنا بسبوغ المواهب وبلوغ المطالب. وقد أطلقنا جميع ما جرت العادة بأخذه من فريضه الأتبان المقسطة على أعمال دمشق المحروسة، وضياع الغوطة، والمرج، وجبل سَنيِر، وقصر حجاج، والشاغور، والعقيبة، ومزارعها الجارية في الأملاك، وجميع ما يقسط بعد المقاسمة من الأتبان على الضياع الخواص والمقطعة بسائر الأعمال المذكورة، وفرّنا على أربابه، طلباً لمرضاة الله وعظيم أجره وثوابه، وهربا من انتقامه وأليم عقابه. وسبيل النّواب إطلاق ذلك على الدوام، وتعفيه آثاره، والاستعفاء من أوزاره، والاحتراز من التدنس بأوضاره، وإبطال رسمه من الدواوين، لاستقبال سنة تسع وستين، وما بعدها على تعاقب الأيام والسنين.
فصل في فتح اليمنقال العماد: وفي رجب توجه تورانشاه، أكبر إخوة صلاح الدين، إلى اليمن فملكها. وكان يحثه على المسير إليها عُمارة اليمني شاعر القصر، وكان كثير المدح لتورانشاه فتجهزّ وسار إلى مكة ثم إلى زبيد فملكها وقبض على الخارجي بها، وأهلكه نائبه سيف الدين مبارك بن منقذ. ومضى إلى عدن فأخذها واستناب فيها عز الدين عثمان الزنجيلي، وفتح حصن تعزّ وغيره من القلاع، ففتح إقليما ومنح ملكا عظيما، وافترع بكرا وأُشيع ذكرا.
وقال ابن شداد: ولما كان سنة تسع وستين رأى صلاح الدين قوة عسكره وكثرة عدد إخوته وقوّة بأسهم. وكان بلغه أن باليمن إنساناً استولى عليها وملك حصونها، وهو يخطب لنفسه، يسمى عبد النّبي بن مهدي، ويزعم أنه ينتشر ملكه إلى الأرض كلها، واستتب أمره؛ فرأى أن يسير إليها أخاه الأكبر الملك المعظم تورانشاه، وكان كريما أريحيا حسن الأخلاق؛ سمعت منه، يعنى من صلاح الدين رحمه الله، الثناء على كرمه ومحاسن أخلاقه، وترجيحه إياه على نفسه؛ فمضى إليها وفتح الله على يديه، وقتل الخارجي الذي كان بها.
قلت: وكان أخو هذا الخارجي قد خرج باليمن قبله. ذكر عمارة اليمني في أول كتابه في وزارة مصر في أثناء كلام له قال: وكان جماعة من أماثل الناس مثل بركات المقرئ وعلي بن محمد النيلي والفقيه أبي الحسن علي بن مهدي القائم الذي قام باليمن وأزال دولة أهل زبيد وغيرهم قد سبقوني، يعني إلى صاحب عدن، فذكر كلاماً يتعلق به.
وقال العماد في الخريدة: علي بن مهدي ملك اليمن في زماننا هذا، وسفك الدماء وسبى المسلمين، وأقبل على شرب الخمر، وادّعى الملك والإمامة ودعا إلى نفسه؛ وكان يحدث نفسه بالمسير إلى مكة، فمات سنة ستين، وتولى بعده أخوه؛ وله شعر حسن يدل على عُلّو همته.
قال ابن أبي طيّ: كان سبب خروج شمس الدين إلى اليمن أنه كان كريماً جوادا، وكان إقطاعه بمصر لايقوم بفتوته، ولاينهض بمروّته؛ وكان قد انتظم في سلكه عُمارة الشاعر، وكان من أهل اليمن، وكان ورد إلى مصر ومدح أصحابها ونفق عليهم، فلما زالت دولتهم انضوى إلى شمس الدولة ومدحه. وكان إذا خلا به يصف له بلاد اليمن، وكثرة أموالها وخيرها، وضعف من فيها، وأنها قريبة المأخذ لمن طلبها.
قلت: فمن جملة شعره في ذلك قوله في القصيدة التي أولها:
العلم مذ كان محتاج إلى العلم ... وشفرة السيف تستغني عن القلم
كم تترك البيض في الأجفان ظامئة ... إلى الموارد في الأعناق والقمم
أمامك الفتح من شام ومن يمن ... فلا تردّ رؤس الخيل باللجم
فعمُّك الملك المنصور سوّمها ... من الفرات إلى مصر بلا سأم
فاخلق لنفسك ملكا لاتضاف به ... إلى سواك، وأوْرِ النار في العلم
هذا ابن تومرت قد كانت بدايته ... كما يقول الورى، لحماً على وضم
وقد ترّقى إلى أن أمسكت يده ... من الكواكب بالأنفاس والكظم
حاسب ضميرك عن راآ أتاك وقل ... نصيحة وردت من غير متهّم
وله من أخرى:
أفاتح أرض النِّيل، وهي عظيمة ... على كلّ راجٍ فتحها ومؤمل
متى توقد النار التي أنت قادح ... بغمدان مشبوبا سناها بمندل
وتفتح ما بين الحصين وأبين ... وصنعاء من حصنٍ حصين ومعقل
وتملك من مخلاف طرف وجعفر ... نقيضين من حَزْن خصيب ومُسهل
وتخلق ملكا لاتُحيل بفخره ... على أحد إلا على عزمك العلي
وله من قصيدة أخرى:
قالوا: إلأى اليمن الميمون رحلته ... فقُلت مادونه شئ سوى السفر
سيْرٌ يَسُرُّ بني الدنيا، وطيب ثناً ... وطول عمر، كذا يحكى عن الخضر
لاتوقَدنَّ لها النار التي خمدت ... خفض عليك تنل ما شئت بالشرر
المال ملء يدٍ، والقوم ملكُ يدٍ ... وأطيل، وهذا جملة الخبر
قال ابن أبي طيّ: ووافق ذلك أنه كاتبه رجل من أهل اليمن شريف يقال له هاشم ابن غانم وأطمعه في المعاونة لأن صاحب اليمن عبد النبي كان قد تعدى على هذا الشريف هاشم؛ فأعلم شمس الدولة أصحابه بعزمه على اليمن فأجابوه، فتجهز، ثم دخل على أخيه السلطان واستأذنه في دخول اليمن، فأذن له، وأطلق له مُغَلّ قوص سنة، وزوده فوق ماكان في نفسه، وأصحبه جماعة من الأمراء ومقدار ألف فارس خارجا عمّن سيره من حلقته. وسار في البر والبحر، في البر العساكر وفي البحر الأسطول يحمل الأزواد والعدد والآلات. فوصل إلى مكة، شرفها الله تعالى، فدخلها زائراً، ثم خرج متوجهاً منها إلى اليمن؛ فوصل زبيد في أوائل شوال، فنزل عليها، ولقيه الشريف هاشم بن غانم الحسني وجميع الأشراف بنو سليمان في جمع جم وعدد كثير، فهجم زبيد وتسلمها، واحتوى على مافيها، وقبض على صاحب اليمن عبد النبيّ أخي علي بن مهدي.
ثم رحل إلى عدن وفي صحبته ابن مهدي ففتحها عنوة وولاها عز الدين الزنجيلي. ثم سار إلى المخلاف وتسَّلم الحصون التي كانت في يد ابن مهدي، كتعز وغيرها؛ وسار إلى صنعاء بعد فتح مدينة الجند وغيرها، فأحرقت صنعاء، فدخلها شمس الدولة فلم يجد بها إلا شيخا وامرأة عجوزا؛ فأقام بها ثمانية أيام، ثم لم يستطع المقام لقلة الميرة، فرجع إلى زبيد فوجد ابن منقذ قد قتل عبد النبي بن مهدي. وكان شمس الدولة قد استناب بزبيد الأمير سيف الدولة المبارك ابن منقذ وأمره بحمله؛ فلما بُعد شمس الدولة خاف ابن منقذ من فساد أمره فرأى المصلحة في قتله، فقتله ابن منقذ بزبيد؛ فلما بلغ شمس الدولة قتله استصوبه.
ولما حصل شمس الدولة في زبيد أنفذ إليه صاحب طمار وصالحه هو وباقي الملوك على أداء المال. ثم تتبع تلك الحصون والقلاع فاحتوى عليها جميعها، وكتب بذلك إلى أخيه الملك الناصر، فأرسل إلى نور الدين بخبره بما أفاض الله عليه من الإحسان، وخوّله من ملك البلدان. فأرسل نور الدين مهذب الدين أبا الحسن عليّ بن عيسى النقاش بالبشارة بذلك إلى بغداد.
فصل
ذكر العماد ههنا الأمير مجد الدين سيف الدولة المبارك بن كامل بن منقذ المستناب بزبيد ووصفه بأنه من الكفاة الكرماء، والدّهاة ذوى الآراء. وهو فاضل من أهل بيت فضل كتب العماد من شعره:
لما نزلت الدّير قلت لصاحبي ... قم فاخطب الصهباء من شماسه
فأتى وفي يمناه كأس خلتها ... مقبوسةً في الليل من نبراسه
وكأن لذة طعمها من ريقه ... وأريجها الفيّاح من أنفاسه
لم أنس ليلة شربها بغنائه ... إذ بات يجلوها على جُلاّسه
إذ قام يسقينا المدام، وكلما ... عابثته ردَّ الجواب براسه
قلت: ومدحه أبو الحسن بن الذروي المصري بقصيدة غراء ذالية ما أظن أنه نظم على قافية الذال أرق منها لفظاً وأدق معنى. أوّلها:
لك الخير، عرّج بي على ربعهم، فذى ... ربوع يفوح المسك من عرفها الشذى
يقول فيها:
مَبَارِكُ عِيسِ الوفد بابُ مباركٍ ... وهل منقذ القُصاد غيرُ ابن منقذ
قال العماد: ثم سير نور الدين إلى بغداد بشارة بأمرين، أحدها فتح اليمن، والآخر كسر الرّوم مرة ثانية ومقدمهم الدوقس كلمان، وكان قديما أسيرا عند نور الدين من نوبة حارم، وفداه بخمسة وخمسين ألف دينار وخمسمائة وخمسين ثوبا أطلسا، وسيّر معه أسرى من الروم؛ وذلك في شعبان هذه السنة.
ومما تضمنه كتاب البشارة: ولم ينج من عشرة آلاف غير عشرة حمر مستنفرة، فرت من قسورة.
وقبِل ذلك بشهرين سيّرت قصيدة للعماد في جمادى الآخرة على لسان نور الدين إلى بغداد، أوّلها:
أطاع دمعي وصبري في الغرام عَصَي ... والقلب جرّع من كأس الهوى غصصا
وإن صفو حياتي ما يكدره ... إلا اشتياقي إلى أحبابي الخلصا
ما أطيب العيش بالأحباب لو وصلوا ... وأسعد القلب من بلواه لو خلصا
ومنها: من ذا الذي سار سيري في ولائكم غداة قال العدا: لاسير عند عصا
قد نال عبدك محمودٌ بها ظفرا ... مازال يرقبهُ من قبل مرتبصا
مِنْ خوف سطوته أن العدوّ إذا ... أم الثغور على أعقابه نكصا
قال العماد: وكلّف نور الدين في هذه السنة بإفادة الألطاف، والزيادة في الأوقاف، وتكثير الصدقات، وتوفير النفقات، وكسوة النسوة الأيامى في أيامها، وإغناء فقراء الرّعية وإنجادها بعد أعدامها، وصون الأيتام والأرامل ببذله، وعوْن الضعفاء وتقوية المقوين بعدله.
ثم ذكر ما قدمناه ذكره في أول الكتاب من مناقب نور الدين وأفعاله الكريمة.
قال العماد: وفي يوم الاثنين رابع شهر رمضان ركب نور الدين على العادة، وجلسنا نحن في ديوانه، حافلين في إيوانه، لبسط عدله وإحسانه، وتنفيذ أوامر سلطانه. فجاءني من أخبرني أن نور الدين نزل إلى المدرسة التي أتولاها، وبسط سجادته في قبلتها لسُنة الضحى وصلاّها؛ فقمت في الحال، ومضيت على الاستعجال، فلقيته في الدهليز خارجا، في أجر العبادة ناجحا ولنهج العادة ناهجا؛ فلما رآني توقف، ولقولي تشوف فقلت له: إن الموضع قد تشرف؛ أما ترى أنه من أيام الزلزلة قد تشعث؟ فلما رأى حاله تلبث، وقال: نعيده إلى العمارة، ونكسوه حلل النضارة. ثم حملت له وجوه سكر، وشيئا من ثياب وطيب وعنبر، وكتبت معها هذه الأبيات:
عند سليمان على قدره ... هدية النملة مقبوله
ويصغر المملوك عن نملة ... عندك، والرحمة مأموله
رقِّي لمولانا، وملكي له ... وذمتي بالشكر مشغوله
وكيف يقضي الحق ذومنةُ ... ضعيفة بالعجز معلوله!
وإنما شيمة مولى الورى ... طاهرة بالخير مجبولة
قال: وكان رأي قبلة المدرسة غير مُفصصة، وبالترخيم والتذهيب والتهذيب غير مخصصه؛ فأنفذ لي لعمارتها فصوصا مذهبة وذهبا. ثم حم مقدور حمامه، وعاق القدر عن إتمامه؛ ودفعت إلى الموصل فرأيته في المنام، وهو يجاريني في الكلام، ويقول ما يعود إلى المدرسة معناه، وقال الصلاة الصلاة؛ فعرفت أنه أشار إلى المحراب، وأنه الآن على هيئة الخراب؛ فكتبت إلى الفقيه الذي كان عنده الذهب أن يشرع في عمارته؛ ودخلت دمشق يوم فراغ الصانع منه.
فصل
قال ابن أبي طيّ: وفي هذه السنة وصل رسول نور الدين الموفق بن القيسراني إلى الديار المصرية، وأجتمع بالسلطان الملك الناصر، وأنهى إليه رسالة نور الدين، وطالبه بحساب جميع ما حصله وارتفع إليه من ارتفاع البلاد. فصعب ذلك على السلطان وأراد شق العصا لولا ما ثاب إليه من السكينة. ثم أمر بعمل الحساب، وعرضه على ابن القيسراني، وأراه جرائد الأجناد بمبالغ إقطاعهم وتعيين جامكياتهم ورواتب نفقاتهم. فلما حصل عنده جميع ذلك أرسل معه هدية إلى نور الدين على يد الفقيه عيسى.
قال: ووقفت على برنامج شرحها بخط الموفق بن القيسراني وهي خمس ختمات؛ إحداها ختمة ثلاثون جزءاً مغشاة بأطلس أَزرق، مضببة بصفائح ذهب، وعليها أقفال ذهب، مكتوبة بذهب، بخط يانس؛ وختمة بخط راشد مغشاة بديباج فُسْتُقى عشرة أجزاء؛ وختمة بخط ابن البواب، مجلد واحد بقفل ذهب؛ وختمة بخط مهلهل، جزء واحد؛ وختمة بخط الحاكم البغدادي؛ ثلاثة أحجار بلخش، حجر وزنه اثنان وعشرون مثقالا، وحجر وزنه اثنا عشر مثقالا، وحجر وزنه عشرة مثاقيل ونصف؛ ست قصبات زمرد، قصبة وزنها ثلاثة عشر مثقالا وثلث وربع، وقصبة وزنها ثلاثة مثاقيل، وقصبة وزنها مثقالان ونصف، وقصبة وزنها مثقالان وربع وسدس، وقصبة وزنها مثقالان وثلث؛ وحجر ياقوت وزنه سبعة مثاقيل؛ وحجر أزرق وزنه ستة مثاقيل وسدس؛ مائة عقد جوهر مختومة وزنها جميعها ثمانمائة وسبعة وخمسون مثقالا؛ خمسون قارورة دهن بلسان؛ عشرون قطعة بلور؛ أربع عشرة قطعة جزع، وذكر تفصيلها؛ إبريق يشم، طشت يشم سقرق ميناء وذهب؛ صحون صيني وزبادي وسكارج؛ أربعون قطعة عود طيب قطعتين كبار؛ كرتان وزن إحداهما ثلاثون رطلا بالمصري والأخرى واحد وعشرون رطلا؛ مائة ثوب أطلس؛ أربعة وعشرون بقيارا مذهبة؛ أربعة وعشرون ثوبا حريري؛ أربعة وعشرون ثوبا من الوشي حريرية بيض؛ حلة فلفي مذهبة؛ حلة مرايش صفراء مذهبة. وذكر غير ذلك أنواعا من القماش قيمتها مائتان وخمسة وعشرون ألف دينار مصرية، وعدّة من الخيل والغلمان والجواري، وشيئاً كثيراً من السلاح على اختلاف ضروبه.
قال: وخرجوا بهذه الهدية فلم تصل إلى نور الدين لأنهم أتصل بهم وفاته، فمنها ما أعيد ومنها ما استهلك، لأن الفقيه عيسى وابن القيسراني وضعا عليها من نهبها واستَّبَدا بأكثرها. وقيل إنها جميعا إلى السلطان لأنه اتصل به خبلا موت نور الدين فأنفذ من ردّها.
قال: وحدثني من شاهد هذه الهدية أنه كان معها عشرة صناديق مالاً لم يعلم مقداره.
وقال العماد: ولما وصل إلى صلاح الدين رسول نور الدين، وهو الموفق خالد، أطلعه على كل ماهو فيه وأحصى له الطريف والتالد، وقال هؤلاء الأجناد فاعرضهم وأثبت أخبارهم، وما يضبط مثل هذا الإقليم إلا بالمال العظيم؛ ثم أنت تعرف أكابر الدولة وعظماءها، وأنهم اعتادوا من السّعة والدّعة على نعمائها، وقد تصرفوا في مواضع لايمكن انتزاعها، ولايسمحون بأن ينقضي ارتفاعها؛ فالموارد مشفوهة، والشدائد مكروهة، والمقاصد بردعها مجبوهة، والهمم بها مشدوهة. وشرع في جمع مال يسيره ويحمله، بجهد يبذله، وبخطر يحتمله؛ وحصل لخالد منه مالم يكن في خلده، وجاء مطرف غناه أضعاف متلْده.
فصل في صلب عمارة الشاعر اليمني وأصحابهقال العماد: واجتمع جماعة من دعاة الدّولة المصرية المتعصبة المتصعبة، المتشددة المتصلبة، وتوازروا وتزاوروا فيما بينهم خيفة وخفية، واعتقدوا أمنية، عادت بالعقبى عليهم منية، وعينوا الخليفة والوزير، وأحكموا الرأي والتدبير، وبيّتوا أمرهم بليل، وستروا عليه بذيل؛ وكان عمارة اليمني الشاعر عقيدهم، ودعا للدعوة قريبهم وبعيدهم.
وكانوا قد أودعوا سرّهم عند من أذاعه، واستحفظوا من أضاعه، وأدخلوا عدّة من أنصار الدولة الناصرية في جملتهم، وعرفوهم بجهلتهم.
وكان الفقيه الواعظ زين الدين علي بن نجا يُناجيهم فيما زين لهم من سوء أعمالهم، ويداخلهم في عزم خروجهم مطلعا على أحوالهم؛ وتقاسموا الدّور والأملاك، وكادت آمالهم تدنو من الإدراك. فجاء زين الدين الواعظ وأطلع صلاح الدين على فسادهم، وما سوّلوه من مراد مرادهم، وطلب ما لابن كامل الداعي من العقار والدور، وكلّ ماله من الموجود والمذخور؛ فبذل له السلطان كل ما طلبه، وأمره بمخالطتهم ورغبه.
ثم أمر السلطان بإحضار مقدميهم، واعتقالهم لإقامة السياسة فيهم، وصلب يوم السبت ثاني شهر رمضان جماعة منهم بين القصرين، منهم عمارة، وأفنى بعد ذلك من بقي منهم، ومات بموتهم الخبر عنهم.
وكان منهم داعي الدعاة ابن عبد القوي، وكان عارفاً بخبايا القصر وكنوزه، فباد ولم يسمح بإبدائها، وبقيت تلك الخزائن مدفونة، وتلك الدفائن مخزونة، قد دفن دافنها، وخزن تحت الثرى خازنها، إلى أن يأذن الله في الوصول إليها، والاطلاع عليها؛ وجمع من أموال هؤلاء ما يحمل إلى الشام، للاستعانة به على حماية ثغور الإسلام.
قال ابن أبي طيّ: وفي هذه السنة اجتمع جماعة من دعاة المصريين والعوام وتآمروا فيما بينهم خفية، وبكوا على أنقراض دولة المصريين وما صاروا إليه من الذل والفقر، ثم أجمعوا آراءهم على أن يقيموا خليفة ووزيراً، وتجمعوا هم وجماعة عينوهم من الأمراء وغيرهم. وقرّروا أن يكاتبوا الفرنج، وأن يثبوا بالملك الناصر. وأدخلوا معهم في هذا الأمر ابن مصال، وأعدوا جماعة من شيعة المصريين ليلة عينوها، وكاتبوا الفرنج بذلك، وقرروا معهم الوصول إليهم في ذلك الزمان المقرر. فخانهم ابن مصال فيما عاهدهم عليه، ونكث في اليمين وكفّر عنها، وصار إلى الملك الناصر وعرفه بجلية ماجرى.
فأحضرهم واحدا واحدا وقررهم على هذه الحالة، فأقروا واعترفوا، واعتذروا بكونهم قطعت أرزاقهم، وأخذت أموالهم. فأحضر السلطان العلماء واستفتاهم في أمرهم، فأفتوه بقتلهم وصلبهم ونفيهم، فأمر بصلبهم.
وقيل إن الذي أذاع سرّهم زيد الدين على الواعظ، وطلب جميع مالابن الداعي من العقار والمال، فأعطاه جميع ذلك.
وكان الذين صلبوا منهم المفضل بن كامل القاضي، وابن عبد القوي الداعي، والعوريس وكان قد تولى ديوان النظر ثم القضاء بعد ذلك، وشبرما كاتب السر، وعبد الصمد القشة أحد أمراء المصريين، ونجاح الحمامي، ورجل منجم نصراني أرمني كان قال لهم إن أمرهم يتم بطريق علم النجوم، وعُمارة اليمني الشاعر.
قلت: وبلغني أنّ عُمارة إنما كان تحريضه لشمس الدولة على المسير إلى اليمن ليتم هذا الأمر، لأن فيه تقليلا لعسكر صلاح الدين وإبعاداً لأخيه وناصريه عنه.
قال العماد في الخريدة: ووقعت أتفاقات عجيبة من جملتها أنه نسب إليه بيت من قصيدة ذكروا أنه له، يعني في القصيدة التي حرض فيها شمس الدولة على المسير إلى اليمن أولها:
العلم مذ كان محتاج إلى العلم
وقد تقدم ذكرها؛ وأما البيت فهو هذا:
قد كان أول هذا الدين من رجل ... سعى إلى أن دعوه سيّد الأمم
قال العماد: ويجوز أن يكون هذا البيت معمولاً عليه، فأفتى فقهاء مصر بقتله، وحرضوا السلطان على المثلة بمثله.
قال: ولعمارة في مصلوب بمصر يقال له طرخان وكان خرج على الصالح بن رزيك فظفر به الصالح وصلبه، وكان يستحسن أبيات عُمارة فيه، وهي:
أراد عُلو مرتبة وقدر ... فأصبح فوق جذع وهو عالي
ومُد على صليب الجذع منه ... يمين لاتطول على الشمال
ونكس رأسه لعتاب قلب ... دعاه إلى الغواية والضلال
قال العماد: فكأنه وصف حاله وما آل إليه أمره.
وقال في البرق: ووصل من صلاح الدين يوم وفاة نور الدين إلى دمشق كتاب يتضمن هذه القضية وهو بخط ابن قريش، يعني المرتضى.
وقال بن أبي طيّ: وقد كتب القاضي الفاضل إلى نور الدين كتاباً شرح فيه قضية المصلَّبين، فقال بعد مطلع الكتاب: " قصر هذه الخدمة على متجددٍ سار للإسلام وأهله، وبشارة مؤذنة بظهور وعد الله في إظهاره على الدين كله، بعد أن كانت لها مقدمات عظيمة إلا أنها أسفرت عن النُّجح، وأوائل كالليلة البهيمة إلا أنها انفرجت عن الصبح؛ فلإسلام ببركاته البادية وفتكاته الماضية قد عاد مستوطنا بعد أن كان غريبا، وضرب في البلاد بجرانه بعد أن كان الكفر يتم عليه تخيلا عجيبا؛ إلا أنّ الله سبحانه أطلع على أمرها من أوله، وأظهر على سرها من مستقبله؛ والمملوك يأخذ في ذكر الخبر ويعرض عن ذكر الأثر " . =================
ج4.=================ج4.
================================================
كتاب : الروضتين في أخبار النورية و الصلاحية
المؤلف : أبو شامة المقدسي
ولم يزل يتُوسم من جند مصر ومن أهل القصر بعد ما أزال الله من بدعتهم، ونقض من عُرى دولتهم، وخفض من مرفوع كلمتهم، أنهم أعداء وإن تعدت بهم الأيام، وأضداد وإن وقعت عليهم كلمة الإسلام. وكان لايحتقر منهم حقيرا ولا يستبعد منهم شرا كبيرا، وعيونه لمقاصدهم موكلة، وخطراته في التحرز منهم مستعملة، لاتخلو سنة تمر، ولاشهر يكرّ، من مكر يجتمعون عليه، وفساد يتسرعون إليه، وحيلة يبرمونها، ومكيدة يتمممونها. وكان أكثر ما يتعللون به ويستريحون إليه المكاتبات المتوارترة، والمراسلات المتقاطرة، إلى الفرنج خذلهم الله تعالى، التي يوسعون لهم فيها سبل المطامع، ويحملونهم فيها على العظائم والفظائع، ويزينون لهم الإقدام والقدوم، ويخلعون فيها ربقة الإسلام خلع المرتد المخصوم؛ ويد الفرنج بحمد الله قصيرة عن إجابتهم، إلا أنهم لايقطعون حبل طمعهم على عادتهم. وكان ملك الفرنج كلما سوّلت له نفسه الاستتار في مراسلتهم، والتحيل في مفاوضتهم، سير جرج كاتبه رسولا إلينا ظاهراً وإليهم باطناً، عارضا علينا الجميل الذي ما قبلته قط أنفسنا، وعاقداً معهم القبيح الذي يشمل عليه في وقته علمنا. ولأهل القصر والمصريين في أثناء هذه المدد رسل تتردد، وكتب إلى الفرنج تتجدد.
ثم قال والمولى عالم أن عادة أوليائه المستفادة من أدبه ألا يبسطوا عقاباً مؤلما، ولا يعذبوا عذابا محكما؛ وإذا طال لهم الاعتقال، ولم ينجع السؤال، أطلق سراحهم، وخلى سبيلهم، فلا يزيدهم العفو إلا ضراوة، ولا الرقة عليهم إلا قساوة. وعند وصول جرج في هذه الدفعة الأخيرة رسولا إلينا بزعمه، ورد إلينا كتاب ممن لانرتاب به من قومه، يذكرون أنه رسول مخاتلة، لارسول مجاملة، وحامل بليّة، لاحامل هدية؛ فأوهمناه الإغفال عن التيقظ لكل ما يصدر منه وإليه، فتوصل مرة بالخروج ليلاً، ومرة بالركوب إلى الكنيسة وغيرها نهارا، إلى الاجتماع بحاشية القصر وخدامه، وبأمراء المصريين وأسبابهم، وجماعة من النصارى واليهود وكلابهم وكتابهم. فدسسنا إليهم من طائفتهم من داخلهم، فصار ينقل إلينا أخبارهم، ويرفع إلينا أحوالهم. ولما تكاثرت الأقوال، وكاد يشتهر علمنا بهذه الأحوال، استخرنا الله تعالى وقبضنا على جماعة مفسدة، وطائفة من هذا الجنس متمردة، قد اشتملت على الاعتقادات المارقة، والسرائر المنافقة، فكلاًّ أخذ الله بذنبه، فمنهم من أقر طائعاً عند إحضاره، ومنهم من أقر بعد ضربه، فانكشفت أمور أخر مكتومة، ونوب غير التي كانت عندنا معلومة، وتقريرات مختلفة في المراد، متفقة في الفساد.
ثم ذكر تفصيلا حاصله أنهم عينوا خليفة ووزيرا مختلفين في ذلك، فمنهم من طلب إقامة رجل كبير السن من بني عم العاضد، ومنهم من جعل ذلك لبعض أولاد العاضد وإن كان صغيرا؛ واختلف هؤلاء في تعيين واحد من ولدين له. وأما بنو رزيك وأهل شاور فكل منهم أراد الوزارة لبيتهم من غير أن يكون لهم غرض في تعيين الخليفة.
ثم قال: وكانوا فيما تقدم، والملوك على الكرك والشوبك بالعسكر، قد كاتبوهم وقالوا لهم إنه بعيد والفرصة قد أمكنت، فإذا وصل الملك الفرنجي إلى صدر أو إلى أيلة ثارت حاشية القصر وكافة الجند وطائفة السودان وجموع الأرمن وعامة الاسماعيلية وفتكت بأهلنا وأصحابنا بالقاهرة.
ثم قال: ولما وصل جرج كتبوا إلى الملك الفرنجي أن العساكر متباعدة في نواحي إقطاعهم، وعلى قرب من موسم غلاتهم، وأنه لم يبق في القاهرة إلا بعضهم وإذا بعثت أسطولا إلى الثغور أنهض فلانا من عنده وبقي في البلد وحده، ففعلنا ما تقدم ذكره من الثورة.
ثم قال: وفي اثناء هذه المدة كاتبوا سنانا صاحب الحشيشية بأن الدعوة واحدة والكلمة جامعة، وأن مابين أهلها خلاف إلا فيما لايفترق به كلمة، ولايجب به قعود عن نصرة؛ واستدعوا منه من يُتمم على المملوك غيلة، أو يبيت له مكيدة وحيلة، وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيْطٌ وكان الرسول إليهم عن المصريين خال ابن قرجلة المقيم الآن هو وابن أخته عند الفرنج.
ولما صح الخبر وكان حكم الله أولى ماأخذ به، وأدب الله فيمن خرج عن أدبه، وتناصرت من أهل العلم والتقوى، وتوالت من أهل المشورة بسبب تأخير القتل فيهم المراجعات والشكاوى، قتل الله بسيف الشرع المطهر جماعة من الغواة الغلاة، الدعاة إلى النار، الحاملين لأثقالهم وأثقال من أضلوه من الفجّار؛ وشنقوا على باب قصورهم، وصلبوا على الجذوع المواجهة لدورهم؛ ووقع التتبع لأتباعهم، وشردت طائفة الاسماعيلية ونفوا، ونودى بأن يرحل كافة الأجناد وحاشية القصر وراجل السودان إلى أقصى بلاد الصعيد. فأما من في القصر فقد وقعت الحوطة عليهم إلى أن ينكشف وجه رأي يمضى فيهم، من تطيب النفس بتقليده، وتمضي الحدود بتحديده. ورأى المملوك إخراجهم من القصر فإنهم مهما بقوا بقيت مادة لا تنحسر الأطماع عنها، فإنه حبالة للضلال منصوبة، وبيعة للبدع محجوبة. قال المؤلف لعلها محجوبة.
ومما يطرف به المولى أن ثغر الإسكندرية على عموم مذهب السنة فيه، أطلع البحث أن فيه داعية خبيثا أمره، محتقرا شخصه، عظيما كفره، يسمى قديد القفاص، وأن المذكور مع خموله في الديار المصرية، قد فشت في الشام دعوته، وطبقت عقول أهل مصر فتنته، وأن أرباب المعايش فيه يحملون إليه جزءاً من كسبهم، والنسوان يبعثن إليه شطرا وافيا من أموالهن؛ ووجدت في منزلته بالإسكندرية عند القبض له، والهجوم عليه، كُتب مجررة فيها خلع العذار، وصريح الكفر الذي ماعنه اعتذار، ورقاع يخاطب بها فيها ما تقشعر منه الجلود وكان يدعى النسب إلى أهل القصر، وأنه خرج منه صغيرا ونشأ على الضلالة كبيرا. وبالجملة فقد كفى الإسلام أمره، وحاق به مكره، وصرعه كفره.
قلت: وفي قضية عُمارة هذه يقول العلاّمة تاج الدين الكندي رحمه الله تعالى، ونقلته من خطه:
عُمارة في الإسلام أبدى جناية ... وبايع فيها بيعة وصليبا
وأمسى شريك الشرك في بُغض أحمد ... فأصبح في حب الصليب صليبا
وكان خبيث الملتقى إن عجمته ... تجد منه عوداً في النفاق صليبا
سيلقى غدا ماكان يسعى لأجله ... ويسقى صديدا في لظى وصليبا
قلت الصليب الأول النصارى والثاني بمعنى مصلوب والثالث من الصلابة والرابع ودك العظام، وقيل هو الصديد أي يسفى ما يسيل من أهل النار نعوذ بالله منها.
وكان عُمارة مستشعراً من الغز وهم أيضاً منه، لأنه كان من أتباع الدولة المصرية وممن انتفع بها واختل أمره بعدها، فلم تصف القلوب بعضها لبعض، وصار يظهر في فلتات لسانه، في نظمه ونثره، مايقتضي التحرز منه وإبعاده، وهو يرى ذلك منهم فيزداد فساداً في نيته، وإن مدحهم تكلف ذلك، وصرّح وعرّض فيه بما في ضميره.
وقد قال في كتاب الوزراء المصرية: ذكر الله أيامهم بحمد لايكلّ نشاطه، ولايطوى بساطه، فقد وجدت فقدهم، وهنت بعدهم.
وقال من قصيدة مدح بها نجم الدين أيوب:
وكان لي في ملوك النيل قبلكمُ ... مكانة عرفتها العرب والعجم
وكان بيني وبين القوم ملحمة ... في حربها ألسُن الأديان تختصم
وماتزال إلى داري عوارفهم ... يسعى إلىّ بها الإنعام والكرم
تركت قصدك لماّ قيل إنك لا ... تجود إلا على من مسه العدم
ولست بالرجل المجهول موضعه ... ولا لنزز من الإحسان أغتنم
ولا إلى صدقات المال أطابها ... ولا عميً نال أعضائي ولاصمم
وإنما أنا ضيف للملوك، ولى ... دون الضيوف لسان ناطق وفم
وقال من قصيدة مدح بها صلاح الدين رحمه الله:
قرّرت لي أبناء رزيك زرقا ... كان في عصرهم مسنيًّ مهنا
وأتت بعدهم ملوك فسّنوا ... فيّ ماكان صالحُ القوم سنّا
ورعوني، إما اقتداء بماض ... أو لمعنىً، فكلهم بي يُعنى
وله فيه من أخرى:
فقد صارت الدنيا إليكم بأسرها ... فلا تشبعوا منها ونحن جياع
إذا لم تزيدونا فكونوا كمن مضى ... ففي الناس أخبار لهم وسماع
وليس على مُرَّ العظام إقامة ... فهل في ضروع المكرمات رضاع
وقال في قصيدة مدح بها تقيّ الدين:
هل تأذنون لمن أراد عتابكم ... أم ليس في أعتابكم من مطمع
ضيعتّم من حق ضيفكم الذي ... مازال قبل اليوم غير مضيع
وتغافل السلطان عنيّ حين لم ... أكشف قناع مذلة وتضرّع
ورجوت نفعك بالشفاعة عنده ... فسمحت لي بشفاعة لم تنفع
وإذا نطاق الرزق ضاق مجاله ... أمسى مجال النطق غير موسع
وقال أيضا:
تيممت مصراً أطلب الجاه والغنى ... فنلتها في ظل عيش ممنع
وزرت ملوك النيل أرتاد ميلهم ... فأحمد مرتادي وأخصب مربعي
وفزت بألف من عطية فائز ... مواهبه للصنُع لا التصنيع
وجاد ابن رزيك من الجاه والغنى ... بما زاد عن مرمى رجائي ومطمعي
وأوحى إلى سمعي ودائع شعره ... فخيرته منى بأكرم مودع
وليست أيادي شاور بذميمة ... ولاعهدها عندي بعهد مضيع
ملوكٌ رَعَوا لي حرمة صار نبتها ... هشيما رعته النائبات وما رعى
مذاهبهم في الجود مذهب سنّة ... وإن خالفوني باعتقاد التشيع
فقل لصلاح الدين، والعدل شأنه ... من الحاكم المصغى إلىّ فأدعى
أقمت لكم ضيفاً ثلاثة أشهر ... أقول لصدري كلما ضاق؛ وسع
وكم في ضيوف الباب ممن لسانه ... إذا قطعوه لايقوم بأصبعي
فيا راعي الإسلام، كيف تركتنا ... فريقي ضياع من عرايا وجوع
دعوناك من قرب وبعدٍ، فهب لنا ... جوابك، فالباري يجيب إذ دعى
وقال أيضا:
أسفى على زمن الإمام العاضد ... أسف العقيم على فراق الواحد
جالست من وزرائه وصحبت من ... أمرائه أهل الثناء الخالد
لهفي على حجرات قصرك إذ خلت ... يابن النبيّ من ازدحام الوافد
وعلى انفرادك من عساكرك الذي ... كانوا كأمواج الخضم الراكد
قلّدت مؤتمن الخلافة أمرهم ... فكبا وقصر عن صلاح الفاسد
فعسى الليالي أن تردّ إليكم ... ماعودتكم من جميل عوائد
وقال أيضاً:
قست رأفة الدنيا، فلا الدهر عاطف ... عليّ، ولا عبد الرحيم رحيم
عفا الله عن آرائه كل فترة ... كلام العدا فيها عليّ كلوم
وسامحه في قطع رزق بفضله ... وصلت إليه، والزمان ذميم
ألا هل له عطف عليّ، فإنني ... فقير إلى مت اعتدت منه عديم
عبد الرحيم هو القاضي الفاضل رحمه الله.
وبلغني أن عمارة لما مروا به ليُصلب به على جهة دار الفاضل، فطلب الاجتماع به، فقيل ليس إليه طريق. فقال:
عبد الرحيم قد احتجب ... إن الخلاص هو العجب
قال: وهذه القصيدة تحقق ما رُمى به من الاجتماع على مكاتبة الفرنج والخوض في فساد الدولة بل الملة، وتوضح عذر السلطان في قتله وقتل من شاركه في ذلك، وهي:
رميت يادهر كف المجد بالشلل ... وجيده بعد حلى الحسن بالعطل
سعيت في منهج الرأي العثور، فإن ... قدرت من عثرات البغي فاستقل
جدعت نارنك الأقنى، فأنفك لا ... ينفك مابين نقص الشين والخجل
هدمت قاعدة المعروف عن عجل ... سُقيت مُهْلاً، أما تمشى على مَهَل!
لهفي ولهف بني الآمال قاطبة ... على فجيعتنا في أكرم الدول
قدمت مصر فأولتني خلائفها ... من المكارم ما أربي على الأمل
قوم عرفت بهم كسب الألوف، ومن ... كما لها أنها جاءت ولم أسل
وكنت من وزراء الدّست حيث سما ... رأس الحصان بهاديه على الكفل
ونلت من عظماء الجيش تكرمة ... وخلّة حرست من عارض الخلل
ياعاذلي في هوى أبناء فاطمة ... لك الملامة إن قصَّرت في عذلي
بالله زُر ساحة القصرين، وابك معي ... عليهما، لا على صفين والجمل
وقل لأهلهما: والله مالتحمت ... فيكم قروحي، ولاجُرحى بمندمل
ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة ... في نسل آل أمير المؤمنين علي
هل كان في الأمر شئ غير قسمة ما ... مُلِّكتم بين حكم السبّي والنفل
وقد حصلتم عليها واسم جدكم ... محمد، وأبيكم، غير منتقل
مررت بالقصر والأركان خالية ... من الوفود وكانت قبلة القبل
فملت عنها بوجهي خوف منتقد ... من الأعادي، ووجه الودّ لم يمل
أسبلت من أسف دمعي غداة خلت ... رحابكم وغدت مهجورة السبل
أبكي على مأثراتٍ من مكارمكم ... حال الزمان عليها وهي لم تحل
دار الضيافة كانت أنس وافدكم ... واليوم أوحش من رسم ومن طلل
وفطرة الصوم إن أصغت مكارمكم ... تشكو من الدهر حيفا غير محتمل
وكسوة الناس في الفصلين قد درست ... ورث منها جديد عنهم وبلي
وموسم كان في كسر الخليج لكم ... يأتي تجمّلكم فيه على الجمل
وأول العام والعيدان كان لكم ... فيهن من وبل جود ليس بالوشل
والأرض تهتز في عيد الغدير لما ... يهتز مابين القصرين من الأسل
والخيل تعرض من وشيٍ ومن شية ... مثل العرائس في حلي ةفي حلل
ولاحملتم قرى الإضياف من سعة ال ... أطباق إلا على الأعناق والعجل
وما خصصتم ببرٍ أهل ملتكم ... حتى عممتم به الأقصى من الملل
كانت رواتبكم للذمتين وللض ... يف المقيم وللطاري من الرسل
وللجوامع من أحباسكم نعم ... لمن تصّدر في علم وفي عمل
وربما عادت الدنيا لمعقلها ... منكم، وأضحت بكم محلولة العقل
وقال العماد في الخريدة: أبو القاسم هبة الله بن عبد الله بن كامل كان داعي الدعاة بمصر للأدعياء، وقاضي القضاة لأولئك الأشقياء، يلقبونه بفخر الأمناء، وهو عندهم في المحلة العليا والمرتبة الشماء، والمنزلة التي في السماء، حتى انكدرت نجومهم، وتغيرت رسومهم، وأقيم قاعدهم، وعضد عاضدهم، وأخليت منهم مصرهم، وأجلى عنهم قصرهم؛ فحرّك ابن كامل ناقص الذب عنهم، والشدّ منهم، فمالأ قوما على البيعة لبعض أولاد العاضد، ليبلغوا به ما تخيلوه من المقاصد، وسوّلوه من المكايد؛ فأثمرت بجثثهم الجذوع، وأقفرت من جسومهم الرّبوع، وأحكمت في حلومهم النسوع، وهذا أوّل من ضمه حبل الصلب، وأمه فافرة الصلب؛ وهذا صنع الله فيمن ألحد، وكفر النعمة وجحد؛ وذلك غرة رمضان سنة تسع وستين وخمسمائة. سمعت الملك الناصر صلاح الدين يذكره، وقد ذكروه عنده بالفضل والأدب، ونسبوا إليه هذين البيتين في غلام رفاء، وأنشدهما الملك الناصر وذكر أنه كان ينكرهما:
يارافيا خرق كلّ ثوب ... ويارشاً حُبّه اعتقادي
عسى بكف الوصال ترفو ... مامزق الهجر من فؤادي
فصل في التعريف بحال عمارة ونسبه وشعرهقال العماد: وقد أوردت شعر عمارة بن أبي الحسن اليمني في كتاب خريدة القصر وجريدة العصر، ونقلت إلى هذا الكتاب، يعني كتاب البرق الشامي، لمعاً من ذلك. فمن ذلك ما أنشدنيه نجم الدين أبو محمد بن مصال:
لو أن قلبي يوم كاظمة معي ... لملكته وكظت غيظ الأدمع
قال العماد: إنما أنشدني فيض الأدمع فرأيت غيظ الأدمع أليق بالكظم.
قلب كفاك من الصبابة أنه ... لبى نداء الظاعنين ومادعى
ومن الظنون الفاسدات توهميّ ... بعد اليقين بقاءه في أضلعي
ما القلب أوّل غادر فألومه ... هي شيمة الأيام، مُذْ خلقت، معي
قال: وأنشدني لعمارة أيضا:
ملك إذا قابلت بشر جبينه ... فارقته والبشر فوق جبيني
وإذا لثمت يمينه وخرجت من ... أبوابه لثم الملوك يميني
قال: وأنشدني له عضد الدين أبو الفوارس موهف بن أسامة بن منقذ يقول:
لي في هوى الرشأ العذري أعدار ... لم يبق لي مذ أقر الدمع إنكار
لي في القدود، وفي لثم الخدود، وفي ... ضم النهدو، لبانات وأوطار
هذا اختياري فوافق إن رضيت به ... أولا، فدعني وما أهوى وأختار
لمُنى جزافا وسامحني مصارفة ... فالناس في درجات الحب أطوار
وخلِّ عذلي، ففي داري ودائري ... من المها دُرَّة قلبي لها دار
قلت ويُروى:
وغُرَّ غيري ففي أسرى ودائرتي
والأبيات العينية من قصيدة في مدح تقيّ الدين، والنونية في مدح نجم الدين أيوب، والرائية في مدح شمس الدولة بن أيوب.
وكان عمارة هذا عربيا فقيهاً أديباً، وله كتاب صغير ذكر فيه أخباره وأحواله باليمن ثم بمصر، فذكر أنه أقام بزبيد ثلاث سنين يقرأ عليه مذهب الشافعي رضي الله عنه. قال: ولى في الفرائض مصنف يقرأ باليمن.
وفي سنة تسع وثلاثين زارني والدي، وخمسة من إخوتي، في زبيد، فأنشدته شيئا من شعري فاستحسنه، ثم قال تعلَّم والله أن الأدب نعمة من نعم الله عليك فلا تكفرها بذم الناس؛ واستحلفني ألا أهجو مسلماً ببيت شعر، فحلفت له على ذلك، ولطف الله بي فلم أهج أحدا ماعدا إنساناً هجاني بحضرة الملك الصالح، يعمي ابن رزيك، ببيتي شعر فأقسم الصالح عليّ أن أجيبه ففعلت متأولا قول الله عز وجل: (وَلَمَن انْتَصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئِكَ مَاعَلَيْهِم مِنْ سَبيِل)، وقوله تعالى: (فَمَن اعتَدى عَلَيْكُم فاعْتَدوا عَلَيْه بِمِثِل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم). قال ولم يكن شئ غير هذا.
وحججت مع الملكة أم فاتك ملك زبيد، وكانت تقوم لأمير الحرمين بجميع ما يتناوله من حاجّ اليمن برا وبحرا، وبجميع خفارات الطريق، فذكر أنه حصل له وجاهة عندها فانتفع بها حتى أثرى وكثر ماله وجاهه. ثم طرأت أمورٌ اقتضت أن هرب من اليمن وحج سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
قال: وفي موسم هذه السنة توفي أمير الحرمين هاشم بن فليتة، وولى الحرمين ولده قاسم بن هاشم، فألزمني السّفارة عنه والرسالة منه إلى الدولة المصرية، فقدمتها في شهر ربيع الأول سنة خمسين، والخليفة بها يومئذ الفائز بن الظافر، والوزير له الملك الصالح طلائع ابن رزّيك. فلما حضرت للسلام عليهما في قاعة الذهب من قصر الخليفة أنشدتهما:
الحمد للعيس بعد العزم والهمم ... حمدا يقوم بما أولت من النعم
لا أجحد الحق، عندي للركاب يد ... تمنت اللجم فيها رتبة الخطم
قرّبن بعد مزار العز من نظري ... حتى رأيت إمام العصر من أمم
ورُحن من كعبة البطحاء والحرم ... وفداً إلى كعبة المعروف والكرم
فهل دري البيت أني بعد زورته ... ماسرت من حرم إلا إلى حرم
حيث الخلافة مضروب سرادقها ... بين انقيضين من عفو ومن نقم
وللإمامة أنوارٌ مقدسة ... تجلو البغيضين من ظلم ومن ظُلَم
وللنبوّة آيات تضئ لنا ... على الخفيين من حكم ومن حكم
وللمكارم أعلام تعلما ... مدح الجزيلين من بأس ومن كرم
وللعلا ألْسُنٌ تثنى محامدها ... على الحميدين من فعل ةمن شيم
وراية الشرف البذاخ ترفعها ... يد الرفيعين من مجد ومن همم
أقسمت بالفئز المعصوم معتقدا ... فوز النجاة وأجر البّر في القسم
لقد حمى الدِّين والدّنيا وأهلهما ... وزيره الصالح الفراج للغمم
اللاّبس الفخر لم تنسج غلائله ... إلا يد الصنعتين السيف والقلم
وُجُوده أوجد الأيام مااقترحت ... وَجُوده أعدم الشاكين للعدم
قد ملكته العوالي رقّ مملكة ... تعير أنف الثريا عزّة الشمم
أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني ... في يقظتي أنها من جملة الحُلم
يوم من العمر لم يخطر على أمل ... ولاترقت إليه رغبة الهمم
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ... عقود مدح فما أرضى لكم كلمي
ترى الوزارة فيه وهي باذلة ... عند الخلافة نصحا غير متهم
عواطف أعلمتنا أن بينهما ... قرابة من جميل الرأي لا الرحم
خليفة ووزير مدّ عَدْلُهما ... ظلاًّ على مفرق الإسلام والأمم
زيادة النيل نقص عند فيضهما ... فما عسى يتعاطى منة الديم
قال: وعهدي بالصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مرارا، والأستاذون والأمراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كل مذهب. ثم أفيضت عليّ خلع من ثياب الخلافة مذهبة، ودفع إليّ الصالح خمسمائة دينار؛ وإذا بعض الأستاذين قد خرج لي من عند السيدة بنت الإمام الحافظ بخمسمائة دينار أخرى، وحمل المال معي إلى منزلي وأُطلق لي من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد قبلي، وتهادتني أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم، واستحضرني الصالح للمجالسة، ونظمني في سلك أهل المؤانسة، وانثالت عليّ صلاته، وغمرني برّه.
ووجدت بحضرته من أعيان أهل الأدب الشيخ أبا المعالي بن الحباب، والموفق أبا الحجاج يوسف بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء، وأبا الفتح محمود بن قادوس، والمهذب أبا محمد بن الزبير، وغيرهم. وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانية، والرياسة الإنسانية، بأوفر نصيب. ومازلت أحذو على طرائقهم حتى نظموني في سلك فرائدهم. وقلت:
لياليّ بالفسطاط من شاطئ مصر ... سقى عهدك الماضي عهاد من القطر
ليالٍ هي العمر اسعيد، وكلّ ما ... مضى في سواها لايعدّ من العمر
أفادتني الأقدار فيها مواياً ... صفت بهم الأيام من كدر الغدر
تواصوا على ألا تردّ إرادتي ... ولو سمتهم نثر الكواكب في حجري
وله في الصالح من قصيدة:
ولو لم يكن أدري بما جهل الورى ... من الفضل لم تنفق لديه الفضائل
لئن كان منا قاب قوسٍ فبيننا ... فراسخ من إجلاله ومراحل
قال وأنشدت الصالح وهو بالقبو من دار الوزارة قصيدة منها:
دعُوا كل برق شممتم غير بارق ... يلوح على الفسطاط صادق بشره
وزروا المقام الصالحيَّ فكل من ... على الأرض ينسى ذكره عند ذكره
ولا تجعلوا مقصودكم طلب الغنى ... فتجنوا على مجد المقام وفخره
ولكن سلوا منه العلا تظفروا بها ... فكل امرئ يرجى على قدر قدره
قال: ولما جلس شاور في دار الذهب قام الشعراء والخطباء ولفيف الناس إلا الأقل ينالون من بني رزيك وضرغام نائب الباب ويحيى بن الخياط الأسفهسلار، فأنشدته:
صحّت بدولتك الأيام من سقم ... وزال ما يشتكيه الدهر من ألم
ومنها:
زالت ليالي بني رزيك وانصرمت ... والحمد والذم فيها غير منصرم
كأن صالحهم يوما وعاد لهم ... في صدر ذا الدست لم يقعد ولم يقم
كنا نظن، وبعض الظن مأثمة ... بأن ذلك جمع غير منهزم
فمذ وقعت وقوع النسر خانهم ... من كان مجتمعا من ذلك الرّخم
ولم يكونوا عدوَّا ذل جانبه ... وإنما غرقوا في سيلك العرم
وما قصدت بتعظيمي عداك سوى ... تعظيم شأنك، فاعذرني ةلاتلم
ولو شكرت لياليهم محافظة ... لعهدها لم يكن بالعهد من قدم
ولو فتحت فمي يوماً بذمهم ... لم يرض فضلك إلا أن يسدّ فمي
والله يأمر بالإحسان عارفة ... منه، وينهى عن الفحشاء في الكلم
قال: فشكرني شاور وأبناؤه على الوفاء لبني رزيك.
قلت: وشعر عمارة كثير حسن، وعندي من قوله: الحمد للعيس، وإن كانت القصيدة فائقة، نفرة عظيمة، فإنه أقام ذلك مقام قولنا الحمد لله؛ ولا ينبغي أن يفعل ذلك مع غير الله تعالى عزّ وجل، فله الحمد وله الشكر، فهذا اللفظ كالمتعين لجهة الربوبية المقدسة، وعلى ذلك اطرد استعمال السلف والخلف رضي الله عنهم.
فصل في وفاة نور الدين رحمه الله تعالىقال العماد: وأمر نور الدين رحمه الله تعالى بتطهير ولده الملك الصالح اسماعيل يوم عيد الفطر، واحتفلنا لهذا الأمر وغلقت محال دمشق أياما.
قال: ونظمت للهناء بالعيد والطهور قصيدة منها:
عيدان: فطر وطهر ... فتح قريب ونصر
كلاهما لك فيه ... حقا هناء وأجر
وفيهما بالتهاني ... رسم لنا مستمر
طهارة طاب منها ... أصل وفرع وذكر
نجل على الطهر نامٍ ... زكا له منك نجر
محمود الملك العا ... دل الكريم الأغر
وبابنه الملك الصا ... لح العيون تقر
مولى به اشتد للدي ... ن والشريعة أزر
نور تجلى عيانا ... مادونه اليوم ستر
أضحت مساعيك غرا ... كما أياديك غزر
وكل قصدك رشد ... وكل فعلك بر
وإن حبك دين ... وإن بغضك كفر
لنا بيمناك يمن ... كما بيسراك يسر
وللموالين نفع ... وللمُعادين ضر
وللسماء سحاب ... وسحب كفيك عشر
وناديك بالرفد رحب ... نداك للوفد بحر
للبحر مدّ وجزر ... وما لجودك جزر
عدل عميم وجود ... غمر ويسر وبشر
وفي العطية حلو ... وفي الحمية مر
قد استوى منك تقوى ال ... له سرّ وجهر
تقاك والملك عند ... القياس عقد ونحر
ياأعظم الناس قدرا ... وهل لغيرك قدر!
وساهر حين ناموا ... وقائما حين قروا
مااعتدت إلا وفاء ... وعادة القوم غدر
وفعلك الدهر غزو ... للمشركين وقهر
وفعل غيرك ظلم ... للمسلمين وقسر
يفتر من كل ثغر ... إلى ابتسامك ثغر
روم به وفرنج ... في شفعهم لك وتر
حرب عوان وفتح ... على مرادك بكر
بنو الأصافر من خشي ... ية انتقامك صفر
لم يبق للكفر ظفر ... لاكان للكفر ظفر
ومادجى ليل خطب ... إلا وعزمك فجر
أصبحت بالغزو صبا ... وعنه مالك صبر
لكسر كل يتيم ... إسعاف برك جبر
في كل قلب حسود ... من حر بأسك جمر
تملَّ تطهير مَلْكَ ... له الملوك تخر
يزهى سرير وتاج ... به ودست وصدر
وكيف يعمل للطا ... هر المطهر طهر
هذا الطهور ظهور ... على الزمان وأمر
وذا الختان ختام ... بمسكه طاب نشر
رزقت عمرا طويلا ... ماطال للدهر عمر
قال: وفي يوم العيد يوم الأحد ركب نور الدين على الرسم المعتاد، محفوفا من الله بالإسعاد، مكنونا من السماء والأرض بالأجناد، والقدر يقول له هذا آخر الأعياد. ووقف في الميدان الأخضر الشمالي لطعن الحلق، ورمى القبق، وكان قد ضرب خيمته في الميدان القبلي الأخضر، وأمر بوضع المنبر؛ وخطب له القاضي شمس الدين محمد بن الفراش قاضي العسكر، بعد أن صلى به وذكّر، وعاد إلى القلعة، طالع البهجة بهيج الطلعة وأنهب سماطه العام على رسم الأتراك، وأكابر الأملاك. ثم حضرنا على خوانه الخاص، وله عقد كمال مصون من الانتقاض والانتقاص؛ وما أوضح بشره، وأضوع نشره، وأضحك سنه، وأيرك يمنه.
وفي يوم الأثنين ثاني العيد بكر وركب وجمل الموكب، وكأن الفلك بنيره جار، والطود الثابت يمرّ مرّ السحاب في وقار؛ وكأنه القمر في هالته، والقدر في جلالته، والبدر في دائرته، سائرين سيارته؛ ودخل الميدان والعظماء يسايرونه، والفهماء يحاورونه، وفيهم همام الدين مودود، وهو في الأكابر معدود، وكان قديما في أول دولته والى حلب، وقد جرب الدهر بحنكته ولأشطره حلب، فقال لنور الدين في كلامه، عظة لمن يغتر بأيامه، هل نكون ههنا في مثل اليوم في العام القابل؟ فقال نور الدين قل هل نكون بعد شهر، فإن السنة بعيدة! فجرى على منطقهما ماجرى به القضاء السابق، فإن نور الدين لم يصل إلى الشهر والهمام لم يصل إلى العام.
ثم شرع نور الدين في اللعب بالكرة مع خواصه البررة، فاعترضه في حاله أمير آخر اسمه برتقش وقال له باش، فأحدث له الغيظ والاستيحاش، واغتاظ على خلاف مذهبه الكريم، وخلقه الحليم، فزجره وزبره، ونهاه ونهره، وساق ودخل القلعة ونزل، واحتجب واعتزل؛ فبقي أسبوعا في منزله، مشغولا بنازله، مغلوبا عن عاجله بحديث آجله، والناس من الختان، لاهون بأوطانهم في الأوطان، فهذا يروح بجوده، وذاك يجود بروحه؛ فما انتهت تلك الأفراح إلا بالأتراح وما صلح الملك بعده إلا بمكل الصلاح.
قال: واتصل مرض نور الدين وأشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع، وكان مهيبا فما روجع؛ وانتقل حادي عشر شوال يوم الأربعاء من مربع الفناء، إلى مرتع البقاء. ولقد كان من أولياء الله المؤمنين، وعباده الصالحين، وصار إلى جنات عدن أعدت للمتقين.
وكانت له صُفَّة في الدار التي على النهر الداخل إلى القلعة من الشمال، وكان جلوسه عليهما في جميع الأحوال؛ فلما جاءت سنة الزلزلة بنى بإزاء تلك الصفّة بيتا من الأخشاب، مأمون الاضطراب، فهو يبيت فيه ويصبح، ويخلو بعبادته ولايبرح؛ فدفن في ذلك البيت الذي اتخذه حِميً من الحمام، وأذن بناؤه لبانيه بالانهدام.
قال العماد: وقلت في ذلك:
عجبت من الموت، كيف اهتدى ... إلى ملك في سجايا مَلَك!
وكيف ثوى الفلك المستدي ... رُ في الأرض، والأرض وسط الفلك!
ولهه فيه رحمهما الله تعالى:
يا ملكا أيامه لم تزل ... بفضله فاضلة فاخرة
غاصت بحار الجود مذ غيبت ... أنملك الفائضة الزاخرة
ملكت دنياك وخلفتها ... وسرت حتى تملك الآخرة
قال ابن شداد. وكانت وفاة نور الدين رحمه الله تعالى بسبب خوانيق اعترته عجز الأطباء عن علاجها. ولقد حكى لي صلاح الدين قال: كان يبلغنا عن نور الدين أنه ربما قصدنا بالديار المصرية، وكانت جماعة أصحابنا يشيرون بأن نكاشف وونخالف ونشق عصاه، ونلقى عسكره بمصاف يرده، إذا تحقق قصده؛ قال: وكنت وحدي أخالفهم وأقول: لايجوز أن يقال شئ من ذلك ولم يزل النزاع بيننا حتى وصل الخبر بوفاته رحمه الله تعالى، ورضي عنه.
قال ابن الأثير: وكان نور الدين قد شرّع بتجهيز السير إلى مصر لأخذها من صلاح الدين لأنه رأى منه فتورا في غزو الفرنج من ناحيته، فأرسل إلى الموصل وديار الجزيرة وديار بكر. يطلب العساكر ليتركها بالشام لمنعه من الفرنج، ليسير هو بعساكره إلى مصر. وكان المانع لصلاح الدين من الغزو، الخوف من نور الدين، فإنه كان يعتقد أن نور الدين متى زال عن طريقه الفرنج أخذ البلاد منه؛ فكان يحتمي بهم عليه، ولايؤثر استئصالهم، وكان نور الدين لايرى إلا الجدّ في غزوهم بجهده وطاقته، فلما رأى إخلال صلاح الدين بالغزو، وعلم غرضه تجهز بالمسير إليه، فأتاه أمر الله الذي لايرد.
قلت: ولو علم نور الدين ماذا ذخر الله تعالى للإسلام من الفتوح الجليلة على يدي صلاح الدين من بعده لقرَّت غينه، فإنه بنى على ما أسسه نور الدين من جهاد المشركين، وقام بذلك على أكمل الوجوه وأتمها، رحمهما الله تعالى.
قال: وحكى لي طببيب بدمشق، يعرف بالرحبي، وهو من حذاق الأطباء، قال: استدعاني نور الدين في مرضه الذي توفي فيه مع غيري من الأطباء، فدخلنا عليه وهو في بيت صغير بقلعة دمشق، وقد تمكنت الخوانيق منه وقارب الهلاك، فلا يكاد يسمع صوته، وكان يخلو فيه للتعبد في أكثر أوقاته، فابتدا به المرض فيه فلم ينتقل عنه. فلما دخلنا عليه ورأينا مابه قلت: كان ينبغي أن لايؤخَّر إحضارنا إلى أن يشتد بك المرض إلى هذا الحد، فالآن ينبغي أن تنتقل إلى مكان فسيح فله أثر في هذا المرض. وشرعنا في علاجه فلم ينفع فيه الدواء، وعظم الداء، ومات عن قريب رضي الله عنه.
قال ابن الأثير: وكان أسمر طويل القامة، ليس له لحية إلا في حنكه. وكان واسع الجبهة، حسن الصورة، حلو العينين. وكان قد اتسع ملكهه جدا فملك الموصل وديار الجزيرة، وأطاعه أصحاب ديار بكر، وملك الشام والديار المصرية واليمن، وخُطب له بالحرمين الشريفين مكة والمدينة، وطبّق الأرض ذكره لحسن سيرته وعدله. ولم يكن مثله إلا الشاذ النادر. رحمة الله تعالى عليه.
قال الحافظ أبو القاسم، بعد ماذكر أوصاف نور الدين الجليلة المتقدمة مفرقة ومجموعة في هذا الكتاب: هذا مع جمع الله له من العقل المتين، والرأي الثاقب الرصين، والاقتداء بسيرة السلف الماضين، والتشبه بالعلماء والصالحين؛ والاقتداء بسيرة من سلف منهم في حسن سمتهم، والاتباع لهم في حفظ حالهم ووقتهم، حتى روى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وأسمعه؛ وكان قد استجيز له ممن سمعه وجمعه، حرصا منه على الخير في نشر السنة بالأداء والتحديث، ورجاء أن يكون ممن حفظ على الأمة أربعين حديثاً كما جاء في الحديث. فمن رآه شاهد من خلال السلطنة وهيبة الملك مايبهره، فإذا فاوضه رأى من لطافته وتواضعه مايحيره؛ يحب الصالحين ويؤاخيهم، ويزور مساكهنم لحسن ظنه فيهم. وإذا احتلم مماليكه أعتقهم، وزوّج ذكرانهم بإناثهم ورزقهم؛ ومتى تكررت الشكاية إليه من أحد من ولاته، أمره بالكف عن اذى من تظلم بشكاته، فمن لم يرجع منهم إلى العدل، قابله بإسقاط المنزلة والعزل. فلما جمع الله له من شريف الخصال، تيسر له جميع مايقصده من الأعمال، وسهل على يديه فتح الحصون والقلاع، ومُكن له في البلدان والبقاع.
ثم قال بعد كلام كثير: زمناقبه خطيرة، وممادحه كثيرة؛ ومدحه جماعة من الشعراء فأكثروا، زلم يبلغوا وصف الآئه بل قصروا؛ وهو قليل الابتهاج بالشعر، زيادة في تواضعه لعلّو القدر.
ومولده على ماذكر لي كاتبه أبو اليسر شاكر بن عبد الله، وقت طلوع الشمس من يوم الأحد سابع عشر شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وتوفي يوم الأربعاء الحادي عشر من شوال سنة تسع وستين وخمسمائة، ودفن بقلعة دمشق، ثم نقل إلى تربة تجاور مدرسته التي بناها لأصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه جوار الخواصين في الشارع الغربي رحمه الله.
قلت: وفي هذه المدرسة يقول العرقلة:
ومدرسة سيدرس كل شئ ... وتبقى في حمى علم ونسك
تضوع ذكرها شرقا وغربا ... بنور الدين محمود بن زنكي
يقول، وقوله حقٌّ وصدق ... بغير كنايةٍ وبغير شكّ
دمشق في المدائن بيت مُلكي ... وهذي في المدارس بيت مِلكي
ولما اشتهر به من قلة ابتهاجه بالمدح لما علم من تزايد الشعراء، وهي طريقة عمر بن عبد العزيز زاهد الخلفاء، قال يحيى بن محمد الوهراني في مقامة له، وقد سئل في بغداد عن نور الدين: هو سهم للدولة سديد، وركن للخلافة شديد، وأمير زاهد، وملك مجاهد، تساعده الأفلاك، وتعضده الجيوش والأملاك، غير أنه عرف بالمرعى الوبيل، لابن السبيل، وبالمحل الجديب، للشاعر الأديب، فما يُرزى ولايُعزى، ولا لشاعر عنده من نعمة تجزى.
وإيَّاه عني أسامة ابن منقذ بقوله:
سلطاننا زاهد والناس قد زهدوا ... له، فكلُّ على الخيرات منكمش
أيَّامه مثل شهر الصوم: طاهرة ... من المعاصي، وفيها الجوع والعطش
قلت: رحمه الله، ماكان يبذل أموال المسلمين إلا في الجهاد، ومايعود نفعه على العباد؛ وكان كما قيل في حق عبد الله بن محيريز، وهو من سادات التابعين بالشام، قال يعقوب بن سفيان الحافظ، حدّثنا ضمرة الشيباني، قال: كان ابن الديلمي من أنصر الناس لأخوانه، فذكر ابن محيريز في مجلسه، فقال: رجل كان بخيلا. فغضب ابن الدّيلمي وقال: كان جوادا حيث يحب الله وبخيلا حيث تحبون.
وأما شعر ابن منقذ فلا اعتبار به فهو القائل في ليلة الميلاد يمدح نور الدين رحمه الله تعالى:
في كل عام للبرية ليلة ... فيها تشب النار بالإيقاد
لكن لنور الدين من دون الورى ... ناران نار قرى ونار جهاد
أبداً يصرّفها نداه وبأسه ... فالعام أجمع ليلة الميلاد
ملك له في كل جيد منّة ... أبهى من الأطواق في الأجياد
أعلى الملوك يدا، وأمنعهم حمى ... وأمدهم كفَّا ببذل تلاد
يعطى الجزيل من النوال تبرعا ... من غير مسألة ولا ميعاد
لازال في سعد وملك دائم ... مادامت الدنيا بغير نفاد
وقد تقدم من شعر ابن منير وابن القيسراني والعماد الكاتب وغيرهم من مدح نور الدين بالكرم والجود ماقليل منه يرّد قول الوهراني وابن منقذ. على أنّ ابن منقذ قد رددنا شعره كما تراه، وإنما الشعراء وأكثر الناس كما قال الله تعالى في وصف قوم (فإنْ أُعْطُوا مِنْها رّضُوا، وَإنْ لَمْ يُعْطَوا مِنْها إذَا هم يَسْخَطون) وما كلّ وقت ينفق العطاء ويفعل الله ما يشاء.
فصلقال ابن الأثير: لما توفي نور الدين جلس ابنه الصالح اسماعيل في الملك وحُلِف له ولم يبلغ الحُلم، وحلف له الأمراء والمقدمون بدمشق، وأقام بها، وأطاعه الناس في سائر بلاد الشام، وصلاحُ الدين بمصر، وخطب له بها، وضرب السكة باسمه فيها. وتولّى تربيته الأمير شمس الدين محمد بن المقدم.
قال العماد: وأخرجوا يوم وفاة نور الدين ولده الملك الصالح اسماعيل، وقد أبدى الحزن والعويل، وهو مجزوز الذوائب مشقوق الجيب، حاسر، حافٍ مما فجأه وفجعه من الرّيب، وأجلسوه في الأيوان الشمالي من الدّست والتخت الباقي من عهد تاج الدولة تتش، فاستوحى كل قلب حزنه واستوحش، فوقف الناس يظطرمون ويضطربون، ويلتهفون ويتلهبون. ولما كفّن بحلة الكرامة، ودفن في روضة بابها إلى باب رضوان من دار المقامة، وقضوا الجزع، وقوضوا الفزع، وغيبوا الدمعة، وأحضروا الرّبعة، حضر القاضي كمال الدين، وشمس الدين بن المقدم، وجمال الدين ريحان، وهو أكبر الخدم. والعدل أبو صالح بن العجمي أمين الأعمال، والشيخ اسماعيل خازن بيت المال، وتحالفوا على أن تكون أيديهم واحدة، وعزائمهم متعاقدة، وأن ابن المقدم مقدم العسكر، وإليه المرجع والمصدر.
قال: وأنشأت في ذلك اليوم كتابا عن الملك الصالح إلى صلاح الدين في تعزيته بنور الدين، ترجمته: إسماعيل بن محمود وفيه: أطال الله بقاء سيدنا الملك الناصر وعظم أجرنا وأجره في والدنا الملك العادل ندب الشام، بل الإسلام، حافظ ثغوره، وملاحظ أموره، ومقدام الجهاد مقتني فضيلته، ومؤدي فريضته، ومحيي سنته؛ وأورثنا بالاستحقاق ملكه وسريره، على أنه يعزّ أن يرى الزمان نظيره. وما ههنا ما يشغل السر، ويقسم الفكر، إلا أمر الفرنج خذلهم الله؛ وما كان اعتماد مولانا الملك العادل عليه وسكونه إليه إلا لمثل هذا الحديث الجلل، والصرف الكارث المذهل؛ فقد ادخره لكفايات النوائب، وأعده لحسم أدواء المعضلات اللوازب، وأمله ليومه ولغده، ورجاه لنفسه ولولده، ومكنّه قوة لعضده. فما فقد رحمه الله تعالى إلا صُورة والمعنى باق، والله تعالى حافظ لبيته واق؛ وهل غيره، دام سموه، من مؤازر، وهل سوى السيّد الأجل النّاصر من ناصر؛ وقد عرفناه المقترح، ليروض برأيه من الأمر ماجمح. والأهم شغل الكفار، عن هذه الديار، بما كان عازما عليه من قصدهم والنكاية فيهم على البدار؛ ويجري على العادة الحسنة في إحياء ذكر الوالد هناك بتجديد ذكرنا، راغبا في اغتنام ثنائنا وشكرنا.
قلت: وكان قد بلغ صلاح الدين خبر نور الدين فأرسل كتابا بالمثال الفاضل فيه: ورد خبر من جانب العدو اللعين، عن المولى نور الدين، أعاذ الله تعالى فيه من سماع المكروه، ونور الدين بعافيته القلوب والوجوه؛ فاشتد به الأمر، وضاق به الصدر، وانقصم بحادثه الظهر، وعزّ فيه التثبت وأعوز الصبر. فإن كان والعياذ بالله قد تم، وخصّه الحكم الذي عم، فللحوداث تدخر النصال، وللأيام تصطنع الرجال؛ وما رتب الملوك ممالكها إلا لأولادها، ولا استودعت الأرض الكريمة البذر إلا لتؤدي حقها يوم حصادها؛ فالله الله أن تختلف القلوب والأيدي، فتبلغ الأعداء مرادها، وتعدم الآراء رشادها، وتنتقل النعم التي تعبت الأيام فيها، إلى أن أعطت قيادها. فكونوا يداً واحدة، وأعضاداً متساعدة، وقلوبا يجمعها ودّ، وسيوفا يضمها غمد؛ ولاتختلفوا فتنكلوا، ولاتنازعوا فَتَفْشَلوا، وقوموا على أمشاط الأرجل، ولاتأخذوا الأمر بأطراف الأنمل؛ فالعداوة محدقة بكم من كل مكان، والكفر مجتمع على الأيمان. ولهذا البيت منّا ناصر لانخذله، وقائم لانسلمه. وقد كانت وصيته إلينا سبقت، ورسالته عندنا تحققت، بأن ولده القائم بالأمر وسعد الدين كمشتكين الأتابك بين يديه؛ فإن كانت الوصية ظهرت وقبلت، والطاعة في الغيبة والحضور أديت وفعلت، وإلا فنحن لهذا الولد يدُ على من ناواه، وسيف على من عاداه. وإن أسفر الخبر عن معافاة فهو الغرض المطلوب، والنذر الذي يحل على الأيدي والقلوب.
قال العماد: وورد كتاب صلاح الدّين بالمثال الفاضل معزيا لابن نور الدين وفي آخره: وأما العدو خذله الله تعالى فوراءه من الخادم من يطلبه طلب ليلٍ لنهار، وسيل لقرار، إلى أن يزعجه من مجاثمه، ويستوقفه عن مواقف مغانمه؛ وذلك من أقلّ فروض البيت الكريم وأيسر لوازمه. أصدر هذه الخدمة يوم الجمعة رابع ذي القعدة، وهو اليوم الذي أقيمت فيه الخطبة بالاسم الكريم، وصرح فيه بذكره في الموقف العظيم، والجمع الذي لالغو فيه ولا تأثيم؛ وأشبه يوم الخادم أمسه في الخدمة ووفى مالزمه من حقوق النعمة وجمع كلمة الإسلام عالماً أن الجماعة رحمة. والله تعالى يخلد ملك المولى الصالح، ويصلح به وعلى يديه، ويؤكد عهود النَّعْماء الراهنة لديه، ويجعل للإسلام واقية باقية عليه، ويوفق الخادم لما ينويه من توثيق سلطانه وتشييده، ومضاعفة ملكه ومزيده، وييُسر منال كل أملٍ صالح وتقريب بعيده، إن شاء الله تعالى.
ومن كتاب آخر: الخادم مستمر على بدأته من الاستشراف لأوامرها، والتعرض لمراسمها، والرفع لكلمتها، والإيالة لعسكرها، والتحقق بخدمتها، في بواطن الأحوال وظواهرها، والتّرقب لأن يؤمر فيمتثل، ويكلف فيحتمل، وأن يُرمى به في نحر عدوه فيتسدد بجهده، ويوفى أيام الدولة العالية يوما يكشف الله فيه للمولى ضمير عبده.
قال العماد: ولما توفي نور الدين أختل أمري، واعتل سرّي، وعلت حسادي، وبلغ مرادهم أضدادي. وكان الملك الصالح صغيرا، فصار العدل ابن العجمي له وزيرا؛ وتصرف المتحالفون في الخزانة والدولة كما أرادوا، وولَّوْا وصرفوا ونقصوا وزادوا؛ واقتصروا لي على الكتابة، محروم الدعوة من الإجابة.
ومما نظمته في مرثية نور الدين قصيدة منها.
لفقد الملك العاد ... ل يبكي الملك والعدل
وقد أظلمت الآفا ... ق: لا شمس ولاظل
ولما غاب نور الدي ... ن عنا أظلم الحفل
وزال الخصب والخير ... وزاد الشر والمحل
ومات البأس والجود ... وعاش اليأس والبخل
وعز النقص لمّا ها ... ن أهل الفضل والفضلُ
وهل ينفق ذو علم ... إذا ما نفق الجهل
وما كان لنور الدي ... ن، لولا نجلُه، مثل
فصلقال العماد: واتفق نزول الفرنج بعد وفاة نور الدين رحمه الله تعالى على الثغر وقصدهم بانياس، ورجوا أن يتم لهم الأمر ثم ظهرت خيبتهم وبان الياس. وذلك أن شمس الدّين ابن المقدم خرج وراسل الفرنج وخوّفهم بقصد صلاح الدين لبلادهم، وأنه قد عزم على جهادهم؛ وتكلموا في الهدنة، وقطع مواد الحرب والفتنة، وحصلوا بقطيعة استعجلوها، وعدة من أساراهم استطلقوها؛ وتمّت المصالحة.
وبلغ ذلك صلاح الدين فأنكره ولم يعجبه، وكتب إلى جماعة الأعيان كتُباً دالّة على التوبيخ والملام. ومن جملتها كتاب بالمثال الفاضلي إلى الشيخ شرف الدّين بن أبي عصرون يخبره فيه أنه أتاه كتاب الملك الصالح بقصد الفرنج تجهّز وخرج وسار أربع مراحل، ثم جاءه الخبر بالهدنة المؤذنة بذُل الإسلام من دفع القطيعة وإطلاق الأسارى؛ وسيدنا الشيخ أول من جرّد لسانه الذي تُغمد له السيوف وتُجرّد، وقام في سبيل الله قيام من يقطّ عادية من تعدّى وتمرّد.
وفي آخره: كتب من المنزل بفاقوس والفجر قَدْ هَمّ أنْ يشقّ ثوب الصباح، لولا أن الثّريا تعرضت تعرض أثناء الوشاح. وهذه الليلة سافرة عن نهار يوم الجمعة ثاني عشر ذي الحجة، بلغه الله فيه أمله، وقبل عمله، بالغاً أسنى المراد وأفضله.
وقال ابن الأثير: لما توفي نور الدين قال الأمراء، منهم شمس الدين بن المقدم وحسام الدين الحسين بن عيسى الجراحي، وغيرهما من أكابر الأمراء: قد علمتم أن صلاح الدين من مماليك نور الدين ونوّابه، والمصلحة أن تشاوره فيما نفعله ولانخرجه من بيننا، فيخرج عن طاعة الملك الصالح، ويجعل ذلك حجة علينا؛ وهو أقوى منا لأن له مثل مصر، وربما أخرجنا وتولى هو خدمة الملك الصالح. فلم يوافق أغراضهم هذا القول، وخافوا أن يدخل صلاح الدين ويخرجوا.
قال: فلم يمض غير قليل حتى وصلت كتب صلاح الدين إلى الملك الصالح، يهنيه بالملك ويعزيه بأبيه، وأرسل دنانير مصريه عليها اسمه، ويعرفه أن الخطبة والطاعة له كما كانت لوالده. فلّما سار سيف الدين غازي، ابن عمه قطب الدين، وملك الديار الجزرية، ولم يرسل من مع الملك الصالح من الأمراء إلى صلاح الدين ولا أعلموه الحال، كتب إلى الملك الصالح بعتبه حيث لم يُعْلِمه قصد سيف الدين بلاده ليحضر في خدمته ويمنعه. وكتب إلى الأمراء يقول إن الملك العادل لو علم أن فيكم من يقوم مقامي أو يثق إليه مثل ثقته بي، لَسَلَّم إليه مصر التي هي أعظم ممالكه وولاياته، ولو لم يعجل عليه الموت لم يعهد إلى أحد بتربية ولده والقيام بخدمته سواي. وأراكم قد تفردتم بخدمة مولاي وابن مولاي دوني، فسوف أصلُ إلى خدمته وأجازي إنعام والده بخدمة يظهر أثرها، وأقابل كلاًّ منكم على سوء صنيعه، وإهمال أمر الملك الصالح ومصالحه، حتى أخذت بلاده.
فأقام الصالح بدمشق ومعه جماعة من الأمراء لم يمكنوه من المسير إلى حلب لئلا يغلبهم عليه شمس الدين على بن الدّاية فإنه كان أكبر الأمراء النُّورية، وإنما تأخر عن خدمة الملك الصالح بعد وفاة نور الدين لمرض لحقه؛ وكان هو وإخوته بحلب وأمرها إليهم، وعسكرها معهم في حياة نور الدين وبعده. ولما عجز عن الحركة أرسل إلى الملك الصالح يدعوه إلى حلب ليمنع البلاد من سيف الدين ابن عمه؛ وأرسل إلى الأمراء يقول لهم: إن سيف الدين قد ملك إلى الفران ولئن لم ترسلوا الملك الصالح إلى حلب حتى يجمع العساكر ويسترد ما أخذ منهم، وإلا عبر سيف الدين الفرات إلى حلب ولانقوى على منعه. فلم يرسلوه ولا مكنوه من قصد حلب.
قال: وكان نور الدين قبل أن يمرض قد أرسل إلى البلاد الشرقية كالموصل وغيرها، واستدعى العساكر منها، فسار سيف الدين غازي بن أتابك قطب الدين صاحب الموصل في عساكره، فلما كان ببعض الطريق أتاه الخبر بموت عمّه نور الدين، فعاد إلى نصيبين فملكها، وأرسل الشحن إلى الخابور فاستولوا عليها، وسار هو إلى حران فحصرها عدة أيام ثم أخذها، وملك الرّها والرّقة وسَرُوج واستكمل ملك ديار الجزيرة سوى قلعة جعبر. فقال له فخر الدين عبد المسيح - وكان قد فارق سيواس بعد وفاة نور الدين وقصد سيف الدين، ظنَّا منه أن سيف الدّين يرعى له خدمته، وقيامه في أخذ الملك له من والده قطب الدين، على ماذكرناه أولا، فلم يجن ثمرة ماغرس، وكان عنده كبعض الأمراء - ليس بالشام من يمنعك فاعبر الفرات واملك البلاد. فأشار أمير آخر معه وهو أكبر أمرائه: قد ملكت أكثر من والدك، والمصلحة أن تعود؛ فرجع إلى الموصل.
فصل
قال ابن الأثير: قد سبق أن نور الدين كان قد جعل بقلعة الموصل لمّا ملكها دُزْداراً له وهو سعد الدين كمشتكين بعض خدمه الخصيان؛ فلما سار سيف الدين إلى الشام كان في مقدمته على مرحلة. فلما أتاه خبر وفاة نور الدين هرب، وأرسل سيف الدين في أثره فلم يدركه، فنهب بَرْكه ودوابه وسار إلى حلب، وتمسك بخدمة شمس الدين بن الداية وإخوته، واستقر بينهم وبينه أن يسير إلى دمشق ويحضر الملك الصالح. فسار إلى دمشق، فأخرج ابن المقدم عسكراً لينهبوا فعاد مُنهزما إلى حلب؛ فأخلف عليه شمس الدين بن الداية ما أخذ منه وجهزه وسيره إلى دمشق، وعلى نفسها تجني براقش. فلما وصلها سعد الدين دخلها واجتمع بالملك الصالح والأمراء، وأعلمهم مافي قصد الملك الصالح إلى حلب من المصالح، فأجابوه إلى تسييره، فسار إليها. فلما وصلها وصعد إلى قلعتها قبض الخادم سعد الدين على شمس الدين بن الداية وإخوته وعلى ابن الخشاب رئيس حلب.
قال ابن الأثير: ولولا مرض شمس الدين لم يُتمكن منه ولاجرى من ذلك الخلف والوهن شئ. وكان أمر الله قدراً مقدوُراً.
واستبد سعد الدين بتدبير أمر الملك الصالح، فخافه ابن المقدم وغيره من الأمراء الذين بدمشق، فكاتبوا سيف الدين ليسلموا إليه دمشق، فلم يفعل وخاف أن تكون مكيدة عليه ليعبر الفرات ويسير إلى دمشق فيمنع عنها، ويقصده ابن عمه من وراء ظهره، فلايمكنه الثبات. فراسل الملك الصالح وصالحه على إقرار ما أخذه بيده، وبقي الملك الصالح بحلب وسعد الدين بين يديه يدبر أمره، وتمكّن منه تمكناً عظيماً يقارب الحجر عليه.
وقال العماد: كان كمشتكين الخادم النائب بالموصل قد سمع بمرض نور الدين فأخفاه، واستأذن في الوصول إلى الشام، فطلب سيف الدين غازي رضاه؛ فخرج وسار مرحلتين وسمع النّعْي، فأغذ السير والسعي، ونجا بماله وبحاله، وندم صاحب الموصل على الرضا بترحاله. وكانت عنده بوفاة عمه بشارة، وظهرت على صفحاته منها أمارة، فإنه لم يزل من كمشتكين متشكياً فإنه كان لحجر الأمر عليه مّذْكيا. وكان المرحوم قد أمر بإراقة الخمور، وإزالة المحظور، وإسقاط المكوس، وإعدام أقساط البوس؛ فنودي في الموصل يوم ورود الخبر بالفسحة في الشرب جهاراً، ليلاً ونهاراً، وزال العرف، وعاد النكر؛ وأنشد قول ابن هاني:
*ولا تسقني سرا فقد أمكن الجهر*
وقيل: أخذ المنادي على يده دنّا وعليه قدح وزمر، وزعم أنه خرج بهذا أمر، فلا حرج على من يغنى ويشرب؛ وعادت الضرائب وضربت العوائد.
فأما كمشتكين فإنه وصل إلى حلب بعد عبور القرى، وتمثل عند الصباح بحمد القوم السّري، واجتمع هناك بالأمير شمس الدين عليّ بن الداية وإخوته، إخوة مجد الدين، وأظهر أنه لهم من المخلصين.
وكان مجد الدين أبو بكر أخوهم رضيع نور الدين وقد ترّبى معه، ولزمه وتبعه إلى أن ملك الشام بعد والده، ففّوض إلى مجد الدين جميع مقاصده، من طريفه وتالده، وحكّمه في الملك، ونظمه في السلك، فلا يُحلّ ولا يُعقد إلا برأيه. وكانت حصونه محصّنة، وهو يسكن عنده في قلعة حلب، والحاضر عنده صباحا ومساءً إذا طُلب؛ وشيرز مع أخيه شمس الدين علي، وقلعة جعبر وتلّ باشر مع سابق الدين عثمان، وحارم مع بدر الدين حسن، وعين تاب وعزاز وغيرهما نوّابه فيها، وهو يصونها ويحميها.
ولمّا توفّي جرت إخوته في القرب والانبساط على عادته، وهم أعيان الدولة وأعضادها، وأبدال أرضها وأوتادها، وأمجادها وأجوادها. فلما توفي نور الدين لم يشكوا في أنهم يكفلون ولده ويرّبونه، ويحبهم لأجل سابقتهم ويحبونه؛ فأقام شمس الدين عليّ، وهو أكبرهم وأوجههم، ودخل قلعة حلب، وبها والياً شاذ بخت، وسكنها، وأسرَّ مصلحة الدولة وأعلنها. وعرف ماجرى بدمشق من الاجتماع، واتفاق ذوى الأطماع، فكاتبهم وأمرهم بالوصول إليه في خدمة الملك الصالح. وأنفذ أخاه سابق الدين عثمان، وكان قليل الخبرة بعيدا من التحرُّز والدّهاء، فاستقرّ الأمر على أن يحملوا الملك الصالح إليه، ويقدموا به عليه، وهو يتسلم ممالكه، ويكون أتابكه.
ووصل كمشتكين إلى دمشق في تلك الأيام، فوافقهم على مادبروه من المرام، وسار الصالح ومعه كمشتكين، والعدل ابن العجمي، واسماعيل الخازن، فبغُتوا إخوة مجد الدين الثلاثة فقبضوهم واعتقلوهم؛ وجاء ابن الخشاب أبو الفضل، مقدّم الشيعة، فسفكوا دمه. وأقام شمس الدين بن المقدم بدمشق على عساكرها مقدما، وفي مصالحها محكّما؛ وجمال الدين ريحان والي القلعة والشِّحن من قبله، والأمر إليه بتفصيله وجمُله، والقاضي كمال الدين الشهرزوري الحاكم النافذ حكمه، الصائب سهمه، الثاقب نجمه.
وكان مسير الملك الصالح من دمشق في الثالث والعشرين من ذي الحجة؛ وغاظ صلاح الدين ما فُعل بأخوة مجد الدين.
وقال ابن أبي طي الحلبي: لما مات نُور الدين اجتمع أمراء دولته واتفقوا على أن يكونوا في خدمة الملك الصالح، ابن نور الدين، وكان يومئذ صبيا، وحلفوا له على منابذة الملك الناصر وقبض أصحابه الذين بالشام، ومصالحة الفرنج وجعلوا ابن المقدم شمس الدين مقدم العساكر؛ وتم ذلك واستقر، وركب الملك الصالح بدمشق وخطب له.
وكانت الفرنج قد تحركت إلى قصد دمشق فخرج ابن المقدم ونزل على بانياس في عساكر نور الدين، وراسل الفرنج في الهدنة، فأجابوه بعد أن قطعوا قطيعة على المسلمين، فعجل حملها إليهم. وتم أمر الصلح وعادت الفرنج إلى بلادها وابن المقدم إلى دمشق.
واتصل خبر هذه الهدنة بالملك الناصر، وكان قد خرج من مصر أربع مراحل، فأعظم أمرها وأكبره، واستصغر أمر أهل الشام وعلم ضعفهم. فراسل ابن المقدم وغيره من الأمراء بإنكار ذلك والتوبيخ عليه، وقال في كتابه إلى ابن عصرون: ورد الخبر بصلح بين الفرنج والدمشقيين، وبقيةُ بلاد المسلمين ما دخلت في العقد، ولا انتظمت في سلك هذا القصد، والعدو لهما واحد؛ وصرف مال الله الذي أُعد لمغنم الطّاعة، ومصلحة الجماعة، في هذه المعصية المغضبة لله ولرسوله ولصالحي الأمة، وكان مذخوراً لكشف الغمة، فصارعَوْنا؛ وأن أسارى من طبرية وفرسانها كانت وطأتهم شديدة، وشوكتهم حديدة، دُفعوا في القطيعة، وجعلوا إلى السلم السبب والذريعة. فلما بلغنا هذا الخبر، وقفنا به بين الورود والصدر، وإن أتممنا ظُنَّ بنا غير مانريد، وإن قعدنا فالعودّ من بقية الثغور التي لم تدخل في الهدنة غير بعيد، وإن فرّقنا العساكر لدينا فاجتماعها بعد افتراقها شديد. فرأينا أن سيرنا إلى حضرة الأمير شمس الدين أبي الحسن علي وإخوته من يعرفهم قدر خطر هذا الارتباك، وأنه ربما عُجز عن الاستدراك، وأن العدوّ طالب لايغفل، وجادٌّ لاينكل، وليث لايضيع الفرصة، مجدٌ لايميل إلى الرخصة. فإن كانت الجماعة ساخطين فيظهر أماراتن السخط والتغيير، ولايمسك في الأول فيعجز عن الأخير، لاسيما ونحن نغار لله ونُغير، ونقصد للمسلمين مانجمع به صلاح الرأي وصواب التدبير. وقد منعنا عساكرنا أن تفترق خوفا أن يقصد العدو ناحية حارم بالمال الذي قويت به قوته، وثرت به ثروته، وانبسطت به خطوته؛ فإنه مادام يعلم أنا مجتمعون، وعلى طلبه مجمعون، لايمكنه أن يزايل مراكزه، ولايبادر مناهزه.
قال: وكان متولي قلعة حلب شاذ بخت الخادم النّوري، وكان شمس الدين علي، أخو مجد الدين بن الداية، إليه أمور الجيش والديوان، وإلى أخيه بدر الدين حسن الشحنكية؛ وكان بيده ويد إخوته جميع المعاقل التي حول حلب. فلما بلغ عليا موت نور الدين صعد إلى القلعة، وكان مُقْعَداً، واضطرب البلد، ثمّ سكنه ابن الخشاب، وكوتب ابن الخشاب من دمشق بحفظ البلد، وعول أولاد الداية على الاستيلاء على حلب، وحلف لهم جماعة من القلعيين والحلبيين وأنفذوا خلف أبي الفضل بن الخشاب، فامتنع من الصعود إليهم وترددت بينهم الرسالة؛ وتحزب الناس بحلب، السنة مع بني الداية والشيعة مع أبن الخشاب؛ وجرت أسباب اقتضت أن أنزل حسن بن الداية جماعة من القلعيين وأهل الحاضرة وزحفوا إلى دار ابن الخشاب فملكوها ونهبوها، واختفى ابن الخشاب.
وأتصلت هذه الأخبار بمن في دمشق فأخذوا الملك الصالح وساروا إلى حلب، في الثالث والعشرين من ذي الحجَّة، وسار مع الملك الصَّالح سعد الدين كمشتكين، وجُرديك، وإسماعيل الخازن، وسابق الدّين عثمان بن الدّاية، وقد وكلت الجماعة به وهو لايعلم. وساروا إلى حلب وخرج الناس إلى لقائهم.
وكان حسن قد رتّب في تلك الليلة جماعة من الحلبيين ليصبح ويصلبهم؛ فلمَّا خرج إلى لقاء الملك الصالح ووقعت عينه عليه ترجَّل ليخدم هو وجماعة من أصحابه، فتقدم جرديك وأخد بيده، وشتمه وجذبه، فأركبه خلفه رديفاً، وقُبض سابق الدّين أخوه في الحال، وتُخُطَّفت أصحابهم جميعهم، واحتيط عليهم وساروا مجدّين حتى سبقوا الخبر إلى القلعة وصعدوا إليها، وقبضوا على شمس الدّين علي ابن الداية من فراشه، وحمل إلى بين يدي الملك الصالح؛ فاستقبله أحد مماليك نور الدين المعروف بالجفنية، فركله برجله ركلة دحاه بها على وجهه، فانشقت جبهته. ثم صفدوا جميعا وحبسوا في جُبّ القلعة، وقبضوا على جميع الأجناد الذين حلفوا لأولاد الداية، وأُخرجوا جميعاً من القلعة.
قلت: وفي آخر هذه السنة توفي مرّي الفرنجي الملك الّي كان حاصر القاهرة وأشرف على أخذ الديّار المصرّية.
وفي كتاب فاضلي: ورد كتاب من الدّاروم يذكر أنه لما كان عشية الخميس تاسع ذي الحجة هلك مرّي ملك الفرنج، لعنه الله، ونقله إلى عذاب كاسمه مشتقا وأقدمه على (نارٍ تَلَظَّى، لاَيَصْلاَهاَ إلاَّ الأشْقى).
ثم دخلت سنة سبعين وخمسمائةقال ابن أبي طيّ: ففي أولّها ضمن القطب ابن العجمي وأبو صالح وابن أمين الدّولة لجرديك إن قتل ابن الخشاب ردُّوا عليه جميع مانهب له في دار ابن أمين الدولة. فدخل على الملك الصالح وتحدّث معه وأخذ خاتمه أماناً لابن الخشاب، ونودي عليه، فحضر وركب إلى القلعة، فقتل وعلّق رأسه على أحد أبراج القلعة.
وبقي الملك الصالح في قلعة حلب ومضى العماد الكاتب إلى الموصل. قال: وعزمت على خدمة سيف الدّين صاحبها وقد أخذ من بلاد الجزيرة إلى حدّ الفرات، ومضى إليه ابن العجمي للإصلاح فأصلح بين ابني العمّ وعلق رهن إخوة مجد الدين في الاعتقال، وضيّقوا عليهم في القيود والأغلال، وألزموهم بتسليم الحصون، وتقديم الرهون، إلى أن غصبوا دورهم، وخربوا معمورهم.
قال: وكان المّوفق خالد بن القيسراني قد وصل، ونحن بدمشق، من مصر فلزم داره ولم يدخل مع القوم.
فأما صلاح الدين فإنه اعتقد أن نور الدين يتولاه بعده إخوة مجد الدين، فلما جرى ماجرى ساءه ذلك وقال: أنا أحقّ برعى العهود، والسعيّ المحمود، فإنه إن استمرت ولاية هؤلاء تفرقت الكلمة المجتمعة، وضاقت المناهج المتسعة، وانفردت مصر عن الشام، وطمع أهل الكفر في بلاد الإسلام. وكتب إلى ابن المقدّم ينكر ما أقدموا عليه من تفريق الكلمة، وكيف اجترءوا على أعضاء الدّولة وأركانها، بل أهلها وإخوانها، وأنه يلزمه أمرهم وأمرها، ويضره ضرهم وضرها. فكتب ابن المقدم إليه يردعه عن هذه العزيمة، ويقبح له استحسان هذه الشيمة، ويقول له: " لا يقال عنك إنك طمعت في بيت من غرسك، وربّاك وأسسك، وأصفى مشربك، وأضفى ملبسك، وأجلى سكونك لملك مصر وفي دسته أجلسك، فما يليق بمالك، ومحاسن أخلاقك وخلالك، غير فضلك وأفضالك.
فكتب إليه صلاح الدين بالإنشاء الفاضلي: " إنا لانؤثر للإسلام وأهله إلا ماجمع شملهم وألف كلمتهم، وللبيت الأتابكي أعلاه الله تعالى إلا ماحفظ أصله وفرعه، ودفع ضرّه وجلب نفعه؛ فالوفاء إنما يكون بعد الوفاة، والمحبة إنما تظهر آثارها عند تكاثر أطماع العداة. وبالجملة إنا في واد، والظانون بناظن السوء في واد، ولنا من الصلاح مراد، ولمن يبعدنا عنه مراده، ولا يقال لمن طلب الصلاح إنك قادح، ولمن ألقى السلاح إنك جارح " .
فصلقال العماد: ثم عزم السلطان على أن يسارع إلى تلافي الأمر، فاعترضه أمران: أحدهما وصول أسطول صقلية إلى الإسكندرية وإدراكه، والثاني نوبة الكنز ونفاقه وهلاكه. أما وصول الأسطول فكان يوم الأحد السادس والعشرين من ذي الحجة سنة تسع وستين، وانهزم في أول المحرم سنة سبعين.
ثم ذكر كتابا وصل من صلاح الدين إلى بعض الأمراء بالشام يشرح الحال، وحاصله أن أول الأسطول وصل وقت الظهر، ولم يزل متواصلا إلى وقت العصر، وكان ذلك على حين غفلة من المتوكلين بالنظر، لا على حين خفاء من الخبر، فأمر ذلك الأسطول كان قد أشتهر؛ ورُوع به ابن عبد المؤمن في البلاد المغربية، وهدد به في الجزائر الرومية صاحب قسطنطينية. فشوهد في الثغر من وفور عُدّته، وكثرة عدَّته، وعظيم الهمّة به، وفرط الاستكثار منه، ما ملأ البحر، واشتد به الأمر، فحمى أهل الثغر عليهم البّر؛ ثم أشير عليهم أن يقربوا من السّور، فأمكن الأسطول النزول، فاستنزلوا خيولهم من الطرائد، وراجلهم من المراكب، فكانت الخيل ألفا وخمسمائة رأس، وكانوا ثلاثين ألف مقاتل، مابين فارس وراجل. وكانت عدة الطرائد ستة وثلاثين طريدة تحمل الخيل، وكان معهم مائتا شيني في كل شيني مائة وخمسون راجلا. وكانت عدة السّفن التي تحمل الآت الحرب والحصار من الأخشاب الكبار وغيرها ست سفن، وكانت عدة المراكب الحمالة برسم الأزواد والرجال أربعين مركبا؛ وفيها من الراجل المتفرق، وغلمان الخيّالة، وصناع المراكب وأبراج الزحف ودباباته المنجنيقية، مايتمم خمسين ألف رجل.
ولما تكاملوا نازلين على البر، خارجين من البحر، حملوا على المسلمين حملة أوصلوهم إلى السور، وفقد من أهل الثغر في وقت الحملة مايناهز سبعة أنفس. واستشهد محمود بن البصار وكان بسهم جرح، وجدفت مراكب الفرنج داخلة إلى الميناء وكان به مراكب مقاتلة ومراكب مسافرة، فسبقهم أصحابنا إليها فخسفوها وغرقوها، وغلبوهم على أخذها وأحرقوا ما احترق منها. واتصل القتال إلى المساء، فضربوا خيامهم بالبر وكان عدتها ثلثمائة خيمة.
فلما أصبحوا زحفوا وضايقوا وحاصروا، ونصبوا ثلاث دبابات بكباشها، وثلاث مجانيق كبار المقادير، تضرب بحجارة سود استصحبوها من صقلية، وتعجب أصحابنا من شدة أثرها وعظم حجرها. وأما الدبابات فإنها تشبه الأبراج في جفاء أخشابها، وارتفاعها، وكثرة مقاتلتها واتساعها، وزحفوا بها إلى أن قاربت السّور، ولجّوا في القتال عامة النهار المذكور.
وورد الخبر إلى منزلة العساكر بفاقوس يوم الثلاثاء ثالث يوم نزول العدوّ على جناح الطائر، فاستنهضنا العساكر إلى الثغرين اسكندرية ودمياط، احترازا عليهما، واحتياطا في أمرهما، وخوفا من مخالفة العدوّ إليهما. واستمر القتال، وقدمت الدبابات وضربت المنجنيقات وزاحمت السّور، إلى أن صارت منه بمقدار أماج البحر وأُهاج الدُّور.
فاتفق أصحابنا على أن يفتحوا أبواباً قبالتها من السّور ويتركوها معلقة بالقشور؛ ثم فتحوا الأبواب وتكاثر صالح أهل الثغر من كل الجهات، فأحرقوا الدبابات المنصوبة وصدقوا عندها من القتال، وأنزل الله على المسلمين النّصر، وعلى الكفار الخذلان والقهر.
واتصل القتال إلى العصر من يوم الأربعاء وقد ظهر فشل الفرنج ورعبهم، وقصرت عزائمهم، وفتر حزبهم، وأحرقت آلات قتالهم، واستمر القتل والجراح في رجالهم؛ ودخل المسلمون إلى الثغر لأجل قضاء فريضة الصلاة، وأخذ مابه قوام الحياة، وهم على نيّة المباكرة، والعدوّ على نية الهرب والمبادرة. ثم كر المسلمون عليهم بغتة وقد كاد يختلط الظلام، فهاجموهم في الخيام، فتسلموها بما فيها، وفتكوا في الرّجالة أعظم فتك، وتسلموا الخيالة ولم يسلم منهم إلا من نزع لبسه، ورمى في البحر نفسه. وتقحم أصحابنا في البحر على بعض المراكب فخسفوها وتلفوها، فولت بقية المراكب هاربة. وجاءتها أحكام الله الغالبة. وبقي العدوّ بين قتل وغرق، وأسر وفَرَق، واحتمى ثلثمائة فارس في رأس تلّ، فأخذت خيولهم ثم قتلوا وأسروا، وأخذ من المتاع والآلت والأسلحة مالا يملك مثله. وأقلع هذا الاسطول عن الثغر يوم الخميس.
وذكر ابن شداد أن نزول هذا العدو كان في شهر صفر وكانوا ثلاثين ألفا في ستمائة قطعة مابين شيني وطرادة وبطشة وغير ذلك.
فصل
وأما نوبة الكنز، فقال ابن شداد: الكنز إنسان مقدم من المصريين كان انتزح إلى أسوان فأقام بها، ولم يزل يدبّر أمره ويجمع السودان عليه ويُخِّيل لهم أنه يملك البلاد ويعيد الدولة المصرية. وكان في قلوب القوم من المهاواة للمصريين ما تستصغر هذه الأفعال عنده، فاجتمع عليه خلق كثير وجمع وافر من السودان، وقصد قوص وأعمالها. فانتهى خبره إلى صلاح الدين، فجرد له عسكرا عظيما شاكين في السلاح من الذين ذاقوا حلاوة ملك الديار المصرية وخافوا على فوت ذلك منهم، وقدّم عليهم أخاه سيف الدين وسار بهم حتى أتى القوم، فلقيهم بمصاف فكسرهم، وقتل منهم خلقا عظيما، واستأصل شأفتهم، وأخمد ثائرتهم؛ وذلك في السّابع من صفر سنة سبعين، واستقرت قواعد الملك.
قال العماد: وفي أول سنة سبعين، مستهلها، قام المعروف بالكنز في الصعيد، وجمع من كان في البلاد من السودان والعبيد، وعدا ودعا القريب والبعيد. وكان عنده من الأمراء أخ لحسام الدين بن أبي الهيجاء السّمين، ففتك به وبمن هناك من المقطعين، فغارت حمية أخيه وثارت للثأر، وساعده أخو السلطان سيف الدين وعز الدين موسك ابن خاله، وعدة من أمرائه ورجاله، وجاءوا إلى مدينة طود فاحتمت عليهم، وامتنعت، فأسرعت البلية إليها وبها وقعت، وأتى السيف على أهلها، وباءت بعد عزها بذّلها.
ثم قصد الكنز وهو في طغيانه وعدوانه، وسوئه وسودانه، فسُفك دمه، وظهر بعد ظهور وجوده عدمه، وارتقب دماء سوده، وهجم غابه على أسوده؛ ولم يبق للدولة بعد كنزها كنز، وطلّ دمه ولم ينتطح فيه عنز. وارتدع المارقون فما رقوا بعده سلم نفاق، والله لناصري دينه ناصر وواق.
وقال ابن أبي طيّ: واتفق أيضا أن خرج بقرية من قرى الصعيد يقال لها طود رجل يعرف بعباس بن شادي، وثار في بلاد قوص ونهبها وخربها، وأخذ أموال الناس؛ واتصل ذلك بالملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، وكان السلطان قد استنابه بمصر، فجمع له العساكر وأوقع به، وبدّد شمله، وفض جموعه وقتله، ثم قصد بعده كنز الدولة الوالي بأسوان وكان قصد بلد طود، فقتل أكثر عسكره وهوب فأدركه بعض أصحاب الملك العادل فقتله.
فصلفي توّجه صلاح الدين إلى دمشق ودخوله إليها في يوم الاثنين آخر شهر ربيع الأول.
قال العماد: لمّا خلا باله مما تقدم ذكره تجهز لقصد الشام، فخرج إلى البركة مستهل صفر، وأقام حتى اجتمع العسكر؛ ثم رحل إلى بلبيس ثالث عشر ربيع الأول. وكانت رسل شمس الدِّين صاحب بصرى صديق ابن جاولي وشمس الدّين بن المقدم عنده، تَسْتَورى في الحث والبعث زنده، وتستقدمه وجنده؛ وسار على صَدْر وأيْلة ووصل السيّر بالسُّرى، حتى أناخ على بصرى، بصيراً بالعلا نصيرا للهدى، فاستقبله صاحب بصرى وشد أزره، وسدّد أمره؛ واستضاف إلى بصرى صرخد، وتفرد بالسبق إلى الخدمة وتوَّحد.
وسار في الخدمة معه إلى الكسوة، وبكر صلاح الدّين يوم الاثنين انسلاخ الشهر وسار في موكب قوى بالعدد والعدد، وحسب أن يمتنع عليه البلد، وأن الأطراف توثق، والأبواب تغلق، فأقبل وهو يسوق، وإقباله يشوق، حتى دخل دمشق وخرقها، وكان الله تعالى له خلقها؛ ودخل إلى دار العقيقي مسكن أبيه، وبقي جمال الدين ريحان الخادم في القلعة على تأبِّيه، فراسله حتى استماله، وأغزر له نواله، وتملك المدينة والقلعة. ونزل بالقلعة سيف الإسلام أخو السّلطان صلاح الدين، وملك ابن المقّدم داره وكل ما حواليها، وبذل له طلبته التي أشار إليها ونص عليها؛ وأظهر صلاح الدين أنه جاء لتربية الملك الصالح، وحِفْظ مَالَه من المصالح، وتدبير ملكه، فهو أحقّ بصيانة حقّه.
واجتمع به أعيانها، وخلص لولاية إسرارها وإعلانها، وأصبح وهو سلطانها. وزاره القاضي كمال الدين بن الشهرزوري فوفاه حقّه من الاحترام، ووفّر له حظ التبجيل والإعظام.
ونفذت الكتب بالأمثلة الفاضلية إلى مصر، بهذا الفتح والنصر، وفي بعضها: " يوم وصولنا إلى بصرى وقبله وفدت وهاجرت، وتزاحمت وتكاثرت، وتوافت، الأمراء، والأجناد الأتراك، والأكراد، والعربان، ورجال الأعمال، وأعيان الرجال. وورد كتاب من دمشق بعد كتاب، وكلٌّ مخبر وذاكر، وهو غائب بكتابه حاضر، يذكر أن البلاد ممكنة القياد، مذعنة إلى المراد. وأمّا الفرنج، خذلهم الله، فإنا في هذه السفرة المباركة نزلنا في بلادهم نزول المتحكم، وأقمنا بها إقامة الحاضر المتخير، وأدلجنا وعيونهم متناومة، وحُزْنا وأنوفهم راغمة، ووطئنا ورقابهم صغر، ومررنا وعيشهم مر؛ والله يزيدهم ذلاً، ويجعل عداوة الإسلام في صدورهم غِلاًّ، وفي أعناقهم غُلاًّ " .
وفي كتاب آخر: " وكان رحيلنا من بصرى يوم الأربعاء الرابع والعشرين من ربيع الأول، وقد توجه صاحبها بين أيدينا قائما بشروط الخدمة ولوازمها. ثم لقينا الأجل ناصر الدين، ابن المولى أسد الدين شيركوه رحمة الله عليه وأدام نعمته، والأمير سعد الدين ابن أثر، في يوم السبت السابع والعشرين. ونزلنا يوم الأحد بجسر الخشب والأجناد الدمشقية إلينا متوافية، والوجوه على أبوابنا مترامية، ولم يتأخر إلا من أبقى وجهه وراقب صاحبه، ومن اعتقد بالقعود أنه قد نظر لنفسه في العافية. ولما كان يوم الاثنين الناسع والعشرين من الشهر ركبنا على خيرة الله تعالى، وعرض دون الدخول عدد من الرجال فدعستهم عساكرنا المنصورة وصدمتهم، وعرفتهم كيف يكون اللقاء وعلمتهم. ودخلنا البلد واستقرت بنا دار والدنا رحمة الله عليه قريرة عيوننا، مستقرا سكون الرعية وسكوننا، وأذعنا في أرجاء البلد النداء بإطابة النفوس وإزالة المكوس. وكانت الولاية فيهم قد ساءت وأسرفت، واليد المتعدية قد امتدت إلى أحوالهم وأجحفت، فشرعنا في امتثال أمر الشرع برفعها، وإعفاء الأمة منها بوضعها.
قال ابن الأثير: لما خاف من دمشق من الأمراء أن يقصدهم كمشتكين والملك الصالح من حلب فيعاملهم بما عامل به بني الداية راسلوا سيف الدين غازي ليسلموها إليه فلم يجبهم، فحملهم الخوف على أن راسلوا صلاح الدين يوسف بن أيوب بمصر؛ وكان كبيرهم في ذلك شمس الدين بن المقدم، ومن أشبه أباه فما ظلم. فلما أتته الرسل لم يتوقف وسار إلى الشام، فلما وصل دمشق سلمها إليه من بها من الأمراء، ودخلها وايتقرّ بها، ولم يقطع خطبة الملك الصالح، وإنما أظهر " أني إنما جئت لأخدمه واسترد له بلاده التي أخذها ابن عمه " . وجرت أمور آخرها أنه اصطلح هو وسيف الدّين والملك الصالح على ما بيده.
وقال القاضي ابن شداد: لما تحقق صلاح الدين وفاة نور الدين وكون ولده طفلا لاينهض بأعباء الملك ولا يستقل بدفع عدو الله عن البلاد، تجهّز للخروج إلى الشام، إذ هو أصل بلاد الإسلام؛ فتجهزّ بجمع كثير من العساكر، وخلّف بالديار المصرية من يستقل بحفظها وحراستها، ونظم أمورها وسياستها؛ وخرج هو سائرا مع جمع من أهله وأقاربه وهو يكاتب أهل البلاد وأمراءها. واختلف كلمة اصحاب الملك الصالح واختلت تدبيراتهم، وخاف بعضهم من بعض، وقبض البعض على جماعة منهم، وكان ذلك سبب خوف الباقين ممن فعل ذلك وسببا لتنفير قلوب النّاس عن الصبي. فاقتضى الحال أن كاتب ابنُ المقدم صلاح الدين، فوصل إلى البلاد مطالبا بالملك الصالح ليكون هو الذي يتولى أمره ويربّ حاله. فدخل دمشق يوم الثلاثاء سلخ ربيع الآخر، وكان أوّل دخوله إلى دار أبيه. واجتمع الناس إليه، وفرحوا به، وأنفق في ذلك اليوم في النّاس مالا طائلا، وأظهر الفرح والسرور بالدمشقيين وأظهروا الفرح به. وصعد القلعة واستقرّ قدمه في ملكها، فلم يلبث أن سار في طلب حلب، فنازل حمص وأخذ مدينتها في جمادى الأولى، ولم يشغل بقلعتها، وسار حتى أتى حلب ونازلها سلخ جمادى المذكور وهي الدفعة الأولى.
وقال ابن أبي طيّ: بلغ السلطان أن ابن المقدم نقض عهد الملك الصالح وهو كان السبب في خروج سيف الدّين صاحب الموصل واسيلائه على البلاد الشرقية ومضايقته للملك الصالح في ممالكه. وقيل إن ابن المقدم كاتب السلطان ودعاه إلى الخروج. وقيل إنما خرج إلى الشام خوفا من حركة تنشأ من جانب الفرنج بسبب اختلاف أمراء الشام وشغل بعضهم ببعض، وبجواب ممُض ورد من ابن المقدم إليه. ولما تيقن ابن المقدم خروج السّلطان إلى جهة دمشق أشفق من ذلك واستدرك مابدا منه، وتذلل له، ووعده تسليم دمشق إليه.
قال: ولما حصل على دمشق وقلعتها، واستوطن بُقعتها، نشر علم العدل والإحسان، وعّفى أثار الظلم والعدوان، وأبطل ماكان الولاة استجدوه بعد موت نور الدين من القبتئح والمنكرات، والمؤن والضرائب المحرمات.
قلت: وكان قد كتب إليه أسامة بن منقذ قصيدة بعد مصاف عسقلان أولها:
تهنّ ياأطول الملوك يداً ... في بسط عدلٍ وسطوةٍ وندى
أجراً وذكرا من ذلك الشكرُ في الدّ ... نيا، ومن ذلك الجنانُ غدا
لاتستقلَّ الذي صنعت، فقد ... قمت بفرض الجهاد مجتهدا
وجستُ أرض العدا، وأفنيت من ... أبطالهم ما يجاوز العددا
وما رأينا غزا الفرنج من ال ... ملوك في عقر دارهم أحدا
فسر إلى الشام فالملائكة ال ... أبرارُ تلقاك جَمْعهم مددا
فهو فقير إليك، يأملُ أنْ ... تُصلح بالعدل منه ما فسدا
والله يعطيك فيه عاقبة الن ... صر كما في كتابه وعدا
فما حباك الورى، وألهمك ال ... عْدل، وأعطاك ماملكت سدى
ومدح وحيش الأسدي صلاح الدّين عند أخذه دمشق بقصيدة أولها:
قد جاءك النصر والتوفيق فاصطحبا ... فكن لأضعاف هذا النصر مرتقبا
لله أنت صلاح الدين من أسد ... أدنى فريسته الأيام إن وثبا
رأيت جلّق ثغراً لانظير له ... فجئتها عامراً منها الذي خربا
نادتك بالذل لما قلّ ناصرها ... وأظمع الخلق من أوطانها هربا
أحييْتها مثل ما أحييت مصر، فقد ... أعدت من عدلها ماكان قد ذهبا
هذا الذي نصر الإسلام فاتضحت ... سبيله، وأهان الكفر والصُّلبا
ويوم شاور، والإيمانُ قد هزمت ... جيوشه، كان فيه الجحفل اللجبا
أبت له الضيم نفس مرّة ويد ... فعالة، وفؤاد قطّ ماوَجَبا
يستكثر المدح يتلى في مكارمه ... زهدا، ويستصغر الدّنيا إذا وهبا
ويوم دمياط و الإسكندرية قد ... أصارهم مثلاً في الأرض قد ضربا
والشام لو لم يدارك أهله اندرست ... آثاره وعفت آياته حقبا
فصل فيما جرى بعد فتح دمشق من فتح حمص وحصار حلبقال ابن أبي طيّ: لما أتصل بمن في حلب حصول دمشق للملك الناصر وميل الناس إليه، وانعكافهم عليه، خافوا وأشفقوا وأجمعوا على مراسلته، فحّملوا قطب الدين ينال بن حسان رسالة أرعدوا فيها وأبرقوا، وقالوا له: هذه السيوف التي ملكّتك مصر بأيدينا، والرماح التي حويت بها قصور المصريين على أكتافنا، والرّجال التي ردّت عنك تلك العساكر هي ترّدك، وعمّا تصديت له تصدّك؛ وأنت فقد تعدّيت طورك، وتجاوزت حدك، وأنت أحد غلمان نور الدين وممن يجب عليه حفظه في ولده.
قال: ولما بلغ السلطان وُرُود ابن حسان عليه رسولاً تلّقاه بموكبه وبنفسه، وبالغ في إكرامه والإحسان إليه؛ ثم أحضره بعد ثالثة لسماع الرسالة منه. فلما فاه ابن حسان بتلك الشقاشق الباطلة، وقعقع بتلك التمويهات العاطلة، لمُ يُعره السّلطان رحمه الله طرفاً ولاسمعا، ولارد عليه خفضاً ولارفعا، بل ضرب عنه صفحا وتغاضيا، وترك جوابه إحسانا وتجافيا، وجرى في ميدان أريحيته، واستن في سنن مرؤته، وخاطبه بكلام لطيف رقيق، وحياطة الجمهور، وسدّ الثغور، وتربية ولد نور الدين، وكف عادية المعتدين. فقال له ابن حسان: إنك إنما وردت لأخذ الملك لنفسك، ونحن لانطاوعك على ذلك، ودون ماترونه خرط القتاد، وفتّ الأكباد، وإيتام الأولاد. فتبسم السلطان لمقاله، وتزايد في احتماله، وَأَوْمى إلى رجاله بإقامته من بيد يديه، بعد أن كاد يسطو عليه.
ونادى في عسكره بالاستعداد لقصد الشام الأسفل، ورحل متوجها إلى حمص فتسلم البلد، وقاتل القلعة ولم ير تضييع الزمان عليها، فوكل بها من يحصرها؛ ورحل إلى جهة حماة، فلما وصل إلى الرَّسْتَن خرج صاحبها عز الدين جرديك، وأمر من فيها من العسكر بطاعة أخيه شمس الدّين على وأتباع أمره. وسار جرديك حتى لقي السلطان واجتمع به بالرَّسْتَن وأقام عنده يوما وليلة؛ وظهر من نتيجة اجتماعه به أنه سلم إليه حماة وسأله أن يكون السّفير بينه وبين من بحلب، فأجابه السلطان إلى مراده؛ وسار إلى حلب وبقي أخو جرديك بقلعة حماة.
قال: وسار جرديك إلى حلب وهو ظانّ أنه فعل شيئا وحصّل عند من بحلب يدا، فاجتمع بالأمراء والملك الصالح، وأشار عليهم بمصالحة الملك الناصر؛ فاتهمه الأمراء بالمخامرة، وردوّا مشورته، وأشاروا بقبضه؛ فامتنع الملك الصالح. ولجّ سعد الدين كمشتكين في القبض عليه، فقبض وثقل بالحديد، وأخذ بالعذاب الشديد، وحمل إلى الجب الذي فيه أولاد الداية.
قال: ولما قدم جرديك وشدّ في وسطه الحبل وأدلى إلى الجب وأحس به أولاد الداية قام إليه منهم حسن وشتمه أقبح شتم، وسبه ألأم سب، وحلف بالله إن أنزل إليهم ليَقْتُلنه فامتنعوا من تدليته، فأُعلم سعد الدين كمشتكين فحضر إلى الجبّ وصاح على حسن وشتمه وتوّعده، فسكن حسن وأمسك، وأنزل جرديك الجبّ، فكان عند أولاد الداية، وأسمعه حسن كل مكروه.
قال: وكتب أبي إلى حلب حين أتصل به قبض أولاد الداية وجرديك، وكانوا تعصّبوا عليه حتى نفاه نور الدين من حلب، قصيدة منها:
بُنو فلانة أعوان الضّلالة قد ... قضى بذلهم الأفلاك والقدر
وأصبحوا بعد عزّ الملك في صفد ... وقعر مظلمة يغشى لها البصر
وجرّد الدهر في جرديك عزّمته ... والدهر لا ملجاٌ منه ولاوزر
قال: ولم يزل السلطان مقيما على الرَّسْتَن، ثم طال عليه الأمر، فسار إلى جباب التركمان، فلقيه أحد غلمان جرديك وأخبره بما جرى على جرديك من الاعتقال والقهر، فرحل السلطان من ساعته عائداً إلى حماة، وطلب من أخي جرديك تسليم حماة إليه، وأخبره بما جرى على أخيه، ففعل؛ وصعد السلطان إلى قلعة حماة واعتبر أحوالها، وولاها مبارز الدين عليّ بن أبي الفوارس، وذلك مستهل جمادى الآخر.
وسار السلطان إلى حلب ونزل على أنف جبل جوشن فوق مشهد الدكة ثالث جمادى وامتدت عساكره إلى الخناقية وإلى السعدى. وكان من بحلب يظنون أن السلطان لايقدم عليهم، فلم يرعهم إلا وعساكره قد نازلت حلب، وخيمته تضرب على جبل جوشن، وأعلامه قد نشرت؛ فخافوا من الحلبيين أن يسلموا البلد كما فعل أهل دمشق، فأرادوا تطييب قلوب العامة، فأشير على ابن نور الدين أن يجمعهم في الميدان ويقبل عليهم بنفسه ويخاطبهم بلسانه أنهم الْوَزَرُ والملجأ. فأمر أن ينادى باجتماع الناس إلى ميدان باب العراق، فاجتمعوا حتى غصّ الميدان بالناس، فنزل الصالح من باب الدرجة وصعد من الخندق، ووقف في رأس الميدان من الشمال وقال لهم: ياأهل حلب أنا ربيبكم ونزيلكم، واللاّجئ إليكم، كبيركم عندي بمنزلة الأب، وشابكم عندي بمنزلة الأخ، وصغيركم عندي يحل محل الولد. قال: وخنقته العبرة، وسبقته الدمعة، وعلا نشيجه؛ فافتتن الناس وصاحوا صيحة واحدة، ورموا بعمائمهم، وضجوا بالبكاء والعويل، وقالوا: نحن عبيدك وعبيد أبيك، نقاتل بين يديك، ونبذل أموالنا وأنفسنا لك؛ وأقبلوا على الدعاء له والترحم على ابيه.
وكانوا قد اشترطوا على الملك الصالح أنه يعيد إليهم شرقية الجامع يصّلون فيها على قاعدتهم القديمة وأن يُجهر بحيّ على خير العمل والأذان والتذكير في الأسواق؛ وقدّام الجنائز بأسماء الأئمة الاثنى عشر، وأن يصلوا على أمواتهم خمس تكبيرات، وأن تكون عقود الأنكحة إلى الشريف الطاهر أبي المكارم حمزة بن زهرة الحسني، وأن تكون العصبية مرتفعة، والناموس وازع لمن أراد الفتنة؛ وأشياء كثيرة اقترحوها مما كان قد أبطله نور الدين رحمه الله. فأجيبوا إلى ذلك.
قال ابن أبي طيّ: فأذن المؤذنون في منارة الجامع وغيره بحيّ على خير العمل وصلى أبي في الشرقية مسبلاً، وصلى وجوه الحلبيين خلفه، وذكروا في الأسواق وقدّام الجنائز بأسماء الأئمة، وصلوا على ألموات خمس تكبيرات، وأذن للشريف في أن تكون عقود الحلبيين من الإمامية إليه، وفعلوا جميع ما وقعت الأيمان عليه.
فصلقال ابن أبي طيّ: وكانت هذه السنة شديدة البرد كثيرة الثلوج عظيمة الأمطار هائجة الأهوية؛ وكان السلطان قد جعل أولاد الداية عُلالة له وسببا يقطع به ألسنة من ينكر عليه الخروج إلى الشام وقصد الملك الصالح، ويقول: أنا إنما أتيت لاستخلاص أولاد الداية وإصلاح شأنهم.
وأرسل السلطان إلى حلب رسولا يعرّض بطلب الصلح، فامتنع كمشتكين، فاشتد حينئذ السلطان في قتال البلد.
وكانت ليالي الجماعة عند الملك الصالح لاتنقضي إلا بنصب الحبائل للسلطان والفكرة في مخاتلته وإرسال المكروه إليه. فأجمعوا آراءهم على مراسلة سنان صاحب الحشيشية في إرصاد المتالف للسلطان ولإرسال من يفتك به، وضمنوا له على ذلك أموالا جمة وعدة من القرى. فأرسل سنان جماعة من فتاك أصحابه لاغتيال السلطان، فجاءوا إلى جبل جوشن واختلطوا بالعسكر، فعرفهم صاحب بوقبيس لأنه كان مثاغراً لهم، فقال لهم: يا ويلكم: كيف تجاسرتم على الوصول إلى هذا العسكر ومثلي فيه! فخافوا غائلته فوثبوا عليه فقتلوه في موضعه، وجاء قوم للدفع عنه فجرحوا بعضهم وقتلوا البعض. وبدر من الحشيشية أحدهم وبيده سكينة مشهورة ليقصد السلطان ويهجم عليه، فلما صار إلى باب الخيمة اعترضه طغريل أمير جاندار، فقتله، وطُلب الباقون فقتلوا بعد أن قتلوا جماعة.
قال: ولما فات من بحلب الغرض من السلطان بطريق الحشيشية كاتبوا قمص طرابلس وضمنوا له أشياء كثيرة متى رحلَّ السلطان عن حلب. وكان لعنه الله في أسر نور الدين منذ كسرة حارم، وكان قد بذل في نفسه الأموال العظيمة فلم يقبلها نور الدين. فلما كان قبل موت نور الدين سعى له فخر الدين مسعود بن ازعفراني حتى باعه نور الدين بمبلغ مائة وخمسين ألف دينار وفكاك ألف أسير.
واتفق في أول هذه السنة موت ملك الفرنج صاحب القدس وطبرية وغيرهما، فتكفل هذا القمص بأمر ولده المجذوم فعظم شأنه وزاد خطره. فأرسل إلى السلطان في أمر الحلبيين، وأخبره الرّسول أنّ الفرنج قد تعاضدوا وصاروا يدا واحدة، فقال السلطان: لست ممن يرهب بتألب الفرنج وها أنا ا سائر إليهم. ثم أنهد قطعة من جيشه وأمرهم بقصد أنطاكية، فغنموا غنيمة حسنة وعادوا؛ فقصد القمص جهة فرحل السلطان من حلب إليها، فسمع الملعون فنكص راجعا إلى بلاده، وحصل الغرض من رحيل السلطان عن حلب، ووصل إلى حمص فتسلم القلعة ورتب فيها واليا من قبله.
قال: وفي فتح قلعة حمص يقول العماد الكاتب من قصيدة، وستأتي:
إياب ابن أيوب نحو الشآم ... على كلّ ما يرتجيه ظهور
بيوسف مصر وأيامه ... تقرّ العيون وتشفى الصّدور
رأت منك حمص لها كافيا ... فواتاك منها القويّ العسير
ومن كتاب فاضليّ عن السلطان إلى زين الدين بن نجا الواعظ يقول في وصف قلعة حمص: والشيخ الفقيه قد شاهد ما يشهد به كونها نجما في سحاب، وعُقابا في عقاب، وهامة لها الغمامة عمامة، وأنملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال منها قلامة، عاقدة حبوة صالحها الدهر على ألا يحلها بقرعه، عاهدة عصمة صافحها الزمن على ألا يروعها بخلعه. فاكتنفت بها عقارب منجنيقات لاتطبع طبع حمص في العقارب، وضربت حجارة بها الحجارة فأظهرت فيها العداوة المعلومة بين الأقارب؛ فلم يكن غير ثالثة من الحد إلا وقد أثرت فيها جدريا بضربها، ولم تصل السابع إلا والبحران منذرٌ بنقبها. واتسع الخرق على الراقع، وسقط سعدها عن الطالع، إلى مولد من هو إليها الطالع؛ وفُنحت الأبراج فكانت أبوابا، وسيُرت الجبال بها فكانت سرابا. فهنالك بدت نُقوب يرى القائم من دونها ما وراءها، وحُشيت فيها النار فلولا الشعاع من الشعاع أضاءها.
ومن كتاب آخر فاضلي عن السلطان إلى أخيه العادل: قد اجتمع عندنا إلى هذه الغاية ما يزاحم سبعة آلاف فارس، وتكاثفت الجموع إلى الحدّ الذي يخرج عن العَّدَّ. وبَعْد أن نُرَتِّب أحوال حمص، حرسها الله تعالى، نتوجه إلى حماة؛ والله المعين على ماننويه من الرّشاد، وننظفه من طرق الجهاد.
وقال العماد: لما سمع المدبّرون للملك الصالح بإقبال صلاح الدين المؤذن بإدبارهم، سُقط في أيديهم، وراسلوا المواصلة وكاتبوهم، وأرسلوا إلى صلاح الدين بالإغلاظ والإحفاظ. وكان الواصل منهم قطب الدّين ينال بن حسان، وقد تجنب في قوله الإحسان، وقال له هذه السيوف التي ملكتك مصر، وأشار إلى سيفه، إليها تردُّك، وعمَّا تصدّيت له تصدك. فحلم عنه السلطان واحتمله، وتغافل كرماً وأغفله، وخاطبه بما أبى أن يقبله، وذكر أنه وصل لترتيب الأمور، وتهذيب الجمهور، وسدّ الثغور، وتربية ولد نور الدين، واستنقاذ إخوة مجد الدين. فقال له: أنت تريد الملك لنفسك، ونحن لاننزع في قوسك، ولانأنس بأنسك، ولانرتاع لجرسك، ولانبنى على أُسِّك؛ فارجع حيث جئت، أو أجهد واصنع ماشئت؛ ولاتطمع فيما ليس فيه مطمع، ولاتطلع حيث مالسعودك فيه مطلع. ونال من تقطيب القطب ينال، كلّ ما أحال الحال، وأبلى البال، وأبدى له التبسم وأخفى الاحتمال.
ثم إنه استناب أخاه سيف الإسلام طغتكين بدمشق، وسار بالعسكر ونزل على حمص، فأخذها يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الأولى، وامتنعت القلعة فأقام عليها من يحصرها. ورحل إلى حماة، فأخذها مستهلّ جمادى الآخرة.
ثم مضى ونزل على حلب، فحصرها ثالث الشهّر؛ فلمَّا اشتد على الحلبيين الحصار، وأعوزهم الانتصار، استغاثوا بالاسماعيلية وعيّنوا لهم ضياعا، وبذلوا لهم من البذول أنواعا، فجاء منهم في يوم شات، من فُتاكهم كل عات؛ فعرفهم الأمير ناصح الدّين خمارتكين صاحب بوقبيس، وكان مثاغرا للاسماعيلية، فقال لهم: لأي شئ جئتم، وكيف تجاسرتم على الوصول وماخشيتم! فقتلوه، وجاء من يدفع عنه فأثخنوه، وعدا أحدهم ليهجم على السلطان في مقامه، وقد شهر سكين انتقامه، وطغريل أمير جاندار واقف ثابت، ساكن ساكت، حتى وصل إليه، فشمل بالسيَّف رأسه، وما قتل الباقون حتى قتلوا عدة، ولاقى من لاقاهم شدة.
وعصم الله حشاشته في تلك النوبة من سكاكين الحشيشية، فأقام إلى مستهل رجب، ثم رحل إلى حمص بسبب أن الحلبيين كاتبوا قومص طرابلس، وقد كان في أسر نور الدين مذ كسرة حارم، وبقي في الأسر أكثر من عشر سنين، ثم فدى نفسه بمبلغ مائة ألف وخمسين ألف دينار، وفكاك ألف أسير، فتوجه في الإفرنجية إلى حمص، فلما سمع بالسلطان رجع ناكصا على عقبيه،خوفا مما يقع فيه ويتم عليه.
ومن كتاب فاضلي عن السلطان إلى العادل: " قد أعلمنا المجلس أن العدوَّ، خذله الله، كان الحلبيون قد استنجدوا بصلبانهم، واستطالوا على الإسلام بعدوانهم، وأنه خرج إلى بلد حمص؛ فوردنا حماة، وأخذنا في ترتيب الأطلاب لطلبه ولقاه. فسار إلى حصن الأكراد متعلقا بحبله مفتضحاً بحيله. وهذا فتح تفتح له أبواب القلوب، وظفر وإن كان قد كفى الله تعالى فيه القتال المحسوب، فإن العدو قد سقطت حشمته، وانحطت فيه همته، وولى ظهراً كان صدره يصونه، ونكسّ صليبا كانت ترفعه شياطينه " .
وقال العماد في الخريدة: لما خيّم السلطان بظاهر حمص قصده المهذب بن أسعد بقصيدة أولها:
مانام بعد البين يستحلى الكرى ... إلا ليطرقه الخيال إذا سرى
كَلِف بقربكم، فلما عاقه ... بعد المدى سلك الطريق الأخضرا
ومودع أمر التفرُّقُ دمعه ... ونهته رقبُة كاشح فتحيرا
ومنها في المديح:
تُردى الكتائب كتبُه، فإذا غدت ... لم يُدْرَ: أنفذ أسطراً أم عسكرا!
لم يحسن الإتراب فوق سطورها ... إلا لأن الجيش يعقد عثيرا
فقال القاضي الفاضل لصلاح الدّين: هذا الذي يقول:
*والشعر مازال عند الترك متروكا*
فعجَّل جائزته لتكذيب قوله وتصديق ظنِّه، فشرِّفه وجمع له بين الخلعة والضَّيْعة. وعني الفاضل ماقاله في قصيدته في مدح الصالح بن رزيك التي أولها:
*أما كفاك تلافي في تلافيكا*
يقول فيها:
ياكعبة الجود، إن الفقر أقعدني ... ورقّة الحال عن مفروض حجيكا
من أرتجى، ياكريم الدَّهر، ينعشني ... جدواه، إن خاب سعيي في رجائيكا
أأمدح التُّرك أبغى الفضل عندهم ... والشِّعر مازال عند التُّرك متروكا!
أم أمدح السُّوقة النوكي لرفدهم ... وَاضَيْعَتَا إن تخطتني أياديكا!
لاتتركني، وما أملَّت في سفري ... سواك، أقفلُ نحو الأهل صعلوكا
قلت: وقد مضى ذكر ابن أسعد هذا في أخبار سنة ثمان وخمسين، وسيأتي من شعره أيضا في أخبار سنة ست وسبعين، وثمان وسبعين.
وما أحسن ما خرج ابن الدهان من الغزل إلى مدح ابن رزيك في قوله من قصيدة أولها:
إذا لاح برق من جنابك لامع ... أضاء لواشٍ ماتُجنُّ الأضالع
يقول فيها:
تمادى بنا في جاهلية نحلها ... وقد قام بالمعروف في الناس شارع
وتحسب ليل الشحّ يمتدّ بعدما ... بدا طالعا شمس السخاء طلائع
فصلثم أرسل السلطان الخطيب شمس الدّين بن الوزير أبي المضاء إلى الديوان العزيز برسالة ضمنها القاضي الفاضل كتابا طويلا رائقا فائقا، يشتمل على تعداد ماللسلطان من الأيادي من جهاد الإفرنج في حياة نور الدين، ثم فتح مصر واليمن، وبلادٍ جمةٍ من أطراف المغرب، وإقامة الخطبة العباسية بها. يقول في أوله للرسول: فإذا قضى التسليم حق اللقاء، واستدعى الإخلاص جهد الدعاء، فلْيُعد وليعدّض حوادث ماكانت حديثاً يفترى، وجواري أمور إن قال فيها كثيرا فأكثر منه ماقد جرى؛ وليشرح صدرا منها لعله يشرح منا صدرا، وليوضح الأحوال المستسرة فإن الله لايعبد سرا:
ومن الغرائب أن تسير عرائب ... في الأرض لم يعلم بها المأمول
كالعيس: أقتل مايكون لها الصدى ... والماء فوق ظهورها محمول
فإنا كنا نقتبس النار بأكفنا وغيرنا يستنير، ونستنبط الماء بأيدينا وسوانا يستمير؛ ونلقى السهام بنحورنا وغيرنا يعتمد التصوير، ونصافح الصفاح بصدورنا وغيرنا يدعى التصدير. ولابد أن نسترد بضاعتنا بموقف العدل الذي تُرد به الغصوب، وتظهر طاعتنا فنأخذ بحظ الألسن كما أخذنا بحظ القلوب. وما كان العائق إلا أنا كنّا ننتظر ابتداءً من الجانب الشريف بالنعمة، يضاهي ابتداءنا بالخدمة، وإنجاباً للحق، يشاكل إنجابنا للسبق. كان أول أمرنا أنا كنا في الشام نفتتح الفتوح مباشرين بأنفسنا، ونجاهد الكفار مُتقدمين لعساكرنا، نحن ووالدنا وعمنا. فأي مدينة فُنحت، أو معقل مُلك، أو عسكر للعدو كُسر، أو مصاف للإسلام معه ضرب ولم نكن فيه. فما يجهل أحد صنعنا، ولايجحد عدونا أنا نصطلي الجمرة ونمك الكرة، ونتقدم الجماعة، ونُرتب المقاتلة، وندبر التعبئة، إلى أن ظهرت في الشام الآثار التي لنا أجرها، ولايضرنا أن يكون لغيرنا ذكرها.
وكانت أخبار مصر تتصل بنا بما الأحوال عليه فيها من سوء تدبير، وبما دولتها عليه من غلبة صغير على كبير، وأن النظام بها قد فسد، والإسلام بها قد ضعف عن إقامته كل من قام وقعد. والفرنج قد احتاج من يدبرها إلى أن يقاطعهم بأموال كثيرة، لها مقادير خطيرة؛ وأن كلمة السنة بها وإن كانت مجموعة فإنها مقموعة، وأحكام الشريعة وإن كانت مسماة فإنها متحاماة. وتلك البدع بها على مايعلم، وتلك الضلالات فيها على مايفتى فيه بفراق الإسلام ويحكم؛ وذلك المذهب قد خالط من أهله اللحم والدم، وتلك الأنصاب قد نصبت آلهة تُعبد من دون الله وتعظم وتفخم؛ فتعالى الله عن شبه العباد، وويل لمن غرّه تَقَلُّبُ الذَيِنَ كَفَرُوا في البلادِ. فسمت همتنا دون همم أهل الأرض إلى أن نستفتح مُقفلها، ونسترجع للإسلام شاردها، ونعيد على الدين ضالته منها. فسرنا إليها في عساكر ضخمة، وجموع جمة،وبأموال انتهكت الموجود، وبلغت منا المجهود، أنفقناها من حاصل ذممنا وكسب أيدينا، وثمن اسارى الفرنج الواقعين في قبضتنا؛ فعرضت عوارض منعت، وتوجهت للمصريين رسل باستنجاد الفرنج قطعت، ولكلّ أجلٍ كتابُ، ولكلّ أمل باب. وكان في تقدير الله تعالى أنا نملكها على الوجه الأحسن، ونأخذها بالحكم الأقوى الأمكن، غدر الفرنج بالمصريين غدرة في هدنة عظم خطبها وخبطها، وعلم أن استئصال كلمة الإسلام محطها. فكاتبنا المسلمون من مصر في ذلك الزمان، كما كاتبنا المسلمون في الشم في هذا الأوان، بأنا إن لم ندرك الأمر وإلا خرج عن اليد، وإن لم ندفع غريم اليوم لم نمهل إلى الغد. فسرنا بالعساكر المجموعة، والأمراء الأهل المعروفة، إلى بلاد قد تمهد لنا بها أمران، وتقرر لنا في القلوب وُدان: الأول ماعلموه من إيثارنا للمذهب الأقوم، وإحياء الحقّ الأقدم؛ والآخر مايرجونه من فك أسارهم؛ وإقالة عثارهم. ففعل الله ماهو أهله، وجاء الخبر إلى العدو فانقطع حبله، وضاقت به سبله، وأفرج عن الديار بعد أن كانت ضياعها ورساتيقها، وبلادها وأقاليمها، قد نفذت فيها أوامره، وخفقت عليها صلبانه، ونصبت بها أوثانه، وأُيس من أن يسترجع ماكان بأيديهم حاصلا، وأن يُستنقذ ماصار في ملكها داخلا. ووصلنا البلاد وبها أجناد عددهم كثير، وسوادهم كبير، وأموالهم واسعة، وكلمتهم جامعة، وهم على حرب الإسلام أقدر منهم على حرب الكفر، والحيلة في السّر فيهم أنفذ من العزيمة في الجهر؛ وبها راجل من السودان يزيد على مائة ألف، كلهم أغنام أعجام، إنْ هُمْ إلا كَاْلأَنْعَام، لايعرفون ربَّا إلا ساكن قصره، ولاقبلة إلا مايتوجهون إليه من ركنه، وامتثال أمره؛ وبها عسكر من الأرمن باقون على النصرانية، موضوعة عنهم الجزية، كانت لهم شوكة وشكة، وحمة وحمية؛ ولهم حواشٍ لقصورهم من بياع داعٍ تتلطف في الضلال مداخله، وتصيب القلوب مخاتله، ومن بين كُتاب تفعل أقلامهم أفعال الأسل، وخُدام يجمعون إلى سواد الوجوه سواد النحل؛ ودولة قد كبر نملها الصغير، ولم يعرف غيرها الكبير، ومهابة تمنع من خطرات الضمير فكيف بخطوات التدبير. هذا إلى استباحة للمحارم ظاهرة، وتعطيل للفرائض على عادةٍ جاريةٍ جائرة، وتحريفٍ للشريعة بالتأويل، وعدول إلى غير مُراد الله بالتنزيل، وكفر سُمي بغير اسمه، وشرعٍ يتستر به ويحكم بغير حكمه. فما زلنا نسحتهم سحت المبادر للشفار، ونتحيفهم تحيُّف الليل والنهار، بعجائب تدبير لاتحتملها المساطير، وغرائب تقدير لا تحملها الأساطير، ولطيف توصّل ماكان من حيلة البشر ولاقدرتهم لولا إعانة المقادير. وفي أثناء ذلك استنجدوا علينا الفرنج، دفعة إلى بلبيس ودفعة إلى دمياط، وفي كلّ دفعة منهما وصلوا بالعدد المجهر، والحشد الأوقر، وخصوصا في نوبة دمياط، فإنهم نزلوها بحراً في ألف مركب، مقاتل وحامل، وبرَّا في مائتي ألف فارس وراجل، وحصروها شهرين يباركونها ويراوحونها، ويماسونها ويصابحونها، القتال الذي يصلبه الصليب، والقراع الذي ينادى به الموت من كلّ مكان قريب. ونحن نقاتل العدوين الباطن والظاهر، ونصابر الضَّررين المنافق والكافر، حتى أتى الله بأمره، وأيدنا بنصره، وخابت المطامع من المصريين والفرنج، وشرعنا في تلك الطوائف من الأرمن والسودان والأجناد، فأخرجناهم من القاهرة، تارةً بالأوامر المرهقة لهم، وتارةً بالأمور الفاضحة منهم، وطوراً بالسيوف المجردة، وبالنار
المحرقة، حتى بقي القصر ومن به من خدم ومن ذرّية قد تفرّقت شيعه، وتمزقت بدعه، وخفتت دعوته، وخَفِيت ضلالته؛ فهنالك تم لنا إقامة الكلمة، والجهر بالخطبة، والرفع للواء الأسود المعظم، وعاجل الله الطاغية الأكبر بهلاكه وفنائه، وبرأنا من عُهدة يمين كان إثم حنثها أيسر من إثم إبقائه، لأنه عوجل لفرط روعته، ووافق هلاك شخصه هلاك دولته. ولما خلا درعنا، ورحب وسعنا، نظرنا في الغزوات إلى بلاد الكفار، فلم تخرج سنة إلا عن سنة أقيمت فيها برا وبحرا، مركبا وظهرا، إلى أن أوسعناهم قتلا وأسرا، وملكنا رقابهم قهرا وقسرا، وفتحنا لهم معاقل ما خطر أهل الإسلام فيها منذ أُخذت من أيديهم، ولا أُوجفت عليها خيلهم ولاركابهم مذملكها أعاديهم. فمنها ما حكمت فيه يد الخراب، ومنها ما أستولت عليه يد الاكتساب، ومنها قلعة بثغر أيلة كان العدوّ قد بناها في بحر الهند، وهو المسلوك منه إلى الحرمين واليمن، وغزا ساحل الحرم، فساء منه خلقا، وخرق الكفر في هذا الجانب خرقا، فكادت القبلة أن يستولى على أصلها، ومشاعر الله أن يسكنها غير أهلها، ومقام الخليل عليه السلام؛ أن يقوم به من ناره غيرُ برْدٍ وسلام، ومضجع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتطرقه من لايدين بما جاء به من الإسلام. فأخذت هذه القلعة وصارت معقلا للجهاد، وموئلا لسُفار البلاد، وغيرهم من عبّاد العبا).رقة، حتى بقي القصر ومن به من خدم ومن ذرّية قد تفرّقت شيعه، وتمزقت بدعه، وخفتت دعوته، وخَفِيت ضلالته؛ فهنالك تم لنا إقامة الكلمة، والجهر بالخطبة، والرفع للواء الأسود المعظم، وعاجل الله الطاغية الأكبر بهلاكه وفنائه، وبرأنا من عُهدة يمين كان إثم حنثها أيسر من إثم إبقائه، لأنه عوجل لفرط روعته، ووافق هلاك شخصه هلاك دولته. ولما خلا درعنا، ورحب وسعنا، نظرنا في الغزوات إلى بلاد الكفار، فلم تخرج سنة إلا عن سنة أقيمت فيها برا وبحرا، مركبا وظهرا، إلى أن أوسعناهم قتلا وأسرا، وملكنا رقابهم قهرا وقسرا، وفتحنا لهم معاقل ما خطر أهل الإسلام فيها منذ أُخذت من أيديهم، ولا أُوجفت عليها خيلهم ولاركابهم مذملكها أعاديهم. فمنها ما حكمت فيه يد الخراب، ومنها ما أستولت عليه يد الاكتساب، ومنها قلعة بثغر أيلة كان العدوّ قد بناها في بحر الهند، وهو المسلوك منه إلى الحرمين واليمن، وغزا ساحل الحرم، فساء منه خلقا، وخرق الكفر في هذا الجانب خرقا، فكادت القبلة أن يستولى على أصلها، ومشاعر الله أن يسكنها غير أهلها، ومقام الخليل عليه السلام؛ أن يقوم به من ناره غيرُ برْدٍ وسلام، ومضجع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتطرقه من لايدين بما جاء به من الإسلام. فأخذت هذه القلعة وصارت معقلا للجهاد، وموئلا لسُفار البلاد، وغيرهم من عبّاد العبا).
ثم قال: وكان باليمن ماعلم من ابن مهدي الضال الملحد، المبدع المتمّرد، وله آثار في الإسلام، وثأر طالبه النبيّ عليه الصلاة والسلام، لأنه سبى الشرائف الصالحات، وباعهن بالثمن البخس، واستباح منهن كل مالا يقر لمسلم عليه نفس؛ ودان ببدعة، ودعا إلى قبر أبيه وسماه كعبة، وأخذ أموال الرّعايا المعصومة وأجاحها، وأحلّ الفروج المحرّمة وأباحها. فأنْهَضْنا إليه أخانا بعسكرنا بعد أن تكلفنا نفقات واسعة، وأسلحة رائعة؛ وسار فأخذناه ولله الحمد، وأنجح الله فيه القَصْد؛ والكلمة هنالك بمشيئة الله إلى الهند سامية، وإلى ما يفْتَضّ الإسلام عذرته متمادية.
ولنا في الغرب أثر أغرب، وفي أعماله أعمال دون مطلبها مهالك كما يكون المهلك دون المطلب؛ وذلك أن بنى عبد المؤمن قد اشتهر أنّ أمْرَهم قد أَمِر، وملكهم قد عُمِر، وجيوشهم لاتطاق، وأمرهم لايشاقّ، ونحن بحمد الله قد تملكنا مما يجاورنا منه بلادا تزيد مسافتها على شهر، وسيرنا إليها عسكرا بعد عسكر، فرجع بنصر بعد نصر. ومن البلاد المشاهير، والأقاليم الجماهير: برقة، قَفْصة، قسطيلية، تَوْزَر؛ كلّ هذه تقام فيها الخطبة لمولانا الإمام المستضئ بأمر الله، أمير المؤمنين، سلام الله عليه؛ ولاعهد للإسلام بإقامتها، وينفذ فيها الأحكام بعلمها المنصور وعلامتها.
وفي هذه السنة كان عندنا وفْدُ قد شاهده وفود الأمصار، ورموه بأسماع وأبصار، مقداره سبعون راكبا، كلّهم يطلب لسلطان بلده تقليدا، ويرجو منا وعدا ويخاف وعيدا؛ وقد صدرت عنا بحمد الله تقاليدها، وألقيت إلينا مقاليدها، وسيَّرنا الخلع والمناشير والألوية، بما فيها من الأوامر والأقضية. فأما الأعداء المحدقون بهذه البلاد، والكفار الذين يقاتلوننا بالممالك العظام والعزائم الشّداد، فمنهم صاحب قسطنطينية، وهو الطاغية الأكبر، والجالوت الأكفر، وصاحب المملكة التي أكلت على الدّهر وشربت، وقائم النصرانية الذّي حكمت دولته على ممالكها وغلبت، جَرَت لنا معه غزوات بحرية، ومناقلات ظاهرة وسّرية، ولم نخرج من مصر إلى أن وصلتنا رسله في جمعة واحدة نَوْبتين، بكتابين، كلّ واحدٍ منهما يظهر فيه خفض الجناح، وإلقاء السلاح، والانتقال من معاداة إلى مهاداة، ومن مفاضحة إلى مناصحة، حتى إنه أنذر بصاحب صقلية وأساطيله التي ترّدد ذكرها، وعساكره التي لم يخف أمرها.
ومن هؤلاء الكفار هذا صاحب صقلية، كان حين علم بأن صاحب الشام وصاحب قسطنطينية قد اجتمعا في نوبة دمياط فغلبا وقُسرا، وهزما وكُسرا، أراد أن يظهر قوته المستقلة، فعمر أسطولا استوعب فيه ماله وزمانه، فله الآن خمس سنين تكثُر عِدّته، وتنتحب عُدّته، إلى أن وصل منها في السنة الحالية إلى الإسكندرية أمر رائع، وخطب هائل، مااثقل ظهر البحر مثل حمله، ولا ملأ صدره مثل خيله ورَجْله؛ وماهو إلا إقليم، بل أقاليم، وجيش ما احتفا ملك قط بنظيره لولا أن الله خذله.
ومن هؤلاء الجيوش البنادقة، والباشنة، والجنوبية كلّ هؤلاء تارةً يكونون غزاةً لاتُطاق ضراوة ضرّهم، ولاتُطفأ شرارة شرّهم، وتارةً يكونون سُفّاراً يحتكمون على الإسلام في الأموال المجلوبة، وتقصر عنهم يد الأحكام المرهوبة، ومامنهم إلا من هو الآن يجلب إلى بلدنا آلة قتاله وجهاده، ويتقرب إلينا بإهداء طرائف أعماله وتلاده؛ وكلهم قد قُرّرت معهم المواصلة، وانتظمت معهم المسالمة، على ما نريد ويكرهون، وعلى مانؤثرُ وَهُمْ لايؤثرون.
ولما قضى الله سبحانه بالوفاة النورية، وكنا في تلك السنة على نيّة الغزاة، والعساكر قد تجهزت، والمضارب قد برزت، ونزل الفرنج على بانياس، وأشرفوا على اجتيازها ورأوها فرصة مدُّوا يَدَ انتهازها، استصرخ بنا صاحبها، فسرنا مراحل اتصل بالعدوّ أمرها، وعوجل بالهدنة الدمشقية التي لولا مسيرنا ما انتظم حكمها.
ثم عدنا إلى البلاد وتوافت إلينا الأخبار بما المملكة النورية عليه من تشعُّب الآراء وتوزعها، وتشتُّت الأمور وتقطعها، وأن كلّ قلعة قد حصل فيها صاحب، وكلّ جانب قد طمح إليه طالب، والفرنج قد بنوا قلاعا يتحيفون بها الأطراف الإسلامية، ويضايقون بها البلاد الشامية، وأمراء الدولة النورية قد سجن كبارهم، وعُوقبوا وصودروا، والمماليك الأعماد الذين خدموا الأطراف لا الصدور، وجعلوا للقيام لا للقعود في المجلس المحضور، قد مدُّوا الأيدي والأعين والسيوف، وسارت سيرتهم في الأمر بالمنكر والنهيّ عن المعروف، وكلّ واحد يتخذ عند الفرنج يداً، ويجعلهم لظهره سندا. وعلمنا أن البيت المقدس إن لم تتيسرّ الأسباب لفتحه، وأمر الكُفر إن لم يُجرد العزم في قلعه، وإلا نبتت عروقه، واتسعت على أهل الدين خُروقه؛ وكانت الحجة لله قائمة، وهمم القادرين بالقعود آثمة. وإنا لانتمكن بمصر منه مع بعد المسافة، وانقطاع العمارة، وكلال الدواب التي بها على الجهاد القوة، وإذا جاورناه كانت المصلحة بادية، والمنفعة جامعة، واليد قادرة، والغزوة ممكنة، والميرة متسعة، والخيل مستريحة، والعساكر كثيرة الجموع، والأوقات مساعدة. وأصلحنا ما في الشام من عقائد معتّلة، وأمور مختلة، وأراء فاسدة، وأمراء متحاسدة؛ وأطماع غالبة، وعقول غائبة، وحفظنا الولد القائم بعد أبيه، فأنا به أولى من قوم يأكلون الدّنيا باسمه، ويُظهرون الوفاء في خدمته، وهم عاملون بظلمه.
والمراد الآن هو كلّ ما يقوّي الدولة، ويؤكد الدعوة، ويجمع الأمة، ويحفظ الألفة، ويضمن الرأفة، ويفتح بقية البلاد؛ وأن يطبق بالاسم العباسي كل ما تطيقه العهاد، وهو تقليد جامع بمصر، واليمن، والمغرب، والشام، وكل ما تشتمل عليه الولاية النورية، وكلّ ما يفتحه الله تعالى للدولة العباسية بسيوفنا وسيوف عساكرنا، ولمن نقيمه من أخ أو ولد من بعدنا، تقليدا يضمن للنعمة تخليدا، وللدعوة تجديدا، مع ما ينعم به نمن السّمات التي فيها الملك. وبالجملة فالشام لاينتظم أموره بمن فيه، والبيت المقدس ليس له قرنٍ يقوم به ويكفيه، والفرنج فهم يعرفون منا خصما لايملّ الشر حتى يملّوا، وقرناً لايزال محرم السيف حتى يحلوا. وإذا شد رأينا حسن الرأي ضربنا بسيف يقطع في غمده، وبلغنا المنى بمشيئة الله تعالى ويّدُ كلّ مؤمن تحت برده، واستنقذنا أسيراً من المسجد الذي أسرى الله إليه بعبده.
ومن كتاب آخر فاضليّ عن السلطان إلى الدّيوان في تعداد ماله من الأيادي؛ قال: " والذي أجراه الله على يد المملوك من الممالك التي دوخها، وسنن الضلال التي نسخها، وعقود الإلحاد التي فسخها، ومنابر الباطل التي رَحَضَها، وحجج الزندقة التي دحضها؛ فلله عليه المنة فيه إذْ أهلَّه لشرف مشهده، ومافعله إلا لوجهه، ويدُ الله كانت عون يده؛ وإلا فقد مضت الليالي والأيام على تلك الأمور وما تحركت للفلك في قلعها نابضة، وغبرت الأحوال على تلك البدعة وما ثرت لأفراسها رابضة. فشكر يد الله تعالى فيما أجراه على يده منها، أن يجتهد في أخرى مثلها في الكفار، وقد عاد الإسلام إلى وطنه، وصوّحت من الكفر خضراء دمنه " .
ومن كتاب آخر للفاضل يذكر فيه إعادة صلاح الدين الخطبة بمصر للدولة العباسية يقول فيه: " حتى أتى الدّنيا ابن بجدتها، فقضى من الأمر ماقضى، وأسخط من الله في سُخطه رضا، وجعل وجه لابس السواد مُبيضا، فأدرك لهم بثأرٍ نامت عنه الهمم، ودوّخت عليه الأمم، وشفى الصدور، وجاء بالحق إلى من غره بالله الغرور، واستبضع إلى الله تعالى تجارة لن تبور " .
ومن كتاب آخر: قد بورك للخادم في الطاعة التي لبس الأولياء شعارها، وأمضى في الأعداء شغارها، وجمع عليها الدين وكان أديانا، واستقامت بها القلوب على صبغة التكلف وكانت ألوانا.
ومن كتاب آخر: لم يكن سبب خروج المملوك من بيته إلا وعد كان انعقد بينه وبين نور الدين رحمه الله تعالى في أن يتجاذبا طرفي الغزاة من مصر والشام، المملوك بعسكري برّه وبحره، ونور الدين من جانب سهل الشام ووعره. فلما قضى الله بالمحتوم على أحدها، وحدثت بعد الأمور أمور، اشتهرت للمسلمين عورات وضاعت ثغور، وتحكمت الآراء الفاسدة، وفُورقت المحاج القاصدة، وصارت الباطنية بطانة من دون المؤمنين، والكفار محمولة إليها جزى المسلمين؛ والأمراء الذين كانوا للإسلام قواعد، وكانت سيوفهم للنصر موارد، يشكون ضيق حلقات الأسار، وتطرق الكفار بالبناء في الحدود الإسلامية. ولاخفاء أن الفرنج بعد حلولنا بهذه الخطة قاموا وقعدوا، واستنجدوا أنصار النصرانية في الأقطار، وسيروا الصليب ومن كسى مذابحهم بقمامة، وهددوا طاغية كفرهم بأشراط القيامة، وأنفذوا البطارقة والقسيسين، برسائل صور من يصورّونه ممن يسمونهم القديسين؛ وقالوا إن الغفلة إن وقعت فيما لايستدرك فارطه. وإن كلا من صاحب قسطنطينية، وصاحب صقلية، وملك الألمان، وملوك ما وراء البحر، وأصحاب الجزائر، كالبندقية، والبشانية، والجنوبية، وغيرهم، قد تأهبوا بالعمائر البحرية، والأساطيل القوية. وللإسلام بأمير المؤمنين أعزُّ ناصر، لاسيما وهم ينصرون باطلا وهوينصر حقا، وهو يعبد خالقاً وهم يعبدون خلقا
فصلقال العماد: وكنت بالموصل فسئلت نظم مرثية في نور الدين، فنظمت بعد عوْدي إلى دمشق في رجب:
الدّين في ظُلَم لغيبة نوره ... والدهر في غُمم لفقد أميره
فليندبُ الإسلامُ حامي أهله ... والشام حافظ ملكه وثغوره
ما أعظم المقدار في أخطاره ... إذ كان هذا الخطب في مقدوره!!
ماأكثر المتأسفين لفقد مَنْ ... قَرَّتْ نواظرهم بفقد نظيره
ماأعوص الإنسان في نسيانه ... أو ماكفاه الموت في تذكيره؟
مَن للمساجد والمدارس بانيا ... لله طوعا عن خلوص ضميره
من ينصر الإسلام في غزواته ... فلقد أصيب برُكنه وظهيره
مَنْ للفرنج، ومن لأسر ملوكها ... من للْهُدى يبغي فكاك أسيره
من للخطوب مذلِّلاً لجماحها ... من للزمان مُسَهّلا لوعوره
من كاشفُ للمعضلات برأيه ... من مشرقٌ في الداجيات بنوره
من للكريم، و من لنعش عثاره ... منْ لليتيم، ومن لجبْر كسيره
من للبلاد، و من لنصر جيوشها ... من للجهاد، ومن لحفظ أموره
منْ للفتوح محاولا أبكارها ... برَواحه في غزوه وبُكوره
منْ للعلا وعُهودها، منْ للندى ... ووفوده، منْ للحِجا ووفوره
ماكنت أحسب نور الدين دين محمد ... يخبو وليل الشّرك في ديجوره
أعْزِزْ عليّ بليث غابٍ للهدى ... يخلو الشرى من زوره وزئيره
أعْزِزْ عليّ بأنْ أراه مُغّيباً ... عنْ محفل متشرف بحضوره
لهفي على تلك الأنامل، إنها ... مُذْ غّيبت غاض النّدى ببحوره
ولقد أتى منْ كنت تُجري رسمه ... فضع العلامة منك في منشوره
ولقد أتى منْ كنت تُؤمن سربه ... وقِّع له بالأمن مِنْ محذوره
ولقد أتى منْ كنت تؤثر قربه ... فأدم له التّقريب في تقريره
والجيش قد ركب الغداة لعرضه ... فاركب لتُبْصِرَه أوَانَ عبوره
أنت الذَّي أحييت شرع محمد ... وقضيت بعد وفاته بنشُوره
كم قد أقمت من الشريعة مَعْلما ... هو مُنْذ غبت معرّضٌ لِدثُوره
كم قد أمرت بحفر خندق معقلٍ ... حتى سكنت اللّحد في محفوره
كم قيصرٍ للرُّوم رُمت بقسره ... إرْواء بيض الهند من تاموره
أُوتيت فتح حصونه، ومَلَكتَ عُقْ ... رَ بلاده، وسبيت أهل قصوره
أزَهِدت في دار الفناء وأهلها ... ورَغبت في الخلد المقيم وحُوره
أوَ ماوعدت القدس أنك منْجزٌ ... ميعاده في فتحه وظهوره
فمتى تجير القدس من دنس العِدا ... وتقدِّس الرّحمن في تطهيره
ياحاملين سريره: مهلاً، فمن ... عجبٍ نهوضُكم بحمْل ثبيره؟
ياعابرين بنعشه: أَنَشَقْتُمُ ... من صالح الأعمال نشر عبيره؟
نزلت ملائكة السّماء لدفنه ... مستجمعين على شفير حفيره
ومن الجفاء له مُقامي بعده ... هلاّ وفيت وسرت عند مسيره
حيّاك معتّل الصِّبا بنسيمه ... وسَقاك مُنْهلُّ الحَيْا بدُروره
ولبست رضوان المهْيمن ساحباً ... أذيال سُنْدس خزّه وحريره
وسكنت عِّلِّيين في فردوسه ... حلْف المسّرة ظافرا بأجوره
قال العماد: وجاء نجاب إلى الموصل وذكر أنه فارق صلاح الدين بقرب دمشق بالكسوة وهو الآن يستكمل من ملك دمشق الحُظوة؛ فهاجني الطرب لقصده، لسابق معرفته وقديم ودّه؛ فقدمت دمشق على طريق البرية، والسلطان على حلب.
وكان العماد في عقابيل ألم، فلما شُفي وعاد السّلطان إلى حمص قصده فيها وقد تسلم قلعتها في شعبان، في الحادي والعشرين منه.
قال: وكنت نظمت قصيدة في الشوق إلى دمشق والتأسف عليها، ثم جعلت مدح السّلطان مخلصها، وهي طويلة، أولها:
أجيران جيرون مالي مجير ... سوى عطفكم، فاعدلوا أوْ فَجُورا
ومالي سوى طيفكم زائر ... فلا تمنعوه إذا لمْ تزوروا
يعزّ علي بأن الفؤاد ... لديكم أسيرٌ وعنكم أسير
وماكنت أعلم أني أعي ... شُ بعد الأحبة، إني صَبُور!
وفتْ أدمعي، غير أنّ الكرى ... وقلبي، وصبري، كلُّ غَدُور
إلى ناس باناس لي صبوةٌ ... لها الوجد داعٍ وذكرى مثير
يزيد اشياقي وينمو، كما ... يزيد يزيد، وَ ثَوْرا يثور
ومن بردى بَرْدُ قلبي المشوق ... فها أنا من حره مستجير
و بالمرج مرْجُوُّ عْيشي الذي ... على ذكره العذْب عيشي مرير
فقدتكم ففقدت الحياة ... ويوم اللقاء يكون النّشور
تطاول لسؤالي عند القصير ... فعن نيله اليوم باعي قصير
وكن لي بريداً بباب البريد ... فأنت بأخبار شوقي خبير
متى تجد الرى بالقريتين ... خوامص أثر فيها الهجير
ونحو الجليجل أُزْجى المطيَّ ... لقد جلّ هذا المرام الخطير
تراني أُنيخ بأدنى ضمير ... مطايا براها الوجا والضمور
وعند القطيفة المشتهاة ... قُطوف بها للأماني سفور
ومنها بُكوري نحو القُصَير ... ومنية عمري ذاك البكور
ويا طِيب بُشراي من جلق ... إذا جاءني بالنجاح البشير
ويستبشر الأصدقاء الكرامُ ... هنالك بي، وتُوفي النذور
ترى بالسلامة يوما يكون ... بباب السلامة منّي عبور
وإن جوازي بباب الصغير ... لَعَمْري من العُمر حظّ كبير
وما جنة الخلد إلا دمشق ... وفي القلب شوق إليها سعير
ميادينها الخضر فيحّ الرّحاب ... وسلسالها العذب صافٍ نمير
وجامعها الرّحب والقُبّة الْ ... مُنيفة والفلك المستدير
وفي قبّة النسر لي سادة ... بهم للمكارم أفق منير
وباب الفراديس فرْدوسها ... وسُكانها أحسن الناس حور
والارزة فالسّهم فالنيربان ... فجنات مزتها فالكفور
كأن الجواسق مأهولةً ... بروجٌ تَطَّلعُ منها البدور
بنيربها تستبير الهموم ... بربوتها يتربى السّرور
وماغرّ في الرّبوة العاشقي ... ن بالحسن إلاّ الرّبيب الغرير
وعند المغارة يوم الخميس ... أغار على القلب منيّ مغير
وعند المنْيبع عين الحياة ... مدى الدهر نابعة ماتفور
بجسر ابن شواش ثمَّ السكون ... لنفس، بنفسي تلك الجسور
وما أنسَ لاأنْس أُنْس العبور ... على جسر جسرين إني جسور
وكمْ بتّ ألْهو بقرب الحبي ... ب في بيت لِهْيا ونام الغيور
فأين اغتباطيَ بالغوطتين ... وتلك الليالي وتلك العصور
وأشجار سطرا بدت كالسطو ... ر، نمقَهُنّ البليغ البصير
وأيْن تأملْت فُلكٌ يدور ... وعينٌ تفورُ، وبحرٌ يمور
وأين نظرت نسيمٌ يرِقّ ... وزهرٌ يروق، وروضٌ نضير
إلا القساوة يا قاسيون ... وبين السّنا يتجلّى سَنير
ومُنْذُ ثَوى نوُ دين الإل ... ه لم يبق للدّين والشّام نور
وللنّاس بالملك النّاصر الصَّ ... لاح صلاحٌ ونصرٌ وخير
هو الشمس، أفلاكه في البلاد ... ومطلعه سرجه، والسّرير
إذا ماسطا، أو حبا، واحتبى ... فما الليث، من حاتمٌ، ماثبير
بيوسف مصر وأيامه ... تقر العيون وتُشفى الصّدور
ملكت فأسْجح، فما للبلاد ... سواك مجيرٌ ومولى نصير
وفي مِعْصم الملك للعزّ منك ... سوارٌ، ومنك علي الديِّن سُور
لك الله في كل ما تبتغيه ... بحقٍ ظهيرٌ، ونعم الظّهير
أما المفسدون بمصر عصْوك ... وهذي ديارهم اليوم قور
أما الأدعياء بها إذ نشطت ... لإبعادهم زال منك الفتور
ويوم الفرنج إذا ما لقوك ... عبُوس برغمهم قمطرير
نهوضاً إلى القديس يشفى الغليل ... بفتح الفتوح، وماذا عسير
سَلِ الله صعب الخطوب ... فهو على كل شئ قدير
إليك هجرت ملوك الزمان ... فمالك، والله، فيهم نظير
وفجرك فيه القرا والقُران ... جميعاً، وفجر الجميع الفجور
وأنت تريق دماء الفرنج ... زعندهم لاتراق الخمور
فصل في فتح بعلبكقال العماد: ولما فرغ السلطان من حمص وحصنها سار إلى بعلبك، فتسلمها في رابع شهر رمضان.
قال ابن أبي طيّ: وكان بها خادم يقال له يمن، فلما شاهد كثرة عساكر السّلطان اضطرب في أمره وراسل مَنْ بحلب على جناح طائر، فلم يرجع إليه منهم خبر؛ فطلب الأمان، وسلم بعلبك إلى السلطان.
قال العماد: وهنأته بأبيات منها:
بفتوح عصرك يَفْخر الإسلام ... وبنُور نصرك تُشرق الأيام
وبفتح قلعة بعلبك تهذّبت ... هذي الممالك واستقام الشّام
وبكى الْحسُود دماً، وثغر الثّغر، من ... فرح بنصرك للهدى، بَسَّام
فتح تَسنّى في الصيّام، كأننا، ... شكرا لما منح الإله، صيام
من ذا رأى في الصّوم عيد سعادة ... حلّت لنا والفطر فيه حرام
أسدي صلاح الدّين والدّنيا يداً ... بنوالها سوقُ الرّجاء تقام
فتملّ فتحك، واقصد الفتح الَّذي ... بحصوله لفتُوحك الإتمام
دُمْ للعُلا حتى يدوم نظامها ... واسلْم يعزَّ بنصرك الإسلام
قال: ولزمت خدمته أرحل برحيله وأنزل بنزوله. وكنت ليلةً عنده وهو يذكر جماعة من شعراء الزمان، وعنده ديوان الأمير مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن سديد الملك علي بن منقذ، وهو به مشغوف، وخاطره على تأمله موقوف، وإلى استحسانه مصروف. وقد استحسن قصيدة له طائية لو عاش الطائيان لأقرَّا بفضلها، وإن خواطر المبتكرين لتقصر عن مثلها. على أنّ الشّعراء المحدثين مامنهم إلا من نظم على رويّها ووزنها، واستمد خصب خاطره من مُزنها، فمنهم المعري، وابن أبي حصينة، والأرَّجاني، والصالح ابن رزيك. وقد أوردت جميعها في كتاب الخريدة. ومطلع قصيدة المعرّي:
لمن جيرة سيموا النوال فلم ينطوا
فنظمت في السلطان ونحن على بعلبك بتاريخ انسلاخ شعبان قصيدة طائية، منها:
عفا الله عنكم، مالكم أيها الرّهط ... قسطتم، ومن قلب المحبّ لكم قسط!
شرطتم لنا حفظ الوداد وخنتم ... حنانيكم؛ ماهكذا الودّ والشرط!
جعلتم فؤاد المُسْتهام بكم لكم ... محطا، فعنه ثقل همكم حُطّوا
ملكتم فأنكرتم قديم موَّدتي ... كأن لم يكن في البين معرفة قطّ
فدت مهجتي من لايذّم لمهجتي ... إذا حاكمته، وهو في الحكم مشتط
وما كنت أدري قبل سطوة طرفه ... بأن ضعيفاً فاترا مثله يسطو
وأهيف للإشفاق من ضعف خصره ... يحلُّ نطاقا للقلوب به ربط
يلازم قلبي في الهوى القبض، مثلما ... يلازم كفَّ النَّاصر الملك البسط
مليكٌ حوى الملك العقيم بضبطه ... كريمٌ، وما للمال في يده ضبط
إذا لُثمت أيدي الملوك، فعنده ... مدى الدَّهر، إجلالاً له، ثلم البسط
عنا لك طويا نيلُ مصر، ودجلةُ الْعِراق، ودان العُرب، والعُجم، والقبط
وللنيل شطٌ ينتهي سيبه به ... ونَيْلُك للرَّاجين نِيلٌ ولا شطُّ
عدوُّك مثل الشّمع، في نار حقده ... له عنق إصلاح فاسده القط
وهي ثمانية وثمانون بيتا.
ولسعادة الأعمى قصيدة طائية في السلطان سيأتي ذكرها.
قال العماد: ولما وصلتُ إلى السلطان، ورغبت منه في الإحسان، وجدته لأمري مُغْفلا، ولشُغلي مهمى؛ ثم عرفت أنّ حسّادي قالوا له: متى أعدت ديوان الكتابة إلى العماد، وهو لاشكّ بمحل الوثوق والاعتماد، وهذا منصب الأجل الفاضل، وهو عنده في أجل المنازل، ربما ضاق صدره، وتشعّث سرّه. فلما عرفت هذا المعنى، لجأت إلى الفضل الفاضليّ لأنه به يعنى؛ فقام بأمري، ونوّه بقدري، وأراح سرّي، وشدّ أزري.
فصل فيما جرى للْمَوَاصلة والحلبييّن مع السُّلطان في هذه السّنة
قال ابن شداد: ولما أحسّ سيف الدين صاحب الموصل بما جرى، علم أن الرّجل قد استفحل أمره، وعظم شأنه، وعَلَت كلمته، وخاف أنه إن غفل عنه استحوذ على البلاد واستقرّ قدمه في الملك وتعدّى الأمر إليه. فجهز عسكرا وافراً وجيشاً عظيماً، وقدّم عليهم أخاه عز الدين مسعوداً، وساروا يريدون لقاء السلطان وضرب المصاف معه وردّه عن البلاد. فوصل إلى حلب والسلطان بحمص، وانضم إليه من كان بحلب من العسكر وخرجوا في جمع عظيم. ولما عرف السّلطان بمسيرهم سار حتى وافاهم بقرون حماة، وراسلهم وراسلوه، واجتهد أن يُصالحم فما صالحوه، ورأوا أنّ المصاف ربما نالوا به الغرض الأكبر، والمقصود الأوفر، والقضاء يجرّ إلى أمورٍ وهم بها لايشعرون. وقام المصاف بين العسكرين، فقضى الله تعالى أن انكسروا بين يديه، وأَسر جماعة منهم، ومنّ عليهم وأطلقهم؛ وذلك عند قرون حماة في تاسع عشر شهر رمضان.
ثمّ سار عقيب انكسارهم ونزل على حلب، وهي المدافعة الثانية وصالحوه على أن أخذ المعرّة، وكفر كاب، وبارين.
وقال العماد: لما تسلم السلطان قلعة بعلبك عاد إلى حمص وقد وصل عز الدين مسعود، أخو صاحب الموصل، إلى حلب نجدة. ولما عرفوا أن السلطان مشغول بالحصون جاءوا إلى حماة فحصروها وراسلوا في الصلح؛ فقدم السلطان في خف من اصحابه، وجاء كُمُشتكين وابن العجمي وغيرهما، وأجابهم السلطان إلى ماطلبوا، وأن يردّ عليهم الحصون، وأن يقنع بدمشق نائباً عن الملك الصالح وله خاطباً، وعلى الانتماء إليه مواظباً، وأن يردّ كلّ ما أخذه من الخزانة، وأن يسلك فيه سبيل الأمانة. فلّما رأوه مجيباً لكلّ ما يلتمس منه وهو في عسكر خفيف قالوا ما خبره صحيح، فشرعوا في الاشتطاط، وطلبوا الرّحبة وأعمالها؛ فقال هي لابن عمي ناصر الدّين محمد بن شيركوه، وكيف أُلحق به في رضاكم المكروه. فنفروا وجفلوا وأصبحوا على الرحيل إلى جانب العاصي قريبا من شيرز، وجمعوا العسكر وأظهروا أنهم على المصاف وعزم الانتصاف. فعبَّر السّلطان إلى سفح قرون حماة خيامه، وركز على مقابلتهم أعلامه؛ ووصل العسكر المصريّ في عشرة من المقدّمين منهم فرخشاه، وأخوه تقيّ الدّين. والتقوا، فهزمهم السلطان ونزل في منزلتهم.
قال العماد: ومما نظمت في هذه الوقعة في مدح ناصر الدين محمد بن شيركوه قصيدة، فقد كان له فيها عناء وبلاء حسن، منها:
ولَقَدْ ألِفتُ نِفارها وهَوَيْتها ... إذ ليس يُنكر للظبّاء نفار
ياجارةً للقلب جائرة: دَعِى ... ظُلمي، وإلاّ قلتُ: جار الجار
قلبي كطرفي مايفقي إفاقة ... سكران، مادارت عليه عقار
صَبُّ بصب الدمع، محترق الحشا ... خطرت ببال بلائه الخطار
لم يخْش من خطر الهوى حتى حمى ... ذاك القوام شبيه الخطار
يذرى الدموع كأنهنّ عوارفٌ ... لاِبْن المملّك شيركوه غزار
من آل شادي الشائدين بنا العلا ... أركانهن لهاذمٌ وشفار
حسنت بهم للدولة الأيام وال ... أعمال، والأحوال، والآثار
قد حاز ملك الشام يوسفٌ الذّي ... في مصر تغبط عصره الأعصار
نصرَ الهُدى فتوطد الإسلام في ... أيامه، وتضعضع الكفار
لما لقيت جموعهم منظومة ... صيرت ذاك النظم وهو نثار
في حالتي جُودٍ وبأسٍ لم يزل ... للتّبر والأعداء مِنْك تبار
تهبَ الألوف ولاتهاب ألوفهم ... هان العدوّ عليك والإنْبار
لما جرى العاصي هنالك طائعا ... بدمائهم فخرت به الأنهار
وتحطمت عند القرون قرونهم ... بل كلّت الأنياب والأظفار
عبروا المعر مالكين معرّة ... والعار يملك تارة ويعار
أو ماكفاهم يوم حمص وكفّهم ... في بعلبك بمثلها الإنذار
قال: وهنأت الملك المظفر تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب بقصيدة، منها:
لاتُفن من فرق الفراق الأدمعا ... فهي الشهود على الغرام المدّعى
واستبق صبرك ما استطعت، فإنه ... عون لقلبك إن هُما ثبتا معا
قلبٌ أصابته العيون، ولم يزل ... من مسّها بالهاجسات مرّوعا
ماباله قد صدّ عند صدودهم ... عنّي، ولما ودّعوني ودعا
ومن التحيّر أنني أبصرته ... في ظعنهم، وسألت عنه الأضلعا
أصبحت إذ شيّعتهم لثلاثة ... صبري، وغمضي، والفؤاد، مشيعا
ومنها:
أو ما أتقيتم حين رُعْتُم سربه ... فيه تقيّ الدين، ذاك الأروعا
عمر بن شاهنشاه من هو عامرٌ ... أركان ملك الشام حين تضعضعا
خضع العدوّ وذلّ بعد تعزز ... لكم، وحق عدوكم أن يخضعا
من معشر غر يرون جميع ما ... لم يبذلوه في السَّماح مضيعا
في مصر واليمن اجتلينا منهم ... في عصرنا تبعا ليوسف تُبعا
الحاويان بملك مصر ومكةٍ ... والشام واليمن الحظايا الأربعا
لما عصى الأعداء بالعاصي جرى ... بدمائهم طوعا سيولا دُفَّعا
وقال ابن أبي طي: لما نسلم السلطان بعلبك وأزاح عللها، عاد إلى حمص ونزل بها، فاتصل به ورود عزّ الدين مسعود، أخي سيف الدين صاحب الموصل، نجدةً للملك الصالح. وكان سبب وروده أن جماعة من أمراء حلب لما كان السلطان نازلا على حلب أجمعوا آراءهم وكاتبوا سيف الدين وألزموه نجدة ابن عمه، وأخبروه أن السلطان متى ملك حلب لم يكن له قصد إلا الموصل؛ وأرسلوا بذلك أمين الدين هاشماً خطيب حلب، وقطب الدين ينال بن حسان وغرس الدين قليج.
وكان سيف الدين منازلا لسنجار وفيها أخوه عماد الدين بن زنكي، وكان عماد الدين قد أظهر الانتماء إلى السلطان، فأنجده السلطان بقطعة من جيشه فكسرهم، ونهبهم عماد الدين بهم وبعسكره.
فلما وصلت رسالة الحلبيين إلى سيف الدين صالح أخاه عماد الدين وحشد عسكره وأنفذ يجيبهم مع أخيه عز الدين مسعود، فورد حلب بعد رحيل السلطان عنها إلى بعلبك؛ فاغتنم الحلبيون بُعد السلطان عنهم فاحتشدوا وخرجوا جميعاً حتى خيموا على حماة وأخذوا في حصارها. واتصل بالسلطان ذلك فرحل من بعلبك إلى حمص، وبلغ عز الدين فعاد عن حماة ونزل قريبا من جباب التركمان إلى جهة العاصي إلى قريب من شيزر. وأرسل النائب بحماة، علي بن أبي الفوراس، يقول له إنما وصلت في إصلاح الحال ووضع أوزار القتال، وسأله مكاتبة السلطان فيما يجمع الكلمة ويلم شعب الفرقة. فكتب ابن أبي الفوارس بذلك إلى السلطان وحَسَّن له الصُّلح، وتلطف في ذلك غاية التلطف.
وقدم أبو صالح بن العجمي وسعد الدين كمشتكين لطلب الصلح، فأجابهما السلطان إلى ما أرادا، وتقرر الأمر على أنه يرد إليهم جميع الحصون والبلاد، ويقنع بدمشق وحدها، ويكون نائبا للملك الصالح. فلما عاين سعد الدين إجابة السلطان إلى الصلح والنزول عن جميع الحصون التي أخذها: حمص وحماة وبعلبك، طمع في جانب السلطان وتجاوز الحد في الاقتراح، وطلب الرحبة وأعمالها. فقال: هي لابن عمي ولاسبيل إلى أخذها. فقام سعد الدين من بين يديه نافرا، وكان ذلك برأي أبي صالح ابن العجمي لأنه كان معه، فاجتهد السلطان به أن يرجع فلم يفعل، وخرج إلى عز الدين مسعود، وكان بعدُ نازلا على حماة، وحدثه مادار بينه وبين السلطان وهون عليه أبو صالح أمر السلطان وأخبره بقلّة من معه.
وكان السلطان لما كوتب في أمر الصلح سار في خفّ من أصحابه، فلما علموا بذلك طمعوا في جانبه وعوّلوا على لقائه وانتهاز الفرصة في أمره؛ فكاتب باقي أصحابه واستعدّ لحربهم، وسار إلى أن نزل على قرون حماة، وأخذ في مدافعة الأيام حتى يقدم عليه باقي عسكره. ورسلهم في التلطف للأحوال، فلم ينجح فيهم حال. وكانوا في كلّ يوم يعزمون على لقائه وقتاله، فيبطل عزيمتهم بمراسلة يفتعلها، تسويفا للأوقات وتقطيعا للزمان، حتى يقدم عليه عسكره. وكانت هيبته قد ملأت صدور القوم، ولولا ذلك لكانوا قد ناهزوا الفُرصة ونالوا منه الغرض.
قال: وفي يوم الأحد تاسع عشر رمضان التقوا، ولم يكن بعد وصل السلطان من عسكره أحد؛ فتجمع أصحاب السلطان كردوسا واحدا، وأخذوا يحملون يمنة ويسرة ويدافعون الأوقات رجاء أن يتصل بهم بعض العسكر. وضرى عسكر حلب والعسكر الموصليّ على أصحاب السلطان حين شاهدوا قلتهم واجتماعهم، وكاد أصحاب السلطان يولون الإدبار، فوصل تقي الدين عمر عند الحاجة إليه لتمام سعادة السلطان، فإنه لو تأخر ساعة انكسر عسكره؛ فوصل تقيّ الدين في عسكر مصر وجماعة من الأمراء وهم غير عالمين بأن الحرب قائمة. فلما رأوا الناس في الكرّ، والضرب الهبر، حملوا جميعا بعد أن افترقوا في اليمنة واليسرة، فصدموا عسكر الموصل صدمة ضعضعتهم.
وكان السلطان في هذه المدة قد كاتب جماعة من عسكرهم واستفسدهم إليه، وحمل إليهم الأموال. وهذا هو الذي أبطأ بهم إلى أن وصلت عساكره، وإلا لو كان عسكر حلب نصح لم يقدر السلطان على الثبوت ساعة. فلما اشتد القتال لم ينصح الجماعة التي كاتبها السلطان بل كانوا مثبطين مخوفين لمن قرُب منهم. ثم إنهم بعد ذلك انهزموا وتبعهم عسكر السلطان واستباحوا أموالهم وخيامهم، وأمر السلطان أصحابه ألا يوغلوا في طلبهم ولايقتلوا من رأوه منهزما ولا يذففوا على جريح. ورحل حتى نزل في منزلتهم.
ثم سار من وقته مجداً حتى نزل بمرج قرا حصار، ولم يزل هناك حتى عيّد عيد الفطر، فجاءته رسل الملك الصالح يسألونه المهادنة وأن يُقرّر الملك الصالح على ما في يده وماهو جارٍ تحت حكمه من الشام الأسفل إلى بلد حماة، فلم يرض بذلك، فجعلوا له مع حماة المعرة وكفر طاب، فرضى بذلك وحلف على نسخة رأيتها وعليها خطه.
قال: وكان في جماعة اليمين أنه متى قصد الملك الصالح عدوٌّ حضر بنفسه وجيوشه ودافع عنه، وألا يغَّر الدّعاء له من جميع منابر البلاد التي تحت يد السلطان وولايته وولاية أصحابه، وأن تكون السكة باسمه.
ولما حلف السلطان والملك الصالح وأمراؤه عاد السلطان قاصدا دمشق. فلما وصل إلى حماة وصلت إليه رسل الخليفة المستضئ ومعهم التشريفات الجليلة والأعلام السود، وتوقيعٌ من الديوان بالسلطنة ببلاد مصر والشام.
وفي هذه الخلع يقول ابن سعدان الحلبي:
يأيها الملك الغزير فضله ... لقد غدوت بالعُلا مليا
كفى أمير المؤمنين شرفا ... أنك أصبحت له وليّا
طارحك الودّ على شحط النّوى ... فكنت ذاك الصّادق الوّفيا
أوْلاكَ من لباسه زخرفة ... لم يولها قبلك آدميا
ناسبت الرّوض سناً وبهجة ... حتى حكته رونقاً وزيّا
قال: ورحل السلطان من حماة إلى بعرين، وكان فيها فخر الدين مسعود بن الزّعفراني، وكان خرج إلى السلطان لما وصل إلى الشام وتطارح عليه وخدمه، وظنّ أن السلطان يقدمه على عساكره، فلم يلتفت إليه، فترك السلطان وعاد إلى حصن بعرين، فأغضب السلطان ذلك وسار إليه وحاصره حتى تسلم حصنه.
وقال العماد: نزل السلطان قراحصار، بنيَّة الحصار، فجاءت رسلهم بالانقياد، وأجابوا إلى المراد، وقالوا اقنعوا بما أخذتموه إلى حماة، ولاتُشْمِتُوا بنا العداة. فاستزدناه عليهم كفر طاب والمعرّة، واستوفينا عليهم الأيمان المستّقرة؛ وسألهم في المعتقلين، إخوة مجد الدين، فأجابوا وأفرجوا عنهم، وتمّ الصلح، وعمّ النجح.
ورحلنا ظاهرين ظافرين، ونزلنا حماة يوم الاثنين ثاني عشر شوال، وبها وصلت إليه رسل الديوان العزيز بالتشريفات، والتقليد بما أراد من الولايت؛ وأفاضوا على السلطان وأقاربه الخلع، وخص ناصر الدين محمد بن شيركوه بمزيد تفضيل على أقارب السلطان، وكأنه رعاية لحق والده أسد الدين، رحمه الله تعالى.
ثم تسلم السلطان حصن بعرين، وكان بيد الأمير فخر الدين مسعود بن الزعفراني، وهو من أكابر أمراء نور الدين، وذلك في أواخر شوّال. وأقطع مدينة حماة لابن خاله وصهره الأمير شهاب الدين محمود، وأنعم بحمص على ابن عمه ناصر الدين.
قال العماد: وأذكر أنَّا عبرنا نهر العاصي عائدين وقد انكشف الشمس وادلّهم النهار، وغلب على القلوب الاستشعار، وطاحت الأنوار، وخفيت الرّسوم، وظهرت النجوم؛ وجئنا حمص، ثم بعلبك، ثم البقاع، ووصلنا دمشق في ذي القعدة.
فصلقال العماد: قد سبق ذكر ماقرّره حُسّادي في خاطر السلطان، وقالوا: شُغله المكاتبة وهي منصب الأجل الفاضل، وهو يستنيب فيه من رآه من الأفاضل، وهذا تَصْرفُه برِفدٍ جزيل، ووجهٍ جميل. والسلطان مع شدّة رغبته متوقف، وإلى ظهور وجه النّجاح في أمري متشوف.
وكنت قد أنست مدّة مقامي بالعسكر بذي المجد والمفخر، ومورد الكرم والمصدر، الأميلا نجم الدين بن مصال؛ وهو ذو فضل وإفضال، وقبول وإقبال، وله من السلطان ومن الفاضل لجلالة قدره إجلال؛ وقد مال إلى فضله، ونباهته ونبله. وكان أبوه قد وزر للحافظ في آخر عهده، متفرّدا بسؤدده ومجده؛ وكان من أهل السنة والجماعة، والتّقى والورع والعفاف والطاعة؛ وله يدٌ عند السلطان في النُّوب التي قصدوا فيها مصر، وأجزل عنده الإحسان والبّر، لاسيما عند كونه بالإسكندرية محصورا؛ وكان إحسانه مشكورا، واعتناؤه لحفظه مشهورا. فلما ملك أحبّه، واختار قربه، فلزْمت له التودد، وإليه التردد، وجعلته الوسيط بيني وبين الأجل الفاضل، واتخذته من الحجج والوسائل، ووقفت خاطري على تقاضيه نظما ونثرا، ورسالة وشعرا. فمن ذلك ماكتبته إليه:
لعلّ نجم الدين ذا الفضل ... يُذكر الفاضل في شُغلي
إنّ أجلّ الناس قدراً فتىً ... بفضله يتْعب من أجلي
ومثلُه من يعتنى بالعلا ... ويستديم الحمد من مثلي
قال: وأول ما أهديته للفاضل مدحة حين لقيته بحمص في شعبان منها:
عاينت طود سكينة، ورأيت شم ... س فضيلة، ووردت بحر فواضل
ورأيت سحبان البلاغة ساحبا ... ببيانه ذيل الفخار لوائل
أبصرت قُسّا في الفصاحة معجزا ... فعرفت أني في فهاهة باقل
حلِف الحصافة، والفصاحة، والسّما ... حة، والحماسة، والتّقى، والنائل
بحرٌ من الفضل العزيز، خِضّمُّه ... طامي العُباب، وماله من ساحل
وجميعُ مافي الأرض سبعة أبحر ... وبحوره تُسْمى بعشر أنامل
في كفه قلمٌ يعجّل جريه ... ماكان من أجل ورزق آجل
يجري ولاجرى الحسام إذا جرى ... حدّاه، بل جرْى القضاء النازل
نابت كتابته مناب كتيبة ... كفلت بهزم كتائب وجحافل
فَعدُوّه في عدوه، ووليّه ... في عدله؛ أكرمْ بِعادٍ عادل
ريّان من ماء التّقي، صادٍ إلى ... كسب المحامد، وهي خير مناهل
ياواحد العصر الذي بزّ الورى ... فضلا بغير مشابه ومشاكل
مالي وجاه الجاهلين، فأغنني ... عنهم، كفيتهم، وَجُدْ بالجاه لي
أرجوك معتنيا لدى السلطان بي ... كرماً، فمثُلك يْعتنى بأماثلي
قرّر لي الشغل المبجل، مُخليا ... بالي من الهمّ المقيم الشاغل
قال: فدخل الفاضل إلى السلطان وعرّفه أنه فيّ راغب، وقال لايمكنني الملازمة الدائمة في كل سفرة، وغداً يكاتبك ملوك الأعاجم، ولاتستغني في الملك عن عقد الملطفات وحلّ التّراجم؛ والعماد يفي بذلك ولك أختاره، وقد عُرف في الدولة النّورية مقداره. وأخذ لي خط السلطان بما قرره لي من شغلي وقد عرف أن الأجل ّ الفاضل قد أجلّ فضلي.
قال: وخدمت أمير المؤمنين المستضئ بالله في ذي القعدة مع الرّسل بهذه القصيدة:
أصحّ عقود الغانيات مريضها ... وأفتْكُ ألحاظ الحِسان غضيضها
ومِنْ عجبٍ صلّت لقبلة بأسهم ... رؤس أعادٍ من ظباهم محيضها
قال ابن أبي طيّ: وظهر في مشغرا، قرية من قرى دمشق، رجل ادعى النّبوة وكان من أهل المغرب، وأظهر من التخاييل والتمويهات مافتُن به الناس، واتبّعه عالم عظيم من الفلاحين وأهل السواد، وعصى على أهل دمشق، ثم هرب من مشغرا في اليل وصار إلى بلد حلب، وعاد إلى إفساد عقول الفلاحيّن بما يريهم من الشعبذة والتخاييل؛ وهوى امرأةً وعلّمها ذلك، وادعّت أيضا النبّوة.
قال: وفيها توفي شهاب الدين إلياس الأرتقي صاحب البيرة، وأوصى إلى الملك الناصر صلاح الدين بولده شهاب الدين محمد.
ثم دخلت إحدى وسبعين وخمسمائةقال العماد: والسلطان نازل بمرج الصفر من دمشق، فجاءه رسول الفرنج يطلب الهدنة، فأجابهم السلطان بعد أن اشترط عليهم أموراً، فالتزموها.
وكان الشام ذلك العام جدباً، فأذن السلطان للعساكر المصرية في الرحيل إلى بلادهم وإذا استغلوها خرجوا إليه، وسار معهم الفاضل، واعتمد على العماد فيما كان بصدده.
وواظب السلطان على الجلوس في دار العدل، وعلى الصيد، ومدحه العماد بقصيدة، منها:
سواك لسهم العلا لن يريشا ... فنسأل رب العلا أن تعيشا
من الناس بالبّرِ صِدْت الكرام ... وبالبأس في البِّر صدت الوحوشا
وكمْ سرت من مصر نحو العريش ... فهدّمت للمشركين العُروشا
سراياك تبعث قُدّامها ... من الرعب نحو الأعادي جيوشا
ويوم حماة تركت العداة ... كما طيرت بالفلا الرِّيحُ ريشا
قال: ومدحت، مستهل ربيع الأول، تقيّ الدّين بقصيدة موسومة، وكان قد فوض إليه ولاية دمشق، ومنها بيتان ابتكرت المعنى فيهما ولم أُسبق إليهما، وهما:
يفيد العاقل اليقظ التّغابي ... ليدرك في الغنى حظّ الغبيّ
ولم تصب السّهام على اعتدال ... بها لولا اعوجاجٌ في القسيّ
فقل للدهر يقصر عن عنادي ... أما هو يتّقي بأس التّقيّ
حلفت برب مكة والمصلى ... وثاوى تُرب طيبة والفرىّ
لأّنتم يابني أيوبَ خير ال ... ورى بعد الإمام الستضئّ
قال: وفي أول هذه السنة وصل إلى دمشق الجماعة الذين خرجوا من بغداد موافقة قطب الدين قايماز، فأخذوا لأنفسهم بالالتجاء إلى السلطان والاحتراز.
وكان قايماز هذا مُحكَّما في الدولة الإمامية من أول الأيام المستنجدية، وقوى في الأيام المستضيئية على وزير الخليفة عضد الدين بن رئيس الرؤساء، وسامه أنواع البلاء، وأخافه، ورام إتلافه، حتى استعاذ منه برباط صدر الدين شيخ الشيوخ فسلم به.
ثم إنّ قايماز حالف الخليفة وشقّ العصا، وعنّ له حصار الداّر، فأمر الخليفة بالقبض عليه، فلم ينج لما أحيط بداره، إلا بفتح باب في جداره. وانهزم فوصل إلى الحلة في اوائل ذي القعدة سنة سبعين، وهو في موسم الحجّ؛ فجمع رجاله وتوّجه إلى الموصل وخانه إخوانه، وخذله أصحاب، فتوفي في بعض قرى الموصل، وتفرق أصحابه في البلاد، فمنهم من رجع إلى بغداد، ومنهم من أتى إلى الشام؛ منهم حسام الدّين ثميرك وعز الدين أقبوري ابن ازغش، وكان صهر السلطان قديما، وعنده كريما، فأقطعه في الديار المصرّية، وكتب في حقّه إلى الدّيوان شفاعة في تخليص مال÷نس واستقامة حاله؛ وكان ذا خزائن مملوة، وخيْلٍ مسَّومة؛ فلم يكن ذنبه عندهم في متابعة قايماز مما يقبل الصفح. وكان أقبوري زوج أخت السلطان، والسلطان خال بنته، وهي زوجة عز الدين فرخشاه ابن أخي السلطان.
قلت: وفي بعض الكتب عن السلطان إلى وزير بغداد بالمثال الفاضليّ: وما نحسب أنا مع الموالاة المشتهرة، والنصرة المتناصرة المستظهرة، والمساعي التي كانت لثارات هذه الدولة بالغة، ولأعدائهم دامغة، ولمازعيهم الأمر قاصمة، ولمجاذبيهم الحقَّ واقمة، وبحقوق الله تعالى الواجبة لهم قائمة، وكوننا ما أعنَّا منها بنجدة من رجال، ولا بمادة من مال، ولا بإعانة بحال من الأحوال - يردّ سؤالنا من الدّولة، أعلاها الله، في ذي قربى لانستطيع دفعه، ولايقبل أسباب النفع إذا أردنا نفعه، فالأخبار عندنا واسعة، والأعواض لدينا غير متعذرة، والولايات التي نفوضها إليه عن كفايته غير مستغنية؛ ولكنّه ماباع بمكانه من الخدمة مكانا، ولاآثر غير سلطانه سلطانا؛ وله أعذار لابأس أن نُعيره فيها لسانا وبيانا.
ثم ذكرها، ثم قال: وهذا الأمير جزء منَّأ فكيف يُعّد جزء منا عاصياً، وبألستنا وسيوفنا يُدْعى الخلق إلى الطاعة، وكيف تخلو دار الخلافة من واحد من أهلنا ينوب عنا وعن بقية الجماعة. فنحن في أنفسنا نشفع، وعن جاهنا ندفع، وفي مكاننا نسأل، وبخطّنا الَّي لانسمح به للإسلام نبخل. وأنت أيها الأمير السَّائر ثالث رسول سواك ندب في أمر هذا الأمير، والله وليّ التّدبير.
وقال العماد في الخريدة: كنت جالساً بين يدي الملك الناصر صلاح الدِّين بدمشق في دار العدل، أنفذُ ما يأمر به من الشغل، فحضر سعادة الأعمى من أهل حمص، وكان مملوكا لبعض الدمشقيين مولدا، ويكتب على قصائده سعيد بن عبد الله، فوقف ينشد هذه القصيدة في عاشر شعبان سنة إحدى وسبعين:
حيّتك أعطاف القدود ببابها ... لما انثنت تيهاً على كثبانها
ثم ذكر القصيدة وغزلها في وصف دمشق، ثم قال:
سلطانها الملك ابن أيوب، الذّي ... كفّاه لاتنكف عن هطلانها
بمواهبٍ، لوْ لمْ أكنْ نُوحاً لما ... نُجيّت يوم نداه من طوفانها
سمحٌ يروح إلى الندىّ براحة ... قد أعشب المعروف بين بنانها
وفتىً، إذا زخرت بحارُ نواله ... غرقت بحار الأرض في خلجانها
تلك السيوف المرهفات بكفه ... أمضى على الأيام من حدثانها
ملك إذا جليت عرائس ملكه ... رصعت فريد العدل في تيجانها
فاسلم صلاح الدين، وابْق لدولة ... ذلّت لدولتها ملوك زمانها
وانهض إلى فتح السّواحل نهضة ... قادت لك الأعداء بعد حرانها
وهي طويلة.
قال: وقام اليوم الذّي يليه، وقد جلس السلطان للعدل، فأنشده قصيدة، منها:
هل بعد جِلِّق إلا أن ترى حَلَبا ... وقد تحللّ منها مشكل عقد
وقد أتتك كما تختار طائعةً ... وقد عَنَا لك منها الحصن والبلد
قال: وكان سعادة سافر إلى مصر في أول غارته على غزّة، وعوده من ذلك الغزو بالعزة:
فتىً مُذْغزا بالخيل والرَّجل غزة ... نأى عن نواحيها الرّضا ودنا السخط
رماها بأُسد مالهن مَرابضٌ ... ولا أُجُمٌ إلاّ الذي تُنْبت الخط
وعاث ضواحيها ضحى بكتائب ... من الترك لانوب طغام ولاقبط
وله في السلطان قصائد أخر. قال: وقام البهاء السنجاري وأنشد الملك النّاصر قصيدة في دار العدل بدمشق سنة إحدى وسبعين في شعبان، منها:
ياظبية الْهَرَمْين من مصرٍ، على الرَّ ... بْع السَّلام وإن تقوض أو عفا
أصبْو إلى عصر تقادم عهده ... فأزيدُ مِنْ وَلَهٍ عليه تلُّهفا
أحبابنا بالقصر، لو قصرتمُ ... في الهجر ماشمت الحسُود ولاأشتفى
ومنها:
أشكو إلى الوادي، فيحنو بانهُ ... من رقة الشكوى عليّ تعطفا
وجرى بي الأملُ الطَّموح، فأقام بي ... سلطانَ أرض الله طرًّا، يُوسفا
الناهب الأرواح في طلب العلا ... والواهب الآجال في حسن الوفا
فصل فيما تجدد للمواصلة والحلبيين
قد سبق ذكر الصلح الذي جرى بين السلطان والحلبيين. فلما سمع به المواصلة عتبوا عليهم ووبخوهم، ونسبوهم إلى العجلة في ذلك وسلوك غير طريق الحزم؛ فحملوهم على النقْض والنّكث، وأنفذوا من أخذ عليهم المواثيق، وتوجه ذلك الرسول منهم إلى دمشق ليأخذ للمواصلة من السلطان عهده، ويكشف أيضا ماعنده. فلما خلا به طالبه السلطان بنسخة الرأي، فغلط وأخرج من كمه نسخة يمين الحلبيين لهم، وناولها إياه، فتأملها وأخفى سرّه وما أبداه، واطلع على ما اتفقوا عليه، وردها إليه، وقال: لعلّها قد تبدلت؛ فعرف الرّسول أنه قد غلط، ولم يمكنه تلافي مافرط. وقال السلطان كيف حلف الحلبيون للمواصلة، ومن شرط أيمانهم، أنهم لايعتمدون أمراً إلا بمراجعتهم لنا واستئذانهم. وعرف من ذلك اليوم أن العهد منقوض، والوفاء مرفوض.
وشاع الخبر عن المواصلة بالخروج في الرّبيع، فكتب السلطان إلى أخيه العادل وهو نائبه بمصر، يُعلمه بذلك، ويأمره أن يأمر العساكر بالاستعداد للخروج في شعبان.
قلت: وفي كتاب طويل فاضلي جليلٍ إلى بغداد عن السلطان: يطالع بأن الحلبيين والموصليين لما وضعوا السلاح، وخفضوا الجناح، اقتصرنا، بعد أن كانت البلاد في أيدينا، على استخدام عسكر الحلبيين في البيكارت إلى الكفر، وعرضنا عليهم الأمانة فحملوها، والأيمان فبذلوها؛ وسار رسولنا وحلف صاحب الموصل بمحضر من فقهاء بلد وأمراء مشهده، يميناً جعل الله فيها حكما، وضيق في نكثها المجال على من كان حنيفا مسلما، وعاد رسوله ليسمع منا اليمين، فلما حضر وأحضر نسختها، أومى بيده ليخرجها، فأخرج نسخة يمين كانت بين الموصليين والحلبيين مضمونها الاتفاق على حزبنا، والتداعي إلى حربنا، والتساعد على إزالة خطبنا، والاستنفار لمن هو على بعدنا وقربنا؛ وقد حلف بها كمشتكين الخادم بحلب وجماعة معه يمينا نقضت الأولى. فرددنا اليمين إلى يمين الرسول وقلنا هذه يمين عن الأيمان خارجة، وأردت عمرا وأراد الله خارجة.
وانصرف الرَّسول عن بابنا وقد نزّهنا الله أن يكون اسمه معرضا للحنث العظيم، والنّكث الذّميم، وعلمنا أنّ الناقد بصير، والآخذ قدير. والمواقف الشرّيفة النبوية، أعلاها الله، مستخرجة الأوامر إلى الموصليّ إماّ بكتاب مؤكد بأن لاينقض عهد الله من بعد ميثاقه، وإما أن تكون الفسحة واقعة لنا في تضييق خناقه.
ثم ذكر أمر الفرنج، ثمّ قال: والمملوك بين عدوّ إسلام يشاركونه في هذا الاسم لفظا، ولاينووُن لما استحفظوا حفظا، وعدوّ كفر فما يجاورهم إلاّ بلادُه، ولايقارعهم إلاّ أجناده.
ثم طلب خروج الأمر بخطاب جميع ملوك الأطراف أن يكونوا للمملوك على المشركين أعوانا، وأن يُتثل أمر نبينا صلى الله عليه وسلم، في أن يكونوا بنيانا، فيعضوده إذا سعى، ويلّبوه إذا دعا، ولايقعدوا عن المعاضدة في فتح البيت المقدّس الذي طابت النّفوس عن ثاره، وطأطأت الرّؤس تحت عاره، وصارت القلوب صخرة لاترق على صخرته، والعزائم قاصية عن تطهير أقصاه من رجس الشرك ومعرّته. فإن قعدت بهم العزائم، وأخذتهم في الله لومةُ لائم، فلا أقلّ من ألا يكونوا أعوانا عليه يلفتونه عن قصده، حريصين على اتصال المكروه إليه.
قال ابن شداد: لمّا وقعت الوقعة الأولى مع الحلبيين والمواصلة، كان سيف الدّين، صاحب الموصل، على سنجار يُحاصر أخاه عماد الدين بقصد أخذها منه ودخوله في طاعته؛ وكان أخوه قد أظهر الانتماء إلى السّلطان صلاح الدين واعتصم بذلك. واشتد سيف الدين في حصار المكان وضربْه بالمنجنيق حتّى استُهدم من سوره ثلُم كثيرة؛ وأشرف على الأخذ. فبلغه وقوع هذه الواقعة فخاف أن يبلغ ذلك أخاه فيشتّد أمره ويقوى جأشه، فرسله في الصّلح، فصالحه.
ثم سار من وقته إلى نصيبين واهتمّ بجمع العساكر والإنفاق فيها؛ وسار حتى أتى الفرات وعبر بالبيرة، وخيّم على جانب الفرات الشامي، وراسل كمشتكين والملك الصالح حتى تستقر قاعدة يصل عليها إليهم. فوصل كمشتكين إليه وجرت مراجعات كثيرة عزم فيها على العوّد مرارا، حتى أستقرّ اجتماعه بالملك الصالح وسمحوا به، وسار ووصل حلب وخرج الصالح إلى لقائه بنفسه، فالتقاه قريب القلعة، واعتنقه، وضمه إليه وبكى؛ ثم أمر بالعود إلى القلعة فعاد إليها، وسار هو حتى نزل بعين المباركة وأقام بها مدّة وعسكر حلب يخرج إلى خدمته في كل يوم.
وصعد القلعة جريدةً وأكل خبزاً ونزل، وسار راحلا إلى تل السّلطان ومعه جمع كبير وأهل ديار بكر، والسلطان رحمه الله تعالى قد أنفذ في طلب العساكر من مصر وهو يرقب وصولها، وهؤلاء يتأخرون في أمورهم وتدابيرهم، وهم لايشعرون أنّ في التأخير تدميراً، حتى وصل عسكر مصر، فسار رحمه الله حتى أتى قرون حماة، فبلغهم أنه قد قارب عسكرهم فأخرجوا اليزك، ووجهّوا من كشف الأخبار، فوجدوه قد وصل جريدة إلى جباب التركمان، وتفرّق عسكره يسقى، فلو أراد الله نُصْرتهم لقصدوه في تلك الساعة، لكنْ صبروا عليه حتى سقى خيله هو وعسكره، واجتمعوا، وتعبّوا تعبئة القتال.
وأصبح القوم على مصاف، وذلك بكرة الخميس العاشر من شوّال، فالتقى العسكران وتصادما، وجرى قتال عظيم، وانكسرت ميسرة السلطان بابن زين الدين بن مظفر الدين، فإنه كان في ميمنة سيف الدين. وحمل السلطان بنفسه، فانكسر القوم، وأسر منهم جمعاً عظيماً من كبار الأمراء، منهم الأمير فخر الدين عبد المسيح، فمنّ عليهم وأطلقهم.
وعاد سيف الدين إلى حلب فأخذ منها خزانته، وسار حتى عبر الفرات وعاد إلى بلاده. وأمسك هو رحمه الله عن تتبع العسكر، ونزل في بقيّة ذلك اليوم في خيم القوم، فإنهم كانوا قد أبقْوا الثّقل على ماكان عليه، والمطابخ قد عملت، ففرّق الاصبطلات، ووهب الخزائن، وأعطى خيمة سيف الدين عزّ الدين فرخشاه.
وقال العماد: رحلنا في شهر رمضان من دمشق مستأنفين، فعبْرنا العاصي لله طائعين، وإلى المسِّار مسارعين، فما عرّجنا على بلد، ولاانتظرنا ما وراءنا من مدد؛ ونزلنا الغّسُولة وجُزنا حماة، وخيّمنا في مرج بوقبيس. وجاء الخبر أنهم في عشرين ألف فارس سوى سوادهم، وماوراءهم من أمدادهم، وأنهم موعودون من الفرنج بالنجدة، وأنهم يزيدون في كلّ يوم قوّة وشدّة، وماكان اجتمع من عسكرنا سوى ستة آلاف فارس. فرتّب السلطان عسكره، وقوى بقوّة قلبه لْلَبه، وأمد الله بحزب ملائكته حزبه.
ولما وصل المواصلة إلى حلب، أطلقوا من كان في الأسر من ملوك الفرنج، منهم أرناط إبرنس الكرك، وجوسلين خال الملك، وقرّروا معهم أن يدخلوا من مساعدتهم في الدّرك. فلما عيّدنا وصل إلى السلطان الخبر بوصولهم إلى تلّ السلطان، فعبرْنا العاصي عند شَيْزَر، ورتّبنا العسكر، وأعدنا الأثقال إلى حماة.
ثم وصف الوقعة إلى أن قال: وركب السلطان أكتافهم فشل مِئِيِهْم وآلافهم، حتى أخرجهم عن خيامهم، وأشْرَقهم بمائهم. ووكل بسرادق سيف الدين غازي ومضاربه ابن أخيه فرخشاه، وركض وراءه حتى علم أنه تعدّاه. ووقع في الأسر جماعة من الأمراء المقدمين، ثم مَنَّ عليهم بالخلع بعد أن نقلهم إلى حماة وأطلقهم. ثمّ نزل في السرادق السيفي فتسلمه بخزائنه ومحاسنه، واصطبلاته ومطابخه، وَرَواسي عِزّه ورواسخه، فبسط في جميع ذلك أيدي الجُود، وفرّقها على الحضور والشهود، وأبقى منها نصيباً للرُّسل والوفود. ورأى في بيت الشّراب، بل في السّرادق الخاصّ، طيوراً من القماري، والبلابل، والهزار، والببغاء، في الأقفاص، فاستدعى أحد النّدماء مظفر الأقرع فآنسه، وقال: خُذْ هذه الأقفاص، واطلب بها الخلاص، واذهب بها إلى سيف الدّين فأوصلها إليه وسلّم منّا عليه، وقل له عدْ إلى اللعب بهذه الطيور، فهي سليمة لاتوقعك في مثل هذا المحذور.
قال: ولما كسر القوم ولوا مدبرين إلى حلب، فلم يقف بعضهم على بعض، وظنوا أن العساكر وراءهم ركضا وراء ركض؛ فتبعجت خيولهم، وتموّجت سيولهم، وما صدّقوا كيف يصلون إلى حلب ويغلقون أبوابها، ويسكنون اضطرابها. وأما سيف الدّين فإنه ركض في يومه من تلّ السلطان إلى بزاعة، وجاوز في سَوْقه الاستطاعة، وفرق وفارق الجماعة.
وفي كتاب ابن أبي طيّ أن ميسرة سيف الدين انكسرت، فتحرّك إلى جانبها ليكون ردْءًا لها ومدداً، فظن باقي العسكر أنه قد انهزم فانهزموا، فحقق ماكان وهما، فسار على وجهه لايلوى على شئ؛ وتبعهم السلطان، فهلك منهم جماعة قتْلاً وغرقا، وأُسر جماعة كبيرة من وجوههم وأمرائهم؛ ثم رجع وأمر أصحابه برفع السيف عن الناس، وترْك التّعرّض لمن وُجد منهم بقتل أو نهب.
وفرّق ماوجد في خزائن سيف الدين وسيَّر جواريه وحظاياه إلى حلب، وأرسل إليه بالأقفاص وقال له: عد إلى اللعب بهذه الطيور، فإنها ألذّ من مقاساة الحرب. ووجد السلطان عسكر الموصل كالحانة من كثرة الخمور والبرابط والعيدان والجنوك والمغنين والمغنيات.
قال: واشتهر أنه كان مع سيف الدين أكثر من مائة مغنيّة، وأن السلطان ا{ى ذلك لعساكره واستعاذ من هذه البلية. وكان أنفذ الأمراء الذّين أسرهم إلى حماة ثم ردّهم، وخلعّ عليهم وأرسلهم إلى حلب.
وهنأ العماد السّلطان رحمه الله تعالى بقصيدة، منها:
فالحمد لله الذي إفضالهُ ... حلْوُ الجنا، عالي السَّنا، وضاحه
عاد العدوّ بظلمة من ظلمه ... في ليل ويلٍ قد خبا مصباحه
وجنى عليه جهله بوقوعه ... في قبضة البازي فَهِيضَ جناحه
حمل السلاح إلى القتال، ومادرى ... أن الذي يجنى عليه سلاحه
أضحى يريد مواصليه صدوده ... وغدا يجيد رثاءه مدّاحه
إن أفسد الدين الغلاة بحنثهم ... فالناصر الملك الصلاح صلاحه
قد كان عزمك للإله مصمما ... فيهم، فلاح، كما رأيت، فلاحه
وكأنني بالساحل الأقصى، وقد ... ساحت بنحر دم الفرنجة ساحه
فاعبُر إلى القوم الفرات، ليشربوا ال ... َمْوت الأُجاج، فقد طمى طفّاحه
لتفتك من أيديهم رهن الرُّها ... عجلاً، ويدرك ليلها إصباحه
وابغوا لحرَّان الخلاص، فكم بها ... حرّان قلبٍ نحوكم ملتاحه
نجوا البلاد من البلاءِ بعدلكم ... فالظلم بادٍ في الجميع صراحه
واستفتحوا ماكان من مستغلق ... فيها، فرّبكم لكم فتاحه
أنتم رجال الدّهر، بل فرسانه ... ولذي الحلوم الطائشات رجاجه
فُتَّاكه، نُسّاكه، ضُرّاره ... نُفّاعه، مُنّاعه، مُنّاحه
وأبو المظفر يوسف مطعامه ... مِطْعانُه، مِقْدامُه، جَحْجَاحه
وإذا انتدى في محفل فحيِيُّه ... وإذا غدا في جحفل فوقاحه
قال: وكان لعزّ الدين فرخشاه في هذه الوقعة يد بيضاء، وهو محب للفضل وأهله باعثُ للخواطر على مدحه ببذله؛ فنظمت فيه قصيدة، منها:
نصرٌ أنار لملككُمْ بُرهانه ... وعلا لذلة شانئيكم شانه
ما أسعد الإسلام وهو مظفر ... وأبو المظفّر يوسفٌ سلطانه
الملكُ مرفوعٌ لكم مقداره ... والعدل موضوعٌ بكم ميزانه
والدهسر لايأتي بغير مرادكم ... فهل القضاء لأجلكم جريانه
وكأنما لله في أحكامه ... فلكٌ على إيثاركم دورانه
فخراً بني أيوب، إن فخاركم ... بذَّ الملوك السابقين رهانه
يكفى حسودكم اعتقالا همة ... فكأنما أشجانه أسجانه
الدّين، عزّ الدين، عزّ بنصركم ... والكفر ذلّ بعونكم أعوانه
قد كان جيشكم كبحرٍ زاخر ... واللابسون جواشناً حيتانه
فطمى لهلكهم عليهم بحركم ... بأساً وغرّق فلكهم طوفانه
فضل الملوك الأكرمين بفضله ... فعلا زمانهم البهيج زمانه
في فضله، في عدله، في حلمه ... صديقّه، فاروقه، عثمانه
هو في السماح، وفي اللقاء، عليّه ... هو في العفاف وفي التقى سلمانه
من آل شادي الشائدين لمجده ... ببنيه بيتاً عالياً بنيانه
بيت من العلياء، سامٍ، سامقٌ ... يبنى على كيوانها إيوانه
ياسالب التِّيجان من أربابها ... ومن الثناء مصوغةٌ تيجانه
والحمد مالٌ أنتم بُذَّاله ... والمال حمدٌ أنتم خزانه
قال: ثم إن صاحب الموصل أسرع عودته، وواصل لذّته، والحلبيون أوثقوا الأسباب، وغلقوا الأبواب، وسُقط في أيديهم، حين أفرطوا في تعديهم، وتهيئوا للحصار، وخافوا من البوار، وتبلدوا وتلددوا، وتجادلوا ثم تجلدوا.
وقال ابن سعدان الحلبي من جملة قصيدة: يهنئ بها السلطان بهذه الكسرة:
وما شك قوم حين قمت عليهم ... غداة التقى الجمعان أنك غالب
ولو لم تقد تلك المقانب لاغتدى ... لنفسك في نفس العدو مقانب
قال ابن أبي طيّ: وأما سيف الدين فإنه امتدت به الهزيمة إلى بزاعا، فأقام بها حتى تلاحق به من سلم من أصحابه، ثم خرج منها حتى قطع الفرات وصار إلى الموصل. وصار باقي عسكر حلب إلى حلب، في سابع شوال، في أقبح حال وأسوئه، عراةً حفاةً فقراء، يتلاومون على نقض الأيمان والعهود.
وخاف أهل حلب من قصد السلطان لهم، فأخذوا في الاستعداد للحصار؛ وجاء السلطان وخيّم عليها أياماً، ثم قال: الرأي أن نقصد ماحولها من الحصون والمعاقل والقلاع فنفتحها، فإنا إذا فعلنا ذلك ضعف حلب وهان أمرها. فصوّبوا رأيه، فنزلوا على بزاعة، فتسلّمها بالأمان، وولاها عز الدين خشترين الكردي.
فصل في فتح جملة من البلاد حوالي حلبقال العماد: ثم نزل السلطان على حصن بُزاعة وتسلّمه في الثاني والعشرين من شوال، ثم فتح منبج في التاسع والعشرين منه، وكان فيها الأمير قطب الدين ينال بن حسَّان، والسلطان لايناله به إحسان، بل كان في جرّ عسكر الموصل إليه أقوى سبب، ولايحاذقه ولايحفظ معه شرط أدب، ويواجهه بما يكره. فسلّم القلعة بما فيها، وقوّم ما كان سلمه بثلاثمائة ألف دينار، منها عين ونقود، ومصوغ، ومطبوع، ومصنوع، ومنسوج، وغلات؛ وسامه على أن يخدم، فأبى وأنف، وكبرت نفسه، فتعب سرُّه، وذهب ماجمعه. ومضى إلى صاحب الموصل فأقطعه الرَّقة، فبقى فيها إلى أن أخذها السلطان منه مرة ثانية في سنة ثمان وسبعين.
وقال العماد:
نزولك في منبج ... على الظفر المبهج
ونجحك في المرتجى ... وفتحك للمرتج
دليل على كلّ ما ... تحاول أو ترتجي
أمورك فيما ترو ... مُ واضحة المنهج
وشانيك دامي الشئو ... ن منك، شقيّ، شجى
ومن كان في حصنه ... ومن قبل لم يخرج
يقال له: ليس ذا ... بعُشّك، قم فادرج
فرأيك يستنزل النُّ ... جومُ من الأبرُج
فعجِّل عبور الفرات ... وأسرِ، وَسِر، وادْلُج
وعُجْ نحو تلك البلاد ... وعن غيرها عرّج
فحران، والرّقتا ... ن تاليتا منبج
وجَلَّ عن المسلمي ... ن ليلهم المّدجى
قال ابن أبي طيّ: لما ملك السلطان منبج وتسلم الحصن صعد إليه وجلس يستعرض أموال ابن حسان وذخائره؛ فكان في جملة أمواله ثلاثمائة ألف دينار، ومن الفضة والآنية الذهبية والأسلحة والذخائر ما يناهز ألفي ألف دينار. فحان من السلطان التفاتة فرأى على الأكياس والآنية مكتوبا يوسف، فسأل عن هذا الاسم، فقيل له: ولدٌ يحبُّه ويؤثره اسمه يوسف كان يدخر هذه الأموال له. فقال السُّلطان: أنا يوسُف وقد أخذت ماخُبئ لي. فتعجب الناس من ذلك.
قال: ولمَّا فرغ من منبج نزل على عزاز ونصب عليها عدّة مجانيق، وجدّ في القتال وبذل الأموال.
قال العماد: ثمَّ نزل السُّلطان على حصن عزاز وقطع بين الحلبيين وبين الفرنج الجواز. وهو حصن منيع رفيع، فحاصره ثمانية وثلاثين يوما. وكان السُّلطان قد أشفق على هذا الحصن من موافقة الحلبيين للفرنج، فإن الغيظ حملهم على مهادنة الفرنج وإطلاق ملوكهم الذّين تعب نور الدين رحمه الله تعالى في أسرهم، فرأى السُّلطان أن يحتاط على المعاقل، ويصُونها صون العقائل؛ فتسلّمها حادي عشر ذي الحجة بعد مدة حصارها المذكورة.
وقال العماد قصيدة، منها:
أعطاه ربّ العالمين دولة ... عزّةُ أهل الدّين في إعزازها
حاز العُلا ببأسه وجوده ... وهو أحق الخلق باجتيازها
بجده أفنى كنوزاً فني ال ... ملوك في الجدّ على اكتنازها
مهلك أهل الشِّرك طرًّا: رُومها ... أرمنها إفرنجها، إنجازها
تفاخر الإسلام من سلطانه ... تفاخر الفرس بابراوازها
تَهَنَّ من فنح عزازٍ نصرة ... أوقعت العداة في اعتزازها
واليوم ذلت حلب، فإنها ... كانت تنال العزَّ من عزازها
وحلب تنفي كمشتكينها ... كما انتفت بغداد من قيمازها
برزت في نصر الهدى بحجَّة ... وضوحُ نهج الحقّ في إبرازها
كم حاملٍ للرمح عاد مبديا ... عجز عجوز الحيّ عن عكازها
ارفع حظوظي من حضيض نقصها ... وعدِّ عَنْ هُمّازِها لُمّازها
والشعر لابد له من باعث ... كحاجة الخيل إلى مهمازها
قال: وأغار عسكر حلب على عسكرنا في مدة مقامنا على عزاز، فأخذوا على غرّة وغفلة ما تعجلّوه، وعادوا؛ فركب أصحابنا في طلبهم فما أدركوا إلا فارساً واحدا، فأمر السلطان بقطع يده بحكم حرده. فقلت للمأمور، وذلك بمسمع من السلطان، تمهّل ساعة لعلّه يقبل مني شفاعة. ثم قلت: هذا لايحلّ، وقدرّك بلْ دينك عن هذه يجل. ومازلت أكرر عليه الحديث حتى تبسم، وعادت عاطفته ورحم، وأمر بحبسه، وسرّني سلامة نفسه.
ودخل ناصر الدين بن أسد الدين، وقال: ما هذا الفشل والوني، وإن سكتم أنت فما أسكت أنا. ودمدم وزمجر، وغضب وزأر، وقال: لِمَ لايُقتلُ هذا الرّجل ولماذا اعتقل! فوعظه السّلطان واستعطفه، وسكنَّ غيظه وتعطفه، وتلا عليه: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخْرى). وأُطلق سراحه، وتمَّ في نجاته نجاحه.
فصل في وثوب الحشيشية على السلطان مرّة ثانية على عزاز، وكانت الأولى على حلب
قال العماد: وفي حادي عشر ذي القعدة قفز الحشيشية على السلطان ليلة الأحد وهو نازل على عزاز. وكان للأمير جاولي الأسدي خيمة قريبة من المنجنيقات، وكان السلطان يحضر فيها كلّ يوم لمشاهدة الآلات وترتيب المهمات، وحضّ الرّجال، والحث على القتال؛ وهو بارٌ ببث أياديه، قارٌ على الدهر بكف عواديه؛ والحشيشية في زي الأجناد وقوف، والرّجال عنده صفوف، إذ قفز واحدٌ منهم فضرب رأسه بسكينه، فعاقته صفائح الحديد المدفونة في لمته عن تمكينه، ولفحت المدية خدّه فخدشته. فقوّى السّلطان قلبه، وحاش رأس الحشيش إليه وجذبه، ووقع عليه وركبه، وأدركه سيف الدين يازكزج فأخذ حشاشة الحشيشي وبضعه، وقطعه؛ وجاء آخر، فاعترضه الأمير داود بن منكلان فمنعه، وجرحه الحشيشي في جنبه، فمات بعد أيام، وجاء آخر، فعانقه الأمير علي بن أبي الفوارس وضمه من تحت إبطيه، وبقيت يدُ الحشيشي من ورائه لايتمكن من الضرب، ولايتأتى له كشف ماعراه من الكرب؛ فنادى: عليّ اقتلوني معه فقد قتلني، وأذهب قوّتي وأذهلني؛ فطعنه ناصر الدين بن شيركوه بسيفه. وخرج آخر من الخيمة منهزما، وعلى الفتك بمن يعارضه مُقْدما، فثار عليه أهل السوق فقطعوه.
وأما السلطان فإنه ركب وجاء إلى سرادقه وقد خرعه الحادث، وفزعه الكارث، وصوته جهوري، وزئيره قسوّري، ودم خده سائل، وعطف روعه مائل، وطوق كزاغنهد بتلك الضربة مفكوك، ونهج سلامته مسلوك. وكان سلا سلامته وأقام القوم قيامته، ومن بعد ذلك رعب ورهب، واحترز واحتجب، وضرب حول سرادقه على مثال خشب الخركاة تأزيرا، ووقفه تحجيرا؛ وجلس في بيت الخشب، وبرز للناس كالمحتجب، وماصرف إلا من عرفه، ومن لم يعرفه صرفه، وإذا ركب وأبصر مَنْ لايعرفه في موكبه أبعده ثم سأله عنه، فإن كان مستسعفا أو مستسعدا أسعفه وأسعده.
ومن كتاب فاضل إلى العادل: السلامة شاملة، والرّاحة بحمد الله للجسم الشريف الناصري حاصلة، ولم ينله من الحشيشي الملعون إلا خدش قطرت منه قطرات دم خفيفة، انقطعت لوقتها، واندملت لساعتها؛ والركوب على رسمه، والحصار لأعزاز على حكمه؛ وليس في الأمر بحمد الله ما يضيق صدرا، ولا ما يشغل سراً.
وقال ابن أبي طيّ: لما فتح السلطان حصن بزاعة ومنبج أيقن من بجلب بخروج مافي أيديهم من المعاقل والقلاع، فعادوا إلى عادتهم في نصب الحبائل للسلطان. فكاتبوا سناناً صاحب الحشيشية مرة ثانية، ورغبوه بالأموال والمواعيد، وحملوه على إنفاذ من يفتك بالسلطان. فأرسل، لعنه الله، جماعة من أصحابه فجاءوا بزي الأجناد، ودخلوا بين المقاتلة وباشروا الحرب وأبلوا فيها أحسن البلاء، وامتزجوا بأصحاب السلطان لعلهم يجدون فرصة ينتهزونها. فبينما السلطان يوماً جالس في خيمة جاولي، والحرب قائمة والسلطان مشغول بالنظر إلى القتال، إذ وثب عليه أحد الحشيشية وضربه بسكينة على رأسه، وكان رحمه الله محترزاً خائفاً من الحشيشية، لاينزع الزردية عن بدنه ولاصفائح الحديد عن رأسه؛ فلم تصنع ضربة الحشيشي شيئا لمكان صفائح الحديد وأحس الحشيشي بصفائح الحديد على رأس السلطان فسبح يده بالسكينة إلى خد السلطان فجرحه وجرى الدم على وجهه؛ فتتعتع السلطان بذلك.
ولما رأى الحشيشي ذلك هجم على السلطان وجذب رأسه، ووضعه على الأرض وركبه لينحره؛ وكان من حول السلطان قد أدركهم دهشة أخذت عقولهم.
وحضر في ذلك الوقت سيف الدين يازكوج، وقيل إنه كان حاضرا، فاخترط سيف وضرب الحشيشي فقتله. وجاء آخر من الحشيشية أيضا يقصد السلطان، فاعترضه الأمير داود بن منكلان الكردي وضربه بالسيف، وسبق الحشيشي إلى ابن منكلان فجرحه في جبهته، وقتله ابن منكلان، ومات ابن منكلان من ضربة الحشيشي بعد أيا. وجاء آخر من الباطنية فحصل في سهم الأمير علي بن أبي الفوارس فهجم على الباطني ودخل الباطني فيه ليضربه فأخذه علي تحت إبطه، وبقيت يد الباطني من ورائه لايتمكن من ضربه، فصاح علي: اقتلوه واقتلوني معه، فجاء ناصر الدين محمد بن شيركوه فطعن بطن الباطني بسيفه، ومازال يُخضخضه فيه حتى سقط ميتا ونجا ابن أبي الفوارس. وخرج آخر من الحشيشية منهزما، فلقيه الأثير شهاب الدين محمود، خال السلطان فتنكب الباطني عن طريق شهاب الدين فقصده أصحابه وقطعوه بالسيوف.
وأما السلطان فإنه ركب من وقته إلى سرادقه ودمه على خده سائل، وأخذ من ذلك الوقت في الاحتراس والاحتراز، وضرب حول سرادقه مثال الخركاه، ونصب له في وسط سرادقه برجا من الخشب كان يجلس فيه وينام، ولايدخل عليه إلا من يعرفه، وبطلت الحرب في ذلك اليوم، وخاف الناس على السلطان.
واضطرب العسكر وخاف الناس بعضهم من بعض، فألجأت إلى ركوب السلطان ليشاهده الناس، فركب حتى سكن العسكر، وعاد إلى خيمته.س وأخذ في قتال عزاز فقاتلها مدة ثمانية وثلاثين يوماً حتى عجز من كان فيها وسألوا الأمان، فتسلمها حادي عشر ذي الحجة، وصعد إليها وأصلح ماتهدّم منها، ثم أقطعها لابن أخيه تقيّ الدين عمر.
وكانت عزاز أولا للجفينة غلام نور الدين، فلما ملك السلطان منبج أخذها منه الملك الصالح وقوّاها لعله يحفظها من الملك الناصر، فلم يبلغ ذلك.
ولما فرغ السلطان من أمر عزاز حقد على من بحلب لما فعلوه من أمر الحشيشية، فسار حتى نزل حلب، خامس عشر ذي الحجة، وضربت خيمته على رأس الياروقية فوق جبل جوشن وجبى أموالها وأقطع ضياعها، وضيق على أهلها، ولم يفسح لعسكره في مقاتلتها، بل كان يمنع أن يدخل إليها شئ أو يخرج منها أحد.
وكان سعد الدين كمشتكين في حارم، وكانت إقطاعه في يد نوابه، وكان انتزعها من يد أولاد الداية بعد أن عصى نائبها.
وكان سبب خروجه إليها أنّ السلطان لما نزل على عزاز خاف كمشتكين أن ينتقل منها إلى حارم، فخرج إليها، فلما نزل السلطان على حلب ندم كمشتكين على كونه خارجا في حارم، وخاف أن يجري بين السلطان وبين الأمراء الحلبيين صلح فلا يكون له فيه ذكر ولااسم. فراسل السلطان يتلطف معه الحال ويقول: لو فسح لي في الدخول إلى حلب لسارعت في الخدمة وأصلحت الأمر على مايرومه السلطان. وراسل أيضا الملك الصالح والأمراء بحلب يقول لهم: قد حصلت خارجاً وقد بلغتني أمورٌ ولابدّ من طلبي من الملك الناصر ليأذن لي في الصيرورة إليكم، فإن الذي قد حصل عندي لايمكنني الكلام فيه. فراسل الملك الصالح السلطان في الأذن له في الدخول إلى حلب، فأذن له؛ وطلبوا الرهائن منه، فأنفذ السلطان إليهم رهينة شمس الدين بن أبي المضاء الخطيب والعماد كاتب الإنشاء، وأنفذوا من حلب إلى السلطان رهينةً نصرة الدين ابن زنكي.
وحكى العماد الكاتب قال: لما حصلنا داخل حلب أُخذنا برأي العدل ابن العجمي وجعلنا في بيت ومنع منا غلماننا، ولم يُحضر لنا طعام ولامصباح، وبتنا في أنكد عيش.
وفي تلك الليلة دخل كمشتكين إلى حلب، فلما أصبحوا أُحضرت أنا وابن أبي المضاء إلى الملك الصالح، وكان عنده ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود وجماعة من أرباب الدولة، وكان صاحب الكلام العدل ابن العجمي، فأخذ يتحدث بلثغته، ويترجم بلكنته، ويضرب صفحا عني، ويوهم الجماعة أني وأني.
وما درى الغِمرُ بأني امرؤ ... أُميّز التبر من الترب
قد عارك الأهوال حتى غدا ... بين الورى كالصارم العضب
قد راضه الدّهر، فَلْو أمَّه ... بخطبه ما ريع للخطب
قال: وعرضت نسخة اليمين علينا، وصرفنا ولم يلتفت إلينا.
فلما صار إلى السلطان وأخبراه بما جرى في حقهما من الهوان، علم أن ذلك كان حيلة عليه حتى دخل كمشتكين إلى حلب، فأطلق نصرة الدين وقاتل أهل حلب.
ولم يزل منازلا لحلب إلى انسلاخ سنة إحدى وسبعين وخمسمائة؛ ثم كان ما سيأتي ذكره.
فصل في بواقي حوادث هذه السنة ودخزل قرقوش إلى المغربقال العماد: وفي سابع شوّال وصل أخو السلطان شمس الدولة من اليمن إلى دمشق.
وذكر ابن شداد أنه قدم في ذي الحجة.
قلت: ولمّا سمع السلطان بقدُومه أرسل إليه بالمثال الفاضليّ كتابا أوّله: (أَنا يُوسُفُ وَهَذا أَخي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلْنَا). وقال في آخره: ولقد أحسن عدنان المبشر إذْ طلع علينا طلوع الفجر قبل شمسه، وغرس في القلوب ما يسرّنا ويسرّه جنى غرسه.
قال ابن أبي طيّ: كان سبب خروجه من اليمن كراهية البلاد، والشّوق إلى أخيه الملك الناصر، وأن يرى ملوك الشام وغيرها. وأمر للعساكر بما أنعم الله به عليه من النّعم والأموال.
قال: وحكى أنه لما تحدّث الناس بخروج شمس الدّولة من اليمن كان باليمن رجل يقال له عباس، وكان صهر ياسر بن بلال الحبشي صاحب عدن، وكان بين عباس وياسر عداوة، فافتعل عباس كتاباً على لسان ياسر وزوّر عليه علامته إلى زيد بن عمرو بن حاتم صاحب صنعاء يقول فيه: إن شمس الدولة سائر إلى أخيه الملك الناصر إلى الشام، وسبب خروجه ضعفه عن اليمن؛ فأمسكوا ما كنتم تحملون إليه من الأتاوة والرشوة ويبقى لكم. واحتال حتّى وصل الكتاب إلى شمس الدولة، وكان نازلا على حصن يعرف بالخضراء يحاصره.
فلما وقف شمس الدولة على الكتاب استدعى ياسراً وقال له: هذا خطك وعلامتك؟ قال: كأنه هو. قال: فبأي شئ استحققت منك هذا وقد قرّبت منزلتك، وأبقيت عليك بلادك، ورفعت بضبعك على أهل إقليمك. وأراه الكتاب. فلما وقف عليه ياسر حلف أنه ماكتبه، ولايعرفه، ولااملاه لأحد، ولم يعلم خبره. فلم يصدقه شمس الدولة، وأمر به فقتل صبراً بين يديه. فهاب شمس الدولة ملوك اليمن وحملوا إليه الأموال وحلفوا له على الطاعة.
ثم إن شمس الدولة خرج إلى تهامة وتوجه إلى الشام واستخلف على تهامة سيف الدولة مبارك بن كامل بن منقذ؛ وعثمان بن علي الزنجيلي على عدن؛ وتوجه إلى حضرموت ففتحها، واستناب عنه بها رجلا كرديا يسمى هارون، وكان مقامه بشبام واستمرّ الكردي بها مدة.
ثم أن صاحب حضرموت تحرّك وجمع، فقتل، وعاث هارون في تلك البلاد واستقام أمره. ووليّ شمس الدولة ثغر تعزّ مملوكه وجعل إليه أمر الجند، وولىّ قلعة بعكر مملوكه قايماز.
قال: وكان وصول شمس الدولة إلى السلطان قبل وقعة المواصلة وكسرتهم، وكان شمس الدولة سبب الظفر، وأعطاه السلطان سرادق سيف الدين صاحب الموصل بما فيه من الفرش والأثاث والالات، وولاه دمشق وأعمالها والشَّام، وأمره أن يكون في وجه الفرنج لأن السلطان خاف من الحلبيين أن يكاتبوا الفرنج كعادتهم.
قال: وفيها قتل صدّيق بن جولة صاحب بُصرى وصَرْخد، قتله ابنُ أخيه، وملك بعدهُ بُصْرى وصرخد شهورا، فكاتبه شمس الدولة أخو السلطان وحلف له على مايريده من إقطاع؛ واقترح شمس الدولة أن يكتب هو مايريده ليحلف عليه، فأنفذ من بُصْرى نسخة يمين كتبها قاضي بصرى، وكان قليل المعرفة بالفقه والتصرّف في القول، فلم يستقص فيها وجوه التأويل. فلما استوثق بها من شمس الدولة وخرج إليه تأوَّل عليه شمس الدولة في اليمين وقبضه، ثم أقطعه عشرين ضيعة، ثم أخذها منه بعد أيام.
قال: وفيها عصى الأمير غرس الدّين قليج بتلّ خالد بسبب كلام جرى بينه وبين كمشتكين، فأنهد إليه من حلب عسكرا فحاصروه أياما، وسلم الحصن، وصلحت حاله.
قال ولما ملك شمس الدّولة اليمن سمت نفس ابن أخيه تقيِّ الدِّين إلى الملك وجعل يرتاد مكانا يحتوى عليه، فأُخبر أنَّ قلعة ازبري هي فم درب المغرب، وكانت خرابا فأشير عليه بعمارتها، وقيل له متى عمرت وسكنها أجنادٌ أقوياء شجعان مُلِكَت برقة، وإذا ملكت برقة مُلك ماوراءها. فأنفذ مملوكه بهاء الدِّين قراقوش وقدّمه على جماعة من أجناده ومماليكه، فصاروا إلى القلعة المذكورة وشرعوا في عمارتها.
واجتمع بقراقوش رجل من المغرب فحدّثه عن بلاد الجريد وفزّان، وذكر له كثرة خيرها، وغزارة أموالها، وضعف أهلها، ورغبّه في الدخول إليها. فأخذ جماعة من أصحابه وسار في حادي عشر المحرّم من هذه السّنة، فكان يكمن النَّهار ويسير الليل مدّة خمسة أيام، وأشرف على مدينة أوجلة فلقيه ملكها وأكرمه واحترمه، وسأله المقام عنده ليعتضد به ويزوّحه بنته ويحفظ البلاد من العرب، وله ثلث ارتفاعها. ففعل قراقوش ذلك فحصل له من ثلث الارتفاع ثلاثون ألف دينار، فأخذ عشرة آلاف لنفسه وفرّق على رجاله عشرين ألفا.
وكان إلى جانب أوجلة مدينة يقال لها الأرزاقية، فبلغ أهلها صنيع قراقوش في أوجلة وأنه حرس غلالهم، فصاروا إليه ووصفوا له بلدهم وكثرة خيره وطيب هوائه، ورغبّوه في المصر إليهم على أنهم يملكونه عليهم. فأجاب على ذلك، واستخلف على أوجلة رجلا من أصحابه يقال له صباح ومعه تسعة فوارس من أصحابه، فحصل لقراقوش أموال كثيرة.
واتفق أنّ صاحب أوجلة مات، فقتل أهل أوجلة أصحاب قراقوش، فجاء قراقوش وحاصرها حتى افتتحها عنوة وقتل من أهلها سبعمائة رجل، وغنم أصحابه منها غنيمة عظيمة، واستولى على البلاد.
ثمّ إن أصحابه رغبوا في الرّجوع إلى مصر وخشى قراقوش أن يقيم وحده فرجع معهم. فلمّ حصل بمصر طاب له المقام وثقل عليه العود، وزوّجه تقيّ الدّين بإحدى جواريه. وكان استناب بأوجلة وقال لأهلها أنا أمضى إلى مصر لتجديد رجال وأعود إليكم.
قال ابن الأثير: وفي ربيع الآخر سنة إحدى وسبعين استوزر سيف الدّين صاحب الموصل جلال الدين أبا الحسن علي بن جمال الدّين الوزير، رحمهما الله تعالى، ومكنّه في ولايته، فظهرت منه كفاية لم يُظَّنها النَّاس، وبدا منه معرفة بقواعد الدّول وأوضاع الدّواوين، وتقرير الأمور والاطلاع على دقائق الحسبانات، والعلم بصناعة الكتابة الحسابية والإنشاء حيّرت العقول، ووضع في كتابة الإنشاء وضعا لم يعرفوه.
وكان عمره حين ولي الوزارة خمسا وعشرين سنة؛ ثمّ قبض عليه في شعبان سنة ثلاث وسبعين وشفع فيه كمال الدين بن ينسان وزير صاحب آمد وكان قد زوجه بنته، فأُطلق وسار إليه. وبقي بآمد يسيرا مريضا، ثم فارقها، وتُوفي بدنيسر سنة أربع وسبعين، وحُمل إلى الموصل فدفن بها، ثمّ حُمل منها في موسم الحجّ إلى المدينة ودفن عند والده. وكان من أحسن الناس صورة ومعنىً، رحمه الله تعالى.
قال: ثمّ إن سيف الدين استناب دُزْدَاراً بقلعة الموصل الأمير مجاهد الدّين قايماز في ذي الحجة سنة إحدى وسبعين، وردّ إليه أزمة الأمور في الحلّ والعقد، والرفع والخفض وكان بيده قبل هذه الولاية مدينة إربل وأعمالها ومعه فيها ولدٌ صغير لزين الدَّين على، لقبه أيضا زين الدِّين، فكان البلد لولد زين الدِّين اسماً لامعنى تحته، وهو لمجاهد الدِّين صورة ومعنىً.
قلت: وفيها في حادي عشر رجب توفيّ حافظ الشام أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر صاحب التاريخ الدمشقي رحمه الله تعالى، وحضر السلطان صلاح الدين جنازته ودفن في مقابر باب الصغير.
وفيها قدم دمشق أبو الفتوح عبد السَّلام بن يوسف بن محمد بن مقلد الدّمشقي الأصل البغدادي المولد التنوخي الجماهري الصوفي ابن الصوفي؛ ذكره العماد في الخريدة وقال: كان صديقي، وجلس للوعظ وحضر عنده صلاح الدين وأحسن إليه، وعاد إلى بغداد.
وذكر العماد من أشعاره مقطعات، منها في الحقائق، وأنشدها في مجلسه:
يامالكاً مُهجتي، يامنُتهى أملي ... ياحاضراً شاهداً في القلب والفكر
خلقتني من تراب أنت خالقه ... حتى إذا صرتُ تمثالاً من الصُّور
أجريت في قالبي رُوحاً منورة ... تمرُّ فيه كَجَرْي الماء في الشجر
جمعت بين صفا رُوحٍ منوّرة ... وهيكلٍ صنعته من معدنٍ كدر
إن غبت فيك فيا فخري وياشرفي ... وإن حضرت فيا سمعي ويابصري
أو احتججت فسري منك في ولهٍ ... وإنْ خطرتُ فقلبي منك في خطر
تبدو فتمحوُ رسومي ثم تثبتُها ... وإن تغيبت عنّي عشتُ بالأثر
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وخمسمائةقال العماد: والسّلطان مقيم بظاهر حلب، فعرف أهلها أنّ العقُوبة أليمة، والعاقبة وخيمة. فدخلوا من باب التذلل، ولاذوا بالتوسل وخاطبوا في التّفّضل، وطلبوا الصُّلح؛ فأجابهم، وعفا وعفّ، وكفى وكفّ؛ وأبقى للملك الصالح حلب وأعمالها، واستقرى كل عثرة لهم وأقالها؛ وأراد له الإعزاز، فرد عليه عزاز.
وقال ابن شداد: أخرجوا إليه ابنةً لنور الدين صغيرة سألت منه عزاز فوهبها إياها.
قال ابن أبي طيّ. لما تمّ الصلح وانعقدت الأيمان، عوّل الملك الصالح على مراسلة السلطان وطلب عزاز منه، فأشار الأمراء عليه بإنفاذ أخته، وكانت صغيرة، فأُخرجت إليه؛ فأكرمها السلطان إكراماً عظيماً، وقدم لها أشياء كثيرة، وأطلق لها قلعة عزاز وجميع مافيها من مال وسلاح وميرة وغير ذلك.
وقال غيره: بعث الملك الصالح أخته الخاتون بنت نور الدين إلى صلاح الدين في الليل فدخلت عليه، فقام قائماً وقبّل الأرض وبكى على نور الدين؛ فسألت أن يردّ عليهم أزاز فقال سمعا وطاعة، فأعطاها إياها وقدّم لها من الجواهر والتحف والمال شيئا كثيرا. واتفق مع الملك الصالح أنّ له من حماة وما فتحه إلى مصر، وأن يطلق الملك الصالح أولاد الداية.
قال العماد: وحلفوا له على كلّ ماشرطه، واعتذروا عن كلّ ما أسخطه. وكان الصُّلح عاماً لهم وللمواصلة وأهل ديار بكر؛ وكُتب في نسخة اليمن أنه إذا غدر منهم واحدٌ وخالف، ولم يفِ بما عليه حالف، كان الباقون عليه يداً واحدة، وعزيمة متعاقدة، حتى يفئ إلى الوفاء والوفاق، ويرجع إلى مرافقة الرّفاق.
فلما انتظم الصلح ذكر السلطان ثأره عند الاسماعيلية وكيف قصدوه بتلك البلية؛ فرحل يوم الجمعة لعشر بقين من المحرّم، فحصر حصنهم مصياث ونصب عليه المجانيق الكبار، وأوسعهم قتلاً وأسراً، وساق أبقارهم، وخرّب ديارهم، وهدم أعمارهم، وهتك أستارهم، حتّى شفع فيهم خاله شهاب الدين محمود بن تكش صاحب حماة، وكانوا قد راسلوه في ذلك لأنهم جيرانه، فرحل عنهم وقد انتقم منهم.
قال: وكان الفرنج قد أغاروا على البقاع، فخرج إليهم شمس الدّين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم، وهو متولي بعلبك ومقطع أعمالها، ومدبّر أحوالها، والمتحكم في أموالها، فقتل منهم وأسر أكثر من مائتي أسير، وأحضرهم عند السلطان وهو على حصار مصياث، فجدّد منه إلى غزو الفرنج الانبعاث.
قال ابن أبي طيّ: وهذا أكبر الدواعي في مصالحة السلطان لسنان وخروجه من بلاد الاسماعيلية، لأن السلطان خاف أن تهيج الفرنج في الشام الأعلى وهو بعيد عنه، فرُبما ظفروا من البلاد بطائل؛ فصالح سناناً وعاد إلى دمشق.
قال العماد: وكان قد خرج شمس الدولة أخو السلطان من دمشق حين سمع أن الفرنج على الخروج، وباسطهم عند عين الجر في تلك المروج؛ ووقع من أصحابه عدّة في الأسار، منهم سيف الدين أبو بكر بن السلار.
ووصل السلطان إلى حماة وقد استكمل الظَّفر، واجتمع فيها بأخيه شمس الدولة ثاني صفر، وهو أول لقائه بعدما أزمع عنه إلى اليمن السفر؛ وتعانق الأخوان في المخيّم بالميدان، وتحدّثا في الحدثان، وروعات الفراق، ولوعات الأشواق.
وكان قد وصل إلى السلطان من أخيه هذا عند مفارقته بلاد اليمن كتاب ضمنّه أبياتا أظنها من شعر ابن المنجم المصري، أولها:
الشوق أولع بالقلوب وأوجع ... فَعَلاَمَ أدفع منه مالا يُدفع
منها:
وحملتُ من وَجد الأحبة مفرداً ... ماليس تحمِلهُ الأحبّة أجمع
لايَسْتَقرّ بيَ النّوى في موضع ... إلا تقاضاني التَّرَّحلَ موضع
فإلى صلاح الدين أشكو أنني ... من بعده مُضْنى الجوانح موجع
جزعا لبعد الدار منه، ولم أكن ... لولا هواه، لبعد دارٍ أجزع
فلأركبنَّ إليه متن عزائمي ... ويُخبّ بي ركبُ الغرام ويوضع
حتّى أشاهد منه أسعد طلعة ... من أفقها صبح السعادة يطلع
قال العماد: فسألني السلطان أن أكتب له في جوابها على رَوِيها ووزنها، فقلت. فذكر قصيدة، منها:
مولاي شمس الدولة الملك الذي ... شمس السيادة من سناه تطلع
مالي سواك من الحوداث ملجأُ ... مالي سواك من النّوائب مفزع
وَلأَنت فخر الدين فخري في العلا ... وملاذُ آمالي، ورُكني الأمنع
إلا بخدمتك المجلة موقعي ... والله ما للملك عندي موقع
وبغير قُربك كلُّ ما أرجوه من ... درك المُنى متعذر متمنع
للنَصَّرُ إن أقبلت نحوي مُقْبل ... واليمنُ إن أسرعت نحوي مسرع
قال: ثمّ سرنا إلى دمشق ووصلنا إليها سابع عشر صفر، وفوّض ملك دمشق إلى أخيه الملك المعظم شمس الدولة، وعزم إلى مصر السّفر.
فصل في ذكر جماعة من الأعيان تجدّد لهم ما أقتضى ذكرهُ في هذه السنة
قال العماد: في السادس من المحرّم توفيّ بدمشق القاضي كمال الدين بن الشهروزري، وعمره ثمانون سنة، لأن مولده في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة. وكان في الأيام النُّورية بدمشق هو الحاكم المتحكم، وصلاح الدين إذ ذاك يتولى الشحنكية بدمشق، وكمال الدين يعكس مقاصده بتوخيّه الأحكام الشرّعية، وربما كسر أغراضه، وأبدى عن قبوله إعراضه، ويقصد في كلّ مايعرض له اعتراضه، وكم صبر على جماعة بحلمه وراضه، إلى أنْ نقله الله سبحانه من نيابة الشحنكية إلى المُلك، وصار كمال الدين من قضاة ممالكه المنتظمة في السلك، وكان في قلبه منه مافيه، وما فرط منه فات وقت تلافيه. فلما ملك دمشق أجراه على حكمه، ولمْ يؤاخذه بحرُمه، واحترم نوّابه، وأكرم أصحابه، وفتح للشرّع بابه، وخاطبه واستحسن جوابه، ولم يزل يستفتيه ويستهديه، ويعرض على رأيه ما يعيده ويبديه.
وكان ابن أخيه ضياء الدين بن تاج الدين الشهرزوري قد هاجر إلى صلاح الدين بمصر في ريعان ملكه، وأذنت هجرته في درك إرادته بإدارة فلكه، وأنعم عليه هناك بجزيرة الذهب، ومن دار الملك بمصر بدار الذهب، ووفرَّ حظه من الذهب، وملكه داراً بالقاهرة نفيسةً جميلةً، جليَّة جليلة، ورتّب له وظائف، وخصّه بلطائف؛ ووصل مع صلاح الدين إلى الشام، وأمره جارٍ على النظام.
ولما أشتد بكمال الدين المرض، وكاد يفارق جوهره العرض، أراد أنْ يبقى القضاء في ذويه، فوّصى مع حضور ولده بالقضاء لضياء الدين ابن أخيه، علماً منه بأن السلطان يُمضي حُكمه لأجل سوالفه، ويجعله عنده من عوائد عوارفه. ومات ولم يخلف مثله، ومن شاهده شاهد العقل والفضل كلّه، بارًّا بالأبرار، مختاراً للأخيار، مكرما للكرام، ماضيا في الأحكام. وقد قوّاه نور الدين رحمه الله وولده في أيامه، وسدد مرامي مرامه.
وهو الذي سن دار العدل لتنفذ أحكامه بحضرة السلطان، فلا يبقى عليه مغمز ولا ملمز لذوي الشنآن. وهو الذي تولى له أبناء أسوار دمشق، ومداسها، والبيمارستان. فاستمرت عادته واستقرت قاعدته في دولة السلطان. وتوفي ونحن بحلب محاصرون.
وذكر العماد في الخريدة لابنه محييّ الدّين قصيدة في مرثيته منها:
ألِمُّوا بِسَفْحِي قاسيون فسلموا ... على جدثٍ بادي السنا، وترحموا
وبالرغم مني أن أناجيه بالمنى ... وأسأل مع بعد المدى من يُسلم
لقد عدمت منك البرية والداً ... أحنّ من الأم الرؤف وأرحم
ولاسيما إخوان صدق بجلق ... همُ في سماء المجد والجود أنجم
نشرت لواء العدل فوق رؤسهم ... فما كان فيهم من يضام ويظلم
لقيت من الرّحمن عفوا ورحمة ... كما كنت تعفو، ماحييتَ، وترحم
قال العماد: وجلس ابن أخيه ضياء الدين مكانه، وأحسن إحسانه، وأبقى نُوّاب عمه، وأنفذ أحكامه بنافذ حكمه.
وكان الفقيه شرف الدين أبو سعد عبد الله بن أبي عصرون قد هاجر من حلب إلى السلطان، وقد أنزله عنده بدمشق في ظل الإحسان، وهو شيخ مذهب الشافعي رضي الله عنه، والأقوم بالفتيا، وأعرفهم بما تقتضيه الشريعة من أمر الدين والدُّنيا، والسلطان يؤثر أن يفوّض إليه منصب القضاء، ولايرى عزل الضياء؛ فأفضى بسرّ مراده إلى الأجل الفاضل، وكان الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري يتعصب لشيخه، فاستشعر الضياء من العزل، وأشير عليه بالاستعفاء، ففعل، فأعفى وبقيت عليه الوكالة الشرعية عنه في بيع الأملاك.
قال العماد: وأول ما أشتريت منه بوكالة السلطان الأرض التي ببستان بقر الوحش التي بنيت فيها المواضع من الحمام والدور والاصطبل والخان، وكنت قد احتكرتها في الأيام النورية فملكتها في الأيام الصلاحية.
قلت: قد خرجت هذه الأماكن في سنة ثلاث وأربعين وستمائة بسبب الحصار، واستمرّ خرابها، وعفت آثارها، وصارت طريقاً على حافة بردى وأنت خارج من جسر الصفيّ خارج باب الفرنج مارًّا إلى ناحية الميدان.
قال: فلما استعفى ضياء الدين بن الشهرزوري من القضاء لم يبق في منصب القضاء إلا فقيه يعرف بالأوحد داود بن إبراهيم بن عمر بن بلال الشافعي وكان ينوب عن كمال الدين، فأمره السلطان أن يجري على رسمه، ويتصّرف في حكمه.
وكان السلطان لإحياء القضاء في البيت الزَّكوي مؤثرا، ولذكر مناقبه مكثر، وقد سبق منه الوعد للشيخ شرف الدّين بن أبي عصرون وهو راج، وبطلب نجاز عِدَته مناج، ففوض إليه القضاء والحكم والإنفاذ والإمضاء، على أن يتولى محيي الدين أبو المعالي محمد بن زكي الدين، والأوحد، قاضيين في دمشق، يحكمان، وهما عن نيابته يوردان ويصدران؛ وتوليتهما بتوقيع من السلطان. ولم يزل الشيخ شرف الدين ابن أبي عصرون متولياً للقضاء، منفرداً بالحكم والإمضاء، سنة اثنتين وثلاث وسبعين في ولاية أخي السلطان الملك المعظم فخر الدين.
فلما عدنا إلى الشام تكلم الناس في ذهاب نور بصره، وأنه لايقوم في القضاء بورده وصدره، ففوض السلطان القضاء بالإشارة الفاضلية إلى ابنه محيي الدين أبي حامد محمد، كأنه نائب أبيه، ولا يظهر للناس صرفه عما هو متوليه. واستمر القضاء له إلى انقضاء أشهر من سنة سبع وثمانين، ثم صُرف واستقلّ به ابن زكي الدين، فأقام في مدّة ولايته للشرع القواعد والقووانين، وفوّض ديوان الوقوف بجامع دمشق وغيره من المساجد والمشاهد إلى أخيه مجد الدين بن الزكي، فتولاه إلى أن انتقل من أعمال الوقوف إلى موقف اعتبار الأعمال، وتوّلاها بعده أخوه محيي الدّين على الاستقلال، إلى آخر عهد السلطان وبعده.
قلت: وفيها في صفر وقف السلطان قرية حزم باللوى من حوران على الجماعة الذين يشتغلون بعلم الشريعة أو بعلم يحنتاج إليه الفقيه، أو من يحضر لسماع الدروس بالزاوية الغربية من جامع دمشق المعروفة بالفقيه الزاهد نصر المقدسي رحمه الله تعالى، وعلى من هو مدرّسهم بهذا الموضع من أصحاب الإمام الشافعي رضي الله عنه؛ وجعل النظر لقطب الدين النيسابوري رحمه الله.
ورأيت كتاب الوقف بذلك على هذه الصورة، وعليه علامة السلطان رحمه الله: " الحمد لله، وبه توفيقي " .
قال العماد: وفيها في ليلة الجمعة الثاني عشر من صفر، ونحن في طريق الوصول إلى دمشق، توفي شمس الدين ابن الوزير أبي المضاء بدمشق، وهو أول خطيب بالديار المصرية للدولة العباسية. وكان يتولى الرسالة إلى الديوان العزيز، ويقصده الشعراء ويحضره الكرماء، فيكثر خلعهم وجوائزهم، ويبعث على مدحه غرائزهم. فحمل السلطان همه وقرّب ولده، وجبر بِتْربيته يُتْمه.
ثم تعين ضياء الدين بن الشهرزوري بعده للرسالة إلى الديوان، وصارت منصبا له ينافس عليه، واستتب له هذه السفارة إلى آخر العهد السلطاني، وذلك بعد المضي إلى مصر والعود إلى الشام، فإنه بعد خاطب في هذا المرام؛ فأما في هذه السنة فإنه كان في مسيرنا إلى مصر في الصحبة، وهو متردد إلىّ بصفاء المحبة.
وفيها في آخر صفر تزوّج السلطان بالخاتون المنعوته عصمة الدين بنت الأمير معين أنر، وكانت في عصمة نور الدين رحمه الله تعالى، فلما توفي أقامت في منزلها بقلعة دمشق، رفيعة القدر، مستقلة بأمرها، كثيرة الصدقات، والأعمال الصالحات. فأراد السلطان حفظ حرمتها، وصيانتها وعصمتها، فأحضر شرف الدين بن أبي عصرون وعُدُوله، وزوجه إياها بحضرتهم أخوها لأبيها الأمير سعد الدّين مسعود بن أنر بإذنها، ودخل بها وبات عندها، وقرن بسعده سعدها؛ وخرج بعد يومين إلى مصر.
وذكر العماد بعد وفاة ابن الشهرزوري وابن أبي المضاء الأمير مؤيد الدولة أبا الحارث أسامة بن مرشد بن سديد الملك أبي الحسن عليّ بن منقذ، وعوده إلى الشام عند علمه بوصول السلطان، فقال: هذا مؤيد الدولة من الأمراء الفضلاء، والكرماء الكبراء، والسادة القادة العظماء، وقدمتعه الله بالعمر وطول البقاء؛ وهو من المعدودين من شجعان الشام، وفرسان الإسلام.
ولم تزل بنو منقذ ملاّك شيزر، وقد جمعوا الشيّادة والمفخر، ولما تفرّد بالمعقل منهم من تولاه، لم يرد أن يكون معه فيه سواه، فخرجوا منه في سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وسكنوا دمشق وغيرها من البلاد، وكلهم من الأجواد الأمجاد، وما فيهم إلا ذو فضل وبذل، وإحسان وعدل، وما منهم إلا من له نظمٌ مطبوع، وشعر مصنوع، ومن له قصيدة وله مقطوع.
وهذا مؤيد الدّولة أعرقهم في الحسب، وأعرفهم بالأدب؛ وكانت جرت له نبوة في أيام الدمشقين، وسافر إلى مصر وأقام هناك سنين، في أيام المصريين، فتمت نوبة قتل المنعوت بالظافر، وقتل عباس وزيرهم إخوته، وإقامة المنعوت بالفائز، وما صادف ذلك من الهزاهز. فعاد مؤيد الدوّلة إلى الشام، وسار إلى حصن كيفا وتوطن بها. ولما سمع بالملك الصلاحيّ جاء إلى دمشق، وذلك في سنة سبعين، وقال:
حمدت على طول عمري المشيبا ... وإن كنت أكثرت فيه الذنوبا
لأني حييتُ إلى أن لقي ... تُ بعد العدو صديقاً حبيبا
قال: وكنت أسمع بفضله وأنا بأصبهان في أيام الشبيبة. وأنشدني له مجد العرب العامري بأصفهان في سنة خمس وأربعين هذين البيتين، وهما من مبتكرات معانيه، في سنّ قلعها:
وصاحبٍ لم أَملَّ الدّهر صحبته ... يشقى لنفعي ويسعى سَعي مجتهد
لم ألقه مُذْ تصاحبنا، فحين بدا ... لناظري افترقنا فُرقة الأبد
قال: فلما لقيته بدمشق في سنة سبعين أنشدنيها لنفسه؛ مع كثير من شعره المبتكر من جنسه.
قلت: ومن عجيب مااتفق أني وجدت هذين البيتين مع بيتين آخرين، والمجموع أربعة أبيات، في ديوان أبي الحسين أحمد بن منير الأطرابلسي؟ ومات ابن منير سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. قرأت في ديوانه: وقال في الضرس:
وصاحب لا أمل الدهر صحبته ... يسقى وأجنى ضرّه بيدي
أدنى إلى القلب من سمعي ومن بصري ... ومن تلادي، ومن مال، ومن ولدي
ثم قال:
أخلُو ببِثِّي من خالٍ بوجنته ... مداده زايد النقصير للمدد
لم ألقه مذ تصاحبنا.... البيت فالأشبه أنّ ابن منير أخذهما وزارد عليهما، ولهذا غير فيهما كلمات. وقد وجدت هذا البيت الأول على صورة أخرى حسنة:
وصاحب ناصح لي في معاملتي
ويجوز أن يكون أسامة أنشدهما متمثلاً فنسبا إليه لما كان مظنة ذلك. ويجوز أن يكون اتفاقا، والله أعلم.
قال العماد: وشاهدت ولده عضد الدّين أبا الفوارس مرهفا وهو جليس صلاح الدّين وأنيسه وقد كتب ديوان شعر أبيه لصلاح الدّين، وهو لشغفه به يفضله على جميع الدوّاوين. ولم يزل هذا الأمير العضد مرهف مصاحباً له بمصر والشام، وإلى آخر عصره، وتوطن بمصر؛ فلما جاء مؤيد الدولة أبوه، أنزله أرحب منزل، وأورده أعذب منهل، وملكه من أعمال المعرّة ضيعة زعم أنها كانت قديما تجري في أملاكه، وأعطاه بدمشق داراً وإدراراً. وإذا كان بدمشق جالسه وآنسه، وذاكره في الأدب ودارسه.
وكان ذا رأي وتجربة، وحنكة مهذبة، فهو يستشيره في نوائبه، ويستنير برأيه في غيهبه؛ وإذا غاب عنه في غزواته، كاتبه وأعلمه بواقعاته ووقعاته، واستخرج رأيه في كشف مهماته، وحلّ مشكلاته. وبلغ عمره ستّا وتسعين سنة، فإن مولده سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وتوفي سنة أربع وثمانين وخمسمائة.
وقد تقدم من أخباره في قتل الأسد في شيبته أيام كونه بشيزر، وذكرت له أيضا ترجمة حسنة في تاريخ دمشق.
فصل في رجوع السلطان إلى مصروخرج من دمشق يوم الجمعة، رابع شهر ربيع الأول.
قال العماد: ولما استتمت للسلطان بالشام أمور ممالكه، وأمن على مناهج أمره ومسالكه، أزمع إلى مصر الإياب، وقد أمحلت من بعده من جود جَود السحاب، وتقدمه الأمراء والملوك. وخرج بكرة الجمعة ونزل بمرج الصّفّر، ثم رحل عنه قبْل العْصر إلى قريب الصنمتين، وخرجت معه وقلبي مروع إلى أهلي، فما نزلت منزلا إلا نظمت أبياتاً. فقلت يوم المسير وقد عبرت بالخيارة:
أقول لِركبٍ بالخيارةٍ نُزَّل ... أثيروا؛ فما لي في المقام خيار
همُ رحلُوا عنك الغداة ومادَرَوْا ... بأنهم قد خلفوك وساروا
حليف اشتياق لاترى من تحبّه ... وفي القلب من نار الغرام أُوار
أجيروا من البلوى فؤادي فعندكم ... ذمام له ياسادتي وجوار
وقلت وقد نزلنا بالفقيع:
رأيتني بالفقيع منفرداً أضْ ... يع من فقع قاعها الضائع
بعت بمصر دمشق عن غرر ... مني، فياغبن صفقة البائع
صبْري والقلبُ عاصيان، وما ... غير همومي وأدمعي طائعي
وقلت بالفوّار:
تحّدر بالفوّار دمعي على الفوْر ... فقلتُ لجيراني أجيروا من الجور
وأصعب مالاقيتُ أني قانع ... من الطيف مذ بنتم بزور من الزور
وقلت بالزرقاء:
ولمَ أنسَ بالزرقاء يوم وداعنا ... أنامل تدمى حيْرةً للتندم
أعدتُك يازرقاء حمراءَ، إنني ... بكيتك حتى شيب ماؤك بالدم
تأخر قلبي عندهم مُتخلفا ... وخالفتهمُ في عزْمتي والتقدم
فيا ليت شعري هل أعود إليهم ... وهل ليت شعري نافعٌ للمتيم
قال: وقلت وقد عبرنا على مسالك قريبة من قلعة الشوبك، وفيها تخطف الإفرنجُ القاصدين إلى مصر:
طريق مصر ضيّق المسْلك ... سالكهُ لاشك في مهلك
وحب مصر صار جبا لمن ... أوقعه في شبك الشوبك
لكنما من دونها كعبة ... محجوجة مبرورة المنسك
بها صلاح الدين يُشكى الذي ... إليه من أيامه يشتكى
قال: ونظمت في طريق مصر قصيدة مشتمله على ذكر المنازل بالترتيب، وإيراد البعيد منها والقريب. واتفق أن السلطان سير إلى مصر الملك المظفر تقي الدين، وكان لايستدعي من شاديه، إلا إنشادها في ناديه، ويطرب لسماعها، ويعجب بإبداعها، وكان قد فارق أهله بدمشق كما فارقت بها أهلي، وجمع الله بهم بعد ذلك شملي. وهي هذه.
هجرتكمُ لاعَنْ ملالٍ ولاغّدْر ... ولكن لمقْدُور أُتيح منَ الأمر
وأعلم أني مخطئ في فراقكم ... وعّذري في ذنبي، وذنبي في عذري
أرى نُوباً للدّهر تُحصى ولا أرى ... أشد من الهجران في نُوب الدهر
بعيني إلى لُقيا سةكم غشاوةٌ ... وسمعي عنْ نجوْى سواكم لذو وقر
وقلبي وصبري فارقاني لبُعدكم ... فلا صبر في قلبي، ولاقلب في صدري
وإني على العهد الذي تعهدونه ... وسرّي لكم سرّي، وجهري لكم جهري
تجرعت صرف الهمّ من كأس شوقكم ... وها أنا في صحوي تريف من السّكر
وإن زماناً ليس يعْمر موْطني ... بسُكناكمُ فيه فليس من العمر
وأقسم لو لم يقسم البين بيننا ... جوى الهمّ ما أمسيت مقتسم الفكر
أسير إلى مصر وقلبي أسيركمُ ... ومِنْ عجبٍ أسري وقَلبيَ في أسر
أخلايَ قد شطّ المزار، فأرسلوا ال ... خيال وزورُوا في الكرى واربحوا أجري
تذكرت أحبابي بجلق بعدما ... ترحلت، والمشتاق يأنسُ بالذكر
وناديت صبري مستغيثاً فلم يجب ... فأسبلت دمْعي للبكلء عَلَى صَبْري
ولمّا قصدنا من دمشق غباغبا ... وبتنا من الشوق المُمِضِّ على الجمر
نزلنا برأس الماء عند وداعنا ... موارد من ماء الدموع التي تجري
نزلنا بصحراء الفقيع وغودرت ... فواقع من فيض المدامع في الغدر
ونهنهت بالفوّار فيض مدامعي ... ففاضت وباحت بالمكتَّم من سرّي
سرينا إلى الزرقاء، منها، ومن يصب ... أواماً يَسِرْ حتى يرى الْوِرد أو يسري
تذكرت حمّام القُصير وأهله ... وقد جزت بالحمام في البلد القفر
وبالقريتين القرْيتَين، وأين من ... مغاني الغواني منزل الأدم والعفر
وَرْدنا من الزيتون حسمي وأيلة ... ولم نسترح حتى صدرنا إلى صدر
غشينا الغواشي وهي يابسة الثّرى ... بعيدة عهد القطر بالعهد والقطر
وضنّ علينا بالنّدى ثمد الحصا ... ومن يرتجى ريَّاً من الثمد النّزْر
فقلت اشرحي بالخمس صدراً مطيّتي ... بصدر وإلا جادك النّيل للعشر
رأينا بها عيْن المواساة، إننا ... إلى عين موسى نبذل الزّاد للسّفر
وما حسرت عيني على فيض عبرةٍ ... أكفكفها حتى عبرنا على الجسر
ومِلْنا إلى أرض السّدير وجنّة ... هنالك من طلحٍ نضيدٍ ومن سدر
وجبنا الفلا حتى أصبنا مباركا ... على بركة الجبّ المبشر بالقصر
ولمّا بدا الفسطاط بشرت رفقتي ... بمن يتلقي الوفد بالوفر والبشر
بكت أمّ عمرو من وشيك ترَّحلي ... فيا خجلتي من أمّ عْمرو وَمِنَ عمرو
تقول إلى مصر تصير! تعجبَّا ... وماذا الذي تبغي، ومنْ لك في مصر؟!
فقلت: ملاذي، الناصر، الملك الذي ... حصلت بجداوه على الملك والنّصر
فقالت: أقم لاتعدم الخير عندنا ... فقلت: وهل تغني السّواقي عن البحر
ثقي برجوع يضمن الله نجحه ... ولاتقتضي أنْ نُبْدل العُسر باليسر
عطيَّته قد ضاعفت مُنَّة الرّجا ... ونعمته قد أضعفت مُنَّة الشكر
قال: وكان الدخول إلى القاهرة يوم السبت سادس عشر ربيع الأول بالزي الأجمل والعزّ الأكمل.
وتلّقى السلطان أخوه ونائبه الملك العادل سيف الدين إلى صدر، وعبر إلينا عند بحر القلزم الجسر، وتلقانا خير مصر ووصلت إلينا ثمراتها، وجليت علينا زهراتها، فظهر بنا نشاطها، وزاد اغتباطها، ودخل السلطان داره، ووفق الله في جميع الأمور إيراده وإصداره.
وكانت قد صعبت عليّ مفارقة دمشق وأهلها، لقلة الوثوق بأني أحصل بمثلها؛ فنظمت يوم خروجي منها أبياتا إلى ناصر الدين محمد بن شيركوه، منها:
بمهجتي خنث العط ... ف مستلذ الدّلال
يقول لي بانكسارٍ ... ورقّةٍ واعتلال
معاتباً بحديثٍ ... أصفى من السلسال
ما مصر مثل دمشقٍ ... بعتَ الهدى بالضلال
فقلت عنّت أمورٌ ... عجيبة الأشكال
أسيرُ في طلب العزّ ... مثل سيْر الهلال
لم يبلغ البدرُ لولا ال ... مَسيرُ أوجَ الكمال
وكيف أترك شغلي ... وإنه رأس مالي
صلاح الدين حالي صلاح الدّ ... ين الغزير النّوال
مالي أفارق مَلْكاً ... ملكته آمالي
ياناصر الدّين: قلبي ... عليه في بلبال
ثم ذكر العماد المحسنين إليه بالقاهرة، وسيّدهم المولى الأجل الفاضل؛ وقد مدحه بقصيدة منها:
كيف لايفتدى لي الدهر عبدا ... وأنا عبدُ عبِدْ عَبِدْ الرّحيم
بدوام الأجل سيّدنا الفا ... ضل يادولة الأفاضل دومي
إذ أراه ينوب عني لدى المل ... ك مناب الأرواح عند الجسوم
مالك الحلّ في الممالك والعق ... د وحكم التحليل والتحريم
مُعْمِلٌ للنفاذ في كلّ قطر ... قلماً حاكماً على إقليم
يتلقى الملوكُ في كل أرض ... كتبه القادمات بالتعظيم
ناحل الجسم، ذو خطاب به يصغ ... ر للدهر كلُّ خطب جسيم
ثم ذكر الأخوين تقي الدين عمر وعز الدين فرخشاه، وهما أبنا أخي السلطان، وهو شاهنشاه بن أيوب، وهمام الدين بزغش الشنباشي والى القاهرة. ومدح فرخشاه بقصيدة حسنة، منها:
شادنٌ كالقضيب لدْن المهزه ... سلبت مقلتاه قلبي بغمزه
كلّما رُمْت وصله رام هجري ... وإذا زدتُ ذلة زاد عزه
للصبا من عذاره نسج حُسن ... رقم المسك في الشقائق طرزه
وعزيزٌ عليّ أن أصطباري ... فيه قد عزه الغرام وبزه
مارأى ما رأيت مجنونُ ليلى ... في هواه، ولا كثير عَزّه
ما ذكرنا الفسطاط إلا نسينا ... ما رأينا بالنيْربين والاَرزْه
ونصيري عليه نائل عز الد ... ين ذي الفضل، خلّد الله عزه
فرّغ الكنز من ذخائر مالٍ ... مالئاً من نفائس الحمد كنزه
همةٌ مستهامة بالمعالي ... للدَِّنايا أبيّة مشمئزه
قال العماد: وتوفرنا على الاجتماع في المغاني لاستماع الأغاني، والتنزه في الجزيرة والجيزة، والأماكن العزيزة، ومنازل العزّ والروضة، ودار الملك والنيل والمقياس، ومراسي السفن، ومجاري الفلك والقصور بالقرافة، وربوع الضيافة، ورواية الأحاديث النبوية، والمباحثة في المسائل الفقهية، والمعاني الأدبية.
قال: واقترحنا على القاضي ضياء الدين بن الشهرزوري أن يفرجنا في الأهرام، فقد كنا شغفنا بأخبارها في الشام؛ فخرج بنا إليها، ودرنا تلك البرابي والبراري، والرمال والصحاري، وأحمدنا المقارَّ والمقاري؛ وهالنا أبو الهول، وضاق في وصفه مجال القول؛ ورأينا العجائب، وروينا الغرائب، واستصغرنا في جنب الهرمين كلَّ ما استعظمناه، وتداولنا الحديث في الهرم ومن بناه، فكلٌ يأتي في وصفهما بما نقله، لابما عقله، واجتهدوا في الصعود إليه فلم يوجد من توقله، وحارت العقول في عقوده، وطارت الأفكار عن توَّهم حدوده؛ فياله من مولود للدهر قبل الطوفان، انقرضت القرون الخالية على آبائه وجدوده، وسمار الأخبار يسمرون بذكر حديث أحداث عاده وثموده، ويُدل إحكامه وعلّوه على همة بانيه في بأسه وجوده. وإن في الأرض الهرمين كما أن في السماء الفرقدين، وهما كالطودين الراسخين، وكالجبلين الشامخين؛ قد فنيت الدُّهور وهما باقيان، وتقاصرت القصور وهما راقيان، وكأنهما لأُمّ الأرض ثديان، وعلى ترائب التراب نهدان، ولسلطان العالم علمان، وإلى مراقي الأملاك سُلمان، وهما لليل والنهار رقيبان، ولرضوي ولشمام نسيبان، ومن زحل والمريخ قريبان، ولعوادي الخطوب خطيبان، ولثور الفلك روقان، ولشخص الكرة الترابية سافان.
قلت: ثم ذكر العماد جماعة ممن كان يقيم الضيافة له ولمثله من الفضلاء والأعيان؛ فذكر منهم الناصح مؤدب أولاد السلطان، وله دارٌ مشرفة على النيل، وذكر منهم اللسان الصوفي البلخي، وكان له صحبة قديمو بنجم الدين أيوب والد السلطان، وله دارٌ أيضا على شاطئ النيل برسم ضيافة من نزل به.
قال: ثم وقف السلطان داره على الصوفية من بعده، وانتقل بعد سنين إلى النَّعيم وخُلده.
فصل في بيع الكتب وعمارة القلعة والمدرسة والبيمارستانقال العماد: وكان لبيع الكتب في القصر كلّ أسبوع يومان، وهي تباع بأرخص الأثمان وخزائنها في القصر مرتَّبة البيوت، مقسمة الرّفوف، مفهرسة بالمعروف. فقيل للأمير بهاء الدين قراقوش، متولي القصر، والحالّ والعاقد للأمر: هذه الكتب قد عاث فيها إلى أرضها؛ وهو تركيّ لاخبرة لهى بالكتب، ولادربة له بأسفار الأدب. وكان مقصود دلالي الكتب أن يكسوها، ويخرموها ويعكسوها. فأخرجت، وهي أكثر من مائة ألف، من أماكنها، وغُربت من مساكنها، وخرّبت أوكارها، وأذهبت أنوارها وشتت شملها، وبتُ حبلها، واختلط أدبيُّها بنجوميتها، وشرعيُّها بمنطقيها، وطبيُّها بهندسيِّها، وتواريخها بتفاسيرها، ومجاهيلها بمشاهيرها.
وكان فيها من الكتب الكبار، وتواريخ الأمصار، ومصنفات الأخبار، ما يشتمل كل كتاب على خمسين أو ستين جزءاً مجلدا، إذا فقد منها جزءٌ لايخلف أبدا. فاختلطت واختبطت، فكان الدلال يخرج عشرة عشرة من كل فن كتباً مبترة، فتسام بالدون، وتباع بالهُون؛ والدلال يعرف كلّ شدة، وما فيها من عدة، ويعلم أن عنده من أجناسها وأنواعها، وقد شارك غيره في ابتياعها، حتى إذا لفق كتاباً قد تقوم عليه بعشرة، باعه بعد ذلك لنفسه بمائة.
قال: فلما رأيت الأمر حضرت القصر، واشتريت كما أشتروا، ومريت الأطباء كما مروا، واستكثرت من المتاع المبتاع، وحويت نفائس الأنواع. ولما عرف السلطان ما ابتعته، وكان بمئتين، أنعم عليَّ بها، وأبرأ ذمَّتى من ذهبها؛ ثم وهب لي أيضا من خزانة القصر ما عينت عينه من كتبها.
ودخلت عليه يوماً وبين يديه مجلدات كثيرة انتقيت له من القصر، وهو ينظر في بعضها، ويبسط يدي لقبضها، وقال: كنت طلبت عينتها، فهل في هذه منها شئ؟ فقلت: كلها، وما أستغنى عنها، فأخرجتها من عنده بحمال، وكان هذا منه بالإضافة إلى سماحه أقل نوال.
قال: وكان السلطان لما تملك مصر رأى أن مصر والقاهرة لكلّ واحدة منهما سور لايمنعها، فقال: إن أفردت كلّ واحدة بسور احتاجت إلى جند مفرد يحميها، وإني أرى أن أدير عليهما سوراً واحداً من الشاطئ إلى الشاطئ.
وأمر ببناء قلعة في الوسط عند مسجد سعد الدولة على جبل المقطم، فابتدأ من ظاهر القاهرة ببرج في المقسم، وانتهى به إلى أعلى مصر ببروج وصلها بالبرج الأعظم. ووجدت في عهد السلطان بيتاً رفعه النواب، وأكمل فيه الحساب، ومبلغه، وهو دائر البلدين مصر والقاهرة بما فيه من ساحل البحر والقلعة بالجبل، تسعة وعشرون ألفا وثلاثمائة ذراع وذراعان؛ من ذلك ما بين قلعة المقسم على شاطئ النيل والبرج بالكوم الأحمر بساحل مصر عشرة آلاف وخمسمائة ذراع، ومن القلعة بالمقسم إلى حائط القلعة بالجبل بمسجد سعد الدوة ثمانية آلاف وثلاثمائة واثنان وتسعون ذراعا، ومن جانب حائط القلعة من جهة مسجد سعد الدولة إلى البرج بالكوم الأحمر سبعة آلاف ومائتا ذراع، ودائر القلعة بجبل مسجد سعد الدولة ثلاثة آلاف ومائتان وعشرة أذرع. وذلك طول قوسه في أبدانه وأبراجه من النيل إلى النيل، على التحقيق والتعديل، وذلك بالذراع الهاشمي بتولي الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي.
وبنى القلعة على الجبل، وأعطاها حقها من إحكام العمل، وقطع الخندق وتعميقه وحفر واديه وتضييق طريقه. وهناك مساجد يعرف أحدها بمسجد سعد الدولة، فاشتملت القلعة عليها ودخلت في الجملة. وحفر في رأس الجبل بئراً ينزل فيها بالدرج المنحوتة من الجبل إلى الماء المعين، ولم يتأت له هذا كله في سنين متقاربة لولا أعانه ربُّه المعُين.
وتوفي السلطان وقد بقي من السور مواضع والعمارة فيه مستمرة، ووظائف نفقاتها مستدرة.
قال: وأمر ببناء المدرسة بالتربة المقدسة الشلفعية ورتب قواعدها بفرط الألمعية، وتولاها الفقيه الزاهد نجم الدين الخبوشاني، وهو الشيخ الصالح الفقيه الورع، التقيّ النقيّ.
قال: وأمر باتخاذ دارٍ في القصر بمارستاناً للمرضى، واستغفر الله تعالى بذلك واسترضى؛ ووقف على البيمارستان والمدرسة وقوفاً، وقد أبطل منكراً وأشاع معروفاً؛ وأضرب عن ضرائب فمحاها، وهبّ إلى مواهب فأسداها، واهتم بفرائض ونوافل فأداها.
فصل في خروج السلطن إلى الإسكندرية وغير ذلك من بواقي حوادث هذه السنةقال العماد: ثمَّ خرج من القاهرة يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان، واستصحب ولديه الأفضل عليَّاً والعزيز عثمان، وجعل طريقه على دمياط، ورأى في الحضور بالثغر ومشاهدته الاحتياط، وكان له بها سبيّ كثير جلبه الأسطول، فامتد مقامه بظاهر البلد يومين، ووهب لي منه جارية.
ثمَّ وصلنا إلى ثغر الإسكندرية وترددنا مع السلطان إلى أخيه الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمد السلفي، وداومنا الحضور عنده، واجتلينا من وجهه نور الايمان وسعده؛ وسمعنا عليه ثلاثة أيام، الخميس والجمعة، والسبت، رابع شهر رمضان، واغتنمنا الزمان، فتلك الأيام الثلاثة هي التي حسبناها من العمر، فهي آخر ما اجتمعنا به في ذلك الثغر.
وشاهدنا ما استجده السلطان من السُّور الدائر، وما أبقاه من حسن الآثار والمآثر؛ وما انصرف حتى أمر بإتمام وتعمير الأسطول.
قال ابن أبي طيّ: ولما نوى السُّلطان المقام بالإسكندرية ليصوم فيها رأى أنه لايخلي نفسه من ثواب يقوم له مقام القصد إلى بلاد الكفار والجهاد في المشركين، فرأى الأسطول وقد أخلقت سفنه وتغيرت آلاته، فأمر بتعمير الأسطول وجمع له من الأخشاب والصَّناع أشياء كثيرة. ولما تمَّ عملُ المراكب أمر بحمل الآلآت، فنقل من السلاح والعدد ما يحتاج إليه، وشحنه بالرجال، وولىّ فيه أحد أصحابه، وأفرد له إقطاعا مخصوصا وديوانا مفردا، وكتب إلى سائر البلاد يقول، القولُ قولُ صاحب الأسطول، وأن لايمنُع من أخذ رجاله وما يحتاج إليه، وأمر صاحب الأسطول أن لايبارح البحر، ويغرى إلى جزائر البحر.
قال العماد: وقلت في معنى تنقلي في البلاد:
يوماً بحيّ، ويوماً في دمشق، وبال ... فُسطاط يوماً، ويوماً بالعراقين
كأن جسمي وقلبي الصبّ ما خلقا ... إلا ليُقتسما بالشوق والبين
وقلت يوم الخروج من القاهرة:
يا باخلاً عند الوداع بوقفة ... لو سامني روحي بها لم أبخل
ماكان ضرك لو وقفت لسائل ... ترك الفؤاد بدائه في المنزل
هلاّ وقفت لقلب من أحرقته ... مقدار إطفاء الحريق المشعل
إن أسر مرتجلاً ففي أسر الهوى ... قلبي لديك، مقيداً لم يرحل
عذب العذاب لدى فؤاد المبتلي ... إذ كنت أنت معذبي والنبتلى
وقلت وقد نزلنا بين منية غمر ومنية سمنود:
نزلت بأرض المنيتين ومنيتي ... لقاؤكم الشافي ووصبكم المجدي
سأبلي ولاتبلي سريرة ودكم ... وتؤنسني إن مت في وحشة اللحد
قال: وعدنا من ىالإسكندرية في شهر رمضان، فصمنا بقية الشهر بالقاهرة، والسلطان متوفر في ليله ونهاره، على نشر العدل وإنشاره، وإفاضة الجود واغزاره، وسماع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأخباره، وإشاعة العلم والإعلان بأسراره، وإبداء شعار الشرع وإظهاره، وإبقاء المعروف على قراره، وإعدام أعلام الباطل وإنكاره.
وقال: ومن مدائحي في السلطان ما أنشدته إياه سادس شوال:
فديتك من ظالم منصف ... وناهيك من باخل مسرف
أيبلغ دهري قصدي وقد ... قصدت بمصر ذرا يوسف
ويوسف مصر بغير التقى ... وبذل الصنائع لم يوصف
فسر وافتح القدس واسفك به ... دماءً متى تجرها ينظف
وأهد إلى الأسبتار البتا ... ر وهدّ السقوف على الأسقف
وخلّص من الكفر تلك البلاد ... يخلصك الله في الموقف
قال: وفيها وصل رُسُل المواصلة وصاحبي الحصن وماردين إلى دمشق فاستوثقوا بتحليف أخي السلطان شمس الدولة تورانشاه بن أيوب، ثم قصدوا مصر، ووقع رسول صاحب حصن كيفا في الأسر.
قال ابن أبي طيّ: وصل رسول الموصل القاضي عماد الدين بن كمال بن الشهرزوري بهدية قود، فخرج الموكب إلى لقائه، وأكرمه السلطان واحترمه؛ وقدم بعده رسول نور الدين قرا أرسلان ورسول صاحب ماردين، بهدايا، واجتمعوا في دمشق، وخرجوا إلى السلطان بمصر، فاعترضهم الفرنج، فأسر رسول صاحب الحصن، ولم يزل في الأسر حتى فتح السلطان بيت الأحزان فأطلقه وأحسن إليه: قال: وفيها رجع قراقوش إلى أوجلة وتلك البلاد، فجمع أموالاً ورجع إلى مصر، ثم أراد الرجوع فمنعه العادل، ثم خلصه فرخشاه فرجع وفتح بلاد فزّان بأسرها.
قال العماد: ثم خرج السلطان إلى مرج فاقوس، من اعمال مصر الشرقية، لإرهاب العدوّ وهو يركب للصيد والقنص، والتطلع إلى أخبار الفرنج لانتهاز الفرص. واقترح عليّ أن أمدح عز الدين فرخشاه بقصيدة موسومة، ألزم فيها الشين قبل الهاء؛ فعملت ذلك في أواخر ذي الحجة، فقلت:
مولاي عزَّ الدين فرخشه ... الدهر من يَرْجُك لايخشه
تلقاه سمح الكف، دفاقها ... طلق المحيَّا كرماً، بشه
إن شئت فوتاً بالرّدى فالقه ... أو شئت فوزاً بالعلا فاغشه
يديم بالأيدي وبالأيد في ... خزى لهاه والعدا بطشه
كم ملكٍ عاداكم لم يبت ... إلا جعلتم عرشه نعشه
خوفتم الشرك، فلا قمصه ... أمنتَّم يوما ولا فنشه
اورثك السؤدد ياابن العلا ... والداك السيد شاهنشه
وقال في الخريدة. كنا مخيمين بمرج فاقوس مصممين على الغزاة إلى غزة، وقد وصلت أساطيل ثغرى دمياط والإسكندرية بسبي الكفار، وقد أوفت على ألف رأس عدة من وصل في قيد الأسار؛ فحضر ابن رواحة منشداً مهنئاً بعيد النحر، سنة اثنتين وسبعين، ومعرضا بما وهبه الملك الناصر من الإماء والعبيد، قصيدة، منها:
لقد خبر التجارب منه حزم ... وقلبّ دهره ظهراً لبطن
فساق إلى الفرنج الخيل برا ... وأدركهم على بحر بسفن
وقد جلب الجواري بالجواري ... يمدن بكل قدٍ مرجحن
يزيدهم اجتماع الشمل بؤساً ... فمرنان تنوح على مرن
زهت إسكندرية يوم سيقوا ... ودمياط، فما منيا بغبن
يرون خياله كالطيف يسري ... فلو هجعوا أتاهم بعد وهن
أبادهم تخوفه، فأمسى ... مناهم لو يبيتهم بأمن
تملك حولهم شرقا وغربا ... فصاروا لاقتناص تحت رهن
أقام بآل أيوبٍ رباطا ... رأت منه الفرنجة ضيق سجن
رجا أقصى الملوك السلم منهم ... ولم ير جهده في البأس يغني
وفيها أبطل السلطان المكس الذي كان بمكة على الحاج، وسيأتي ذكره في أخبار سنة أربع وسبعين.
قال أبن الأثير: وفي سنة اثنتين وسبعين شرع مجاهد الدين، يعنى قايماز دزدار قلعة الموصل، في عمارة جامعه بظاهر الموصل بباب الجسر، وهو من أحسن الجوامع. ثم بني بعد ذلك الرباط، والمدرسة والبيمارستان، وكلها متجاورات.
قال: وتوفي في شهر ربيع الأول من سنة خمس وتسعين بقلعة الموصل، وهو متوليهل، والحاكم في الدولة الأتابكية النورية. وكان ابتداء ولايته القلعة في ذي الحجة، سنة إحدى وسبعين، ثم قبض عليه سنة تسع وثمانين، وأعيد إلى ولايتها بعد الإفراج عنه، وبقي إلى الآن. وكان أصله من أعمال شبختان وأخذ منها وهو طفل. وكان عاقلا خيّرا، ديّنافاضلاً، تعلم الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وكان يحفظ من الأشعار والحكايات والنوادر والتواريخ شيئاً كثيرا، إلى غير ذلك من المعارف الحسنة. وكان يكثر الصوم، وله ورد يصليه كل ليلة ويكثر الصدقة. وبنى عدة جوامع منها الذي بظاهر الموصل، وبنى خانقاهات منها التي بالموصل، ومدارس وقناطر على الأنهار، إلى غير ذلك من المصالح؛ ومناقبه كثيرة.
قال العماد في الخريدة: نزلنا ببركة الجب لقصد فرض الجهاد، وعرض الأجناد؛ فكتب الأسعد بن مماتي إلى قصيدة في الملك الناصر، ويعرض بالشطرنج فإنه كان يشتغل به، وذلك في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين:
ياكريم الخيم في الخيم ... أهيف كالريم ذو شمم
عجبي للشمس إذ طلعت ... منه في داج من الظلم
كيف لاتطمى لواحظه ... ورماة الطرف في العجم
لاتصد قلب المحب لكم ... لايحل الصيد في الحرم
ياصلاح الدين ياملكا ... قد براه الله للأمم
أضحت الكفار في نقم ... وغدا الإسلام في نعم
إن يك الشطرنج مشغلة ... لعليّ القدر والهمم
فهي في ناديك تذكرة ... لأمور الحرب والكرم
فلكم ضاعفت عدّتها ... بالعطاء الجمّ لاالقلم
ونصبت الحرب نصبتها ... فانثنت كفاك بالقمم
فابق للأقدار ترفعها ... وأمر الأقدار كالخدم
وفيها توفي بالإسنكدرية القاضي الشريف أبو محمد عبد الله العثماني الديباجي من ولد الديباج محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله عنهم، ويعرف بابن أبي إلياس، من بيت القضاء والعلم. وكان واسع الباع في علم الأحاديث، كثير الرواية، قيما بالأدب، متصرفا في النظم والنثر، إلا أنه مقلّ من النظم، أوحد عصره في علم الشروط، وقوله المقبول على كل العدول. ذكر ذلك العماد رحمه الله في الخريدة.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة
والسلطان مخيم بمرج فاقوس، فنظم العماد في الأجل الفاضل قصيدة ميمية في منتصف المحرم، وخدمه بها هناك في المخيم أولها:
ريم هضيم يروم هضمي ... من سقم عينيه عين سقمي
ان رمت يا عاذلي صلاحي ... فخلني والهوى وزعمي
لومك يذكي الغرام قل لي ... انت نصيحي ام انت خصمي!
ايازماني الغشوم اقصر ... انك لا تستطيع غشمي
عبد الرحيم الرحيم اضحى ... عوني على خطبك الملم
الفاضل، الافضل، الاجل ... المفضل، الاشرف، الاشم
غيث غياث، وجود جود ... وبحر علم، وطود حلم
يرعاه في اليمين منه ... تستخرج الدر من خضم
قال: وكان عندنا بالمخيم بالعباسة، في المحرم علم الدين الشتاني، وهو من ادباء الموصل وشعرائها، وفصئاحها وظرفائها، وفد سنة اثنين وسبعين الى مصر، واهدى النظم والنثر، واصطنعه عز الدين فرخشاه، وانزله في جواره، وجمع له من رفده ومن الامراء الف دينار، فمدح السلطان بالمخيم بكلمة، مطلعها:
غدا النصر معقوداً برايتك الصفراء ... فسر وافتح الدنيا، فأنت بها احرى
قلت: لم يذكر العماد من هذه القصيدة غير هذا البيت، وانه لقائم مقام قصائد كثيرة.
والشاتاني هو ابو على الحسن بن سعيد له ترجمة في تاريخ دمشق. وذكر العماد في الخريدة، وذكر فيها من هذه القصيدة:
يمينك فيها اليُمن واليُسر في اليُسرى ... فبُشرى لمن يرجو النّدى منهما بُشرى
قال العماد: وكانت الأعلام السلّطانية صُفراً، لايفارق نشرها نصراً.
قلت: وفيها يقول بعض الفضلاء:
إذا اسود خطب دونه الموت أحمر ... أتت بالأيادي البيض أعلامه الصّفر
وقد ظهرت منصوبة جزمت بها ... ظهور العدا من رفعها الخفض والجرّ
وأضحت تجوز الأرض شرقاً ومغربا ... ولله في إعلاءِ رتْبته سِرّ
وقال العماد: عاد السلطان إلى القاهرة وأقام بها، ثم اهتمت بالغزاة همتّه إلى غزة وعسقلان، فخرج يوم الجمعة ثالث جمادى الأولى بعد الصلاة، وخيم بظاهر بلبيس في خامسه، وبخميسه. ثم تقدمنا منه إلى السدير، وخيمنا بالمبرز، ثم نُودي: خذوا زاد عشرة أيام أخرى زيادة للاستظهار، ولإعواز ذلك عند توسط ديار الكفار.
قال: العماد: فركبت إلى سوق العسكر للابتياع، وقد أخذ السّعر في الارتفاع، فقلت لغلامي: قد بدا لي، وقد خطر الرّجوع من الخطر ببالي، فاعرض للبيع أحمالي وأثقالي، وانتهز فرصة هذا السّعر الغالي، وأنا صاحب قلم لاصاحب علم، وقد استشعرت نفسي في هذه الغزوة من عاقبة ندم؛ والمدى بعيد، والخطب شديد؛ وهذه نوبة السيّوف لانوبة الأقلام، وفي سلامتنا سلامة الإسلام؛ والواجب على كل منا أن يلزم شغله، ولايتعدّى حدّه، ولايتجاوز محلّه، لاسيما ونواب الدّيوان قد استأذنوا في العودة، وأظهروا قلّة العِدّة. وأظهرت سرّي للمولى الأجل الفاضل، فسرّه ذلك، إشفاقاً عليّ، وإحساناً إلىّ. وكان السّلطان أيضا يؤثر إيثاري، ويختار اختياري؛ فقال لي: أنت معنا أو عزمت أن تدعنا ولاتتبعنا؟ فقلت: الأمر للمولى، وما يختاره لي فهو أولى، فقال: تعّود وتدعو لنا، وتسأل الله أنْ يبلغنا من النّصر سؤلنا.
وكنت قد كتبت أبياتا إلى المخدوم الفاضل ونحن بالمبرز في العشرين من الشهر:
قيَل في مصر نائلٌ عدد الرّم ... لِ، ووفرْ كنيلها الموفور
فاغتررنا بها وسرّنا إليها ... ووقعنا، كما ترى، في الغرور
وحظينا بالرّمل والسيّر فيه ... ومنعنا من نيلها الميسور
وبرزنا إلى المبرز نشكو ... سدرا من نزولنا بالسدير
قيل لي: سِر إلى الجهاد. وماذا ... بالغٌ في الجهاد جهدُ مسيري؟
ليس يقوى في الجيش جأشي، ولاقو ... سي موتورا إلى موتور
أنا للكتُب لاالكتائب إقدا ... مي، وللصُّحف لا الصفاح حضوري
كاد فضلي يضيع لولا اهتمامُ ال ... فاضل الفائض النّدى بأموري
فأنا منه في ملابس جاهٍ ... رافلاً منه في حبير حبور
فهو رقيّ من الحضيض حظوظي ... وسما بي إلى سرير السُّرور
وقال: وما انقطعت عن السلطان في غزواته إلافي هذه الغزوة، وقد عظَّم الله فيها من النبوة؛ وكانت غزوات السلطان بعدها مؤيدة، والسّعادات فيها مجددة.
وكنت لما فارقت القاهرة استوحشت، وتشوقت إلى أصدقائي وتشوشت، وكتبت من المخيم ببلبيس إلى القاضي شمس الدين محمد بن موسى المعروف بابن الفرّاش، وقد أقام بالقاهرة، وكان صاحباً لي من الأيام النورية، واستشرته في التأخر عن السلطان. فكتب في الجواب: رافقه ولاتفارقه، فكرهت رأيه، فكتبت إليه:
إذا رأيتم بمكروهي فذاك رضاً ... لاأبتغي غير ما تبغون لي غرضا
وإن رأيتم شفاء القلب في مرضي ... فإنني مُستطيبٌ ذلك المرضا
أنتم أشرتم بتعذيبي، فصرت له ... مُسْتعذباً، أسْتّلِذّ الْهمّ والمضضا
أصبحت ممتعظاً بي في محبتكم ... فحاش لله أن أبغى بكم عوضا
لله عيشٌ تقضَّى عندكم ومضى ... وكان مثل سحابٍ برْقهُ ومضا
العيش دان جناه الغضّ عندكم ... والقلبُ محترقُ منيّ بجمر غضا
ماكنت أعهد منكم ذا الجفاء ولا ... حسبت أنّ ودادي عندكم رُفضا
قد أظلم الأفق في عيني لغيبتكم ... فإن أذنت لشخصي في الحضور أضا
ولست أول صبّ من أحبتَّه ... لمَّا جفوا ماقضى أو طاره، وقضى
مُروا بما شئتم من محنة وأذىً ... فقد رأيت امتثال الأمر مُعترضا
طوبى لكم مصرُ، والدارّ التي قضيت ... فيها المآرب، والعيش الذي خُفضا
بعيشكم إن خلوتم بانبساطكم ... تذكروا ضجراً بالعيش منقبضا
رضيتم سفري عنكم؛ وأعهد كم ... بسفرتي عنكم لاتظهرون رضا
هلا تكلَّفتم قولاً أُسرُّ به ... هيهات جوهركم قد عاد لي عرضا
تفضلوا واشرحوا صدري بقربكم ... أو فاشرحوا لي ذا المعنى الذَّي غمضا
فكتب إليَّ في جوابها أبياتاً، منها:
لاتنسبوني إلي إيثار بُعْدكم ... فلست أرضى إذا فاقتكم عوضا
ولي ودادٌ تولَّى الصّدق عقدته ... فما تراه على الأيام منتقضا
يلقاك قلبي على سبل العتاب له ... بصحَّةٍ ليس يخشى بعْدما مرضا
وصرت كالدَّهر يجنى أهله أسفاً ... ويلتقي من عتاب المذنب المضضا
قال: ثمّ ودّعت وعُدْت، ونهضوا وقعدت.
فصل في نوبة كسرة الرَّملة
وكانت على المسلمين بالجملة، وذلك يوم الجمعة غرَّة جمادى الآخرة أو ثانية.
ورحل السلطان بعساكره فنزل على عسقلان يوم الأربعاء التاسع والعشرين من جمادى الأولى، فسبى وسلب، وغنم وغلب، وأسر وقسر، وكسب وكسر، وجمع هناك من كان معه من الأسرى فضرب أعناقهم، وتفرَّق عسكره في الأعمال مغيرين ومبيدين، فلما رأوا أن الفرنج خامدون استرسلوا وانبسطوا.
وتوَّسط السُّلطان البلاد، واستقبل يوم الجمعة، مستهلّ جمادى الآخرة، بالرّملة، راحلاً لقصد بعض المعاقل، فاعترضه نهرٌ عليه تلّ الصافية فازدحمت على العبور أثقال العساكر المتوافية، فما شعروا إلا بالفرنج طالبةً بأطلابها، حازبةً بأحزابها، ذابَّةً بذئابها، عاويةً بكلابها، وقد نفر نفيرهم، وزفر زفيرهم؛ وسرايا المسلمين في الضياع مغيرة، ولرِحا الحرب عليهم في دورهم مديرة. فوقف الملك المظفرّ تقيّ الدّين وتلقاهم وباشرهم ببيضه وسُمره، فاستشهد من أصحابه عدَّة من الكرام، انتقلوا إلى نعيم دار المقام؛ وهلك من الفرنج أضعافها.
وكان لتقي الدين ولدٌ يقال له أحمد، أول ماطرّ شاربه، فاستشهد بعد أن أردى فارسا.
قال: وكان لتقي الدين أيضا ولد آخر، اسمه شاهنشاه، وقع في أسر الفرنج. وذلك أن بعض الفرنج بدمشق خدعه وقال له: تجئ إلى الملك وهو يعطيك الملك؛ وزّور كتابا فسكن إلى صدقه وخرج معه، فلما تفرد به شدّ وثاقه، وغلّه وقيَّده، وحمله إلى الداوية، وأخذ به مالاً، وجدد عندهم له حالا وجمالا؛ وبقي في الأسر أكثر من سبع سنين حتى فكّه السلطان بمال كثير، وأطلق للداوّية كلّ من كان لهم عنده من أسير؛ فغلط القلب التقوّى على ذلك الولد جرّ هلاك أخيه، ولما عاد من الغزوة زرناه للتعزية فيه.
قال: ولو أن لتقيّ الدين رداءًا لأردى القوم، لكن النّاس تفرقوا وراء أثقالهم، ثم نجوا برحالهم، وصوّب العدوّ بجملتهم حملتهم إلى السلطان، فثبت ووقف على تقدمه من تخلف. وسمعته يوماً يصف تلك النوبة، ويشكر من جماعته الصحبة، ويقول: رأيت فارساً يحثّ نحوي حصانه، وقد صوّب إلى نحري سنانه، فكاد يبلغني طعانه، ومعه آخران قد جعلا شأنهما شانه. فرأيت ثلاثة من أصحابي خرج كلّ واحد إلى واحد منهم فبادروه وطعنوه، وقد تمكن من قربي فما مكَّنوه؛ وهم إبراهيم بن قنابر، وفضل الفيضي، وسويد بن غشم المصري، وكانوا فرسان العسكر وشجعان المعشر. وأتفق لسعادة السلطان أنّ هؤلاء الثلاثة رافقوه وما فارقوه، وقارعوا العدوّ دونه وضايقوه؛ فما زال السلطان يسير ويقف، حتى لم يبق من ظنّ أنه يتخلف.
ودخل الليل وسلك الرمل ولاماء ولادليل، ولاكثير من الزاد والعلف ولاقليل، وتعسفوا السلوك في تلك الرمال وأوعاث والأوعار، وبقوا أياماً وليالي بغير ماء ولازادٍ حتى وصلوا إلى الديار. وأذن ذلك بتلف الدّواب وترجل الركاب ولُغوب الأصحاب، وفقد كثير ممن لم يعرف له خبر، ولم يظهر له أثر. وفقد الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري وأخوه الظهير، ومن كان في صُحبتهم، فضّل الطريق عنهم، وكانوا سائرين إلى وارء، فأصبحوا بقرب الأعداء، فأكمنوا في مغارة، وانتظروا من يدلهم من بلد الإسلام على عمارة. فدّل عليهم الفرنج من زعم أنه يدل بهم، وسعى في أسرهم وعطبهم، فأسروا، وماخلص الفقيه عيسى وأخوه إلا بعد سنين؛ بستين أو سبعين ألف دينار، وفكاك جماعة من الكفار.
قال: وما اشتدت هذه النوبة بكسرة، ولاعدم نُصرة، فإن النكاية في العدوّ وبلاده بلغت منتهاها، وأدركت كلُّ نفسٍ مؤمنة مُشتهاها. لكن الخروج من تلك البلاد شتت الشمل، وأوعر السّهل، وسُلك مع عدم الماء والدليل والرمل.
ومما قدره الله تعالى من أسباب السّلامة، والهداية إلى الاستقامة، أن الأجل الفاضل استظهر في دخول بلاد الأعداء باستصحاب الكنانية والأدلاء، وأنهم ماكاونوا يفارقونه في الغداء والعشاء؛ فلما وقعت الواقعة خرج بدوابه، وغلمانه وأصحابه، وأدلائه وأثقاله، وبث أصحابه في تلك الرمال، والوهاد والتلال، حتى أخذ خبر السلطان وقصده، وأوضح بأدلائه جدده، وفرّق ماكان معه من الأزواد على المنقطعين، وجمعهم في خدمة السلطان أجمعين؛ فسُهل ذلك الوعر، وأنس بعد الوحشة القفر، وجبر الكسر.
وكان الناس في مبدأ توجُّه السلطان إلى الجهاد، ودخول الأجل الفاضل معه إلى البلاد، ربما تحدثوا وقالوا لو قعد وتخلف كان أولى به، فإن الحرب ليست من دأبه. ثمّ عُرف أنّ السَّلامة والبركة والنجاة كانت في استصحابه.
وجاء الخبر إلى القاهرة مع نجابين فخلع عليهم وأركبوا، وأُشيع بأن السلطان نصره الله، وانّ الفرنج كسروا وغلبوا. فركبت لأسمع حديث النجّابين وكيف نصر الله المسلمين، وإذا هم يقولون: أبشروا فإن السلطان وأهله سالمون، وإنهم واصلون غانون. فقلت لرفيقي ما بُشر بسلامة السلطان إلا وقد ثمت كسرة، وما ثمَّ سوى سلامته نُصرة.
ولما قرب خرجنا لتَّلقيه، وشكرنا الله على مايسره من ترقيه وتوقيه. ودخل القاهرة يوم الخميس منتصف الشهر، ونابت سلامته مناب الدّهر، وسيرنا بها البشائر، وأنهضنا ببطاقتها الطائر، لإخراس ألسنة الأراجيف، وإبدال التأمين من التخويف، فقد كانت نوبتها هائلة، ووقعتها غائلة.
وقال القاضي ابن شداد: خرج السلطان يطلب الساحل حتى وافى الفرنج على الرّملة، وذلك في أوائل جمادى الأولى، وكان مقدم الفرنج البرنس أرناط، وكان قد بيع بحلب فإنه كان أسيراً بها من زمن نور الدين رحمه الله تعالى؛ وجرى خللٌ في ذلك اليوم على المسلمين. ولقد حكى السلطان، قدّس الله روحه، صورة الكسرة في ذلك اليوم، وذلك أنّ المسلمين كانوا قد تعَبَّوا تعبئة الحرب، فلما قارب العدوّ رأى بعض الجماعة أن تغير الميمنة إلى جهة الميسرة والميسرة إلى جهة القلب، ليكون حال اللقاء وراء ظهرهم تلٌ معروف بأرض الرّملة. فبينما اشتغلوا بهذه التعبئة هجم الفرنج، وقدّر اله كسرهم، فانكسروا كسرةً عظيمة؛ ولم يكن لهم حصن قريب يأوون إليه، فطلبوا جهة الديار المصرية وضلوا في الطريق وتبددوا، وأُسر منهم جماعة منهم الفقيه عيسى. وكان وَهَناً عظيماً جبره الله تعالى بوقعة حطين المشهورة؛ ولله الحمد.
قلت: وذلك بعد عشر سنين؛ فكسرة الرّملة هذه كانت في سنة ثلاث وسبعين، وكسرة حطين كانت في سنة ثلاث وثمانين.
قال العماد الكاتب: وحيث كانت للملك المظفر تقي الدين في هذه الغزوة اليد البيضاء، أنشدته قصيدة، منها:
سقى الله العراق وساكنيه ... وحيّاه حيا الغيث الهتون
وجيراناً أمنت الجور منهم ... ومافيهم سوى وافٍ أمين
صفوا والدهر ذو كدرٍ، وقدما ... وفوا بالعهد في الزمن الخئون
بنو أيوب زانوا الملك منهم ... بحليةِ سؤودٍ وتُقى ودين
ملوكٌ أصبحوا خير البرايا ... لخير رعيةٍ في خير دين
أسانيد السيادة عن علاهم ... مُعَنْعَنَةٌ مصححةُ المتون
بنو أيوب مثلُ قريش مجداً ... وأنت لها كأنزعها البطين
أخفت الشرك حتى الذّعر منهم ... يُرى قبل الولادة في الجنين
ويومَ الرّملة المرهوبَ بأساً ... تركت الشرك منزعج القطين
وكنتَ لعسكر الإسلام كهفاً ... أوى منه إلى حصن حصين
وقد عرف الفرنج لما ... رأوا آثارها عين اليقين
وأنت ثبت دون الدّين تحمى ... حماه أوان ولى كلُّ دين
قال: واهتم السلطان بعد ذلك بإفاضة الجود، وتفريق الموجود، وافتقاد الناس بالنقود، والسنايا الصادقة الوعود، وجبر الكسير، وفك الأسير، وتوفير العدد، وتكثير المدد، وتعويض مانفق من الدواب؛ فسلوا مانابهم، ولم يأسوا على ما أصابهم.
قال ابن أبي طيّ: وقال ابن سعدان الحلبيّ يمدح السلطان، ويذكر ما فعله على عسق لان، ويهوّن عليه أمر هذه الكسرة، من قصيدة:
قرَّبت من عسقلان كلّ نائبة ... باتت تقل بوكاف من الأسل
فاض النجيع عليها وهي ممُحلة ... فأصبحت موتعا للخيل والإبل
قل للفرنجية الخذلى: رويدكم ... بالثأر أو تخرج الشعري من الحمل
ترقبوها من الفوار طالعةً ... خوارق الأرض تمحور رونق الأصل
كأنني بنواصيهنّ يقدمها ... كاسٍ من الجود عريان من النجل
حَسِب العدا ياصلاح الدين حسبهم ... أن يقرفوك بجرح غير مندمل
وهل يخاف لسان النحل ملتمسٌ ... مرّت على أصبعيه لذة العسل
فصل في وفاة كمشتكين وخروج السلطان من مصر بسبب حركة الفرنجقال العماد: وقعت المنافسة بين الحلبيين مدبري الملك الصالح، واستولى على أمره العدل ابن العجمي أبو صالح. وكان سعد الدّين كمشتكين الخادم مقدم العسكر، وأمير المعشر، وهو صاحب حصن حارم، وقد حسده أمثاله من الأمراء والخدام، فسلموا لابن العجمي الاستبداد بتدبير الدولة، فقفز عليه الاسماعيلية يوم الجمعة بعد الصلاة في جامع حلب فقتلوه.
واستقل كمشتكين بالأمر، فتكلم فيه حسّاده وقالوا للملك الصالح: ما قتل وزيرك ومشيرك ابن العجمي إلا كمشتكين فهو الذي حسن ذلك للاسماعيلية. وقالوا له: أنت السلطان وكيف يكون لغيرك حُكمٌ أو أمر! فما زالوا به حتى قبض عليه وطالبوه بتسليم قلعة حارم، وأوقعوا بها لأجله العظائم. فكتب إلى نوابه بها فنبوا وأبو، فحملوه ووقفوا به تحت القلعة، وخوّفوه بالصرعة، فلما طال أمره، قصر عمره، واستبد الصغار بعده بالأمور الكبار، وامتنعت عليه قلعة حارم، وجرد إليها العزائم. ونزل عليه الفرنج ثم رحلوا بقطيعةٍ بذلها لهم الملك الصالح واستنزل عنها أصحاب كمشتكين وولىّ بها ملوكاً لأبيه يقال له سرخك.
وقال ابن الأثير: سار الملك الصالح من حلب إلى حارم ومعه كمشتكين، فعاقبه ليأمرَ من بها بالتسليم، فلم يجب إلى ماطلب منه، فعُلق منكوساً ودُخن تحت أنفه فملت؛ وعاد الملك الصالح عن حارم ولم يملكها. ثم أنه أخذها بعد ذلك.
قال ابن شداد: أما الملك الصالح فإنه تخبط أمره، وقبض كمشتكين صاحب دولته، وطلب منه تسليم حارم إليه، فلم يفعل، فقتله. ولما سمع الفرنج بقتله نزلوا على حارم، طمعاً فيها، وذلك في جمادى الآخرة، وقاتل عسكر الملك الصالح العساكر الفرنجية. ولما رأى أهل القلعة خطرها من جانب الفرنج سلموها إلى الملك الصالح في العشر الأواخر من شهر رمضان. ولما عرف الفرنج بذلك رحلوا عن حارم طالبين بلادهم، ثمّ عاد الصالح إلى حلب، ولمْ يزلْ أصحابه على اختلاف يميل بعضهم إلى جانب السلطان قدّس الله روحه.
قال العماد: ووصل في هذه السنة إلى الساحل من البحر كند كبير يقال له اقلندس، أكبر طواغيت الكفر، واعتقد خلو الشام من ناصري الإسلام. ومن جملة شروط هدنة الفرنج أنهم إذا وصل لهم ملك أو كبير، مالهم في دفعه تدبير، أنهم يعاونونه ولايباينونه، ويحالفونه ولايخالفونه، فإذا عاد عادت الهدنة كما كانت، وهانت الشدة ولانت. وبحكم هذا الشرط حشدوا الحشود، وجندواا الجنود، ونزلوا على حماة، في العشرين من جمادى الأولى، وصاحبها، شهاب الدّين محمود الحارمي، مريض، ونائب السلطان بدمشق يؤئذ أخوه الأكبر توانشاه، وهو والأمراء مشغولون بذاتهم. وكان سيف الدين عليّ بن أحمد بن المشطوب بالقرب، فدخلها وخرج للحرب، واجتمع إليها رجال الطعن والضرب، وجرت ضروبٌ من الحروب، وكاد الفرنج تهجم البلد فأخرجوهم من الدروب. ونصر الله أهل الإسلام، بعد حصارهم لهم أربعة أيام، فانهزم الملاعين ونزلوا على حصن حارم، كما تقدم ذكره، فرحلهم عنه الملك الصالح بعد حصاره أربعة أشهر.
ومن كتاب فاضليّ إلى بغداد: " خرج الكفّار إلى البلاد الشَّامية فاسخين لعقد كان محكماً، غادرين غدرا صريحاً، مقدرين أن يجهروا على الشَّام لما كان بالجدب جريحا. ونزلوا على ظاهر حماة يوم الاثنين الحادي والعشرين من جمادى الأولى، وزحفوا إليها في ثانية فخرج إليهم أصحابنا. وتضَّمن كتاب سيف الدين - يعنى المشطوب - أن القتلى من الفرنج تزيد على ألف رجل مابين فارس وراجل، شفى الله منهم الصدور ورزق عليهم النصر والظُّهور. ثم انصرفوا محموعا لهم بين تنكيس الصُّلُب وتحطيم الأصلاب، مفرّقة أحزابهم عن المدية المحروسة كما افترقت عن المدينة الشريفة النبوية الأحزاب " .
قال العماد: وتسامع الحلبيون بيوم رحيلنا من مصر لقصد الشَّام، لنُصْرة الإسلام، وقالوا أوّل ما يصل صلاح الدين نسلم حارم. فراسلوا الفرنج وقاربوهم، وأرغبوهم وأرهبوهم، وقالوا لهم صلاح الدين واصل، ومالكم بعد حصوله عندكم حاصل. فرحل الفرنج بقطيعة من المال أخذوها، وعدّة من الأسارى خلَّصوها.
ثم تُوفى خال السُّلطان شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي، في جمادى الآخرة، وتوفي ولده تكش، ابن خال السُّلطان، قبله بثلاثة أيَّام وذلك أوان وقعة الرملة.
ولما سمع السُّلطان بنزول الفرنج على حارم رحل من البركة يوم عيد الفطر بعساكره، ووصل أيلة في عاشر الشهر، واستناب بمصر أخاه العادل؛ وأقام بها أيضا القاضي الفاضل بنيَّة الحج في السنة القابلة. ووصل السُّلطان إلى دمشق في الرابع والعشرين من شوّال. ومما نظمه العماد في التَّشويق إلى مصر قوله:
ساكني مصر، هناكم طيبها ... إن عيشي بعدكم لمْ يطب
لاعدمتم راحةً من قربها ... فأنا من بعدها في تعب
بعد العهد بأخباركم ... فابعثوا أخباركم في الكتب
ليت مصراً عرفت أني وإن ... غبتُ عنها فالهوى لم يغب
ومن ذلك قوله:
تذكرت في جلَّقٍ داركم ... بمصر، ويا بُعْد مابيننا
وما أتمنى سوى قُربكم ... وذلك والله كلُّ المنى
لكم بالجنان وطيب المقام ... وحسن النعيم بمصر الهنا
ومن ذلك أيضا:
ياساكني مصر، قد فقتم بفضلكم ... ذوي الفضائل من سكان أمصار
لله درّكمُ من عُصْبة كرُمت ... ودرُّ مصركم الغناء من دار
ومن ذلك أيضا:
ياحبذا مصرٌ وبْرِ ... كتها وصدْرٌ والعريش
فهناك أملاكي الذَّي ... نَ سَمَتْ بعزّهم العُروش
قال: ووصل كتاب من الفاضل يذكر فيه أنّ العدوّ، خذله الله تعالى نهض ووصل إلى صدر، وقالت القلعة ولم يتم له أمر، فصرف الله شره وكفى أمره.
ووصل من الفرنج مستأمن وذكر أنَّهم يريدون الغارة على فاقوس، فاستقلوا أنفسهم وعرّجوا، وذكر أنهم مضوا بنية تجديد الحشد، ومعاودة القصد.
قال: وأما نوبة العدوّ في الرّملة فقد كانت عثرةً، علينا ظاهرها، وعلى الكفَّار باطنها، ولزمنا مانسي من اسمها، ولزمهم مابقي من عزمها؛ ولادليل أدلّ على القوّة من المسير بعد شهرين من تاريخ وقعتها إلى الشَّام، نخوض بلاد الفرنج بالقوافل الثَّقيلة، والحشود الكبيرة، والحريم المستور، والمال العظيم الموفور.
قال العماد: ولما دخلنا دمشق وجدنا رُسُل دار الخلافة، قد وصلوا بأسباب العاطفة والرأفة؛ وكان حينئذ صاحب المخزن ظهير الدّين أبو بكر منصور بن نصر العطَّار، وهو من ذوي الأخطار، وله التحكم في الإيراد والإصدار، وقد توفَّر على محبَّة السُّلطان وتربية رجائه، وتلبية كتابهُ ورسوله بكلّ ماسَرَ السَّرائر، ونوّر البصائر.
فصل في ذكر أولاد السلطانقال العماد: وفي هذه السَّنة ولد بمصر للسُّلطان ابنه أبو سليمان داود.
وكتب الفاضل إلى السلطان يهنئه به ويقول: " إنه وُلد لِسَبْع بقين من ذي القعدة. وهذا الولدُ المُبارك هو المُوفى لاثني عشر ولداً، بل لاثني عشر نجماً متوقداً، فقد زاد الله في أنجمه على أنجم يوسف عليه السلام نجماً، ورآهم المولى يقظة ورأى تلك الأنجم حلما، ورآهم ساجدين له، ورأينا الخلق سجوداً، وهو قادرٌ سبحانه أن يزيد جدود المولى إلى أن يراهم أباءً وجدوداً " .
قال العماد: وكنت في بعض الليالي عند السُّلطان في آخر عهده، وجرى ذكر أولاده، واعتضاده بهم واعتداده؛ فقلت له: لو عرفت أيام مواليدهم في أعوامها، لأنشأت رسالةً على نظامها. فذكر لي ما أثبته على ترتيب اسنانهم وماصورته: الملك الأفضل نور الدين أبو الحسن عليّ؛ ولدُ بمصر ليلة عيد الفطر عند العصر سنة خمس وستين وخمسمائة.
العزيز أبو الفنح عثمان عماد الدِّين؛ ولد بمصر ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستين.
الظافر أبو العباس خضر مظفر الدِّين؛ ولد بمصر في خامس شعبان سنة ثمان وستين، وهو أخو الأفضل لأبويه.
الظاهر أبو منصور غازي غياث الدين؛ ولد بمصر منتصف رمضان سنة ثمان وستين.
المقرّ أبو يعقوب إسحاق فتح الدِّين؛ وُلد بمصر في ربيع الأول سنة سبعين.
المؤيد أبو الفتح مسعود نجم الدين؛ وُلد بدمشق في ربيع الأول سنة إحدى وسبعين، وهو أخو العزيز لأبويه: الأعزُّ أبو يوسف يعقوب شرف الدِّين؛ وُلد بمصر في ربيع الآخر سنة اثنتين وسبعين، لأم العزيز.
الزَّاهر أبو سليمان داود مجير الدِّين؛ ولد بمصر في ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين، لأم الظاهر.
المفضّل أبو موسى قطب الدِّين، ثم نعت بالمظفَّر؛ ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين، وهو أخو الأفضل لأمه.
الأشرف أبو عبد الله محمَّد عزيز الدِّين؛ وُلد بالشَّام سنة خمس وسبعين وخمسمائة.
المحسن أبو العباس أحمد ظهير الدِّين؛ وُلد بمصر في ربيع الأول سنة سبع وسبعين، وهو لأم الأشرف.
المعظَّم أبو منصور تورانشاه فخر الدين؛ ولد بمصر في ربيع الأول سنة سبع وسبعين أيضا. قلت: ومات سنة ثمان وخمسين وهي السنة التي أخرب العدو من التتار، خذلهم الله تعالى فيها، مدينة حلب وغيرها، والله أعلم.
الجواد أبو سعيد أيوب ركن الدِّين؛ ولد في ربيع الأول سنة ثمان وسبعين، وهو لأم المعز.
الغالب أبو الفتح ملكشاه نصر الدِّين؛ مولده بالشَّام في رجب سنة ثمان وسبعين، وهو لأم المعظم.
المنصور أبو بكر، وهو أيضا أخو المعظم لأبويه، ولد بحرّان بعد وفاة السلطان.
قلت: فهذه خمسة عشر ولداً ذكرهم العماد في هذا الموضع.
وقال في آخر كتاب الفتح القُدسي، على ماسنذكره في آخر هذا الكتاب: لما توفي خلَّف سبعة عشر ولداً وابنةً صغيرة. فقد فاته هنا ذكر اثنين، وهما عماد الدين شاذي، لأم ولد، ونصرة الدين مروان، لأم ولد. وأما البنت فهي مؤنسة خاتون، تزوجها الملك الكامل محمد، على ماسنذكره إن شاء الله تعالى، وهو ابن عمها الملك العادل أبي بكر بن أيوب.
وللسلطان غير هؤلاء الأولاد ممن درج في حياته، كالملك المنصور حسن، وسيأتي ذكر وفاته؛ والأمير أحمد وهو الذي رثاه العرقلة بقوله:
أيّ هلال كُسفا ... وأي غصنٍ قصفا
كان سراجاً قد طفا ... على الورى، ثمّ انطفا
لم يركب الخيل، ولم ... يقلدوه مرهفاً
قل للنحاة: ويحكم ... أحمدكم قد صرفا
صبراً صلاح الدين يا ... ربّ السماح والوفا
قال العماد: وورد من الفاضل كتاب تاريخه منتصف ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين ذكر فيه فصولا متعددة. منها: للمولى أولادٌ وقد صاروا رجالاً، ويجب أن تستجدّ للقلاع رجالا، كما فعل السابقون أعماراً وأعمالا، وقيل: القلاع أنوفٌ من حلها شمخ بها. مافي الرجال على النساء أمين.
ومنها أبيات في ذكر السلام:
مملوك مولانا، ومملوكُ ابنه ... وأخيه، وابن أخيه، والجيران
طيّ الكتاب إليه منه إجابة ... لسلام مولانا ابنه عثمان
والله قد ذكر السلام وأنه ... يجزي بأحسن منه في القرآن
وغريبة قد جئت فيها أوّلا ... ومن اقتفاها كان بعدي الثاني
فرسولي السلطان في إرسالها ... والناس رسلهم إلى السلطان
قلت ووصف الفاضل الملك المؤيد في كتاب آخر فقال: " وقد تمطت به وامتدت، وتأهبت السعادة لخطبته واعتدت، ولاحظته العيون بالوقار وطرفت دون جلالته وارتدت " .
وفي بعض كتب الفاضل عن السلطان إلى ولده الأفضل: إعزازه لأهل الفضل دليلٌ على فضله، وأنّ الأولى أن تكون كتب الأدب عند أهله. وما أبهجنا إذ جال في فضاء الفضائل، وخطب من أبكار المعاني كرائم العقائل، وآخى بين السيف والقلم، وصار في موكبه العلمُ والعلم.
ومن كتاب آخر في المعنى: فلقد زادت هذه المنقبة في مناقبه، ونظمت عقود سؤدد في ترائبه.
فما ترجم الإنسان عن سرّ فضله ... بأفضل من تقريبه لأولى الفضل
قال العماد: وخرج السلطان للصيد في ذي الحجة نحو قارا، فشكوت ضرسي، وعدمت أنسي، فرجعت مع عزّ الدين فرخشاه لحميّ عرته، فشكا منها، ألا تزور إلا نهاراً جهاراً، ولاتفارق بعرق، بالضد من الحمي التي وصفها أبو الطيب المتنبي. فنظمت فيه كلمة طويلة أولها:
يمينك دأبها بذل اليسار ... وكفك صوبها بدر النطار
وإنك من ملوك الأرض طُرَّا ... بمنزلة اليمين من اليسار
وأنت البحر في بث العطايا ... وأنت الطود في بادي الوقار
ومنها في وصف الحمى:
وزائرة وليس بها حياء ... فليس تزور إلا في النهار
ولو رهبت لدى الإقدام جوري ... لما رغبت جهاراً في جواري
ولو عرفت لظى في وهج اشتياق ... ليظهر ماأورى من أواري
ولو عرفت لظى سطوات عزمي ... لكانت من سطاي على حذار
تقيم، فحين تبصر من أناتي ... ثبات الطود تسرع في الفرار
تفارقني على غير اغتسال ... فلم أحلل لزورتها إزاري
أيا شمس الملوك، بقيت شمساً ... تنير على الممالك والديار
أحماك استعارت لفح نار ... لعزمك لم تزل ذات استعار
فصل
قال العماد: وفي العشر الأول من ذي القعدة قتل عضد الدين بن رئيس الرؤساء، وزير الخليفة ببغداد، على أيدي الملاحدة. وكان قد توجه إلى الحج، فوقف له في مضيق قطفتا، غربي دجلة، كهلٌ في يده قصّة يزعم أنه يريد رفعها إلى الوزير من يده إلى يده؛ فأومأ ليوصل قصته، فانتهز فيه فرصته، فقتله؛ وبدر كمال الدين أبو الفضل بن الوزير فقتل قاتل أبيه بسيفه. وكان مع ذلك الجاهل الملحد رفقيان له، فجرح أحدهما صاحب الباب أبو المعوج فمات، وجرح آخر ولد قاضي القضاة، وقطع الملاحدة وأحرقوا. واستقلَّ ظهير الدين أبو بكر منصور بن نصر المعروف بابن العطار صاحب المخزن بالدولة، وكان للسلطان خدنا مصافيا.
قلت: وابن العطار هذا هو المرجوم المسحوب بعد موته ببغداد، كما سيأتي ذكره في آخر حوادث سنة خمس وسبعين.
قال ابن الأثير: وكنت حينئذ ببغداد عازما على الحد، فعبر عضد الدين دجلة في شبارة، فلما ركب دابته والناس معه مابين راكب وراجل، تقدم إليه بعض العامة ليدعو له، فمنعه أصحابه، فزجرهم وأمرهم ألا يمنعوا أحداً عنه؛ فتقدم إليه الباطنية فقتلوه بالجانب الغربي وقُتل الباطنية وأحرقوا، وحمل من موضعه إلى دار له بقطفتا في الجانب الغربي فتوفي بها.
قال العماد: ووردت مطالعة الفاضل إلى السلطان تتضمن التوجع لقتل الوزير عضد الدين، وفيها: (ومارَبُّكَ بِظَلاَّمٍ للعْبيِد)، فقد كان عفا الله عنه قتل ولدي الوزير ابن هبيرة وأزهق أنفسهما وجماعة لاتحصى:
من يرَ يوماً يُرَ به ... والدهر لايغتر به
وهذا البيت بيت ابن المسلمة عريق في القتل، وجدّه هو المقتول بيد اليساسيري في وقت إخراج الخليفة القائم في أيام الملقب بالمستنصر بمصر، فهو من ذرية لم تزل قالتة مقتولة، ومازالت السيوف عليها ومنها مسلولة؛ فهم في هذه الحادثة المسمعة المصمة كما قال دريد:
*أبى الموت إلا آل صمه*
والأبيات المولى يحفظها، وهي في الحماسة، وقد ختت له السعادة بما ختمت به له الشهادة، لاسيما وهو خارج من بيته إلى بيت الله. قال الله سبحانه: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجراً إلى اللهِ وَرَسُولهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقْد وَقَع أجْرُه على الله).
إن المساءة قد تسرّ وربما ... كان السرور بما كرهت جديرا
إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك كان وزيرا
وهذان البيتان قيلا في أبي سلمة الخلال أول وزير لبني العباس.
قلت: وبلغني أنّ الفاضل كان ينشد:
وأحسن من نيل الوزارة للفتى ... حياة تريه مصرع الوزراء
قال العماد: وكان ضياء الدين بن الشَّهْرَزوْري قد سار في الرسالة إلى بغداد وتوقف في الموصل لحادثة الوزير؛ ووافق وصوله إلى الموصل وفاة ابن عمه القاضي عماد الدين أحمد ابن القاضي كمال الدين بن الشهرزوري، وكان شاباً. وجاء كتاب الفاضل يذكر ذلك وفيه:
يدلى ابن عشرين في لحده ... وتسعون صاحبها راتع
اعتبط الولد مع نضارة الشباب المقتبل، ... وعُمرّ الوالد مع ذبول المشيب المشتمل.
ليُعْلم أن الشيب ليس بمسلم ... وأن الشباب الغض ليس بمانع
وليكون العبد حذراً من بغتات الآجال، في كلّ الأحوال. والله يطيل للمولى العمر، كما أطال له في القدر، ونسمع منه ولانسمع فيه، ويبقيه سنداً للدين الحنيفي فإن بقاءه يكفيه.
فهو يجلوك للعيون بكنبو ... ش جديد مستحسن منقوش
كم عدو من بأسه في عثار ... وولى بجوده منعوش
والموالي على الأسرة، والأع ... داء تحت الهوان فوق النعوش
قال: وأقطع أسد الدين حمص وأعمالها، فسار إليها؛ فسد ثغورها، وضبط أمورها، وحمى جمهورها. وكان نور الدين قد جدد سورها وحصن دورها، وبلى الفرنج منه بالمغاور والمراوغ، ذي البأس الدامغ. وسأله نور الدين في السُّلُوِّ عن حب مصر، وقال: قد عتبت مرتين واجتهدت، ولم يحصل لك ما طلبت؛ وقد أذعنوا بالطاعة، وشفعوا السؤال بالشفاعة، وسمحوا بكل ما يدخل تحت الاستطاعة.
قلت: وأنشد العماد أسد الدين في رجب من هذه السنة:
دمت في الملك آمراً ذا نفاذ ... أسد الدين شيركوه بن شاذي
يا كريماً عن كل شر بطيئاً ... وإلى الخير دائم الإغذاذ
وملاذ الإسلام أنت، فلا زل ... ت لأهل الإسلام خير ملاذ
في نفوس الكفار رعبك قد حلَّ ... بصَدع الأكباد والأفلاذ
لم تدعْ بالظبُّا، رؤساً وأصنا ... ماً من المشركين غير جذاذ
أنت من نازل الدعيين في مص ... ر لنصر الإمام في بغداذ
وبلاد الإسلام أنقذتها أن ... ت من الشرك أيما إنقاذ
فصل في وفاة زين الدينقال ابن الأثير، وغيره: في سنة ثلاث وستين سار زين الدين علي بن بكتكين، نائب أتابك قطب الدين، عن الموصل إلى إرْبِل، وسلم جميع ماكان من البلاد والقلاع إلى قطب الدين ماعدا إربل، فإنها كانت له من أتابك زنكي رحمه الله تعالى. فمن ذلك سنجار وحرَّان وقلعة عَقْر الحُمَيدية، وقلاع الهكارية جميعها. وكان نائبه بتكريت الأمير تبر، فأرسل إليه ليسلمها، فقال: إن المولى أتابك لايقيم بتكريت ولابد له من نائب فيها، وأنا أكون ذلك النائب، فليس له مثلي؛ فما أمكن محاققته لأجل مجاورة بغداد. وأما شَهْرَزَوْر فكان بها الأمير بوزان، فقال مثله أيضاً، فأُقرَّت بيده؛ فكان في طاعة قطب الدين.
وسبب فراق زين الدين أنه أصابه عمى وصمم، وأقام بإربل إلى أن توفي بها، في ذي الحجة من هذه السنة، وكان قد استولى عليه الهرم وضعفت قوته.
وكان خيِّراً عادلا حسن السيرة، جواداً، محافظاً على حسن العهد وأداء الأمانة، قليل الغدر بل عديمه. وكان إذا وعد بشئ لابد له من أن يفعله وإن كان فعله خطيراً. وكان حاله من أعجب الأحوال، بينما يبدو منه ما يدل على سلامة صدره وغفلته حتى يبدو منه ما يدل على إفراط الذكاء وغلبة الدهاء. بلغني أنه أتاه بعض أصحابه بذنب فرس ذكر أنه نفق له، فأمر له بفرس؛ فأخذ ذلك الذنب أيضاً غيره من الأجناد فأحضره وذكر أنه نفق له دابة، فأمر له بفرس وتدوال ذلك الذنب اثنا عشر رجلا كلهم يأخذ فرساً. فلما أحضره آخرهم قال لهم: أما تستحيون مني كما أستحيي أنا منكم؟ قد أحضر هذا عندي اثنا عشر رجلا وأنا أتغافل لئلا يخجل أحدكم. أتظنون أنني لاأعرفه؟ بلى والله، وإنما أردت أن يصلكم عطائي بغير مَنٍ ولاتكدير، فلم تتركوني!
ليس الغبيّ بسيِّدٍ في قومه ... لكنّ سيد قومه المتغابي
قال: وكان يعطي كثيراً ويخلع عظيماً؛ وكان له البلاد الكثيرة، فلم يخلف شيئاً بل أنفذه جميعاً في العطايا والإنعام على الناس. وكان يلبس الغليظ ويشدّ على وسطه كلّ ما يحتاج إليه من سكين ودرفش ومطرقة ومسلة وخيوط ودسترك وغير ذلك. وكان أشجع الناس، ميمون النقيبة، لم تنهزم له راية. وكان يقوم المقام الخطير فيسلم منه بحسن نيته وكان تركياً أسمر اللون خفيف العارضين قصيرا جدا؛ وبنى مدارس ورُبطاً بالموصل وغيرها. وبلغني أنه مدحه الحيص بيص، فلما أراد الإنشاد قال له: أنا لاأدري ما تقول لكن أعلم أنك تريد شيئاً؛ وأمر له بخمسمائة دينار وأعطاه فرساً وخلعة وثياباً، يكون مجموع ذلك ألف دينار. قال ومكارمه كثيرة.
ولما توفي بإربل كان الحاكم بها خادمه مجاهد الدّين قايماز، وهو المتولي لأمورها. وولى بعد زين الدين ولده مظفر الدين كوكبري مدة ثم فارقها لُخْلِفٍ كان بينه وبين مجاهد الدّين قايماز؛ وجرت أمورٌ يطول ذكرها.
ولما فارق زين الدين الموصل استناب أتابك قطب الدين بقلعة الموصل بعده مملوكه فخر الدين عبد المسيح، فسلك غير طريق زين الدين، فكرهه الناس وذّموه فلم تَطُلْ أيامه: وسيجئ ذكر عزله في أخبار سنة ست وستين إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائةففي أولها ملك نور الدين رحمه الله تعالى قلعة جعبر، وأخذها من صاحبها شهاب الدين مالك بن عليّ بن مالك العقبلي من آل عقيل من بني المسيّب؛ وكانت بيده ويد آبائه من قبله من أيام السلطان ملكشاه، وقد تقدم ذكر ذلك. وهي من أمنع الحصون وأحسنها، مطلَّة على الفرات لايطمع فيها بحصار؛ وقد أعجز جماعة من الملوك أخذها منه، وقُتِلَ عليها عماد الدين زنكي والد نور الدين.
ثمّ اتفقَّ أنه خرج صاحبها منها يوماً يتصيد، فصاده بنو كلب، فأخذوه أسيراً وأوثقوه، وحملوه إلى نورالدين، فتقربوا به إليه، وذلك في رجب من سنة ثلاث وستين؛ فحبسه بحلب وأحسن إليه، ورغبه في الإقطاع والمال ليسلم إليه القلعة فلم يفعل؛ فعدل به نور الدين إلى الشدة والعنف وتهدده فلم يفعل أيضاً؛ فسير إليها عسكرا مقدمه الأمير فخر الدين مسعُود بن أبي علي الزعفراني، فحصرها مدة فلم يظفر منها بشئ؛ فأمدهم بعسكر آخر وجعل على الجميع مجد الدين أبا بكر المعروف بابن الداية، وهو أكبر أمراء نور الدين ورضيعه ووالى معاقله، فأقام عليها وطاف حواليها فلم ير له في فتحها مجالا، ورأى أخذها بالحصر متعذرا محالا. فسلك مع صاحبها طريق اللين، وأشار عليه بأخذ العوض من نور الدين؛ ولم يزل يتوسط معه حتى أذعن على أن يعطي سروج وأعمالها والملاّحة التي في عمل حلب والباب وبزاعة وعشرين ألف دينار معجلة؛ فأخذ جميع ما شرطه مكرها في صورة مختار. قال ابن الأثير: وهذا إقطاع عظيم جدا لكنه لاحصن فيه.
وتسلم مجد الدين قلعة جعبر وصعد إليها منتصف المحرم. ووصل كتابه إلى نور الدين بحلب، فسار إليها وصعد القلعة في العشرين من المحرم؛ ثم سلمها نور الدين إلى مجد الدين ابن الداية، فولاها أخاه شمس الدين علياً. وكان هذا آخر أمر بني مالك، ولكل أمر آخر ولكل ولاية نهاية؛ يؤتي الله الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء.
قال ابن الأثير: بلغني أنه قيل لشهاب الدين أيُّما أحب إليك وأحسن مقاماً، أسَرُوج والشام أم القلعة؟ فقال: هذا أكثر مالا، والعز بالقلعة فارقناه.
قال العماد: وأنشدت نور الدين بقلعة جعبر قصيدة أولها:
اسلم لبكر الفتوح مفترعاً ... ودُمْ لًملك البلاد منتزعا
فإن أولى الورى بها ملك ... غدا بعبء الخطوب مضطلعاً
إن ضاق أمر فغير همته ... لكشف ضيق الأمور لن يسعا
يا محيي العدل بعد ميتته ... ورافع الحق بعدما اتضعا
ونور دين الهدى الذي قمع الش ... رك، وعفَّى الضلال والبدعا
أنت سليمان في العفاف وفي ال ... مُلك، وتحكى بزُهدك اليَسَعَا
حُزت البقا، والحياءَ، والكرم المح ... ضَ، وحُسن اليقين، والورعا
أسقطت أقساط ما وجدت من المك ... س بعدلٍ، والقاسط ارتدعا
ولم تدع في ابتغاء مصلحة الدّ ... ين لنا باقياً، ولنْ تدعا
وكل ما في الملوك مُفترق ... من المعالي لملكك اجتمعا
همتك الرُّبط والمدارس تب ... نيها ثواباً وتهدم البيعا
ما زلت ذا فطنة مؤيدة ... على غيوب الأسرار مطلعاً
ببأسك البيض والطُّلي اصطحبت ... بعدلك الذئب والطَّلا رتعا
كم صائدٍ لم يقع له قنص ... في شرك وهو فيه قد وقعا
ومالكٍ حين رُمت قلعته ... غدا مطيعاً للأمر متبَّعا
عنا خُشُوعاً لرب مملكة ... لغير ربّ السماء ما خشعا
كان مقيما منها على الفلك ال ... أعلى شهاباً بنوره سطعا
لكنما الشهب ما تنير إذا ... لاح عمودُ الصباح فانصدعا
يدفعها طائعاً إليك، وكم ... عنها إباءً بجهده دفعا
هي التي في علوها زحل ... كرَّ على وردها وما كرعا
وهي التي قاربت عطارد في ال ... أفق فلاحاً والفرقدين معا
كأن منها السُّها إذا استرق السَّ ... معَ أتاها في خيفة ودعا
هضبة عزّ لولاك ما أرتقيت ... وطود ملك لولاك ما فرعا
ما قبلت في ارتقاء ذروتها ... من ملكٍ لارُقي ولا خدعا
عزت على المالك الشهيد وأع ... طتك قيادا ما زال ممتنعاً
للأب لو جلَّ خطبها لغدا ... محرِّماً لابنه وما شرعا
لازلت محمودُ في أمورك محمو ... داً بثوب الإقبال مدَّرعا
وفيها وفي سابع عشر صفر من هذه السنة توفي بهاء الدين عمر أخو مجد الدين بن الداية. وفيه وفي أخويه يقول العماد الكاتب من قصيدة:
أنتم لمحودٍ كآل محمد ... متصادفي الأفعال والأسماء
يتلو أبا بكر عَلَى حسناته ... عمرُ الممدَّح في سنا وسناء
ويليه عثمان المرَّجي للعُلا ... وعليُّ المأمول في اللأواء
وتقبل الحسن الممجَّد مجدهم ... فهمُ ذُوو الإحسان والنعماء
فرعت لمجد الدين إخوته الذّرا ... دون الزرى في المجد والعلياء
من سابق كرماً وشمس ساده ... شرفاً وبدر دُجنة وبهاء
سُرُج الهدى، سُحُب النَّدى، شُهُب النُّهى ... أسدُ الحروب، ضراغم الهيجاء
يريد سابق الدين عثمان، وشمس الدين علياً وبدر الدين حسنا، وبهاء الدين عمر؛ ومجد الدين الأكبر، فهم خمسة، رحمهم الله.
فصلوفي هذه السنة فتحت الديار المصرية، سار إليها أسد الدين مرة ثالثة، فهزم العدو وقتل شاوراً وولى الوزارة مكانه، ثم مات، فوليها صلاح الدين.
وسبب ذلك ان الفرنج كانوا في النوبتين الأوليين اللتين استعان بهم شاور فيهما على أسد الدين شيركوه قد خبروا الديار المصرية واطلعوا على عوراتها، فطمعوا فيها ونقضوا ما كان استقر بينهم وبين المصريين وأسد الدين من القواعد. فجمعوا وحشدوا، وقالوا: ما بمصر من يصدنا، وإذا أردناها فمن يردنا؟ ثم قالوا: نور الدين في البلاد الشمالية والجهة الفُراتية، وعكسر الشام متفرق كل في بلده، حافظ لما في يده؛ ونحن ننهض إلى مصر، ولانطيل بها الحصر، فإنه ليس لها معقل، ولالأهلها منّا موئل؛ وإلى أن تجمع عساكر الشام، نكون قد حصلنا على المرام، وقوينا بتملك الديار المصرية على سائر بلاد الإسلام. فتوجههوا إليها سائرين، ونحوها ثائرين، وأظهروا أنهم على قصد حمص وشايعهم على قصد مصر جماعة من أهلها كابن الخياط وابن قرجلة، وغيرهما من أعداء شاور.
وكان الفرنج قد جعلوا لهم شحنة بمصر والقاهرة، وسكر فرسانهم أبواب البلدين، والمفاتيح معهم، على ماسبق ذكره، وتحكموا تحكماً كبيراً، فطمعوا في البلاد، وأرسلوا إلى ملكهم مُرَّى - ولم يكن ملك الفرنج منذ خرجوا إلى الشام مثله شجاعة ومكراً ودهاءً - يستدعونه لتملك البلاد. وأعلموه خلوها من ممانع عنها، وسهلوا أمرها عليه؛ فلم يجبهم إلى المسير. واجتمع فرسان الفرنج وذوو الرأي والتقدم وأشاروا عليه بالمسير إليها والاستيلاء عليها، فقال لهم: الرأي عندي ألا نقصدها فإنها طعمة لنا، وأموالها تساق إلينا، نتقوى بها على نور الدين، وإن نحن قصدناها لتملكها فإن صاحبها وعساكره، وعامة أهل بلاده وفلاحيه، لايسلمونها إلينا ويقاتلوننا دونها، ويحملهم الخوف منا على تسليمها إلى نور الدين. وإن أخذها وصار له فيها مثل أسد الدين فهو هلاك الفرنج وإجلاؤهم من أرض الشام. فلم يصغوا إلىقوله وقالوا: إن مصر لامانع لها ولاحافظ، وإلى أن يصل الخبر إلى نور الدين ويجهز العساكر ويسيرهم إلينا نكون نحن قد ملكناها وفرغنا من أمرها، وحينئذ يتمنى نور الدين منا السلامة فلا يقدر عليها.
وكانوا قد عرفوا البلاد وانكشف لهم أمرها؛ فأجابهم إلى ذلك على كره شديد، وتجهزوا، وأظهروا أنهم على قصد الشام، وخاصة مدينة حمص، وتوجهوا من عسقلان في النصف من المحرم، ووصلوا أول يوم من صفر إلى بلبيس ونازلوها، وحصروها، فملكوها قهراً ونهبوها، وسبوا أهلها، وأقاموا بها خمسة أيام ثم أناخوا على القاهرة وحصروها عاشر صفر، فخاف الناس منهم أن يفعلوا بهم مثل فعلهم بأهل بلبيس، فحملهم الخوف منهم على الامتناع، فحفظوا البلد وقاتلوا دونه، وبذلوا جهدهم في حفظه. ولو أن الفرنج أحسنوا السيرة مع أهل بلبيس لملكوا مصر والقاهرة سرعةً، ولكن الله تعالى حسَّن لهم ذلك ليقضي الله أمراً كان مفعولا.
وكان شاور أمر بإحراق مدينة مصر، تاسع صفر، قبل نزول الفرنج عليهم بيوم واحد، خوفاً عليها من الفرنج؛ فبقيت النار فيها تحرقها أربعة وخمسين يوماً إلى خامس ربيع الآخر.
ثم ضاق الحصار وخيف البوار، وعرف شاور أنه يضعف عن الحماية، فشرع في تمحُّل الحيل، وأرسل إلى ملك الفرنج يذكر له مودته ومحبته القديمة، وأن هواه معه، وتخوفه من نور الدين والعاضد، وإنما المسلمون لايوافقونه على التسليم إليه؛ ويشير بالصلح وأخذ مال لئلا يسلم إلى نور الدين. فأجابه إلى الصلح على أخذ ألف ألف دينار مصرية، يعجل البعض ويؤخر البعض؛ واستقرت القاعدة على ذلك. ورأى الفرنج أن البلاد امتنعت عليهم وربما سلمت إلى نور الدين، فأجابوه كارهين، وقالوا: نأخذ المال نتقوى به، ونكثر من الرجال ثم نعود إلى البلاد بقوة لانبالي معها بنور الدين ولاغيره. (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ، وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِين). فعجل لهم شاور مائة ألف دينار وسألهم الرحيل عن البلد ليجمع لهم المال، فرحلوا قريباً.
وكان خليفة مصر العاضد عقيب حريق مصر أرسل إلى نور الدين يستغيث به ويعرفه ضعف المسلمين عن الفرنج، وأرسل في الكتب شعور النساء وقال له: هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لتُنقذهن من الفرنج. فقام نور الدين لذلك وقعد، وشرع في تجهيز العساكر إلى مصر. ولما صالح شاور الفرنج على ذلك المال عاود العاضد مراسلة نور الدين وإعلامه بما لقي المسلمون من الفرنج، وبذل له ثلث بلاد مصر، وأن يكون أسد الدين شيركوه مقيماً عنده في عسكر وإقطاعهم عليه خارجاً عن الثلث الذي لنور الدين. هذا قول ابن الأثير.
وقال العماد: عجل شاور لملك الفرنج بمائة ألف دينار حيلة وخداعاً، وإرغاماً له وإطماعاً، وواصل بكتبه إلى نور الدين مستصرخاً مستنفراً، وبما ناب الإسلام من الكفر مخبراً؛ ويقول: إن لم تبادر ذهبت البلاد. وسيَّر الكتب مسودة بمدادها، كاسية لباس حدادها، في طيها ذوائب مجزوزة، وعصائب محزوزة، أظن أنها شعور أهل القصر، للأشعار بما عراهم من بليَّة الحصر. وأرسلها تباعاً، وأردف بها نجَّابين سراعاً؛ وأقام منتظراً، ودام متحيراً، وعامل الفرنج بالمطال، ينقدهم في كل حين مالا، ويطلب منهم إمهالا. وما زال يعطيهم ويستمهلهم، حتى أتى الغوث بعساكر نور الدين رحمه الله تعالى.
فصل فيما فعله نور الدين
كان نور الدين لما أتاه الرسل أولاً من العاضد قد أرسل إلى أسد الدين يستدعيه من حمص، وهي إقطاعه، فلما خرج القاصد من حلب لقي أسد الدين قد وصلها. وكان سبب وصوله أن كتب المصريين أيضاً وصلته في هذا الأمر فبقي مسلوب القرار، مغلوب الاصطبار، لأنه كان قد طمع في بلاد مصر فخاف خروجها من يده، وأن يستولي عليها الكفر. فساق في ليلة واحدة من حمص إلى حلب، واجتمع بنور الدين ساعة وصوله. فتعجب نور الدين من ذلك وتفاءل به وسرَّه، وأمره بالتجهز إلى مصر والسرعة في ذلك، وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الثياب والدواب والآلات والأسلحة، وحكمه في العساكر والخزائن، فاختار من العسكر ألفي فارس، وأخذ المال، وجمع من التركمان ستة الآف فارس. وكان في مدة حشد التركمان سار نور الدين لتسلم قلعة جعبر؛ ثم سار هو ونر الدين إلى دمشق، ورحلا في جميع العساكر إلى رأس الماء وأعطى نور الدين كل فارس من العسكر الذين مع أسد الدين عشرين ديناراً معونة لهم على الطريق غير محسوبة من القرار الذي له. وأضاف إلى أسد الدين جماعة من الأمراء منهم مملوكه عز الدين جرديك، وغرس الدين قليج، وشرف الدين بزغش، وناصح الدين خمارتكين، وعين الدولة ابن الياروقي، وقطب الدين ينال بن حسان المنبجي، وغيرهم. ورحلوا على قصد مصر، مستنزلين من الله تعالى النصر، وذلك منتصف ربيع الأول.
وخيَّم نور الدين فيمن أفام برأس الماء، وأقام ينتظر ورود المبشرات؛ فوصل المبشر برحيل الفرنج عن القاهرة عائدين إلى بلادهم لما سمعوا بوصول عسكر نور الدين، وسبَّ الملك كل من أشار عليه بقصد مصر؛ وأمر نور الدين بضرب البشائر في سائر بلاده، وبث رسله إلى الآفاق بذلك.
وقال القاضي أبو المحاسن: لقد قال لي السلطان، يعني صلاح الدين: كنت أكره الناس للخروج في هذه الدفعة، وما خرجت مع عمي باختياري. قال: وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُو خَيْرٌ لَكُمْ). وقال ابن الأثير: أحب نور الدين مسير صلاح الدين وفيه ذهاب بيته، وكره صلاح الدين المسير وفيه سعادته وملكه.
حُكى لي عنه أنه قال: لما وردت الكتب من مصر إلى الملك العادل نور الدين رضي الله عنه، مستصرخين ومستنجدين، أحضرني وأعلمني الحال، وقال تمضي إلى عمك أسد الدين بحمص مع رسولي إليه يأمره بالحضور، وتحثه أنت على الإسراع فما يحتمل الأمر التأخير. قال ففعلت. فلما فارقنا حلب على ميل منها لقيناه قادماً في هذا المعنى؛ فقال له نور الدين: تجهز للمسير، فامتنع خوفاً من غدرهم أولا، وعدم ما ينفقه في العساكر ثانياً، فأعطاه نور الدين الأموال والرجال، وقال له: إن تأخرت أنت عن المسير إلى مصر فالمصلحة تقتضي أن أسير أنا بنفسي إليها، فإننا إن أهملنا أمرها ملكها الفرنج، ولايبقى لنا معهم مقام بالشام وغيره. قال فالتفت إليَّ عمي أسد الدين وقال: تجهز يا يوسف. قال: فكأنما ضرب قلبي بسكين! فقلت: والله لو أعطيت ملك مصر ماسرت إليها، فلقد قاسيت بالإسكندرية من المشاق ما لاأنساه أبداً. فقال عمي لنور الدين: لابد من سيره معي، فترسم له. فأمرني نور الدين وأنا استقيله. فانقضى المجلس، ثم جمع أسد الدين العساكر من التركمان وغيرهم ولم يبق غير المسير، فقال لي نور الدين: لابد من مسيرك مع عمك. فشكوت إليه الضائقة وقلة الدواب وما أحتاج إليه؛ فأعطاني ما تجهزت به، وكأنما أساق إلى الموت. وكان نور الدين مهيباً مخوفاً مع لينه ورحمته، فسرت معه. فلما أستقر أمره وتوفي، أعطاني الله من ملكها مالا كنت أتوقعه.
قلت: وحرضه أيضاً حسان العرقلة بأبيات من شعره من جملة قصيدة مدحه بها. قال:
وهل أخشى من الأنواء بخلا ... إذا ما يوسفٌ بالمال جادا
فتى للدين لم يبرح صلاحا ... وللأعداء لم يبرح فسادا
لئن أعطاه نور الدين حصناً ... فإن الله يعطيه البلادا
إلى كم ذا التواني في دمشق ... وقد جاءتكم مصرٌ تهادى
عروس بعلها أسد هزبر ... يصيد المعتدين ولن يصادا
ألا يا معشر الأجناد سيروا ... وراء لوائه تلقوا رشادا
فما كل امرئ صلى مع النا ... س مأموماً كمن صلى فرادا
فلما سار صلاح الدين إلى مصر عبر العرقلة على داره، فوجدها مغلقة، فقال:
عبرت على دار الصلاح وقد خلت ... من القمر الوضاح والمنهل العذب
فو الله لولا سرعةٌ مثل عزمه ... لغرَّقها طرفي وأحرقها قلبي
يقول فيها:
الناصر الملك الموفى بذمته ... ومن ندى كفه يغني عن الديم
ومن إذا جرد البيض الصوارم في ال ... هيجاء أغمدها في البيض والقمم
ومن حوى الملك من بعد الطماعة في ان ... زاعه بشبا الهندية الحذم
ورد طاغية الإفرنج يحسب ما ... رجاه من مُلك مصرٍ كان في الحلم
وليَّ وراحته صفر وقد ملئت ... بعد الطماعة من يأس ومن ندم
يصعدون على ما فاتهم نفسا ... لو لافح البحر أضحى الموج كالحمم
وفي السلامة، لولا جهلهم، ظفر ... لمن أراد نزال الأسد في الأجم
وهو أسود الشرى، لكن أذلهم ... ملك لديه الأسود الغُلب كالغنم
وله من قصيدة أخرى:
أقمت عمود الدين حين أماله ... لطاغي الفرنج الغُتم طاغي بني سعد
وجاهدت حزب الكفر، حتى رددتهم ... خزايا، عليهم خيبة الذل والرد
أفدت بما قدمت ملكاً مخلداً ... وذكراً مدى الأيام يقرن بالحمد
وذكرك في الآفاق يسري، كأنه الص ... باح له نشر الأوَّة والنَّد
ولأبي الحسن بن الذروي فيه من قصيدة يذكر فيها ملك الفرنج مُرِّي:
ولكم أشمت الروم أشأم بارق ... أضحت مياه نفوسها من قطره
وافاك بحر دروعها عن مده ... ومضى وقد حكمت ظُباك بجزره
ولقيت مُرِّياً وطعم حياته ... حلو، فبدله القتال بمره
فاعقد إليه الرأي في عذب القنا ... واحلل بها عِجلاً معاقد مكره
واطرده من وكر الشآم، فإنه ... قد طار منك بخافق من ذعره
فصل في القبض على شاور وقتلهوصل أسد الدين القاهرة رابع ربيع الآخر واجتمع بالعاضد خليفة مصر، فخلع عليه وأكرمه، وأجريت عليه وعلى عساكره الجرايات الكثيرة والإقامات الوافرة؛ ولم يمكن شاور المُنع من ذلك لأنه رأى العساكر كثيرة بظاهر البلد، ورأى هوى العاضد معهم من داخله، فلم يتجاسر على إظهار ما في نفسه، فكتمه، وهو يماطل أسد الدين في تقرير ماكان له من المال والإقطاع للعساكر، وإفراد ثلث البلاد لنور الدين. وهو يركب كل يوم إلى أسد الدين ويسير معه، ويعده ويمنيه (وَمَا يَعِدُهُم الشَّيْطَان إلاَّ غُرُوراً).
ثم إنه عزم على أن يعمل دعوة لأسد الدين ومن معه من الأمراء، ويقبض عليهم؛ فنهاه ابنه الكامل وقال له: والله لئن عزمت على هذا الأمر لأعرفن أسد الدين. فقال له أبوه والله لئن لم أفعل هذا لنقتلن جميعاً. فقال: صدقت، ولأن نقتل ونحن مسلمون والبلاد بيد المسلمين خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج، فليس بينك وبين عود الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل فارساً واحداً، ويملكون البلاد؛ فترك ماكان عزم عليه فلما رأى العسكر النُّوري المطل من شاور اتفق صلاح الدين يوسف، وعز الدين جرديك، وغيرهما، على قتل شاور، وأعلموا أسد الدين بذلك، فنهاهم؛ فقالوا: إنا ليس لنا في البلاد شئ مهما هذا على حاله؛ فأنكر ذلك. واتفق أن أسد الدين سار بعض الأيام إلى زيارة قبر الشافعي، رضي الله عنه، وقصد شاور عسكره على عادته للاجتماع به، فلقيه صلاح الدين وعز الدين جرديك، ومعهما جمع من العسكر، فخدموه وأعلموه أن أسد الدين في الزيارة؛ فقال: نمضي إليه. فسار، وهما معه قليلاً، ثم ساوروه وألقوه عن فرسه؛ فهرب أصحابه وأخذ أسيراً، ولم يمكنهم قتله بغير أمر أسد الدين، فسجنوه في خيمته وتوكلوا بحفظه. فعلم أسد الدين الحال فعاد مسرعاً، ولم يمكنه إلا إتمام ما عملوه. وأرسل العاضد لدين الله، صاحب مصر، في الوقت، إلى أسد الدين يطلب منه رأس شاور ويحثه على قتله؛ وتابع الرسل بذلك. فقتل شاور في يومه، وهو سابع عشر ربيع الآخر، وحمل رأسه إلى القصر، ودخل أسد الدين إلى القاهرة، فرأى من كثرة الخلق واجتماعهم ماخاف منه على نفسه، فقال لهم: أمير المؤمنين قد أمركم بنهب دار شاور؛ فقصدها الناس ينهبونها، فتفرقوا عنه. هذا قول ابن الأثير.
وقال ابن شداد: أقام أسد الدين بها يتردد إليه شاور في الأحيان، وكان وعدهم بمال في مقابلة ما خسروه من النفقة، فلم يوصل إليهم شيئاً. وعلقت مخاليب الأسد في البلاد، وعلم الفرنج متى وجدوا فرصة أخذوا البلاد، وأن ترددهم إليها في كل وقت لايفيد، وأن شاوراً يلعب بهم تارة وبالإفرنج أخرى، وملاكها قد كانوا على البدعة المشهورة عنهم، وعلموا أنه لاسبيل إلى الاستيلاء على البلاد مع بقاء شاور. فأجمعوا أمرهم على قبضه إذا خرج إليهم، وكانوا هم يترددون إلى خدمته دون أسد الدين، وهو يخرج في الأحيان إلى أسد الدين يجتمع به. وكان يركب على قاعدة وزارتهم بالطبل والبوق والعلم، فلم يتجاسر على قبضه منهم إلا السلطان نفسه، يعنى صلاح الدين، وذلك أنه لما سار إليهم تلقاه راكباً وسار إلى جانبه ثم أخذ بتلابيبه، وأمر العسكر أخ خذوا على أصحابه، ففروا ونهبهم العسكر، وقُبض شاور وأنزل إلى خيمة مفردة. وفي الحال جاء التوقيع من المصريين على يد خادم خاص يقول لابد من رأسه، جرياً على عادتهم في وزارتهم في تقرير قاعدة من قوى منهم على صاحبه، فحزت رقبته وأنفذوا رأسه إليهم.
قال العماد: ودخل أسد الدين في الرابع من شهر ربيع الآخر الإيوان، وخُلع عليه ولقي الإحسان. وتردد شاور إلى أسد الدين وتودد، وتجدد بينهما من الوداد ما تأكد. وأقام للعسكر الضيافات الكثيرة، والأطعمة الواسعة، والحلاوات والميرة. فقال صلاح الدين: هذا أمر يطول، ومسألة فرضها يُعول، ومعنا هذا العسكر الثقيل، وإقامته بالإقامة يقصر عنها الأمد الطويل، ولاأمر لنا مع استلاء شاور، ولاسيما إذا راوغ وغادر. فأنفذ أسد الدين الفقيه عيسى إلى شاور يشير عليه بالاحتراز، وقال له: أخشى عليك من عندي من الناس. فلم يكترث بمقاله، وركب على سبيل انبساطه واسترساله، فاعترضه صلاح الدين في الأمراء النورية وهو راكب على عادته في هيبته الوزيرية، فبغته وشحته، وقبضه وأثبته، ووكل به في خيمة ضربها له، وحاول إمهاله. فجاء من القصر من يطلب رأسه، ويعجل من العمر يأسه. وجاء الرسول بعد الرسول، وأبوا أن يرجعوا إلا بنجح السُّول. فحم حمامه، وحمل إلى القصر هامه.
قلت: وبلغني أن الذي حز رقبة شاور هو عز الدين جرديك، وكان صلاح الدين لما لقيه في اصحابه سار بجنبه وأراد إفراده عن العسكر، فالتمس منه المسابقة بفرسيهما، فأجابه، ووافقهما في ذلك جُرديك. وكان ذلك عن أمر قد تقرر، فحركوا خيلهم، فلما بعدوا عن العسكر ووقفوا قبض صلاح الدين وجرديك على شاورداخل الخيمة.
وقد كثر هجاء شاور بغدره ومكره حتى قال عرقلة:
لقد فاز بالملك العقيم خليفة ... له شيركوه العاضديُّ وزير
كأن ابن شاذي والصلاح وسيفه ... عليُّ لديه شيَّرُ وشّبير
هو الأسد الضاري الذي جل خطبه ... وشاور كلب للرجال عقور
بغي وطغى، حتى لقد قال قائل ... على مثلها كان اللعين يدور
فلا رحم الرحمن تربة قبره ... ولا زال فيها منكر ونكير
وقال أيضاً:
إن أمير المؤمنين الذي ... مصر حِماه وعليُّ أبوه
نص على شاور فرعونها ... ونص موساها على شيركوه
وقد وصف الفقيه الشاعر أبو حمزة عمارة اليمني في كتاب الوزراء المصرية الذي صنفه حال شاور في وزارته الأولى، ثم قال: وزارة شاور الثانية: فيها تكشفت صفحاته، وأحرقت لفحاته، وأغرقت نفحاته، وغّضَّه الدهر وعضه، وأوجعه الثُّكل وأمضه، وبان غمره وثماده، وجمره ورماده، ولم يجف من الأنكاد لبده، ولاصفا من الأقذاء وِرْده. وما هو إلا أن تسلمها بالراحة، وسُلمت له الهموم عوضاً عن الراحة.
وفي أول ليلة دخل القاهرة ارتحل أسد الدين طالباً بلبيس، فأقام بها، ثم عاد إلى القاهرة، فكسر الناس يوم التاج وأسر أخوه صبح، وأصيب على باب القنطرة بحجر كاد يموت منه، وتعقب ذلك تنقل القتال على القاهرة حتى دخلت من الثغرة. ثم تبع هذا مجئ الفرنج، وعمل البرج، وحصار بلبيس؛ ثم تلا ذلك قيام يحيى بن الخياط طالباً للوزارة؛ ثم تلا ذلك نفاق لواته ومن ضامَّها من قيس، وخروج أخيه نجم الدين وابنه سليمان وجماعة من غلمانهم لحربهم ثم خروج ابنه الكامل في بقية العسكر. وفي أثناء هذه المدة قبضُه على الأثير بن جلب راغب وقتله، وأسر معالي بن فُريج ثم قتله.
واتصل إليه الخبر من قدوم أسد الدين إلى أطفيح بأم النوائب الكُبَر؛ ووافق مجئ الغز قدوم الفرنج ناصرين للدولة، وتوجهوا من مصر في البر الشرقي تابعين للغزِّ. ثم لاحت الفرصة للفرنج فعادوا إلى مصر واقترحوا من المال، ماتنقطع دونه الآمال، وخيموا على ساحل المقسم، وأظهروا رجوعهم إلى الشام؛ فتجهز الكامل للمسير صحبة الإفرنج. حدثني القاضي الأجل الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني، قال: أنا أذكر وقد خلونا في خيمة وليس معنا أحد، إنما هو شاور وابنه الكامل وأخوه نجم، فعزم الكامل على النهوض مع الفرنج، وعزم نجم الدين على التغريب إلى سليم وماوراءها، وقال شاور: لكن لاأبرح أقاتل بمن صفا معي حتى أموت. فنحن في ذلك حتى وصل إلينا الداعي ابن عبد القويّ وصنيعة المُلك جوهر وعزُّ الأستاذ وقد التزموا المال. وتفرع على هذا الأصل مقام الغز بالجيزة، ونوبة البابين، وحصار الإسكندرية، وانصراف الغز راجعين، والفرنج بعدهم.
فما هو إلا أن توهم شاور أن الدهر قد نام وغفا، وصفح عن عادته وعفا؛ وإذا الأيام لاتخطب إلا زواله وفوته، ولاتريد إلا انتقاله وموته. فكان من قدوم الفرنج إلى بلبيس وقتل من فيها وأسرهم بأسرهم ما أوجب حريق مصر، ومكاتبة الأجل نور الدين بن القسيم، وإنجاده كلمة الإسلام بأسد الدين ومن معه من المسلمين الذين قلت فيهم وقد ربط الإفرنج الطريق عليهم:
أخذتم على الإفرنج كل ثنَّية ... وقلتم لأيدي الخيل مرِّي على مرِّي
لئن نصبوا في البر جسراً، فإنكم ... عبرتم ببحر من حديد على الجسر
قلت: وهذان البيتان من قصيدة ستأتي. ومُرِّي هم أسم ملك الإفرنج.
قال عمارة: فقضى قدوم الغز برحيل الفرنج عن الديار المصرية، ولم يلبث شاور ان مات قتيلا بعد قدوم الغز بثمانية عشر يوماً. وهذه السنوات التي وزر فيها شاور وزارته الثانية كثيرة الوقائع والنوازل، وفيها ماهو عليه أكثر مما هوله.
قال: ولم يربِّ أحد رجال الدولة مثل مارباهم الصالح بن رُزّضيك، ولا أفنى أعيانهم مثل ضرغام، وكانت وزارته تسعة أشهر مدة حمل الجنين، ولا أتلف أموالهم مثل شاور؛ وشاور هو الذي أطمع الغز والإفرنج في الدولة حتى انتقلت عن أهلها.
ولما عاد من حصار الإسكندرية أكثر من سفك الدماء بغير حق: كان يأمر بضرب الرقاب بين يديه في قاعة البستان من دار الوزارة، ثم تسحب القتلى إلى خارج الدار.
وقال الحافظ أبو القاسم: لما خيف من شر شاور ومكره، لما عرف من غدره وضرّه، واتضح الأمر في ذلك واستبان، تمارض الأسد ليقتنص الثعلبان. فجاءه قاصداً لعيادته، وأراحا العباد والبلاد من شره وما شاورا. وكان ذلك برأي صلاح الدين، فإنه أول من تولى القبض عليه، ومد يده الكريمة بالمكروه إليه. وصفا الأمر لأسد الدين وملك، وخلع عليه الخلع وحنك؛ واستولى أصحابه على البلاد، وجرت أموره على السداد، وظهر منه جميل السيرة، وظهرت كلمة السنة.
فصل في وزارة أسد الدينوذلك عقيب قتل شاور وتنفيذ رأسه إلى القصر. أنفذ إلى أسد الدين خلعة الوزارة فلبسها، وسار ودخل القصر، وترتب وزيرا، ولقب بالملك المنصور أمير الجيوش، وقصد دار الوزارة فنزلها، وهي التي كان بها شاور فمن قبله من الوزراء، فلم ير فيها ما يقعد عليه. واستقر في الأمر ولم يبق له فيه منازع ولامناوئ. وولى الأعمال من يثق إليه، واستبد بالولاية، فأقطع البلاد العساكر التي قدمت معه؛ وصلاح الدين مباشر للأمور مقرر لها، وزمام الأمر والنهي مفوض إليه لمكان كفايته ودرايته، وحسن تأتيه وسياسته.
قال العماد: وكُتب لأسد الدين منشور من القصر، بسيط الشرح طويل الطي والنشر، كتب العاضد في طُرَّته بخطه، ولاشك أنه بإملاء كاتبه: " هذا عهد لاعهد لوزير بمثله، وتقلد أمانة رآك أمير المؤمنين أهلا لحمله، والحجة عليك عند الله بما أوضحه لك من مراشد سبله. فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة، واسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتك إلى نبوة النبوة. واتخذه للفوز سبيلا، ولاتنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا " .
ونسخة المنشور: من عبد الله ووليه أبي محمد العاضد لدين الله أمير المؤمنين، إلى السيد الأجل، الملك المنصور، سلطان الجيوش، ولى الأئمة، مجير الأمة، أسد الدين، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، أبي الحارث شيركوه العاضدي، عضد الله به الدين، وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته، وأعلى كلمته. سلام عليك، فإنه يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وعلى آله الطاهرين، والأئمة المهديين وسلم تسليما).
ثم ذكر باقي المنشور، وهو مشتمل على كلام طويل، وحشو غير قليل، على عادة الكتاب المتأخرين الذين نراهم بالألفاظ الكثيرة عن المعتى اليسير معبرين، والبلاغة عكس ذلك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " بعثت بجوامع الكلم واختُصر لي الكلام اختصاراً " .
ولما أستقل أسد الدين بالوزارة طلب من القصر كاتب إنشاء، فأرسل إليه بالقاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني. وكان أبوه من أهل بيسان الشام. ثم ولي قضاء عسقلان؛ وخرج الفاضل إلى الديار المصرية فولي كاتباً بالإسكندرية على باب السِّدرة. ثم إنه أتصل بالكامل بن شاور فاستكتبه وزارحم به كتّاب القصر، فثقل عليهم أمره، فلما طلب أسد الدين كاتباً أُرسل إليه، وظن رؤساء ديوان المكاتبات أن هذا أمر لايتم، وأن أسد الدين سيقتل كما قتل من كان قبله، فأرسلوا بالفاضل إليه وقالوا لعله يُقتل معه فنخلص من مزاحمته لنا. فكان من أمره ماكان، واستمر في الدولة، ولم يزدد في كل يوم إلا تقدماً، بصدقه ودينه وحسن رأيه، رحمه الله.
وأنفذ العماد قصيدة طويلة تهنئة لأسد الدين أولها:
بالجد أدركت ما أدركت لا اللعب ... كم راحة جُنيت من دوحة التعب
ياشيركوه بن شاذي الملك دعوة من ... نادى، فعرَّف خير ابن بخير أب
جرى الملوك وما حازوا بركضهم ... من المدى في العلا ماحزت بالخبب
تَمَلَّ من ملك مصر رتبة قصرت ... عنها الملوك فطالت سائر الرتب
فتحت مصر، وأرجو أن تصير بها ... ميسراً فتح بيت القدس عن كثب
قد أمكنت أسد الدين الفريسة من ... فتح البلاد، فبادر نحوها، وثِب
أنت الذي هو فرد من بسالته ... والدين من عرفه في جحفل لجب
في حلق ذي الشرك من عدوي سطاك شجاً ... والقلب في شجن، والنفس في شجب
زارت بني الأصفر البيض التي لقيت ... حمر المنايا بها مرفوعة الحجب
وإنها نَقَد من خلفها أسد ... أرى سلامتها من أعجب العجب
لقد رفعنا إلى الرحمن أيدينا ... في شكرنا ما به الإسلام منك حُبى
شكا إليك بنو الإسلام يُتْمهم ... فقمت فيهم مقام الوالد الحدب
في كل دار من الإفرنج نادبة ... بما دهاهم، فقد باتوا على ندب
من شر شاور أنقذت العباد، فكم ... وكم قضيت لحزب الله من أرب
هو الذي أطمع الإفرنج في بلد ال ... إسلام حتى سعوا للقصد والطلب
وإن ذلك عند الله محتسب ... في الحشر من أفضل الطاعات والقرب
أذله الملك المنصور منتصراً ... لما دعا الشرك: هذا قد تعزز بي
وما غضبت لدين الله منتقماً ... إلا لنيل رضا الرحمن بالغضب
وأنت من وقعت في الكفر هيبته ... وفي ذويه وقوع النار في الحطب
وحين سرت إلى الكفار فانهزموا ... نُصرت نصر رسول الله بالرعب
يامحيي الأمة الهادي بدعوته ... للرشد كل غَوِيّ منهم وغبي
لما سعيت لوجه الله مرتقباً ... ثوابه، نلت عفواً كل مرتقب
أعدت نقمة مصرٍ نعمةً، فغدت ... تقول: كم نكتٍ لله في النكب
أركبت رأس سنان رأس ظالمها ... عدلا، وكنت لوزرٍ غير مرتكب
ردَّ الخلافة عباسيةً، ودع الد ... عيَّ فيها يصادف شر منقلب
لا تقطعن ذنب الأفعى وتريله ... فالحزم عندي قطع الرأس كالذنب
وقال العماد في الخريدة: أنشدني الحافظ أبو القاسم لنفسه، وقد أعفى الملك العادل نور الدين، قدس الله روحه، أهل دمشق من المطالبة بالخشب فورد الخبر باستيلاء عسكره على مصر، فكتب إليه يهنيه:
لما سمحت لأهل الشام بالخشب ... عُوضِّت مصر بما فيها من النشب
وإن بذلت لفتح القدس محتسباً ... للأجر جوزيت أجراً غيرَ محتسب
والأجر في ذاك عند الله مرتقب ... فيما يثيب عليه خيرُ مرتقب
والذكر بالخير بين الناس تكسبه ... خير من الفضة البيضاء والذهب
ولست تعذر في ترك الجهاد وقد ... أصبحت تملك من مصر إلى حلب
وصاحب الموصل الفيحاء ممتثل ... لما تريد، فبادر فجأة النوب
فأحزم الناس من قويَّ عزيمته ... حتى ينال بها العالي من الرتب
فالجَدُّ والْجِدُّ مقرونان في قرن ... والحزم في العزم، والإدراك بالطلب
فطهر المسجد الأقصى وحوزته ... من النجاسات، والإشراك، والصلب
عساك تظفر في الدنيا بحسن ثناً ... وفي القيامة تلقى خير منقلب
فصل في وفاة أسد الدين شيركوه وولاية ابن أخيه صلاح الدين مكانهتوفي أسد الدين فجأة يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة فكانت وزارته شهرين وخمسة أيام.
وقال ابن شداد: كان أسد الدين كثير الأكل شديد المواظبة على تناول اللحوم الغليظة، تتواتر عليه التخم والخوانيق وينجو منها بعد معاناة شدة عظيمة، فأخذه مرض شديد، واعتراه خانوق عظيم، فقتله رحمه الله. وفَوض الأمر بعده إلى صلاح الدين واستقرت القواعد واستتبت الأحوال على أحسن نظام. وبذل الأموال، وملك الرجال، وهانت عنده الدنيا فملكها، وشكر نعمة الله عليه فتاب عن الخمر وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمص بلباس الجد والاجتهاد، وما عاد عنه ولا ازداد إلا جدا، إلى أن توفاه الله تعالى إلى رحمته. ولقد سمعت منه، رحمه الله، يقول: لما يسر الله لي الديار المصرية علمت أنه أراج فتح الساحل لأنه أوقع ذلك في نفسي. ومن حين استتب له الأمر مازال يشن الغارات على الفرنج إلى الكرك والشوبك وبلادهما، وغشى الناس من سحائب الأفضال والنعم ما لم يؤرخ عن غير تلك الأيام. هذا كله وهو وزير متابع للقوم، لكنه مُقوٍّ مذهب السنة، غارسٌ في البلاد أهل العلم والفقه والتصوف والدين، والناس يهرعون إليه من كل صوب ويفدون إليه من كل جانب؛ وهو رحمه الله، لايخيب قاصداً، ولايعدم وافداً.
ولما عرف نور الدين استقرار أمر صلاح الدين بمصر أخذ حمص من نواب أسد الدين، وذلك في رجب من هذه السنة.
وقال ابن الأثير: أما كيفية ولاية صلاح الدين فإن جماعة من الأمراء النُّورية الذين كانوا بمصر طلبوا التقدم على العساكر وولاية الوزارة، منهم الأمير عين الدولة الياروقي، وقطب الدين خسرو بن تليل، وهو ابن أخي أبي الهيجاء الهذَباني الذي كان صاحب إربل، ومنهم سيف الدين علي بن أحمد الهطاري، وجده كان صاحب قلاع الهَكّارية، ومنهم شهاب الدين محمود الحارمي وهو خال صلاح الدين؛ وكل من هؤلاء قد خطبها، وقد جمع ليغالب عليها. فأرسل الخليفة العاضد إلى صلاح الدين، فأمره بالحضور في قصره ليخلع عليه خلع الوزارة، ويوليه الأمر بعد عمه.
وكان الذي حمل العاضد على ذلك ضعف صلاح الدين، فإنه ظن أنه إذا ولى صلاح الدين وليس له عسكر ولارجال، كان في ولايته بحكمه ولايجسر على المخالفة، وأنه يضع على العسكر الشامي من يستميلهم إليه، فإذا صار معه البعض أخرج الباقين وتعود البلاد إليه، وعنده من العساكر الشامية من يحميها من الفرنج ونور الدين. فامتنع صلاح الدين وضعفت نفسه عن هذا المقام، فألزم به وأخذ كارهاً. إن الله ليعجب من قوم يقادون إلى الجنة بسلاسل! فلما حضر في القصر خلع عليه خلعة الوزارة: الجبة والعمامة وغيرهما، ولقب بالملك الناصر، وعاد إلى دار أسد الدين فأقام بها، ولم يلتفت إليه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم ولا خدموه.
وكان الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري معه فسعى مع سيف الدين علي بن أحمد حتى أماله إليه، وقال له: إن هذا الأمر لايصل إليك مع وجود عين الدولة والحارمي وابن تليل، فمال إلى صلاح الدين. ثم قصد شهاب الدين الحارمي وقال له: إن صلاح الدين هو ابن أختك وملكه لك، وقد أستقام الأمر له، فلا تكن أول من يسعى في إخراجه عنه فلا يصل إليك؛ ولم يزل به حتى أحضره أيضاً عنده وحلَّفه له. ثم عدل إلى قطب الدين وقال له: إن صلاح الدين أن أصله من الأكراد فلا يخرج الأمر عنه إلى الأتراك؛ ووعده وزاد في إقطاعه؛ فأطاع صلاح الدين أيضاً. وعدل إلى عين الدولة الياروقي، وكان أكبر الجماعة وأكثرهم جمعاً، فلم تنفعه رقُاه ولانفذ فيه سحره، وقال: أنا لاأخدم يوسف أبداً، وعاد إلى نور الدين ومعه غيره، فأنكر عليهم فراقه وقد فات الأمر، ليقضى الله أمراً كان مفعولا، وثبت قدم صلاح الدين ورسخ ملكهه؛ وهو نائب عن الملك العادل نور الدين، والخطبة لنور الدين في البلاد كلها، ولايتصرفون إلا عن أمره.
وكان نور الدين يكاتب صلاح الدين بالأمير الأسفهسلار ويكتب علامته في الطتب تعظيماً أن يكتب اسمه، ولايفرده في كتاب بل يكتب: الأمير الأسفهسلار صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا وكذا.
واستمال صلاح الدين قلوب الناس وبذل لهم الأموال مما كان أسد الدين جمعه، وطلب من العاضد شيئاً يخرجه، فلم يمكنه منعه. فمال الناس إليه وأحبوه، وقويت نفسه على القيام بهذا الأمر والثبات فيه، وضعف أمر العاضد، وكان كالباحث عن حتفه بظلفه.
وأرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه إخوته، فلم يجبه إلى ذلك، وقال: أخاف أن يخالف أحد منهم عليك فتفسد البلاد. ثم إن الفرنج اجتمعوا ليسيروا إلى مصر، فسير نور الدين العساكر، وفيهم إخوة صلاح الدين، منهم شمس الدولة تورانشاه بن أيوب وهو أكبر من صلاح الدين. فلما أراد أن يسير قال له: إن كنت تسير إلى مصر وتنظر إلى أخيك أنه يوسف الذي كان يقوم في خدمتك وأنت قاعد فلاتسر، فإنك تفسد البلاد، وأُحضرك حينئذ وأعاقبك بما تستحقه؛ وإن كنت تنظر إليه أنه صاحب مصر وقائم فيها مقامي، وتخدمه بنفسك كما تخدمني، فسر إليه واشدد أزره، وساعده على ما هو بصدده. فقال: أفعل معه من الخدمة والطاعة مايصل إليك إن شاء الله تعالى، فكان كما قال.
وقال العماد: لما فُرغ بعد ثلاثة أيام من التعزية بأسد الدين اختلفت آراؤهم واختلطت أهواؤهم، وكاد الشمل لاينتظم، والخلل لايلتئم. فاجتمع الأمراء النُّورية على كلمة واحدة، وأيد متساعدة، وعقدوا لصلاح الدين الرأي والراية، وأخلصوا له الولاء والولاية، وقالوا: هذا قائم مقام عمه ونحن بحكمه، والتزموا لصاحب القصر بتوليته. ونادت السعادة بتلبيته، وشرع في ترتيب الملك وتربيته، وفض ختوم الخزائن، وابضَّ رسوم المزائن، وأنارت على منار العلا أناة آياته، ورأى أولياءه تحت ألويته وراياته، وأحبوه، ومازالت محبته غالبة على مهابته، وهو يبالغ في تقريبهم كأنهم ذوو قرابته. ومازاده الملك ترفعاً، وما أفاده إلا تأصلا في السماح وتفرعاً؛ وضم من أمر المملكة ماكان منشوراً، وكتب له العاضد صاحب القصر منشوراً، وهو بالمثال الكريم الفاضلي الذي هو السحر الحلال، والعذب الزلال. ثم أورده العماد وهو شبيه بمنشور عمه أسد الدين. وجرى القلم فيه بما خط له القلم في الأزل من وصف جهاده وسلمه.
ففي ذلك المنشور: والجهاد أنت رضيع دَرِّه، وناشئة حجره، وظهور الخيل مواطنك، وظلال الخيام مساكنك، وفي ظلمات قساطله تُجلى محاسنك، وفي أعقاب نوازله تتلى مناقبك. فشمر له عن ساق من القنا، وخُض فيه بحراً من الظبا، واحلل في عقد كلمة الله وثيقات الحبا، وأَسل الوهاد بدم العدا، وارفع برؤسهم الربا، حتى يأتي الله بالفتح الذي يرجو أمير المؤمنين أن يكون مذخوراً لأيامك، وشهوداً لك يوم مقامك).
وفي طرَّته بالخط العاضدي، ولم يذكره العماد في كتابه: هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عند الله سبحانه عليك، فأوف بعهدك ويمينك، وخذ كتا أمير المؤمنين بيمينك، ولمن مضى بجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن أسوة، ولمن تبقى بثقته بنا أعظم سلوة. تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين).
يعني بمن مضى أسد الدين وبمن بقي صلاح الدين.
ثم قال العماد: وهذا آخر منشور طويت به تلك الدولة وختمت، وتبددت عقودها وما انتظمت.
ووصلت كتب صلاح الدين إلينا إلى الشتم، بما تسنى له من المرام، ولمن يقصده بالاستدعاء والاستبطاء، ولمن تأخر عنه بالخلع والعطاء. وترددت الكتب الصلاحية بذكر الأشواق، وشكو الفراق، وشرح الاستيحاش، وبرح القلوب العطاش، فإن أصحابنا وإن ملكوا، ونالوا مقاصدهم وأدركوا، حصلوا بين أمة لايعرفونها، بل ينكرونها فإن أجناد مصر كانوا في الدين مخالفين، وعلى عقيدتهم معاقدين محالفين.
وكتب صلاح الدين إلى بعض أصدقائه كتاباً أوله:
أيها الغاائبون عني، وإن كن ... تم لقلبي بذكركم جيرانا
إنني مذ فقدتكم لأراكم ... بعيون الضمير عندي عياناً
فسألني المكتوب إليه أن أكتب جوابه، فقلت:
أيها الظاعنون عني، وقلبي ... معهم لايفارق الأظعانا
ملكوا مصر مثل قلبي، وفي ه ... ذا وهاتيك أصبحوا سكاناً
فاعدلوا فيهما فإنكم اليو ... م ملكتم عليهما سلطاناً
لاتروعُوا بالهجر قلب محب ... أورثته روعاته الخفقانا
حبذا معهد قضينا به العي ... ش فكنا بربعه جيرانا
إذ وجدنا من الحوادث أمناً ... وأخذنا من الخطوب أمانا
ورتعنا من المنى في رياض ... وسكنا من المغاني جنانا
وبعد، فإن وفود الهناء، وأمداد الدعاء، متواصلة على الولاء، صادرة عن محض الولاء، إلى غاية جنابه المأنوس، ومنيع كنفه المحروس، فليهنه اظفران: بالملك وبالعدو، وفرع هضاب المجد والعلو؛ وكيف لايكون النصر مساوقا لدين هو صلاحه، والتأييد مرافقاً لعزم نجاحه وفلاحه:
فالشام يغبط مصراً مذ حللت بها ... كما الفرات عليكم يحسد النيلا
نلتم من الملك عفواً ما الملوك به ... عُنوا قديماً وراموه فما نيلا
قال العماد: و رثيت أسد الدين بقصيدة خدمت بها نور الدين وعزيت بها أخاه نجم الدين، منها:
تضعضع في هذا المصاب المباغت ... من الدين، لولا نوره، كل ثابت
فأيام نور الدين دامت منيرة ... لنا، خلفاً من كل مودٍ وفائت
فما بالنا نبدي التصامم غفلةً ... وداعي المنايا ناطق غير صامت
نؤمل في دار الفناء بقاءنا ... ونرجو من الدنيا صداقة ماقت
وما الناس إلا كالغصون، يد الردى ... تقرِّب منها كل عود لناحت
لقد أبلغت رًسل المنايا وأسمعت ... ولكنها لم تحظ منا بناصت
فلهفي على تلك الشمائل، إنها ... لقد كرمُت في الحسن عن نعت ناعت
وله من أخرى عزى بها أخاه نجم الدين أيوب وولده ناصر الدين محمداً، يقول:
ما بعد يومك للمعنى المدنف ... غير العويل وحسرة المتأسف
ما أجرا الحدثان! كيف سطا على ال ... أسد المخوف سطا ولم يتخوف
من ذا رأى الأسد الهصور فريسة ... أم أبصر الصبح المنير وقد خفى
من ثابتٌ دون الكماة سواه إن ... زلت بهم أقدامهم في الموقف؟
ومنها:
ياناصر الدين استعذ بتصبر ... مُدْن إلى مرضاة ربٍ مزلف
وتعزَّ نجم الدين عنه مهنَّأً ... أبد الزمان بملك مصر ويوسف
لاتستطيع سوى الدعاء، فكلنا ... إلا بما في الوسع، غير مكلف
ولعمارة اليمني في صلاح الدين مدائح، منها قوله:
لك الحسب الباقي على عقب الدهر ... بل الشرف الراقي إلى قمة النَّسر
كذا فليكن سعى الملوك إذا سعت ... بها الهمم العليا إلى شرف الذكر
نهضتم بأعباء الوزارة نهضة ... أقلتم بها الأقدام من زلة العثر
وقال أيضاً من قصيدة:
ياشبيه الصديق عدلا وحسناً ... وسميَّاً حكاه معنى ومغنى
هذه مصر يوسف، حل فيها ... يوسفٌ مالكا وما حل سجنا
أنت حرَّمت أن يثلَّث فيها ... بسوى الله وحده أو يثنى
إنما الملك والوزارة جسم ... أنت روح فيه، وفي اللفظ معنى
وقال أيضاً من قصيدة:
ملكُ صلاح الدين، لاقوضت ... أطنابه، ملك التقى والصلاح
سيرة عدل حسَّنت عندنا ... ماكان من وجه الليالي القباح
سافر في الدنيا وأقطارها ... ذكرٌ غدا عنه جميلا وراح
قل لابن أيوب، وكم ناصح ... أنفع ممن هو شاكي السلاح
حارب على مثل نجوم السما ... فملك مصر ما عليه اصطلاح
قولا لمن في عزمه فترة ... ارجع إلى الجد وخل المزاح
فالقدس قد أذَن إغلاقه ... على يدي يوسف بالإنفتاح
وقال أيضاً من قصيدة:
ونُبت بمصر عن سميك يوسفٍ ... كما ناب عن سكب الحيا واكفٌ سكب
فصلوهذا الذي ذكرناه من قصة شاور وما جرى بسببه في الديار المصرية إلى أن تمت وزارة صلاح الدين قد وجدته مبسوطاً مشتملاً على زيادات وفوائد في كتاب ليحيى ابن أبي طيّ الحلبي في السيرة الصلاحية، فأحببت ذكره مختصراً.
ذكر أن الملك الصالح طلائع بن رُزيك، وزير الديار المصرية، لما قتل في رمضان سنة ست وخمسين، بتدبير عمه العاضد عليه، أوصى عند موته ابنه رزيك بشاور، وقال له: لاتزلزله من ولايته فإنه أسلم لك. ويقال إنه أنشد أبياتاً منها:
فإذا تبدد شمل عقدكما ... لاتأمنا من شاور السعدي
وكان شاور متولي قوص والصعيد الأعلى؛ فلما دفن الصالح استوزر ابنه رزيك ولقب بالعادل. ولما أستقرت أحواله أرسل إلى عمة العاضد فخنقها؛ واجتمع إلى رزيك أولاد عمته، ومن جملتهم عز الدين حسام، وأشاروا عليه بعزل شاور، فامتنع، ثم ألحوا عليه فأجاب. وبلغ شاوراً فجاهر بالعصيان وجمع العربان وأهل الصعيد وصار إلى القاهرة، وخرج إليه جماعة من أمرائها كانوا كاتبوه، فخرج رزيك تحت الليل فضل الطريق وتاه، فوقع عند إطفيح، وثمَّ بيوت عرب، فقبضوا عليه؛ وحُمل إلى شاور وقد دخل القاهرة وتسلمها، وأخرجت إليه خلع الوزارة وتم أمره.
ولما حصل رُزَّيك عند شاور أكرمه وصلب الذي أتى به ونادى عليه: هذا جزاء من لايراعي الجميل؛ وكان للصالح إليه إحسان. وتفرَّق آل رزيك في البلاد، ونجا حسام الذي كان سبب هلاك بني رزيك بأموال وصار إلى حماة فأقام بها واشترى القرى، ولم يزل بها إلى أن مات. وكان في خروجه أودع عند الفرنج سبعين ألف دينار فوفوا له وردوها عليه. ثم أراد تقي الدين أخذها منه، فقال: من العجب أن الفرنجي يفي لي بردها وةأخذها أنت مني. فكف عنه.
وتمكن شاور، وكان له ثلاثة أولاد: طيّ، والكامل، وسليمان، فتبسطوا على الناس وتعاظموا فمجتهم الأنفس.
وكان مُلهم وأخوه ضرغام من صنائع الصالح بن رزيك؛ فلما شاهدا ميل الناس عن شاور بسبب أولاده أخذا في مراسلة رزيك بن الصالح، وهو في السجن، والعمل له في إعادته إلى الوزارة. واتصل ذلك بطيّ بن شاور، فدخل على أبيه وقال له: أنت غافل ومُلْهم وضرغام يفسدان أمرك، وقد شرعا في أمر رزيك واستحلفا له جماعة من الأمراء، ولايمكن تلافي حالك إلا بقتل رزيك. فقال له: إن الصالح أولاني جميلا وبسببه حللت هذا المحل. فتركه ولده طيّ، ودخل على رزيك فقتله في سجنه، وسمع شاور ذلك فقامت قيامته؛ ونُمى الخبر إلى ضرغام وأخيه ملهم فثارا وأثارا من استحلفاه من الأمراء، وزحفا بالعساكر إلى شاور فانهزم وخرج من باب القاهرة وهرب إلى الشام. وأدرك ضرغام ولديه طياً وسليمان فقتلهما، وأسر الكامل فأخذه ملهم واعتقله عنده، وأراد ضرغام قتله فمنعه منه ملهم وحفظ له جميلا كان قد فعله معه.
واستقر أمر ضرغام في الوزارة وخلُع عليه ولقب بالملك المنصور. ولما استقر به الأمر بلغه أن جماعة من الأمراء حسدوه واستصغروه وكاتبوا شاوراً، وكان صار إلى الشام، فأخذ في إعمال الحيلة عليهم وأحضرهم إلى دار الوزارة ليلاً فقتلهم جميعاً، ولم يتعرض لأموالهم ولا لمنازلهم. وقيل إنه قتل منهم سبعين أميراً، ويقال إنه جعلهم في توابيت وكتب على كل تابوت اسم صاحبه، فكان ذلك أكبر الأسباب في هلاكه، وخروج دولة المصريين عن يد أصحابها لأنه أضعف عسكر مصر بقتل الأمراء.
وأما شاور فإنه لما خرج من القاهرة سار على وجهه حتى وصل إلى دمشق بعد تحققه قتل ولديه. ولما وصل إلى بُصرى اتصل خبره بنور الدين فندب جماعة إلى تلِّقيه، وأنزله في جوسق الميدان الأخضر، وأحسن ضيافته وإكرامه. ثم بعد سبعة أيام من مقدمه أحضر نور الدين ابن الصوفي وجماعة من وجوه الدمشقيين وقال لهم: اخرجوا إلى هذا الرجل وسلموا عليه وعرفوه اعذارنا في التقصير في حقه، وسلوه فيما قدم، وماحاجته، فإن كان ورد علينا مختاراً للإقامة أفردنا له من جهاتنا ما يكفيه ويقوم بأربه وأوده، ونكون عوناً له على زمانه، وإن كان ورد لغير ذلك فيصفح عن حاجته. فخرج الجماعة إليه بالرسالة فشكر إحسان نور الدين وسكت عما وراء ذلك. فسأله القوم الجواب، فقال: إذا لم يبيَّت الرأي جاء فطيراً. فعاد القوم إلى نور الدين وعرفوه مادار بينهم وبينه، فأمرهم بالعود إليه من غد ذلك اليوم، ففعلوا، وطلبوا الجواب، فسكت وأطال أيضاً، ثم قال: إن رأي نور الدين، أطال الله بقاءه، الاجتماع بي فله علُّو الرأي. فعرَّفوا نور الدين بمقالته، فأجاب نور الدين أن يكون الاجتماع على ظهر بالميدان الأخضر. وركب نور الدين من الغد في وجوه دولته وخواص مملكته في أحسن زي وأكمل شارة. فلما دخل الميدان ركب شاور من الجوسق والتقيا في وسط الميدان بالتحية فقط، ولم يترجل أحد منهما لصاحبه. ثم سارا من موضع اجتماعهما، وهو نصف الميدان، إلى آخره، ثم انفصلا من هناك وعاد نور الدين إلى قلعة دمشق، وأخذ وقته ذلك في جمع العساكر.
وأما ضرغام فإنه حين استقر به الأمر أنشأ كتاباً إلى نور الدين، على يد علم الملك ابن النحاس، يظهر فيه الطاعة ويعرِّض بخذلان شاور، فأظهر نور الدين لعلم الملك القبول في الظاهر وهو شاور في الباطن، وأجاب عن الكتاب، وانفصل علم الملك عن دمشق. فلما كان بظاهر الكرك أخذه فيليب بن الرفيق الفرنجي وحصل على جميع ماكان معه، وانهزم علم الملك بنفسه وتوجه إلى الساحل وسار إلى مصر.
وكان شاور قد أطمع نور الدين في أموال مصر ورغبه في ملكها، وأنه إذا ملكها كان من قبله فيها.
ولما بلغ شاوراً استتبابُ أمر العسكر سأل عن المقدم عليه، فقيل له أسد الدين شيركوه، فلم يطب له ذلك، لأنه ظن أن التقدمة تكون له، فلما زُحم بهذا العود سُقط في يده، وفت في عضده، ولم يجد بداً من المسير. فخرج واجتمع بأسد الدين وسارا جميعاً حتى وصلوا أطراف البلاد المصرية ونزلوا على تل في الحوف قريب من بلبيس يعرف بتل بسطة، وضربوا خيامهم هناك.
ولما اتصل بضرغام خبر ورود شاور وأسد الدين بالعساكر الشامية جمع أمراء مصر واستشارهم؛ فأشار شمس الخلافة محمد بن مختار بأن تجتمع العساكر وتخرج جريدة وتلقى العساكر الشامية بصدر، وهي على يومين من القاهرة، فإنهم لايثبتون، لكونهم خرجوا من البرية ضعفاء، ولمكان قلة الماء عليهم، لأن المسافر إلى مصر يحمل الماء من أيْلة مسيرة ثلاثة أيام، فلم يروا ذلك واختاروا أن يلقوهم على بلبيس. فأمر ضرغام الأمراء بالخروج، فخرجوا في أحسن زي وأكمل عدة، والمقدَّم عليهم ناصر الدين مُلْهم، أخو ضرغام، وجاءوا حتى أحاطوا بالتل الذي كان أسد الدين نازلا عليه.
ولما عاين أسد الدين كثرة العساكر وأنهم قد ملكوا عليهم الجهات وسدوا منافذ الطرقات، قال لشاور: ياهذا، لقد أرهقتنا وغررتنا، وقلت إنه ليس بمصر عساكر، فجئنا في هذه الشرذمة! فقال له شاور: لايهولنك ما تشاهد من كثرة الجموع فأكثرها الحاكة والفلاحون الذين يجمعهم الطبل وتفرقهم العصا، فما ظنك بهم إذا حمى الوطيس وكلبت الحرب! وأما الأمراء فإن كتبهم عندي وعهودهم معي، وسترى ذلك إذا لقيناهم. ثم قال: أريد أن تأمر العساكر بالاستعداد للوثوب، ففعل، ونهاهم شاور عن القتال.
ووقف الفريقان مصطفين من غير حرب إلى أن حمى النهار والتهب الحديد على أجساد الرجال، فضرب أكثر أهل مصر الخيم الصغار، وخلعوا السلاح، ونزلوا عن الخيول، وجلسوا في الظل. فأمر شاور الناس بالحملة فكان أسعد أهل مصر من ركب فرسه وأطلق عنانه وولى منهزماً. وتركوا خيمهم وأموالهم ليس بها حافظ، فاحتوى عليها أصحاب أسد الدين، وأُسر شمس الخلافة وجماعة من أمراء المصريين، ولم يمكن شاور من تقييدهم والاحتياط عليهم فهربوا. وساق أسد الدين وشاور في أثر الناس، ونزلوا على القاهرة وقاتلوها أياماً. وراسل شاورُ العاضد في إصلاح الحال وأن يأذن له في الدخول إلى القاهرة، فأذن له.
وكان ضرغام صار إلى تحت القصر وقال: أريد أمير المؤمنين يكلمني لأسأله عما أفعل، فلم يجبه أحد. فذهب على وجهه منهزماً، وخرج من باب زويلة والعامة تلعنه وتصيح عليه، فالتحقه رجل من أهل الشام ليقتله، فقال له ضرغام: أوصلني إلى أسد الدين ولك مناك، فلم يقبل منه وحمل عليه فطعنه، فأرداه، ونزل إليه واحتز رأسه وحمله إلى أسد الدين، وأعلمه بما جرى بينهما، فصعب على أسد الدين وأوجعه ضرباً، وأراد قتله، فشفع فيه شاور. ودخل شاور القاهرة وقتل ملهماً أخا ضرغام عند بركة الفيل، وخرج ابنه الكامل من دار ملهم، وكان معتقلاً فيها، وخرج معه القاضي الفاضل، وكان أيضاً معتقلا فيها معه.
واستقام أمر شاور في الوزارة، وأقام أسد الدين على المقسم ينتظر أمر شاور فيما ضمن لنور الدين، وأرسل إليه يقول له: قد طال مقامنا في الخيم وقد ضجر العسكر من الحر والغبار. فأرسل إليه شاور ثلاثين ألف دينار وقال: ترحل الآن في أمن الله تعالى ودعته. فلما سمع أسد الدين ذلك أرسل إليه: إن نور الدين أوصاني عند انفصالي عنه، إذا ملك شاور تكون مقيما عنده، ويكون لك ثلث مُغَلِّ البلاد، والثلث الآخر لشاور وللعسكر، والثلث الآخر لصاحب القصر يصرفه في مصالحه. فقال شاور: أنا ما قررت شيئاً مما تقول، أنا طلبت نجدة من نور الدين، فإذا انقضى شغلي عادوا إلى الشام. وقد سيرت إليكم نفقةً فخذوها وانصرفوا، وأنا أتصرف مع نور الدين. فقال أسد الدين: أنا لايمكنني مخالفة نور الدين، ولا أقدر على الانصراف إلا بإمضاء أمره. فأمر شاور بإغلاق باب القاهرة، وأخذ في الاستعداد للحصار، واستعد أسد الدين أيضاً، وسيَّر صلاح الدين في قطعة من الجيش إلى بلبيس لجمع الغلال والأتبان والأحطاب وما تدعوا الحاجة إليه، ويكون جميع ذلك في بلبيس ذخيرة، وأخذ في قتال القاهرة.
وكاتب شاور ملك الفرنج مُرِّي يستنجده ويقول له: إن شيركوه طلع معي نجدةً على ضرغام، فلما حصلوا في البلاد طمعوا فيها، ومتى ملكوها مضافةً إلى بلاد الشام لم يكن لك معهم عيش ولاقرار. وضمن له في كل مرحلة يرحلها إلى ديار مصر ألف دينار، وقرر شيئاً لقضيم دوابهم وشيئاً لاسبتاريته. فخرج مُرِّي من عسقلان في جموعه إلى فاقوس في سيع وعشرين مرحلة، وقبض عنها سبعة وعشرين ألف دينار.
ولما تحقق أسد الدين قرب الفرنج من القاهرة أجفل عنها إلى بلبيس، وانضاف إليه من أهلها الكنانَّية. وخرج شاور في عساكر مصر واجتمع بالفرنج، وجاء حتى خيَّم على بلبيس وأحاط بها محاصراً لأسد الدين، يباكر الحرب ويراوحها، وأقاموا على ذلك مدة ثمانية أشهر.
وانقطعت أخبار مصر ومن بها عن نور الدين، وكان اتصل بنور الدين، وهو بدمشق خبر مسير الفرنج إلى ديار مصر وغدر شاور؛ فكاتب الأطراف بقدوم العساكر، فقدم عليه عساكر الشرق جميعها واجتمعوا بأرض حلب، فنزل بهم مجد الدين بن الدّاية، وكان نائب نور الدين بحلب، وسار إلى جهة حارم ونزل على أرتاح، وخرج نور الدين من دمشق وشن الغارة على الساحل، وقتل وأسر عالماً عظيماً، ثم قصد جهة حلب وجعل طريقه حصن الأكراد؛ فلما حصل بأرضه شن الغارة فيها وغنم غنيمة عظيمة، ونزل في مرجه، فخرج إليه الفرنج الإخوة من حصن الأكراد وهجموا عسكره، وقتلوا جماعة من المسلمين؛ وكان عسكر نور الدين غافلا فلم يتماسك الناس وساروا على وجوههم.
وسار نور الدين إلى أن اجتمع بعساكره على أرتاح، وكان أخوه نصرة الدين مع الفرنج، فلما عاين أعلام نور الدين لم يتماسك أن حمل بجميع أصحابه قاصداً أخاه نور الدين، فلما قَرُب منه نزل وقبل الأرض فلم يلتفت عليه، فتم على وجهه. واصطف الناس للحرب، فحملت الفرنج فكسرت الميسرة، ثم عادت فوجدت راجلها جميعه قد قتل والخيل قد أطبقت عليهم، فنزلوا عن الخيل وألقوا أسلحتهم وأذعنوا بالأمان، فأخذوا جميعاً قبضاً بالأيدي.
وسار إلى حارم ففتحها، وأراد النزول على أنطاكية فلم يتمكن لشغل قلبه بمن في مصر من المسلمين؛ فانحرف قاصداً لدمشق، ونزل على بانياس، فافتتحها. وأغار على بلد طبرية وجمع أعلام الفرنج وشعافهم وجعلها في عيبة وسلمها إلى نَجَّاب، وقال له: أريد أن تُعمل الحيلة في الدخول إلى بلبيس، وتخبر أسد الدين بما فتح الله على المسلمين، وتعطيه هذه الأعلام والشعاف، وتأمره بنشرها في أسواق بلبيس، فإن ذلك مما يفتُّ في أعضاد الكفار ويدخل الوهن عليهم. ففعل ذلك. فلما رأى الفرنج الأعلام والشعاف قلقوا لذلك وخافوا على بلادهم، وسألوا شاوراً الإذن في الانفصال. فانزعج شاور لذلك، وخاف من عاقبة الأمر، وسألهم التَّمُّهل أياماً؛ وجمع أمراءه للمشورة، فأشاروا عليه بمصالحة أسد الدين. وتكفل إتمام الصلح له الأمير شمس الخلافة؛ فأنفذه إليه، فتم الصلح على يديه، على أن يحمل شاور إلى أسد الدين ثلاثين ألف دينار أخرى.
وحكى أن شاوراً أرسل إلى أسد الدين، وهو محصور ببلبيس، يقول له: اعلم أنني أبقيت عليك ولم أمكن الفرنج منك لأنهم كانوا قادرين عليك؛ وإنما فعلت ذلك لأمرين: أحدهما أني ما أختار أن أكسر جاه المسلمين وأُقوي الفرنج عليهم. والثاني أني خفت أن الفرنج إذا فتحوا بلبيس فيها، وقالوا هذه لنا؛ لأنا فتحناها بسيوفنا؛ وما من يوم كان يمضي بمصر إلا وأنا أُنفذ إلى كبار الفرنج الجملة من المال، وأسألهم أن يكسروا همة الملك عن الزحف.
قال: وأقام أسد الدين بظاهر بلبيس ثلاثة أيام، ورحلت الفرنج إلى جهة الساحل، وسار أسد الدين قاصداً الشام، وجهل مسيره على البرِّية.
واتفق أن البرنس أرناط صاحب الكَرَك والشَّوْبَك تأول ليمينه التي حلفها لأسد الدين، وقال: أنا حلفت أني ما ألحق أسد الدين ولا عسكره في البر، وأنا أريد ألحقه في البحر. وركب في البحر وصار في يوم واحد إلى عسقلان، وخرج منها إلى الكرك والشوبك وجمع عسكره المقيم هناك، وقعد مرتقباً خروج أسد الدين من البرية ليوقع به. وعلم أسد الدين بمكيدة أرناط بالحدس والتخمين، فسلك طريقاً من خلف المكان الذي كان فيه أرناط: شق إلى الغور وخرج من البلقاء، وسلمه الله تعالى منه. ودخل دمشق فاجتمع بنور الدين وأخبره بالأحوال، وأعلمه بضعف ديار مصر، ورغبه فيها وشوقه إلى ملكها، فرغب فيها نور الدين وأمره بتجنيد الأجناد واستخدام الرجال.
وأما شاور فإنه بعد رحيل أسد الدين والفرنج إلى بلادهم عاد إلى القاهرة، ولم يكن له همة إلا تتبع من علم أن بينه وبين أسد الدين معرفة أو صحبة. وكان استفسد جماعة من عسكر أسد الدين منهم خشترين الكردي وأقطعه شطنوف؛ وقتل شاور جماعة من أهل مصر وشردّ آخرين.
ثم توجه أسد الدين في ربيع الأول سنة اثنتين وستين قاصداً الديار المصرية، وكتم أخباره، فما راع شاوراً إلا ورود كتاب مُرِّي ملك الافرنج، يعرفه فيه أن أسد الدين قد فصل عن دمشق بعساكره قاصداً ديار مصر. فطلب شاور منه إعادة النجدة، والمقرر من المال يصل إليه على ماكان يصل إليه في العام الماضي. فسار مُرِّي في عساكر الفرنج إلى مصر على جانب البحر، وكان أسد الدين سائراً في البر، فسبقه الفرنج ونزلوا على ظاهر بلبيس، وخرج شاور بعساكر مصر واجتمع بالملك، وقعدوا جميعاً في انتظار أسد الدين.
وعلم أسد الدين باجتماع الفرنج بشاور على بلبيس، فنكب عن طريقهم وأم الجبل، وخرج على إطفيح، وهي في الجنوب من مصر، وشن الغارة هناك. واتصل بشاور خبره، فسار في عساكره، والفرنج في صحبته، يقفو أثره. واتصل بأسد الدين ذلك فأندفع بين أيديهم حتى بلغ شرونة من صعيد مصر، وتحيَّل في مراكب ركبها، وعدى إلى البر الغربي. ولما استكمل تعديته أدرك شاور بعض ساقته ومنقطعي عسكريته، فأوقع بهم. وأحضر شاور أيضاً مراكب وقطع النيل في أثر أسد الدين بجميع جيوشه وجيوش الفرنج، وسار أسد الدين إلى الجيزة وخيم بها مقدار خمسين يوماً، واستمال قوماً يقال لهم الأشراف الجعفريون والطلحيون والقرشيون، فأنفذ أسد الدين إلى شاور يقول له: أنا أحلف لك بالله الذي لا إله إلا هو، وبكل يمين يثق بها المسلم من أخيه، أنني لاأقيم ببلاد مصر ولا أعاود إليها أبداً، ولاامكن أحداً من التعرض إليها، ومن عارضك فيها كنت معك إلباً عليه، وما أؤمِّل منك إلا نصر الإسلام فقط، وهو أن العدو قد حَصَل بهذه البلاد، والنجدة عنه بعيدة، وخلاصه عسير، وأريد منك أن نجتمع أنا وأنت عليه، وننتهز فيه الفرصة التي قد أمكنت والغنيمة التي قد كُتبت، فنستأصل شأفته ونخمد ثأرته، وما أظن أنه يعود يتفق للإسلام مثل هذه الغنيمة أبداً.
فلما صار الرسول إلى شاور وأدى إليه الرسالة أمر به فقتل، وقال: ماهؤلاء الفرنج، هؤلاء الفَرَج! ثم أعلم الفرنج بما أرسل به إليه أسد الدين وأعلمهم بما أجابه، وجدد لهم أيماناً وثقوا بها. وبلغ ذلك أسد الدين فأكل يديه أسفاً على مخالفة شاور له في هذا الرأي، وقال: لعنه الله، لو أطاعني لم يبق بالشام أحد من هؤلاء الفرنج! ونزل شاور في اللوق والمقسم، وأمر بعمل الجسر بين الجيزة والجزيرة، وأمر بالمراكب فشحنت بالرجال، وأمرهم أن يجيئوا من خلف عسكر أسد الدين.
ولما رأى أسد الدين ذلك كتب إلى أهل الإسكندرية يستنجدهم على شاور لأجل إدخاله الفرنج إلى دار الإسلام وتضييعه أموال بيت مال المسلمين فيهم؛ فقاموا معه وأمروا عليهم نجم الدين بن مصال، وهو ابن أحد وزراء المصريين، وكان لجأ إلى الإسكندرية مستخفياً فظهر في هذه الفتنة.
حدثني الشريف الإدريسي، نزيل حلب، قال: كنت بالإسكندرية يومئذ فكتب معي ابن مصال كتاباً إلى أسد الدين، وقال لي: قل له إني أخبرك أن السلاح واصل. وكان أنفذ لأسد الدين خزانة من السلاح، قال فسبقتها بيومين، وحضرت بين يدي أسد الدين وأعطيته الكتب، وشافهته بمقالة ابن مصال في معنى السلاح والآلات، ثم وصلت الخزانة بعد يومين مع ابن أخت الأمير ابن عوف. قال: وبقينا على الجيزة يومين، فوصل إلينا رسول ابن مدافع يخبر أسد الدين بقرب شاور منه ويأمره بالنجاة، فترك أسد الدين الخيام والمطابخ وما يثقل حمله، وسار سيراً حثيثاً حتى قارب دَلَجْة، فأمر أسد الدين بنهبها فنهبت. ونزل الناس لتغشية الدواب فلم تستتم عليقها حتى أمر أسد الدين بالرحيل وأوقد المشاعل ليلا وسرنا، فإذا الجاووش ينادي في الناس بالرجوع، وعاد أسد الدين إلى دجلة فنزل عليها، فأصبحوا على ذلك والتقوا، فقتل من أصحاب أسد الدين جماعة كبيرة وانهزموا. وكان أسد الدين قد فرق أصحابه فريقين: فريقاً معه وفريقاً جعله مع صلاح الدين وأنفذه ليأتي من خلف عسكر شاور، فدخل الضعف من هذا الطريق. ثم إن أصحاب أسد الدين تجمعوا وتماسكوا، وعلموا أنه لاملجأ لهم إلا الصبر، فتحالفوا على الموت وحملوا، وطلع صلاح الدين من ورائهم. فلم تزل الحرب قائمة إلى الليل، فولت عساكر الإفرنج والمصريين الإدبار، وكاد مُرِّي ملك الإفرنج يؤسر، وصار شاور ومن سلم معه إلى منية ابن خصيب. وسار أسد الدين على الفيوم إلى الإسكندرية فدخلها، ونزل القصر وجعل فيه محبس الفرنج الذين أسرهم، وكان فيها ابن الزبير متولياً ديوانها، فحمل إلى أسد الدين الأموال، وقواه بالسلاح. وخاف أسد الدين أن يقصده شاور والفرنج فيحصروه، فربما تأذى بالحصار، فأمر صلاح الدين بالمقام بالإسكندرية وترك عنده جماعة من العسكر، ومن به مرض أو جراح أو ضعف، واستحلف له وجوه الإسكندرية وأوصاهم به، ورحل في أقوياء عسكره قاصداً إلى الصعيد. ونزل الفرنج وشاور على الإسكندرية وحاصروها مدة ثلاثة أشهر بأشد القتال، وبذل أهلها في نصرة الملك الناصر أموالهم وأنفسهم، وقتل منهم جماعة عظيمة.
ولما صار أسد الدين بالصعيد حصَّل من تلك البلاد أموالا عظيمة، ولم يزل هناك حتى صام شهر رمضان. واتصل به اشتداد الأمر على الإسكندرية فرحل من قوص إلى جهتها، واتبعه جماعة كثيرة من العربان وأهل تلك البلاد. وبلغ ذلك شاوراً فرحل هو والفرنج، واضطر إلى الصلح، وضجرت الفرنج أيضاً، فتوسط ملك الفرنج في ذلك، فتقرر أمر الصلح على أن شاوراً يحمل إلى أسد الدين جميع ما غرمه في هذه السفرة، ثم يعطي الفرنج ثلاثين ألف دينار، ويعود كل منهم إلى بلاده. وطلب صلاح الدين من ملك الفرنج مراكب يحمل فيها الضعفاء من أصحابه فأنفذ له عدة مراكب.
قال الإدريسي: كنت في جملة من خرج في المراكب، فلما وصلنا إلى ميناء عكا أخذنا واعنقلنا في معصرة القصب إلى أن وصل الملك مُرِّي فأطلقنا، فخرجنا إلى دمشق.
وخرج صلاح الدين من الإسكندرية بعد أن استحلف شاوراً لأهلها بألا يعرض لهم بسوء، واجتمع بعمه أسد الدين.
ثم أنفذ شاور وقبض على ابن مصال وجماعة ممن أعان صلاح الدين وضيق عليهم، وتتبع أهل الإسكندرية. واتصل ذلك بصلاح الدين فاجتمع بملك الفرنج وقال له: إن شاوراً نقض الأيمان. قال: وكيف ذلك؛ قال: لأنه قبض على من لجأ إلينا. فقال: ليس له ذلك. وأنفذ إلى شاور وقال له: إن الأيمان جرت على ألا تعرض لأحد من أهل مصر ولا الإسكندرية؛ وألزمه يميناً أخرى في ألا يعرض لأحد ممن لجأ إلى أسد الدين أو صلاح الدين.
ولما شاهد من التجأ إلى الأسد والصلاح فساد تلك الأحوال خافوا من شاور، فأخذوا في الرحيل إلى الشام. واتصل ذلك بشاور، فخرج بنفسه وجمع من عزم على الرحلة إلى الشام، وحلف لهم على الإحسان إليهم وحماية أنفسهم وأموالهم، فمنهم من سكن إلى أيمانه، ومنهم من لم يسكن ورحل.
وألهم الله تعالى أسد الدين أن الفرنج ربما خطر لهم في مصر خاطر فقصدتها، فراسل الملك مري وقال له: قد سأل أهل مصر يمين الملك ألا يدخل إليهم ولا يتعر لهم. فامتنع الملك، ثم أجاب خوفاً أن يتحقق أسد الدين وشاور أنه ربما قصد ديار مصر، فربما اجتمعا عليه، فلم يجد بداً من اليمين فحلف وحلف أصحابه؛ وخرج أسد الدين من مصر وفي قلبه الداء الدوي منها، لأنه شاهدها وشاهد مُغَلاّتها فوجدها أمراً عظيماً. فأخذ نور الدين في تهوين أمرمصر عليه، وأقطعه حمص وأعمالها.
وحدثني أبي رحمه الله: قال: حدثني غير واحد أن شاوراً كاتب نور الدين في ذلك وضمن له أن يحمل في كل سنة عن ديار مصر مالا مصانعة.
ولما بلغ شاوراً أن نور الدين صرف همة أسد الدين عن ذكر مصر والتعرض لها أنفذ رسولاً بهدية سنية، وأصحبه كتاباً حسناً، أوله: ورد كتاب استدعى شكري وحمدي، واستخلص من الصفاء ماعندي، واستفرغ في الثناء على مرسله جهدي، فكأنما استمليت معانيه مما عندي، واشتملت على حقائق قصدي؛ وسررت للإسلام وأهله، والدين الذي وعد الله أن يظهره على الدين كله، وأن يكون مثله ملكا من ملوكه، يُرجع إليه في عقده وحله، وتشير الأصابع وتعقد الخناصر على علو محله. والله يزيده بمكانه تثبيتاً وقوة، ويحقق على يديه مخايل النصر المرجوة؛ فما أسعد رأسا دل على نصرة الكلمة، ودعا إلى سبيل الفئة المسلمة، ووفر على مصالح الأمة قلوب رعاياها المنقسمة. وأنا متمم من هذا الأمر ما صدر مني، وباق منه على ما نُقل عني، لاأتغير عن المصلحة فيه، ولايخالف ما أظهره منه لما أخفيه، ولا أستكثر كبيراً أصل إليه وأتوصل به لما سبق للملك العادل من حقوق استوجب شكرها قولا وفعلا، ونصرة كانت في هجير الخطوب برداً وظلا، وأنعم لاتزال آياتها بألسُن الحمد تتلى وتملى. ولعمري لقد بني بها فخراً، وارتفع على الأملاك قدراً وذكراً. ووجب أن ستتمها فلا يصل إلى مواردها الكدر، ويحوطها فلا تتطرق إلى جوانبها الغير. ووراء هذه المكاتبة من اهتمامي ما لايعوقه عائق إلا انتظام العقد على الأمور المألوفة، وتمام التوثقة باليمين المنصوصة الموصوفة، مع أن قوله كيمينه، وكتابه كصفحة يمينه، والثقة به واقعة على كل حال، والمحبة له توجب الاحتراس على الوداد من تطرق أسباب الاختلال).
قال: وفي سنة أربع وستين طمع مري ملك الفرنج في مصر وعول على الدخول إليها والاستيلاء عليها، وذلك لما أنكشف له من عوارها، وظهر له من ضعف من بقي فيها. فجمع إليه ملوك الفرنج وكبراء الداوية والاسبتارية، وتشاوروا، فجرت بينهم في ذلك خطوب؛ ثم أجابوه إلى الخروج معه إلى الديار المصرية فأحضرو وزيره وأمره بإقطاع بلاد مصر لخيالته، وفرق قراها على أجناده. وكان، لعنه الله، لما دخل ديار مصر قد أقام من أصحابه من كتب له أسماء قرى مصر جميعها، زتعرف له خبر ارتفاعها. ثم سار حتى نزل الداروم، فقامت قيامة شاور لما بلغه الخبر، وانتخب أميراً من أمرائه، يقال له بدران، وسيره إلى لقاء مري يسأله عن السبب في قصده. فاجتمع به وسأله؛ فتلكأ عليه، ثم استلان جانبه، وضمن له رضيخة على أن يورِّي عنهم، ولايكشف لشاور حالهم. ويقال إن الملك أقطعه ثلاث عشرة قرية على أن يتمم على المصريين الحيلة، ويعلم شاوراً أنه إنما قصد مصر للخدمة؛ ففعل ذلك بدران. ولما سمع ذلك شاور أشفق منه، وأحضر الأمير شمس الخلافة محمد بن مختار وقال له: كأن بدران قد غشني ولم ينصحني، وأنا فواثق بك: فأريد تخرج وتكشف لي حال الفرنج. فسار شمس الخلافة إلى مُري، وكان بينهما مؤانسة.
فلما دخل على الملك قال له: مرحباً بشمس الخلافة. فقال: مرحباً بالملك الغدار، ولإلا ما الذي أقدمك إلينا؟ قال: اتصل بي أن الفقيه عيسى تزوج أخت الكامل بن شاور من صلاح الدين يوسف بن أيوب، وتزوج الكامل أخت صلاح الدين، فقلنا هذا عمل علينا. فقال له شمس الخلافة: ليس لهذا صحة، ولو فعل ذلك لم يكن فيه نقض للعهد. فقال له الملك: الصحيح أن قوماً من وراء البحر انتهوا إلينا وغلبونا على رأينا، وخرجوا طامعين في بلادكم، فخفنا من ذلك فخرجنا لنتوسط الأمر بينكم وبينهم. فقال شمس الخلافة: فأي شئ قد طلبوا؟ قال: ألفي ألف دينار. فقال: مكانكم حتى أصل إلى شاور وأبلغه مقالكم وأعود بالجواب. فقال له ملك الفرنج: فنحن ننزل على بلبيس إلى أن تعود.
قال: وحكى أن ملك الفرنج لما وصل إلى الداروم كتب إلى شاور يقول له: إني قد قصدت الخدمة على ما قررته لي من العطاء في كل عام. فأجابه شاور: إن الذي قررته لك إنما جعلته متى احتجت إليك وإذا قدم عليّ عدو، فأما مع خلو بالي من الأعداء فلا حاجة إليك ولا لك عندي مقرر. فأجابه مري أن لابد من حضوري وأخذي المقرر. فعلم شاور أنه قد غدر بالعهد ونقض الأيمان، وأنه قد طمع في البلاد. فأخذ في تجنيد الأجناد وحشد العساكر إلى القاهرة، وأنفذ إلى بلبيس قطعة من الجيش وفيرة وعُدة.
ثم إن ملك الفرنج سار خلف رسول شاور لايلوي على قول حتى خيم على بلبيس في صفر، وكان معه جماعة من المصريين منهم علم الملك ابن النحاس، وابن الخياط يحيى، وابن قرجلة. وأرسل إلى طي بن شاور، وكان بلبيس، وقال له: أين ننزل؟ قال: على أسنة الرماح. وقال له: أتحسب أن بلبيس جبنة تأكلها؟ فأرسل إليه مري: نعم هي جبنة والقاهرة زبدة. ثم قاتل بلبيس ليلاً ونهاراً حتى افتتحها بالسيف، وقتل من أهلها خلقاً عظيماً وخرب أكثرها، وأحرق جُلَّ آدرها؛ ثم أخرج الأسارى إلى ظاهر البلد وحشروا في مكان واحد، وحمل في وسطهم برمحه ففرقهم فرقتين، فأخذ الفرقة التي كانت عن يمينه لنفسه، وأطلق الفرقة التي كانت عن يساره لعسكره، وقال لفرقته: قد أطلقتكم شكراً لله تعالى على ما أولاني من فتح بلاد مصر، فإني قد ملكتها بلا شك. ووقف إلى أن عدى أكثرهم النيل إلى جهة منية حمل، وأخذ العسكر نصيبهم من الأسارى فاقتسموهم؛ وبقي أهل بلبيس الذين أسروا أكثر من أربعين سنة في أسر الفرنج، وهلك أكثرهم في أيديهم، وأفلت منهم اليسير. لأن الملك الناصر رحمه الله لما ملك ديار مصر وقف مُغَلَّ بلبيس على كثرته على فكاك الأسرى منهم؛ وسامح أهل بلبيس بخراجهم إلى آخر أيامه.
ولما أتصل بشاور ما جرى على أهل بلبيس من القتل والأسر، وأن الفرنج شحنوها بالرجال والعُدد وجعلوها لهم ظهراً، أشفق من ذلك وطلب الإذن على العاضد؛ فلما اجتمع به بكي بين يديه وقال: اعلم أن البلاد قد ملكت علينا، ولم يبق إلا أن تكتب إلى نور الدين وتشرح له ما جرى وتطلب نصرته ومعونته. فكتب جميع ذلك، وأرسل شاور طيَّ تلك الكتب كتباً وسخم أعاليها بالمداد.
قال: وحدثني شمس الخلافة موسى بن شمس الخلافة محمد بن مختار قال: إنما كتب هذا الكتاب برأي أبي شمس الخلافة، لأنه لما رجع من عند مرِّي، لعنه الله، بعد أخذ بلبيس اجتمع بالكامل بن شاور وقال له. عندي أمر لايمكنني أن أفضي به إليك إلا بعد أن تحلف لي أنك لاتطلع أباك عليه. فلما حلف له قال له: إن أباك قد وطَّن نفسه على المصابرة وآخر أمره يسلم البلاد إلى الفرنج ولا يكاتب نور الدين، وهذا عين الفساد؛ فاصعد أنت إلى العاضد وألزمه أن يكتب إلى نور الدين، فليس لهذا الأمر غيره. فقصده الكامل وكتب الكتاب. فلما وصل إلى نور الدين انزعج انزعاجاً عظيماً، وأنفذ أسد الدين، وكان ذلك من مُناه، وأرسل الفقيه عيسى الهكاري إلى مصر برسالة ظاهرة إلى شاور يعلمه أن العساكر واصلة، وبرسالة سرية إلى العاضد، وأمره أن يستحلفه على أشياء عيَّنها، وأن يكتم ذلك من شاور.
وأما الفرنج فساروا إلى جهة مصر، وأمر شاور بإحراق مصر وأنذر أهلها، فخرج الناس منها على وجوههم وهجُوا في بلاد مصر، وبلغ أجرة الجمل إلى القاهرة ثلاثين ديناراً، وترك الناس أكثر أموالهم فنهبت. وأحرقت مصر في تاسع صفر، وأقامت النار تعمل فيها أربعة وخمسين يوماً.
ثم إن الفرنج، لعنهم الله، نزلوا في بركة الحبش، وانبثت أخبارهم في الأطراف، وتخطفوا من ظفروا به. فأنفذ شاور شمس الخلافة إلى مرِّي، لعنه الله، فلما دخل عليه سأله أن يخرج إلى باب الخيمة ففعل، فأراه شمس الخلافة جهة مصر وقال له: أترى دخاناً في السماء؟ قال: نعم. قال: هذا دخان مصر، ما أتيت إلا وقد أحرقت بعشرين ألف قارورة نفط، وفرقت فيها عشرة آلاف مشعل، وما بقي فيها ما يؤمل بقاؤه ونفعه؛ فخلَّ الآن عنك مدافعتي ومخاتلتي، وكوني كلما قلت لك انزل في مكان تقدمت إلى غيره، ومابقي لك إلا أن تنزل القاهرة. فقال: هو كما تقول، ولابد من نزول القاهرة، ومعي فرنج من وراء البحر قد طمعوا في أخذها. ثم رحل فنزل على القاهرة مما يلي باب البرقية نزولاً قارب به البلد حتى صارت سهام الجرخ تقع في خيمته؛ فقاتلوا البلد أياماً.
فلما تيقن شاور الضعف عدل إلى طريق المخادعة والمخاتلة، والمغاورة والمدافعة، إلى أن تصل عساكر الشام. فأنفذ شمس الخلافة إلى مري، لعنه الله تعالى، برسالة طويلة فيِّل بها في غاربه ودار من حواليه؛ وفي ضمنها: " إن هذا بلد عظيم كبير وفيه خلق كثير، ولايمكن تسليمه ألبتة ولا أخذه إلا بعد أن يقتل من الفريقين عالم عظيم، وما تعلم أنت ولا أنا لمن الدائرة. والرأي أن تحقن دماء أصحابك ودماء أصحابي، وتحصِّل شيئاً أدفعه لك فيحصل لك عفواً " . فاستقرت المصالحة على أربعمائة ألف دينار، وقيل ألفي ألف دينار، يعجل له منها مائة ألف دينار. فأجاب مري إلى ذلك وانعقدت الهدنة، وحلف مري، ورحل إلى بركة الحبش، وحمل شاور إليه مائة ألف دينار في عدة دفعات سوّف فيها الأوقات؛ ثم أخذ يمطله في الباقي انتظاراً لقدوم العساكر، ويوهم أنه يجمع لهم الأموال. فلم يشعر الفرنج إلا بهجوم عسكر الشام عليهم؛ فلما رأوهم رحلوا إلى بلبيس، ونزل أسد الدين بالمقس. ثم رحل ملك الفرنج ونزل على فاقوس واتبعه أسد الدين ونزل على بلبيس.
وكان لما اتصل بشاور وصول أسد الدين إلى صَدْر أنفذ شمس الخلافة إلى ملك الفرنج يستطلق له منه بعض المال؛ فصار إليه واجتمع به، وقال: قد قلَّ علينا المال. فقال ملك الفرنج: اطلب منه ما شئت قال: أشتهي أن تهب لي النصف. قال: قد فعلت. فقال شمس الخلافة: ما بلغني أن ملكا في مثل حالك وقدرتك علينا وهب مثل هذه الهبة لقرم هم في مثل حالنا. فقال ملك الفرنج: أنا أعلم أنك رجل عاقل وأن شاوراً ملك، وأنكما ما سألتماني أن أهبكما هذا المال العظيم إلاَّ لأمر قد حدث. فقال له: صدقت. هذا أسد الدين قد وصل إلى صدر نُصرة لنا، وما بقي لك مقام، وشاور يقول لك أرى لك أن ترحل ونحن باقون على الهدنة فإنه أوفق لك ولنا، وإذا حصل هذا الرجل عندنا أرضيناه من هذا المال بشئ وحملنا الباقي إليك متى قدرنا، وإن نحن أخرجنا في رضاهم أكثر من هذا المال عدنا عليك بما يبقى علينا من المقدار. فقال ملك الفرنج: أنا راضٍ بذلك وإن بقي على شئ حملته إليكم؛ وعول على الرحيل؛ فقال له: بعد أن تطلق طيَّ ابن شاور وجميع من في عسكرك من الأسارى ولا تأخذ من بلبيس بعد انصرافك شيئاً. فأجابه إلى جميع ذلك.
ولما رحلت الفرنج عن القاهرة نزل أسد الدين بأرض يقال لها اللوق، وأخرج إليه شاور الإقامات الحسنة والخدم الكثيرة ولما اجتمعا قال شاور لاسد الدين: قد رأيت من الرأي أن أخرج أنا وأنت وأن ندرك الفرنج ونوقع بهم. فقال أسد الدين: هذا كان رأيي والفرنج على البر الغربي وليس لهم وزر، وأما الآن فلا، لأنهم على البر المتصل ببلادهم ونحن فقد خرجنا من البر في أسوأ حال من الضعف والتعب؛ وقد كفانا الله شرهم ونحن إلى الراحة والاستجمام أحوج.
ولما نزل أسد الدين باللوق أرسل له العاضد هدية عظيمة وخلعاً كثيرة، وأخرج إلى خدمته أكابر أصحابه. ثم إنه خرج إليه في الليل سراً متنكراً، واجتمع به في خيمته، وأفضى إليه بأمور كثيرة، منها قتل شاور، ثم عاد إلى قصره. وكان شاور قد رأى ليلة نزل أسد الدين على القاهرة كأنه دخل دار الوزارة فوجد على سرير ملكه رجلا وبين يديه دواة الوزارة وهو يوقع منها بأقلامه، فسأل عنه، فقيل هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما حصل أسد الدين بالديار المصرية وانفصل عنها الفرنج أمنت البلاد، وتراجع الناس إلى بيوتهم وأخذوا في إصلاح ما شعثه الفرنج وأفسدوه. وتقاطر الناس إلى خدمة أسد الدين فتلقاهم بالرحب والسعة وأحسن إليهم.
وأما شاور فإنه أخذ في التودُّد إلى أسد الدين والتقرب إلى قلبه بجميع ما وجد السبيل إليه، وأقام له ولعسكره الميرة الكثيرة والنفقات الغزيرة، حتى استحوذ على قلبه،زنوى تبيقيته في ملكه وصفا له قلبه حتى نفذ اليه سرا:احرس نفسك عن عساكر الشام.
واما عسكر الشام فانهم لما رأوا طيب بلاد مصر وكثرة خيرها وسعة اموالها تافت اتفسهم الى الاقامة بها،واختاروا سكناها ، ورغبوا فيها رغبة عظيمة ؛فقوى الطمع اسد الدين في الاستيلاء بملكها، ثم علم انه لا يتم ذلك وشاور باقٍ فيها ،فأخذ في اعمال الحيلة عليه وكان العاضد قد تقدم اليه بقتله ؛ فجمع اصحابه وشاورهم في امر شاور ، وقال لهم:قد علمتم رغبتي في هذه البلاد ومحبتي لها وحرصي عليها، لا سيما وقد تحققت ان عند الفرنج منها ما عندي، وعلمت انهم قد كشفوا عورتها ، وعلموا مسالك رقعتها، وتيقنت اني متى خرجت منها عادوا اليها واحتَووُا عليها؛وهي معظم دار الاسلام وحلوبة بيت مالهم؛ وقد قوى عندي ان اثب عليها قبل وثوبهم، واملكها قبل مملكتهم ، واتخلص من شاور الذي يلعب بنا وبهم ، ويغرنا ويغرهم، ويضرب بيننا و بينهم ؛ وقد ضيع اموال هذه البلاد في غير وجهها، وقًّوى بها الفرنج علينا ؛ وما كل وقت ندرك الفرنج ونسبقهم الى هذه البلاد التي قد قل رجالها وهلكت ابطالها .فتنخلت الاراء بين الامراء انه لا يتم لهم امر الا بعد القبض على شاور؛وتفرقوا على ايقاع القبض عليه.
وكان شاور يركب في الابهة العظيمة،والعدة الحسنة، والالة الجميلة على عادتهم الاولى.وكان من جملة قواعدهم ان الوزير اذا ركب حمل في موكبه الطبل والبوق.وكان شاور قليل الركوب، فجعل الامراء يترصدونه .ورأى اسد الدين قبل قبض شاور بليلة كأن شاور داخل اليه داره، وناوله سيفه وعمامته ؛فتأوله اسد الدين بالقبض عليه واخذ منصبه.
ثم ان شاورا ركب يوما في ابهته وجلالته ،فلما عاينه الامراء هابوه واحجموا عنه ، وكان يوما عظيما الضباب؛ وكان خروج شاور من باب القنطرة للسلام على اسد الدين ؛فتقدم صلاح الدين فسلم عليه ودخل في موكبه ، ثم سايره ، ثم مد يده الى تلابيبه وصاح عليه فرجًّله.ولما رأى ذلك عسكر الشام قويت عزماتهم ووقعوا في عسكر شاور فنهبوا ما كان مع رجاله،وقتلوا منهم جماعة، وحمل الملك الناصر شاورا راجلا الى خيمة لطيفة واراد قتله، فلم يمكنه قتله دون مشاورة اسد الدين.وفي الحال ورد على اسد الدين توقيع من العاضد على يد خادم يأمره فيه بقتل شاور ، فأنفذ التوقيع الى صلاح الدين فقتله في الحال، وانفذ رأسه الى القصر.وبلغ الكامل بن شاور قتل ابيه فهرب الى القصر وخلع العاضد على اسد الدين وقلده الوزارة ، وانفذ اليه فضة فيه رأس الكامل بن شاور ورؤوس اولاد اخوته.
ولما خرج منشور الوزارة الى اسد الدين امر بقراءته على رؤوس الاشهاد وفرح به غاية الفرح ، واعيدت قراءته عليه عدة دفعات استحسانا لمعانيه،واستظرافا لما اودع من بدائع الكلام فيه.
قال،ولما اتصل بنور الدين فتح الديار المصرية فرح بذلك فرحا شديدا،وواصل الحمد والثناء على الله تعالى اذ كان في زمنه وعلى يده؛وامر بضرب البشائر في جميع ولايته وتزيين جميع بلاده؛وجلس الهنا بذلك ، وانشده الشعراء في فتحها عدة اشعار.غير انه لما اتصل به ان اسد الدين وزر للعاضد واستبد بالامر في ذلك الصقع امضه ذلك واقلقه، وظهرت في مخايل قسماته وفلتات كلماته الكراهة، واخذ في الفكرة في امره وسهر له ليالي،وافضى بسره الى مجد الدين بن الداية.حدثني جماعة عن شمس الدين على بن الداية، اخي مجد الدين، وحدثني الموفق محمود بن النحاس الفقيه الحلبي وقد جرى ذكر فتح مصر وان نور الدين ابتهج به، فقال:والله ما ابتهج به، لقد كان وده الا يفتح والا يصير اسد الدين وصلاح الدين الى ما صارا اليه.ولقد ظهرت الكراهية منه لذلك في الفاظه ووجهه.ولقد اعمل الحيلة في افساد امر اسد الدين وصلاح الدين فما تهيأ له، لا سيما يوم بلغه حصول صلاح الدين على خزائن مصر، فأنه اقام ثلاثة ايام لا يقدر احد ان يراه؛واهتم لذلك حتى افضى عليه الهم، ولو لم يكن الفتح اليه منسوبا، وعليه فضله محسوبا ،لما صبر على مل جرى، ولا اغضى للملك الناصر على القذى.ولقد كاتب العاضد عدة دفعات في امر الاسد والصلاح، فلم يحصل له فيهما النجاح ، وكثيرا ما يوجد في كتب نور الدين الى العاضد التعريض بانفاذ اسد الدين، ولو امكنه المجاهرة بالقول لقال.
فمن بعض مكاتباته : " وقد افتقر العبد الى بعثته،واعوز عسكره يُمن نقيبته، واشتد حزب الضلال على المسلمين لغيبته،لانه ما يزال يرمي شياطين الضلال بشهابه الثاقب، ويُصمي معقل الشرك بسهمه النافذ الصائب " .
قلت:لعل نور الدين رحمه الله انما اقلقه من ذلك كون اسد الدين وزر للعاضد فخاف من ميله الى القوم والى مذهبهم ،وان يفسد جنده عليه بذلك السبب.هذا ان صح ما نقله ابن ابي طي، والله اعلم.
قال:وكان اسد الدين لما ولى الوزارة لم يتغير على احد شيئا، واجرى اصحاب مصر على قواعدهم وامورهم، الى ان انقضت ايامه،وفنيت اعوامه.
وكان قرما يحب اكل اللحوم ويواظب عليه ليلا ونهارا، فتواترت عليه التخم، واتصلت به مرضاته،الى ان ظهرت بحلقه خوانيق كان فيها تلافه.ويقال انه اكل في ذلك اليوم مضيرة ودخل الحمام، فلما خرج منها اصابه الخناق.
قال:وكان شجاعا،بارعا،قويا،جلدا في ذات الله شديدا على الكفار وطاته، عظيمة في ذات الله صولته،عفيفا ديناً،كثير الخير.وكان يحب اهل الدين والعلم ،كثير الايثار،حدبا على اهله واقاربه.وكان فيه امساك ،وخلف مالا كثيرا، وخلف من الخيل والدواب والجمال شيئا كثيرا، وخلف جماعة من الغلمان ، خمسمائة مملوك، وهم الاسدية.
وهو كان مشيد قواعد الدولة الشاذية والمملكة الناصرية، وكان ابتداء امره يخدم مع صاحب تكريت على اقطاع مبلغه تسعمائة دينار، وتنقل الى ان ملك الديار المصرية.وعقد له العزاء بالقاهرة ثلاثة ايام.
قلت:اليه تنسب المدرسة الاسدية بالشرف القبلي ظاهر دمشق ، وهي المطلة على الميدان الاخضر؛وهي على الطائفتين الشافعية والحنفية، والخانقاه الاسدية داخل باب الجابية بدرب الهاشميين.
قال ابن ابي طي:وساعة وفاته وقع الاختلاف فيمن يولي الوزارة بين العسكر الشامي ،ومالت الاسدية الى صلاح الدين.وفي تلك الساعة انفذ العاضد وسأل عمن يصلح للوزارة،فأرشد من جماعة من الامراء الى شهاب الدين محمود الحارمي خال صلاح الدين، فأنفذ اليه واحضره وخاطبه في تولي الوزارة، فأمتنع من ذلك، واشار بولاية الملك الناصر.
وكان الحارمي اولا قد رغب في الوزارة وتحدث فيها، وحصل ما يحتاجه ،فلما رأى مزاحمة عين الدولة بن ياروق وغيره عليها خاف ان يشتغل بطلبها فيفوته، وربما فاتت صلاح الدين فأشار به لانها اذا كانت في ابن اخته كانت في بيته.
وكان صلاح الدين قد وقع من العاضد بموقع،واعجبه عقله وسداد رأيه، وشجاعته، واقدامه على شاور في موكبه، وانه قتله حين جاءه امره ولم يتريث ولا توقف.فسارع الى تقليده الوزارة، وما خرج شهاب الدين الحارمى من حضرة العاضد الا وخلع الوزارة قد سبقت الى الملك الناصر.
وكانت خلعة الوزارة عمامة بيضاء تَنِّيسي بطرز ذهب وثوب دبيقي بطراز ذهب ،وجبة تحتها سقلاطون بطرازي ذهب، وطليسان دبيقي ذهب، وعقد جوهر قيمته الاف دينار، وسيف محلى بجوهر قيمته خمسة الاف دينار، وفرس حجر صفراء من مراكب العاضد قيمتها ثمانية الاف دينار لم يكن بالديار المصرية اسبق منها، وطوق، وتخت وسرفسار ذهب مجوهر ، وفي رقبة الحر مشدة بيضاء ، وفي رأسها مائتا حبة جوهر ، وفي اربع قوائم الفرس اربع عقود جوهر، وقصبة ذهب في رأسها طالعة مجوهرة، وفي رأسها مشدة بيضاء بأعلام ذهب، ومع الخلعة عدة بقج، وعدة من الخيل ، واشياء اخر؛ومنشور الوزارة ملفوف في ثوب اطلس ابيض.
وكان ذلك يوم الاثنين الخامس والعشرين من جمادي الاخرة، سنة اربع وستين وخمسمائة؛ وقرئ المنشور بين يدي الملك الناصر يوم جلوسه في دار الوزارة ؛وحضر جميع ارباب الدولتين المصرية والشامية ؛وكان يوما عظيما.
وخلع السلطان على جماعة الامراء والكبراء ،ووجوه البلد، وارباب دولة العاضد،وعمَّ الناس جميعهم بالهبات والصلات.
ولما استقرت قدمه في الوزارة والرياسة قام في الرعية مقام من قام بالشريعة والسياسة، ونظم بحسن تدبيره من الدولة بددها،وجرى في مناهج العدل على جددها،وحَيُعَلَ الى وجوده وفضله، ونادى الى رفده بذله؛ وكاتب الأطراف بما صار إليه من السلطان، وسر قلوب الأصدقاء والأحباب بما حصل عليه من شريف الرتبة والمكان؛ واستدعى إلى حوزته الأصحاب والأهل، وروَّي بفسيح كرمه مَنْ بعد منه وقرب من أهل الفضل؛ وتاب من الخمر وعدل عن اللهو، وتيقظ للتدبير وسها عن السهو، وتقمص بلباس الدين، وحفظ ناموس الشرع المبين؛ وشمر عن ساق الجد والاجتهاد، وأفاض على الناس من كرمه وَجُود جوده شآبيب فضله الغائب عن العهاد؛ وورد عليه القصاد والزوار، وأُمَّ بنفائس الخطب وجواهر الأشعار.
حدثني بعض الأمراء قال: أقبل العاضد على السلطان الملك الناصر وأحبه محبة عظيمة، وبلغ من محبته له أنه كان يدخل إليه القصر راكباً، فإذا حصل عنده أقام معه في قصره اليوم والعشرة لايعلم أين مقره.
قال: ولما استولى الملك الناصر على الوزارة، ومال إليه العاضد، وحكَّمه في ماله وبلاده، حسده من كان معه بالديار المصرية من الأمراء الشامية، كابن ياروق وجرديك وجماعة من غلمان نور الدين. ثم إنهم فارقوه وصاروا إلى الشام.
وحدثني أبي رحمه الله تعالى قال: حدثني جماعة من أصحاب نور الدين أن نور الدين لما اتصل به وفاة أسد الدين ووزارة صلاح الدين وما قد انعقد له من المحبة في قلوب الرعايا أعظم ذلك وأكبره، وتأفف منه وأنكره، وقال: كيف أقدم صلاح الدين أن يفعل شيئاً بغير أمري! وكتب في ذلك عدة كتب، فلم يلتفت الملك الناصر إلى قوله، إلا أنه لم يخرج عن طاعته وأمره، وأنه ما فارق قبول رأيه وإشارته. وأمر نور الدين من بالشام من أهل صلاح الدين وأصحابه بالخروج إليه، وطلب منه حساب مصر وما صار إليه. وكان كثيراً ما يقول: ملك ابن أيوب! قلت: هذا كله مما تقتضيه الطباع البشرية والجبلة الآدمية. وقد أجرى الله سبحانه وتعالى العادة بذلك، إلا من عصم الله، ومن أنصف عذر، ومن عرف صبر. والذي أنكره نور الدين هو إفراط صلاح الدين في تفرقة الأموال واستبداده بذلك من غير مشاورته؛ هذا مع أن ابن أبي طيّ متهم فيما ينسبه إلى نور الدين مما لايليق به، فإن نور الدين رحمه الله كان قد أذل الشيعة بحلب وأبطل شعارهم وقوى أهل السنة؛ وكان والد ابن أبي طي من رؤس الشيعة فنفاه من حلب. وقد ذكر ذلك كله ابن أبي طي في كتابه مفرقاً في مواضع، فلهذا هو في الكتاب الذي له كثير الحمل على نور الدين رحمه الله، فلا يُقبل منه ما ينسبه إليه مما لايليق به. والله أعلم.
قال: ولما ملك الملك الناصر مصر انتزع نور الدين حمص والرحبة من ناصر الدين ابن أسد الدين، وفرق عماله وأعطاه تل باشر ثم أخذها منه؛ ولقد كان يتألم لملك الملك الناصر. ويقال إنه لما مرض قال: ما أخطأت إلا في إنفاذي أسد الدين إلى مصر بعد علمي برغبته فيها، وما يحزنني شئ كعلمي بما ينال أهلي من يوسف بن أيوب. ثم التفت إلى أصحابه فقال: إذا أنا مت فصيروا بابني إسماعيل إلى حلب فإنه لايبقى عليه غيرها.
قال ابن أبي طي: ولقد كان يبلغ الملك الناصر من أقوال نور الدين وأقوال أصحابه أشياء تؤلمه وتمضه، غير أنه يلقاها بصدر رحب، وخلق عذب. حدثني أبي عن ابن قاضي الدهليز، وكان من خواص الملك الناصر، قال: جرى يوماً بين يدي السلطان ذكر نور الدين فأكثر الترحم عليه، ثم قال: والله لقد صبرت منه على مثل حزَّ المدى ووخز الإبر، وما قدر أحد من أصحابه أن يجد عليّ ما يعتده ذنباً؛ ولقد اجتهد هو بنفسه أيضاً أن يجد لي هفوة يعتدها عليّ فلم يقدر. ولقد كان يعتمد في مخاطباتي ومراسلاتي على الأشياء التي لايصبر على مثلها لعليَّ أتضرر أو أتغير، فيكون ذلك وسيلة له إلى منابذتي، فما أبلغته أربه يوماً قط.
قلت: وقد وقفت على كتاب بخط نور الدين رحمه الله يشكر فيه من صلاح الدين رحمه الله تعالى، وذلك ضد ما قاله ابن أبي طي. كتب نور الدين ذلك الكتاب إلى الشيخ شرف الدين بن أبي عصرون رحمه الله وهو بحلب ليوليه قضاء مصر. صورته: حسبي الله وكفى. وفق الله الشيخ الإمام شرف الدين لطاعته وختم له بخير. غير خافٍ عن الشيخ ما أنا عليه وفيه، وكل غرضي ومقصودي في مصالح المسلمين، وما يقربني إلى الله، والله ولي التوفيق، والمطلع على نيتي. وأنت تعلم نيتي كما قال عز من قائل: (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابِ - . أنت تعلم أن مصر اليوم قد لزمنا النظر فيها، فهي من الفتوحات الكبار، التي جعلها الله تعالى دار إسلام بعد ما كانت دار كفر ونفاق؛ فلله المنة والحمد. إلا أن المقدم على كل شئ أمور الدين التي هي الأصل، وبها النجاة؛ وأنت تعلم أن مصر وإقليمها ما هي قليلة، وهي خالية من أمور الشرع، وما تُدخر الدموع إلا للشدائد، وأنا ماكنت أسخى ولا أشتهي مفارقتك. والآن فقد تعين عليك وعليّ أيضاً أن ننظر إلى مصالحها، وما لنا أحد اليوم لها إلا أنت، ولا أقدر أولي أمولها ولا أقلدها إلا لك حتى تبرأ ذمتي عند الله. فيجب عليك، وفقك الله، أن تشمر عن ساق الاجتهاد وتتولى قضاءها، وتعمل ما تعلم أنه يقربك إلى الله. وقد برئت ذمتي، وأنت تجاوب الله. فإذا كنت أنت هناك وولدك أبو المعالي، وفقه الله، فيطيب قلبي وتبرأ ذمتي. وقد كتبت هذا بخطي حتى لايبقى عليّ حجة. تصل أنت وولدك عندي حتى أسيركم إلى مصر والسلام. بموافقة صاحبي واتفاق منه صلاح الدين، وفقه الله، فأنا منه شاكر كثير كثير كثير، جزاه الله خيراً وأبقاه، ففي بقاء الصالحين والأخيار صلاح عظيم، ومنفعة لأهل الإسلام. الله تعالى يكثر من الأخيار وأعوان الخير، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
قال ابن أبي طيّ: وأبطل صلاح الدين من المكوس والمظالم: ما يستخرج بديوان صناعة مصر مائة ألف دينار، وما يستخرج بالأعمال القبلية والبحرية مائة ألف دينار؛ فسامح بجميع ذلك، وأمر بكتابة سجل به من ديوان الإنشاء، وأنفذ إلى سائر أعمال مصر يُقرأ على المنابر. وعرض عليه سياقه جرائد الدوواين في جهات المستخدمين والمعاملين لعدة سنين متقدمة، آخرها سنة أربع وستين وخمسمائة، فكان مبلغه ينيف عن ألف ألف دينار وألفي ألف أردب غلة، فسامح في جميع ذلك، وأبطله من الدواوين، وأسقطه عن المعاملين. وأنهى إليه ما يستأدي من الحجاج بالحجاز المحروس من المكوس، فأنكره وأكبره، وعوض عنه بعدة ضياع؛ فأغاث أهل الحجاز بما أوسعهم من العين والغلة يطول شرحها.
قلت: وسيأتي كل ذلك في موضعه. ونسخة منشور إسقاط المكوس في أخبار سنة سبع وستين، وذلك بإشارة نور الدين رحمه الله، وفي أيامه.
فصلذكر العماد في ديوانه قصيدة يمدح بها نور الدين ويهنئه بملك مصر، ولم يذكرها في كتاب البرق. منها:
بملك مصر أهني مالك الأمم ... فاسعد وأبشر بنصر الله عن أَمم
أضحى بعدلك شمل الملك ملتئما ... وهل بعدلك شئ غير ملتئم
يافاعل الخير عن طبع بلاكلف ... ومُولى العرف عن خلق بلا سأم
ووامقاً ثلم ثغر الكفر تعجمه ... لا لثم ثغر شنيب واضح شم
لله درك نور الدين من ملك ... بالعزم مفتتح بالنصر مختتم
آثار عزمك في الإسلام واضحة ... وسره لك باد غير مكتتم
بما من العدل والإحسان تنشره ... تخاف ربك خوف المذنب الأثم
أوردت مصر خيول النصر عادمة ... ثني الأعنة إقداماً على اللجم
فأقبلت في سحاب من ذوابلها ... وقضبها بدماء الهام منسجم
تمكن الرعب في قلب العدو بها ... تمكن النار بالإحراق في الفحم
سرت لتقطع ما للكفر من سبب ... واهٍ، وتوصل ما للدين من رحم
مستسهلات وعور الطرق في طلب ال ... علياء، مقتحمات أصعب القحم
وجاعلات من الإفرنج غلَّهم ... والقيد في موضع الأطواق والحزم
لقد شفت غلة الإسلام وانتقمت ... من العدو بحد الصارم الحَذِم
أعانها الله في إطفاء جمر أذى ... من شر شاور في الإسلام مضطرم
وأصبحت بك مصر بعد خيفتها ... للأمن والعز والإقبال كالحرم
والسُّنة اتسقت، والبدعة انمحقت ... وعاودت دولة الإحسان والكرم
ملوكها لك صاروت أعبداً، وغدا ... بها عبيدك أملاكا ذوي حُرم
أنَبْت عنك بها قرما ينوب بها ... في البأس عن عنتر، في الجود عن هرم
لله درك نور الدين من ملك ... عدلٍ لحفظ أمور الدين ملتزم
كانت ولاية مصر قبل عزتا ... بكشف دولتها لحماً على وضم
فالنيل ملتطم، جار على خجل ... جاراً لبحر نوال منك ملتطم
أُغْزُ الفرنج، فهذا وقت غزوهم ... واحطم جموعهم بالذابل الحطِم
وطهر القدس من رجس الصليب وثبِ ... على البغاث وثوب الأجدل القطم
فملك مصر وملك الشام قد نظما ... في عِقد عز من الإسلام منتظم
محمود، الملك الغازي، يسوسهما ... بالفضل، والعدل، والإفضال، والنعم
بالشكر كل لسان ناطق أبداً ... محمودُ الملك محمود بكل فم
فأشك مصر وأظهر عز سنتها ... كم تقتفي، وإلى كم تشتكي، وكم
ولعلم الدين الشاتاني في نور الدين رحمه الله:
مانال شأوَك في المعالي سنجر ... كلا، ولاكسرى، ولا الإسكندر
يا خير من ركب الجياد، وخاض في ... لجج المنايا والأسنة تقطر
هل حاز غيرك ملك مصر، وصار من ... أتباعه مَن جده المستنصر
والمستضي بالله معتد به ... وبجده، وبحده مستظهر
أو سدَّ بالشام الثغور محامياً ... للدين حتى عاد عنها قيصر
يبكي فيروي الأرض بحر دموعه ... والجو من أنفاسه يتسعر
أوما أبوك بسيفه فتح الرُّها ... والأسد تقتنص الكماة وتزأر
هابت ملوك الأرض بأس كماتها ... فتقاعدوا عن قصدها وتأخروا
ما ضره طيُّ المنية ذاته ... وصفاته بين البرية تنشر
فلكم على كل الملوك مزية ... لوقائع مشهورة لاتنكر
وإذا عددنا للأنام مناقباً ... فعليك قبل الكل يثني الخنصر
في الرأي قيس، في السماحة حاتم ... في النطق قس، في البسالة حيدر
دانت لك الدنيا وأنت تعافها ... وسواك في آماله يتعثر
من ذا يصون الصين عنك وأنت من ... أسد الشرى منه تخاف وتحذر
قال العماد: وأنفذ صلاح الدين من مصر خلعاً لجماعة من الأعيان، وأنفذ للعماد عمامة ملبوسة، فكتب إليه قصائد في هذا المعنى، منها:
يا صلاح الدين الذي أصلح الفا ... سد بالعدل من خطوب الزمان
أنت أجريت نيل مصر إلى الشا ... م نوالاً، أم سال نيل ثاني!
وعلى نيلها لكفيك فضل ... فهما بالنضار جاريتان
وصلت أعطياتك الغر غزراً ... فتلقت آمالنا بالتهاني
خلع راقت العيون ورقت ... وعلا وصفها عن الإمكان
مذهبات كأنها خلع الرض ... وان قد أهديت لأهل الجنان
مشرقات بطرزها الذهبيا ... ت الحسان الرفيعة الأثمان
فالعمامات كالغمامات، والطرو ... ز بروق كثيرة اللمعان
والموالي بها من التيه والفخ ... ر على الدهر ساحبو الأردان
كيف خُص العماد بالأدْوَن المخْ ... لَق من دون عصبة الديوان
أخليقُ من نسجه لك في المد ... ح جديدُ بأمهن الخلقان!
وكذا عادة الليالي: تخص ال ... فاضل المستحق بالحرمان
لم تزل سائرات جودك بالشا ... م لديه غزيرة التهتان
فإذا لم تزده مصر كمالا ... في المنى فاحمه من النقصان
وكتب إلى فخر الدين أخي صلاح الدين قصيدة، منها:
عبدك شمس الدولة المرتجى ... منتظر تشريفك المذهبا
فاعتب صلاح الدين لي حالتي ... عساه بالإصلاح أن يعتبا
عرِّفه ما ثمَّ، فإني أرى ... من فضله للفضل أن يغضبا
وكيف يرضى ذاك بعض الرضا ... ومجده يأباه كل الإبا
وقل له: جاءته ملبوسةً ... تخلفت من تُبَّع في سبا
عمامة رقَّت ورثت، فما ... نشرتها إلا وطارت هبا!
قال: فوصل إلىّ من صلاح الدين عمامة مذهبة، وكتب يعتذر عن العمامة التي قبلها. وكتب إلى سعد الدين كمشتكين كتاباً يقول قيه: استعير لسانه في الاعتذار إلى العماد فإني أستقل لمرامه إرم ذات العماد. فكتب العماد:
أما العماد فقد تضاعف شكره ... نعماك، شكر الروض نُعمى الصَّيِّب
لعمامة ذهبية كغمامة ... يبدو بها برق الطراز المغربي
ماكان أحسن حاله لو أنه ... شُفعت عمامته بثوب مذهب
قال: وكتب إليه:
أهني الملك الناصِ ... رَ بالملك وبالنصر
وما مهد من بنيا ... ن دين الحق في مصر
وما أسداه من برّ ... بلا عدٍ ولا حصر
وما أحياه من عدل ... وما خفف من إصر
وإعلاء سنا السن ... ة في بحبوبة القصر
قد استولى على مصرٍ ... بحق يوسف العصر
وأحيا سنة الإحسا ... ن في البدو وفي الحضر
وكتب إليه الأمير أسامة بن منقذ من قصيدة يقول:
ديارَ الهوى حيَّا معالمك القطر ... وجادك جود الناصر الغدق الهمر
به رجعت في عنفوان شبابها ... ونضرتها من بعد ما هرمت مصر
وكم خاطبٍ ردته لم يك كفئها ... إلى أن أتاها خاطب سيفه المهر
حماها حمى الليث العرين، وصانها ... كما صان عيناً من مُلِمِّ القذي شفر
وكان بها بحر أجاج، فأصبحت ... ومن جوده العذب النمير بها بحر
وله فيه من أخرى:
فما أنت إلا الشمس، لولاك لم تزل ... على مصر ظلماء الضلالة سرمدا
وكان بها طغيان فرعون لم يزل ... كما كان لما أن طغى وتمردا
فبصَّرتهم بعد الغواية والعمى ... وأرشدتهم بعد الضلال إلى الهدى
وله فيه من أخرى:
قل للملوك: تزحزحوا عن ذروة ال ... علياء للملك الهمام الناصر
يعطي الألوف ويلتقيها باسما ... طلق المحيا في القنا المتشاجر
وقرأت في ديوان العَرْقلة: وقال في المولى الملك الناصر وقد أنفذ له من ديار مصر ذهباً ولغيره سلاما:
صلاح الدين قد أصلحت دنيا ... شقي لم يبت إلا حريصا
وأرسلت السلام لنا عموما ... وجودك جاءني وحدي خصوصا
فكنت كيوسف الصديق لما ... تلقى منه يعقوب القميصا
وكان العرقلة من جملة المتردّدين إلى صلاح الدين أيام كونه بدمشق، فلما صار إلى مصر وعد أنه متى ملكها أعطاه ألف دينار. فلما تم أمره بمصر كتب إليه العرقلة قصيدة منها:
إليك صلاح الدين مولاي أشتكي ... زماناً على الحُر الكريم يجور
تُرى أُبصر الألف التي كنت وَاعدي ... بها في يدي قبل الممات تصير
وهيهات والإفرنج بيني وبينكم ... سياجُ قتيل دونه وأسير
ومن عجب الأيام أنك ذو غنى ... بمصر، ومثلي بالشآم فقير
وقال أيضاً:
قل للصلاح مُعيني عند إعساري ... يا ألفَ مولايَ أين الألفُ دينارُ؟
أخشى من الأسر إن حاولت أرضكم ... وما تفي جنة الفردوس بالنار
فجد بها عاضِدِيَّاتٍ مسطرة ... من بعض ما خلف الطاغي أبو الطاري
حمراً كأسيافكم، غرا كخيلكمُ ... عُتْقاً ثقالا كأعدائي وأطماري
وأنفذ له من مصر عشرين ألف دينار. فقال:
يامالكا ما برحت كفه ... تجود بالمال على كفي
أفلح بالعشرين من لم يزل في ... رأس عشرين من الكهف
ياألف مولاي ولكنها ... محسوبة من جملة الألف
وذكر العماد في الخريدة أن العرقلة قصد صلاح الدين إلى مصر فأعطاه ذلك، وأخذ له من إخوته مثله؛ فعاد إلى دمشق وهو مسرور مجبور، وكان ذلك ختام حياته. ودنا أجل وفاته فمات بدمشق في سنة ست، أو سبع، وستين وخمسمائة.
قلت: وفي ديوانه ما يدل على قدومه مصر، فإن فيه: وقال: وكتبها على حمام عمَّرها المولى الملك الناصر بديار مصر:
ياداخل الحمام هُنئتها ... دائرة كالفلك الدائر
تأمل الجنة قد زُخرفت ... وعمرت للملك الناصر
كأنما فيض أنابيبها ... نداه للوارد والصادر
فصلفي قتل المؤتمن بالخرقانية، ووقعة السودان بين القصرين، وغير ذلك.
قال العماد: وشرع صلاح الدين في نقض إقطاع المصريين، فقطع منهم الدابر من أجل من معه من العساكر. وكان بالقصر خصي، يدعى بمؤتمن الخلافة، متحكم في القصر، فأجمع هو ومن معه على أن يكاتبوا الفرنج ويقبضوا على الأسدية والصلاحية، لأن صلاح الدين يخرج إلى الفرنج بمن معه، فيؤخذ مَن بقي من أصحابه بالقاهرة، ويُتبع من ورائهم، فتكون عليهم الدائرة فكاتبوا الفرنج؛ واتفق أن رجلا من التركمان عبر البئر البيضاء فرأى مع إنسان ذي خلقان نعلين جديدين ليس بهما أثر مشي، فأنكرهما، فأخذهما، وجاء بهما إلى صلاح الدين، ففتقهما، فوجد مكاتبة للفرنج فيهما من أهل القصر، يرجون بحركتهم حصول النصر. فأخذ الكتاب وقال: دلوني على كاتب هذا الخط؛ فدلوه على يهودي من الرهط. فلما أحضروه ليسألوه، ويعاقبوه على خطه ويقابلوه، نطق بالشهادة قبل كلامه، ودخل في عصمة إسلامه؛ ثم اعترف بما جناه، وشيده من الأمر وبناه، وأن الآمر به مؤتمن الخلافة، وأنه برئ من هذه الآفة. فحسن لدى السلطان إسلامه، وثبت اعتصامه، وعرف استسلامه، ورؤى إخفاء هذا السر واكتتامه.
واستشعر الخصيّ العَصِيّ، وخشى أن تسبقه على شق العصا العِصيّ؛ فما صار يخرج من القصر مخافة، وإذا خرج لم يبعد مسافة؛ وصلاح الدين عليه مغضب وعنه مغض، لايأمر فيه ببسط ولاقبض؛ إلى أن استرسل واستبسا، فظن أن ما نسله من الشر العقيم فصل. وكان له قصر في قرية يقال لها الخرقانية لخُرقه، ورقع ما يتسع عليه من خرقه، وهو بقرب قليوب؛ فخلا فيه يوماً للذته، ولم يدر أنه يوم ذلته، وانقضاء ساعاته بانقضاء دولته؛ فأنهض إليه صلاح الدين من أخذ راسه، ونزع ما جاء به لباسه، وذلك يوم الأربعاء الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة أربع؛ فورد موارده مِن رَداه على أدون مشرع.
قال: ولما قتل غار السودان وثاروا، وكانوا أكثر من خمسين ألفاً. وكانوا إذا قاموا على وزير قتلوه، واجتاحوه وأذلوه، واستباحوه واستحلوه؛ فحسبوا أن كل بيضاء شحمة، وأن كل سواد فحمة. مثار أصحاب صلاح الدين إلى الهيجاء، ومقدمهم الأمير أبو الهيجاء؛ واتصلت الحرب بين القصرين، وأطاحت بهم العسكرية من الجانبين، ودام الشر يومين، حتى أحس الأساحم بالحَيْن وكلما لجئوا إلى محلة أحرقوها عليهم، وحوَوْا ما حواليهم، وأخرجوا إلى الجيزة، وأذلوا بالنفي عن منازلهم العزيزة؛ وذلك يوم السبت الثامن والعشرين من ذي القعدة، فما خلص السودان بعدها من الشدة؛ ولم يجدوا إلى الخلاص سبيلا، وأينما وقفوا أُخذوا وقتِّلوا تقتيلا.
وكانت لهم على باب زويلة محلة تسمى المنصورة، وكانت بهم المعمرة المعمورة، فأخلى بنيانها من القواعد فأصبحت خاوية، ثم حرثها بعض الأمراء واتخذها بستاناً، فهي الآن جنة لها ساقية.
قال: وكان قد وصل إلى صلاح الدين قبيل هذه النوبة أخوه الأكبر، فخر الدين شمس الدولة تورانشاه بن أيوب، أنفذه إليله نور الدين من دمشق يشد أزره بمصر، لما سمع حركة الفرنج وأهل القصر، فوصل القاهرة في ثالث ذي القعدة. قال: وباشر بنفسه وقعة السودان هذه، وكان له فيها أثر عظيم.
ومن عجيب ما اتفق أن العاضد كان يتطلع من المنظرة يعاين الحرب بين القصرين، فقيل إنه أمر مَنْ بالقصر أن يقذفوا العساكر الشامية بالنشاب والحجارة ففعلوا؛ وقيل إن ذلك كان من غير اختياره. فأمر شمس الدولة الزراقين بإحراق منظرة العاضد، فهمَّ أحد الزراقين بذلك، وإذا بباب المنظرة قد فتح وخرج منه زعيم الخلافة وقال: أمير المؤمنين يسلم على شمس الدولة ويقول: دونكم والعبيد الكلاب، أخرجوهم من بلادكم. وكانت العبيد مشتدة الأنفس بأن العاضد راضٍ بفعالهم، فلما سمعوا ذلك فُتَّ في اعضادهم، فجبنوا وتخاذلوا وأدبروا.
ومما كتبه العماد على لسان غيره إلى صلاح الدين قصيدة منها:
بالملك الناصر استنارت ... في عصرنا أوجه الفضائل
عليّ من حقه فروض ... شكراً لما جاد من نوافل
يوسف مصر الذي إليه ... تشد آمالنا الرواحل
أجريت نيلين في ثراها: ... نيل نجيع ونيل نائل
وما نفيت السودان حتى ... حكَّمت البيض في المقاتل
صيرت رحب الفضاء ضيقاً ... عليهم كفة لحابل
وكل رأي منهم كراء ... وأرض مصر كلام واصل
وقد خلت منهم المغاني ... وأقفرت منهم المنازل
وما أصيبوا إلا بَطلّ ... فكيف لو أمطروا بوابل
والسود بالبيض قد أبيحوا ... فهي بَوَازٍ بهم نوازل
مؤتمن القوم خان حتى ... غالته من شره غوائل
عاملكم بالخنا، فأضحى ... ورأسه فوق رأس عامل
يا مخجل البحر بالأيادي ... قد آن أن تُفتح السواحل
فقدِّس القدس من خباث ... أرجاس كفر غُتم أراذل
قال العماد: ومما مدحت به صلاح الدين في ذلك التاريخ تهنئة له بالملك وتعزية بعمه:
أيا يوسف الإحسان والحسن، خير من ... حوى الفضل والإفضال والنهي والأمرا
ومن للهدى وجه النجاح برأيه ... تجلَّى، وثغر النصر من عزمه افتَرَّا
حمى حوزة الدين الحنيف بحوزه ... من الخالق الحسني ومن خلقه الشكرا
أبوه أبي إلا العلاء، وعمه ... بمعروفه عمَّ الورى: البدو والحضرا
وطال الملوك شيركوه بطوله ... وما شاركوه في العلا فحوى الفخرا
بنو الأصفر الإفرنج لاقوا ببيضه ... وسمر عواليه مناياهم حمرا
وما ابيضَّ يوم النصر واخضر روضه ... من الخصب حتى اسودَّ بالنقع واغبرَّا
رأى النصر في تقوى الإله، وكل من ... تقوَّى بتقوى اللهلايعدم النصرا
ولما رأى الدنيا بعين ملالة ... أغذَّ من الأولى مسيراً إلى الأخرى
وقام صلاح الدين بالملك كافلا ... وكيف ترى شمس الضحى تخلف البدرا
ولما صبت مصرُ إلى عصر يوسف ... أعاد إليها الله يوسف والعصرا
فأجرى بها من راحتيه بجوده ... بحاراً، فسماها الورى أنمْلا عشرا
هزمتم جنود المشركين برعبكم ... فلم يلبثوا خوفاً ولم يمكثوا ذعرا
وفرقتم من حول مصر جموعهم ... بكسر، وعاد الكسر من أهلها جبرا
وأمَّنتم فيها الرعايا بعدلكم ... وأطفأتم من شر شاورها الجمرا
بسفك دم حطتم دماء كثيرة ... وحزتم بما أبديتم الحمد والشكرا
وما يرتوي الإسلام حتى عذابها ... بأن تقسموا ما بينها القتل والأسرا
ولاتهملوا البيت المقدس، واعزموا ... على فتحه غازين، وافترعوا البكرا
تديمون بالمعروف طيِّب ذكركم ... وما الملك إلا أن تديموا لكم ذكرا
وإن الذي أثرى من المال مُقْتِرُ ... وإن يُفْنِه في كسب محمدة أثري
قال: وكثرت كتب صلاح الدين إلى أصدقائه مبشرةبطيِّب أنبائه. فمنها كتاب ضمه هذا البيت:
ما كنت بالمنظور أقنع منكم ... ولقد رضيت اليوم بالمسموع
فقلت في جوابه أبياتاً منها هذه:
ياهلْ لسالف عيشتي بفنائكم ... من عودة محمودة ورجوع
قد غبتم عن ناظري ما أذنت ... للقلب شمسُ مَرة بطلوع
كنتُ المشفَّع في المطالب عندكم ... فغدوت أطلب طيفكم بشفيع
أصبحت أقنع بالسلام على النوى ... وبقربكم كم بتُّ غير قنوع
قال: ووصل أيضاً منه كتاب ضمنه هذا البيت:
وأنثر در الدمع من قبل أبيضا ... وقد حال مذ بِنْتم فأصبح ياقوتا
فنظمت في جوابه أبياتاً منها:
هنيئاً لمصر حوز يوسف ملكها ... بأمر من الرحمن قد كان موقوتا
وما كان فيها قتلُ يوسف شاوراً ... يماثل إلا قتل داود جالوتا
وقلت لقلبي: أبشر اليوم بالمنى ... فقد نلتَ ماأملت، بل حزت ما شيتا
قال: وفي هذه السنة قتل العاضد بالقصر ابني شاور الكامل وأخاه، يعني الطاري، يوم الاثنين الرابع من جمادي الآخرة وذلك أنه لما قتل شاور عادوا في القصر، فكأنما نزلوا في القبر؛ فلو أنهم جاءوا إلى أسد الدين سلموا، وامتنعوا وعصموا، فإنه ساءه قتل شاور وإن كان أمن بقتله ماحاذر.
قلت: الكامل هو شجاع بن شاور، وكان له أخوان: طي تقدم ذكر قتل ضرغام له والآخر الطاري قال الفقيه أبو الحسن علي بن محمد بن أبي السرور الروحي في تاريخه: أخذ ابنا شاور، شجاع الملقب بالكامل والطاري الملقب بالمعظم، وأخوه الملقب بفارس المسلمين؛ فقتلوا ودير برؤسهم.
قال: ولما وَلي صلاح الدين ساس الرعية وأظهر لهم من العدل ما لم يعلموه، فاجتمع أهل البلاد وكرهوه، فأوقع براجلهم وأخرجهم من القاهرة إخراجاً عنيفاً، وأخرج بعد ذلك فارسهم وشتت شملهم؛ (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيةً بِما ظَلَمَوُا).
قال: ولما كانت سنة ست وستين رفع جميع المكوس صادرها وواردها، جليلها وحقيرها؛ وغزا بلاد الشام غزوتين.
قال ابن شداد: وفي المحرم من هذه السنة توفي ياروق الذي تنسب إليه الياروقة، يعني المحلة التي بظاهر حلب.
قال غيره: وفيها احترق جامع حلب وأسواق البز، وأخذ نور الدين في عمارته آخر السنة.
ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة
ففي أول صفر منها نزل الفرنج، خذلهم الله تعالى، على دمياط من الديار المصرية. قال ابن الأثير: كان فرنج الساحل لما ملك أسد الدين مصر قد خافوا وأيقنوا بالهلاك، فكاتبوا الفرنج الذين بالأندلس وصقلية يستمدونهم ويعرفونهم ما تجدد من ملك مصر، وأنهم خائفون على البيت المقدس من المسلمين؛ وأرسلوا جماعة من القسوس والرهبان يحرضون الناس على الحركة؛ فأمدوهم بالمال والرجال والسلاح، وأتعدوا على النزول على دمياط، ظناً منهم أنهم يملكونها ويتخذونها ظهراً يملكون به ديار مصر. فلما نازلوها حصروها، وضيقوا على من بها، فأرسل إليها صلاح الدين العساكر في النيل، وحشر فيها كل من عنده، وأمدهم بالمال والسلاح والذخائر، وتابع رسله إلى نور الدين يشكو له ماهو فيه من المخاوف، وأنه إن تخلف عن دمياط ملكها الفرنج، وإن سار إليها خلفه المصريون في مخلّفيه ومخلفيّ عسكره بالسوء، وخرجوا من طاعته، وصاروا من خلفه والفرنج من أمامه فجهز إليه نور الدين العساكر أرسالا، كلما تجهزت طائفة أرسلها؛ فسارت إليه يتلو بعضها بعضاً. ثم سار نور الدين فيمن عنده من العساكر فدخل بلاد الإفرنج فنهبها، وأغار عليها واستباحها، ووصلت الغارات إلى ما لم تكن تبلغه لخلو البلاد عن ممانع.
فلما رأى الإفرنج تتابع العساكر إلى مصر ودخول نور الدين بلادها، ونهبها وإخراجها، رجعوا خائبين ولم يظفروا بشئ؛ وهذا موضع المثل: ذهبت النعامة تطلب قرنين فعادت بلا أذنين!، فوصلوا إلى بلادهم فأوها خاوية على عروشها.
وكان مدة مقامهم على دمياط خمسين يوماً، أخرج منها صلاح الدين أموالاً لاتحصى حكى عنه أنه قال ما رأيت أكرم من العاضد: أرسل إليّ مدة مُقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار مصرية سوى الثياب وغيرها.
قال القاضي ابن شداد: لما علم الفرنج ما جرى من المسلمين وعساكرهم وماتم للسلطان من استقامة الأمر في الديار المصرية علموا أنه يملك بلادهم ويخرب ديارهم ويقلع آثارهم لما حدث له من القوة والملك فاجتمع الفرنج والروم جميعا وحدثوا نفوسهم بقصد الديار المصرية، والاستيلاء عليها وملكها، ورأوا قصد دمياط لتمكن القاصد لها من البر والبحر، ولعلمهم أنها إن حصلت لهم حصل لهم مغرس قدم يأوون إليه. فاستصبحوا المنجنيقات والدبابات والجروخ وآلات الحصار وغير ذلك. ولما سمع الفرنج بالشام ذلك اشتد أمرهم، فسرقوا حصن عكا من المسلمين، وأسروا صاحبها، وكان مملوكاً لنور الدين يسمى خطلخ العلمدار، وذلك في ربيع الآخر منها.
وفي رجب منها توفي العمادي صاحب نور الدين وأمير حاجبه، وكان صاحب بعلبك وتدمر.
ولما رأى نور الدين ظهور الفرنج ونزولهم على دمياط قصد شغل قلوبهم، فنزل على الكرك محاصراً لها في شعبان من هذه السنة، فقصده فرنج الساحل، فرحل عنها وقصد لقاءهم فلم يقعوا له. ثم بلغه وفاة مجد الدين بن الداية بحلب في رمضان، فاشتغل قلبه لأنه كان صاحب أمره، فعاد يطلب الشام، فبلغه خبر الزلزلة بحلب التي ضربت كثيراً من البلاد، وكانت في ثاني عشر شوال من السنة المذكورة وهو بعشترا. فسار يطلب حلب، فبلغه موت أخيه قطب الدين بالموصل؛ وكانت وفاته في الثاني والعشرين من ذي الحجة، وبلغه الخبر وهو بتل باشر فسار ليلته طالباً بلاد الموصل.
ولما علم صلاح الدين شدة قصد العدو دمياط أنفذ إلى البلد وأودعه من الرجال والأبطال والفرسان والميرة والآت السلاح ما أمن معه عليه، ووعد المقيمين فيه بإمدادهم بالعساكر والآلات، وإزعاج العدو عنهم إن نزل عليهم، وبالغ في الهدايا والعطايا والهبات. وكان وزيراً متحكماً لايرد أمره في شئ. ثم نزل الفرنج عليها في التاريخ المذكور واشتد زحفهم عليها وقتالهم لها، وهو رحمه الله تعالى يشن الغارات عليهم من خارج، والعسكر يقاتلهم من داخل. ونْصرُ الله للمسلمين يؤيدهم، وحسن قصده في نصرة دين الله يسعدهم وينجدهم، حتى بان لهم الخسران، وظهر على الكفر الإيمان، ورأوا أنهم ينجون برؤسهم، ويسلمون بنفوسهم، فرحلوا خائبين خاسرين، فحرقت مجانيقهم، ونهبت الآتهم، وقتل منهم خلق عظيم، وسلم البد بحمد الله ومنِّه.
وقال العماد: أقام صلاح الدين بالقاهرة في دار ملكه، ومدار فلكه، يُنهض إليها المدد بعد المدد، ويرسل إليها العدد بعد العدد، ويسهر ليله، ولايقيل نهاره، وقد أخلص لله سره وجهاره، ولاينام ولاينيم، وعنده من ذلك المُقْعِد المقيم. وسبق تقيّ الدين، ابن أخي السلطان، إلى دمياط فدخلها، وكذا خاله شهاب الدين محمود فنزلها. واتَّصل الحصار، وتواصل الأنصار، ودب في الفرنج الفناء، وهب عليهم البلاء، فرحلوا عنها في الحادي والعشرين من ربيع الأول، بالذل الأكمل، والصغار الأشمل.
وكان لما وصل الخبر بوصولهم، واجتماعهم على دمياط ونزولهم، اغتم واهتم، واستصعب الملم، وأنهض من عنده عسكراً ثقيلاً مقدّضمه الأمير قطب الدين خسرو الهذباني، وكان مقداماً مقدّما، وهُماما مُعْلما، وأمره أن يسير بالعسكر، ويخوض بهم بحر العجاج الأكدر، فوصل في النصف من ربيع الأول قبل رحيل الفرنج بأسبوع، فوقع رَوْعه من الكفر في كل رُوع.
قُلت: وبلغني من شدة اهتمام نور الدين رحمه الله بامر المسلمين حين نزل الفرنج على دمياط أنه قرئ عليه جزء من حديث كان له به رواية، فجاء في جملة تلك الأحاديث حديث مسلسل بالتبسُّم، فطلب منه بعض طلبة الحديث أن يتَبَسَّم لتتم السلسلة، على ما عرف من عادة أهل الحديث، فغضب من ذلك وقال: إني لأستحيي من الله تعالى أن يراني متبسما والمسلمون محاصرون بالفرنج. وبلغني أن إماماً لنور الدين رأى ليلة رحيل الفرنج عن دمياط في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أَعْلم نور الدين أن الفرنج قد رحلوا عن دمياط في هذه الليلة، فقال يا رسول الله ربما لايصدقني فاذكر لي علامة يعرفها، فقال: قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم وقلت: يارب انصر دينك ولاتنصر محموداً، من هو محمود الكلب حتى ينصر!! قال: فانتهيت ونزلت إلى المسجد، وكان من عادة نور الدين أنه كان ينزل إليه بغلس ولايزال يتركع فيه حتى يصلي الصبح، قال: فتعرضت له، فسألني عن أمري، فأخبرته بالمنام، وذكرت له العلامة، إلا أنني لم أذكر لفظة الكلب. فقال نور الدين رحمه الله تعالى: اذكر العلامة كلها؛ وألح علي في ذلك، فقلتها؛ فبكى رحمه الله وصدَّق الرؤيا. وأرخت تلك الليلة فجاء الخبر برحيل الفرنج بعد ذلك في تلك الليلة.
فصلأرسل نور الدين كتاباً إلى العاضد صاحب القصر يهنيه برحيل الفرنج عن ثغر دمياط، وكان قد ورد عليه كتاب العاضد بالاستقالة من الأتراك في مصر خوفاً منهم، والاقتصار على صلاح الدين وألزمه وخواصه. فكتب إليه نور الدين يمدح الأتراك ويعلمه أنه ماأرسلهم واعتمد عليهم إلا لعلمه بأن قنطاريات الفرنج ليس لها إلا سهام الأتراك فإن الفرنج لايرعبون إلا منهم، ولولاهم لزاد طمعهم في الديار المصرية، وتحصلوا منها على الأمنية، فلعل الله ييسر فتح المسجد الأقصى، مضافاً إليه نعمه التي لاتحصى. قلت: ولعمارة اليمني من قصيدة:
من شاكر، والله أعظم شاكر ... ماكان من نُعمى بني أيوب
طلب الهدى نصراً، فقال، وقد أتوا: ... حسبي، فأنتم غاية المطلوب
جلبوا إلى دمياط عند حصارهم ... عز القويِّ وذلة المغلوب
وجلوا عن الإسلام فيها كربة ... لو لم يجلُّوها أتت بكروب
فالناس في أعمال مصر كلها ... عتقاؤهم من نازح وقريب
إن لم تظن الناس قشراً فارغاً ... وهم اللباب، فأنت غير لبيب
وللشهاب فتيان الشاغوري من قصيدة يقول:
ولاغرو أن عاد الفرنج هزيمة ... ولو لم تعد لم يبق للشرك ساحل
فقد أيقنت أعداؤه أن حظهم ... لديه رماح أشرعت أو سلاسل
ولما أتوا دمياط كالبحر طامياً ... وليس له من كثرة القوم ساحل
يزيد عن الإحصاء والعد جمعهم ... ألوف ألوف خيلهم والرواحل
رأوا دونهم أسداً، بأيديهم القنا ... وبيضاً رقاقاً أحكمتها الصياقل
وداروا بها في البحر من كل جانب ... ومن دونها سد من الموت حائل
رجا الكلب، ملك الروم إذ ذاك، فتحها ... فخاف، فأم الملك والروم هابل
فعادوا على الأعقاب منها هزيمةكأنهمذلاًّنعام جوافل
وما أمَّلوا أن يلحقوا ببلادهم ... لتعصمهم مما رأوه المعاقل
قال العماد: وسألني كريم الملك أن أعمل له أبياتاً في صلاح الدين تهنئة بالنصر في دمياط، فعملت قصيدة منها:
يايوسف الحسن والإحسان، ياملكا ... بجده صاعداً أعداؤه هبطوا
حللت من وسط العلياء في شرف ... ومركز الشمس من أفلاكها الوسط
هنيت صونك دمياط التي اجتمعت ... لها الفرنج فما حلوا ولا ربطوا
مصر بيوسفها أضحت مشرَّفة ... وكل أمر لها بالعدل منضبط
وحين وافى صلاح الدين أصلحها ... فللمصالح من أيامه نمط
قال العماد: ومما سيَّرته إلى صلاح الدين قصيدة منها:
كأن قلبي وحبَّ مالكه ... مصر وفيها المليك يوسفها
هذا بسلب الفؤاد يظلمني ... وهو بقتل الأعداء ينصفها
الملك الناصر الذي أبداً ... بعز سلطانه يُشرِّفها
قام بأحوالها يدبرها ... حسناً، واثقالها يخففها
بعدله والصلاح يعمرها ... وبالندى والجميل يكنفها
من دنس الغادرين يرحضها ... ومن خباث العدا ينظفها
وإن مصراً بملك يوسفها ... جنة خلد يروق زخرفها
وإنه في السماح حاتمها ... وإنه في الوقار أحنفها
يوسف مصر الذي ملاحمها ... جاءت بأوصافه تعرفها
كتب التواريخ لايزينها ... إلا بأيامه مصنفها
وحُطت دمياط إذ أحاط بها ... من برجوم البلاء يقذفها
لاقت غواة الفرنج خيبتها ... فزاد من حسرة تأسفها
أوردت قلُب القلوب أرشيةً ... من القنا للدماء تنزفها
وليتها سفكها فعاملها ... عاملها، والسنان مشرفها
يُمضي لك الله في قتالهم ... عزيمة للجهاد ترهفها
وله فيه من أخرى:
قد استقرت أموري ... فيه بحسب اقتراحي
كما استقر صلاح الدُّ ... نيا بملك الصلاح
تنير شمس أيادي ... ه في سماء السماح
وأمْرُه مستفاد ... من القضاء المتاح
وأرسله نور الدين إلى خلاط، ومتوليها حينئذ ظهير الدين سكمان المعروف بشاه أرمن. فلما كنت بماردين كتبت إلى بعض المعارف:
قد نزلنا في جوارك ... وحللنا قرب دارك
وسرينا في الدياجي ... فهدانا ضوء نارك
فتدارك أمرنا اليو ... م بطول متدارك
وتفردْ باغتنام الشُّ ... كر من غير مشارك
قال العماد: وفي هذه السنة خرج نور الدين إلى دارياً فأعاد عمارة جامعها، وعمر مشهد أبي سليمان الداراني، وشتَّى بدمشق.
فصل في مسير نجم الدين أيوب إلى مصر بباقي أولاده وأهلهوقد وصف ذلك عمارة في قصيدة مدح بها السلطان صلاح الدين، تقدم بعضها، يقول فيها:
صحَّت به مصر، وكانت قبله ... تشكو سقاماً لم يعن بطبيب
عجباً لمعجزة أتت في عصره ... والدهر ولاَّد لكل عجيب!
رد الإله به قضية يوسف ... نسقاً على ضرب من التقريب
جاءته إخوته ووالده إلى ... مصر على التدريج والترتيب
فاسعد بأكرم قادم، وبدولة ... قد ساعدتك رياحها بهبوب
قال العماد: لما دخل فصل النيروز وزاد استأذن الأمير نجم الدين أيوب نور الدين في قصده ولده صلاح الدين والخروج من دمشق إلى مصر بأهله وجماعته وسبده ولبده، وخيَّم بظاهر البلد إلى أن بان وضوح جدده؛ وسار في حفظ الله تعالى، فوصل إلى مصر في السابع والعشرين من رجب، وقضى صاحب القصر العاضدُ من حق قدومه ماوجب، وركب لاستقباله، وزاد إقبال البلاد بإقباله.
ولما عزم على التوجه إلى مصر شرع في تفريق أملاكه، وتوفير ماله في شركه على أشراكه، وما استصحب شيئاً من موجوده، وجعله نهبة لجوده.
قلت: ووقف رباطاً داخل الدرب بزقاق العونية بباب البريد.
ثم قال العماد: ولما نصب نجم الدين أيوب لقصد مصر مضاربه، وسحب للعلا على روض الرضا سحائبه، خرج نور الدين إلى رأس الماء بعسكره وخيامه، وأرهف للجد في الجهاد حد اعتزامه. ثم أقام بعد توديعه، والوفاء بحق تشييعه، إلى أن اجتمعت إليه عساكره، وحضر بادي جنده وحاضره، وعب بحره، وماح زاخره.
ثم توجهنا إلى بلاد الكرك مستهل شعبان، ونزلنا أياماً بالبلقاء على عَمّان، وأقمنا على الكرك أربعة أيام نحاصرها، ونصبنا عليها منجنيقين. فورد الخبر أن الفرنج قد تجمعوا ووصلوا إلى ماعين، فقال نور الدين: نرى أن نعطف أعنتنا وبالله نستعين، فإنا إذا كسرناهم وقسرناهم، وقتلناهم وأسرناهم، أدركنا المراد، وملكنا البلاد. فرحلنا إليهم فولوا مدبرين حين سمعوا برجوعنا، وقالوا رحيلهم عن الحصن قد حصل وهو مقصودنا. وعاد نور الدين إلى حوران فخيم بعشترا وصام رمضان.
وقال ابن الأثير: كان سبب حصر نور الدين الكرك أن نجم الدين أيوب، والد صلاح الدين، سار عن دمشق إلى مصر فسير نور الدين معه عسكراً، فاجتمع معهم من التجار ومن كان له مع صلاح الدين أنس ومودة مالايُعد؛ فخاف نور الدين عليهم، فسار إلى الكرك فنزل عليه وحصره، وسار نجم الدين أيوب ومن معه سالمين، ونصب نور الدين على الكرك المجانيق، فأتاه الخبر أن الفرنج قد جمعوا وساروا إليه، وأن ابن الهنفري وفليب بن الرفيق، وهما فارسا الفرنج في وقتهما، في المقدمة إليه. فرحل نور الدين، رحمه الله تعالى، نحوهما للقائهما ومن معهما قبل أن يلخق بهما باقي الفرنج، وكانا في مائتي فارس وألف تركبلي ومعهم من الراجل خلق كثير. فلما قاربهما رجعا القهقري إلى من وراءهم من الفرنج، وقصد نور الدين وسط بلادهم، ونهب ماكان على طريقه، ونزل بعشترا، وأقام ينتظر حركة الفرنج ليلقاهم، فلم يبرحوا من مكانهم خوفاً منه.
وقال ابن شداد: أنفذ صلاح الدين في طلب والده ليكمل له السرور، ويجمع القصة مشاكلة ما جرى للنبي يوسف الصديق عليه السلام. فوصل والده نجم الدين إليه، وسلك معه من الأدب ماكان عادته، وألبسه الأمر كله فأبى أن يلبسه، وقال: يا ولدي، ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت كفءُ له، فما ينبغي أن نغير موقع السعادة؛ فحكمَّه في الخزائن كلها. وكان رحمه الله تعالى كريماً يطلق ولايرد. ولم يزل صلاح الدين وزيراً محكماً إلى أن مات العاضد أبو محمد عبد الله، وبه ختم أمر المصريين.
وقال ابن أبي طي الحلبي: أرسل الخليفة المستنجد بالله من بغداد إلى نور الدين يعاتبه في تأخير إقامة الدعوة بمصر، فأحضر الأمير نجم الدين أيوب وألزمه الخروج إلى ولده بمصر بذلك، وحملَّه رسالة منها: " وهذا أمر تجب المبادرة إليه لنحظى بهذه الفضيلة الجليلة، والمنقبة النبيلة، قبل هجوم الموت، وحضور الفوت، لاسيما وإمام الوقت متطلع إلى ذلك بكليته، وهو عنده من أهم أمنيته " .
وسار نجم الدين، وأصحبه نور الدين هدية سنية للملك الناصر، وخرج العاضد لتلقيه إلى ظاهر باب الفتوح عند شجرة الإهليلج، ولم يجر بذلك عادة لهم. وكان من أعجب يوم شهده الناس، وخلع العاضد عليه ولقبَّه الملك الأفضل، وحمل إليه من القصر الألطاف والتحف والهدايا، وأظهر السلطان من بره وتعظيم أمره ما أحرز به الشكر والأجر، وأفرد له داراً إلى جانب داره، وأقطعه الإسكندرية ودمياط والبحبرة، وأقطع شمس الدولة تورانشاه أخاه قوص وأسوان وعيذاب، وكانت عبرتها في هذه السنة مائتي ألف وستة وستين ألف دينار.
وسار شمس الدولة إلى قوص وولاها شمس الخلافة محمد بن مختار. وكان السلطن قبل إقطاعها شمس الدولة قد سيَّر رسلان بن دغمش لجباية خراجها، فخرج عليه عباس بن شلذي في جماعة من الأعراب والعبيد في مرج بني هميم، فغنمه رسلان وعاد إلى القاهرة. وفي هذه السنة ليلة عيد الفطر رزق السلطان ولده الملك الأفضل نورالدين علياً وفرح به فرحاً عظيماً، وخلع وأعطى، وتصدق بما بهر به العقول.
ومن قصيدة للحكيم عبد المنعم، قد تقدم بعضها:
في مشرق المجد نجم الدين مطلعه ... وكل أبنائه شهب، فلا أقلوا
جاءوا كيعقوب والأسباط، إذ وردوا ... على العزيز من أرض الشام واشتملوا
لكنَّ يوسف هذا جاء إخوته ... ولم يكن بينهم نزع ولازلل
وملكوا أرض مصر في شماخته ... ومثلها لرجال مثلهم نزلوا
فصل في ذكر الزلزلة الكبرىقال ابن الأثير: وفي ثاني عشر شوال كانت زلزلة عظيمة لم ير الناس مثلها، عمت أكثر البلاد من الشام ومصر والجزيرة والموصل والعراق وغيرها؛ إلا أن أشدها وأعظمها كان بالشام. فخربت بعلبك وحمص، وحماة، وشيزر، وبعرين، وغيرها؛ وتهدمت أسوارها وقلاعها، وسقطت الدور على أهلها، وهلك من الناس ما يخرج عن العد والإحصاء فلما أتى نور الدين خبرها سار إلى بعلبك ليعمر ما انهدم من أسوارها وقلعتها، وكان لم يبلغه خبر غيرها. فلما وصلها أتاه خبر باقي البلاد بخراب أسوارها، وخلوها من أهلها؛ فرتب ببعلبك من يحميها ويعمرها، وسار إلى حمص ففعل مثل ذلك، ثم إلى حماة، ثم إلى بارين. وكان شديد الحذر على البلاد من الفرنج لاسيما قلعة بارين، فإنها مع قربها منهم لم يبق من سورها شئ البتة، فجعل فيها طائفة صالحة من العسكر مع أمير كبير، ووكل بالعمارة من يحث عليها ليلا ونهاراً. ثم أتى مدينة حلب فرأى فيها من آثار الزلزلة ماليس بغيرها من البلاد، فإنها قد أتت عليها، وبلغ الرعب بمن نجا كل مبلغ، فكانوا لايقدرون يأوون إلى بيوتهم السالمة من الخراب خوفاً من الزلزلة، فإنها عاودتهم غير مرة؛ وكانوا يخافون يقيمون بظاهر حلب من الفرنج. فلما شاهد ما صنعت الزلزلة بها وبأهلها أقام فيها وباشر عمارتها بنفسه، وكان هو يقف على استعمال الفعلة والبنائين. ولم يزل كذلك حتى أحكم أسوارها، وجميع البلاد وجوامعها، وأخرج من الأموال مالايقدَّر قدره.
وأما بلاد الفرنج، خذلهم الله تعالى، فإنها أيضاً فعلت بها الزلزلة قريباً من هذا، وهم أيضاً يخافون نور الدين على بلادهم، فاشتغل كل منهم بعمارة بلاده من قصد الآخر.
قال العماد: وكانت قلاع الفرنج المجاورة لبعرين ولحصن الأكراد وصافيثا والعُريمة وعرقا في بحر الزلازل غرقى، لاسيما حصن الأكراد، فإنه لم يبق له سور، وقد تم عليه فيه دحور وثبور. فشغلهم سوءُهم عن سواه، وكل اشتغل بما دهاه. وتواصلت الأخبار من جميع بلاد الشام بما أحدثته الزلزلة من الانهداد والانهدام.
قال: وما سكنت النفوس من رعبها، وتسلت القلوب عن كربها، إلا بما دهم الكفار من أمرها وعراهم من ضرها، فلقد خصتهم بالأمضِّ الأشق، وأخذتهم الرجفة بالحق، فإنها وافقت يوم عيدهم وهم في الكنائس، فأصبحوا للردى فرائس، شاخصة أبصارهم ينظرون (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَأَتَاهُمُ العْذَابُ منْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُون).
ثم ذكر العماد قصيدة في مدح نور الدين ووصف الزلزلة مطلعها:
هل لعاني الهوى من الأسر فادي ... ولساري ليل الصبابة هادي
جنِّبوني خطب البعاد، فسهلُ ... كل خطب سوى النوى والبعاد
كنت في غفلة من البين حتى ... صاح يوم الأثيل بالبين حادي
قد حللتم من مهجتي في السويدا ... ء، ومن مقلتي محل السواد
وبخلتم من الوصال بإسعا ... في، أما كنتمُ من الأجواد
وبعثتم نسيمكم يتلافا ... ني، فعاد النسيم من عُوّادي
سُمتموني تجلداً واشتياقاً ... ومحال تجمُّع الأضداد
أبقاءُ بعد الأحبة ياقلْ ... بيَ! ماهذه شروط الوداد
ذاب قلبي وسال في الدمع لما ... دام من نار وجده في اتقاد
ما الدموع التي تحدرها الأش ... واق إلا فتائت الأكباد
حبذا ساكنو فؤادي، وعهدي ... بهمُ يسكنون سفح الوادي
أتمنى بالشام أهلي ببغدا ... د، وأين الشآم من بغداد
ما اعتياضي عن حبهم يعلم الل ... ه تعالى إلا بحب الجهاد
واشتغالي بخدمة الملك العا ... دل محمودٍ، الكريم، الجواد
أنا منه على سرير سروري ... راتع العيش في مراد مُؤادي
قيدتني بالشام منه الأيادي ... والأيادي للحر كالأقياد
قد وردت البحر الخضم وخلَّف ... تُ ملوك الدنيا به كالثماد
هو نعم الملاذ من نائب الده ... ر ونعم المعاذ عند المعاد
جل رزء الفرنج فاستبدلوا من ... ه بلبسُ الحديد لبس الحداد
فرَّق الرعب منه في انفس الكف ... ار بين الأرواح والأجساد
سطوة زلزلت بسكانها الأر ... ض وهدت قواعد الأطواد
أخذتهم بالحق رجفة بأس ... تركتهم صرعى صروف العوادي
خفضت في قلاعها كل عال ... وأعادت قلاعها كالوهاد
أنفذ الله حكمه فهو ماض ... مظهر سر غيبه فهو بادي
آية آثرت ذوي الشرك بالُهْل ... ك وأهل التوحيد بالإرشاد
والأعادي جرى عليهم من التد ... مير ما قد جرى على قوم عاد
أشركت في الهلاك بين الفريقي ... ين: دعاة الإشراك والإلحاد
ولقد حاربوا القضاء، فأمضى ... حكمه فيهم بغير جلاد
والإله الرؤوف في الشام عنا ... دافع لطفه بلاء البلاد
قال العماد: ومنها معنى مبتكر ابتدعته في الزلزلة، وهو:
وبحق أصيبت الأرض لما ... سكنت من مقام أهل الفساد
قال العماد: في هذه السنة عند وصولنا إلى حلب في الخدمة النورية كنت مقرِّظاً للفضائل الشَّهْرَزَوْرِية، وكان الحاكم بها القاضي محيي الدين أبو حامد محمد، ابن قاضي قضاة الشام كمال الدين أبي الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشَّهْرَزَوْرِي. وكان كمال الدين قد علق به تنفيذ الأحكام وإليه أمور الديوان، وهو ذو المكانة والإمكان، في بسط العدل والإحسان؛ ومحيي الدين ولده ينوب عنه في القضاء بحلب وبلدانها، وينظر أيضاً في أمور ديوانها؛ وبحماة وحمص من بني الشهرزوري قاضيان، وهما حاكمان متحكمان. وكان هذا محيي الدين من أهل الفضل، وله نظم ونثر، وخطب وشعر؛ وكانت معرفتي به في أيام التفقه ببغداد في المدرسة النظامية، منذ سنة خمس وثلاثين، والمدرس شيخنا معين الدين سعيد بن الرزّاز؛ وكان مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه بعلمه مُعلماً مذهب الطراز. وكانت الزلزلة بحلب قد خربت دار محيي الدين وسلبت قراره، وغلبت اصطباره، وحلبت أفكاره؛ فكتبت إليه قصيدة مطلعها:
لو كان من شكوى الصبابة مشكيا ... لعدا على عدوى الصبابة معدياً
ومنها:
مات الرجاء، فإن أردت حياته ... ونشوره، فارجُ الإمام المحييا
أقضى القضاة، محمد بن محمد ... من لست منه للفضائل محصيا
قاضٍ به قضت المظالم نحبها ... وغدا على آثارهن معفيا
يا كاشفاً للحق في أيامه ... غُررا يدوم لها الزمان مغطيا
لم تنعش الشهباء عند عثارها ... لو لم تجدك لطود حلمك مرسيا
رجفت لسطوتك التي أرسلتها ... نحو الطغاة لحد عزمك ممهيا
وتظلمت من شرهم فتململت ... عجل أجازتها عليها مبقيا
أنفت من الثقلاء فيها إذ رمت ... أثقالها ورأتك منها ملجيا
حَلَبُ لها حلب المدامع سُيّل ... أن لاقت الخطب الفظيع المبكيا
وبعدل نور الدين عاود أفقها ... من بعد غم الغم جواً مصحيا
لأمورها متدبراً، لشتاتها ... متألفاً، لصلاحها متولياً
فالشرع عاد بعدله مستظهراً ... والحق عاد بظله مستذرياً
والدهر لاذ بعفوه مستغفراً ... مما جناه، مطرقا، مستحييا
فصل في غزو صاحب البيرة ووفاة صاحب الموصل
قال ابن الأثير: كان شهاب الدين محمد بن إلياس بن إيلغازي بن أرتق، صاحب قلعة البيرة قد سار في عسكر، وهم مائتا فارس، إلى الخدمة النورية وهو بعشترا. فلما وصل إلى اللبوة، وهي من أعمال بعلبك، ركب متصيداً فصادف ثلثمائة فارس من الفرنج قد ساروا للغارة على بلاد الإسلام، وذلك سابع عشر شوال، فوقع بعضهم على بعض واقتتلوا، وصبر الفريقان لاسيما المسلمون، لأن ألف فارس منهم لاتصبر لحملة ثلثمائة فارس من الفرنج. وكثر القتلى بينهم وانهزم الفرنج، وعمهم القتل والأسر، فلم يفلت منهم إلا من لايعتد به. (وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ في المِيعَادِ، وَلَكِنْ لَيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كاَنَ مَفْعُولا) وسار شهاب الدين بالأسرى ورؤس القتلى إلى نور الدين، فركب هو وعسكره إلى لقائه، واستعرض الأسرى ورؤس القتلى، فرأى فيها رأس مقدم الأستبارية صاحب حصن الأكراد، وكانت الفرنج تعظمه لشجاعته ودينه عندهم، ولأنه شجي في حلوق المسلمين؛ وكذلك أيضاً رأى رأس غيره من مشهوري الفرنج، فازداد سروراً، ولله الحمد.
قال: وفي شوال سنة خمس وستين توفي الملك قطب الدين مودود بن زنكي بالموصل. وكان لما أشتد مرضه أوصى بالملك بعده لولده عماد الدين زنكي بن مودود، وهو أكبر أولاده، وأعزهم عليه، وأحبهم إليه. وكان النائب عن قطب الدين حينئذ والقيم بأمر دولته فخر الدين عبد المسيح، وكان يكره عماد الدين زنكي لأنه كان قد أكثر المقام عند عمه الملك العادل نور الدين رحمه الله تعالى، وتزوج ابنته، وكان عزيزه وحبيبه. وكان نور الدين يبغض عبد المسيح لظلم كان فيه، ويذمه ويلوم أخاه قطب الدين على توليته لأموره. فخاف عبد المسيح أن يتصرف عماد الدين في أموره عن أمر عمه فيعزله ويبعده، فاتفق هو والخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش، زوجة قطب الدين، فردوه عن هذا الرأي. فلما كان الغد أحضر قطب الدين مودود الأمراء واستحلفهم لولده سيف الدين غازي. وتوفي وقد جاوز عمره أربعين سنة.
وكان تام القامة كبير الوجه، أسمر اللون، واسع الجبهة، جهوري الصوت. وكانت ولايته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً.
ولما توفي استقر سيف الدين غازي في الملك ورحل عماد الدين إلى عمه نور الدين شاكياً ومستنصراً. وكان عبد المسيح هو متولى أمور سيف الدين ويحكم في مملكته، وليس لسيف الدين من الأمر إلا اسمه، لأنه في عنفوان شبابه وعزة حداثته.
قال: وهذه حادثة تحث على العدل: كان من جملة أعمال جزيرة ابن عمر قرية تسمى العُقَيمة مقابل الجزيرة من الجانب الشرقي، يفصل بينهما دجلة لها بساتين كثيرة، بعضها تمسح أرضه ويؤخذ على كل جريب من الأرض التي قد زرعت شئ معلوم وبعضها عليه خراج ولا مساحة عليه، وبعضها مطلق منهما. فالممسوح منها لايحصل لأصحابه منه إلا القدر القريب، وكان لنا بها عدة بساتين. فحكى لي والدي قال: جاءنا كتاب فخر الدين عبد المسيح إلى الجزيرة، وأنا حينئذ أتولى ديوانها، يأمر بأن تجعل بساتين العقيمة كلها ممسوحة؛ فشق ذلك عليَّ لأجل أصحابها، ففيها ناس صالحون ولي بهم أنس وهم فقراء. فراجعته، وقلت له: لاتظن أني أقول هذا لأجل ملكي، لا والله، وإنما أريد أن يدوم الناس على الدعاء للمولى قطب الدين وأنا أمسح ملكي جميعه. قال: فأعاد الجواب بأمر المساحة ويقول: تمسح أولا ملكك ليقتدي بك غيرك، ونحن نطلق لك ما يكون عليه. فشرع النواب يمسحون. وكان بالعقيمة رجلان صالحان بيني وبينهما مودة، اسم أحدهما يوسف والآخر عبادة، فحضرا عندي وتضرّرا من هذه الحال، وسألاني المكاتبة في المعنى؛ فأظهرت لهما كتاب عبد المسيح جواباً عن كتابي، فشكراني، وقالا: وأيضاً تعودُ تراجعهُ. فعاودت القول، فأصر على المساحة؛ فعرَّفتهما الحالة. فلما مضى عدة أيام عدت يوماً إلى داري وإذا هما قد صادفاني على الباب، فقلت لنفسي: عجباً لهذين الشيخين، قد رأيا مراجعتي وهما يطلبان مني مالا أقدر عليه! فقلت لهما: والله إني لأستحيي منكما كلما جئتما في هذا المعنى، وقد رأيتما الحال كيف هو. فقالا: صدقت، ولم نحضر إلا لنعرفك أن حاجتنا قضيت. فظننت أنهما أرسلا إلى الموصل من شفع لهما، فدخلت إلى داري وأدخلتهما معي، وسألتهما عن الحال كيف هو، ومن الذي سعى لهما. فقالا: إن رجلا من الصالحين الأبدال شكونا إليه حالنا، فقال: قد قضيت حاجة أهل العقيمة جميعهم. قال: فوقع عندي من هذا ولكن تارة أصدقهما لما أعلم من صلاح أحوالهما، وتارة أعجب من سلامة صدورهما، كيف يعتمدان على هذا القول ويعتقدانه واقعاً لاشك فيه! فلما كان بعد أيام وصل قاصد من الموصل بكتاب يأمر فيه بإطلاق مساحة العقيمة وإطلاق كل مسجون وبالصدقة، فسألت القاصد عن السبب، فأخبرنا أن قطب الدين شديد المرض. قال: فأفكرت في قولهما وتعجبت منه، ثم توفي بعد يومين من هذا. ورأيت والدي إذا رأى أحد الرجلين يبالغ في إكرامه، ويحترمه، ويقضي أشغاله، واتخذهما صديقين.
قال: وكان قطب الدين من أحسن الملوك، وأعفَّهم عن أموال رعيته، محسنا إليهم، كثير الإنعام عليهم، محبوباً إلى صغيرهم وكبيرهم، حليماً عنالمذنين، سريع الانفعال للخير. حدَّثني والدي قال: استدعاني يوما وهو بالجزيرة، وكنت أتولى أعمالها، فلامني في بعض الأمر. فقلت: أخاف من الاستقصاء؛ لو دُعي على بعض هؤلاء الملوك، وأومأت إلى أولاده، لكانت شعرة منه تساوي الدنيا ومافيها، ولنا مواضع تحتمل العمارة لو عمرت لتحصل منها أضعاف هذا. فقال: جزاك الله خيراً! لقد نصحت وأديت الأمانة، فاشرع في عمارة هذه الاماكن. ففعلت، وكبرت منزلتي عنده، ولم يزل يثني عليّ.
قال: وكان كثير الصبر والاحتمال من أصحابه. لقد صبر من نوابه زين الدين وجمال الدين وغيرهما على مالم يصبر عليه سواه. وكان حسن الاتفاق مع اخيه الملك العادل نور الدين كثير المساعدة والإنجاد له بنفسه وعسكره وأمواله؛ حضر معه المصافَّ بحارم وفتحها وفتح بانياس. وكان يخطب له في بلاده باختيار من غير خوف. وكان إحسانه إلى أصحابه متتابعاً من غير طلب منهم ولاتعريض. وكان يبغض الظلم وأهله، ويعاقب من يفعله. قال: وبالله أقسم إذا فكرت في الملوك أولاد زنكي: سيف الدين ونور الدين وقطب الدين، وما جمع الله فيهم من مكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، وحسن السيرة، وعمارة البلاد، والرفق بالرعية؛ إلى غير ذلك من الأسباب التي يحتاج الملك إليها، أذكر قول الشاعر:
من تلقَ منهم تقلْ لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها السَّاري
قلت: وقرأت بخط الشيخ عمر الملا، رحمه الله، في كتاب كتبه إلى بعض الصالحين وسأله فيه الدعاء لقطب الدين صاحب الموصل وقال فيه: " يأخي، لو ذهبت أشرح لك سيرته في بلاده وعيش رعيته في ولايته أطلت وأضجرت. غير أني أذكر لك ماخصه الله به من الأخلاق الصالحة: هو من أكثر الناس رحمة، وأشدهم حياء، وأعظمهم تواضعاً، وأقلهم طمعاً، وأزهدهم في الظلم، وأكثرهم صبراً، وأبعدهم غضباً، وأسرعهم رضا. وهو من هذه الأخلاق على حدٍ أحبه أنا محبة لاأقدر أصفها، وبيني وبينه إخاء ومزاورة، يزورني وأزوره " .
فصلقال ابن الأثير: ولما بلغ نور الدين وفاة أخيه قطب الدين وملك ولده سيف الدين بعده، واستيلاء عبد المسيح واستبداه بالأمور، وحكمه على سيف الدين أنف من ذلك وكبر لديه، وشق عليه. وكان يبغض عبد المسيح لما يبلغه من خشونته على الرعية والمبالغة في إقامة السياسة: وكان نور الدين رحمه الله تعالى ليناً رفيقاً عادلا، فقال: أنا أولى بتدبير أولاد أخي وملكهم. ثم سار من وقته فعبر الفرات عند قلعة حعبر أول المحرم.
ثم دخلت سنة ست وستين وخمسمائةوقصد الرَّقَّة فامتنع بها شيئاً من الامتناع، ثم سلمها على شئ اقترحه. فاستولى نور الدين عليها وقرر أمورها؛ وسار إلى الخابور فملكه جميعه؛ ثم ملك نصيبين وأقام يجمع العساكر، فإنه كان قد سار جريدة، فأتاه بها نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب الحصن وديار بكر، واجتمعت عليه العساكر؛ وقد كان ترك أكثر عسكره بالشام لحفظ ثغوره وأطرافه من الفرنج وغيرهم. فلما اجتمعت العساكر سار إلى سنجار فحصرها، وأقام عليها، ونصب المجانيق، وكان بها عسكر كبير من الموصل. فكاتبه عامة الأمراء الذين بالموصل يحثونه على السُّرعة إليهم ليسلموا البلد إليه وأشاروا بترك سنجار، فلم يقبل منهم، وأقام حتى ملك سنجار وسلمها إلى ابن أخيه الأكبر عماد الدين زنكي. ثم سار إلى الموصل فأتى مدينة بَلَد وعبر دجلة في مخاضة عندها إلى الجانب الشرقي، وسار فنزل شرقي الموصل على حصن نينوى، ودجلة بينه وبين الموصل.
وقال: ومن العجب أنه يوم نزوله سقط من سور الموصل بدنة كبيرة. وكان عبد المسيح قد سيَّر عز الدين مسعود بن قطب الدين أتابك إيلْدكِز صاحب بلاد الجبل وآذربيجان وأرّان وغيرها يستنجده، فأرسل إيلْدِكِز رسولا إلى نور الدين ينهاه عن قصد الموصل ويقول له: إن هذه البلاد للسلطان ولاسبيل لك إليها. فلم يَلْتَفت نور الدين إلى رسالته، وكان بسنجار، فسار إلى الموصل، وقال للرسول: قل لصاحبك: أنا أرفق ببني أخي منك فلاتدخل نفسك بيننا، وعند الفراغ من إصلاحهم يكون الحديث معك على باب همدان، فإنك قد ملكت نصف بلاد الإسلام وأهملت الثغور حتى غلب الكُرْج عليها؛ وقد بليت أنا وحدي بأشجع الناس، الفرنج، فأخذت بلادهم، وأسرت ملوكهم، فلايجوز لي أن أتركك على ما أنت عليه، فإنه يجب علينا القيام بحفظ ما أهملت من بلاد الإسلام، وإزالة الظلم عن المسلمين. فعاد الرسول بهذا الجواب.
وحصر نور الدين الموصل، فلم يكن بينهم قتال، وكان هوى كل من بالموصل، من جندي وعامي، معه، لحسن سيرته وعدله. وكاتبه الأمراء يعلمونه أنهم على الوثوب على عبد المسيح وتسليم البلد إليه. فلما علم عبد المسيح ذلك راسله في تسليم البلد إليه وتقريره على سيف الدين، ويطلب الأمان وإقطاعاً يكون له. فأجابه إلى ذلك وقال: لاسبيل إلى إبقائه بالموصل، بل أن يكون عندي بالشام، فإني لم آت لأخذ البلاد من أولادي، إنما جئت لأخلص الناس منك وأتولى أنا تربية أولادي. فاستقرت القاعدة على ذلك، وسلمت الموصل إليه، فدخلها ثالث عشر جمادي الأولى، وسكن القلعة. وأقر سيف الدين غازي على الموصل، وولى بقلعتها خادماً يقال له سعد الدين كمشتكين، وجعله دُزداراً فيها، وقسم جميع ماخلفه أخوه قطب الدين بين أولاده بمقتضى الفريضة.
ولما كان يحاصر الموصل جاءته خلعة من الخليفة فلبسها، فلما دخل الموصل خلعها على سيف الدين. وأطلق المكوس جميعها من الموصل وسائر ما فتحه من البلاد، وأمر ببناء الجامع النوري بالموصل، فبنى وأقيمت الصلاة فيه سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة.
وأقام بالموصل نحو عشرين يوماً، وسار إلى الشام، فقيل له: إنك تحب الموصل والمقام بها ونراك أسرعت العود؛ فقال: تغير قلبي فيها فإن لم أفارقها ظلمت؛ ويمنعني أيضاً أنني ههنا لاأكون مرابطاً للعدو وملازماً للجهاد. ثم أقطع نصيبين والخابور العساكر، وأقطع جزيرة ابن عمر سيف الدين غازي ابن أخيه مع الموصل، وعاد إلى الشام ومعه عبد المسيح، فغير اسمه وسماه عبد الله، وأقطعه إقطاعاً كثيراً.
وقال العماد: استدعاني نور الدين ونحن بظاهر الرقَّة وقال لي: قد أنست بك وأمنت إليك، وأنا غير مختار للفرقة، ولكن المهم الذي عرض، لايبلغ فيه غيرك الغرض، فتمضي إلى الديوان العزيز جلايدة، وتؤدي عني رسالة سديدة سعيدة، وتنُهي أني قصدت بيتي وبيت والدي، ومغنَي طريفي وتالدي، وأنا كبيره ووراثه، والذي له حديثه وحادثه. فامض وخذ لي إذناً فإني أعد كل جارحة لما أخاطب به أُذناً، وأمثل ما يصلني من المثال لدفع كل مكروه ركناً. وأمر ناصر الدين محمد بن شيركوه أن يسيرني إلى الرحبة، في رجال مأموني الصحبة وسرت منها على البرية غربي الفرات، بخفير من بني خفاجة. فذكر أنه وصل وقضى الحاجة، ثم رجع من عند الخليفة المستنجد إلى نور الدين، وهو يحاصر سنجار، فأحذها وسلمها إلى ختنه ابن أخيه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي.
قال: ثم رحل على عزم الموصل وقصد بلد، واستوضح فيها الجدد، ودُلَّ هناك في دجلة على مخاضة، وكان ذا أخلاق وهمم مرتاضة، فاستسهل من خوضها والعبور فيها ماظن مستعصيا، وسهل لنا الله ذلك ورأيناه أمراً عجيباً؛ وجاء دليل تركماني قدامنا، وهو يقطع دجلة تارة طولا وتارة عرضاً أمامنا، ونحن وراءه كخيط واحد لانميل يميناً ولايساراً، ولانجد لنا في سوى المجاز اختياراً؛ حتى عبرنا من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي برجالنا وأثقالنا، وخيلنا وبغالنا وجمالنا؛ وأقمنا بقية ذلك اليوم، حتى تمَّ عبور القوم.
ثم رحلنا ونزلنا على الموصل من شرقها، وخيمنا على تلِّ توبة، فاستعظم أهلها تلك النوبة، وما خطر ببالهم أننا نعبر بغير مراكب، وأنَّا نأخذ عليهم ذلك الجانب. فعرفوا أنهم محصورون، مقهورون، محسورون؛ وانقطعت عنهم السيل من الشرق، وتعذر عليهم الرقع لاتساع الخرق؛ وبسط العطاء، وكشف الغطاء، وتكلم في المصلحة والمصالحة الوسطاء؛ ومُد الجسر، وقضى الأمر، وأنعم نور الدين على أولاد أخيه، ومثلوا بناديه؛ وأقر سيف الدين غازياً على قاعدة أبيه، وألبسه التشريف الذي وصله من أمير المؤمنين المستضيء.
ثم دخل قلعة الموصل وأقام بها سبعة عشر يوماً، وجدد مناشير أهل المناصب وتوقيعات ذوي المراتب من القضاة والنقابة وغيرهما. وأمر بإسقاط جميع المكوس والضرائب، وأنشأ بذلك منشوراً يقرأ على الناس، فمنه: " وقد قنعنا من كنز الأموال باليسير من الحلال؛ فسحقاً للسحت، ومحقاً للحرام الحقيق بالمقت؛ وبعداً لما يبعد من رضا الرب، ويقصي من محل القرب. وقد استخرنا الله وتقربنا إليه، وتوكلنا في جميع الأحوال عليه، وتقدمنا بإسقاط كل مكس وضريبة، في كل ولاية لنا بعيدة أو قريبة؛ وإزالة كل جهة مشتبهة مشوبة، ومحو كل سنَّة سيئة شنيعة، ونفي كل مظلمة مُظلمى فظيعة؛ وإحياء كل سنة حسنة، وانتهاز كل فرصة في الخير ممكنة، وإطلاق كل ما جرت العادة بأخذه من الأموال المحظورة، خوفاً من عواقبها الرديئة المحذورة، فلا يبقى في جميع ولايتنا جور جائر جارياً، ولاعمل لايكون به الله راضياً، إيثاراً للثواب الآجل، على الحطام العاجل. وهذا حق لله قضيناه، وواجب علينا أديناه، بل هي سنة استنناها، ومحجة واضحة بيناها، وقاعدة محكمة مهدناها، وفائدة مغتنمة أفدناها " .
فصلقال العماد: وكان بالموصل رجل صالح يعرف بعمر الملاَّ، سمى بذلك لأنه كان يملأ تنانير الجص بأجرة يتقوَّت بها، وكل ما عليه من قميص ورداء، وكسوة وكساء، قد ملكه سواه واستعاره، فلا يملك ثوبه ولا إزاره. وكن له شئ فوهبه لأحد مريديه، وهو يتجر لنفسه فيه، فإذا جاءه ضيف قراه ذلك المريد. وكان ذا معرفة بأحكام القرآن والأحاديث النبوية.
وكان العلماء والفقهاء، والملوك والأمراء، يزورونه في زاويته، ويتبركون بهمته، ويتيمنَّون ببركته. وله كل سنة دعوة يحتفل بها في أيام مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضره فيها صاحب الموصل، ويحضر الشعراء وينشدون مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحفل.
وكان نور الدين من أخص محبيه يستشيرونه في حضوره، ويكاتبه في مصالح أموره. وكانت بالموصل خربة واسعة في وسط البلد أشيع عنها أنه ما شرع في عمارتها إلا من ذهب عمره، ولم يتم على مراده أمره. فأشار الشيخ عمر على نور الدين بابتياعها، ورفع بنائها جامعاً تقام فيه الجمع والجماعات؛ ففعل وأنفق في فيه أموالاً كثيرة، ووقف عليه ضيعة من ضياع الموصل، ورتب فيه خطيباً ومدرساً. وكان قد وصل في تلك السنة وافداً يكون مدرساً في ذلك الجامع وكتب له به منشوراً.
قال: وحضر مجاهد الدين قايماز صاحب إربل إلى الخدمة النورية في الموصل. وكان دخولهم إياها في بحبوبة الشتاء؛ فكتب العماد إلى بعض كبراء الموصل قصيدة، منها:
مايمنع الخادم من قصْده الْ ... خدمة غير الطُّرْق والوحل
كأنما مَوْصلكم مقطع ... مايهتدي فيه إلى وصل
وكلّ معروف بها منكر ... كما تراه ضيّق السّبل
وكل من حلّ بها لايرى ... في زمن الخصب سوى المحل
ومذ دخلناها حصلنا بها ... كَرهاً على خرج بلا دخل
أصعب ما نلقاه من أهلها ... قول بلا أهل ولاسهل
وكنت أهاوها، ولكنني ... لقيت منها كلّ ما يسلى
وانت من أصبح إحسانه ... حلية هذا الزمن العُطل
قال: وعاد نور الدين إلى سنجار فأعاد عمارة أسوارها. ثم أتى حرّان وقد اقتطعها عن صاحب الموصل هي ونصيبين، والخابور، والْمِجْدل. ووصل حلب في خامس رجب.
قال ابن شدّاد: دخل حلب في شعبان وزوّج صاحب الموصل ابنته.
قال العماد: وفوّض القضاء والحُكم بنصيبين وسنجار والخابور إلى الشيخ شرف الدين ابن أبي عصرون، فولّى بها نوابه وحكّم فيها أصحابه.
وقال القاضي ابن شداد: لما صارت الموصل إلى سيف الدين، ابن أخي نور الدين، كان قد استولى عليه وتولى أمر البلد رجل يقال له عبد المسيح كان نصرانياً فأسلم، وقيل إنه كان باقياً على نصرانيته وله بيعة في داره، وتتبع أرباب العلم والدّين وشتتّهم وأبعدهم وآذى المسلمين. فبلغ نور الدين ذلك، وكُتب له قصص في ذلك. فسار ونزل على الموصل من جانب الشطِّ، والشط بينه وبينها، وقال: لاأقاتل هذه البلدة وأهتك حرمتها وهي لولدي. وراسل سيف الدين وقال له: أنا ليس مقصودي البلد وإنما مقصودي حفظ البلد لك، فإنه قد كتب إلي في عبد المسيح كذا وكذا ألف قصة بما يفعل مع المسلمين، وإنما مقصودي أزيل هذا النصراني عن ولاية المسلمين.
قال: وعبد المسيح يدبر البلد ويدور فيه، والأمر إليه. وبذل الصلح لنور الدين؛ فقال نور الدين: أنا قد جئت ولابد لي من دخول البلد. فقال: نعم لايدخل إلا من باب السِّر، فقال نور الدين: ماأدخل إلا من باب السر. فجرت بين نور الدين وبين ابن أخيه مراسلات، إلى أن علم أن نيته صالحة، فصالحه في السر؛ وركب عبد المسيح وخرج يدور بين السورين، فجاءه بعض أصحابه وقال له: أنت نائم؟ دمُك قد راح وأنت غافل! فقال: مالخبر؟ فقال: سيف الدين قد صالح عمه وأنت في مقابلة نور الدِّين. فجاء ودخل على سيف الدين وألقى شربوشه بين يديه، وقال له: أنت قد صالحت عمك وقد عمِلتُ ما عملت في حفظ بلدك، وما لي طاقة بمقابلة نور الدين؛ فالله الله في دمي! فقال له: ما لي طاقة بدفعه عنك، ولكن عليك بالشيخ عمر الملا! فقال: والله لو مضيت إليه لم يفتح لي - لعلمه بما جرى منه في حق المسلمين - ولكن تسيِّر أنت إليه. فأنفذ سيف الدين إليه وأحضره، وكان معتكفاً، فقال له: مالخبر! فقال سيف الدين لعبد المسيح: منك إليه؛ فوقف بين يديه يبكي؛ فالتفت إليه الشيخ عمر وقال: من يعادى الرجال يبكي مثل النساء! فقال له: قد تمسكت بك وأطلب منك حقن دمي! فقال: أنت آمن على دمك؛ فقال: وعلى مالي! فقال: وعلى مالك؛ فقال: وعلى أهلي! فقال: وعلى أهلك.
وكان شرف الدين بن أبي عصرون مع نور الدين حينئذ؛ فقال سيف الدين لعمر الملاّ: تخرج تحلِّف نور الدين؛ فأحضر الفقهاء وعملوا له نسخة يمين لنور الدين ونسخة يمين لعبد المسيح؛ فأخذهما عمر وخرج إلى نور الدين، فقام نور الدين وخرج من خيمته والتقاه وأكرمه. فقال له عمر: الناس يعملون حُسْن عقيدتك فيّ، وقد خرجت في كذا وكذا، وناوله النسخة التي تتعلق بسيف الدين، فقرأها وناولها لابن أبي عصرون، فقال: نسخة جيدة. فقال له الشيخ عمر الملاّ: إيش تقول في هذه النسخة؟ فقال: جيدة؛ فقال: إذا حلف بها على هذا الوجه أليس أنها تقع لازمة؟ فقال: بلى. فقال للحاضرين: اشهدوا على الشيخ بذلك، يشير إلى نور الدين كان يجري منه أيمان في وقائع، وكان ابن أبي عصرون يفتيه بالخروج منها، فقيَّد عليه القول، فأجاب نور الدين إلى ذلك، فقال له: قد علم الناس حسن عقيدتك فيّ، وأن قولي مسموع عندك، وقد خرجت إليك ولابدّ لي من ضيافة، فقال: كيف لي بذلك وأنت لاتأكل طعامي ولاتقبل مني شيئاً! فقال: تحلف لي بهذه النسخة، فوقف عليها وتغير وجهه، وقال: أنا ما جئت إلا في هذا لأخلص المسلمين منه! فقال له الشيخ عمر: فما نطلب منك أن توليه على المسلمين! فقال: قد أمنته على نفسه، فقال: وعلى أهله! فقال: ومن أهله؟ فقال: نصارى، فقال: أمنتهم، فقال: وعلى ماله، فقال: ومن أين لهذا الكلب مال؟ هذا مملوك لنا، فقال: قد أُعتق وماله له، وهو اليوم كان صاحب الموصل، قال: قد أمنته على ماله. فحلف له على ذلك جميعه، واستقرّ الصلح.
وخرج سيف الدين إلى خدمة نور الدين، فوقف بين يديه، فأكرمه نور الدين، وكان وصله خلعة أمير المؤمنين فخلعها عليه، فدخل إلى الموصل بها، وانتقل إلى جانب الشط الآخر، ولم يدخل إلى الموصل إلى أن جاء مطر شديد جدّاَ فدخل من باب السر إليها، وأقام بها مدة ورتب أمورها وولي فيها كمشتكين فرأى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وهو يقول له: جئت إلى بلدك وطاب لك المقام به، وتركت الجهاد وقتال أعداء الدين! فاستيقظ من منامه وسار سحرة ذلك اليوم ولم يلبث، ولم يعلم به أكثر الناس حتى خرج ولحقوه، رحمه الله تعالى.
فصلوصل الخبر بموت الإمام المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي، ونورُ الدين مخيم بشرقي الموصل بتل توبة. وكانت وفاته يوم السبت تاسع ربيع الآخر، وبويع ابنه المستضئ بأمر الله أبو محمد الحسن.
وكان مولد المستنجد مستهل ربيع الآخر سنة عشر وخمسمائة، وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وستة أيام. وهو الثاني والثلاثون من خلفاء بني العباس. وهذا العدد له بحساب الجمَّل، اللام والباء، فيه يقول بعض الأدباء:
أصبحت لب بني العباس كلهم ... إن عُدِّت بحساب الجمَّل الخلفا
وكان أسمر تام القامة طويل اللحية، وكان من أحسن الخلفاء سيرة مع الرعية؛ كان عادلا فيهم كثير الرفق بهم، وأطلق من المكوس كثيراً، ولم يترك بالعراق مكسا. وكان شديداً على أهل العيث والفساد والسعاية بالناس.
قال ابن الأثير: بلغني أنه قبض على إنسان كان يسعى بالناس ويكتب فيهم السِّعايات فأطال حبسه، فحضر بعض أصحابه وشفع فيه، وبذل عنه عشرة آلاف دينار فقال له: أنا أعطيك عشرة آلاف دينار وتحضر لي إنساناً آخر مثله أحبسه لأكفَّ شره عن الناس.
وتوفي في أيامه شيخ الشيوخ إسماعيل بن أبي سعد، وصار بعده ابنه صدر الدين عبد الرحيم شيخ الشيوخ، وذلك سنة إحدى وأربعين.
وفي سنة ثمان وأربعين توفي محمد بن نصر القيسراني، وأحمد بن منير، الشاعران. وقد تقدم ذلك.
وفي سنة تسع ةأربعين توفي الحكيم أبو الحكم الشاعر الأندلسي.
وفي سنة إحدى وخمسين توفي الوأواء الشاعر الحلبي.
وفي سنة ثلاث وستين توفي الشيخ أبو النجيب الصوفي الفقيه الواعظ.
قال العماد: وجاءنا رسل دار الخلافة مبشرين بخلافة المستضئ، واتفق ذلك يوم عبور دجلة. وركب يوم النزول على تل توبة في الأهبة السوداء، واليد البيضاء، وذلك بمرأى ومنظر أهل الموصل الحدباء. ثم أرسل الشيخ شرف الدين بن أبي عصرون إلى بغداد نائباً عنه في خدمة الإمام. ومما نظمه العماد فيه:
قد أضاء الزمان بالمستضىِّ ... وارث البُرد، وابن عم النبيِّ
جاء بالحق، والشريعة، والعد ... ل، فيا مرحباً بهذا المجيِّ
فهنيئاً لأهل بغداد، فازوا ... بعد بؤس بكل عيش هنيِّ
ومضىُّ إن كان في الزمن المظ ... لم، فالعود في الزمان المضي
وله من قصيدة أخرى:
لهفي على زمن الشباب، فإنني ... بسوى التأسف عنه لم أتعوض
نقضت عهود الغانيات، وإنها ... لولا نقاء شيبتي لن تنقض
ياحسن أيام الصبا، وكأنها ... أيام مولانا الإمام المستضى
ذو البهجة الزهراء يشرق نورها ... والطلعة الغراء، والوجه الوضيَ
قَسَم السعادة والشقاوة ربُّنا ... في الخلق، بين محبِّه والمبغض
ومنها:
فضل الخلائف والخلائق بالتقي ... والفضل، والإفضال، والخُلق الرضي
فانعم أمير المؤمنين بدولة ... ما تنتهي، وسعادة ما تنقضي
قال: ووصل نور الدين، رحمه الله تعالى، إلى دمشق وأدى فرض الصيام، وخرج بعد العيد إلى الخيام، وأخرج سرادقه إلى جسر الخشب، وسرنا إلى عشترا. ثم ذكر العماد هنا سرّية صاحب البيرة الأرتقي باللبوة، وقد مضت في أخبار سنة خمس وستين فَثَمَّ ذكرها ابن الأثير.
فصل فيما جرى بمصر في هذه السنةقال العماد: كان بمصر حبس للشحن يعرف بدار المعونة فأعادها صلاح الدين مدرسة للشافعية في أول سنة ست وستين، وعمل في النصف من المحرم دار الغزل مدرسة للمالكية، وولى صدر الدين عبد الملك بن درباس القضاء والحكم بمصر والقاهرة وأعمالها، وذلك في الثاني والعشرين من جمادي الآخرة. ثم خرج إلى الغزاة وأغار على الرملة وعسقلان وهجم ربض غزة، ثم رجع إلى القاهرة.
ثم وصله الخبر بخروج قافلة من دمشق فيها أهله فأشفق عليها وأحب أن يجتمع بها شمله، فخرج في النصف من ربيع الأول. وكانت بأيلة قلعة في البحر قد حصنها أهل الكفر، فعمر لها مراكب وحملها إلى ساحلها على الجمال، وركبها الصنّاع هناك وشحنها بالرجال، وفتح القلعة في العشر الأول من ربيع الآخر، واستحلها واستباح بالقتل والأسر أهلها، وملأها بالعدد والعدد، وحصَّنها بأهل الجلاد والجلد. واجتمع بأهله وسار بهم على سمت القاهرة، ودخلوا في السادس والعشرين من جمادي الأولى إليها. وسار إلى الإسكندرية في الثالث والعشرين من شعبان ليشاهدها ويرتب قواعدها، وهي أول دفعة سار إليها في أيام سلطانه، وعم أهلها بإحسانه، وأمر بعمارة أسوارها وابراجها وابدانها.
وفي النصف من شعبان اشترى تقي الدين عمر بن شاهنشاه، وهو ابن أخي صلاح الدين، منازل العز بمصر وجعلها مدرسة للشافعية، واشترى الروضة وحمام الذهب وغيرهما من الأملاك ووقفها عليها.
وفي النصف من جمادى الآخرة أغار شمس الدولة، أخو السلطان، بالصعيد على العربان، ثم دخل القاهرة في عاشر شهر رمضان.
وفي الثالث والعشرين من جمادي الآخرة توفي القاضي الموفق أبو الحجاج يوسف ابن الخلال، وكان من الأماثل الأفاضل، ولم يزل صاحب ديوان الإنشاء إلى أن كبر. وكان الأجل الفاضل يوصل إليه كل ماكان له، وقام به مدة حياته يكرم عهده ويكفله. وقال العماد في الخريدة: هو ناظر ديوان مصر وإنسان ناظره، وجامع مفاخره؛ وكان إليه الإنشاء، وله قوة على الترسل يكتب ما يشاء، عاش كثيراً وعطل في آخر عمره، وأضر ولزم بيته إلى أن تعوض منه القبر. ومن شعره:
ياأخا الغرة، حسب الدهر من ... عظة المغرور ما أصبح يبدي
تؤثر الدنيا، فهل نلت بها ... لحظة تخلص من همّ وكدِّ!!
قلت: وذكر ضياء الدين أبو الفتح نصر الله بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري في أول كتابه المسمى بالوشي المرقوم في حل المنظوم، قال حدثني عبد الرحيم بن علي البيساني رحمه الله بمدينة دمشق في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة قال: كان فن الكتابة بمصر في زمن بني عبيد غضاً طرياً، وكان لايخلو ديوان المكاتبات من رأس يرأس مكاناً وبياتاً، ويقيم لسلطانه بقلمه سلطاناً. وكان من العادة أن كلا من أرباب الدَّواوين إذا نشأ له ولدو شدا شيئاً من علم الأدب أحضره إلى ديوان المكاتبات ليتعلم فن الكتابة ويتدرب ويرى ويسمع. قال: فأرسلني والدي، وكان إذا ذاك قاضياً بثغر عسقلان، إلى الديار المصرية في أيام الحافظ، وهو أحد خلفائها، وأمرني بالمسير إلى ديوان المكاتبات، وكان الذي يرأس به في تلك الأيام رجل يقال له ابن الخلال. فلما حضرت الديوان ومثلت بين يديه وعرّفته من أنا وما طلبي، رحبَّ بي وسهل، ثم قال: ما الذي أعددت لفن الكتابة من الآلات؟ فقلت: ليس عندي شئ سوى أني أحفظ القرآن العزيز وكتاب الحماسة. فقال: وفي هذا بلاغ. ثم أمرني بملازمته؛ فلما ترددت إليه تدربت بين يديه، ثم أمرني بعد ذلك أن أحلّ شعر الحماسة، فحللته من أوله إلى آخره، ثم أمرني أن أحله مرة ثانية، فحللته.
وقال ابن أبي طيّ: في هذه السنة شرع السلطان، يعني صلاح الدين، في عمارة سور القاهرة، لأنه كان قد تهدم أكثره وصار طريقاً لايردُّ داخلاً ولاخارجاً، وولاه لقراقوش الخادم، وقبض على القصور وسلمها إليه، وأمر بتغيير شعار الاسماعيلية، وقطع من الأذان حيّ على خير العمل، وشرع في تمهيد أسباب الخطبة لبني العباس.
وفيها طلب شمس الدولة توانشاه؛ من أخيه السلطان ربع الكامل بالقاهرة وازداد على إقطاعه بوش وأعمال الجيزة وسمنود وغيرها.
قلت: وقد وقفت على كتاب فاضلي وصف فيه غزاة صلاح الدين رحمه الله في زمان وزارته وكان الكتاب إلى مدينة قوص، وأظن هذه الغزاة هي التي أشار إليها العماد في اثناء كلامه السابق أوّل الكتاب: (فانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وفَضْلٍ لَمْ يَمْسَهُمْ سُوءُ وَاتَّبَعُوا رِضْوَان اللهِ واللهِ ذُو فَضْلٍ عَظِيم).
وفيه: " توجهنا من بركة الجب يوم الخميس الخامس عشر من ربيع الأول، ووصلنا بتاريخ السابع والعشرين من الشهر المذكور، والعساكر بالتسهل والوعر منتظمة، والهمم على السهل والصّعب مزدحمة وجنود الله في الأرض المُعْلمة، قد أيّدتها جنود السماء المسوّمة. وصابحنا الديّر يوم الأربعاء بقتال جعل كلّ من في حصن الدّير راهبا، ونصبنا عليه منجنيقا لايزال بشهاب القذف ضاربا. فلما تعالى النهار ملكنا ربضه، وأطلقنا فيه النيران، ورملنا الرجال بالدم، وأرملنا النسوان؛ وزحفنا إلى أبراجه وهي أبراج قد استعدت للبلى جلبابا، فجعلنا لكلّ واحد جورة مفردة وبابا، وسرحنا إليهم رسل المنايا من النشاب، وقصدنا أحد الأبراج والبيوت تؤتى في الحرب من غير الأبواب، وتقدمت إليها نقابة الحلبية فباتت ليلتها تساوره، وتراجعه بألسنة المعاول وتشاوره. وأسفر الصبح وقد أمكن تعليقه، وتيسر تحريقه، فأودعنا تلك العقود آلات الوقود، فلم يكن إلا مقدار اشتعالها حتى خرّ صريعا سريعا، وعفرّ بين أيدينا سامعا مطيعا. وانتظمت الرجال على أحجاره، وتواثبت إلى أمثاله من الأبراج وأنظاره؛ فحصلت في القبضة، وعجز من كان فيها عن النهضة؛ واحتكم فيها العذاب بالسيف والنار، وضاق عليهم مجال النفس والقرار " .
" واستقبلنا يوم الخميس نقب القلعة وتقديم المنجنيق، وتيسير السبيل للقتال وتخليص الطريق، هذا والسّلوب والنهوب قد امتارت منها العساكر، وخرجت فيها مكنونات الذخائر، وأشبه اليوم يوم تُبلى السرائر، وظهر الأرض منهم بالدم المائر " .
فلما كان بكرة الجمعة وردتنا الأخبار بأن الملك قد زحف من غزة في فارسه وراجله، ورامحه ونابله، وحشود دياره، وجنود أنصاره؛ فركبنا مستبشرين بزحفه، موقنين بحتفه، ولقيناه، فأحطنا من بين يديه ومن خلفه. وناوشته الخيل الطِّراد، وأحدقت به أحداق الأغلال بالأجياد، وانتظرت حملته التي كان لها قبل ذلك اليوم موقع، وصدمته التي لها من رجال الحرب موضع؛ فملأ الله قلبه رعبا وثنى صدقه كذبا. ولم يزل يخاتل ولايقاتل، ويواصل المسير ولايصاول، والقتل في أعقابه، وأيدي السيوف وسةاعد الرّماح لاتني في عقابه، حتى تحصّل في الدير هو وخيله ورجله، ولم يبق له من ملك الشام إلا ما وطئته رجله. فناصبناه الحصار في ليلة السبت مستهل ربيع الآخر بالركوب إليه، والوقوف عليه، لعله يبرز ويبارز، ويخرج ولايحاجز؛ فخرست غماغمه، واستذابت ضراغمه، فتركناه وراء ظهورنا، وجعلنا بلاده أمام صدورنا؛ فكنا في توليته مرضين لله تعالى سبحانه لامغضبين، وفي تركه وراء ظهورنا ومباعدته من الله متقربين.
وواجهنا غزة بعساكرنا المنصورة، وأطفنا بها في أحسن صورة، وهي على ماعلم من كونها بكرا لم تفترعها الحوادث، وحصانا لم يطمثها أمل طامث؛ وهي معقل الديوية الذين هم جمرة الشرك، وداهية الإفك؛ وأتى الله ببنيانها من القواعد، وأنجز فيها من النّصر صادق المواعد، ووردناها بأيمن الموارد؛ وفتحناها من عدة جوانب، ووطئناها وإذا هي كأمس الذاهب، فألْقَت إلينا أفلاذ كبدها، وذخيرة يدها، فمن بين مواش بخراب البلاد التي منها خرجت، وخيول مسومة كأنها لركوبنا أُسرجت وأُلجمت، وحوامل أثقال وزوامل خففت عن عساكرنا وفرّجت، وميرة كثيرة تمكنت منها يد الأجناد وأفرجت، وأسارى المسلمين فكوا من القيد والقد، وأنقذوا بلطف الله من سوء المكيدة وشدة الجهد. فأما الرؤس المقطوعة وأسارى الفرنج الذين أيديهم إلى أعناقهم مجموعة، فإن القضاء الفضي تعصفر من دمائهم وتذهب، وجرى منها مابه اضطرم وقد الجحيم وتلهب. وفي الحال أمرنا بالنار أن تشتغل بها وتشتعل، وبالهدم أن ينقل عنها معاوله وينتقل، (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيةٍ)، أو تنظر إلا طلوعا على عروشها خاوية، وعراصا من سكانها خالية، قد بقيت عبرة للعابر، وذكرى للذاكر، وموعظة سارة للمسلم مرغمة للكافر).
ثم عدنا بقية يوم السبت إلى الملك، خذله الله تعالى، راجين أن يحمله الثكل على الإقدام، ويخرجه حر النار إلى مقام الانتقام، فإذا شيطانه قد نصحه، وقتل أصحابه قد جرحه؛ فبِتْنا عليه والألسنة بفراره تعيره، واسبتاره يقرعه ويقَرِّره.
واصبحنا يوم الأحد ثاني شهر ربيع الآخر والكسب قد أثقل المقاتلة، ونصر الله قد بلغ الغاية المستأصلة، ورحلنا والسلامة لصغير عسكرنا وكبيره شاملة، والعدو قد غزى في عُقره وعُقر، وأذل في دار ملكه واحتقر. ووصلنا إلى مستقر سلطاننا في يوم الاثنين الحادي عشر من الشهر المذكور، فاستقبلنا من مولانا، صلوات الله عليه، وتشريفه واستقبال ركابه، ومشافهتنا بمقبول دعائه الشريف ومجابه، ما عظمت به النعم وجلّت، وزالت به وعثاء الطريق وتجلّت، وجادتها سماء إنعامه التي لم تزل تجودنا واستهلت.
قلت ومن قصيدة لعمارة في مدح صلاح الدين أولها:
فؤاد بنار الشوق والوجد محرق
يقول فيها:
لعل بني أيوب إن علموا بما ... تظلمت منه أن يرقوا ويشفقوا
غزوا عُقر دار المشركين بغزةٍ ... جهاراً، وطرف الشرك خزيان مطرق
وزاروا مصلّى عسقلان بأرعن ... يفيض إناء البر منه ويفهق
وكانت على ما شاهد الناس قبلكم ... طرائق من شوك القنا ليس تُطرق
وما عصمتهم منك إلا معاقل ... تأنوا على تحصينها وتأنقوا
جلبت لهم من سورة الحرب ماالتقى ... وادره سورعليهم وخندق
وأخربت من أعمالهم كل عامر ... يمر به طيف الخيال فيفرق
أضفت إلى أجر الجهاد زيارة ال ... خليل، فأبشر، أنت غازٍ مُوفق
وهيجت للبيت المقدّس لوعة ... يطول بها منه إليك التشوق
تنشق من ملقاك أعظم نفحة ... تطيب على قلب الهدى حين تنشق
وغزوك هذا سُلم نحو فتحه ... قريباً، وإلا رائد ومطرق
هو البيت، إن تفتحه، والله فاعل، ... فما بعده باب من الشام مغلق
ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائةواستفتحها صلاح الدين رحمه الله تعالى بإقامة الخطبة في الجمعة الأولى منها بمصر لبني العباس، وفي الجمعة الثانية خطب لهم بالقاهرة، وانقطع ذكر خلفاء مصر. وتوفي العاضد يوم عاشوراء بالقصر، وانقضت تلك الدولة بانتهاء مادام لها من العصر.
وذكر العماد أيضا في أخبار سنة اثنتين وسبعين، كما سيأتي، أنّ الذي خطب بمصر لبني العباس أولا هو أبو عبد الله محمد بن المحسن بن الحسين بن أبي المضاء البعلبكي؛ وذكر ذلك أيضاً ابن الدبيثي في تاريخه. وقد أشار إليه القاضي الفاضل في كتاب له إلى وزير بغداد سيأتي ذكره.
قال ابن الأثير: كان السبب في ذلك أن صلاح الدين يوسف بن أيوب لما ثبتت قدمه في مصر وزال المخالفون له وضعف أمر العاضد، وهو الخليفة بها، ولم يبق من العساكر المصرية أحد كتب إليه الملك العادل نور الدين محمود يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة العباسية. فاعتذر صلاح الدين بالخوف من وثوب أهل مصر وامتناعهم من الإجابة إلى ذلك، لميلهم إلى العلويين؛ فلم يصغ نور الدين إلى قوله، وأرسل إليه يلزمه بذلك إلزاماً لافسحة له فيه.
واتفق أن العاضد مرض، وكان صلاح الدين قد عزم على قطع الخطبة له، فاستشار الأمراء كيف يكون الابتداء بالخطبة العباسية؛ فمنهم من أقدم على المساعدة وأشار بها، ومنهم من خاف ذلك إلا أنه لم يمكنه إلا امتثال أمر نور الدين. وكان قد دخل إلى مصر إنسان أعجمي يعرف بالأمير العالم، وقد رأيناه بالموصل كثيرا، فلما رأى ماهم فيه من الإحجام قال: أنا أبتدئ بها. فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب ودعا للمستضئ بأمر الله، فلم ينكر أحد ذلك عليه؛ فلما كان الجمعة الثانية أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد وإقامة الخطبة للمستضئ بأمر الله، ففعلوا ذلك ولم ينتطح فيها عنزان؛ وكتب بذلك إلى سائر الديار المصرية.
وكان العاضد قد اشتد مرضه، فلم يعلمه أهله وأصحابه بذلك، وقالوا، إن سلم فهو يعلم وإن توفي فلا ينبغي أن ننغص عليه هذه الأيام التي قد بقيت من أجله؛ فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم.
قال: ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصره وعلى جميع مافيه. وكان قد رتب فيه قبل وفاة العاضد بهاء الدين قراقوش، وهو خصيُّ، لحفظه، وجعله كأستاذ دار العاضد؛ فحفظ مافيه حتى تسلمه صلاح الدين، ونقل أهل العاضد إلى مكان منفرد، ووكل لحفظهم، وجعل أولاده وعمومته وأبناءهم في الإيوان في القصر، وجعل عندهم من يحفظهم، وأخرج من كان بالقصر من العبيد والإماء، فأعتق البعض ووهب البعض وباع البعض، وأخلى القصر من أهله وسكانه؛ فسبحان من لايزول ملكه ولايغيره ممر الأيام وتعاقب الدهور.
قال: ولما أشتد مرض العاضد أرسل يستدعي صلاح الدين، فظن أن ذلك خديعة، فلم يمض إليه، فلما توفي علم صدقه فندم على تخلفه عنه.
قلت: أخبرني الأمير أبو الفتوح بن العاضد، وقد اجتمعت به سنة ثمان وعشرين وستمائة وهو محبوس مقيد بقلعة الجبل بمصر، أن أباه في مرضه استدعى صلاح الدين فحضر، قال وأحضرنا، يعني أولاده وهم جماعة صغار، فأوصاه بنا، فالتزم إكرامنا واحترامنا، رحمه الله. وأما ندمُ صلاح الدين، فبلغني أنه كان على استعجال بقطع خطبته وهو مريض، وقال: لو علمت أنه يموت من هذا المرض ما قطعتها إلى أن يموت.
قال العماد: وجلس السلطان للعزاء، وأغرب في الحزن والبكاء، وبلغ الغاية في إجمال أمره؛ والتوديع له إلى قبره؛ ثم تسلم القصر بما فيه من خزائنه ودفائنه. وكان مذ نافق مؤتمن الخلافة وقتل، صُرف مَنْ هو زمام القصر وعُزل، ووكل بهاء الدين قراقوش بالقصر وجعله زمامه، واستنابه مقام نفسه وأقامه؛ فما دخل إلى القصر شئ ولا خرج إلا بمرأى منه ومسمع، ولاحصل أهل القصر بعد ذلك على صفو مشرع. فلما توفي العاضد بطلت تلك القواعد، ووهت المقاعد، وأمر السلطان بالاحتياط على أهله وأولاده في موضع خارج القصر جعله برسمهم على الانفراد، وقرر ما يكون لهم برسم الكسوات والأقوات والأزواد.
قلت: أخبرني أبو الفتوح أنه جعلهم في دار برجوان في الحارة المنسوبة إليه بالقاهرة، وهي دار كبيرة واسعة، كان عيشهم فيها طيبا؛ ثم نقلوا بعد الدولة الصلاحية منها، وأبعدوا عنها.
قال العماد: وهم إلى اليوم في حفظ قراقوش واحتياطه واستظهاره، يكلؤهم ويحرسهم بعين حزمه في ليله ونهاره؛ وجمع الباقين من عمومتهم وعترتهم من القصر في إيوان، واحترز عليهم في ذلك المكان بكل إمكان، وأبعد عنهم النساء لئلا يتناسلوا فيكثروا، وهم إلى الآن محصورون محسورون لم يظهروا، وقد نقص عددهم، وقلص مددهم. ثم عرض من بالقصر من الجواري والعبيد، والعدّة والعديد، والطريف والتليد، فوجد أكثرهن حرائر فأطلقهن، وجمع الباقيات فوهبهن وفرقهن؛ وأخلى دوره، وأغلق قصوره، وسلّط جوده على الموجود، وأبطل الوزن والعد عن الموزون والمعدود، وأخذ كل ما صلح له ولأهله وأمرائه، ولخواص مماليكه وأوليائه، من أخائر الذخائر، وزواهر الجواهر، ونفائس الملابس، ومحاسن العرائس، وقلائد الفرائد، والدّرة اليتيمة، والياقوتة العالية الغالية القيمة، والمصوغات التبريّة، والمصنوعات العنبرية، والأواني الفضية، والصوافي الصينية، والمنسوجات المغربية، والممزوجات الذهبية، والمحوكات النضارية، والكرائم واليتائم، والُعود والتمائم، والعقود والنقود، والمنظوم والمنضود، والمحلول والحبير، والوثير والنثير، والعيني واللجيني، والبسط والفرش، ومالا يعدّ إحصاء، ولايحد استقصاء؛ فوقع فيها الغناء، وكشف عنها الغطاء، وأسرف فيها العطاء؛ وأطلق البيع بعد ذلك في كل حدث وعتيق، ولبيس وسحيق، وبال وأسمال، ورخيص وغال، وكل منقول ومحمول، ومصوغ ومعمول. واستمر البيع فيها مدة عشر سنين، وتنقلت إلى البلاد بأيدي المسافرين الواردين والصادرين.
ونقلت من ديوان العماد بخطه قال. ولما وصل خبر موت العاضد الذي كان بمصر في القصر، موسوماً بالأمر، في ليلة عاشوراء سنة سبع وستين، بعد الخطبة بها للمستضئ بالله أمير المؤمنين، عملت هذه الأبيات. فذكر قصيدة منها:
توفي العاضد الدّعي، فما ... يفتح ذو بدعةٍ بمصر فما
وعصر فرعونها انقضى، وغدا ... يوسُفها في الأمور محتكما
وانطفأت جمرة الغواة، وقد ... باح من الشرك كل ما اضطرما
وصار شمل الصلاح ملتئما ... بها، وعقد السداد منتظما
لما غدا معلنا شعار بني ال ... عَبّاس حقا، والباطل اكتتما
وبات داعي التوحيد منتصرا ... ومن دُعاة الإشراك منتقما
وظلّ أهل الضلال في ظلل ... داجية من غيابة وعمى
وارتبك الجاهلون في ظلم ... لما أضاءت منابر العُلما
وعاد بالمستضئ مجتهدا ... بناءُ حق قد كان منهدما
واعتلت الدولة التي اضطهدت ... وانتصر الدين بعدما اهتضما
واهتز عطف الإسلام من جذل ... وافترّض ثغر الإيمان وابتسما
واستبشرت أوجه الهدى فرحاً ... فليقرع الكُفر سِنّهُ ندما
عاد حريم الأعداء منتهك ال ... حمى، وفئ الطغاة مقتسما
قصور أهل القصور أخربها ... عامر بيت من الكمال سما
أزعج بعد السكون ساكنها ... ومات ذلا وأنفه رُغما
ومن كتاب فاضلي عن السلطان صلاح الدين إلى وزير بغداد على يد الخطيب شمس الدين بن أبي المضاء في بعض السنين: " كتب الخادم هذه الخدمة من مستقره ودين الولاء مشروع، وعلم الجهاد مرفوع، وسؤدد السواد متبوع، وحكم السداد بين الأمة موصوع، وسبب الفساد مقطوع ممنوع. وقد توالت الفتوح غرباً ويمناً وشآما؛ وصارت البلاد بل الدنيا، والشهر بل الدهر، حرماً حراما، وأضحى الدين واحدا بعدما كان أديانا؛ والخلافة إذا ذكر بها أهل الخلاف لم يخروا عليها إلا صُمَّاً وعُميانا؛ والبدعة خاشعة، والجمعة جامعة، والمذلة في شيع الضلال شائعة؛ ذلك بأنهم أتخذوا عباد الله من دونه أولياء، وسموا أعداء الله أصفياء، وتقطعوا أمرهم بينهم شيعا، وفرقوا أمر الأمة وكان مجتمعا، وكذبوا بالنار فعجلت لهم نار الحتوف، ونثرت أقلام الظُّبا حروف رؤسهم نثر الأقلام للحروف، ومزقوا كل ممزق وأخذوا منهم كل مخنق، وقطع دابرهم، ووعظ آيبهم غابرهم، ورغمت أنوفهم ومنابرهم، وحقت عليهم الكلمة تشريدا وقتلا، وتمَّت كلمات رَبِّكَ صِدْقا وَعَدْلاً؛ وليس السيف عمن سواهم من كفار الفرنج بصائم، ولا الليل عن سير إليهم بنائم. ولاخفاء عن المجلس الصاحبي أن من شد عقد خلافة وحلّ عقد خلاف، وقام بدولة وقعد بأخرى قد عجز عنها الأخلاف والأسلاف، فإنه مفتقر إلى أن يُشكر ما نصح، ويُقلَّد مافتح، ويبَّلغ ما أقترح، ويقدم حقه ولا يطرَّح، ويقرب مكانه وإن نزح، وتأتيه التشريفات الشريفة، وتتواصل إليه أمداد التقويات الجليلة اللطيفة، وتُلَّبى دعوته بما أقام من دعوة، وتوصل عروته بما وصل من غزوة، وترفع دونه الحجب المعترضة، وترسل إليه السحب المروضة، فكل ذلك تعود عوائده، وتبدو فوائده، بالدولة التي كشف وجهه لنصرها، وجرد سيفه لرفع منارها، والقيام بأمرها. وقد أتى البيوت من أبوابها، وطلب النجعة من سحابها، ووعد آماله الواثقة بجواب كتابها، وأنهض لإيصال ملطفاته وتنجيز تشريفاته خطيب الخطباء بمصر، وهو الذي اختاره لصعود درجة المنبر، وقام بالأمر قيام من برّ، واستفتح بلباس السواد الأعظم، الذي جمع الله عليه السواد الأعظم، أملا أنه يعود إليه بما يطوي الرجاء فضل عقبه، ويخلد الشرف في عقبه " . ولصاحبنا مجد الدين محمد بن الظهير الإربلي من قصيدة في مدح بعض ذرية السلطان رحمه الله تعالى:
مليك من القوم الذين رماحهم ... دعائم هذا الدين في كل مشهد
هم نصروا التوحيد نصرا مؤزرا ... به عزّ في الآفاق كلّ موحد
وهم قهروا غُلب الفرنج ببأسهم ... فدانوا لهم بالرغم لاعنْ تؤدُّد
وردوا إلى البيت المقدس نُوره ... وقد كان في ليل من الشّرك أسود
وهم سهلوا سبل الحجيج وآمنوا ... بها الركب خوف الكافر المتشدد
وقد ركبت فرسانه بحر أيلة ... يخوضون في بحر من الكيد مُزبد
وهم رجعوا مصراً إلى دعوة الهدى ... بعزمٍ ورأى في العظائم محصد
وهم شيّدوا ركن الخلافة بالذّي ... أعادوه من حقّ طريفٍ ومتلد
وهم شرفوا قدر المنابر باسمها ... وذكر منوط بالرسول محمد
وهم وهبوا عزّ الممالك، واكتفوا ... بسُمر العوالي والعلاء المشيد
فَسَل عن ظُباهم يوم حطين كم مضت ... بمرّ مراد الله في كل أّصيد
وَضّعَّفْ حديث العدل والبأس والندى ... إذا كان عنْ أيامهم غَير مُسند
وقال ابن أبي طيّ الحلبي: قد قدمنا ذكر مكاتبة نور الدين رحمه الله وإلحاحه على صلاح الدين في إقامة الخطبة بمصر للعباسيين وأنه أنفذ إليه أباه الأمير نجم الدين أيوب لأجل ذلك لما كتب الخليفة المستنجد إلى نور الدين في ذلك. ولما ولي ابنه المستضئ أقبل أيضا على مكاتبة نور الدين فيه، وألح نور الدين على صلاح الدين في طلبه، وأفضى به ألمر إلى أنه أتهم صلاح الديم وشنع عليه بسببه، وأكثر القول في ذلك.
ولما قدم الأمير نجم الدين حداه على فعل ذلك فاعتذر إليه بأن أحواله لم تستقر بعد، وأموره مضطربة، وأعداؤه كثيرون، وأن المصريين لهم جماعة كبيرة متفرقة في بلاد مصر من السودان وغيرهم، وأن هذا الأمر إن لم يؤخذ على التدريج وإلاَّ فسدت أحواله. فلما أوقع السلطان الملك الناصر بالسودان والأرمن ونكث أمر المصريين وقطع أخبارهم، وترك أجناده في دورهم، ثم قطع إقطاع العاضد وقبض جميع ماكان بيده من البلاد، واستولى على القصور ووكل بها وبمن فيها قراقوش الخادم، خلت له بلاد مصر من معاند ومنابذ؛ ثم شرع وأبطل من الأذان " حيّ على خير العمل " ، وأنكر على من يتسم بمذهبهم الانتساب إليهم. فلما رأى أموره مواتية، وأعداؤه قليلين شرع حينئذ في الخطبة لبني العباس. ولما عول على ذلك أمر والده الأمير نجم الدين بالنزول إلى الجامع في جماعة من أصحابه وأمراء دولته، وذلك في أول جمعة من السنة، وأمره أن يحضر الخطيب إليه ويأمره بما يختاره. وإنما فعل الملك الناصر ذلك ووكل الأمر إلى غيره استظهارا وخوفا من فادحة ربما طرأت، أوعدو ربما ثار، فيكون هو معتذرا من ذلك.
ولما حصل نجم الدين بالجامع أحضر الخطيب وقال له: إن ذكرت هذا المقيم بالقصر ضربت عنقك. فقال فلمن أخطب؟ قال: للمستضئ العباسي. فلما صعد المنبر وخطب ووصل إلى ذكر العاضد لم يذكر أحداً لكنه دعا للأئمة المهديين وللسلطان الملك الناصر، ونزل، فقيل له في ذلك فقال: ما علمت اسم المستضئ ولانعوته، ولاتقرر معي في ذلك شئ قبل الجمعة، وفي الجمعة الثانية أفعل إن شاء الله ما يجب فعله في تحرير الاسم والألقاب على جاري العادة في مثل ذلك.
قال: وقيل إن العاضد لما اتصل به ما فُعل من قطع اسمه من الخطبة قال لمن خُطب؟ قيل له لم يخطب لأحد مسمى. قال: في الجمعة الأخرى يخطبون لرجل مسمى. واتفق أنه مات قبل الجمعة الثانية. قيل إنه أفكر واستولى عليه الفكر والهم حتى مات. وقيل إنه لما سمع أنه قطعت خطبته اهتم وقام ليدخل إلى داره فعثر وسقط، فأقام متعللاَ خمسة أيام ومات. وقيل إنه امتص فص خاتمه، وكان تحته سم، فمات.
ولما أتصل موته بالملك الناصر قال: لو علمنا أنه يموت في هذه الجمعة ما غصصناه برفع اسمه من الخطبة. فحُكي أن القاضي الفاضل قال للسلطان: لو علم أنكم ما ترفعون اسمه من الخطبة لم يمت؛ أشار إلى أن العاضد قتل نفسه. وكان موته يوم عاشوراء.
قال: وحكى ابن المارستاني في سيرة ابن هبيرة الوزير قال: إن من عجيب ماجرى في أمر المصريين أن رأى إنسان من أهل بغداد في سنة خمس زخمسين وخمسمائة، كأن قمرين أحدهما أنور من الآخر، والأنور منهما مُسامت للقبلة وله لحية سوداء فيها طول، ويهب أدنى نسيم فيحركها، وأثر حركتها وظلها في الأرض؛ وكان الرجل يتعجب من ذلك وكأنه سمع أصوات جماعة يقرؤون بألحان وأصوات لم يسمع قط مثلها، وكأنه سأل بعض من حضر فقال ماهذا، فقالوا قد استبدل الناس بإمامهم. قال وكان الرجل استقبل القبلة وهو يدعو الله أن يجعله إماماً برَّا تقياً، واستيقظ الرجل. وبلغ هذا المنام ابن هبيرة الوزير إذ ذاك ببغداد، فعبر المنام بأن الإمام الذي بمصر يستبدل به وتكون الدعوة لبني العباس لمكان اللحية السوداء، وقوى هذا عنده حتى كاتب نور الدين حين دخل أسد الدين إلى مصر في أول مرة بأنه يظفر بمصر وتكون الخطبة لبني العباس بها على يده.
وقيلت في ذلك الزمان أشعار في هذا، منها قصيدة شمس المعالي أبي الفضائل الحسين ابن محمد بن تركان، وكان حاجب ابن هبيرة، قالها حين سمع تأويله المنام:
لتهنك يامولى الأنام بشارة ... بها سيف دين الله بالحق مرهف
ضربت بها هام الأعادي بهمة ... تقاصر عنها السمهري المثقف
بعثت إلى شرق البلاد وغربها ... بعوثا من الآراء تحيي وتتلف
فقامت مقام السيف والسيف قاطر ... ونابت مناب الرمح والرمح يرعف
وقدت لها جيشا من الروع هائلا ... إلى كل قلب من عداتك يزحف
ملكت به أقصى المغارب عنوة ... وكادت بمن فيها المشارق ترجف
ليهنك يامولاي فتحا تتابعت ... إليك به حوص الركائب توجف
أخذت به مصرا وقد حال دونها ... من الشرك ناس في لهي الحق تقذف
وقد دنست منها المنابر عصبة ... يعاف التقي والدين منهم ويأنف
فطهرّها من كل شرك وبدعة ... أغر غرير بالمكارم يشغف
فعادت بحمد الله باسم إمامنا ... تتيه على كل البلاد وتشرف
ولاغرو أن دانت ليوسف مصره ... وكانت إلى عليائه تتشوف
تملكها من قبضة الكفر يوسف ... وخلصها من عصبة الرفض يوسف
قال يحيى بن أبي طيّ: يريد بيوسف الأول يوسف الصديق النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويوسف الثاني المستنجد بالله الخليفة يومئذ، وقاله على سبيل الفأل؛ ألا تراه قال بعد هذا البيت:
فشابهته خلقا وخلقا وعفة ... وكل عن الرحمن في الأرض يخلف
وجرى الفأل في البيت باسم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب لأن المستنجد مات قبل تغيير الخطبة لبني العباس، وهذا من عجيب الاتفاق.
قلت: وذكر ابن المارستاني في السيرة المذكورة قال: وكان هذا المنام سببا إلى أن كاتب الوزير ابن هبيرة نور الدين بن زنكي يحثه على التعرض لمصر والبعث إليها؛ واتفق في اثناء ذلك نوبة شاور وزير صاحب القصر وقدومه هارباً منه إلى نور الدين، فحرك ذلك ماكان تخمر في نفسه مما كان كاتبه به ابن هبيرة، فاستطلع من شاور الأسباب التي يمكن بها الدخول على المصريين، فشرحها وأوضحها، فسير إليها أسد الدين، كما سبق ذكره.
قال: ولما قطعت خطبة العاضد استطال أهل السنة على الإسماعيلية وتتبعوهم وأذلوهم، وصاروا لايقدرون على الظهور من دورهم، وإذا وجد أحد من الأتراك مصريا أخذ ثيابه، وعظمت الأذية بذلك؛ وجلا أكثر أهل مصر عنها إلى البلاد، وفرح الناس بذلك، وكتبت الكتب به إلى الأقطار وتحدث به السُّمار.
ولما وصل خبر ذلك إلى نور الدين ندب للبشارة إلى بغداد شهاب الدين أبا المعالي المطّهر بن أبي عصرون، وكتب معه نسخة بشارة تقرأ بكل مدينة يمر بها يقول فيها: " اصدرنا هذه المكاتبة إلى جميع البلاد الإسلامية عامة بما فتح الله على أيدينا رتاجه، وأوضح لنا منهاجه، وهو ما اعتمدنا من إقامة الدعوة الهادية العباسية، بجميع المدن والبلاد والأقطار والأمصار المصرية والإسكندرية، ومصر والقاهرة، وسائر الأطراف الدانية والقاصية والبادية والحاضرة؛ وانتهت إلى القريب والبعيد، وإلى قوص وأسوان بأقصى الصعيد؛ وهذا شرف لزماننا هذا وأهله، نفتخر به على الأزمنة التي مضت من قبله. وما برحت هممنا إلى مصر مصروفة، وعلى افتتاحها موقوفة، وعزائمنا في إقامة الدعوة الهادية بها ماضية، والأقدار في الأزل بقضاء آرائنا وإنجاز مواعدنا قاضية، حتى ظفرنا بها بعد يأس الملوك منها، وقدرنا عليها وقد عجزوا عنها. وطالما مرت عليها الحقب الخوالي، وآبت دونها الأيام والليالي، وبقيت مائتين وثمانين سنة ممنوَّة بدعوة المبطلين، مملوَّة بحزب الشياطين، سابغة ظلالعا للضلال، مقفرة المحل إلا من المحال، مفتقرة إلى نصرة من الله تملكها، ونظرة ستدركها، رافعة يدها في أشكائها، متظلمة إليه ليتكفل بإعدائها على أعدائها، حتى أذن الله لغُمتها بالانفراج، ولعلتها بالعلاج؛ وسبَّب قصد الفرنج لها، وتوجُّههم إليها طمعا في الاستلاء عليها. واجتمع داءان: الكفر والبدعة، وكلاهما شديد الروعة، فملكنا الله تلك البلاد، ومكنّ لنا في الأرض، وأقدرنا على ماكنا نؤملّه في إزالة الإلحاد والرفض، ومن إقامة الفرض، وتقدمنا إلى من استنَبنْاه أن يستفتح باب السعادة، ويستنجح مالنا من الإرادة، ويقيم الدعوة الهادية العباسية هنالك، ويورد الأدعياء ودعاة الإلحاد بها المهالك " .
وهو كتاب طويل اختصرت منه الغرض وهو هذا.
قال: وسار شهاب الدين بن أبي عصرون إلى جهة بغداد ولم يترك مدينة إلا دخلها بهذه البشارة الجليلة القدر، وقرأ فيها هذا المنشور العظيم الخطر والذكر، حتى وصل إلى بغداد، فخرج الموكب إلى تلقيه وجميع أهل بغداد، مكرمين لخطير وروده، معظمين لجليل موروده. ونثرت عليه دنانير الإنعام، وحُبى بكل إحسان وإكرام، وأرسلت التشريفات إلى نور الدين وصلاح الدين، كما سيأتي ذكره.
وقال العماد: كان صلاح الدين لايخرج عن أمر نور الدين، ويعمل له عمل القوى الأمين، ويرجع في جميع مصالحه إلى رأيه المتين. وقد كان كاتبه نور الدين في شوال سنة ست وستين بتغيير الخطبة، وتذليل أمورها هذه الصعبة، وافتراع بكر هذه القصبة، وفرع الرتبة؛ وأيقن أن أمره متبوع، وقوله مسموع، وحكمه مشروع، ونطقت بذلك قبل التمام، ألسُن الخواص والعوام، فسيَّر نور الدين شهاب الدين أبا المعالي المطهر، ابن الشيخ شرف الدين بن أبي عصرون، بهذه البشارة، وإشاعة ما تقدم له بها من الإشاعة، وأمرني بإنشاء بشارة عامة تقرأ في سائر بلاد الإسلام، وبشارة خاصة للديوان العزيز بحضرة الإمام، في مدينة السلام - ثم ذكر نسخة الكتابين.
ثم قال: ونظمت قصيدة مشتملة على الخطبة بمصر أولها:
قد خطبنا للمستضئ بمصر ... نائب المصطفى إمام العصر
وخذلنا لنصرة العضد العا ... ضدَ والقاصر الذي بالقصر
أراد بالعضد وزير بغداد عضد الدين بن رئيس الرؤساء.
قال العماد في كتاب الخريدة: قصدت بالعضد والعاضد المجانسة، ونصرة وزير الخليفة كنصرته. ثم قال:
وأشعْنا بها شعار بني العبّ ... اس، فاستبشرت وجوه النصر
وتركنا الدَّعي يدعو ثبورا ... وهو بالذل تحت حجر وحصر
وتباهت منابر الدين بالخط ... بة للهاشمي في أرض مصر
ولدينا تضاعفت نعم الل ... ه، وجلّت عن كل عدّ وحصر
فاغتدى الدين ثابت الرّكن في مص ... ر، محوط الحمى، مصون الثغر
واستنارت عزائم الملك العا ... دل نور الدين الكريم الأغر
وبنو الأصفر القوامص منه ... بوجوه من المخافة صُفر
عرف الحقَّ أهل مصر، وكانوا ... قبله بين منكر ومقر
قل لداعي الدعيّ: حسبك، فالل ... ه أقرّ الحقوق خير مقر
هو فتح بكر، و دون البرايا ... خصنا الله بافتراع البكر
وحصلنا بالحمد، والأجر، والنص ... ر، وطيب الثنا، وحسن الذكر
ونشرنا أعلامنا السود قهرا ... للعدا الزّرْق بالمنايا الحمر
واستعدنا من أدعياء حقوقا ... تدعيّ بينهم لزيد وعمرو
والذي يدعي الإمامة بالقا ... هرة انحط في حضيض القهر
خانه الدهر في مناه، ولا يط ... مع ذو اللب في وفاء الدهر
ما يقام الإمام إلا بحق ... ما تحاز الحسناء إلا بمهر
خلفاء الهدى سراة بني ... العباس والطيبون أهل الطهر
بهمُ الدين ظافر، مستقيم ... ظاهر قوة، قوى الظهر
كشموس الضحى، كمثل بدور الت ... مِّ، كالسحب، كالنجوم الزهر
قد بلغنا بالصبر كل مراد ... وبلوغ المراد عقبى الصبر
ليس مُثرى الرجال من مَلَك الما ... ل، ولكنما أخو اللب مثرى
ولهذا لم ينتفع صاحب القص ... ر، وقد شارف الدثور، بدثر
دام نصر الهدى بملك بني العب ... اس حتى يقوم يوم الحشر
قال العماد في ديوانه، ونقلته من خطه، قال: ووصل الخبر بأن الخطبة قامت في الإسكندرية يوم الجمعة سابع شهر رمضان، وفي مصر والقاهرة يوم الجمعة ثامن عشري شهر رمضان لمولانا الإمام المستضئ بأمر الله أمير المؤمنين، وإقامة شعار بني العباس بها. فقلت، ونحن نزول بجسر الخشب من دمشق في عاشر شوال، وكتبت بها إلى بغداد - فذكر هذه القصيدة.
وقال في البرق: ووصل من دار الخلافة في جواب هذه البشارة عماد الدّين صندل وهو من أكابر الخدم المقتفوية، من ذوي الروية والهمَّة القوية. وتولى أستاذية الدار العزيزة بعد عزل كمال الدين بن عضد الدين عنها، فأكرم نور الدين بإرسال مثله إليه، وعول في هذا الأمر المهم عليه. وهو أكرم رسول وصل، فأنجح الأمل، وجاء بالتشريف الشريف لنور الدين مكملا، معظما مجملا، بأهبته السوداء العراقية، وحلله الموشية، وطوقه الثقيل، ولوائه الجليل.
وعين يوم يحضر فيه الرسول، ونصوا على من يحضر في مجلس نور الدين وأغفلوا ذكر العماد، فطلبه نور الدين لما حضروا، وقام لقيام الرسل له لما حضر، وقصد أن يعرفهم منزلته عنده، وناوله الكتاب ليقرأه. قال: فتناوله منى الموفق بن القيسراني خالد، وكان عنده في مقام الوزير وله انبساط زائد، فداريته وماريته، وتركته يقرأ وأنا أرد عليه، وأرشده في التلاوة إلى ما لايهتدي إليه، حتى أنهاه، وأنا على افتياته عليّ لا أنهاه. فأعجب نور الدين صمتي وسمتي، وأحمد مني فضل التأني والتأتي. واجتاب الأهبة ولبس الفرجية فوقها، وتقلد مع تقلد السيفين طوقها؛ وخرج وركب من داخل القلعة، وهو حالٍ بما عليه من الخلعة؛ واللواء منشور، والنضار منثور، والمركبان الشريفان أحدها مركوبه، والآخر بحليته مجنوبه.
قال: وسألت عن معنى تقليده السيفين، واشتماله بالنجادين، فقيل لي هما للشام ومصر، والجمع له بين البلدين.
وخرج إلى ظاهر دمشق حتى انتهى إلى منتهى الميدان الأخضر ثم عاد شريف المفخر، جميل المنظر، حميد المخبر، سعيد المورد والمصدر، لبيقاً بالأعظمين السرير والمنبر. وكان وزن الطوق مع أكرته ألف دينار من الذهب الأحمر. وحملوا لصلاح الدين تشريفاً فاضلاً فائقاً، رائعا رائقاً، لجماله وكماله لائقاً؛ لكن تشريف نور الدين أميز وأفضل، وأجمل وأكمل؛ فسير تشريفه برمته إليه بمصر ليحتاجه، وسير أيضا بخلع من عنده يكرم بها أصحابه. ووصلت تلك الخلعة إليه ولبسها، وأنس من السعادة الدائمة قبسها؛ وطاف بها في الحادي والعشرين من رجب. وهي أول أهبة عباسية دخلت الديار المصرية؛ يعني بعد استيلاء بني عبيد عليها.
قال: وكانت وصلت مع الرسل أعلام وبنود، ورايات سود، وأُهب عباسية، للخطباء في الديار المصرية، فسيُرّت إلى صلاح الدين ففرقها على المساجد والجوامع والخطباء والقضاة والعلماء؛ والحمد لله على ما أنعم وأولى، ووهب وأعطى.
قال ابن أبي طيّ: ولما فرغ السلطان من أمر الخطبة أمر بالقبض على القصور وجميع ما فيها من مال وذخائر وفرش وسلاح وغير ذلك، فلم يوجد من المال كبير أمر، لأن شاور كان قد ضيّعه في إعطائه الفرنج في المرات التي قدمنا ذكرها، ووجد فيها ذخائر جليلة من ملابس وفرش وخيول وخيام وكتب وجواهر. ومن عجيب ما وجد فيه: قضيب زمرد طوله شبر وكَسْر، قطعة واحدة، وكان سمت حجمه مقدار الإبهام، ووجد فيه طبل للقولنج، ووجد فيه إبريق عظيم من الحجر المانع، ووجد فيه سبعمائة يتيمة من الجوهر. فأما قضيب الزمرد فإن السلطان أخذه وأحضر صانعاً ليقطعه، فأبى الصانع قطعه، فرماه السلطان فانقطع ثلاث قطع، وفرَّقه السُّلطان على نسائه. وأما طبل القولنج: فإنه وقع إلى بعض الأكراد فلم يَدْر ما هو فكسره، لأنه ضرب به فحبق. وأما الأبريق فأنفذه السلطان إلى بغداد.
واحتاط السلطان على أهل العاضد وأولاده في موضع خارج القصر جعله برسمهم على الانفراد، وقرر لهم ما يكفيهم، وجعل أمرهم إلى قراقوش الخادم، وفرّق بين النساء والرجال ليكون ذلك أسرع إلى انقراضهم. واستعرض من بالقصر من الجواري والعبيد، والعدّة والعديد، والطرّيف والتليد، فأطلق مَنْ كان منهم حرا، وأعتق من رأى إعتاقه، ووهب من أراد هبته. وفرق على الأمراء والأصحاب من نفائس القصر وذخائره شيئاً كثيرا، وحصل هو على اليتيمات وقطع البلخش والياقوت وقضيب الزمرد، وأطلق البيع بعد ذلك في كل جديد وعتيق، فأقام البيع في القصر مدّة عشر سنين.
قال: ومن جملة ما باعوا: خزانة الكتب، وكانت من عجائب الدنيا لأنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم من الدار التي بالقاهرة في القصر. ومن عجائبها: أنه كان بها ألف ومائتان وعشرون نسخة من تاريخ الطبري، ويقال إنها كانت تحتوى على ألفي ألف وستمائة ألف كتاب، وكان فيها من الخطوط المنسوبة اشياء كثيرة. وحصل للقاضي الفاضل قدر منها كبير حيث شغف بحبها؛ وذلك أنه دخل إليها واعتبرها، فكلّ كتاب صلح له قطع جلده ورماه في بركة كانت هناك، فلما فرغ الناس من شراء الكتب اشترى تلك الكتب التي ألقاها في البركة على أنها محرومات ثم جمعها بعد ذلك، ومنها حصل ما حصّل من الكتب، كذا أخبرني جماعة من المصريين منهم الأمير شمس الخلافة موسى بن محمد.
واقتسم الناس بعد ذلك دور القصر، وأعطى السلطان القصر الشمالي للأمراء فسكنوه وأسكن أباه نجم الدين في اللؤلؤة، وهو قصر عظيم على الخليج الذي فيه البستان الكافوري؛ ونقل الملك العادل إلى مكانه آخر منه، وأخذ باقي الأمراء دور من كان ينتمي إليهم، وزاد الأمر حتى صار كل من استحسن داراً أخرج منها صاحبها وسكنها. وانقضت تلك الدولة برمتها، وذهبت تلك الأيام بجملتها، بعد أن كانوا قد احتووا على البلاد، واستخدموا العباد، مائتين وثمانين سنة وكسورا.
قال: وحكى أن الشريف الجليس وهو رجل كان قريباً من العاضد يجلس معه ويحدثه، عمل دعوة لشمس الدولة بن أيوب أخي السلطان بعد القبض على القصور وأخذ ما فيها وانقراض دولتهم، وغرم هذا الشريف على هذه الدعوة مالا كثيراً، وأحضرها أيضاً جماعة من أكابر الأمراء. فلما جلسوا على الطعام قال شمس الدولة لهذا الشريف: حدّثني بأعجب ما شاهدته من أمر القوم. قال: نعم. طلبني العاضد يوماً وجماعة من الندماء، فلما دخلنا عليه وجدنا عنده مملوكين من الترك عليهم أقبية مثلر أقبيتكم وقلانس كقلانسكم وفي أوساطهم مناطق كمناطقكم، فقلنا له: ياأمير المؤمنين، ما هذا الزي الذي ما رأيناه قط؟ فقال: هذه هيئة الذين يملكون ديارنا ويأخذون أموالنا وذخائرنا.
قال العماد: وأخذت ذخائر القصر، فقصها كما سبق. ثم قال: ومن جملتها الكتب فإني أخذت منها جملة في سنة اثنتين وسبعين، وكانت خزائنها مشتملة على قريب مائة وعشرين ألف مجلدة، مؤيدة من العهد القديم مخلدة، وفيها بالخطوط المنسوبة ما اختطفته الأيدي، واقتطعه التعديّ؛ وكانت كالميراث مع أمناء الأيتام، يتصرف فيها بشره الانتهاب والالتهام، ونقلت منها ثمانية أحمال إلى الشام. وتقاسم الخواص بِدُور القصر وقُصوره، وشرع كل من سكن في تخريب معموره؛ وانتقل إليه الملك العادل سيف الدين لما ناب عن أخيه، واستمرت سكناه فيه؛ وخطب لإمامنا المستضئ في قوص وأسوان والصعيد، والقاصي والداني والقريب والبعيد. وشاعت البشائر، وذاعت المفاخر، وسار بها البادي والحاضر؛ وتملك السلطان أملاك أشياعهم، وضرب الألواح على دورهم ورباعهم، ثم ملكها أمراءه، وخص بها أولياءه؛ وباع أماكن، ووهب مساكن، وعفّى الآثار القديمة، واستأنف السنن الكريمة.
وقال ابن الأثير: لما استولى صلاح الدين على القصر وأمواله وذخائره اختار منه ماا{اد ووهب أهله وأمراءه وباع منه كثيرا؛ وكان فيه من الجواهر والأعلاق النفيسة مالم يكن عند ملك من الملوك، قد جمع على طول السنين وممر الدهور، فمنه القضيب الزمرد طوله نحو قبضة ونصف، والحبل الياقوت، وغيرهما؛ ومن الكتب المنتخبة بالخطوط المنسوبة والخطوط الجيدة نحو مائة ألف مجلد.
فصلولما خطب بالديار المصرية لبني العباس ومات العاضد انقرضت تلك الدولة، وزالت عن الإسلام بمصر بانقراضها الذلة. واستولى على مصر صلاح الدّين وأهله ونوابه، وكلُّهم من قَبِل نور الدين رحمه الله، هم أمراؤه وخدمه وأصحابه. وفيهم يقُول العرقلة:
أصبح الملك بعد آل عليّ ... مشرقا بالملوك من آل شاذي
وغدا الشرق يحسد الغرب للقو ... م، ومصرُ تزهو على بغداذ
ما حوَوْها إلا بحزم وعزم ... وصليل الفولاذ في الفولاذ
لا كفرعون والعزيز ومن كا ... ن بها كالخصيب والأستاذ
يعني بالأستاذ كافور الإخشيد. وقوله: بعد آل علي، يعني بذلك بني عبيد المستخلفين بها، أظهروا للناس أنهم شرفاء فاطميون، فملكوا البلاد، وقهروا العباد. وقد ذكر جماعة من أكابر العلماء أنهم لم يكونوا لذلك أهلا ولا نسبهم صحيحا، بل المعروف أنهم بنو عبيد.
وكان والد عبيد هذا من نسل القداح الملحد المجوسي، وقيل كان والد عبيد هذا يهودياً من أهل سَلَمْية من بلاد الشام، وكان حدادا؛ وعبيد هذا كان اسمه سعيداً، فلما دخل المغرب تسمى بعبيد الله، وزعم أنه علويّ فاطميّ، وادعى نسباً ليس بصحيح، لم يذكره أحد من مصنفي الأنساب العلوية، بل ذكر جماعة من العلماء بالنسب خلافه، وهو ما قدمنا ذكره. ثم ترقت به الحال إلى أن ملك وتسمى بالمهدي، وبني المهدية بالمغرب ونسبت إليه. وكان زنديقاً خبيثاً عدوًّا للإسلام، متظاهراً بالتشيع متستراً به، حريصاً على إزالة الملّة الإسلامية؛ قتل من الفقهاء والمحدثين والصالحين جماعة كثيرة، وكان قصده إعدامهم من الوجود، لتبقى العالم كالبهائم، فيتمكن من إفساد عقائدهم وضلالتهم، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون. ونشأت ذريّته على ذلك منطوين، يجهرون به إذا أمكنتهم الفرصة وإلا أسرُّوه، والدعاة لهم منبثون في البلاد، يضلون من أمكنهم إضلاله من العباد. وبقي هذا البلاء على الإسلام من أول دولتهم إلى آخرها، وذلك من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين إلى سنة سبع وستين وخمسمائة.
وفي أيامهم كثرت الرّافضة واستحكم أمرهم، ووضعت المكوس على الناس واقتدى بهم غيرهم، وأفسدت عقائد طوائف من أهل الجبال الساكنين بثغور الشام كالنصيرية والدَّرَزْيّة؛ والحشيشية نوع منهم. وتمكن دعاتهم منهم لضعف عقولهم وجهلهم مالم يتمكنوا من غيرهم. وأخذت الفرنج أكثر البلاد بالشام والجزيرة، إلى أن منَّ الله على المسلمين بظهور البيت الأتابكي وتقدمه مثل صلاح الدين، فاستردّوا البلاد، وأزالوا هذه الدولة عن رقاب العباد.
وكانوا أربعة عشر مستخلفاً، ثلاثة منهم بإفريقية، وهم الملقبون بالمهدي والقائم والمنصور، وأحد عشر بمصر وهم الملقبون بالمعزّ، والعزيز، والحاكم، والظاهر، والمستنصر، والمستعلي، والآمر، والحافظ، والفائز، والعاضد؛ يدعون الشرف ونسبتهم إلى مجوسي أو يهودي، حتى أشتهر لهم ذلك بين العوام فصاروا يقولون الدولة الفاطمية والدولة العلوية، وإنما هي الدَّولة اليهودية أو المجوسية الباطنية الملحدة. ومن قحتهم أنهم كانوا يأمرون الخطباء بذلك على المنابر، ويكتبونه على جدران المساجد وغيرها.
وخطب عبدهم جوهر، الذي أخذ لهم الديار المصرية وبنى لهم القاهرة المعزية، بنفسه خطبة طويلة قال فيها: " اللهم صلّ على عبدك ووليك، ثمرة النبوة وسليل العترة الهادية المهدية، معدّ أبي تميم الإمام المعز لدين الله أمير المؤمنين، كما صليت على آبائه الطاهرين، وسلفه المنتخبين الأئمة الراشدين " .
كذب عدوّ الله اللعين، فلا خير فيه ولا في سلفه أجمعين، ولا في ذريته الباقين، والعترة النبوية الطاهرة منهم بمعزل، رحمة الله عليهم وعلى أمثالهم من الصدر الأول.
وقد بيّن نسبهم هذا، وأوضح محالهم وماكانوا عليه من التمويه وعداوة الإسلام جماعة من سلف من الأئمة والعلماء، وكل متورع منهم لايسميهم إلا بني عبيد الأدعياء، أي يدعوّن من النسب بما ليس لهم. ورحمة الله على القاضي أبي بكر محمد بن الطيب، فإنه كشف في أول كتابه، المسمى بكشف أسرار الباطنية، عن بطلان نسب هؤلاء إلى علي رضي الله عنه، وأن القدّاح الذي انتسبوا إليه دَعيُّ من الأدعيتء، ممخرق كذاب، وهو أَضَلَّ دعاة القرامطة لعنهم الله.
وأما القاضي عبد الجبار البصري، فإنه استقصى الكلام في أصولها وبينها بياناً شافياً في آخر كتاب تثبيت النبوة له. وقد نقلت كلامهما في ذلك وكلام غيرهما في مختصر تاريخ دمشق في ترجمة عبد الرحيم بن إلياس، وهو من تلك الطائفة الذين هم بئس الناس. وهذان إمامان كبيران من أئمة أصول دين الإسلام.
وأظهر عبد الجبار القاضي في كتابه بعض ما فعلوه من المنكرات والكفريات التي يقف الشَّعر عند سماعها، ولكن لابد من ذكر شئ من ذلك تنفيرا لِمَن لعله يعتقد إمامتهم، وخفي عنه محالهم، ولم يعلم قحتهم ومكابرتهم، وليعذر من أزال دولتهم، وأمات بدعتهم، وقلل عدّتهم، وأفنى أمتهم، وأطفأ جمرتهم.
ذكر عبد الجبار القاضي أن الملقب بالمهدي، لعنه الله، كان يتخذ الجهال ويسلطهم على أهل الفضل؛ وكان يرسل إلى الفقهاء والعلماء فيذبحون في فرُشهم؛ وأرسل إلى الروم وسلطهم على المسلمين؛ وأكثر من الجور واستصفاء الأموال وقتل الرجال. وكان له دعاة يضلون الناس على قدر طبقاتهم، فيقولون لبعضهم: " هو المهدي ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجة الله على خلقه " . ويقولون: " هو رسول الله، صلى الله عليه وسلم وحجة الله " . ويقولون لطائفة أُخرى: " هو الله الخالق الرازق. لاإله إلا الله وحده لاشريك له " تبارك سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا " .
ولما هلك قام ابنه المسمى بالقائم مقامه، وزاد شرّه على شر أبيه أضعافاً مضاعفة، وجاهر بشتم الأنبياء، فكان ينادي في أسواق المهدية وغيرها: " ألعنوا عائشة وبَعْلَها، ألعنوا الغار ومن حوى " . اللهم صل على نبيك وأصحابه وأزواجه الطاهرين، والعن هؤلاء الكفرة الملحدين، وارحم من أزالهم وكان سبب قلعهم، ومن جرى على يديه تفريق جمعهم؛ وأصلهم سعيراً، ولَقِّهم ثبوراً، وأسكنهم النار جميعا، واجعلهم ممن قلت فيهم: (الَّذين ضَلّض سَعْيُهم في الحَيْاة الدُّنيا وَهُمْ يَحْسَبون أَنَّهم يُحْسِنُون صُنعاً).
وبعث إلى أبي طاهر القرمطي المقيم بالبحرين، وحثه على قتل المسلمين وإحراق المساجد والمصاحف.
وقام بعده ابنه المسمى بالمنصور فقتل أبا يزيد مخلداً الذي خرج على أبيه ينكر عليه قبيح فعله المقدم ذكره، وسلخه وصلبه، واشتغل بأهل الجبال يقتلهم ويشردهم، خوفاً من أن يثور عليه ثائر مثل أبي يزيد.
وقام بعده ابنه ىالملقب بالمعز، فبعث دعاته فكانوا يقولون: هو المهدي الذي يملك الأرض، وهو الشمس التي تطلع من مغربها. وكان يسره ما ينزل بالمسلمين من المصائب من أخذ الروّم بلادهم، واحتجب عن الناس أياماُ ثم ظهر وأوْهم أن الله رفعه إليه، وأنه كان غائباً في السماء، وأخبر الناس بأشياء صدرت منهم كان ينقلها إليه جواسيس له، فأمتلأت قلوب العامة والجهال منه. وهذا أول خلفائهم بمصر، وهو الذي تنسب إليه القاهرة المعزيّة. واستدعى بفقيه الشام أبي بكر محمد بن أحمد بن سهل الرّملي، ويعرف بابن النابلسي؛ فحمُل إليه في قفص خشب، فأمر بسلخه، فسلخ حيا، وحشى جلده تبنا وصلب، رحمه الله تعالى. قال أبو ذر الهروي سمعت أبا الحسن الدار قطني يذكره ويبكي، ويقول: كان يقول وهو يسلخ: (كَاَنَ ذَلِكَ فِي الكِتِابِ مَسْطُوراً).
قلت: وفي أيام الملقب بالحاكم منهم أمر بكتب سبّ الصحابة رضي الله عنهم على حيطان الجوامع، والقياسر والشوارع، والطرقات؛ وكتب السجلات إلى سائر الأعمال بالسبّ، ثم أمر بقلع ذلك؛ وأنا رأيته مقلوعاً في بعض أبواب دمشق في الأمكنة العليا منقوراً في الحجر، ودلّني أول الكلام وآخره على ذلك، ثم جدّد ذلك الباب وأزيل الحجر. وفي أيامه طُوّف بدمشق برجل مغربي ونودي عليه؛ هذا جزاء من يحبّ أبا بكر وعمر، ثم ضربت عنقه. وكان يجري في أيامهم من نحو هذا أشياء مثل قطع لسان أبي القاسم الواسطي، أحد الصالحين، وكان أَذّن ببيت المقدس وقال في أذانه " حيّ على الفلاح " فأُخذ وقطع لسانه. ذكر ذلك وما قبله من قتل المغربي وأبي بكر النابلسي الحافظُ أبو القاسم في تاريخه. وما كانت ولاية هؤلاء الملاعين إلا محنة من الله تعالى، ولهذا طالت مدتهم مع قلة عِدتهم، فإن عدتهم عدة خلفاء بني أمية أربعة عشر، وأولئك بقوا نيّفاً وتسعين سنة وهؤلاء بقوا مائتي سنة وثمانياً وستين سنة؛ فالحمد لله على ما تيسر من هُلكهم وإبادة ملكهم، ورضي الله عمن سعى في ذلك وأزالهم، ورِحم مَنْ بيّن مَخْرقتهم، وكذبهم ومحِالهم.
وقد كشف أيضاً حالهم الإمام أبو القاسم عبد الرَّحمن بن علي بن نصر الشاشي في كتاب الرَّدِّ على الباطنية، وذكر قبائح ما كانوا عليه من الكفر والمنكرات والفواحش في أيام نزار وما بعده. ووصل الأمر إلى أن وصف بعضهم ما كانوا في قصيدة سماها: الإيضاح عن دعوة القدّاح، أوَّلها:
حيَّ على مصر إلى خلع الرَّسَنْ ... فثمَّ تعطيل فروض وسنن
وقال لو وُفّق ملوك الإسلام لصرفوا أعنة الخيل إلى مصر لغزو الباطنية الملاعين، فإنهم من شر أعداء دين الإسلام، وقد خرجت من حد المنافقين إلى حدّ المجاهرين، لما ظهر في ممالك الإسلام من كفرها وفسادها، وتعيّن على الكافة فرض جهادها. وضرر هؤلاء أشد على الإسلام وأهله من ضرر الكفار؛ إذ لم يقم بجهادها أحد إلى هذه الغاية، مع العلم بعظيم ضررها وفسادها في الأرض.
قلت: ثم إنيّ لم يقنعني هذا من بيان أحوالهم، فأفردت كتاباً لذلك سميته كشف ما كان عليه بنو عبيد، من الكفر والكذب والمكر والكيد، فمن أراد الوقوف على تفاصيل أحوالهم فعليه به، فإني بتوفيق الله تعالى جمعت فيه ماذكره هؤلاء الأئمة المصنفون وغيرهم. ووقفت على كتاب كبير صنفه الشريف الهاشمي رحمه الله، وكان في أيام الملقب بالعزيز ثاني خلفاء مصر، فبين فيه أصولهم أتم بيان، وأوضح كيفية ظهورهم وغلبتهم على البلاد، وتتبع ذكر فضائحهم وما كان يصدر منهم من أنواع الزندقة والفسق والمخرقة، فنقلت منه إلى ما كنت جمعته قطعة كبيرة، وبالله التوفيق.
وما أحسن ماقال فيهم بعض من مدح بني أيوب بقصيدة منها:
ألَسْتم مزيلي دولة الكفر من بني ... عبيد بمصر، إن هذا هو الفضل
زنادقة، شيعية، باطنية ... مجوسُ، ومافي الصالحين لهم أصل
يُسِرُّون كفراً، يظهرون تشيَّعاً ... ليستتروا شيئاً، وعمهّم الجهل
أما مافعله هؤلاء من الانتساب إلى عليّ رضوان الله عليه والتستر بالتشيع فقد فعله جماعة القرامطة، وصاحب الزنج الخارج بالبصرة، وغيرهم من المفسدين في الأرض على ماعرف مِنْ سيرهم من وقف على أخبار الناس، وكلهم كذبة في ذلك وإنما غرضهم التقرب إلى العوام والجهال، واستتباعهم لهم، واستجلابهم إلى دعوتهم بذلك البلاء، ويفعل الله مايشاء. ولايغُتر بأبيات الشريف الرضي في ذلك، فقد حصل الجواب عنها في كتاب الكشف بوجوه حسنة، وبالله التوفيق.
وقد صنف الشريف العابد الدمشقي، رحمه الله، كتاباً في إبطال نسبهم إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وفصل ذلك تفصيلا حسناً، وأطنب في ذكر أخبار إخوانهم من القرامطة، لعنهم الله تعالى.
فصل في ذكر غزو الفرنج في هذه السنةقال ابن شداد: واستمرت القواعد على الاستقامة، وصلاح الدين كلما استولى على خزانة مال وهبها، وكلما فتح له خزائن ملك أنهبها، ولايُبقى لنفسه شيئاً. وشرع في التأهب للغزاة، وقصد بلاد العدو، وتعبئة الأمر لذلك، وتقرير قواعده.
وأما نور الدين فإنه عزم على الغزاة، واستدعى صاحب الموصل ابن أخيه، فوصل بالعساكر إلى خدمته. وكانت غزوة عرقة فأخذها نور الدين ومعه ابن أخيه في المحرم سنة سبع وستين.
وقال ابن أبي طي: جمع نور الدين عساكره وخرج إلى عرقة ونازلها، وقاتلها، أياماً حتى فتحها، واحتوى على جميع مافيها، وغنم الناس غنيمة عظيمة.
قال ابن الأثير: خرجت مراكب من مصر إلى الشام فأخذ الفرنج في اللاذقية مركبين منها مملوءتين من الأمتعة والتجار، وغدروا بالمسلمين، وكان نور الدين قد هادنهم فنكثوا. فلما سمع نور الدين الخبر استعظمه، وراسل الفرنج في ذلك، وأمرهم بإعادة ماأخذوه، فغالطوه، واحتجوا بأمور منها: أن المركبين كانا قد دخلهما ماء البحر لكسر فيهما؛ وكانت العادة بينهم أخذ كل مركب يدخله الماء، وكانوا كاذبين، فلم يقبل مغالطتهم. وكان رضي الله عنه لايهمل أمراً من أمور رعيته؛ فلم يردوا شيئاً، فجمع العساكر من الشام والموصل والجزيرة، وبث السرايا في بلادهم، بعضهم نحو أنطاكية، وبعضهم نحو طرابلس، وحصر هو حصن عرقة وأخرب ربضه، وأرسل طائفة من العسكر إلى حصني صافيثا والعريمة، فأخذهما عنوة وكذلك غيرهما؛ ونهب وخرّب، وغنم المسلمون الكثير، وعادوا إليه وهو بعرقة فسار في العساكر جميعها إلى قريب طربلس يخرب ويحرق وينهب. وأما الذين ساروا إلى أنطاكية فإنهم فعلوا في ولايتها مثل ما فعل من النهب والتحريق والتخريب بولاية طرابلس، فراسله الفرنج وبذلوا إعادة ما أخذوه من المركبين، ويحدد معهم الهدنة؛ فأجابهم. وكانوا في ذلك كما يقال: اليهودي لايعطي الجزية حتى يُلطم، فكذلك الفرنج ما أعادوا أموال التجار بالتي هي أحسن، فلمّا نُهبت بلادهم وخربت أعادوها.
قال: وكان لوالدي في المركبين تجارة مع شخصين، فلما أعادوا إلى الناس أموالهم لم يصل إلى كل إنسان إلا اليسير. وكان يُحمل المتاع فكل من كان اسمه عليه أو على ثوب أخذه. وكان في الناس من يأخذ ماليس له، وكان أحد هذين المضاربين فيه أمانة، وكان نصرانياً، فلم يأخذ إلا ما عليه اسمه وعلامته، فذهب من ماله ومالنا شئ كثير بهذا السبب. وكان الذي حصل من مالنا أكثر من الذي حصل له، فلما عاد إلينا سلّم الذي لنا إلى والدي، فامتنع من أخذه وقال: خذ أنت الجميع فإنك أحوج إليه وأنا في غنى عنه؛ فلم يفعل؛ فقال خذ النصف وأنا النّصف، واجتهد به والدي فلم يفعل. فلما كان بعض الأيام وإذا قد جاء الغلام ومعه عدّة من الأثواب السوسية وغيرها؛ وقال: هذا من قماشنا قد حضر اليوم. وسبب حضوره أن إنساناً فقاعياً من أهل تبريز كان معنا في المركب وقد أعادوا عليه ماله، فرأى هذه الأثواب واسمى عليها فلم يسهل عليه أن يردها، يعني عليهم، وسأل عني وقد قصدني، وهي معي، وحضر عندي الساعة وسلمها إليّ، وقال: قد تركت طريقي لتبرأ ذمتي. فأخذنا نحن ماعليه اسمنا بعد الجهد، وطلب والدي الرجل، وسأله أن يقيم عندنا لنسلم إليه مالاً يتجر فيه، فلم يفعل، وعاد إلى بلده. قال: وهذان الرجلان نادران في هذا الزمان.
فصل في عزم نور الدين على الدخول إلى مصرقال العماد: وكان صلاح الدين واعده نور الدين أن يجتمعا على الكرك والشوبك يتشاوران فيما يعود بالصلاح المشترك، فخرج من القاهرة في الثاني والعشرين من المحرم، بالعزم الأجزم، والرأي الأحزم؛ فاتفق للاجتماع عائق، ولم يقدر للاتفاق قدر موافق؛ فلقي في تلك السفرة شدة، وعدم خيلا وظهرا وعُدة؛ وعاد إلى القاهرة في النصف من ربيع الأول.
قال ابن الأثير: وفي سنة سبع وستين أيضاً جرى ما أوجب نفرة نور الدين من صلاح الدين.
وكان الحادث أن نور الدين أرسل إلى صلاح الدين يأمره بجمع العساكر المصرية والمسير بها إلى بلاد الفرنج والنزول على الكرك ومحاصرته، ليجمع هو أيضاً عساكره ويسير إليه، ويجتمعا هناك على حرب الفرنج والاسيلاء على بلادهم. فبرز صلاح الدين من القاهرة في العشرين من المحرم، وكتب إلى نور الدين يعرفه أن رحيله لايتأخر؛ وكان نور الدين قد جمع عساكره وتجهز، وأقام ينتظر ورود الخبر من صلاح الدين برحيله ليرحل هو. فلما أتاه الخبر بذلك رحل من دمشق عازماً على قصد الكرك، فوصل إليه، وأقام ينتظر وصول صلاح الدين إليه، فأتاه كتابه يعتذر فيه عن الوصول باختلال البلاد، وأنه يخاف عليها مع البعد عنها فعاد إليها؛ فلم يقبل نور الدين عذره.
وكان سبب تقاعده أن أصحابه وخواصه خوّفوه من الاجتماع بنور الدين. فحيث لم يمتثل أمر نور الدين شقّ ذلك عليه، وعظم عنده، وعزم على الدخول إلى مصر وإخراج صلاح الدين عنها. فبلغ الخبر صلاح الدين فجمع أهله، وفيهم والده نجم الدين، وخاله شهاب الدين الحارمي، ومعهم سائر الأمراء، وأعلمهم ما بلغه من عزم نور الدين على قصده وأخذ مصر منه؛ واستشارهم، فلم يجبه أحد منهم بشئ. فقام ابن أخيه تقيّ الدين عمر وقال: إذا جاءنا قاتلناه وصددناه عن البلاد؛ ووافقه غيره من أهله. فشتمهم نجم الدين أيوب وأنكر ذلك واستعظمه، وكان ذا رأى ومكر، وكيد وعقل، وقال لتقيّ الدّين: اقعد، وسبَّه؛ وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا شهاب الدّين خالك، أتظنّ في هؤلاء كلِّهم مَنْ يحبك ويريد لك الخير مثلنا؟ فقال: لا. فقال: والله لو رأيت أنا وهذا خالك نور الدين لم يمكنا إلا أن نترجل إليه ونقبل الأرض بين يديه، ولو أمر بضرب عنقك بالسيف لفعلنا؛ فإذا كنّا نحن هكذا كيف يكون غيرنا، وكلّ من تراه من الأمراء والعساكر لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسر على الثبات على سرجه، ولاوسعه إلا النزول وتقبيل الأرض بين يديه؛ وهذه البلاد له، وقد أقامك فيها، فإن أراد عزلك فأي حاجة به إلى المجئ؟ يأمرك بكتاب مع نجاب حتى تقصد خدمته ويولي بلاده من يريد! وقال للجماعة كلهم: قوموا عنا فنحن مماليك نور الدين وعبيده، ويفعل بنا مايريد. فتّفرقوا على هذا، وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر.
ولما خلا نجم الدين أيوب بابنه صلاح الدين قال: أنت جاهل قليل المعرفة؛ تجمع هذا الجمع الكبير وتُطلعهم على مافي نفسك، فإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه من البلاد جعلك أهمّ الأمور إليه وأولاها بالقصد، ولو قصدك لمم ترمعك من هذا العسكر أحدا، وكانوا أسلموك إليه؛ وأما الآن بعد هذا المجلس، فسيكتبون إليه ويعرفونه قولي، وتكتب أنت إليه وترسل في هذا المعنى وتقول: أيّ حاجة إلى قصدي؟ يجئ نجاب يأخذني بحبل يضعه في عنقي؛ فهو إذا سمع هذا عدل عن قصدك واشتغل بما هو أهم عنده، والأيام تندرج، والله كل وقت في شأن.
ففعل صلاح الدين ما أشار به والده. فلما رأى نور الدين رحمه الله تعالى الأمر هكذا عدل عن قصده، وكان الأمر كما قال نجم الدين؛ توفي نور الدين ولم يقصده ولا أزاله، وكان هذا من أحسن الآراء وأجودها.
فصل في الحَمَام
قال ابن الأثير: وفي سنة سبع وستين أمر الملك العادل نور الدين باتخاذ الحمام الهوادي، وهي المناسيب التي تطير من البلاد البعيدة إلى أوكارها، فاتخذت في سائر بلاده.
وكان سبب ذلك أنه اتسعت بلاده وطالت مملكته، فكانت من حد النوبة إلى باب همذان، لايتخللها سوى الفرنج. وكان الفرنج، لعنهم الله، ربما نازلوا بعض الثغور، فإلى أن يصله الخبر ويسير إليهم يكونون قد بلغوا بعض الغرض؛ فحينئذ أمر بذلك وكتب به إلى سائر بلاده، وأجرى الجرايات لها ولمربيها؛ فوجد بها راحة كبيرة. وكانت الأخبار تأتيه لوقتها، لأنه كان له في كل ثغر رجال مرتبون، ومعهم من حمام المدينة التي تجاورهم، فإذا رأوا أو سمعوا أمراً كتبوه لوقته وعلقوه على الطائر، وسرحوه إلى المدينة التي هو منها في ساعته، فتنقل الرقعة منه إلى طائر آخر من البلد الذي يجاورهم في الجهة التي فيها نور الدين؛ وهكذا إلى أن تصل الأخبار إليه. فانحفظت الثغور بذلك حتى إن طائفة من الفرنج نازلوا ثغراً له فأتاه الخبر ليومه، فكتب إلى العساكر المجاورة لذلك الثغر بالاجتماع والمسير بسرعة وكبس العدو، ففعلوا ذلك، فظفروا والفرنج قد أمنوا لبُعد نور الدين عنهم؛ فرحم الله نور الدين ورضي عنه، فما كان أحسن نظره للرعايا وللبلاد.
وقال العماد: وكان نور الدين لايقيم في المدينة أيام الربيع والصيف محافظة على الثغر، وصوناً من الحيف، ليحمي البلاد من العدو بالسيف، وهو متشوف إلى أخبار مصر وأحوالها، وتحقيق اعتدالها بتمحيق اعتلالها. فرأى اتخاذ الحمام المناسيب وتدريجها على الطيران، لتحمل إليه الكتب بأخبار البلدان؛ وتقدم إلى بكتب منشور لأربابها، وإعزاز أصحابها، وهو حينئذ بظاهر دمشق، مخيم بوادي اللّوان، ونحن مستظهرون في ذلك الأوان، عادُون على أهل العدوان؛ وذلك في سابع عشر ذي القعدة من السنة. ثم ذكر نسخة المنشور ووصف فيه الحمام، فقال: " هي برائد الأنباء، المخصوصة بفضيلة الإلهام والإيحاء، وهي فيوج الرسائل المأمونة الإبطاء، والسابقات الهُوج في الاهتداء؛ والحاملات مُلطَّفات الأسرار في أقرب مدة إلى أبعد غاية، والموصّلات مهمات الأخبار في وقتها من أقاصي الأمصار بأكمل هداية، والقاطعات في ساعتها إلى البلاد أجواز القفار والموامي، والنافذات بنجح المرام بعود السهام إلى المرامي؛ وهي تطوي الفراسخ البعيدة والأشواط في ساعة، وتنتهي إلى أقصى عنايات الطاعة بأتم استطاعة. وقد عمّ بها نفع المرابطين للغزاة والمجاهدين في سبيل الله، في إهداء أخبار الكفرة إليهم من أماكنها، دالة على مكايدها ومكامنها، طائرة بكتبهم إلى من وراءهم من الطلائع والسّرايا، مظهرة لهم من أحوالها خبايا الأمور الخفايا؛ وإنها لميمونة المطار، مأمونة العثار، سالمة على الأخطار، مهدية في الأسفار، أمينة على الأسرار، سابقة إلى الأوكار، صادرة بالأوطار، سائرة إلى المؤمنين بنبأ الكفار " .
قلت: وكل هذه أوصاف حسنة وعبارات مستحسنة. وقد بلغني عن القاضي الفاضل رحمه الله تعالى أنه وصفها بألطف من هذه الأوصاف وأخصر فقال: الطيور ملائكة الملوك؛ يشير إلى أن نزولها على الملوك من جوّ الهواء نزول الملائكة على الأنبياء عليهم السلام من السماء، مع فرط مافيها من الأمانة، لايتوهم من جهتها خيانة. فلقد أحسن فيما وصف، وأبدع فيما استنبط وأنصف، وهو بذلك أولى وأعرف. رحم الله الجميع.
فصل في باقي حوادث هذه السنة
قرأت نسخة سجل بإسقاط المكوس بمصر، قرئ على المنبر بالقاهرة يوم الجمعة بعد الصلاة ثالث صفر سنة سبع وستين وخمسمائة، عن السلطان الملك الناصر في أيام نور الدين رجمه الله، فهو كان الآمر وذاك المباشر، يقول فيه: " أما بعد؛ فإنا نحمد الله سبحانه على مامكنّ لنا في الأرض، وحسّنه عندنا من أداء كل نافلة وفرض، ونصبنا له من إزالة النّصب عن عباده، واختارنا له من الجهاد في الله حق جهاده، وزهدنا فيه من متاع الدّنيا القليل، وألهمنا من محاسبة أنفسنا على النّقير والفتيل، وأولانا من شجاعة السماحة، فيوماً نهب ما اشتملت عليه الدواوين، ويوماً نقطع ما سقاه النيل؛ فالبشائر في أيامنا تترى، شفعاً ووترا، والمسارُّ كنظام الجوهر تتبع الوادحة منها الأخرى، والمسامحات قد ملأت المسامع والمطامع، وأسخطت الخيمة والصنائع، وأرضت المنبر والجامع. ولما تقلدنا أمور الرّعية رأينا المكوس الديوانية بالقاهرة ومصر، أولى ما نقلناها من أن تكون لنا في الدنيا إلى أن تكون لنا في الآخرة، وأن نتجرد منها لنلبس أثواب الأجر الفاخرة، ونطهر منها مكاسبنا، ونصون عنها مطالبنا، ونكفي الرّعيّة ضرّهم الذي يتوجه إليهم، (وَنَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُم وَالأَغْلالَ الَّتي كانت عَلَيْهم)، ونعيدها اليوم كأمس الذاهب، ونضعها فلاترفعها من بعد يد حاسب، ولاقلم كاتب. فاستخرنا الله وعجلنا إليه ليرضى، ورأينا فرصة أجر لاتغض عليها بصائر الأبصار ولايُغضى؛ وخرج أمرنا بكتب هذا المنشور بمسامحة أهل القاهرة ومصر، وجميع التجار المترددين إليهما، وإلى ساحل المقسم، والمنية، بأبواب المكوس صادرها وواردها، فَيَرِدُ التاجر ويُسفر، ويغيب عن ماله ويحضر، ويقارض ويتجر براَ وبحراً، مركباً وظهرا، سرّا وجهراً، لايحلُّ ماشده، ولايحاول ما عنده، ولايكشف ما ستره، ولا يسأل عما أورده وأصدره، ولا يُستوقف في طريقه، ولايشرق بريقه، ولايؤخذ منه طعمه، ولا يستباح له حرمه. والذي اشتملت عليه المسامحة في السنة من العين مائة ألف دينار، مسامحة لايتعقبها تأويل، ولايتخونها تحويل، ولايعتريها زوال، ولايعتورها انتقال؛ دائمة بدوام الكلمة، قائمة ماقام دين القيِمَة؛ مَنْ عارضها ردّت أحكامه، ومن ناقضها نقض إبرامه، ومن أزالها زلَّت قدمه، ومن أحالها حل دمه، ومن تعقبها خلدت اللعنة فيه وفي عقبه، ومن احتاط لدنياه فيها أحاط به الجحيم الذَّي هو من خطبه. فمن قرأه، أو قُرى عليه من كافة ولاة الأمر من صاحب سيف وقلم، ومشارف أو ناظر، فليمتثل ما مثل من الأمر، ولْيُمْضه على ممر الدهر مُرضياً لربه، ممضياً لما أمر به " .
وفي هذه السنة توفي الشيخ أبو بكر يحيى بن سعدون القرطبي المقري النحوي، وهو نزيل الموصل رحمه الله تعالى.
وفيها ولد العزيز والظاهر ابنا صلاح الدين، والمنصور محمد بن تقي الدين.
وفيها في ثالث شوال توفي أبو الفتوح نصر بن عبد الله الإسكندري، المعروف بابن قلاقس الشاعر، بعيذاب، ومولده بالإسكندرية رابع ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، فيكون عمره نحواً من خمس وثلاثين سنة.
ثم دخلت سنة ثمان وستين وخمسمائةففيها توفي ملك البجاة الحسن بن صافي.
وفيها ترتب العماد الكاتب مشرفا بديوان نور الدين مضافا إلى كتابة الإنشاء.
قال: وكان نور الدين ذكيا ألمعيا، فطنا لوذعيا، لاتشتبه عليه الأحوال، ولا يتبهرج عليه الرجال، ولايتأهل لغير أهل الفضل منه الإفضال.
قال: ولما عرض صلاح الدين بعد العاضد خزائنه، واستخرج دفائنه، سير منها عدة من الأمتعة المستحسنة، والآلات المثمنة، وقطع البلور واليشم، والأواني التي لايتصور وجودها في الوهم، ومعها ثلاث قطع من البلخش، أكبرها نيف وثلاثون مثقالا، والثانية ثمانية عشر، والأخرى دونها، وقرن بها من اللآلئ مصونها ومكنونها؛ وحمل معها من الذهب ستين ألف دينار، ووصلت من غرائب المصنوعات بما لايجتمع مثله في أعصار وأعمار، ومن الطيب والعطر ما لم يخطر ببال عطار. فشكر نور الدين همته وذكر بالكرم شيمته، ووصف فضيلته، وفضل صفته، وقال: ما كانت بنا حاجة إلى هذا المال، ولا نسد به خلة الإقلال، فهو يعلم أنا ما أنفقنا الذهب في ملك مصر وبنا إلى الذهب فقر، وما لهذا المحمول في مقابلة ما جُدْنا به قدر. وتمثل بقول أبي تمام:
لم يُنفق الذهب المُرْبى بكثرته ... على الحصا وبه فقر إلى الذهب
لكنه يعلم أن ثغور الشام مفتقرة إلى السداد، ووفور الأعداد من الأجناد، وقد عم بالفرنج بلاء البلاد؛ فيجب أن يقع التعاقد على الإمداد بالمعونة، والمعونة بالإمداد.
فاستنزره وما استغزره، واستقل المحمول في جنب ماحرره، وتروى فيما يدبره، وأفكر فيما يقدمه من هذا المهم ويؤخره.
قال ابن أبي طيّ: لم تقع هذه الهدية من نور الدين بموقع، وجرد الموفق بن القيسراني وزيره إلى مصر وأمره بعمل حساب البلاد واستعلام أخبارها وارتفاعها، وأين صرفت أموالها؛ فإذا حصل جميع ذلك قرر على صلاح الدين وظيفة يحملها في كل سنة. وعظُم على نور الدين أمر مصر، وأخذه من إستيلاء صلاح الدين عليها المقيم المقعد، وأكثر في مراسلته في حمل الأموال.
حدثني أبي قال: لم تخف حال نور الدين في كراهية الملك الناصر؛ ولقد علم ذلك جميع الأجناد والأمراء وتحدثت به العوام، ولاسيما حين أنفذ هذه الهدية. واشتد بعد ذلك في مراسلته، وأنفذ ابن القيسراني لكشف الأحوال؛ ولو طال عمره لم يكن له بدُّ من الدخول إلى مصر.
قال العماد: وكان نور الدين مذُ مُلكت مصر، وتوجه له فيها النصر، يؤثر أن يقر له فيها مال للحمل، يستعين به على كلف الجهاد وتخفيف ماله من الثقل، والأيام تماطله، والأعوام تطاوله، وهو ينتظر أن صلاح الدين يبتدئ من نفسه بما يريده، وهو لايستدعي منه ولايستزيده. فلما حمل من أخائر الذخائر والمال الحاضر ما حمله، وعرف مجمله ومفصله، تقدم إلى الموفق خالد بن القيسراني أن يمضي، ويطالب ويقتضي، ويعمل أيضا بالأعمال المصرية جزازة، ولايبتغي في نفوس ديوانه من أمرها حزازة؛ وأرسل معه الهدايا، والتحف السنايا، وأقام العماد مقامه في ديوان الاستيفاء، فجمع بين الإشراف والاستيفاء، ومنصب الإنشاء. ثم كان من أمره ما سيأتي ذكره.
قال العماد: وخرج صلاح الدين في النصف من شوال ومعه الفيل، والحمارة العتابية، والذخائر النفيسة التي كان انتخبها من خزائن القصر، وهي معدودة من محاسن العصر، وقد سبق ذكر تسييرها إلى نور الدين، وقُوبلت بالإحسان والتحسين. ووصلت الحمارة وكثرت لها النظارة؛ وأما الفيل فإنه وصل إلينا في سنة تسع وستين ونحن بحلب في الميدان الأخضر، وأهداه نور الدين إلى ابن أخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل مع شئ من تحفة الثياب والعود والعنبر. ثم سيّره سيف الدين إلى بغداد هدية للخليفة، مع ما سيّره معه من التحف اللطيفة؛ وسير نور الدين الحمارة العتابية إلى بغداد مع هدايا، وتحف سنايا.
فصل في جهاد السلطانين للفرنج في هذه السنةقال العماد: ونزل صلاح الدين على الكرك والشوبك وغيرهما من الحصون فبرح بها، وفرق عنها عربها، وخرب عمارتها، وشنَّت على أعمالها سراياه بغاراته.
ووصل منه كتاب بالمثال الفاضلي: سبب هذه الخدمة إلى مولانا الملك العادل، أعز الله سلطانه ومد أبداً إحسانه، ومكن بالنصر إمكانه، وشيد بالتأييد مكانه، ونصر أنصاره، وأعان أعوانه. علم المملوك بما يؤثره المولى بأن يقصد الكفار بما يقص أجنحتهم ويقلل أسلحتهم، ويقطع موادهم، ويخرب بلادهم؛ وأكبر الأسباب المعينة على مايرومه من هذه المصلحة ألا يبقى في بلادهم أحدُ من العربان، وأن ينتقلوا من ذل الكفر إلى عز الإيمان. ومما اجتهد فيه غاية الاجتهاد، وعده من أعظم أسباب الجهاد ترحيل كثير من أنفارهم، والحرص في تبديل دارهم، إلى أن صار العدو اليوم إذا نهض لايجد بين يديه دليلاً، ولايستطيع حيلة، ولايهتدي سبيلا.
ثم ذكر باقي الكتاب.
قال ابن شداد: وهذه أول غزوة غزاها صلاح الدين من الديار المصرية. وإنما بدأ ببلاد الكرك والشوبك لأنها كانت أقرب إليه، وكانت في الطريق تمنع من يقصد الديار المصرية، وكان لايمكن أن تصل قافلة حتى يخرج هو بنفسه يعبرها بلاد العدو؛ فأراد توسيع الطريق وتسهيله لتتصل البلاد بعضها ببعض، وتسهل على السابلة. فخرج قاصداً لها أثناء سنة ثمان وستين، فحاصرها، وجرى بينه وبين الفرنج وقعات، وعاد عنها ولم يظفر منها بشئ في تلك الدفعة؛ وحصل ثواب القصد.
وأما نور الدين فإنه فتح مرعش في ذي القعدة من هذه السنة وأخذ بهسني في ذي الحجة منها.
وقال العماد: حضرت عند الملك العادل نور الدين بدمشق، في العشرين من صفر، ووجهه بنور الدين البشر قد سفر، والحديث يجري في طيب دمشق وحسن آلائها، ورقَّة هوائها، وبهجة بهائها، وإزهار أرضها كزهر سمائها، وكلّ منا يمدحها، وبحبه يمنحها، وكلّ منا يطريها؛ فقال نور الدين: أنا حُبّ الجهاد يسليني عنها، فما أرغب فيها. فارتجلت هذا المعنى في الحال، فقلت:
ليس في الدنيا جميعاً ... بلدةُ مثل دمشق
ويسليني عنها ... في سبيل الله عشقي
والنقي الأصل، ومن يت ... ركها يَشْقَى ويُشْقي
كم رشيقٍ شاغل عنه ... بسهم الغزو رشقي
وامتشاق البيض يغني ... عنه بالإقلام مشقي
قال: وسألني نور الدين أن أعمل دوبيتيات في معنى الجهاد على لسانه، فقلت:
للغزو نشاطي وإليه طربي ... مالي في العيش غيره من أرب
بالجد وبالجهاد نجح الطلب ... والراحة مستودعة في التعب
وقلت أيضا:
لاراحة في العيش سوى أن أغزو ... سيفي طربا إلى الطلي يهتز
في ذل ذوي الكفر يكون العز ... والقدرة في غير جهادٍ عجز
وقلت أيضا:
أقسمت سوى الجهاد مالي أرب ... والراحة في سواه عندي تعب
إلا بالجد لاينال الطلب ... والعيش بلا جدِّ جهادٍ لعب
قال: واتفق خروج كلب الروم اللعين، في جنود الشياطين، يقصد الغارة على زرَّا من ناحية حوران، وهم في جمع غلبت الخبر والعيان؛ ونزلوا في قرية تعرف بسمكين. فركب نور الدين وهو نازل بالكسوة إليهم، وأقدم بعساكره عليهم؛ فلما عرفوا وصوله رحلوا إلى الفوار ثم إلى السواد ثم نزلوا بالشلالة، ونزل نور الدين عشترا، وقد سرَّه ماجرى؛ فأنفذ سريّة إلى أعمال طبرية، واغتنم خلّوها، فأدلجت تلك الشجعان، وثبت من ثبته الإيمان، حتى عبرت السرية، وانفصلت تلك القضية. ورحل نور الدين من عشترا فنزل بظاهر زرَّا.
قال العماد: وكنت راكباً في لقائهم مع الملك العادل وهو يقول: كيف تصف ماجرى، فمدحته بقصيدة منها:
عُقدت بنصرك راية الإيمان ... وبدت لعصرك آية الإحسان
يا غالب الغُلب الملوك، وصائد الصِّ ... يد اللُّيوث، وفارس الفرسان
يا سالب التيجان من أربابها ... حُزت الفخار على ذوي التيجان
محمودُ المحمودُ مابين الورى ... في كل إقليم بكل لسان
ياواحدا في الفضل غير مُشارك ... أقسمت: مالك في البسيطة ثاني
أحلى أمانيك الجهادُ وإنهُ ... لك مؤذنُ أبداً بكل أمان
كم بكر فتح ولَّدته ظُباك من ... حرب لقمع المشركين عَوان
كم وقعةٍ لك بالفرنج، حديثها ... قد سار في الآفاق والبلدان
قمصت قومصهم رداءً من ردى ... وقرنت رأس برنسهم بسنان
وملكت رقّ مُلوكهم، وتركتهم ... بالذل في الأقياد والأسجان
وجعلت في أعناقهم أغلالهم ... وسحبتهم هُوناً على الأذقان
إذ في السوابغ تحطم السمر القنا ... والبيض تخضب بالنجيع القاني
وعلى غناء المشرفية في الطلى ... والهام رقص عوالي المّران
وكأن بين النقع لمع حديدها ... نارُ تألقُ من خلال دخان
في مأزق ورد الوريد مكفل ... فيه برىّ الصارم الظمآن
غطى العجاج به نجوم سمائه ... لتنوب عنها أنجم الخرصان
أو ما كفاهم ذاك حتى عاودوا ... طُرُق الضلال ومركب الطغيان
ومنها:
وجلْوتَ نور الدين ظلمة كفرهم ... لما أتيت بواضح البُرهان
وهزمتهم بالرأي قبل لقائهم ... والرأي قبل شجاعة الشجعان
أصبحت للإسلام رُكناً ثابتاً ... والكفر منك مضعض الأركان
قوَّضت آساس الضلال بعزمك ال ... ماضي، وشدْت مباني الإيمان
قُل أين مثلك في الملوك مجاهد ... لله في سِر وفي إعلان
لم تلقهم ثقةً بقوة شوْكةٍ ... لكن وثقت بنصرة الرحمن
مازال عزمك مستقلا بالذي ... لا يستقل بثقله الثقلان
وبلغت بالتأييد أقصى مبلغ ... ما كان في وسع ولا إمكان
دانت لك الدنيا، فقاصيها إذاحققتهلنفاذ أمركداني
فمن العراق، إلى الشآم، إلى ذرا ... مصر، إلى قوص، إلى أسوان
لم تله عن باقي البلاد، وإنما ... ألهاك فرض الغزو عن همذان
للروم والإفرنج منك مصائب ... بالترك، والأكراد، والعربان
أذعنت لله المهيمن إذ عنت ... لك أوجه الأملاك بالإذعان
أنت الذي دون الملوك وجدته ... ملآن من عرف ومن عرفان
في بأس عمرو، في بسالة حيدرٍ ... في نطق قسٍ، في تقى سلمان
سيرُ، لوان الوحي ينزل أنزلت ... في شأنها سورُ من القران
فاسلم، طويل العُمْر، ممتد المدى ... صافي الحياة، نخلد السلطان
وهي قصيدة طويلة، وصف فيها أمراءه الحاضرين الجهاد معه ومدحهم.
فصل في فتح بلاد النوبةقال العماد: وفي جمادي الأولى غزا شمس الدولة تورانشاه بن أيوب، أخو صلاح الدين، بلاد النوبة، وأراهم سُطاه الموهوبة وفتح حصناً لهم يعرف بإبريم، وآلى ألا يريم؛ وهي بلادُ عديمة الجدوى، عظيمة البلوى. ثم جمع السبْيّ وعاد به إلى أسوان، وفرّق على أصحابه في الغنائم السودان.
وقال ابن أبي طيّ الحلبي: وفي هذه السنة اجتمع السّودان والعبيد من بلاد النوبة وخرجوا في أمم عظيمة قاصدين ملك بلاد مصر، وصاروا إلى أعمال الصعيد، وصمموا على قصد أسوان وحصارها، ونهب قراها. وكان بها ألمير كنز الدولة، فأنفذ يُعلم الملك الناصر وطلب منه نجدة، فأنفذ قطعة من جيشه مع الشجاع البعلبكي. فلما وصل إلى أسوان وجد العبيد قد عادوا عنها بعد أن أخربوا أرضها؛ فأتبَّعهم الشجاع والكنز، فجرت حربُ عظيمة قُتل فيها من الفريقين عالم عظيم.
ورجع الشجاع إلى القاهرة وأخبر بفعال العبيد، وتمكنهم من بلاد الصعيد، فأنفذ الملك الناصر أخاه شمس الخلافة في عسكر كثيف، فوجدهم قد دخلوت بلاد النوبة، فسار قاصداً بلادهم وشحن مراكب كثيرة في البحر بالرجال والميرة، وأمرها بلحاقه إلى بلاد النوبة. وسار إليها ونزل على قلعة إبريم، وافتتحها بعد ثلاثة أيام، وغنم جميع ماكان فيها من المال والكُراع والميرة، وخلص جماعة من الأسرى، وأسر من وجده فيها، وهرب صاحبها.
وكتب إلى السلطان بذلك فأنشد السلطان أبو الحسن بن الذروي يهنئه بفتح إبريم قصيدة، منها:
فقدّم العَزْم فذا مُبتداه ... يقصر ملك الأرض عن منتهاه
واستحب ذيول الجيش حتى أرى ... أنجمه طالعة عن دُجاه
سواك من ألقى عصاه بها ... قناعةً لما استقرت نواه
عليك بالروم ودع صاحب ال ... باج إذا شئت وتورانشاه
فقد غدّت لإبريمُ في ملكه ... تُبرم أمراً فيه كبْتُ العداه
لابُد للنوبة من نوبة ... تُرضى لسخط الكفر دين الإله
تظل من نوبة منسوبة ... لعزمةٍ كامنة في أناه
تكسو الغزاة القاطني أرضها ... ما نسجت للحرب أيدي الغُزاه
سودُ وتحمرّ الظُّبا حولها ... كأعين الرُّمد بدت للأساه
أولا، فسُمرُ يحتميها القنا ... مثل دنان بزلتها السُّقاه
لله جيش منك لاينثني ... إلا بنصل دميت شفرتاه
ما بين عقبان ولكنها ... خيل وفرسان كمثل البزاه
آساد حرب فوق أيديهم ... أساود الطعن، فهم كالحواه
تقلّدوا الأنهار واستلأموا ال ... غُدران، فالنيران تجري مياه
قال: ثم رجع شمس الدولة إلى أسوان ثم إلى قوص، وكان في صحبته أمير يقال له إبراهيم الكردي، فطلب من شمس الدولة قلعة إبريم فأقطعه إياه وأنفذ معه جماعة من الأكراد البطالين، فلما حصلوا فيها تفرّقوا فرقا. وكانوا يشنون الغارات على بلاد النّوبة حتى برحوا بهم، واكتسبوا أموالاً كثيرة حتى عفت أرزاقهم وكثرت مواشيهم. وأتفق أنهم عدّوا إلى جزيرة من بلاد النوبة تعرف بجزيرة دندان فغرق أميرهم إبراهيم وجماعة من أصحابه ورجع من بقي منهم إلى قلعة إبريم وأخذوا جميع ماكان فيها وأخلوها بعد مقامهم بها سنتين، فعاد إليها وملكوها.
وأنفذ ملك النوبة رسولا إلى شمس الدولة وهو مقيم بقوص ومعه كتاب فيه طلب الصلح ومع الرسول هدية، عبد وجارية. فكتب له جواب كتابه وأعطاه زوجي نشاب، وقال مالك عندي جواب إلا هذا. وجهز معه رسولا يعرف بمسعود الحلبي وأوصاه أن يكشف له خبر البلاد ليدخلها؛ فسار الحلبي مع الرَّسول حتى وصل دنقله، وهي مدينة الملك. قال مسعود فوجدت بلادا ضيقة ليس لهم زرع إلا الذرة، وعندهم نخل صغار منه إدامهم. ووصف ملكهم بأوصاف منها أن قال: خرج علينا يوماً وهو عريان قد ركب فرسا عريا وقد التف في ثوب أطلس وهو أقرع ليس على رأسه شعر؛ قال فأتيت فسلمت عليه فضحك وتغاشى وأمر بي أن تكوى يدي، فكوى عليها هيئة صليب، وأمر لي بقدر خمسين رطلا من الدقيق، ثم صرفني. قال: وأما دنقلة فليس فيها عمارة إلا دار الملك فقط وباقيها أخصاص.
فصلفي وفاة نجم الدين أيوب، والد صلاح الدين، وطرف من أخباره.
قال العماد: وركب نجم الدين أيوب فشب به فرسه بالقاهرة عند باب النصر وسط المحجَّة، يوم الاثنين الثامن عشر من ذي الحجة، وحمل إلى منزله، وعاش ثمانية أيام، ثم توفي في يوم الثلاثاء السابع والعشرين من ذي الحجة.
وكان كريما رحيما، عطوفا حليما، وبابه مزدحم الوفود، وهو متلف الموجود، يبذل الجود؛ وكان ولده صلاح الدين عنه غائبا، وفي بلاد الكرك والشوبك على الغزاة مواظبا، فدفن إلى جانب قبر أخيه أسد الدين في بيت الدار السلطانية، ثم نقلا بعد سنتين إلى المدينة الشريفة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسّلام، والتحية والإكرام، والإجلال والإعظام، وعلى آله وصحبه وسلم.
قلت: وقبرهما في تربة الوزير جمال الدين الأصفهاني وزير الموصل المقدم ذكره، رحمهم الله.
وقال القاضي ابن شداد: ولما عاد صلاح الدين من غزاته بلغه قبل وصوله إلى مصر وفاة أبيه نجم الدين فشقّ ذلك عليه حيث لم يحضر وفاته. وكان سبب وفاته وقوعه من الفرس؛ وكان رحمه الله تعالى، شديد الرّكض ولعاً بلعب الكرة بحيث من رآه يلعب بها يقول مايموت إلا من وقوعه عن ظهر الفرس.
ومن كتاب فاضليّ عن السلطان إلى عز الدين فرخشاه بمصر يقول فيه: صحّ من المصاب بالمولى الدارج، غفر الله له ذنبه، وسقى بالرحمة تربه، ما عظمت به اللوعة، واشتدت الروعة، وتضاعفت لغيبتنا عن مشهده الحسرة، فاستنجدنا بالصبر فأبى وانحدرت العبرة، فياله فقيداً فقد عليه العزاء، وهانت بعده الأرزاء، وانتثر شمل البركة بفقده فهي بعد الاجتماع أجزاء.
وتخطفته يد الردى في غيبتي هبني حضرت، فكنت ماذا أصنع؟ قال ابن أبي طي الحلبي: وهو الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي، ولايُعرف في نسبه أكثر من والده شاذي. وحدثني أبي رحمه الله قال: كان تقي الدين عمر يزيد فيقول: شاذي بن مروان. قلت: وسمعت أنا من يقول شاذي بن مروان بن يعقوب.
قال ابن أبي طي: وقد أدّعى ابن سيف الإسلام لما ملك اليمن أنهم منة بني مروان ابن محمد الجعدي المعروف بالحمار، يعنى آخر خلفاء بني أمية. قال: وقد نقبت عن ذلك فأجمع الجماعة من آل أيوب أن هذا كذب، وأن جميع آل أيوب لايعرفون جدَّاً فوق شاذي. وكذلك أخبرني السلطان الملك الناصر رحمه الله.
قلت: ودليل صحة ذلك أني وقفت على كتاب وقف الرّباط النجمي بدمشق ولم يزد فيه على نجم الدين أبو سعيد أيوب بن شاذي العادلي. وابن سيف الإسلام هذا هو أبو الفداء اسماعيل، بن طغتكين بن أيوب بن شاذي، ابن أخي السلطان صلاح الدين؛ ملك اليمن بعد أبيه وتعاظم إلى أن ولي نفسه الخلافة وادعى أنه من بني أمية، وعزم على إعادة الخلافة من بني هاشم إلى بني أمية؛ وله في ذلك أشعار كثيرة؛ وتلقب بالإمام الهادي بنور الله المعز لدين الله أمير المؤمنين، ومدحه كثير من الشعراء بذلك وزينوا له فعله وما هو فيه. فمن شعره:
وإني أنا الهادي الخليفة والذي ... أدوس رقاب الغُلب بالضُّمَّر الجُرْد
ولابدّ مِنْ بغداد أطوي ربوعها ... وأنشرها نشر السماسر للبرد
وأنصب أعلامي على شرفاتها ... وأُحيي بها ماكان أسسه جدّي
ويُخطبُ لي فيها على كل منبر ... وأظهر دين الله في الغور والنّجد
ثم قال ابن أبي طيّ: وكان نجم الدين أيوب عدلا مرضيا كثير الصَّلات والصِّلات، غزير الصدقات والخيرات، يحبّ العلماء، ويميل إلى الفضلاء؛ وكان مُمَدّحا، مدحه العماد الكاتب بجملة قصائد.
قال: وكان مولد نجم الدين أيوب شبختان، كذا حكاه مؤيد الدين ابن منقذ. وحدّثني جماعة أن مولد نجم الدين كان بجبل جور، وربى في بلد الموصل. ونشأ شجاعا باسلا، وخدم السلطان محمد بن ملكشاه فرأى منه أمانة وعقلاً، وسداداً وشهامة؛ فولاّه قلعة تكريت، فقام في ولايتها أحسن قيام وضَبَطها أكرم ضبط، وأجلى من أرضها المفسدين وقطاع الطريق وأهل العيث، حتى عمرت أرضها، وحسن حال أهلها، وأمنت سبلها.
فلما ولي السلطان مسعود الملك أقطع قلعة تكريت لمجاهد الدّين بهروز الخادم شحنة بغداد ومُتولي العراق؛ وكان هذا بهروز أميراً ينفذ أمره في جميع العراق إلى الموصل إلى أصفهان، وكانت خيله خمسة الآف فارس؛ فأقر الأمير نجم الدين في ولاية تكريت، وأضاف إليه النظر في جميع الولاية المتاخمة له، وقرر أمره عند السلطان مسعود وجعل بهروز قلعة تكريت خزانة أمواله وبيت عقائله، وجعل جميع ذلك منوطا بالأمير نجم الدين ومعَعْذُوقاً بهمته.
وكان نجم الدين عظيماً في أنفس الناس بالدين والخير وحسن السياسة؛ وكان لايمر أحد من أهل العلم والدين به إلا حمل إليه المال والضيافة الجليلة، وكان لايسمع بأحد من أهل الدين في مدينة إلا أنفذ إليه.
وقد ذكر العماد الكاتب في سيرة السلجوقية الأمير نجم الدين وقرّضه وأثنى عليه، وذكر من دينه وعفته ووفور أمانته وكثرة خيره أشياء حسنة؛ وحكى قضية عمّه العزيز حين حبس عنده بقلعة تكريت من جهة الوزير الدركزيني وأمره بقتله، فأبى نجم الدين إلى أن قتله بهروز بنفسه بأمر الدركزيني.
ثم إن السلطان مسعوداً حشد وخرج في أخذ السلطنة وطمع هو وأتابك زنكي بن آق سنقر في بغداد، وجردا عسكراً ضخما وسارا إلى تكريت طامعين في بغداد، وانصل هذا الخبر بقراجه السّاقي، وهو أتابك ابن السلطان محمود، فجرد ألف فارس للقاء زنكي، ثم أ ردفهم بعسكر ضخم، فانهزم زنكي وقُتل جماعة من أصحابه ونهب جميع ماكان في عسكره، ولجأ إلى سور تكريت وبه عدة جراحات. وعلم مكانه الأمير نجم الدين وأخوه شيركوه فمتحاه إلى القلعة بحبال وداويا جراحاته، وخدماه أحسن خدمة وتقربا إليه؛ فأقام عندهما بتكريت خمسة عشر يوماً. ثم سار إلى الموصل، وأعوزه الظهر، فأعطياه جميع ماكان عندهما من الظهر حتى إنهما أعطياه جملة من البقر حمل عليها ماسلم معه من امتعته. فكان زنكي يرى لأيوب هذه اليد ويعرف له هذه الصنيعة، ويواصله بالهدايا والألطاف مدة مُقامه في تكريت. فلما انفصل نجم الدين عنها، على ما سنذكره، تلّقاه زنكي بالرحب والسعة، واحترمه احتراماً عظيماً وأقطعه عدة قطائع.
وكان نجم الدين قد ساس الناس بتكريت أحسن سياسة حتى ملك بذلك حبّات قلوبهم. وكان أخوه شيركوه معه في القلعة، وكان شجاعاً باسلا، ينزل من القلعة ويصعد إليها في أسبابه وحاجاته. وكان نجم الدين لايفارق القلعة ولاينزل منها. فاتفق أن أسد الدين نزل القلعة يوماً لبعض شأنه ثم عاد إليها، وكان بينه وبين كاتب صاحب القلعة قوارض، وكان رجلاً نصرانياً، فاتفق في ذلك اليوم أن النصراني صادف أسد الدين صاعداً إلى القلعة فعبث به بكلمة مُمضة، فجرد أسد الدين سيفه وقتل النصراني وصعد إلى القلعة، وكان مهيباً، فلم يتجاسر أحدُ على معارضته في أمر النصراني بشئ، وأُخذ النصراني برجله فألُقي من القلعة.
وبلغ بهروز صاحب قلعة تكريت ماجرى، وحضر عنده من خوفه جُرأة أسد الدين وأنه ذو عشيرة كبيرة، وأن أخاه نجم الدين قد استحوذ على قلوب الرعايا، وأنه ربما كان منهما أمرُ تخشى عاقبته ويصعب استدراكه. فكتب إلى نجم الدين يُنكر عليه ماجرى من أخيه ويأمره بتسليم القلعة إلى نائب سيّره صُحبة الكتاب؛ فأجاب نجم الدين إلى ذلك بالسمع والطاعة، وأنزل من القلعة جميع ماكان له بها من أهل ومال، واجتمع هو وأخوه أسد الدين وصمما على قصد عماد الدين زنكي بالموصل.
وقيل إن أسد الدين كان خرج إلى الموصل قبل نجم الدين.
وأعظم أهل تكريت خروج نجم الدبن من بين أظهرهم، ولم يبق أحدُ إلا خرج لتوديعه وأظهر البكاء والأسف على مفارقته.
ولما أتصل بأتابك زنكي قُدومُهما أفرحه ذلك وأمر الموكب بلقائهما وأكرمهما إكراماً عظيماً، وأقطعهما في بلد شهرزور إقطاعاً سنيّا؛ وقيل إنه أقطع أسد الدين بالمؤُزَّر.
وجرى بين أسد الدين وجمال الدين الوزير مودة عظيمة حتى حلف كل واحد منهما للآخر أنه يقوم بأمره في حياته وبعد وفاته. وتجرد جمال الدين في أمر أسد الدين وأمر أخيه نجم الدين حتى قربهما من قلب أتابك زنكي وجعلهما عنده بالمنزلة العظيمة. وخرجا معه إلى الشام وشهدا معه حروب الكفار وقتال الفرنج، لعنهم الله تعالى، وكان لأسد الدين في تلك الوقائع اليد البيضاء والفَعْلَةُ الغراء.
وحدثني أبي رحمه الله قال: حدثني سعد الدولة أبو الميامين المؤملي، وكان أحد أصحاب نجم الدين أيوب، قال: وحدثني أيضا بهذه الحكاية مجد الدين بن داية الملك الصالح قال: حدثني حسام سنقر غلام الأمير نجم الدين أبي طالب، وكان سنقر هذا يخدم مع الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي، قال: كنت في صحابة الأمير نجم الدين لما أنفذه نور الدين بن زنكي إلى ابنه السلطان الملك الناصر إلى مصر من أجل قطع خطبة المصريين وإقامة دعوى بني العباس، في أول سنة سبع وستين وخمسمائة؛ واتفق أني كنت حاضراً وقد اجتمع السلطان الملك الناصر ووالده الأمير نجم الدين في دار الوزارة وقد قعدا على طُرّاحة واحدة، والمجلس غاصُّ بأرباب الدولتين، وعند الناس من الفرح والسرور ماقد أذهل العقول. فبينا الناس كذلك إذ تقدم كاتب نصراني كان في خدمة الأمير نجم الدين فقبل الأرض بين يدي السلطان الملك الناصر ووالده نجم الدين، والتفت إلى نجم الدين وقال له: يامولاي هذا تأويل مقالتي لك بالأمس حين وُلد هذا السلطان. فضحك نجم الدين وقال: صدقت والله. ثم أخذ في حمد الله وشكره والثناء عليه، والتفت إلى الجماعة الذين حوله، من أكابر العلماء، والقضاة والأمراء، وقال: لكلام هذا أمرني صاحب قلعة تكريت بالرّحلة عنها بسبب الفعلة التي كانت من أخي أسد الدين شيركوه رحمه الله وقتله النصراني؛ وكنت قد ألفت القلعة وصارت لي كالوطن، فثُقل عليّ الخروج عنها والتحول عنها إلى غيرها، واغتممت لذلك. وفي ذلك الوقت جاءني من القلعة وأنا على طيرتي به لاأكاد أذكره ولاأسميه. وكان هذا النصراني معي كاتباً؛ فلما رأى مانزل بي من كراهية الطفل والتشاؤم به استدعى مني أن آذن له في الكلام، فأذنت له، فقال لي: يامولاي قد رأيت ماقد حدث عندك من الطيرة بهذا الصبي وأي شئ له من الذنب، وبما أستحق ذلك منك وهو لاينفع ولايضرّ ولايُغني شيئاً! وهذا الذي جرى عليك قضاء من الله تعالى سبحانه وقدر، ثم مايُدريك أن هذا الطفل يكون ملِكاً عظيم الصيت جليل المقدار. فعطفني كلامه عليه؛ وهاهو ذا قد أوقفني على ماكان قاله. فتعجبت الجماعة من هذا الاتفاق وحمد السلطان ووالده الله سبحانه وشكراه.
قلت: ولعُمارة في نجم الدين مدائح ومراثٍ. منها قوله:
ثغر الزمان بنجم الدين مبتسم ... ووجهه بدوام العز متسم
يقول فيها:
أضحى بك النّيل محجوجا ومعتمرا ... كأنما حلّ فيه الحلّ والحرم
جاءت بنوك وشمل الدين منتثر ... فقارعوا عنه، فهو اليوم منتظم
وما ادري أحدُ من قبل رؤيتهم ... أن الحظوظ بلثم الأرض تقتسم
نامت عيون الورى في دل سيرتهم ... كأن يقظتنا في عصرهم حلم
والناصر ابنك كافي كلِّ معضلة ... إذا الحوادث لم يُكشف لها غمم
أعز بالبأس والإحسان حوزتنا ... فلم يُلّم بنا خوف ولاعدم
تبسم الدّست من أيوب عن ملك ... تنحطّ عن قدره الأقدار والهمم
وقال في مرثية:
هي الصدمةُ الأولى فمن بان صبره ... على هول ملقاها تضاعف أجره
أذمُّ صباح الأربعاء، فإنه ... تبسم عن ثغر المنية فجره
أصاب الهدى في نجمه بمصيبة ... تداعى سماك الجوّ منها ونسره
فلا تعذلونا، واعذرونا، فمن بكى ... على فقد أيوبٍ فقد بان عُذره
أقام بأعمال الفرات، وخيله ... يُراع بها نيل العزيز ومصره
إلى أن رماها من أخيه بضغيم ... فرى نابه أهل الصليب وظفره
تعاقبتما مصراً تعاقب وابل ... يبيت بقطر النيل ينهلُّ قطره
وآخيته في البرّ حيّا وميتّا ... فقبرك في دار القرار وقبره
وقد شخصت أهل البقيع إليكما ... وإلا فسكان الحجون وحجره
هنيئاً لملك مات والعزّ عزه ... وقُدْرته فوق الرّجال وقدره
وأدرك من طول الحياة مراده ... وماطال إلا في رضا الله عمره
وأسعد خلق الله من مات بعدما ... رأى في بني أبنائه مايسره
شهيد تلقى ربه وهو صائم ... فكان على أجر الشهادة فطره
مضى وهو راض عنك لم ترم صدره ... لضيق، ولاجاشت من الغيظ قدره
حمى حوزة الإسلام والدين بعده ... ثمانية من أجلهم عزّ نصره
فكيف لخيس آل أيوب أسده ... لقد بان خوف الدهر منه وذعره
رعى الله نجماً تعرف الشمس أنه ... أبوها، ونور البدر منها، وزهره
وأبقى المقام الناصريّ، فإنه ... لدولتكم كنز الرّجاء وذخره
وقال أيضا:
صفو الحياة ولإن طال المدى كدر ... وحادث الموت لايبقى ولايذر
وما يزال لسان الدهر ينذرنا ... لو أثرت عندنا الآيات والنذر
فلا تقل غرت الدنيا مطامعنا ... فما مع الموت لاغشُّ ولاكدر
كأس إذا ما الردى حيا الحياة بها ... لم ينج من سكرها أنثى ولاذكر
كم شامخ العز لاقى الذل من يدها ... ما أضعف القدر إن ألوى به القَدَر
في كل جيلٍ وعصر من وقائعها ... شعواء يقطر منها الناب والظفر
أودى عليُّ وعثمان بمخلبها ... ولم يُفتْها أبو بكر ولاعُمر
ومن أراد التأسِّي في مصيبته ... فللورى برسول الله معتبر
نجمُ هوى من سماء الدين منكدرا ... والنجم من أفقه يهوى وينكدر
منظومة أنجم الجوزاء من جزع ... له، وعقد الثريا منه منتثر
وكيغ يُنسى محياه الكريم، ومن ... نُعماه في كلّ عيش صالح أثر
جددت من أسد الدين الشهيد لنا ... حُزنا، به يتساوى الصبر والصبر
قد كان للدين والدنيا بعزمكما ... ذكر يعبر عنه الصارم الذّكر
لإن فاح نشر كلام تُمدحان به ... مِسكاً فعترة أيوب هي العتر
تخفى ذبال مصابيح إذا طلعوا ... صُبحاً وتنسى مُلوك الأرض إن ذكروا
كأنما صّور الله الكمال بهم ... شخصاً، ويوسفُ منه السمع والبصر
لا شوبك منه معصوم ولا كرك ... ولا جليل ولا قدس ولا زغر
لم يرتحل قافلاً إلا وساكنها ... إما مباحُ حماه، أو دمُ هدر
مامات أيوب إلا بعد معجزة ... في المجد لو يؤتها من جنسه بشر
مضى سعيدا من الدنيا وليس له ... في رتبة أربُ باقٍ ولاوطر
وطوّل الله منه باع أربعة ... منها: النَّدى، والتقي، والملك، والعُمُر
وأشرف الملك ما امتَدَّت مسافته ... في صحة أخواها العقل والكبر
ومن سعادته أن مات لاسأم ... يشكوه منه مُعانيه ولاضجر
فصلقال العماد: وسار نور الدين قاصداً جانب الشمال لتسديد ما أختل هناك من الأحوال. فسار إلى بعلبك ومنها إلى حمص ثمّ حلب، وفعل في كلّ منها من المصالح ماوجب؛ وقصد بلاد قليج أرسلان ملك الروم ففتح مرعش في العشرين من ذي القعدة ثم فتح بهنسي، واتبع في كل منهما الطريقة الحسنى.
وكتب العماد إلى صديقٍ له بدمشق، وكان سافر عنها مع نور الدين في أطيب فصولها وهو زمن المشمش:
كتابي، فديتُك، من مرعش ... وخوف نوائبها مُرعشب
وما مرَّ في طرفها مُبصرٌ ... صحيحُ النواظر إلا غُشى
وما حلّ في أرضها آمن ... من الضيّم والضر إلا خشى
ترنحني نشوات الغرام ... كأني من كأسه منتشى
أُسِرُّ وأُعلن برح الجوى ... فقلبي يُسرُّ ودمعي يشي
بذلت لكم مهجتي رشوةً ... فحاكم حبّكم مرتشي
وكيف يلذّ الكرى مغرم ... بنار الغرام حشاه حشي
بمرعش أبقى وبلوطها ... مضاهاة جلق والمشمش
قال العماد في الخريدة: فسارت هذه القطعة ونُمى حديثها إلى نور الدين، فاستنشدنيها، فأنشدتها إياه ونحن سائرون في وادٍ كثير الأشجار مع بيتين بدهت بهما في الحال، وهما.
وبالملك العادل استأنست ... نجاحاً مُنى كل مستوحش
وما في الأنام كريمُ سواه ... فإن كنت تنكر ذا فتش
قال ابن الأثير: وفي سنة ثمان وستين سار نور الدين رحمه الله نحو ولاية الملك عز الدين قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان السلجوقي، وهي ملطية وسيواس وقونية وأقصرا، عازما على حربه وأخذ بلاده منه.
وكان سبب ذلك أن ذا النون بن دانشمند صاحب ملطية وسيواس وغيرهما من تلك البلاد قصده قليج أرسلان وأخذ بلاده وأخرجه عنها طريداً فريداً، فسار إلى نور الدين مستجيراً وملتجئاً إلى ظله، فأكرم نزله وأحسن إليه، وحمل له ما يليق أن يحمل للملوك، ووعده النصر والسعي في رد ملكه إليه. وكانت عادة نور الدين أنه لايقصد ولاية أحد من المسلمين إلا ضرورة، إما ليستعين بها على قتال الفرنج أو للخوف عليها منهم، كما فعل بدمشق ومصر وغيرهما. فلما قصده ذو النون راسل قليج أرسلان وشفع إليه في إعادة ما غلبه عليه من بلاده فلم يجبه إلى ذلك، فسار نور الدين نحوه فابتدأ بكيسون وبهنسي ومرعش ومرزبان فملكها وما بينها من الحصون، وسيّر طائفة من عسكره إلى سيواس فملكوها.
وكان قليج أرسلان لما بلغه قصد نور الدين بلاده قد سار من اطرافها التي تلي الشام إلى وسطها خوفاً وفرقاً، وراسل نور الدين يستعطفه ويسأله الصلح والصفح عنه؛ فتوقف نور الدين عن قصده رجاء أن ينصلح الأمر بغير حرب، فأتاه من الفرنج ما أزعجه فأجابه إلى الصلح.
وكان في جملة رسالة نور الدين إليه: " إنني أريد منك أموراً وقواعد ومهما تركت منها فلا أترك ثلاثة أشياء: أحدها أن تجدد إسلامك على يد رسولي حتّى يحلّ لي إقرارك على بلاد الإسلام، فإني لاأعتقدك مؤمناً - وكان قليج أرسلان يتهم باعتقاد مذاهب الفلاسفة - والثاني إذا طلبت عسكرك للغزاة تسيره فإنك قد ملكت طرفا كبيرا من بلاد الإسلام وتركت الروم وجهادهم وهادنتهم، فإما أن تكون تُنجدني بعسكرك لأقاتل بهم الفرنج وإما أن تجاهد من يجاورك من الروم وتبذل الوسع والجهد في جهادهم.والثالث أن تزوّج ابنتك لسيف الدين غازي ولد أخي " . وذكر أموراً غيرها.
فلما سمع قليج أرسلان الرسالة قال: ماقصد نور الدين إلا الشناعة علىّ بالزندقة، وقد أجبته إلى ماطلب، أنا أجددّ إسلامي على يد رسوله. واستقر الصلح وعاد نور الدين وترك عسكره في سيواس مع فخر الدين عبد المسيح في خدمة ذي النون، فبقي العسكر بها إلى أن مات نور الدين رحمه الله تعالى، فرحل العسكر عنها وعاد قليج أرسلان وملكها.
قال العماد: وفي هذه السنة وصل الفقيه الإمام الكبير قطب الدين النيسابوري، وهو فقيه عصره ونسيج وحده، فسر نور الدين به وأنزله بحلب بمدرسة باب العراق، ثم أطلعه إلى دمشق، فدرس بزاوية الجامع الغربية المعروفة بالشيخ نصر المقدسي رحمه الله، ونزل بمدرسة الجاروق. وشرع نور الدين في إنشاء مدرسة كبيرة للشافعية لفضله، وأدركه الأجل دون إدراك عملها لأجله.
قلت: هي المدرسة العادلية الآن التي بناها بعده الملك العادل أبو بكر بن أيوب أخو صلاح الدين وفيها تربته، وقد رأيت أنا ما كان بناه نور الدين ومن بعده منها وهو موضع المسجد والمحراب الآن. ثم لمّا بناها الملك العادل أزال تلك العمارة وبناها هذا البناء المتقن المحكم الذي لانظير له في بنيان المدارس، وهي المأوى وبها المثوى، وفيها قدر الله تعالى جمع الكتاب فلا أقفر ذلك المنزل ولا أقوى.
وبقي قطب الدين إلى أن توفي في الأيام الناصرية في سنة ثمان وسبعين. وقد وقف كتبه على طلبة العلم، ونقلت بعد بناء هذه المدرسة إليها، فما فاتها ثمرته إذ فاتها مباشرته رحمه الله تعالى.
قال العماد: وكان وفد في سنة أربع وستين شيخ الشيوخ عماد الدين أبو الفتوح محمد بن علي بن محمد بن حمويه، فأقبل عليه نور الدين وأمرني بإنشاء منشور له بمشيخة الصوفية، ورغبه في المقام بالإحسان إليه بالشام. ومن جملة ما أتحفه به عمامة بأعمدة ذهبية أنفذها صلاح الدين من مصر، فبذل فيها ألف دينار بزنة ذهبها فلميجب من سامها إلى طلبها.
قلت وقد سبق ذكر هذه العمامة في أخبار نور الدين أول الكتاب من كلام ابن الأثير، وابن المعكى إياه وهو الشيخ تاج الدين عبد الله، رحمهم الله تعالى.
ثم ذكر العماد نسخة المنشور وفيه: " فلينظر في رباط السميساطي وقبة الطواويس ورباط الطاحونة وغيرها من ربط الصوفية بدمشق المعمورة وبعلبك " .
ثم ذكر العماد أنه في آخر شعبان من هذه السنة قبل الرحيل من دمشق كان أهدى إلى صديقه الفاضل الأديب علم الدين الحسن بن سعيد الشاتاني قطائف وكتب إليه:
ماراقدات في صحون ... مستوطنات في سكون
يجلين أمثال العرا ... ئس بين أبكار وعون
أو كالعقائل في الخدو ... ر قد اعتقلن على ديون
هن اللذيذات اللوا ... ئذ بالسهول من الحزون
أو كالتمائم للصحا ... ف، وما نسبن إلى جنون
السّكريات الغري ... قات الغلائل والشئون
صرعى ومادارت لها ... يوما رحى الحرب الزبون
لُفّفن في أكفانهن ... على المنى لا المنون
يحيين بالتغريق بل ... يسمن في ضيق السجون
المستطابات الظهو ... ر المستلذات البطون
نضدن بالترصيع في ال ... جامات كالدرّ المصون
المستقيمات الصفو ... ف وقفن كالخيل الصَّفون
وقد اشتملن من اللطا ... ئف والصفات على فنون
اسمع حديثي في انبسا ... طي فالحديث أخو شجون
وهي أكثر من هذا.
فصل
قال العماد: قد سبق ذكر مليح بن لاون مقدم بلاد الأرمن والتجائه إلى نور الدين وتطاوله بقوته على الروم والأرمن. وكانت الدروب: أذنه، والمصيصة، وسيواس، يحميها كلب الروم ويضبطها بجنده، حتى استولى عليها مليح بن لاون فكسرهم وقتل وأسر، وساق لنور الدين من مقدمي الروم ثلاثين أسيرا. فأرسل نور الدين القاضي كمال الدين الشهرزوري بالأسرى والهدايا إلى الخليفة المستضئ بأمر الله ومعه كتاب يشرح هذه الكسرة وما فتح من البلاد ويقول فيه: " وقسطنطينية والقدس يجريام إلى أمد الفتوح في مضمار المنافسة، وكلاهما في وحشة ليل الظلام المدلهم على انتظار صباح المؤانسة، والله تعالى بكرمه يدني قطاف الفتحين لأهل الإسلام، ويوفق الخادم لحيازة مراضى الأمام " .
وفي آخره: " ومن جملة حسنات هذه الأيام الزاهرة ما تسنى في هذه النَّوبة، من افتتاح بعض بلاد النوبة والوصول إلى مواضع منها لم تطرقها سنابك الخيل الإسلامية في العصور الخالية. وكذلك استولت عساكر مصر أيضا على برقة وحصونها، وتحكموا في محكم معاقلها ومصونها، حتى بلغوا إلى حدود المغرب، فظفروا من السُّؤال بعنقاء مغرب " .
قلت: كان اتفق في هذه السنة وصول قراقوش غلام تقي الدين من الديار المصرية مع طائفة من الترك وانضم إليهم جماعة من العرب فاستولى على طرابلس وكثير من بلاد إفريقية ماخلا المهدية وسفاقي وقفصة وتونس.
وفي آخر ذلك الكتاب: " ونسأل الله التوفيق لاستدناء قواصي المنى، وإقصاء عبدة الصلي الأنجاس من المسجد الأقصى، وأن يجعل فتح البيت امقدس مفتتح مراده، ومقتدح زناده، ومقترحه في جهاده، وأن يملكه الساحل بجميع بلاده " .
وسير العماد معه قصيدة منها:
بالمستضئ أبي محمد الحسن ... رجعت أمور المسلمين إلى السنن
في أرض مصر دعا له خطباؤها ... وأتت لتخطب بكر خطبته عدن
فالمغرب الأقصى بذلك مشرق ... وبنصر مصر محقق يمن اليمن
ورأى الإله المستضئ لشرعه ... وعباده نعم الأمين المؤتمن
سر النبوة كامن فيه ومن ... فطر الإمامة مشرق نور الفطن
تقوى أبي بكر، ومن عمر الهدى ... وحياءُ عثمان، وعلم أبي الحسن
وبجده عرفت مقالة حيدر ... لامن ددٍ أنا، ولامنى الددن
كم من عدو ميت في جلده ... رعبا وخوفا، فهو حي في كفن
ومنها في مدح نور الدين رحمه الله:
هل مثل محمود بن زنكي مخلص ... متوحدُ يبغي رضاك بكل فن
ورعٌ لدى المحراب أروع محرب ... في حالتيه إن أقام وإن ظعن
يمسي ويصبح في الجهاد، وغيره ... يضحى رضيع سلافة وضجيع دَنّ
وبعزة الإسلام منتصراً حرٍ ... وبذلة الإشراك منتقماً قمن
قال ابن أبي طي وفيها وصل شهاب الدين بن أبي عصرون من بغداد ومعه توقيع لنور الدين بدرب هارون وصريفين وخمسين دينارا من دنانير النثار التي نثرت يوم دخل الشهاب إلى بغداد بالبشارة بالخطبة في مصر، وزن كل دينار عشرة دنانير.
قال العماد: وكانت ناحيتا درب هارون وصريفين من أعمال العراق لزنكي والد نور الدين قديما من إنعام أمير المؤمنين، فسأل نور ادين إحياء ذلك الرسم في حقه، فأنعم بهما الخليفة عليه ووجه بهما مثالُه الشريف إليه. وكان من مراده أن يستوهب ببغداد على شاطئ دجلة أرضا يبنيها مدرسة للشافعية ويقف عليها الناحيتين طلبا للأجر، والذكر الباقي على ممر الدهر، فقيل له ما ثمَّ موضع يصلح لهذا لإلا دار التمر، فعاقه أمر القدر عن قدرته على الأمر.
ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائةونور الدين قد فتح من حصون الرّوم مرعش وغيرها، ومليح بن لاون متملك الأرمن في خدمته. ووصل إلى خدمته أيضا ضياء الدين مسعود بن قفجاق صاحب ملطية؛ وكان في خدمته أيضا الأمراء من المجِدْل، فسرّحهم بالعطاء الأجزل، والسمت الأجمل؛ وأظهر أنه ينزل على قلعة الروم على الغزاة، فتقبله مستخلف الأرض بالبراة، وحمل خمسين ألف دينار، على سبيل الجزية مصانعة وصغار؛ وعاد إلى حلب وقد نجح في كل ما طلب.
وأراد أن يسرع إلى دمشق فالتأثت سريرته لالتياث سريَّته، وحظى بمرض القلب لمرض جسم حظيته، وجرت شكايته جاريته، فتصدق عنها بألوف، والتزم لله في شفائها بنذور ووقوف؛ ثم سيرها في محفة، تحمل على أيدي الرجال في خفة؛ وسارت على الطريق المهيع مع العسكر، يحملها من الخدم والخواص المعشر بعد المعشر؛ فما تُقرِّب إليه بمثل حملها والمشي معها، وتقدم بحق لازم من بخدمته شيعا. وتأخر نور الدين جريدة مع عدة من مماليكه وأمرائه المماحضين في ولايته، وتقدم إلىّ أن أسايره في طريقه وأحاوره، وأحاضره في منازله وأسامره.
وسرنا على طريق قبة ملاعب والمشهد وسلمية، فجاءه الخبر أن الفرنج قد أغارت على حوران، فثنى إلى الجهاد العنان؛ وسمع الفرنج فتفرقوا، وقلقوا بعد ما كانوا أقلقوا؛ ودخلنا دمشق.
قلت: وفي جمادي الأولى أبطل نور الدين رحمه الله فريضة الأتبان، ورأيت منشوره بذلك، وعلامته عليه بخطه الحمد لله؛ يقول فيه: وبعد فإن من سنتنا العادلة، وسير أيامنا الزاهرة، وعوائد دولتنا القاهرة، إشاعة المعروف وإغاثة الملهوف، وإنصاف المظلوم، وإعفاء رسم ما سنه الظالمون من جائرات الرسوم. وما نزال نجدد للرعية رسما ممن الإحسان يرتعون في رياضه، ويرتوون من حياضه، ونستقرْئ أعمال بلادنا المحروسة، ونصفيها من الشبه والشوائب، ونلحق ما يعثر عليه من بواقي رسومها الضائرة بما أسقطناه من المكوس والضرائب، تقربا إلى الله تعالى الكافل لنا بسبوغ المواهب وبلوغ المطالب. وقد أطلقنا جميع ما جرت العادة بأخذه من فريضه الأتبان المقسطة على أعمال دمشق المحروسة، وضياع الغوطة، والمرج، وجبل سَنيِر، وقصر حجاج، والشاغور، والعقيبة، ومزارعها الجارية في الأملاك، وجميع ما يقسط بعد المقاسمة من الأتبان على الضياع الخواص والمقطعة بسائر الأعمال المذكورة، وفرّنا على أربابه، طلباً لمرضاة الله وعظيم أجره وثوابه، وهربا من انتقامه وأليم عقابه. وسبيل النّواب إطلاق ذلك على الدوام، وتعفيه آثاره، والاستعفاء من أوزاره، والاحتراز من التدنس بأوضاره، وإبطال رسمه من الدواوين، لاستقبال سنة تسع وستين، وما بعدها على تعاقب الأيام والسنين.
فصل في فتح اليمنقال العماد: وفي رجب توجه تورانشاه، أكبر إخوة صلاح الدين، إلى اليمن فملكها. وكان يحثه على المسير إليها عُمارة اليمني شاعر القصر، وكان كثير المدح لتورانشاه فتجهزّ وسار إلى مكة ثم إلى زبيد فملكها وقبض على الخارجي بها، وأهلكه نائبه سيف الدين مبارك بن منقذ. ومضى إلى عدن فأخذها واستناب فيها عز الدين عثمان الزنجيلي، وفتح حصن تعزّ وغيره من القلاع، ففتح إقليما ومنح ملكا عظيما، وافترع بكرا وأُشيع ذكرا.
وقال ابن شداد: ولما كان سنة تسع وستين رأى صلاح الدين قوة عسكره وكثرة عدد إخوته وقوّة بأسهم. وكان بلغه أن باليمن إنساناً استولى عليها وملك حصونها، وهو يخطب لنفسه، يسمى عبد النّبي بن مهدي، ويزعم أنه ينتشر ملكه إلى الأرض كلها، واستتب أمره؛ فرأى أن يسير إليها أخاه الأكبر الملك المعظم تورانشاه، وكان كريما أريحيا حسن الأخلاق؛ سمعت منه، يعنى من صلاح الدين رحمه الله، الثناء على كرمه ومحاسن أخلاقه، وترجيحه إياه على نفسه؛ فمضى إليها وفتح الله على يديه، وقتل الخارجي الذي كان بها.
قلت: وكان أخو هذا الخارجي قد خرج باليمن قبله. ذكر عمارة اليمني في أول كتابه في وزارة مصر في أثناء كلام له قال: وكان جماعة من أماثل الناس مثل بركات المقرئ وعلي بن محمد النيلي والفقيه أبي الحسن علي بن مهدي القائم الذي قام باليمن وأزال دولة أهل زبيد وغيرهم قد سبقوني، يعني إلى صاحب عدن، فذكر كلاماً يتعلق به.
وقال العماد في الخريدة: علي بن مهدي ملك اليمن في زماننا هذا، وسفك الدماء وسبى المسلمين، وأقبل على شرب الخمر، وادّعى الملك والإمامة ودعا إلى نفسه؛ وكان يحدث نفسه بالمسير إلى مكة، فمات سنة ستين، وتولى بعده أخوه؛ وله شعر حسن يدل على عُلّو همته.
قال ابن أبي طيّ: كان سبب خروج شمس الدين إلى اليمن أنه كان كريماً جوادا، وكان إقطاعه بمصر لايقوم بفتوته، ولاينهض بمروّته؛ وكان قد انتظم في سلكه عُمارة الشاعر، وكان من أهل اليمن، وكان ورد إلى مصر ومدح أصحابها ونفق عليهم، فلما زالت دولتهم انضوى إلى شمس الدولة ومدحه. وكان إذا خلا به يصف له بلاد اليمن، وكثرة أموالها وخيرها، وضعف من فيها، وأنها قريبة المأخذ لمن طلبها.
قلت: فمن جملة شعره في ذلك قوله في القصيدة التي أولها:
العلم مذ كان محتاج إلى العلم ... وشفرة السيف تستغني عن القلم
كم تترك البيض في الأجفان ظامئة ... إلى الموارد في الأعناق والقمم
أمامك الفتح من شام ومن يمن ... فلا تردّ رؤس الخيل باللجم
فعمُّك الملك المنصور سوّمها ... من الفرات إلى مصر بلا سأم
فاخلق لنفسك ملكا لاتضاف به ... إلى سواك، وأوْرِ النار في العلم
هذا ابن تومرت قد كانت بدايته ... كما يقول الورى، لحماً على وضم
وقد ترّقى إلى أن أمسكت يده ... من الكواكب بالأنفاس والكظم
حاسب ضميرك عن راآ أتاك وقل ... نصيحة وردت من غير متهّم
وله من أخرى:
أفاتح أرض النِّيل، وهي عظيمة ... على كلّ راجٍ فتحها ومؤمل
متى توقد النار التي أنت قادح ... بغمدان مشبوبا سناها بمندل
وتفتح ما بين الحصين وأبين ... وصنعاء من حصنٍ حصين ومعقل
وتملك من مخلاف طرف وجعفر ... نقيضين من حَزْن خصيب ومُسهل
وتخلق ملكا لاتُحيل بفخره ... على أحد إلا على عزمك العلي
وله من قصيدة أخرى:
قالوا: إلأى اليمن الميمون رحلته ... فقُلت مادونه شئ سوى السفر
سيْرٌ يَسُرُّ بني الدنيا، وطيب ثناً ... وطول عمر، كذا يحكى عن الخضر
لاتوقَدنَّ لها النار التي خمدت ... خفض عليك تنل ما شئت بالشرر
المال ملء يدٍ، والقوم ملكُ يدٍ ... وأطيل، وهذا جملة الخبر
قال ابن أبي طيّ: ووافق ذلك أنه كاتبه رجل من أهل اليمن شريف يقال له هاشم ابن غانم وأطمعه في المعاونة لأن صاحب اليمن عبد النبي كان قد تعدى على هذا الشريف هاشم؛ فأعلم شمس الدولة أصحابه بعزمه على اليمن فأجابوه، فتجهز، ثم دخل على أخيه السلطان واستأذنه في دخول اليمن، فأذن له، وأطلق له مُغَلّ قوص سنة، وزوده فوق ماكان في نفسه، وأصحبه جماعة من الأمراء ومقدار ألف فارس خارجا عمّن سيره من حلقته. وسار في البر والبحر، في البر العساكر وفي البحر الأسطول يحمل الأزواد والعدد والآلات. فوصل إلى مكة، شرفها الله تعالى، فدخلها زائراً، ثم خرج متوجهاً منها إلى اليمن؛ فوصل زبيد في أوائل شوال، فنزل عليها، ولقيه الشريف هاشم بن غانم الحسني وجميع الأشراف بنو سليمان في جمع جم وعدد كثير، فهجم زبيد وتسلمها، واحتوى على مافيها، وقبض على صاحب اليمن عبد النبيّ أخي علي بن مهدي.
ثم رحل إلى عدن وفي صحبته ابن مهدي ففتحها عنوة وولاها عز الدين الزنجيلي. ثم سار إلى المخلاف وتسَّلم الحصون التي كانت في يد ابن مهدي، كتعز وغيرها؛ وسار إلى صنعاء بعد فتح مدينة الجند وغيرها، فأحرقت صنعاء، فدخلها شمس الدولة فلم يجد بها إلا شيخا وامرأة عجوزا؛ فأقام بها ثمانية أيام، ثم لم يستطع المقام لقلة الميرة، فرجع إلى زبيد فوجد ابن منقذ قد قتل عبد النبي بن مهدي. وكان شمس الدولة قد استناب بزبيد الأمير سيف الدولة المبارك ابن منقذ وأمره بحمله؛ فلما بُعد شمس الدولة خاف ابن منقذ من فساد أمره فرأى المصلحة في قتله، فقتله ابن منقذ بزبيد؛ فلما بلغ شمس الدولة قتله استصوبه.
ولما حصل شمس الدولة في زبيد أنفذ إليه صاحب طمار وصالحه هو وباقي الملوك على أداء المال. ثم تتبع تلك الحصون والقلاع فاحتوى عليها جميعها، وكتب بذلك إلى أخيه الملك الناصر، فأرسل إلى نور الدين بخبره بما أفاض الله عليه من الإحسان، وخوّله من ملك البلدان. فأرسل نور الدين مهذب الدين أبا الحسن عليّ بن عيسى النقاش بالبشارة بذلك إلى بغداد.
فصل
ذكر العماد ههنا الأمير مجد الدين سيف الدولة المبارك بن كامل بن منقذ المستناب بزبيد ووصفه بأنه من الكفاة الكرماء، والدّهاة ذوى الآراء. وهو فاضل من أهل بيت فضل كتب العماد من شعره:
لما نزلت الدّير قلت لصاحبي ... قم فاخطب الصهباء من شماسه
فأتى وفي يمناه كأس خلتها ... مقبوسةً في الليل من نبراسه
وكأن لذة طعمها من ريقه ... وأريجها الفيّاح من أنفاسه
لم أنس ليلة شربها بغنائه ... إذ بات يجلوها على جُلاّسه
إذ قام يسقينا المدام، وكلما ... عابثته ردَّ الجواب براسه
قلت: ومدحه أبو الحسن بن الذروي المصري بقصيدة غراء ذالية ما أظن أنه نظم على قافية الذال أرق منها لفظاً وأدق معنى. أوّلها:
لك الخير، عرّج بي على ربعهم، فذى ... ربوع يفوح المسك من عرفها الشذى
يقول فيها:
مَبَارِكُ عِيسِ الوفد بابُ مباركٍ ... وهل منقذ القُصاد غيرُ ابن منقذ
قال العماد: ثم سير نور الدين إلى بغداد بشارة بأمرين، أحدها فتح اليمن، والآخر كسر الرّوم مرة ثانية ومقدمهم الدوقس كلمان، وكان قديما أسيرا عند نور الدين من نوبة حارم، وفداه بخمسة وخمسين ألف دينار وخمسمائة وخمسين ثوبا أطلسا، وسيّر معه أسرى من الروم؛ وذلك في شعبان هذه السنة.
ومما تضمنه كتاب البشارة: ولم ينج من عشرة آلاف غير عشرة حمر مستنفرة، فرت من قسورة.
وقبِل ذلك بشهرين سيّرت قصيدة للعماد في جمادى الآخرة على لسان نور الدين إلى بغداد، أوّلها:
أطاع دمعي وصبري في الغرام عَصَي ... والقلب جرّع من كأس الهوى غصصا
وإن صفو حياتي ما يكدره ... إلا اشتياقي إلى أحبابي الخلصا
ما أطيب العيش بالأحباب لو وصلوا ... وأسعد القلب من بلواه لو خلصا
ومنها: من ذا الذي سار سيري في ولائكم غداة قال العدا: لاسير عند عصا
قد نال عبدك محمودٌ بها ظفرا ... مازال يرقبهُ من قبل مرتبصا
مِنْ خوف سطوته أن العدوّ إذا ... أم الثغور على أعقابه نكصا
قال العماد: وكلّف نور الدين في هذه السنة بإفادة الألطاف، والزيادة في الأوقاف، وتكثير الصدقات، وتوفير النفقات، وكسوة النسوة الأيامى في أيامها، وإغناء فقراء الرّعية وإنجادها بعد أعدامها، وصون الأيتام والأرامل ببذله، وعوْن الضعفاء وتقوية المقوين بعدله.
ثم ذكر ما قدمناه ذكره في أول الكتاب من مناقب نور الدين وأفعاله الكريمة.
قال العماد: وفي يوم الاثنين رابع شهر رمضان ركب نور الدين على العادة، وجلسنا نحن في ديوانه، حافلين في إيوانه، لبسط عدله وإحسانه، وتنفيذ أوامر سلطانه. فجاءني من أخبرني أن نور الدين نزل إلى المدرسة التي أتولاها، وبسط سجادته في قبلتها لسُنة الضحى وصلاّها؛ فقمت في الحال، ومضيت على الاستعجال، فلقيته في الدهليز خارجا، في أجر العبادة ناجحا ولنهج العادة ناهجا؛ فلما رآني توقف، ولقولي تشوف فقلت له: إن الموضع قد تشرف؛ أما ترى أنه من أيام الزلزلة قد تشعث؟ فلما رأى حاله تلبث، وقال: نعيده إلى العمارة، ونكسوه حلل النضارة. ثم حملت له وجوه سكر، وشيئا من ثياب وطيب وعنبر، وكتبت معها هذه الأبيات:
عند سليمان على قدره ... هدية النملة مقبوله
ويصغر المملوك عن نملة ... عندك، والرحمة مأموله
رقِّي لمولانا، وملكي له ... وذمتي بالشكر مشغوله
وكيف يقضي الحق ذومنةُ ... ضعيفة بالعجز معلوله!
وإنما شيمة مولى الورى ... طاهرة بالخير مجبولة
قال: وكان رأي قبلة المدرسة غير مُفصصة، وبالترخيم والتذهيب والتهذيب غير مخصصه؛ فأنفذ لي لعمارتها فصوصا مذهبة وذهبا. ثم حم مقدور حمامه، وعاق القدر عن إتمامه؛ ودفعت إلى الموصل فرأيته في المنام، وهو يجاريني في الكلام، ويقول ما يعود إلى المدرسة معناه، وقال الصلاة الصلاة؛ فعرفت أنه أشار إلى المحراب، وأنه الآن على هيئة الخراب؛ فكتبت إلى الفقيه الذي كان عنده الذهب أن يشرع في عمارته؛ ودخلت دمشق يوم فراغ الصانع منه.
فصل
قال ابن أبي طيّ: وفي هذه السنة وصل رسول نور الدين الموفق بن القيسراني إلى الديار المصرية، وأجتمع بالسلطان الملك الناصر، وأنهى إليه رسالة نور الدين، وطالبه بحساب جميع ما حصله وارتفع إليه من ارتفاع البلاد. فصعب ذلك على السلطان وأراد شق العصا لولا ما ثاب إليه من السكينة. ثم أمر بعمل الحساب، وعرضه على ابن القيسراني، وأراه جرائد الأجناد بمبالغ إقطاعهم وتعيين جامكياتهم ورواتب نفقاتهم. فلما حصل عنده جميع ذلك أرسل معه هدية إلى نور الدين على يد الفقيه عيسى.
قال: ووقفت على برنامج شرحها بخط الموفق بن القيسراني وهي خمس ختمات؛ إحداها ختمة ثلاثون جزءاً مغشاة بأطلس أَزرق، مضببة بصفائح ذهب، وعليها أقفال ذهب، مكتوبة بذهب، بخط يانس؛ وختمة بخط راشد مغشاة بديباج فُسْتُقى عشرة أجزاء؛ وختمة بخط ابن البواب، مجلد واحد بقفل ذهب؛ وختمة بخط مهلهل، جزء واحد؛ وختمة بخط الحاكم البغدادي؛ ثلاثة أحجار بلخش، حجر وزنه اثنان وعشرون مثقالا، وحجر وزنه اثنا عشر مثقالا، وحجر وزنه عشرة مثاقيل ونصف؛ ست قصبات زمرد، قصبة وزنها ثلاثة عشر مثقالا وثلث وربع، وقصبة وزنها ثلاثة مثاقيل، وقصبة وزنها مثقالان ونصف، وقصبة وزنها مثقالان وربع وسدس، وقصبة وزنها مثقالان وثلث؛ وحجر ياقوت وزنه سبعة مثاقيل؛ وحجر أزرق وزنه ستة مثاقيل وسدس؛ مائة عقد جوهر مختومة وزنها جميعها ثمانمائة وسبعة وخمسون مثقالا؛ خمسون قارورة دهن بلسان؛ عشرون قطعة بلور؛ أربع عشرة قطعة جزع، وذكر تفصيلها؛ إبريق يشم، طشت يشم سقرق ميناء وذهب؛ صحون صيني وزبادي وسكارج؛ أربعون قطعة عود طيب قطعتين كبار؛ كرتان وزن إحداهما ثلاثون رطلا بالمصري والأخرى واحد وعشرون رطلا؛ مائة ثوب أطلس؛ أربعة وعشرون بقيارا مذهبة؛ أربعة وعشرون ثوبا حريري؛ أربعة وعشرون ثوبا من الوشي حريرية بيض؛ حلة فلفي مذهبة؛ حلة مرايش صفراء مذهبة. وذكر غير ذلك أنواعا من القماش قيمتها مائتان وخمسة وعشرون ألف دينار مصرية، وعدّة من الخيل والغلمان والجواري، وشيئاً كثيراً من السلاح على اختلاف ضروبه.
قال: وخرجوا بهذه الهدية فلم تصل إلى نور الدين لأنهم أتصل بهم وفاته، فمنها ما أعيد ومنها ما استهلك، لأن الفقيه عيسى وابن القيسراني وضعا عليها من نهبها واستَّبَدا بأكثرها. وقيل إنها جميعا إلى السلطان لأنه اتصل به خبلا موت نور الدين فأنفذ من ردّها.
قال: وحدثني من شاهد هذه الهدية أنه كان معها عشرة صناديق مالاً لم يعلم مقداره.
وقال العماد: ولما وصل إلى صلاح الدين رسول نور الدين، وهو الموفق خالد، أطلعه على كل ماهو فيه وأحصى له الطريف والتالد، وقال هؤلاء الأجناد فاعرضهم وأثبت أخبارهم، وما يضبط مثل هذا الإقليم إلا بالمال العظيم؛ ثم أنت تعرف أكابر الدولة وعظماءها، وأنهم اعتادوا من السّعة والدّعة على نعمائها، وقد تصرفوا في مواضع لايمكن انتزاعها، ولايسمحون بأن ينقضي ارتفاعها؛ فالموارد مشفوهة، والشدائد مكروهة، والمقاصد بردعها مجبوهة، والهمم بها مشدوهة. وشرع في جمع مال يسيره ويحمله، بجهد يبذله، وبخطر يحتمله؛ وحصل لخالد منه مالم يكن في خلده، وجاء مطرف غناه أضعاف متلْده.
فصل في صلب عمارة الشاعر اليمني وأصحابهقال العماد: واجتمع جماعة من دعاة الدّولة المصرية المتعصبة المتصعبة، المتشددة المتصلبة، وتوازروا وتزاوروا فيما بينهم خيفة وخفية، واعتقدوا أمنية، عادت بالعقبى عليهم منية، وعينوا الخليفة والوزير، وأحكموا الرأي والتدبير، وبيّتوا أمرهم بليل، وستروا عليه بذيل؛ وكان عمارة اليمني الشاعر عقيدهم، ودعا للدعوة قريبهم وبعيدهم.
وكانوا قد أودعوا سرّهم عند من أذاعه، واستحفظوا من أضاعه، وأدخلوا عدّة من أنصار الدولة الناصرية في جملتهم، وعرفوهم بجهلتهم.
وكان الفقيه الواعظ زين الدين علي بن نجا يُناجيهم فيما زين لهم من سوء أعمالهم، ويداخلهم في عزم خروجهم مطلعا على أحوالهم؛ وتقاسموا الدّور والأملاك، وكادت آمالهم تدنو من الإدراك. فجاء زين الدين الواعظ وأطلع صلاح الدين على فسادهم، وما سوّلوه من مراد مرادهم، وطلب ما لابن كامل الداعي من العقار والدور، وكلّ ماله من الموجود والمذخور؛ فبذل له السلطان كل ما طلبه، وأمره بمخالطتهم ورغبه.
ثم أمر السلطان بإحضار مقدميهم، واعتقالهم لإقامة السياسة فيهم، وصلب يوم السبت ثاني شهر رمضان جماعة منهم بين القصرين، منهم عمارة، وأفنى بعد ذلك من بقي منهم، ومات بموتهم الخبر عنهم.
وكان منهم داعي الدعاة ابن عبد القوي، وكان عارفاً بخبايا القصر وكنوزه، فباد ولم يسمح بإبدائها، وبقيت تلك الخزائن مدفونة، وتلك الدفائن مخزونة، قد دفن دافنها، وخزن تحت الثرى خازنها، إلى أن يأذن الله في الوصول إليها، والاطلاع عليها؛ وجمع من أموال هؤلاء ما يحمل إلى الشام، للاستعانة به على حماية ثغور الإسلام.
قال ابن أبي طيّ: وفي هذه السنة اجتمع جماعة من دعاة المصريين والعوام وتآمروا فيما بينهم خفية، وبكوا على أنقراض دولة المصريين وما صاروا إليه من الذل والفقر، ثم أجمعوا آراءهم على أن يقيموا خليفة ووزيراً، وتجمعوا هم وجماعة عينوهم من الأمراء وغيرهم. وقرّروا أن يكاتبوا الفرنج، وأن يثبوا بالملك الناصر. وأدخلوا معهم في هذا الأمر ابن مصال، وأعدوا جماعة من شيعة المصريين ليلة عينوها، وكاتبوا الفرنج بذلك، وقرروا معهم الوصول إليهم في ذلك الزمان المقرر. فخانهم ابن مصال فيما عاهدهم عليه، ونكث في اليمين وكفّر عنها، وصار إلى الملك الناصر وعرفه بجلية ماجرى.
فأحضرهم واحدا واحدا وقررهم على هذه الحالة، فأقروا واعترفوا، واعتذروا بكونهم قطعت أرزاقهم، وأخذت أموالهم. فأحضر السلطان العلماء واستفتاهم في أمرهم، فأفتوه بقتلهم وصلبهم ونفيهم، فأمر بصلبهم.
وقيل إن الذي أذاع سرّهم زيد الدين على الواعظ، وطلب جميع مالابن الداعي من العقار والمال، فأعطاه جميع ذلك.
وكان الذين صلبوا منهم المفضل بن كامل القاضي، وابن عبد القوي الداعي، والعوريس وكان قد تولى ديوان النظر ثم القضاء بعد ذلك، وشبرما كاتب السر، وعبد الصمد القشة أحد أمراء المصريين، ونجاح الحمامي، ورجل منجم نصراني أرمني كان قال لهم إن أمرهم يتم بطريق علم النجوم، وعُمارة اليمني الشاعر.
قلت: وبلغني أنّ عُمارة إنما كان تحريضه لشمس الدولة على المسير إلى اليمن ليتم هذا الأمر، لأن فيه تقليلا لعسكر صلاح الدين وإبعاداً لأخيه وناصريه عنه.
قال العماد في الخريدة: ووقعت أتفاقات عجيبة من جملتها أنه نسب إليه بيت من قصيدة ذكروا أنه له، يعني في القصيدة التي حرض فيها شمس الدولة على المسير إلى اليمن أولها:
العلم مذ كان محتاج إلى العلم
وقد تقدم ذكرها؛ وأما البيت فهو هذا:
قد كان أول هذا الدين من رجل ... سعى إلى أن دعوه سيّد الأمم
قال العماد: ويجوز أن يكون هذا البيت معمولاً عليه، فأفتى فقهاء مصر بقتله، وحرضوا السلطان على المثلة بمثله.
قال: ولعمارة في مصلوب بمصر يقال له طرخان وكان خرج على الصالح بن رزيك فظفر به الصالح وصلبه، وكان يستحسن أبيات عُمارة فيه، وهي:
أراد عُلو مرتبة وقدر ... فأصبح فوق جذع وهو عالي
ومُد على صليب الجذع منه ... يمين لاتطول على الشمال
ونكس رأسه لعتاب قلب ... دعاه إلى الغواية والضلال
قال العماد: فكأنه وصف حاله وما آل إليه أمره.
وقال في البرق: ووصل من صلاح الدين يوم وفاة نور الدين إلى دمشق كتاب يتضمن هذه القضية وهو بخط ابن قريش، يعني المرتضى.
وقال بن أبي طيّ: وقد كتب القاضي الفاضل إلى نور الدين كتاباً شرح فيه قضية المصلَّبين، فقال بعد مطلع الكتاب: " قصر هذه الخدمة على متجددٍ سار للإسلام وأهله، وبشارة مؤذنة بظهور وعد الله في إظهاره على الدين كله، بعد أن كانت لها مقدمات عظيمة إلا أنها أسفرت عن النُّجح، وأوائل كالليلة البهيمة إلا أنها انفرجت عن الصبح؛ فلإسلام ببركاته البادية وفتكاته الماضية قد عاد مستوطنا بعد أن كان غريبا، وضرب في البلاد بجرانه بعد أن كان الكفر يتم عليه تخيلا عجيبا؛ إلا أنّ الله سبحانه أطلع على أمرها من أوله، وأظهر على سرها من مستقبله؛ والمملوك يأخذ في ذكر الخبر ويعرض عن ذكر الأثر " . =================
ج4.=================ج4.
================================================
كتاب : الروضتين في أخبار النورية و الصلاحية
المؤلف : أبو شامة المقدسي
ولم يزل يتُوسم من جند مصر ومن أهل القصر بعد ما أزال الله من بدعتهم، ونقض من عُرى دولتهم، وخفض من مرفوع كلمتهم، أنهم أعداء وإن تعدت بهم الأيام، وأضداد وإن وقعت عليهم كلمة الإسلام. وكان لايحتقر منهم حقيرا ولا يستبعد منهم شرا كبيرا، وعيونه لمقاصدهم موكلة، وخطراته في التحرز منهم مستعملة، لاتخلو سنة تمر، ولاشهر يكرّ، من مكر يجتمعون عليه، وفساد يتسرعون إليه، وحيلة يبرمونها، ومكيدة يتمممونها. وكان أكثر ما يتعللون به ويستريحون إليه المكاتبات المتوارترة، والمراسلات المتقاطرة، إلى الفرنج خذلهم الله تعالى، التي يوسعون لهم فيها سبل المطامع، ويحملونهم فيها على العظائم والفظائع، ويزينون لهم الإقدام والقدوم، ويخلعون فيها ربقة الإسلام خلع المرتد المخصوم؛ ويد الفرنج بحمد الله قصيرة عن إجابتهم، إلا أنهم لايقطعون حبل طمعهم على عادتهم. وكان ملك الفرنج كلما سوّلت له نفسه الاستتار في مراسلتهم، والتحيل في مفاوضتهم، سير جرج كاتبه رسولا إلينا ظاهراً وإليهم باطناً، عارضا علينا الجميل الذي ما قبلته قط أنفسنا، وعاقداً معهم القبيح الذي يشمل عليه في وقته علمنا. ولأهل القصر والمصريين في أثناء هذه المدد رسل تتردد، وكتب إلى الفرنج تتجدد.
ثم قال والمولى عالم أن عادة أوليائه المستفادة من أدبه ألا يبسطوا عقاباً مؤلما، ولا يعذبوا عذابا محكما؛ وإذا طال لهم الاعتقال، ولم ينجع السؤال، أطلق سراحهم، وخلى سبيلهم، فلا يزيدهم العفو إلا ضراوة، ولا الرقة عليهم إلا قساوة. وعند وصول جرج في هذه الدفعة الأخيرة رسولا إلينا بزعمه، ورد إلينا كتاب ممن لانرتاب به من قومه، يذكرون أنه رسول مخاتلة، لارسول مجاملة، وحامل بليّة، لاحامل هدية؛ فأوهمناه الإغفال عن التيقظ لكل ما يصدر منه وإليه، فتوصل مرة بالخروج ليلاً، ومرة بالركوب إلى الكنيسة وغيرها نهارا، إلى الاجتماع بحاشية القصر وخدامه، وبأمراء المصريين وأسبابهم، وجماعة من النصارى واليهود وكلابهم وكتابهم. فدسسنا إليهم من طائفتهم من داخلهم، فصار ينقل إلينا أخبارهم، ويرفع إلينا أحوالهم. ولما تكاثرت الأقوال، وكاد يشتهر علمنا بهذه الأحوال، استخرنا الله تعالى وقبضنا على جماعة مفسدة، وطائفة من هذا الجنس متمردة، قد اشتملت على الاعتقادات المارقة، والسرائر المنافقة، فكلاًّ أخذ الله بذنبه، فمنهم من أقر طائعاً عند إحضاره، ومنهم من أقر بعد ضربه، فانكشفت أمور أخر مكتومة، ونوب غير التي كانت عندنا معلومة، وتقريرات مختلفة في المراد، متفقة في الفساد.
ثم ذكر تفصيلا حاصله أنهم عينوا خليفة ووزيرا مختلفين في ذلك، فمنهم من طلب إقامة رجل كبير السن من بني عم العاضد، ومنهم من جعل ذلك لبعض أولاد العاضد وإن كان صغيرا؛ واختلف هؤلاء في تعيين واحد من ولدين له. وأما بنو رزيك وأهل شاور فكل منهم أراد الوزارة لبيتهم من غير أن يكون لهم غرض في تعيين الخليفة.
ثم قال: وكانوا فيما تقدم، والملوك على الكرك والشوبك بالعسكر، قد كاتبوهم وقالوا لهم إنه بعيد والفرصة قد أمكنت، فإذا وصل الملك الفرنجي إلى صدر أو إلى أيلة ثارت حاشية القصر وكافة الجند وطائفة السودان وجموع الأرمن وعامة الاسماعيلية وفتكت بأهلنا وأصحابنا بالقاهرة.
ثم قال: ولما وصل جرج كتبوا إلى الملك الفرنجي أن العساكر متباعدة في نواحي إقطاعهم، وعلى قرب من موسم غلاتهم، وأنه لم يبق في القاهرة إلا بعضهم وإذا بعثت أسطولا إلى الثغور أنهض فلانا من عنده وبقي في البلد وحده، ففعلنا ما تقدم ذكره من الثورة.
ثم قال: وفي اثناء هذه المدة كاتبوا سنانا صاحب الحشيشية بأن الدعوة واحدة والكلمة جامعة، وأن مابين أهلها خلاف إلا فيما لايفترق به كلمة، ولايجب به قعود عن نصرة؛ واستدعوا منه من يُتمم على المملوك غيلة، أو يبيت له مكيدة وحيلة، وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيْطٌ وكان الرسول إليهم عن المصريين خال ابن قرجلة المقيم الآن هو وابن أخته عند الفرنج.
ولما صح الخبر وكان حكم الله أولى ماأخذ به، وأدب الله فيمن خرج عن أدبه، وتناصرت من أهل العلم والتقوى، وتوالت من أهل المشورة بسبب تأخير القتل فيهم المراجعات والشكاوى، قتل الله بسيف الشرع المطهر جماعة من الغواة الغلاة، الدعاة إلى النار، الحاملين لأثقالهم وأثقال من أضلوه من الفجّار؛ وشنقوا على باب قصورهم، وصلبوا على الجذوع المواجهة لدورهم؛ ووقع التتبع لأتباعهم، وشردت طائفة الاسماعيلية ونفوا، ونودى بأن يرحل كافة الأجناد وحاشية القصر وراجل السودان إلى أقصى بلاد الصعيد. فأما من في القصر فقد وقعت الحوطة عليهم إلى أن ينكشف وجه رأي يمضى فيهم، من تطيب النفس بتقليده، وتمضي الحدود بتحديده. ورأى المملوك إخراجهم من القصر فإنهم مهما بقوا بقيت مادة لا تنحسر الأطماع عنها، فإنه حبالة للضلال منصوبة، وبيعة للبدع محجوبة. قال المؤلف لعلها محجوبة.
ومما يطرف به المولى أن ثغر الإسكندرية على عموم مذهب السنة فيه، أطلع البحث أن فيه داعية خبيثا أمره، محتقرا شخصه، عظيما كفره، يسمى قديد القفاص، وأن المذكور مع خموله في الديار المصرية، قد فشت في الشام دعوته، وطبقت عقول أهل مصر فتنته، وأن أرباب المعايش فيه يحملون إليه جزءاً من كسبهم، والنسوان يبعثن إليه شطرا وافيا من أموالهن؛ ووجدت في منزلته بالإسكندرية عند القبض له، والهجوم عليه، كُتب مجررة فيها خلع العذار، وصريح الكفر الذي ماعنه اعتذار، ورقاع يخاطب بها فيها ما تقشعر منه الجلود وكان يدعى النسب إلى أهل القصر، وأنه خرج منه صغيرا ونشأ على الضلالة كبيرا. وبالجملة فقد كفى الإسلام أمره، وحاق به مكره، وصرعه كفره.
قلت: وفي قضية عُمارة هذه يقول العلاّمة تاج الدين الكندي رحمه الله تعالى، ونقلته من خطه:
عُمارة في الإسلام أبدى جناية ... وبايع فيها بيعة وصليبا
وأمسى شريك الشرك في بُغض أحمد ... فأصبح في حب الصليب صليبا
وكان خبيث الملتقى إن عجمته ... تجد منه عوداً في النفاق صليبا
سيلقى غدا ماكان يسعى لأجله ... ويسقى صديدا في لظى وصليبا
قلت الصليب الأول النصارى والثاني بمعنى مصلوب والثالث من الصلابة والرابع ودك العظام، وقيل هو الصديد أي يسفى ما يسيل من أهل النار نعوذ بالله منها.
وكان عُمارة مستشعراً من الغز وهم أيضاً منه، لأنه كان من أتباع الدولة المصرية وممن انتفع بها واختل أمره بعدها، فلم تصف القلوب بعضها لبعض، وصار يظهر في فلتات لسانه، في نظمه ونثره، مايقتضي التحرز منه وإبعاده، وهو يرى ذلك منهم فيزداد فساداً في نيته، وإن مدحهم تكلف ذلك، وصرّح وعرّض فيه بما في ضميره.
وقد قال في كتاب الوزراء المصرية: ذكر الله أيامهم بحمد لايكلّ نشاطه، ولايطوى بساطه، فقد وجدت فقدهم، وهنت بعدهم.
وقال من قصيدة مدح بها نجم الدين أيوب:
وكان لي في ملوك النيل قبلكمُ ... مكانة عرفتها العرب والعجم
وكان بيني وبين القوم ملحمة ... في حربها ألسُن الأديان تختصم
وماتزال إلى داري عوارفهم ... يسعى إلىّ بها الإنعام والكرم
تركت قصدك لماّ قيل إنك لا ... تجود إلا على من مسه العدم
ولست بالرجل المجهول موضعه ... ولا لنزز من الإحسان أغتنم
ولا إلى صدقات المال أطابها ... ولا عميً نال أعضائي ولاصمم
وإنما أنا ضيف للملوك، ولى ... دون الضيوف لسان ناطق وفم
وقال من قصيدة مدح بها صلاح الدين رحمه الله:
قرّرت لي أبناء رزيك زرقا ... كان في عصرهم مسنيًّ مهنا
وأتت بعدهم ملوك فسّنوا ... فيّ ماكان صالحُ القوم سنّا
ورعوني، إما اقتداء بماض ... أو لمعنىً، فكلهم بي يُعنى
وله فيه من أخرى:
فقد صارت الدنيا إليكم بأسرها ... فلا تشبعوا منها ونحن جياع
إذا لم تزيدونا فكونوا كمن مضى ... ففي الناس أخبار لهم وسماع
وليس على مُرَّ العظام إقامة ... فهل في ضروع المكرمات رضاع
وقال في قصيدة مدح بها تقيّ الدين:
هل تأذنون لمن أراد عتابكم ... أم ليس في أعتابكم من مطمع
ضيعتّم من حق ضيفكم الذي ... مازال قبل اليوم غير مضيع
وتغافل السلطان عنيّ حين لم ... أكشف قناع مذلة وتضرّع
ورجوت نفعك بالشفاعة عنده ... فسمحت لي بشفاعة لم تنفع
وإذا نطاق الرزق ضاق مجاله ... أمسى مجال النطق غير موسع
وقال أيضا:
تيممت مصراً أطلب الجاه والغنى ... فنلتها في ظل عيش ممنع
وزرت ملوك النيل أرتاد ميلهم ... فأحمد مرتادي وأخصب مربعي
وفزت بألف من عطية فائز ... مواهبه للصنُع لا التصنيع
وجاد ابن رزيك من الجاه والغنى ... بما زاد عن مرمى رجائي ومطمعي
وأوحى إلى سمعي ودائع شعره ... فخيرته منى بأكرم مودع
وليست أيادي شاور بذميمة ... ولاعهدها عندي بعهد مضيع
ملوكٌ رَعَوا لي حرمة صار نبتها ... هشيما رعته النائبات وما رعى
مذاهبهم في الجود مذهب سنّة ... وإن خالفوني باعتقاد التشيع
فقل لصلاح الدين، والعدل شأنه ... من الحاكم المصغى إلىّ فأدعى
أقمت لكم ضيفاً ثلاثة أشهر ... أقول لصدري كلما ضاق؛ وسع
وكم في ضيوف الباب ممن لسانه ... إذا قطعوه لايقوم بأصبعي
فيا راعي الإسلام، كيف تركتنا ... فريقي ضياع من عرايا وجوع
دعوناك من قرب وبعدٍ، فهب لنا ... جوابك، فالباري يجيب إذ دعى
وقال أيضا:
أسفى على زمن الإمام العاضد ... أسف العقيم على فراق الواحد
جالست من وزرائه وصحبت من ... أمرائه أهل الثناء الخالد
لهفي على حجرات قصرك إذ خلت ... يابن النبيّ من ازدحام الوافد
وعلى انفرادك من عساكرك الذي ... كانوا كأمواج الخضم الراكد
قلّدت مؤتمن الخلافة أمرهم ... فكبا وقصر عن صلاح الفاسد
فعسى الليالي أن تردّ إليكم ... ماعودتكم من جميل عوائد
وقال أيضاً:
قست رأفة الدنيا، فلا الدهر عاطف ... عليّ، ولا عبد الرحيم رحيم
عفا الله عن آرائه كل فترة ... كلام العدا فيها عليّ كلوم
وسامحه في قطع رزق بفضله ... وصلت إليه، والزمان ذميم
ألا هل له عطف عليّ، فإنني ... فقير إلى مت اعتدت منه عديم
عبد الرحيم هو القاضي الفاضل رحمه الله.
وبلغني أن عمارة لما مروا به ليُصلب به على جهة دار الفاضل، فطلب الاجتماع به، فقيل ليس إليه طريق. فقال:
عبد الرحيم قد احتجب ... إن الخلاص هو العجب
قال: وهذه القصيدة تحقق ما رُمى به من الاجتماع على مكاتبة الفرنج والخوض في فساد الدولة بل الملة، وتوضح عذر السلطان في قتله وقتل من شاركه في ذلك، وهي:
رميت يادهر كف المجد بالشلل ... وجيده بعد حلى الحسن بالعطل
سعيت في منهج الرأي العثور، فإن ... قدرت من عثرات البغي فاستقل
جدعت نارنك الأقنى، فأنفك لا ... ينفك مابين نقص الشين والخجل
هدمت قاعدة المعروف عن عجل ... سُقيت مُهْلاً، أما تمشى على مَهَل!
لهفي ولهف بني الآمال قاطبة ... على فجيعتنا في أكرم الدول
قدمت مصر فأولتني خلائفها ... من المكارم ما أربي على الأمل
قوم عرفت بهم كسب الألوف، ومن ... كما لها أنها جاءت ولم أسل
وكنت من وزراء الدّست حيث سما ... رأس الحصان بهاديه على الكفل
ونلت من عظماء الجيش تكرمة ... وخلّة حرست من عارض الخلل
ياعاذلي في هوى أبناء فاطمة ... لك الملامة إن قصَّرت في عذلي
بالله زُر ساحة القصرين، وابك معي ... عليهما، لا على صفين والجمل
وقل لأهلهما: والله مالتحمت ... فيكم قروحي، ولاجُرحى بمندمل
ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة ... في نسل آل أمير المؤمنين علي
هل كان في الأمر شئ غير قسمة ما ... مُلِّكتم بين حكم السبّي والنفل
وقد حصلتم عليها واسم جدكم ... محمد، وأبيكم، غير منتقل
مررت بالقصر والأركان خالية ... من الوفود وكانت قبلة القبل
فملت عنها بوجهي خوف منتقد ... من الأعادي، ووجه الودّ لم يمل
أسبلت من أسف دمعي غداة خلت ... رحابكم وغدت مهجورة السبل
أبكي على مأثراتٍ من مكارمكم ... حال الزمان عليها وهي لم تحل
دار الضيافة كانت أنس وافدكم ... واليوم أوحش من رسم ومن طلل
وفطرة الصوم إن أصغت مكارمكم ... تشكو من الدهر حيفا غير محتمل
وكسوة الناس في الفصلين قد درست ... ورث منها جديد عنهم وبلي
وموسم كان في كسر الخليج لكم ... يأتي تجمّلكم فيه على الجمل
وأول العام والعيدان كان لكم ... فيهن من وبل جود ليس بالوشل
والأرض تهتز في عيد الغدير لما ... يهتز مابين القصرين من الأسل
والخيل تعرض من وشيٍ ومن شية ... مثل العرائس في حلي ةفي حلل
ولاحملتم قرى الإضياف من سعة ال ... أطباق إلا على الأعناق والعجل
وما خصصتم ببرٍ أهل ملتكم ... حتى عممتم به الأقصى من الملل
كانت رواتبكم للذمتين وللض ... يف المقيم وللطاري من الرسل
وللجوامع من أحباسكم نعم ... لمن تصّدر في علم وفي عمل
وربما عادت الدنيا لمعقلها ... منكم، وأضحت بكم محلولة العقل
وقال العماد في الخريدة: أبو القاسم هبة الله بن عبد الله بن كامل كان داعي الدعاة بمصر للأدعياء، وقاضي القضاة لأولئك الأشقياء، يلقبونه بفخر الأمناء، وهو عندهم في المحلة العليا والمرتبة الشماء، والمنزلة التي في السماء، حتى انكدرت نجومهم، وتغيرت رسومهم، وأقيم قاعدهم، وعضد عاضدهم، وأخليت منهم مصرهم، وأجلى عنهم قصرهم؛ فحرّك ابن كامل ناقص الذب عنهم، والشدّ منهم، فمالأ قوما على البيعة لبعض أولاد العاضد، ليبلغوا به ما تخيلوه من المقاصد، وسوّلوه من المكايد؛ فأثمرت بجثثهم الجذوع، وأقفرت من جسومهم الرّبوع، وأحكمت في حلومهم النسوع، وهذا أوّل من ضمه حبل الصلب، وأمه فافرة الصلب؛ وهذا صنع الله فيمن ألحد، وكفر النعمة وجحد؛ وذلك غرة رمضان سنة تسع وستين وخمسمائة. سمعت الملك الناصر صلاح الدين يذكره، وقد ذكروه عنده بالفضل والأدب، ونسبوا إليه هذين البيتين في غلام رفاء، وأنشدهما الملك الناصر وذكر أنه كان ينكرهما:
يارافيا خرق كلّ ثوب ... ويارشاً حُبّه اعتقادي
عسى بكف الوصال ترفو ... مامزق الهجر من فؤادي
فصل في التعريف بحال عمارة ونسبه وشعرهقال العماد: وقد أوردت شعر عمارة بن أبي الحسن اليمني في كتاب خريدة القصر وجريدة العصر، ونقلت إلى هذا الكتاب، يعني كتاب البرق الشامي، لمعاً من ذلك. فمن ذلك ما أنشدنيه نجم الدين أبو محمد بن مصال:
لو أن قلبي يوم كاظمة معي ... لملكته وكظت غيظ الأدمع
قال العماد: إنما أنشدني فيض الأدمع فرأيت غيظ الأدمع أليق بالكظم.
قلب كفاك من الصبابة أنه ... لبى نداء الظاعنين ومادعى
ومن الظنون الفاسدات توهميّ ... بعد اليقين بقاءه في أضلعي
ما القلب أوّل غادر فألومه ... هي شيمة الأيام، مُذْ خلقت، معي
قال: وأنشدني لعمارة أيضا:
ملك إذا قابلت بشر جبينه ... فارقته والبشر فوق جبيني
وإذا لثمت يمينه وخرجت من ... أبوابه لثم الملوك يميني
قال: وأنشدني له عضد الدين أبو الفوارس موهف بن أسامة بن منقذ يقول:
لي في هوى الرشأ العذري أعدار ... لم يبق لي مذ أقر الدمع إنكار
لي في القدود، وفي لثم الخدود، وفي ... ضم النهدو، لبانات وأوطار
هذا اختياري فوافق إن رضيت به ... أولا، فدعني وما أهوى وأختار
لمُنى جزافا وسامحني مصارفة ... فالناس في درجات الحب أطوار
وخلِّ عذلي، ففي داري ودائري ... من المها دُرَّة قلبي لها دار
قلت ويُروى:
وغُرَّ غيري ففي أسرى ودائرتي
والأبيات العينية من قصيدة في مدح تقيّ الدين، والنونية في مدح نجم الدين أيوب، والرائية في مدح شمس الدولة بن أيوب.
وكان عمارة هذا عربيا فقيهاً أديباً، وله كتاب صغير ذكر فيه أخباره وأحواله باليمن ثم بمصر، فذكر أنه أقام بزبيد ثلاث سنين يقرأ عليه مذهب الشافعي رضي الله عنه. قال: ولى في الفرائض مصنف يقرأ باليمن.
وفي سنة تسع وثلاثين زارني والدي، وخمسة من إخوتي، في زبيد، فأنشدته شيئا من شعري فاستحسنه، ثم قال تعلَّم والله أن الأدب نعمة من نعم الله عليك فلا تكفرها بذم الناس؛ واستحلفني ألا أهجو مسلماً ببيت شعر، فحلفت له على ذلك، ولطف الله بي فلم أهج أحدا ماعدا إنساناً هجاني بحضرة الملك الصالح، يعمي ابن رزيك، ببيتي شعر فأقسم الصالح عليّ أن أجيبه ففعلت متأولا قول الله عز وجل: (وَلَمَن انْتَصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئِكَ مَاعَلَيْهِم مِنْ سَبيِل)، وقوله تعالى: (فَمَن اعتَدى عَلَيْكُم فاعْتَدوا عَلَيْه بِمِثِل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم). قال ولم يكن شئ غير هذا.
وحججت مع الملكة أم فاتك ملك زبيد، وكانت تقوم لأمير الحرمين بجميع ما يتناوله من حاجّ اليمن برا وبحرا، وبجميع خفارات الطريق، فذكر أنه حصل له وجاهة عندها فانتفع بها حتى أثرى وكثر ماله وجاهه. ثم طرأت أمورٌ اقتضت أن هرب من اليمن وحج سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
قال: وفي موسم هذه السنة توفي أمير الحرمين هاشم بن فليتة، وولى الحرمين ولده قاسم بن هاشم، فألزمني السّفارة عنه والرسالة منه إلى الدولة المصرية، فقدمتها في شهر ربيع الأول سنة خمسين، والخليفة بها يومئذ الفائز بن الظافر، والوزير له الملك الصالح طلائع ابن رزّيك. فلما حضرت للسلام عليهما في قاعة الذهب من قصر الخليفة أنشدتهما:
الحمد للعيس بعد العزم والهمم ... حمدا يقوم بما أولت من النعم
لا أجحد الحق، عندي للركاب يد ... تمنت اللجم فيها رتبة الخطم
قرّبن بعد مزار العز من نظري ... حتى رأيت إمام العصر من أمم
ورُحن من كعبة البطحاء والحرم ... وفداً إلى كعبة المعروف والكرم
فهل دري البيت أني بعد زورته ... ماسرت من حرم إلا إلى حرم
حيث الخلافة مضروب سرادقها ... بين انقيضين من عفو ومن نقم
وللإمامة أنوارٌ مقدسة ... تجلو البغيضين من ظلم ومن ظُلَم
وللنبوّة آيات تضئ لنا ... على الخفيين من حكم ومن حكم
وللمكارم أعلام تعلما ... مدح الجزيلين من بأس ومن كرم
وللعلا ألْسُنٌ تثنى محامدها ... على الحميدين من فعل ةمن شيم
وراية الشرف البذاخ ترفعها ... يد الرفيعين من مجد ومن همم
أقسمت بالفئز المعصوم معتقدا ... فوز النجاة وأجر البّر في القسم
لقد حمى الدِّين والدّنيا وأهلهما ... وزيره الصالح الفراج للغمم
اللاّبس الفخر لم تنسج غلائله ... إلا يد الصنعتين السيف والقلم
وُجُوده أوجد الأيام مااقترحت ... وَجُوده أعدم الشاكين للعدم
قد ملكته العوالي رقّ مملكة ... تعير أنف الثريا عزّة الشمم
أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني ... في يقظتي أنها من جملة الحُلم
يوم من العمر لم يخطر على أمل ... ولاترقت إليه رغبة الهمم
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ... عقود مدح فما أرضى لكم كلمي
ترى الوزارة فيه وهي باذلة ... عند الخلافة نصحا غير متهم
عواطف أعلمتنا أن بينهما ... قرابة من جميل الرأي لا الرحم
خليفة ووزير مدّ عَدْلُهما ... ظلاًّ على مفرق الإسلام والأمم
زيادة النيل نقص عند فيضهما ... فما عسى يتعاطى منة الديم
قال: وعهدي بالصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مرارا، والأستاذون والأمراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كل مذهب. ثم أفيضت عليّ خلع من ثياب الخلافة مذهبة، ودفع إليّ الصالح خمسمائة دينار؛ وإذا بعض الأستاذين قد خرج لي من عند السيدة بنت الإمام الحافظ بخمسمائة دينار أخرى، وحمل المال معي إلى منزلي وأُطلق لي من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد قبلي، وتهادتني أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم، واستحضرني الصالح للمجالسة، ونظمني في سلك أهل المؤانسة، وانثالت عليّ صلاته، وغمرني برّه.
ووجدت بحضرته من أعيان أهل الأدب الشيخ أبا المعالي بن الحباب، والموفق أبا الحجاج يوسف بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء، وأبا الفتح محمود بن قادوس، والمهذب أبا محمد بن الزبير، وغيرهم. وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانية، والرياسة الإنسانية، بأوفر نصيب. ومازلت أحذو على طرائقهم حتى نظموني في سلك فرائدهم. وقلت:
لياليّ بالفسطاط من شاطئ مصر ... سقى عهدك الماضي عهاد من القطر
ليالٍ هي العمر اسعيد، وكلّ ما ... مضى في سواها لايعدّ من العمر
أفادتني الأقدار فيها مواياً ... صفت بهم الأيام من كدر الغدر
تواصوا على ألا تردّ إرادتي ... ولو سمتهم نثر الكواكب في حجري
وله في الصالح من قصيدة:
ولو لم يكن أدري بما جهل الورى ... من الفضل لم تنفق لديه الفضائل
لئن كان منا قاب قوسٍ فبيننا ... فراسخ من إجلاله ومراحل
قال وأنشدت الصالح وهو بالقبو من دار الوزارة قصيدة منها:
دعُوا كل برق شممتم غير بارق ... يلوح على الفسطاط صادق بشره
وزروا المقام الصالحيَّ فكل من ... على الأرض ينسى ذكره عند ذكره
ولا تجعلوا مقصودكم طلب الغنى ... فتجنوا على مجد المقام وفخره
ولكن سلوا منه العلا تظفروا بها ... فكل امرئ يرجى على قدر قدره
قال: ولما جلس شاور في دار الذهب قام الشعراء والخطباء ولفيف الناس إلا الأقل ينالون من بني رزيك وضرغام نائب الباب ويحيى بن الخياط الأسفهسلار، فأنشدته:
صحّت بدولتك الأيام من سقم ... وزال ما يشتكيه الدهر من ألم
ومنها:
زالت ليالي بني رزيك وانصرمت ... والحمد والذم فيها غير منصرم
كأن صالحهم يوما وعاد لهم ... في صدر ذا الدست لم يقعد ولم يقم
كنا نظن، وبعض الظن مأثمة ... بأن ذلك جمع غير منهزم
فمذ وقعت وقوع النسر خانهم ... من كان مجتمعا من ذلك الرّخم
ولم يكونوا عدوَّا ذل جانبه ... وإنما غرقوا في سيلك العرم
وما قصدت بتعظيمي عداك سوى ... تعظيم شأنك، فاعذرني ةلاتلم
ولو شكرت لياليهم محافظة ... لعهدها لم يكن بالعهد من قدم
ولو فتحت فمي يوماً بذمهم ... لم يرض فضلك إلا أن يسدّ فمي
والله يأمر بالإحسان عارفة ... منه، وينهى عن الفحشاء في الكلم
قال: فشكرني شاور وأبناؤه على الوفاء لبني رزيك.
قلت: وشعر عمارة كثير حسن، وعندي من قوله: الحمد للعيس، وإن كانت القصيدة فائقة، نفرة عظيمة، فإنه أقام ذلك مقام قولنا الحمد لله؛ ولا ينبغي أن يفعل ذلك مع غير الله تعالى عزّ وجل، فله الحمد وله الشكر، فهذا اللفظ كالمتعين لجهة الربوبية المقدسة، وعلى ذلك اطرد استعمال السلف والخلف رضي الله عنهم.
فصل في وفاة نور الدين رحمه الله تعالىقال العماد: وأمر نور الدين رحمه الله تعالى بتطهير ولده الملك الصالح اسماعيل يوم عيد الفطر، واحتفلنا لهذا الأمر وغلقت محال دمشق أياما.
قال: ونظمت للهناء بالعيد والطهور قصيدة منها:
عيدان: فطر وطهر ... فتح قريب ونصر
كلاهما لك فيه ... حقا هناء وأجر
وفيهما بالتهاني ... رسم لنا مستمر
طهارة طاب منها ... أصل وفرع وذكر
نجل على الطهر نامٍ ... زكا له منك نجر
محمود الملك العا ... دل الكريم الأغر
وبابنه الملك الصا ... لح العيون تقر
مولى به اشتد للدي ... ن والشريعة أزر
نور تجلى عيانا ... مادونه اليوم ستر
أضحت مساعيك غرا ... كما أياديك غزر
وكل قصدك رشد ... وكل فعلك بر
وإن حبك دين ... وإن بغضك كفر
لنا بيمناك يمن ... كما بيسراك يسر
وللموالين نفع ... وللمُعادين ضر
وللسماء سحاب ... وسحب كفيك عشر
وناديك بالرفد رحب ... نداك للوفد بحر
للبحر مدّ وجزر ... وما لجودك جزر
عدل عميم وجود ... غمر ويسر وبشر
وفي العطية حلو ... وفي الحمية مر
قد استوى منك تقوى ال ... له سرّ وجهر
تقاك والملك عند ... القياس عقد ونحر
ياأعظم الناس قدرا ... وهل لغيرك قدر!
وساهر حين ناموا ... وقائما حين قروا
مااعتدت إلا وفاء ... وعادة القوم غدر
وفعلك الدهر غزو ... للمشركين وقهر
وفعل غيرك ظلم ... للمسلمين وقسر
يفتر من كل ثغر ... إلى ابتسامك ثغر
روم به وفرنج ... في شفعهم لك وتر
حرب عوان وفتح ... على مرادك بكر
بنو الأصافر من خشي ... ية انتقامك صفر
لم يبق للكفر ظفر ... لاكان للكفر ظفر
ومادجى ليل خطب ... إلا وعزمك فجر
أصبحت بالغزو صبا ... وعنه مالك صبر
لكسر كل يتيم ... إسعاف برك جبر
في كل قلب حسود ... من حر بأسك جمر
تملَّ تطهير مَلْكَ ... له الملوك تخر
يزهى سرير وتاج ... به ودست وصدر
وكيف يعمل للطا ... هر المطهر طهر
هذا الطهور ظهور ... على الزمان وأمر
وذا الختان ختام ... بمسكه طاب نشر
رزقت عمرا طويلا ... ماطال للدهر عمر
قال: وفي يوم العيد يوم الأحد ركب نور الدين على الرسم المعتاد، محفوفا من الله بالإسعاد، مكنونا من السماء والأرض بالأجناد، والقدر يقول له هذا آخر الأعياد. ووقف في الميدان الأخضر الشمالي لطعن الحلق، ورمى القبق، وكان قد ضرب خيمته في الميدان القبلي الأخضر، وأمر بوضع المنبر؛ وخطب له القاضي شمس الدين محمد بن الفراش قاضي العسكر، بعد أن صلى به وذكّر، وعاد إلى القلعة، طالع البهجة بهيج الطلعة وأنهب سماطه العام على رسم الأتراك، وأكابر الأملاك. ثم حضرنا على خوانه الخاص، وله عقد كمال مصون من الانتقاض والانتقاص؛ وما أوضح بشره، وأضوع نشره، وأضحك سنه، وأيرك يمنه.
وفي يوم الأثنين ثاني العيد بكر وركب وجمل الموكب، وكأن الفلك بنيره جار، والطود الثابت يمرّ مرّ السحاب في وقار؛ وكأنه القمر في هالته، والقدر في جلالته، والبدر في دائرته، سائرين سيارته؛ ودخل الميدان والعظماء يسايرونه، والفهماء يحاورونه، وفيهم همام الدين مودود، وهو في الأكابر معدود، وكان قديما في أول دولته والى حلب، وقد جرب الدهر بحنكته ولأشطره حلب، فقال لنور الدين في كلامه، عظة لمن يغتر بأيامه، هل نكون ههنا في مثل اليوم في العام القابل؟ فقال نور الدين قل هل نكون بعد شهر، فإن السنة بعيدة! فجرى على منطقهما ماجرى به القضاء السابق، فإن نور الدين لم يصل إلى الشهر والهمام لم يصل إلى العام.
ثم شرع نور الدين في اللعب بالكرة مع خواصه البررة، فاعترضه في حاله أمير آخر اسمه برتقش وقال له باش، فأحدث له الغيظ والاستيحاش، واغتاظ على خلاف مذهبه الكريم، وخلقه الحليم، فزجره وزبره، ونهاه ونهره، وساق ودخل القلعة ونزل، واحتجب واعتزل؛ فبقي أسبوعا في منزله، مشغولا بنازله، مغلوبا عن عاجله بحديث آجله، والناس من الختان، لاهون بأوطانهم في الأوطان، فهذا يروح بجوده، وذاك يجود بروحه؛ فما انتهت تلك الأفراح إلا بالأتراح وما صلح الملك بعده إلا بمكل الصلاح.
قال: واتصل مرض نور الدين وأشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع، وكان مهيبا فما روجع؛ وانتقل حادي عشر شوال يوم الأربعاء من مربع الفناء، إلى مرتع البقاء. ولقد كان من أولياء الله المؤمنين، وعباده الصالحين، وصار إلى جنات عدن أعدت للمتقين.
وكانت له صُفَّة في الدار التي على النهر الداخل إلى القلعة من الشمال، وكان جلوسه عليهما في جميع الأحوال؛ فلما جاءت سنة الزلزلة بنى بإزاء تلك الصفّة بيتا من الأخشاب، مأمون الاضطراب، فهو يبيت فيه ويصبح، ويخلو بعبادته ولايبرح؛ فدفن في ذلك البيت الذي اتخذه حِميً من الحمام، وأذن بناؤه لبانيه بالانهدام.
قال العماد: وقلت في ذلك:
عجبت من الموت، كيف اهتدى ... إلى ملك في سجايا مَلَك!
وكيف ثوى الفلك المستدي ... رُ في الأرض، والأرض وسط الفلك!
ولهه فيه رحمهما الله تعالى:
يا ملكا أيامه لم تزل ... بفضله فاضلة فاخرة
غاصت بحار الجود مذ غيبت ... أنملك الفائضة الزاخرة
ملكت دنياك وخلفتها ... وسرت حتى تملك الآخرة
قال ابن شداد. وكانت وفاة نور الدين رحمه الله تعالى بسبب خوانيق اعترته عجز الأطباء عن علاجها. ولقد حكى لي صلاح الدين قال: كان يبلغنا عن نور الدين أنه ربما قصدنا بالديار المصرية، وكانت جماعة أصحابنا يشيرون بأن نكاشف وونخالف ونشق عصاه، ونلقى عسكره بمصاف يرده، إذا تحقق قصده؛ قال: وكنت وحدي أخالفهم وأقول: لايجوز أن يقال شئ من ذلك ولم يزل النزاع بيننا حتى وصل الخبر بوفاته رحمه الله تعالى، ورضي عنه.
قال ابن الأثير: وكان نور الدين قد شرّع بتجهيز السير إلى مصر لأخذها من صلاح الدين لأنه رأى منه فتورا في غزو الفرنج من ناحيته، فأرسل إلى الموصل وديار الجزيرة وديار بكر. يطلب العساكر ليتركها بالشام لمنعه من الفرنج، ليسير هو بعساكره إلى مصر. وكان المانع لصلاح الدين من الغزو، الخوف من نور الدين، فإنه كان يعتقد أن نور الدين متى زال عن طريقه الفرنج أخذ البلاد منه؛ فكان يحتمي بهم عليه، ولايؤثر استئصالهم، وكان نور الدين لايرى إلا الجدّ في غزوهم بجهده وطاقته، فلما رأى إخلال صلاح الدين بالغزو، وعلم غرضه تجهز بالمسير إليه، فأتاه أمر الله الذي لايرد.
قلت: ولو علم نور الدين ماذا ذخر الله تعالى للإسلام من الفتوح الجليلة على يدي صلاح الدين من بعده لقرَّت غينه، فإنه بنى على ما أسسه نور الدين من جهاد المشركين، وقام بذلك على أكمل الوجوه وأتمها، رحمهما الله تعالى.
قال: وحكى لي طببيب بدمشق، يعرف بالرحبي، وهو من حذاق الأطباء، قال: استدعاني نور الدين في مرضه الذي توفي فيه مع غيري من الأطباء، فدخلنا عليه وهو في بيت صغير بقلعة دمشق، وقد تمكنت الخوانيق منه وقارب الهلاك، فلا يكاد يسمع صوته، وكان يخلو فيه للتعبد في أكثر أوقاته، فابتدا به المرض فيه فلم ينتقل عنه. فلما دخلنا عليه ورأينا مابه قلت: كان ينبغي أن لايؤخَّر إحضارنا إلى أن يشتد بك المرض إلى هذا الحد، فالآن ينبغي أن تنتقل إلى مكان فسيح فله أثر في هذا المرض. وشرعنا في علاجه فلم ينفع فيه الدواء، وعظم الداء، ومات عن قريب رضي الله عنه.
قال ابن الأثير: وكان أسمر طويل القامة، ليس له لحية إلا في حنكه. وكان واسع الجبهة، حسن الصورة، حلو العينين. وكان قد اتسع ملكهه جدا فملك الموصل وديار الجزيرة، وأطاعه أصحاب ديار بكر، وملك الشام والديار المصرية واليمن، وخُطب له بالحرمين الشريفين مكة والمدينة، وطبّق الأرض ذكره لحسن سيرته وعدله. ولم يكن مثله إلا الشاذ النادر. رحمة الله تعالى عليه.
قال الحافظ أبو القاسم، بعد ماذكر أوصاف نور الدين الجليلة المتقدمة مفرقة ومجموعة في هذا الكتاب: هذا مع جمع الله له من العقل المتين، والرأي الثاقب الرصين، والاقتداء بسيرة السلف الماضين، والتشبه بالعلماء والصالحين؛ والاقتداء بسيرة من سلف منهم في حسن سمتهم، والاتباع لهم في حفظ حالهم ووقتهم، حتى روى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وأسمعه؛ وكان قد استجيز له ممن سمعه وجمعه، حرصا منه على الخير في نشر السنة بالأداء والتحديث، ورجاء أن يكون ممن حفظ على الأمة أربعين حديثاً كما جاء في الحديث. فمن رآه شاهد من خلال السلطنة وهيبة الملك مايبهره، فإذا فاوضه رأى من لطافته وتواضعه مايحيره؛ يحب الصالحين ويؤاخيهم، ويزور مساكهنم لحسن ظنه فيهم. وإذا احتلم مماليكه أعتقهم، وزوّج ذكرانهم بإناثهم ورزقهم؛ ومتى تكررت الشكاية إليه من أحد من ولاته، أمره بالكف عن اذى من تظلم بشكاته، فمن لم يرجع منهم إلى العدل، قابله بإسقاط المنزلة والعزل. فلما جمع الله له من شريف الخصال، تيسر له جميع مايقصده من الأعمال، وسهل على يديه فتح الحصون والقلاع، ومُكن له في البلدان والبقاع.
ثم قال بعد كلام كثير: زمناقبه خطيرة، وممادحه كثيرة؛ ومدحه جماعة من الشعراء فأكثروا، زلم يبلغوا وصف الآئه بل قصروا؛ وهو قليل الابتهاج بالشعر، زيادة في تواضعه لعلّو القدر.
ومولده على ماذكر لي كاتبه أبو اليسر شاكر بن عبد الله، وقت طلوع الشمس من يوم الأحد سابع عشر شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وتوفي يوم الأربعاء الحادي عشر من شوال سنة تسع وستين وخمسمائة، ودفن بقلعة دمشق، ثم نقل إلى تربة تجاور مدرسته التي بناها لأصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه جوار الخواصين في الشارع الغربي رحمه الله.
قلت: وفي هذه المدرسة يقول العرقلة:
ومدرسة سيدرس كل شئ ... وتبقى في حمى علم ونسك
تضوع ذكرها شرقا وغربا ... بنور الدين محمود بن زنكي
يقول، وقوله حقٌّ وصدق ... بغير كنايةٍ وبغير شكّ
دمشق في المدائن بيت مُلكي ... وهذي في المدارس بيت مِلكي
ولما اشتهر به من قلة ابتهاجه بالمدح لما علم من تزايد الشعراء، وهي طريقة عمر بن عبد العزيز زاهد الخلفاء، قال يحيى بن محمد الوهراني في مقامة له، وقد سئل في بغداد عن نور الدين: هو سهم للدولة سديد، وركن للخلافة شديد، وأمير زاهد، وملك مجاهد، تساعده الأفلاك، وتعضده الجيوش والأملاك، غير أنه عرف بالمرعى الوبيل، لابن السبيل، وبالمحل الجديب، للشاعر الأديب، فما يُرزى ولايُعزى، ولا لشاعر عنده من نعمة تجزى.
وإيَّاه عني أسامة ابن منقذ بقوله:
سلطاننا زاهد والناس قد زهدوا ... له، فكلُّ على الخيرات منكمش
أيَّامه مثل شهر الصوم: طاهرة ... من المعاصي، وفيها الجوع والعطش
قلت: رحمه الله، ماكان يبذل أموال المسلمين إلا في الجهاد، ومايعود نفعه على العباد؛ وكان كما قيل في حق عبد الله بن محيريز، وهو من سادات التابعين بالشام، قال يعقوب بن سفيان الحافظ، حدّثنا ضمرة الشيباني، قال: كان ابن الديلمي من أنصر الناس لأخوانه، فذكر ابن محيريز في مجلسه، فقال: رجل كان بخيلا. فغضب ابن الدّيلمي وقال: كان جوادا حيث يحب الله وبخيلا حيث تحبون.
وأما شعر ابن منقذ فلا اعتبار به فهو القائل في ليلة الميلاد يمدح نور الدين رحمه الله تعالى:
في كل عام للبرية ليلة ... فيها تشب النار بالإيقاد
لكن لنور الدين من دون الورى ... ناران نار قرى ونار جهاد
أبداً يصرّفها نداه وبأسه ... فالعام أجمع ليلة الميلاد
ملك له في كل جيد منّة ... أبهى من الأطواق في الأجياد
أعلى الملوك يدا، وأمنعهم حمى ... وأمدهم كفَّا ببذل تلاد
يعطى الجزيل من النوال تبرعا ... من غير مسألة ولا ميعاد
لازال في سعد وملك دائم ... مادامت الدنيا بغير نفاد
وقد تقدم من شعر ابن منير وابن القيسراني والعماد الكاتب وغيرهم من مدح نور الدين بالكرم والجود ماقليل منه يرّد قول الوهراني وابن منقذ. على أنّ ابن منقذ قد رددنا شعره كما تراه، وإنما الشعراء وأكثر الناس كما قال الله تعالى في وصف قوم (فإنْ أُعْطُوا مِنْها رّضُوا، وَإنْ لَمْ يُعْطَوا مِنْها إذَا هم يَسْخَطون) وما كلّ وقت ينفق العطاء ويفعل الله ما يشاء.
فصلقال ابن الأثير: لما توفي نور الدين جلس ابنه الصالح اسماعيل في الملك وحُلِف له ولم يبلغ الحُلم، وحلف له الأمراء والمقدمون بدمشق، وأقام بها، وأطاعه الناس في سائر بلاد الشام، وصلاحُ الدين بمصر، وخطب له بها، وضرب السكة باسمه فيها. وتولّى تربيته الأمير شمس الدين محمد بن المقدم.
قال العماد: وأخرجوا يوم وفاة نور الدين ولده الملك الصالح اسماعيل، وقد أبدى الحزن والعويل، وهو مجزوز الذوائب مشقوق الجيب، حاسر، حافٍ مما فجأه وفجعه من الرّيب، وأجلسوه في الأيوان الشمالي من الدّست والتخت الباقي من عهد تاج الدولة تتش، فاستوحى كل قلب حزنه واستوحش، فوقف الناس يظطرمون ويضطربون، ويلتهفون ويتلهبون. ولما كفّن بحلة الكرامة، ودفن في روضة بابها إلى باب رضوان من دار المقامة، وقضوا الجزع، وقوضوا الفزع، وغيبوا الدمعة، وأحضروا الرّبعة، حضر القاضي كمال الدين، وشمس الدين بن المقدم، وجمال الدين ريحان، وهو أكبر الخدم. والعدل أبو صالح بن العجمي أمين الأعمال، والشيخ اسماعيل خازن بيت المال، وتحالفوا على أن تكون أيديهم واحدة، وعزائمهم متعاقدة، وأن ابن المقدم مقدم العسكر، وإليه المرجع والمصدر.
قال: وأنشأت في ذلك اليوم كتابا عن الملك الصالح إلى صلاح الدين في تعزيته بنور الدين، ترجمته: إسماعيل بن محمود وفيه: أطال الله بقاء سيدنا الملك الناصر وعظم أجرنا وأجره في والدنا الملك العادل ندب الشام، بل الإسلام، حافظ ثغوره، وملاحظ أموره، ومقدام الجهاد مقتني فضيلته، ومؤدي فريضته، ومحيي سنته؛ وأورثنا بالاستحقاق ملكه وسريره، على أنه يعزّ أن يرى الزمان نظيره. وما ههنا ما يشغل السر، ويقسم الفكر، إلا أمر الفرنج خذلهم الله؛ وما كان اعتماد مولانا الملك العادل عليه وسكونه إليه إلا لمثل هذا الحديث الجلل، والصرف الكارث المذهل؛ فقد ادخره لكفايات النوائب، وأعده لحسم أدواء المعضلات اللوازب، وأمله ليومه ولغده، ورجاه لنفسه ولولده، ومكنّه قوة لعضده. فما فقد رحمه الله تعالى إلا صُورة والمعنى باق، والله تعالى حافظ لبيته واق؛ وهل غيره، دام سموه، من مؤازر، وهل سوى السيّد الأجل النّاصر من ناصر؛ وقد عرفناه المقترح، ليروض برأيه من الأمر ماجمح. والأهم شغل الكفار، عن هذه الديار، بما كان عازما عليه من قصدهم والنكاية فيهم على البدار؛ ويجري على العادة الحسنة في إحياء ذكر الوالد هناك بتجديد ذكرنا، راغبا في اغتنام ثنائنا وشكرنا.
قلت: وكان قد بلغ صلاح الدين خبر نور الدين فأرسل كتابا بالمثال الفاضل فيه: ورد خبر من جانب العدو اللعين، عن المولى نور الدين، أعاذ الله تعالى فيه من سماع المكروه، ونور الدين بعافيته القلوب والوجوه؛ فاشتد به الأمر، وضاق به الصدر، وانقصم بحادثه الظهر، وعزّ فيه التثبت وأعوز الصبر. فإن كان والعياذ بالله قد تم، وخصّه الحكم الذي عم، فللحوداث تدخر النصال، وللأيام تصطنع الرجال؛ وما رتب الملوك ممالكها إلا لأولادها، ولا استودعت الأرض الكريمة البذر إلا لتؤدي حقها يوم حصادها؛ فالله الله أن تختلف القلوب والأيدي، فتبلغ الأعداء مرادها، وتعدم الآراء رشادها، وتنتقل النعم التي تعبت الأيام فيها، إلى أن أعطت قيادها. فكونوا يداً واحدة، وأعضاداً متساعدة، وقلوبا يجمعها ودّ، وسيوفا يضمها غمد؛ ولاتختلفوا فتنكلوا، ولاتنازعوا فَتَفْشَلوا، وقوموا على أمشاط الأرجل، ولاتأخذوا الأمر بأطراف الأنمل؛ فالعداوة محدقة بكم من كل مكان، والكفر مجتمع على الأيمان. ولهذا البيت منّا ناصر لانخذله، وقائم لانسلمه. وقد كانت وصيته إلينا سبقت، ورسالته عندنا تحققت، بأن ولده القائم بالأمر وسعد الدين كمشتكين الأتابك بين يديه؛ فإن كانت الوصية ظهرت وقبلت، والطاعة في الغيبة والحضور أديت وفعلت، وإلا فنحن لهذا الولد يدُ على من ناواه، وسيف على من عاداه. وإن أسفر الخبر عن معافاة فهو الغرض المطلوب، والنذر الذي يحل على الأيدي والقلوب.
قال العماد: وورد كتاب صلاح الدّين بالمثال الفاضل معزيا لابن نور الدين وفي آخره: وأما العدو خذله الله تعالى فوراءه من الخادم من يطلبه طلب ليلٍ لنهار، وسيل لقرار، إلى أن يزعجه من مجاثمه، ويستوقفه عن مواقف مغانمه؛ وذلك من أقلّ فروض البيت الكريم وأيسر لوازمه. أصدر هذه الخدمة يوم الجمعة رابع ذي القعدة، وهو اليوم الذي أقيمت فيه الخطبة بالاسم الكريم، وصرح فيه بذكره في الموقف العظيم، والجمع الذي لالغو فيه ولا تأثيم؛ وأشبه يوم الخادم أمسه في الخدمة ووفى مالزمه من حقوق النعمة وجمع كلمة الإسلام عالماً أن الجماعة رحمة. والله تعالى يخلد ملك المولى الصالح، ويصلح به وعلى يديه، ويؤكد عهود النَّعْماء الراهنة لديه، ويجعل للإسلام واقية باقية عليه، ويوفق الخادم لما ينويه من توثيق سلطانه وتشييده، ومضاعفة ملكه ومزيده، وييُسر منال كل أملٍ صالح وتقريب بعيده، إن شاء الله تعالى.
ومن كتاب آخر: الخادم مستمر على بدأته من الاستشراف لأوامرها، والتعرض لمراسمها، والرفع لكلمتها، والإيالة لعسكرها، والتحقق بخدمتها، في بواطن الأحوال وظواهرها، والتّرقب لأن يؤمر فيمتثل، ويكلف فيحتمل، وأن يُرمى به في نحر عدوه فيتسدد بجهده، ويوفى أيام الدولة العالية يوما يكشف الله فيه للمولى ضمير عبده.
قال العماد: ولما توفي نور الدين أختل أمري، واعتل سرّي، وعلت حسادي، وبلغ مرادهم أضدادي. وكان الملك الصالح صغيرا، فصار العدل ابن العجمي له وزيرا؛ وتصرف المتحالفون في الخزانة والدولة كما أرادوا، وولَّوْا وصرفوا ونقصوا وزادوا؛ واقتصروا لي على الكتابة، محروم الدعوة من الإجابة.
ومما نظمته في مرثية نور الدين قصيدة منها.
لفقد الملك العاد ... ل يبكي الملك والعدل
وقد أظلمت الآفا ... ق: لا شمس ولاظل
ولما غاب نور الدي ... ن عنا أظلم الحفل
وزال الخصب والخير ... وزاد الشر والمحل
ومات البأس والجود ... وعاش اليأس والبخل
وعز النقص لمّا ها ... ن أهل الفضل والفضلُ
وهل ينفق ذو علم ... إذا ما نفق الجهل
وما كان لنور الدي ... ن، لولا نجلُه، مثل
فصلقال العماد: واتفق نزول الفرنج بعد وفاة نور الدين رحمه الله تعالى على الثغر وقصدهم بانياس، ورجوا أن يتم لهم الأمر ثم ظهرت خيبتهم وبان الياس. وذلك أن شمس الدّين ابن المقدم خرج وراسل الفرنج وخوّفهم بقصد صلاح الدين لبلادهم، وأنه قد عزم على جهادهم؛ وتكلموا في الهدنة، وقطع مواد الحرب والفتنة، وحصلوا بقطيعة استعجلوها، وعدة من أساراهم استطلقوها؛ وتمّت المصالحة.
وبلغ ذلك صلاح الدين فأنكره ولم يعجبه، وكتب إلى جماعة الأعيان كتُباً دالّة على التوبيخ والملام. ومن جملتها كتاب بالمثال الفاضلي إلى الشيخ شرف الدّين بن أبي عصرون يخبره فيه أنه أتاه كتاب الملك الصالح بقصد الفرنج تجهّز وخرج وسار أربع مراحل، ثم جاءه الخبر بالهدنة المؤذنة بذُل الإسلام من دفع القطيعة وإطلاق الأسارى؛ وسيدنا الشيخ أول من جرّد لسانه الذي تُغمد له السيوف وتُجرّد، وقام في سبيل الله قيام من يقطّ عادية من تعدّى وتمرّد.
وفي آخره: كتب من المنزل بفاقوس والفجر قَدْ هَمّ أنْ يشقّ ثوب الصباح، لولا أن الثّريا تعرضت تعرض أثناء الوشاح. وهذه الليلة سافرة عن نهار يوم الجمعة ثاني عشر ذي الحجة، بلغه الله فيه أمله، وقبل عمله، بالغاً أسنى المراد وأفضله.
وقال ابن الأثير: لما توفي نور الدين قال الأمراء، منهم شمس الدين بن المقدم وحسام الدين الحسين بن عيسى الجراحي، وغيرهما من أكابر الأمراء: قد علمتم أن صلاح الدين من مماليك نور الدين ونوّابه، والمصلحة أن تشاوره فيما نفعله ولانخرجه من بيننا، فيخرج عن طاعة الملك الصالح، ويجعل ذلك حجة علينا؛ وهو أقوى منا لأن له مثل مصر، وربما أخرجنا وتولى هو خدمة الملك الصالح. فلم يوافق أغراضهم هذا القول، وخافوا أن يدخل صلاح الدين ويخرجوا.
قال: فلم يمض غير قليل حتى وصلت كتب صلاح الدين إلى الملك الصالح، يهنيه بالملك ويعزيه بأبيه، وأرسل دنانير مصريه عليها اسمه، ويعرفه أن الخطبة والطاعة له كما كانت لوالده. فلّما سار سيف الدين غازي، ابن عمه قطب الدين، وملك الديار الجزرية، ولم يرسل من مع الملك الصالح من الأمراء إلى صلاح الدين ولا أعلموه الحال، كتب إلى الملك الصالح بعتبه حيث لم يُعْلِمه قصد سيف الدين بلاده ليحضر في خدمته ويمنعه. وكتب إلى الأمراء يقول إن الملك العادل لو علم أن فيكم من يقوم مقامي أو يثق إليه مثل ثقته بي، لَسَلَّم إليه مصر التي هي أعظم ممالكه وولاياته، ولو لم يعجل عليه الموت لم يعهد إلى أحد بتربية ولده والقيام بخدمته سواي. وأراكم قد تفردتم بخدمة مولاي وابن مولاي دوني، فسوف أصلُ إلى خدمته وأجازي إنعام والده بخدمة يظهر أثرها، وأقابل كلاًّ منكم على سوء صنيعه، وإهمال أمر الملك الصالح ومصالحه، حتى أخذت بلاده.
فأقام الصالح بدمشق ومعه جماعة من الأمراء لم يمكنوه من المسير إلى حلب لئلا يغلبهم عليه شمس الدين على بن الدّاية فإنه كان أكبر الأمراء النُّورية، وإنما تأخر عن خدمة الملك الصالح بعد وفاة نور الدين لمرض لحقه؛ وكان هو وإخوته بحلب وأمرها إليهم، وعسكرها معهم في حياة نور الدين وبعده. ولما عجز عن الحركة أرسل إلى الملك الصالح يدعوه إلى حلب ليمنع البلاد من سيف الدين ابن عمه؛ وأرسل إلى الأمراء يقول لهم: إن سيف الدين قد ملك إلى الفران ولئن لم ترسلوا الملك الصالح إلى حلب حتى يجمع العساكر ويسترد ما أخذ منهم، وإلا عبر سيف الدين الفرات إلى حلب ولانقوى على منعه. فلم يرسلوه ولا مكنوه من قصد حلب.
قال: وكان نور الدين قبل أن يمرض قد أرسل إلى البلاد الشرقية كالموصل وغيرها، واستدعى العساكر منها، فسار سيف الدين غازي بن أتابك قطب الدين صاحب الموصل في عساكره، فلما كان ببعض الطريق أتاه الخبر بموت عمّه نور الدين، فعاد إلى نصيبين فملكها، وأرسل الشحن إلى الخابور فاستولوا عليها، وسار هو إلى حران فحصرها عدة أيام ثم أخذها، وملك الرّها والرّقة وسَرُوج واستكمل ملك ديار الجزيرة سوى قلعة جعبر. فقال له فخر الدين عبد المسيح - وكان قد فارق سيواس بعد وفاة نور الدين وقصد سيف الدين، ظنَّا منه أن سيف الدّين يرعى له خدمته، وقيامه في أخذ الملك له من والده قطب الدين، على ماذكرناه أولا، فلم يجن ثمرة ماغرس، وكان عنده كبعض الأمراء - ليس بالشام من يمنعك فاعبر الفرات واملك البلاد. فأشار أمير آخر معه وهو أكبر أمرائه: قد ملكت أكثر من والدك، والمصلحة أن تعود؛ فرجع إلى الموصل.
فصل
قال ابن الأثير: قد سبق أن نور الدين كان قد جعل بقلعة الموصل لمّا ملكها دُزْداراً له وهو سعد الدين كمشتكين بعض خدمه الخصيان؛ فلما سار سيف الدين إلى الشام كان في مقدمته على مرحلة. فلما أتاه خبر وفاة نور الدين هرب، وأرسل سيف الدين في أثره فلم يدركه، فنهب بَرْكه ودوابه وسار إلى حلب، وتمسك بخدمة شمس الدين بن الداية وإخوته، واستقر بينهم وبينه أن يسير إلى دمشق ويحضر الملك الصالح. فسار إلى دمشق، فأخرج ابن المقدم عسكراً لينهبوا فعاد مُنهزما إلى حلب؛ فأخلف عليه شمس الدين بن الداية ما أخذ منه وجهزه وسيره إلى دمشق، وعلى نفسها تجني براقش. فلما وصلها سعد الدين دخلها واجتمع بالملك الصالح والأمراء، وأعلمهم مافي قصد الملك الصالح إلى حلب من المصالح، فأجابوه إلى تسييره، فسار إليها. فلما وصلها وصعد إلى قلعتها قبض الخادم سعد الدين على شمس الدين بن الداية وإخوته وعلى ابن الخشاب رئيس حلب.
قال ابن الأثير: ولولا مرض شمس الدين لم يُتمكن منه ولاجرى من ذلك الخلف والوهن شئ. وكان أمر الله قدراً مقدوُراً.
واستبد سعد الدين بتدبير أمر الملك الصالح، فخافه ابن المقدم وغيره من الأمراء الذين بدمشق، فكاتبوا سيف الدين ليسلموا إليه دمشق، فلم يفعل وخاف أن تكون مكيدة عليه ليعبر الفرات ويسير إلى دمشق فيمنع عنها، ويقصده ابن عمه من وراء ظهره، فلايمكنه الثبات. فراسل الملك الصالح وصالحه على إقرار ما أخذه بيده، وبقي الملك الصالح بحلب وسعد الدين بين يديه يدبر أمره، وتمكّن منه تمكناً عظيماً يقارب الحجر عليه.
وقال العماد: كان كمشتكين الخادم النائب بالموصل قد سمع بمرض نور الدين فأخفاه، واستأذن في الوصول إلى الشام، فطلب سيف الدين غازي رضاه؛ فخرج وسار مرحلتين وسمع النّعْي، فأغذ السير والسعي، ونجا بماله وبحاله، وندم صاحب الموصل على الرضا بترحاله. وكانت عنده بوفاة عمه بشارة، وظهرت على صفحاته منها أمارة، فإنه لم يزل من كمشتكين متشكياً فإنه كان لحجر الأمر عليه مّذْكيا. وكان المرحوم قد أمر بإراقة الخمور، وإزالة المحظور، وإسقاط المكوس، وإعدام أقساط البوس؛ فنودي في الموصل يوم ورود الخبر بالفسحة في الشرب جهاراً، ليلاً ونهاراً، وزال العرف، وعاد النكر؛ وأنشد قول ابن هاني:
*ولا تسقني سرا فقد أمكن الجهر*
وقيل: أخذ المنادي على يده دنّا وعليه قدح وزمر، وزعم أنه خرج بهذا أمر، فلا حرج على من يغنى ويشرب؛ وعادت الضرائب وضربت العوائد.
فأما كمشتكين فإنه وصل إلى حلب بعد عبور القرى، وتمثل عند الصباح بحمد القوم السّري، واجتمع هناك بالأمير شمس الدين عليّ بن الداية وإخوته، إخوة مجد الدين، وأظهر أنه لهم من المخلصين.
وكان مجد الدين أبو بكر أخوهم رضيع نور الدين وقد ترّبى معه، ولزمه وتبعه إلى أن ملك الشام بعد والده، ففّوض إلى مجد الدين جميع مقاصده، من طريفه وتالده، وحكّمه في الملك، ونظمه في السلك، فلا يُحلّ ولا يُعقد إلا برأيه. وكانت حصونه محصّنة، وهو يسكن عنده في قلعة حلب، والحاضر عنده صباحا ومساءً إذا طُلب؛ وشيرز مع أخيه شمس الدين علي، وقلعة جعبر وتلّ باشر مع سابق الدين عثمان، وحارم مع بدر الدين حسن، وعين تاب وعزاز وغيرهما نوّابه فيها، وهو يصونها ويحميها.
ولمّا توفّي جرت إخوته في القرب والانبساط على عادته، وهم أعيان الدولة وأعضادها، وأبدال أرضها وأوتادها، وأمجادها وأجوادها. فلما توفي نور الدين لم يشكوا في أنهم يكفلون ولده ويرّبونه، ويحبهم لأجل سابقتهم ويحبونه؛ فأقام شمس الدين عليّ، وهو أكبرهم وأوجههم، ودخل قلعة حلب، وبها والياً شاذ بخت، وسكنها، وأسرَّ مصلحة الدولة وأعلنها. وعرف ماجرى بدمشق من الاجتماع، واتفاق ذوى الأطماع، فكاتبهم وأمرهم بالوصول إليه في خدمة الملك الصالح. وأنفذ أخاه سابق الدين عثمان، وكان قليل الخبرة بعيدا من التحرُّز والدّهاء، فاستقرّ الأمر على أن يحملوا الملك الصالح إليه، ويقدموا به عليه، وهو يتسلم ممالكه، ويكون أتابكه.
ووصل كمشتكين إلى دمشق في تلك الأيام، فوافقهم على مادبروه من المرام، وسار الصالح ومعه كمشتكين، والعدل ابن العجمي، واسماعيل الخازن، فبغُتوا إخوة مجد الدين الثلاثة فقبضوهم واعتقلوهم؛ وجاء ابن الخشاب أبو الفضل، مقدّم الشيعة، فسفكوا دمه. وأقام شمس الدين بن المقدم بدمشق على عساكرها مقدما، وفي مصالحها محكّما؛ وجمال الدين ريحان والي القلعة والشِّحن من قبله، والأمر إليه بتفصيله وجمُله، والقاضي كمال الدين الشهرزوري الحاكم النافذ حكمه، الصائب سهمه، الثاقب نجمه.
وكان مسير الملك الصالح من دمشق في الثالث والعشرين من ذي الحجة؛ وغاظ صلاح الدين ما فُعل بأخوة مجد الدين.
وقال ابن أبي طي الحلبي: لما مات نُور الدين اجتمع أمراء دولته واتفقوا على أن يكونوا في خدمة الملك الصالح، ابن نور الدين، وكان يومئذ صبيا، وحلفوا له على منابذة الملك الناصر وقبض أصحابه الذين بالشام، ومصالحة الفرنج وجعلوا ابن المقدم شمس الدين مقدم العساكر؛ وتم ذلك واستقر، وركب الملك الصالح بدمشق وخطب له.
وكانت الفرنج قد تحركت إلى قصد دمشق فخرج ابن المقدم ونزل على بانياس في عساكر نور الدين، وراسل الفرنج في الهدنة، فأجابوه بعد أن قطعوا قطيعة على المسلمين، فعجل حملها إليهم. وتم أمر الصلح وعادت الفرنج إلى بلادها وابن المقدم إلى دمشق.
واتصل خبر هذه الهدنة بالملك الناصر، وكان قد خرج من مصر أربع مراحل، فأعظم أمرها وأكبره، واستصغر أمر أهل الشام وعلم ضعفهم. فراسل ابن المقدم وغيره من الأمراء بإنكار ذلك والتوبيخ عليه، وقال في كتابه إلى ابن عصرون: ورد الخبر بصلح بين الفرنج والدمشقيين، وبقيةُ بلاد المسلمين ما دخلت في العقد، ولا انتظمت في سلك هذا القصد، والعدو لهما واحد؛ وصرف مال الله الذي أُعد لمغنم الطّاعة، ومصلحة الجماعة، في هذه المعصية المغضبة لله ولرسوله ولصالحي الأمة، وكان مذخوراً لكشف الغمة، فصارعَوْنا؛ وأن أسارى من طبرية وفرسانها كانت وطأتهم شديدة، وشوكتهم حديدة، دُفعوا في القطيعة، وجعلوا إلى السلم السبب والذريعة. فلما بلغنا هذا الخبر، وقفنا به بين الورود والصدر، وإن أتممنا ظُنَّ بنا غير مانريد، وإن قعدنا فالعودّ من بقية الثغور التي لم تدخل في الهدنة غير بعيد، وإن فرّقنا العساكر لدينا فاجتماعها بعد افتراقها شديد. فرأينا أن سيرنا إلى حضرة الأمير شمس الدين أبي الحسن علي وإخوته من يعرفهم قدر خطر هذا الارتباك، وأنه ربما عُجز عن الاستدراك، وأن العدوّ طالب لايغفل، وجادٌّ لاينكل، وليث لايضيع الفرصة، مجدٌ لايميل إلى الرخصة. فإن كانت الجماعة ساخطين فيظهر أماراتن السخط والتغيير، ولايمسك في الأول فيعجز عن الأخير، لاسيما ونحن نغار لله ونُغير، ونقصد للمسلمين مانجمع به صلاح الرأي وصواب التدبير. وقد منعنا عساكرنا أن تفترق خوفا أن يقصد العدو ناحية حارم بالمال الذي قويت به قوته، وثرت به ثروته، وانبسطت به خطوته؛ فإنه مادام يعلم أنا مجتمعون، وعلى طلبه مجمعون، لايمكنه أن يزايل مراكزه، ولايبادر مناهزه.
قال: وكان متولي قلعة حلب شاذ بخت الخادم النّوري، وكان شمس الدين علي، أخو مجد الدين بن الداية، إليه أمور الجيش والديوان، وإلى أخيه بدر الدين حسن الشحنكية؛ وكان بيده ويد إخوته جميع المعاقل التي حول حلب. فلما بلغ عليا موت نور الدين صعد إلى القلعة، وكان مُقْعَداً، واضطرب البلد، ثمّ سكنه ابن الخشاب، وكوتب ابن الخشاب من دمشق بحفظ البلد، وعول أولاد الداية على الاستيلاء على حلب، وحلف لهم جماعة من القلعيين والحلبيين وأنفذوا خلف أبي الفضل بن الخشاب، فامتنع من الصعود إليهم وترددت بينهم الرسالة؛ وتحزب الناس بحلب، السنة مع بني الداية والشيعة مع أبن الخشاب؛ وجرت أسباب اقتضت أن أنزل حسن بن الداية جماعة من القلعيين وأهل الحاضرة وزحفوا إلى دار ابن الخشاب فملكوها ونهبوها، واختفى ابن الخشاب.
وأتصلت هذه الأخبار بمن في دمشق فأخذوا الملك الصالح وساروا إلى حلب، في الثالث والعشرين من ذي الحجَّة، وسار مع الملك الصَّالح سعد الدين كمشتكين، وجُرديك، وإسماعيل الخازن، وسابق الدّين عثمان بن الدّاية، وقد وكلت الجماعة به وهو لايعلم. وساروا إلى حلب وخرج الناس إلى لقائهم.
وكان حسن قد رتّب في تلك الليلة جماعة من الحلبيين ليصبح ويصلبهم؛ فلمَّا خرج إلى لقاء الملك الصالح ووقعت عينه عليه ترجَّل ليخدم هو وجماعة من أصحابه، فتقدم جرديك وأخد بيده، وشتمه وجذبه، فأركبه خلفه رديفاً، وقُبض سابق الدّين أخوه في الحال، وتُخُطَّفت أصحابهم جميعهم، واحتيط عليهم وساروا مجدّين حتى سبقوا الخبر إلى القلعة وصعدوا إليها، وقبضوا على شمس الدّين علي ابن الداية من فراشه، وحمل إلى بين يدي الملك الصالح؛ فاستقبله أحد مماليك نور الدين المعروف بالجفنية، فركله برجله ركلة دحاه بها على وجهه، فانشقت جبهته. ثم صفدوا جميعا وحبسوا في جُبّ القلعة، وقبضوا على جميع الأجناد الذين حلفوا لأولاد الداية، وأُخرجوا جميعاً من القلعة.
قلت: وفي آخر هذه السنة توفي مرّي الفرنجي الملك الّي كان حاصر القاهرة وأشرف على أخذ الديّار المصرّية.
وفي كتاب فاضلي: ورد كتاب من الدّاروم يذكر أنه لما كان عشية الخميس تاسع ذي الحجة هلك مرّي ملك الفرنج، لعنه الله، ونقله إلى عذاب كاسمه مشتقا وأقدمه على (نارٍ تَلَظَّى، لاَيَصْلاَهاَ إلاَّ الأشْقى).
ثم دخلت سنة سبعين وخمسمائةقال ابن أبي طيّ: ففي أولّها ضمن القطب ابن العجمي وأبو صالح وابن أمين الدّولة لجرديك إن قتل ابن الخشاب ردُّوا عليه جميع مانهب له في دار ابن أمين الدولة. فدخل على الملك الصالح وتحدّث معه وأخذ خاتمه أماناً لابن الخشاب، ونودي عليه، فحضر وركب إلى القلعة، فقتل وعلّق رأسه على أحد أبراج القلعة.
وبقي الملك الصالح في قلعة حلب ومضى العماد الكاتب إلى الموصل. قال: وعزمت على خدمة سيف الدّين صاحبها وقد أخذ من بلاد الجزيرة إلى حدّ الفرات، ومضى إليه ابن العجمي للإصلاح فأصلح بين ابني العمّ وعلق رهن إخوة مجد الدين في الاعتقال، وضيّقوا عليهم في القيود والأغلال، وألزموهم بتسليم الحصون، وتقديم الرهون، إلى أن غصبوا دورهم، وخربوا معمورهم.
قال: وكان المّوفق خالد بن القيسراني قد وصل، ونحن بدمشق، من مصر فلزم داره ولم يدخل مع القوم.
فأما صلاح الدين فإنه اعتقد أن نور الدين يتولاه بعده إخوة مجد الدين، فلما جرى ماجرى ساءه ذلك وقال: أنا أحقّ برعى العهود، والسعيّ المحمود، فإنه إن استمرت ولاية هؤلاء تفرقت الكلمة المجتمعة، وضاقت المناهج المتسعة، وانفردت مصر عن الشام، وطمع أهل الكفر في بلاد الإسلام. وكتب إلى ابن المقدّم ينكر ما أقدموا عليه من تفريق الكلمة، وكيف اجترءوا على أعضاء الدّولة وأركانها، بل أهلها وإخوانها، وأنه يلزمه أمرهم وأمرها، ويضره ضرهم وضرها. فكتب ابن المقدم إليه يردعه عن هذه العزيمة، ويقبح له استحسان هذه الشيمة، ويقول له: " لا يقال عنك إنك طمعت في بيت من غرسك، وربّاك وأسسك، وأصفى مشربك، وأضفى ملبسك، وأجلى سكونك لملك مصر وفي دسته أجلسك، فما يليق بمالك، ومحاسن أخلاقك وخلالك، غير فضلك وأفضالك.
فكتب إليه صلاح الدين بالإنشاء الفاضلي: " إنا لانؤثر للإسلام وأهله إلا ماجمع شملهم وألف كلمتهم، وللبيت الأتابكي أعلاه الله تعالى إلا ماحفظ أصله وفرعه، ودفع ضرّه وجلب نفعه؛ فالوفاء إنما يكون بعد الوفاة، والمحبة إنما تظهر آثارها عند تكاثر أطماع العداة. وبالجملة إنا في واد، والظانون بناظن السوء في واد، ولنا من الصلاح مراد، ولمن يبعدنا عنه مراده، ولا يقال لمن طلب الصلاح إنك قادح، ولمن ألقى السلاح إنك جارح " .
فصلقال العماد: ثم عزم السلطان على أن يسارع إلى تلافي الأمر، فاعترضه أمران: أحدهما وصول أسطول صقلية إلى الإسكندرية وإدراكه، والثاني نوبة الكنز ونفاقه وهلاكه. أما وصول الأسطول فكان يوم الأحد السادس والعشرين من ذي الحجة سنة تسع وستين، وانهزم في أول المحرم سنة سبعين.
ثم ذكر كتابا وصل من صلاح الدين إلى بعض الأمراء بالشام يشرح الحال، وحاصله أن أول الأسطول وصل وقت الظهر، ولم يزل متواصلا إلى وقت العصر، وكان ذلك على حين غفلة من المتوكلين بالنظر، لا على حين خفاء من الخبر، فأمر ذلك الأسطول كان قد أشتهر؛ ورُوع به ابن عبد المؤمن في البلاد المغربية، وهدد به في الجزائر الرومية صاحب قسطنطينية. فشوهد في الثغر من وفور عُدّته، وكثرة عدَّته، وعظيم الهمّة به، وفرط الاستكثار منه، ما ملأ البحر، واشتد به الأمر، فحمى أهل الثغر عليهم البّر؛ ثم أشير عليهم أن يقربوا من السّور، فأمكن الأسطول النزول، فاستنزلوا خيولهم من الطرائد، وراجلهم من المراكب، فكانت الخيل ألفا وخمسمائة رأس، وكانوا ثلاثين ألف مقاتل، مابين فارس وراجل. وكانت عدة الطرائد ستة وثلاثين طريدة تحمل الخيل، وكان معهم مائتا شيني في كل شيني مائة وخمسون راجلا. وكانت عدة السّفن التي تحمل الآت الحرب والحصار من الأخشاب الكبار وغيرها ست سفن، وكانت عدة المراكب الحمالة برسم الأزواد والرجال أربعين مركبا؛ وفيها من الراجل المتفرق، وغلمان الخيّالة، وصناع المراكب وأبراج الزحف ودباباته المنجنيقية، مايتمم خمسين ألف رجل.
ولما تكاملوا نازلين على البر، خارجين من البحر، حملوا على المسلمين حملة أوصلوهم إلى السور، وفقد من أهل الثغر في وقت الحملة مايناهز سبعة أنفس. واستشهد محمود بن البصار وكان بسهم جرح، وجدفت مراكب الفرنج داخلة إلى الميناء وكان به مراكب مقاتلة ومراكب مسافرة، فسبقهم أصحابنا إليها فخسفوها وغرقوها، وغلبوهم على أخذها وأحرقوا ما احترق منها. واتصل القتال إلى المساء، فضربوا خيامهم بالبر وكان عدتها ثلثمائة خيمة.
فلما أصبحوا زحفوا وضايقوا وحاصروا، ونصبوا ثلاث دبابات بكباشها، وثلاث مجانيق كبار المقادير، تضرب بحجارة سود استصحبوها من صقلية، وتعجب أصحابنا من شدة أثرها وعظم حجرها. وأما الدبابات فإنها تشبه الأبراج في جفاء أخشابها، وارتفاعها، وكثرة مقاتلتها واتساعها، وزحفوا بها إلى أن قاربت السّور، ولجّوا في القتال عامة النهار المذكور.
وورد الخبر إلى منزلة العساكر بفاقوس يوم الثلاثاء ثالث يوم نزول العدوّ على جناح الطائر، فاستنهضنا العساكر إلى الثغرين اسكندرية ودمياط، احترازا عليهما، واحتياطا في أمرهما، وخوفا من مخالفة العدوّ إليهما. واستمر القتال، وقدمت الدبابات وضربت المنجنيقات وزاحمت السّور، إلى أن صارت منه بمقدار أماج البحر وأُهاج الدُّور.
فاتفق أصحابنا على أن يفتحوا أبواباً قبالتها من السّور ويتركوها معلقة بالقشور؛ ثم فتحوا الأبواب وتكاثر صالح أهل الثغر من كل الجهات، فأحرقوا الدبابات المنصوبة وصدقوا عندها من القتال، وأنزل الله على المسلمين النّصر، وعلى الكفار الخذلان والقهر.
واتصل القتال إلى العصر من يوم الأربعاء وقد ظهر فشل الفرنج ورعبهم، وقصرت عزائمهم، وفتر حزبهم، وأحرقت آلات قتالهم، واستمر القتل والجراح في رجالهم؛ ودخل المسلمون إلى الثغر لأجل قضاء فريضة الصلاة، وأخذ مابه قوام الحياة، وهم على نيّة المباكرة، والعدوّ على نية الهرب والمبادرة. ثم كر المسلمون عليهم بغتة وقد كاد يختلط الظلام، فهاجموهم في الخيام، فتسلموها بما فيها، وفتكوا في الرّجالة أعظم فتك، وتسلموا الخيالة ولم يسلم منهم إلا من نزع لبسه، ورمى في البحر نفسه. وتقحم أصحابنا في البحر على بعض المراكب فخسفوها وتلفوها، فولت بقية المراكب هاربة. وجاءتها أحكام الله الغالبة. وبقي العدوّ بين قتل وغرق، وأسر وفَرَق، واحتمى ثلثمائة فارس في رأس تلّ، فأخذت خيولهم ثم قتلوا وأسروا، وأخذ من المتاع والآلت والأسلحة مالا يملك مثله. وأقلع هذا الاسطول عن الثغر يوم الخميس.
وذكر ابن شداد أن نزول هذا العدو كان في شهر صفر وكانوا ثلاثين ألفا في ستمائة قطعة مابين شيني وطرادة وبطشة وغير ذلك.
فصل
وأما نوبة الكنز، فقال ابن شداد: الكنز إنسان مقدم من المصريين كان انتزح إلى أسوان فأقام بها، ولم يزل يدبّر أمره ويجمع السودان عليه ويُخِّيل لهم أنه يملك البلاد ويعيد الدولة المصرية. وكان في قلوب القوم من المهاواة للمصريين ما تستصغر هذه الأفعال عنده، فاجتمع عليه خلق كثير وجمع وافر من السودان، وقصد قوص وأعمالها. فانتهى خبره إلى صلاح الدين، فجرد له عسكرا عظيما شاكين في السلاح من الذين ذاقوا حلاوة ملك الديار المصرية وخافوا على فوت ذلك منهم، وقدّم عليهم أخاه سيف الدين وسار بهم حتى أتى القوم، فلقيهم بمصاف فكسرهم، وقتل منهم خلقا عظيما، واستأصل شأفتهم، وأخمد ثائرتهم؛ وذلك في السّابع من صفر سنة سبعين، واستقرت قواعد الملك.
قال العماد: وفي أول سنة سبعين، مستهلها، قام المعروف بالكنز في الصعيد، وجمع من كان في البلاد من السودان والعبيد، وعدا ودعا القريب والبعيد. وكان عنده من الأمراء أخ لحسام الدين بن أبي الهيجاء السّمين، ففتك به وبمن هناك من المقطعين، فغارت حمية أخيه وثارت للثأر، وساعده أخو السلطان سيف الدين وعز الدين موسك ابن خاله، وعدة من أمرائه ورجاله، وجاءوا إلى مدينة طود فاحتمت عليهم، وامتنعت، فأسرعت البلية إليها وبها وقعت، وأتى السيف على أهلها، وباءت بعد عزها بذّلها.
ثم قصد الكنز وهو في طغيانه وعدوانه، وسوئه وسودانه، فسُفك دمه، وظهر بعد ظهور وجوده عدمه، وارتقب دماء سوده، وهجم غابه على أسوده؛ ولم يبق للدولة بعد كنزها كنز، وطلّ دمه ولم ينتطح فيه عنز. وارتدع المارقون فما رقوا بعده سلم نفاق، والله لناصري دينه ناصر وواق.
وقال ابن أبي طيّ: واتفق أيضا أن خرج بقرية من قرى الصعيد يقال لها طود رجل يعرف بعباس بن شادي، وثار في بلاد قوص ونهبها وخربها، وأخذ أموال الناس؛ واتصل ذلك بالملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، وكان السلطان قد استنابه بمصر، فجمع له العساكر وأوقع به، وبدّد شمله، وفض جموعه وقتله، ثم قصد بعده كنز الدولة الوالي بأسوان وكان قصد بلد طود، فقتل أكثر عسكره وهوب فأدركه بعض أصحاب الملك العادل فقتله.
فصلفي توّجه صلاح الدين إلى دمشق ودخوله إليها في يوم الاثنين آخر شهر ربيع الأول.
قال العماد: لمّا خلا باله مما تقدم ذكره تجهز لقصد الشام، فخرج إلى البركة مستهل صفر، وأقام حتى اجتمع العسكر؛ ثم رحل إلى بلبيس ثالث عشر ربيع الأول. وكانت رسل شمس الدِّين صاحب بصرى صديق ابن جاولي وشمس الدّين بن المقدم عنده، تَسْتَورى في الحث والبعث زنده، وتستقدمه وجنده؛ وسار على صَدْر وأيْلة ووصل السيّر بالسُّرى، حتى أناخ على بصرى، بصيراً بالعلا نصيرا للهدى، فاستقبله صاحب بصرى وشد أزره، وسدّد أمره؛ واستضاف إلى بصرى صرخد، وتفرد بالسبق إلى الخدمة وتوَّحد.
وسار في الخدمة معه إلى الكسوة، وبكر صلاح الدّين يوم الاثنين انسلاخ الشهر وسار في موكب قوى بالعدد والعدد، وحسب أن يمتنع عليه البلد، وأن الأطراف توثق، والأبواب تغلق، فأقبل وهو يسوق، وإقباله يشوق، حتى دخل دمشق وخرقها، وكان الله تعالى له خلقها؛ ودخل إلى دار العقيقي مسكن أبيه، وبقي جمال الدين ريحان الخادم في القلعة على تأبِّيه، فراسله حتى استماله، وأغزر له نواله، وتملك المدينة والقلعة. ونزل بالقلعة سيف الإسلام أخو السّلطان صلاح الدين، وملك ابن المقّدم داره وكل ما حواليها، وبذل له طلبته التي أشار إليها ونص عليها؛ وأظهر صلاح الدين أنه جاء لتربية الملك الصالح، وحِفْظ مَالَه من المصالح، وتدبير ملكه، فهو أحقّ بصيانة حقّه.
واجتمع به أعيانها، وخلص لولاية إسرارها وإعلانها، وأصبح وهو سلطانها. وزاره القاضي كمال الدين بن الشهرزوري فوفاه حقّه من الاحترام، ووفّر له حظ التبجيل والإعظام.
ونفذت الكتب بالأمثلة الفاضلية إلى مصر، بهذا الفتح والنصر، وفي بعضها: " يوم وصولنا إلى بصرى وقبله وفدت وهاجرت، وتزاحمت وتكاثرت، وتوافت، الأمراء، والأجناد الأتراك، والأكراد، والعربان، ورجال الأعمال، وأعيان الرجال. وورد كتاب من دمشق بعد كتاب، وكلٌّ مخبر وذاكر، وهو غائب بكتابه حاضر، يذكر أن البلاد ممكنة القياد، مذعنة إلى المراد. وأمّا الفرنج، خذلهم الله، فإنا في هذه السفرة المباركة نزلنا في بلادهم نزول المتحكم، وأقمنا بها إقامة الحاضر المتخير، وأدلجنا وعيونهم متناومة، وحُزْنا وأنوفهم راغمة، ووطئنا ورقابهم صغر، ومررنا وعيشهم مر؛ والله يزيدهم ذلاً، ويجعل عداوة الإسلام في صدورهم غِلاًّ، وفي أعناقهم غُلاًّ " .
وفي كتاب آخر: " وكان رحيلنا من بصرى يوم الأربعاء الرابع والعشرين من ربيع الأول، وقد توجه صاحبها بين أيدينا قائما بشروط الخدمة ولوازمها. ثم لقينا الأجل ناصر الدين، ابن المولى أسد الدين شيركوه رحمة الله عليه وأدام نعمته، والأمير سعد الدين ابن أثر، في يوم السبت السابع والعشرين. ونزلنا يوم الأحد بجسر الخشب والأجناد الدمشقية إلينا متوافية، والوجوه على أبوابنا مترامية، ولم يتأخر إلا من أبقى وجهه وراقب صاحبه، ومن اعتقد بالقعود أنه قد نظر لنفسه في العافية. ولما كان يوم الاثنين الناسع والعشرين من الشهر ركبنا على خيرة الله تعالى، وعرض دون الدخول عدد من الرجال فدعستهم عساكرنا المنصورة وصدمتهم، وعرفتهم كيف يكون اللقاء وعلمتهم. ودخلنا البلد واستقرت بنا دار والدنا رحمة الله عليه قريرة عيوننا، مستقرا سكون الرعية وسكوننا، وأذعنا في أرجاء البلد النداء بإطابة النفوس وإزالة المكوس. وكانت الولاية فيهم قد ساءت وأسرفت، واليد المتعدية قد امتدت إلى أحوالهم وأجحفت، فشرعنا في امتثال أمر الشرع برفعها، وإعفاء الأمة منها بوضعها.
قال ابن الأثير: لما خاف من دمشق من الأمراء أن يقصدهم كمشتكين والملك الصالح من حلب فيعاملهم بما عامل به بني الداية راسلوا سيف الدين غازي ليسلموها إليه فلم يجبهم، فحملهم الخوف على أن راسلوا صلاح الدين يوسف بن أيوب بمصر؛ وكان كبيرهم في ذلك شمس الدين بن المقدم، ومن أشبه أباه فما ظلم. فلما أتته الرسل لم يتوقف وسار إلى الشام، فلما وصل دمشق سلمها إليه من بها من الأمراء، ودخلها وايتقرّ بها، ولم يقطع خطبة الملك الصالح، وإنما أظهر " أني إنما جئت لأخدمه واسترد له بلاده التي أخذها ابن عمه " . وجرت أمور آخرها أنه اصطلح هو وسيف الدّين والملك الصالح على ما بيده.
وقال القاضي ابن شداد: لما تحقق صلاح الدين وفاة نور الدين وكون ولده طفلا لاينهض بأعباء الملك ولا يستقل بدفع عدو الله عن البلاد، تجهّز للخروج إلى الشام، إذ هو أصل بلاد الإسلام؛ فتجهزّ بجمع كثير من العساكر، وخلّف بالديار المصرية من يستقل بحفظها وحراستها، ونظم أمورها وسياستها؛ وخرج هو سائرا مع جمع من أهله وأقاربه وهو يكاتب أهل البلاد وأمراءها. واختلف كلمة اصحاب الملك الصالح واختلت تدبيراتهم، وخاف بعضهم من بعض، وقبض البعض على جماعة منهم، وكان ذلك سبب خوف الباقين ممن فعل ذلك وسببا لتنفير قلوب النّاس عن الصبي. فاقتضى الحال أن كاتب ابنُ المقدم صلاح الدين، فوصل إلى البلاد مطالبا بالملك الصالح ليكون هو الذي يتولى أمره ويربّ حاله. فدخل دمشق يوم الثلاثاء سلخ ربيع الآخر، وكان أوّل دخوله إلى دار أبيه. واجتمع الناس إليه، وفرحوا به، وأنفق في ذلك اليوم في النّاس مالا طائلا، وأظهر الفرح والسرور بالدمشقيين وأظهروا الفرح به. وصعد القلعة واستقرّ قدمه في ملكها، فلم يلبث أن سار في طلب حلب، فنازل حمص وأخذ مدينتها في جمادى الأولى، ولم يشغل بقلعتها، وسار حتى أتى حلب ونازلها سلخ جمادى المذكور وهي الدفعة الأولى.
وقال ابن أبي طيّ: بلغ السلطان أن ابن المقدم نقض عهد الملك الصالح وهو كان السبب في خروج سيف الدّين صاحب الموصل واسيلائه على البلاد الشرقية ومضايقته للملك الصالح في ممالكه. وقيل إن ابن المقدم كاتب السلطان ودعاه إلى الخروج. وقيل إنما خرج إلى الشام خوفا من حركة تنشأ من جانب الفرنج بسبب اختلاف أمراء الشام وشغل بعضهم ببعض، وبجواب ممُض ورد من ابن المقدم إليه. ولما تيقن ابن المقدم خروج السّلطان إلى جهة دمشق أشفق من ذلك واستدرك مابدا منه، وتذلل له، ووعده تسليم دمشق إليه.
قال: ولما حصل على دمشق وقلعتها، واستوطن بُقعتها، نشر علم العدل والإحسان، وعّفى أثار الظلم والعدوان، وأبطل ماكان الولاة استجدوه بعد موت نور الدين من القبتئح والمنكرات، والمؤن والضرائب المحرمات.
قلت: وكان قد كتب إليه أسامة بن منقذ قصيدة بعد مصاف عسقلان أولها:
تهنّ ياأطول الملوك يداً ... في بسط عدلٍ وسطوةٍ وندى
أجراً وذكرا من ذلك الشكرُ في الدّ ... نيا، ومن ذلك الجنانُ غدا
لاتستقلَّ الذي صنعت، فقد ... قمت بفرض الجهاد مجتهدا
وجستُ أرض العدا، وأفنيت من ... أبطالهم ما يجاوز العددا
وما رأينا غزا الفرنج من ال ... ملوك في عقر دارهم أحدا
فسر إلى الشام فالملائكة ال ... أبرارُ تلقاك جَمْعهم مددا
فهو فقير إليك، يأملُ أنْ ... تُصلح بالعدل منه ما فسدا
والله يعطيك فيه عاقبة الن ... صر كما في كتابه وعدا
فما حباك الورى، وألهمك ال ... عْدل، وأعطاك ماملكت سدى
ومدح وحيش الأسدي صلاح الدّين عند أخذه دمشق بقصيدة أولها:
قد جاءك النصر والتوفيق فاصطحبا ... فكن لأضعاف هذا النصر مرتقبا
لله أنت صلاح الدين من أسد ... أدنى فريسته الأيام إن وثبا
رأيت جلّق ثغراً لانظير له ... فجئتها عامراً منها الذي خربا
نادتك بالذل لما قلّ ناصرها ... وأظمع الخلق من أوطانها هربا
أحييْتها مثل ما أحييت مصر، فقد ... أعدت من عدلها ماكان قد ذهبا
هذا الذي نصر الإسلام فاتضحت ... سبيله، وأهان الكفر والصُّلبا
ويوم شاور، والإيمانُ قد هزمت ... جيوشه، كان فيه الجحفل اللجبا
أبت له الضيم نفس مرّة ويد ... فعالة، وفؤاد قطّ ماوَجَبا
يستكثر المدح يتلى في مكارمه ... زهدا، ويستصغر الدّنيا إذا وهبا
ويوم دمياط و الإسكندرية قد ... أصارهم مثلاً في الأرض قد ضربا
والشام لو لم يدارك أهله اندرست ... آثاره وعفت آياته حقبا
فصل فيما جرى بعد فتح دمشق من فتح حمص وحصار حلبقال ابن أبي طيّ: لما أتصل بمن في حلب حصول دمشق للملك الناصر وميل الناس إليه، وانعكافهم عليه، خافوا وأشفقوا وأجمعوا على مراسلته، فحّملوا قطب الدين ينال بن حسان رسالة أرعدوا فيها وأبرقوا، وقالوا له: هذه السيوف التي ملكّتك مصر بأيدينا، والرماح التي حويت بها قصور المصريين على أكتافنا، والرّجال التي ردّت عنك تلك العساكر هي ترّدك، وعمّا تصديت له تصدّك؛ وأنت فقد تعدّيت طورك، وتجاوزت حدك، وأنت أحد غلمان نور الدين وممن يجب عليه حفظه في ولده.
قال: ولما بلغ السلطان وُرُود ابن حسان عليه رسولاً تلّقاه بموكبه وبنفسه، وبالغ في إكرامه والإحسان إليه؛ ثم أحضره بعد ثالثة لسماع الرسالة منه. فلما فاه ابن حسان بتلك الشقاشق الباطلة، وقعقع بتلك التمويهات العاطلة، لمُ يُعره السّلطان رحمه الله طرفاً ولاسمعا، ولارد عليه خفضاً ولارفعا، بل ضرب عنه صفحا وتغاضيا، وترك جوابه إحسانا وتجافيا، وجرى في ميدان أريحيته، واستن في سنن مرؤته، وخاطبه بكلام لطيف رقيق، وحياطة الجمهور، وسدّ الثغور، وتربية ولد نور الدين، وكف عادية المعتدين. فقال له ابن حسان: إنك إنما وردت لأخذ الملك لنفسك، ونحن لانطاوعك على ذلك، ودون ماترونه خرط القتاد، وفتّ الأكباد، وإيتام الأولاد. فتبسم السلطان لمقاله، وتزايد في احتماله، وَأَوْمى إلى رجاله بإقامته من بيد يديه، بعد أن كاد يسطو عليه.
ونادى في عسكره بالاستعداد لقصد الشام الأسفل، ورحل متوجها إلى حمص فتسلم البلد، وقاتل القلعة ولم ير تضييع الزمان عليها، فوكل بها من يحصرها؛ ورحل إلى جهة حماة، فلما وصل إلى الرَّسْتَن خرج صاحبها عز الدين جرديك، وأمر من فيها من العسكر بطاعة أخيه شمس الدّين على وأتباع أمره. وسار جرديك حتى لقي السلطان واجتمع به بالرَّسْتَن وأقام عنده يوما وليلة؛ وظهر من نتيجة اجتماعه به أنه سلم إليه حماة وسأله أن يكون السّفير بينه وبين من بحلب، فأجابه السلطان إلى مراده؛ وسار إلى حلب وبقي أخو جرديك بقلعة حماة.
قال: وسار جرديك إلى حلب وهو ظانّ أنه فعل شيئا وحصّل عند من بحلب يدا، فاجتمع بالأمراء والملك الصالح، وأشار عليهم بمصالحة الملك الناصر؛ فاتهمه الأمراء بالمخامرة، وردوّا مشورته، وأشاروا بقبضه؛ فامتنع الملك الصالح. ولجّ سعد الدين كمشتكين في القبض عليه، فقبض وثقل بالحديد، وأخذ بالعذاب الشديد، وحمل إلى الجب الذي فيه أولاد الداية.
قال: ولما قدم جرديك وشدّ في وسطه الحبل وأدلى إلى الجب وأحس به أولاد الداية قام إليه منهم حسن وشتمه أقبح شتم، وسبه ألأم سب، وحلف بالله إن أنزل إليهم ليَقْتُلنه فامتنعوا من تدليته، فأُعلم سعد الدين كمشتكين فحضر إلى الجبّ وصاح على حسن وشتمه وتوّعده، فسكن حسن وأمسك، وأنزل جرديك الجبّ، فكان عند أولاد الداية، وأسمعه حسن كل مكروه.
قال: وكتب أبي إلى حلب حين أتصل به قبض أولاد الداية وجرديك، وكانوا تعصّبوا عليه حتى نفاه نور الدين من حلب، قصيدة منها:
بُنو فلانة أعوان الضّلالة قد ... قضى بذلهم الأفلاك والقدر
وأصبحوا بعد عزّ الملك في صفد ... وقعر مظلمة يغشى لها البصر
وجرّد الدهر في جرديك عزّمته ... والدهر لا ملجاٌ منه ولاوزر
قال: ولم يزل السلطان مقيما على الرَّسْتَن، ثم طال عليه الأمر، فسار إلى جباب التركمان، فلقيه أحد غلمان جرديك وأخبره بما جرى على جرديك من الاعتقال والقهر، فرحل السلطان من ساعته عائداً إلى حماة، وطلب من أخي جرديك تسليم حماة إليه، وأخبره بما جرى على أخيه، ففعل؛ وصعد السلطان إلى قلعة حماة واعتبر أحوالها، وولاها مبارز الدين عليّ بن أبي الفوارس، وذلك مستهل جمادى الآخر.
وسار السلطان إلى حلب ونزل على أنف جبل جوشن فوق مشهد الدكة ثالث جمادى وامتدت عساكره إلى الخناقية وإلى السعدى. وكان من بحلب يظنون أن السلطان لايقدم عليهم، فلم يرعهم إلا وعساكره قد نازلت حلب، وخيمته تضرب على جبل جوشن، وأعلامه قد نشرت؛ فخافوا من الحلبيين أن يسلموا البلد كما فعل أهل دمشق، فأرادوا تطييب قلوب العامة، فأشير على ابن نور الدين أن يجمعهم في الميدان ويقبل عليهم بنفسه ويخاطبهم بلسانه أنهم الْوَزَرُ والملجأ. فأمر أن ينادى باجتماع الناس إلى ميدان باب العراق، فاجتمعوا حتى غصّ الميدان بالناس، فنزل الصالح من باب الدرجة وصعد من الخندق، ووقف في رأس الميدان من الشمال وقال لهم: ياأهل حلب أنا ربيبكم ونزيلكم، واللاّجئ إليكم، كبيركم عندي بمنزلة الأب، وشابكم عندي بمنزلة الأخ، وصغيركم عندي يحل محل الولد. قال: وخنقته العبرة، وسبقته الدمعة، وعلا نشيجه؛ فافتتن الناس وصاحوا صيحة واحدة، ورموا بعمائمهم، وضجوا بالبكاء والعويل، وقالوا: نحن عبيدك وعبيد أبيك، نقاتل بين يديك، ونبذل أموالنا وأنفسنا لك؛ وأقبلوا على الدعاء له والترحم على ابيه.
وكانوا قد اشترطوا على الملك الصالح أنه يعيد إليهم شرقية الجامع يصّلون فيها على قاعدتهم القديمة وأن يُجهر بحيّ على خير العمل والأذان والتذكير في الأسواق؛ وقدّام الجنائز بأسماء الأئمة الاثنى عشر، وأن يصلوا على أمواتهم خمس تكبيرات، وأن تكون عقود الأنكحة إلى الشريف الطاهر أبي المكارم حمزة بن زهرة الحسني، وأن تكون العصبية مرتفعة، والناموس وازع لمن أراد الفتنة؛ وأشياء كثيرة اقترحوها مما كان قد أبطله نور الدين رحمه الله. فأجيبوا إلى ذلك.
قال ابن أبي طيّ: فأذن المؤذنون في منارة الجامع وغيره بحيّ على خير العمل وصلى أبي في الشرقية مسبلاً، وصلى وجوه الحلبيين خلفه، وذكروا في الأسواق وقدّام الجنائز بأسماء الأئمة، وصلوا على ألموات خمس تكبيرات، وأذن للشريف في أن تكون عقود الحلبيين من الإمامية إليه، وفعلوا جميع ما وقعت الأيمان عليه.
فصلقال ابن أبي طيّ: وكانت هذه السنة شديدة البرد كثيرة الثلوج عظيمة الأمطار هائجة الأهوية؛ وكان السلطان قد جعل أولاد الداية عُلالة له وسببا يقطع به ألسنة من ينكر عليه الخروج إلى الشام وقصد الملك الصالح، ويقول: أنا إنما أتيت لاستخلاص أولاد الداية وإصلاح شأنهم.
وأرسل السلطان إلى حلب رسولا يعرّض بطلب الصلح، فامتنع كمشتكين، فاشتد حينئذ السلطان في قتال البلد.
وكانت ليالي الجماعة عند الملك الصالح لاتنقضي إلا بنصب الحبائل للسلطان والفكرة في مخاتلته وإرسال المكروه إليه. فأجمعوا آراءهم على مراسلة سنان صاحب الحشيشية في إرصاد المتالف للسلطان ولإرسال من يفتك به، وضمنوا له على ذلك أموالا جمة وعدة من القرى. فأرسل سنان جماعة من فتاك أصحابه لاغتيال السلطان، فجاءوا إلى جبل جوشن واختلطوا بالعسكر، فعرفهم صاحب بوقبيس لأنه كان مثاغراً لهم، فقال لهم: يا ويلكم: كيف تجاسرتم على الوصول إلى هذا العسكر ومثلي فيه! فخافوا غائلته فوثبوا عليه فقتلوه في موضعه، وجاء قوم للدفع عنه فجرحوا بعضهم وقتلوا البعض. وبدر من الحشيشية أحدهم وبيده سكينة مشهورة ليقصد السلطان ويهجم عليه، فلما صار إلى باب الخيمة اعترضه طغريل أمير جاندار، فقتله، وطُلب الباقون فقتلوا بعد أن قتلوا جماعة.
قال: ولما فات من بحلب الغرض من السلطان بطريق الحشيشية كاتبوا قمص طرابلس وضمنوا له أشياء كثيرة متى رحلَّ السلطان عن حلب. وكان لعنه الله في أسر نور الدين منذ كسرة حارم، وكان قد بذل في نفسه الأموال العظيمة فلم يقبلها نور الدين. فلما كان قبل موت نور الدين سعى له فخر الدين مسعود بن ازعفراني حتى باعه نور الدين بمبلغ مائة وخمسين ألف دينار وفكاك ألف أسير.
واتفق في أول هذه السنة موت ملك الفرنج صاحب القدس وطبرية وغيرهما، فتكفل هذا القمص بأمر ولده المجذوم فعظم شأنه وزاد خطره. فأرسل إلى السلطان في أمر الحلبيين، وأخبره الرّسول أنّ الفرنج قد تعاضدوا وصاروا يدا واحدة، فقال السلطان: لست ممن يرهب بتألب الفرنج وها أنا ا سائر إليهم. ثم أنهد قطعة من جيشه وأمرهم بقصد أنطاكية، فغنموا غنيمة حسنة وعادوا؛ فقصد القمص جهة فرحل السلطان من حلب إليها، فسمع الملعون فنكص راجعا إلى بلاده، وحصل الغرض من رحيل السلطان عن حلب، ووصل إلى حمص فتسلم القلعة ورتب فيها واليا من قبله.
قال: وفي فتح قلعة حمص يقول العماد الكاتب من قصيدة، وستأتي:
إياب ابن أيوب نحو الشآم ... على كلّ ما يرتجيه ظهور
بيوسف مصر وأيامه ... تقرّ العيون وتشفى الصّدور
رأت منك حمص لها كافيا ... فواتاك منها القويّ العسير
ومن كتاب فاضليّ عن السلطان إلى زين الدين بن نجا الواعظ يقول في وصف قلعة حمص: والشيخ الفقيه قد شاهد ما يشهد به كونها نجما في سحاب، وعُقابا في عقاب، وهامة لها الغمامة عمامة، وأنملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال منها قلامة، عاقدة حبوة صالحها الدهر على ألا يحلها بقرعه، عاهدة عصمة صافحها الزمن على ألا يروعها بخلعه. فاكتنفت بها عقارب منجنيقات لاتطبع طبع حمص في العقارب، وضربت حجارة بها الحجارة فأظهرت فيها العداوة المعلومة بين الأقارب؛ فلم يكن غير ثالثة من الحد إلا وقد أثرت فيها جدريا بضربها، ولم تصل السابع إلا والبحران منذرٌ بنقبها. واتسع الخرق على الراقع، وسقط سعدها عن الطالع، إلى مولد من هو إليها الطالع؛ وفُنحت الأبراج فكانت أبوابا، وسيُرت الجبال بها فكانت سرابا. فهنالك بدت نُقوب يرى القائم من دونها ما وراءها، وحُشيت فيها النار فلولا الشعاع من الشعاع أضاءها.
ومن كتاب آخر فاضلي عن السلطان إلى أخيه العادل: قد اجتمع عندنا إلى هذه الغاية ما يزاحم سبعة آلاف فارس، وتكاثفت الجموع إلى الحدّ الذي يخرج عن العَّدَّ. وبَعْد أن نُرَتِّب أحوال حمص، حرسها الله تعالى، نتوجه إلى حماة؛ والله المعين على ماننويه من الرّشاد، وننظفه من طرق الجهاد.
وقال العماد: لما سمع المدبّرون للملك الصالح بإقبال صلاح الدين المؤذن بإدبارهم، سُقط في أيديهم، وراسلوا المواصلة وكاتبوهم، وأرسلوا إلى صلاح الدين بالإغلاظ والإحفاظ. وكان الواصل منهم قطب الدّين ينال بن حسان، وقد تجنب في قوله الإحسان، وقال له هذه السيوف التي ملكتك مصر، وأشار إلى سيفه، إليها تردُّك، وعمَّا تصدّيت له تصدك. فحلم عنه السلطان واحتمله، وتغافل كرماً وأغفله، وخاطبه بما أبى أن يقبله، وذكر أنه وصل لترتيب الأمور، وتهذيب الجمهور، وسدّ الثغور، وتربية ولد نور الدين، واستنقاذ إخوة مجد الدين. فقال له: أنت تريد الملك لنفسك، ونحن لاننزع في قوسك، ولانأنس بأنسك، ولانرتاع لجرسك، ولانبنى على أُسِّك؛ فارجع حيث جئت، أو أجهد واصنع ماشئت؛ ولاتطمع فيما ليس فيه مطمع، ولاتطلع حيث مالسعودك فيه مطلع. ونال من تقطيب القطب ينال، كلّ ما أحال الحال، وأبلى البال، وأبدى له التبسم وأخفى الاحتمال.
ثم إنه استناب أخاه سيف الإسلام طغتكين بدمشق، وسار بالعسكر ونزل على حمص، فأخذها يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الأولى، وامتنعت القلعة فأقام عليها من يحصرها. ورحل إلى حماة، فأخذها مستهلّ جمادى الآخرة.
ثم مضى ونزل على حلب، فحصرها ثالث الشهّر؛ فلمَّا اشتد على الحلبيين الحصار، وأعوزهم الانتصار، استغاثوا بالاسماعيلية وعيّنوا لهم ضياعا، وبذلوا لهم من البذول أنواعا، فجاء منهم في يوم شات، من فُتاكهم كل عات؛ فعرفهم الأمير ناصح الدّين خمارتكين صاحب بوقبيس، وكان مثاغرا للاسماعيلية، فقال لهم: لأي شئ جئتم، وكيف تجاسرتم على الوصول وماخشيتم! فقتلوه، وجاء من يدفع عنه فأثخنوه، وعدا أحدهم ليهجم على السلطان في مقامه، وقد شهر سكين انتقامه، وطغريل أمير جاندار واقف ثابت، ساكن ساكت، حتى وصل إليه، فشمل بالسيَّف رأسه، وما قتل الباقون حتى قتلوا عدة، ولاقى من لاقاهم شدة.
وعصم الله حشاشته في تلك النوبة من سكاكين الحشيشية، فأقام إلى مستهل رجب، ثم رحل إلى حمص بسبب أن الحلبيين كاتبوا قومص طرابلس، وقد كان في أسر نور الدين مذ كسرة حارم، وبقي في الأسر أكثر من عشر سنين، ثم فدى نفسه بمبلغ مائة ألف وخمسين ألف دينار، وفكاك ألف أسير، فتوجه في الإفرنجية إلى حمص، فلما سمع بالسلطان رجع ناكصا على عقبيه،خوفا مما يقع فيه ويتم عليه.
ومن كتاب فاضلي عن السلطان إلى العادل: " قد أعلمنا المجلس أن العدوَّ، خذله الله، كان الحلبيون قد استنجدوا بصلبانهم، واستطالوا على الإسلام بعدوانهم، وأنه خرج إلى بلد حمص؛ فوردنا حماة، وأخذنا في ترتيب الأطلاب لطلبه ولقاه. فسار إلى حصن الأكراد متعلقا بحبله مفتضحاً بحيله. وهذا فتح تفتح له أبواب القلوب، وظفر وإن كان قد كفى الله تعالى فيه القتال المحسوب، فإن العدو قد سقطت حشمته، وانحطت فيه همته، وولى ظهراً كان صدره يصونه، ونكسّ صليبا كانت ترفعه شياطينه " .
وقال العماد في الخريدة: لما خيّم السلطان بظاهر حمص قصده المهذب بن أسعد بقصيدة أولها:
مانام بعد البين يستحلى الكرى ... إلا ليطرقه الخيال إذا سرى
كَلِف بقربكم، فلما عاقه ... بعد المدى سلك الطريق الأخضرا
ومودع أمر التفرُّقُ دمعه ... ونهته رقبُة كاشح فتحيرا
ومنها في المديح:
تُردى الكتائب كتبُه، فإذا غدت ... لم يُدْرَ: أنفذ أسطراً أم عسكرا!
لم يحسن الإتراب فوق سطورها ... إلا لأن الجيش يعقد عثيرا
فقال القاضي الفاضل لصلاح الدّين: هذا الذي يقول:
*والشعر مازال عند الترك متروكا*
فعجَّل جائزته لتكذيب قوله وتصديق ظنِّه، فشرِّفه وجمع له بين الخلعة والضَّيْعة. وعني الفاضل ماقاله في قصيدته في مدح الصالح بن رزيك التي أولها:
*أما كفاك تلافي في تلافيكا*
يقول فيها:
ياكعبة الجود، إن الفقر أقعدني ... ورقّة الحال عن مفروض حجيكا
من أرتجى، ياكريم الدَّهر، ينعشني ... جدواه، إن خاب سعيي في رجائيكا
أأمدح التُّرك أبغى الفضل عندهم ... والشِّعر مازال عند التُّرك متروكا!
أم أمدح السُّوقة النوكي لرفدهم ... وَاضَيْعَتَا إن تخطتني أياديكا!
لاتتركني، وما أملَّت في سفري ... سواك، أقفلُ نحو الأهل صعلوكا
قلت: وقد مضى ذكر ابن أسعد هذا في أخبار سنة ثمان وخمسين، وسيأتي من شعره أيضا في أخبار سنة ست وسبعين، وثمان وسبعين.
وما أحسن ما خرج ابن الدهان من الغزل إلى مدح ابن رزيك في قوله من قصيدة أولها:
إذا لاح برق من جنابك لامع ... أضاء لواشٍ ماتُجنُّ الأضالع
يقول فيها:
تمادى بنا في جاهلية نحلها ... وقد قام بالمعروف في الناس شارع
وتحسب ليل الشحّ يمتدّ بعدما ... بدا طالعا شمس السخاء طلائع
فصلثم أرسل السلطان الخطيب شمس الدّين بن الوزير أبي المضاء إلى الديوان العزيز برسالة ضمنها القاضي الفاضل كتابا طويلا رائقا فائقا، يشتمل على تعداد ماللسلطان من الأيادي من جهاد الإفرنج في حياة نور الدين، ثم فتح مصر واليمن، وبلادٍ جمةٍ من أطراف المغرب، وإقامة الخطبة العباسية بها. يقول في أوله للرسول: فإذا قضى التسليم حق اللقاء، واستدعى الإخلاص جهد الدعاء، فلْيُعد وليعدّض حوادث ماكانت حديثاً يفترى، وجواري أمور إن قال فيها كثيرا فأكثر منه ماقد جرى؛ وليشرح صدرا منها لعله يشرح منا صدرا، وليوضح الأحوال المستسرة فإن الله لايعبد سرا:
ومن الغرائب أن تسير عرائب ... في الأرض لم يعلم بها المأمول
كالعيس: أقتل مايكون لها الصدى ... والماء فوق ظهورها محمول
فإنا كنا نقتبس النار بأكفنا وغيرنا يستنير، ونستنبط الماء بأيدينا وسوانا يستمير؛ ونلقى السهام بنحورنا وغيرنا يعتمد التصوير، ونصافح الصفاح بصدورنا وغيرنا يدعى التصدير. ولابد أن نسترد بضاعتنا بموقف العدل الذي تُرد به الغصوب، وتظهر طاعتنا فنأخذ بحظ الألسن كما أخذنا بحظ القلوب. وما كان العائق إلا أنا كنّا ننتظر ابتداءً من الجانب الشريف بالنعمة، يضاهي ابتداءنا بالخدمة، وإنجاباً للحق، يشاكل إنجابنا للسبق. كان أول أمرنا أنا كنا في الشام نفتتح الفتوح مباشرين بأنفسنا، ونجاهد الكفار مُتقدمين لعساكرنا، نحن ووالدنا وعمنا. فأي مدينة فُنحت، أو معقل مُلك، أو عسكر للعدو كُسر، أو مصاف للإسلام معه ضرب ولم نكن فيه. فما يجهل أحد صنعنا، ولايجحد عدونا أنا نصطلي الجمرة ونمك الكرة، ونتقدم الجماعة، ونُرتب المقاتلة، وندبر التعبئة، إلى أن ظهرت في الشام الآثار التي لنا أجرها، ولايضرنا أن يكون لغيرنا ذكرها.
وكانت أخبار مصر تتصل بنا بما الأحوال عليه فيها من سوء تدبير، وبما دولتها عليه من غلبة صغير على كبير، وأن النظام بها قد فسد، والإسلام بها قد ضعف عن إقامته كل من قام وقعد. والفرنج قد احتاج من يدبرها إلى أن يقاطعهم بأموال كثيرة، لها مقادير خطيرة؛ وأن كلمة السنة بها وإن كانت مجموعة فإنها مقموعة، وأحكام الشريعة وإن كانت مسماة فإنها متحاماة. وتلك البدع بها على مايعلم، وتلك الضلالات فيها على مايفتى فيه بفراق الإسلام ويحكم؛ وذلك المذهب قد خالط من أهله اللحم والدم، وتلك الأنصاب قد نصبت آلهة تُعبد من دون الله وتعظم وتفخم؛ فتعالى الله عن شبه العباد، وويل لمن غرّه تَقَلُّبُ الذَيِنَ كَفَرُوا في البلادِ. فسمت همتنا دون همم أهل الأرض إلى أن نستفتح مُقفلها، ونسترجع للإسلام شاردها، ونعيد على الدين ضالته منها. فسرنا إليها في عساكر ضخمة، وجموع جمة،وبأموال انتهكت الموجود، وبلغت منا المجهود، أنفقناها من حاصل ذممنا وكسب أيدينا، وثمن اسارى الفرنج الواقعين في قبضتنا؛ فعرضت عوارض منعت، وتوجهت للمصريين رسل باستنجاد الفرنج قطعت، ولكلّ أجلٍ كتابُ، ولكلّ أمل باب. وكان في تقدير الله تعالى أنا نملكها على الوجه الأحسن، ونأخذها بالحكم الأقوى الأمكن، غدر الفرنج بالمصريين غدرة في هدنة عظم خطبها وخبطها، وعلم أن استئصال كلمة الإسلام محطها. فكاتبنا المسلمون من مصر في ذلك الزمان، كما كاتبنا المسلمون في الشم في هذا الأوان، بأنا إن لم ندرك الأمر وإلا خرج عن اليد، وإن لم ندفع غريم اليوم لم نمهل إلى الغد. فسرنا بالعساكر المجموعة، والأمراء الأهل المعروفة، إلى بلاد قد تمهد لنا بها أمران، وتقرر لنا في القلوب وُدان: الأول ماعلموه من إيثارنا للمذهب الأقوم، وإحياء الحقّ الأقدم؛ والآخر مايرجونه من فك أسارهم؛ وإقالة عثارهم. ففعل الله ماهو أهله، وجاء الخبر إلى العدو فانقطع حبله، وضاقت به سبله، وأفرج عن الديار بعد أن كانت ضياعها ورساتيقها، وبلادها وأقاليمها، قد نفذت فيها أوامره، وخفقت عليها صلبانه، ونصبت بها أوثانه، وأُيس من أن يسترجع ماكان بأيديهم حاصلا، وأن يُستنقذ ماصار في ملكها داخلا. ووصلنا البلاد وبها أجناد عددهم كثير، وسوادهم كبير، وأموالهم واسعة، وكلمتهم جامعة، وهم على حرب الإسلام أقدر منهم على حرب الكفر، والحيلة في السّر فيهم أنفذ من العزيمة في الجهر؛ وبها راجل من السودان يزيد على مائة ألف، كلهم أغنام أعجام، إنْ هُمْ إلا كَاْلأَنْعَام، لايعرفون ربَّا إلا ساكن قصره، ولاقبلة إلا مايتوجهون إليه من ركنه، وامتثال أمره؛ وبها عسكر من الأرمن باقون على النصرانية، موضوعة عنهم الجزية، كانت لهم شوكة وشكة، وحمة وحمية؛ ولهم حواشٍ لقصورهم من بياع داعٍ تتلطف في الضلال مداخله، وتصيب القلوب مخاتله، ومن بين كُتاب تفعل أقلامهم أفعال الأسل، وخُدام يجمعون إلى سواد الوجوه سواد النحل؛ ودولة قد كبر نملها الصغير، ولم يعرف غيرها الكبير، ومهابة تمنع من خطرات الضمير فكيف بخطوات التدبير. هذا إلى استباحة للمحارم ظاهرة، وتعطيل للفرائض على عادةٍ جاريةٍ جائرة، وتحريفٍ للشريعة بالتأويل، وعدول إلى غير مُراد الله بالتنزيل، وكفر سُمي بغير اسمه، وشرعٍ يتستر به ويحكم بغير حكمه. فما زلنا نسحتهم سحت المبادر للشفار، ونتحيفهم تحيُّف الليل والنهار، بعجائب تدبير لاتحتملها المساطير، وغرائب تقدير لا تحملها الأساطير، ولطيف توصّل ماكان من حيلة البشر ولاقدرتهم لولا إعانة المقادير. وفي أثناء ذلك استنجدوا علينا الفرنج، دفعة إلى بلبيس ودفعة إلى دمياط، وفي كلّ دفعة منهما وصلوا بالعدد المجهر، والحشد الأوقر، وخصوصا في نوبة دمياط، فإنهم نزلوها بحراً في ألف مركب، مقاتل وحامل، وبرَّا في مائتي ألف فارس وراجل، وحصروها شهرين يباركونها ويراوحونها، ويماسونها ويصابحونها، القتال الذي يصلبه الصليب، والقراع الذي ينادى به الموت من كلّ مكان قريب. ونحن نقاتل العدوين الباطن والظاهر، ونصابر الضَّررين المنافق والكافر، حتى أتى الله بأمره، وأيدنا بنصره، وخابت المطامع من المصريين والفرنج، وشرعنا في تلك الطوائف من الأرمن والسودان والأجناد، فأخرجناهم من القاهرة، تارةً بالأوامر المرهقة لهم، وتارةً بالأمور الفاضحة منهم، وطوراً بالسيوف المجردة، وبالنار
المحرقة، حتى بقي القصر ومن به من خدم ومن ذرّية قد تفرّقت شيعه، وتمزقت بدعه، وخفتت دعوته، وخَفِيت ضلالته؛ فهنالك تم لنا إقامة الكلمة، والجهر بالخطبة، والرفع للواء الأسود المعظم، وعاجل الله الطاغية الأكبر بهلاكه وفنائه، وبرأنا من عُهدة يمين كان إثم حنثها أيسر من إثم إبقائه، لأنه عوجل لفرط روعته، ووافق هلاك شخصه هلاك دولته. ولما خلا درعنا، ورحب وسعنا، نظرنا في الغزوات إلى بلاد الكفار، فلم تخرج سنة إلا عن سنة أقيمت فيها برا وبحرا، مركبا وظهرا، إلى أن أوسعناهم قتلا وأسرا، وملكنا رقابهم قهرا وقسرا، وفتحنا لهم معاقل ما خطر أهل الإسلام فيها منذ أُخذت من أيديهم، ولا أُوجفت عليها خيلهم ولاركابهم مذملكها أعاديهم. فمنها ما حكمت فيه يد الخراب، ومنها ما أستولت عليه يد الاكتساب، ومنها قلعة بثغر أيلة كان العدوّ قد بناها في بحر الهند، وهو المسلوك منه إلى الحرمين واليمن، وغزا ساحل الحرم، فساء منه خلقا، وخرق الكفر في هذا الجانب خرقا، فكادت القبلة أن يستولى على أصلها، ومشاعر الله أن يسكنها غير أهلها، ومقام الخليل عليه السلام؛ أن يقوم به من ناره غيرُ برْدٍ وسلام، ومضجع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتطرقه من لايدين بما جاء به من الإسلام. فأخذت هذه القلعة وصارت معقلا للجهاد، وموئلا لسُفار البلاد، وغيرهم من عبّاد العبا).رقة، حتى بقي القصر ومن به من خدم ومن ذرّية قد تفرّقت شيعه، وتمزقت بدعه، وخفتت دعوته، وخَفِيت ضلالته؛ فهنالك تم لنا إقامة الكلمة، والجهر بالخطبة، والرفع للواء الأسود المعظم، وعاجل الله الطاغية الأكبر بهلاكه وفنائه، وبرأنا من عُهدة يمين كان إثم حنثها أيسر من إثم إبقائه، لأنه عوجل لفرط روعته، ووافق هلاك شخصه هلاك دولته. ولما خلا درعنا، ورحب وسعنا، نظرنا في الغزوات إلى بلاد الكفار، فلم تخرج سنة إلا عن سنة أقيمت فيها برا وبحرا، مركبا وظهرا، إلى أن أوسعناهم قتلا وأسرا، وملكنا رقابهم قهرا وقسرا، وفتحنا لهم معاقل ما خطر أهل الإسلام فيها منذ أُخذت من أيديهم، ولا أُوجفت عليها خيلهم ولاركابهم مذملكها أعاديهم. فمنها ما حكمت فيه يد الخراب، ومنها ما أستولت عليه يد الاكتساب، ومنها قلعة بثغر أيلة كان العدوّ قد بناها في بحر الهند، وهو المسلوك منه إلى الحرمين واليمن، وغزا ساحل الحرم، فساء منه خلقا، وخرق الكفر في هذا الجانب خرقا، فكادت القبلة أن يستولى على أصلها، ومشاعر الله أن يسكنها غير أهلها، ومقام الخليل عليه السلام؛ أن يقوم به من ناره غيرُ برْدٍ وسلام، ومضجع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتطرقه من لايدين بما جاء به من الإسلام. فأخذت هذه القلعة وصارت معقلا للجهاد، وموئلا لسُفار البلاد، وغيرهم من عبّاد العبا).
ثم قال: وكان باليمن ماعلم من ابن مهدي الضال الملحد، المبدع المتمّرد، وله آثار في الإسلام، وثأر طالبه النبيّ عليه الصلاة والسلام، لأنه سبى الشرائف الصالحات، وباعهن بالثمن البخس، واستباح منهن كل مالا يقر لمسلم عليه نفس؛ ودان ببدعة، ودعا إلى قبر أبيه وسماه كعبة، وأخذ أموال الرّعايا المعصومة وأجاحها، وأحلّ الفروج المحرّمة وأباحها. فأنْهَضْنا إليه أخانا بعسكرنا بعد أن تكلفنا نفقات واسعة، وأسلحة رائعة؛ وسار فأخذناه ولله الحمد، وأنجح الله فيه القَصْد؛ والكلمة هنالك بمشيئة الله إلى الهند سامية، وإلى ما يفْتَضّ الإسلام عذرته متمادية.
ولنا في الغرب أثر أغرب، وفي أعماله أعمال دون مطلبها مهالك كما يكون المهلك دون المطلب؛ وذلك أن بنى عبد المؤمن قد اشتهر أنّ أمْرَهم قد أَمِر، وملكهم قد عُمِر، وجيوشهم لاتطاق، وأمرهم لايشاقّ، ونحن بحمد الله قد تملكنا مما يجاورنا منه بلادا تزيد مسافتها على شهر، وسيرنا إليها عسكرا بعد عسكر، فرجع بنصر بعد نصر. ومن البلاد المشاهير، والأقاليم الجماهير: برقة، قَفْصة، قسطيلية، تَوْزَر؛ كلّ هذه تقام فيها الخطبة لمولانا الإمام المستضئ بأمر الله، أمير المؤمنين، سلام الله عليه؛ ولاعهد للإسلام بإقامتها، وينفذ فيها الأحكام بعلمها المنصور وعلامتها.
وفي هذه السنة كان عندنا وفْدُ قد شاهده وفود الأمصار، ورموه بأسماع وأبصار، مقداره سبعون راكبا، كلّهم يطلب لسلطان بلده تقليدا، ويرجو منا وعدا ويخاف وعيدا؛ وقد صدرت عنا بحمد الله تقاليدها، وألقيت إلينا مقاليدها، وسيَّرنا الخلع والمناشير والألوية، بما فيها من الأوامر والأقضية. فأما الأعداء المحدقون بهذه البلاد، والكفار الذين يقاتلوننا بالممالك العظام والعزائم الشّداد، فمنهم صاحب قسطنطينية، وهو الطاغية الأكبر، والجالوت الأكفر، وصاحب المملكة التي أكلت على الدّهر وشربت، وقائم النصرانية الذّي حكمت دولته على ممالكها وغلبت، جَرَت لنا معه غزوات بحرية، ومناقلات ظاهرة وسّرية، ولم نخرج من مصر إلى أن وصلتنا رسله في جمعة واحدة نَوْبتين، بكتابين، كلّ واحدٍ منهما يظهر فيه خفض الجناح، وإلقاء السلاح، والانتقال من معاداة إلى مهاداة، ومن مفاضحة إلى مناصحة، حتى إنه أنذر بصاحب صقلية وأساطيله التي ترّدد ذكرها، وعساكره التي لم يخف أمرها.
ومن هؤلاء الكفار هذا صاحب صقلية، كان حين علم بأن صاحب الشام وصاحب قسطنطينية قد اجتمعا في نوبة دمياط فغلبا وقُسرا، وهزما وكُسرا، أراد أن يظهر قوته المستقلة، فعمر أسطولا استوعب فيه ماله وزمانه، فله الآن خمس سنين تكثُر عِدّته، وتنتحب عُدّته، إلى أن وصل منها في السنة الحالية إلى الإسكندرية أمر رائع، وخطب هائل، مااثقل ظهر البحر مثل حمله، ولا ملأ صدره مثل خيله ورَجْله؛ وماهو إلا إقليم، بل أقاليم، وجيش ما احتفا ملك قط بنظيره لولا أن الله خذله.
ومن هؤلاء الجيوش البنادقة، والباشنة، والجنوبية كلّ هؤلاء تارةً يكونون غزاةً لاتُطاق ضراوة ضرّهم، ولاتُطفأ شرارة شرّهم، وتارةً يكونون سُفّاراً يحتكمون على الإسلام في الأموال المجلوبة، وتقصر عنهم يد الأحكام المرهوبة، ومامنهم إلا من هو الآن يجلب إلى بلدنا آلة قتاله وجهاده، ويتقرب إلينا بإهداء طرائف أعماله وتلاده؛ وكلهم قد قُرّرت معهم المواصلة، وانتظمت معهم المسالمة، على ما نريد ويكرهون، وعلى مانؤثرُ وَهُمْ لايؤثرون.
ولما قضى الله سبحانه بالوفاة النورية، وكنا في تلك السنة على نيّة الغزاة، والعساكر قد تجهزت، والمضارب قد برزت، ونزل الفرنج على بانياس، وأشرفوا على اجتيازها ورأوها فرصة مدُّوا يَدَ انتهازها، استصرخ بنا صاحبها، فسرنا مراحل اتصل بالعدوّ أمرها، وعوجل بالهدنة الدمشقية التي لولا مسيرنا ما انتظم حكمها.
ثم عدنا إلى البلاد وتوافت إلينا الأخبار بما المملكة النورية عليه من تشعُّب الآراء وتوزعها، وتشتُّت الأمور وتقطعها، وأن كلّ قلعة قد حصل فيها صاحب، وكلّ جانب قد طمح إليه طالب، والفرنج قد بنوا قلاعا يتحيفون بها الأطراف الإسلامية، ويضايقون بها البلاد الشامية، وأمراء الدولة النورية قد سجن كبارهم، وعُوقبوا وصودروا، والمماليك الأعماد الذين خدموا الأطراف لا الصدور، وجعلوا للقيام لا للقعود في المجلس المحضور، قد مدُّوا الأيدي والأعين والسيوف، وسارت سيرتهم في الأمر بالمنكر والنهيّ عن المعروف، وكلّ واحد يتخذ عند الفرنج يداً، ويجعلهم لظهره سندا. وعلمنا أن البيت المقدس إن لم تتيسرّ الأسباب لفتحه، وأمر الكُفر إن لم يُجرد العزم في قلعه، وإلا نبتت عروقه، واتسعت على أهل الدين خُروقه؛ وكانت الحجة لله قائمة، وهمم القادرين بالقعود آثمة. وإنا لانتمكن بمصر منه مع بعد المسافة، وانقطاع العمارة، وكلال الدواب التي بها على الجهاد القوة، وإذا جاورناه كانت المصلحة بادية، والمنفعة جامعة، واليد قادرة، والغزوة ممكنة، والميرة متسعة، والخيل مستريحة، والعساكر كثيرة الجموع، والأوقات مساعدة. وأصلحنا ما في الشام من عقائد معتّلة، وأمور مختلة، وأراء فاسدة، وأمراء متحاسدة؛ وأطماع غالبة، وعقول غائبة، وحفظنا الولد القائم بعد أبيه، فأنا به أولى من قوم يأكلون الدّنيا باسمه، ويُظهرون الوفاء في خدمته، وهم عاملون بظلمه.
والمراد الآن هو كلّ ما يقوّي الدولة، ويؤكد الدعوة، ويجمع الأمة، ويحفظ الألفة، ويضمن الرأفة، ويفتح بقية البلاد؛ وأن يطبق بالاسم العباسي كل ما تطيقه العهاد، وهو تقليد جامع بمصر، واليمن، والمغرب، والشام، وكل ما تشتمل عليه الولاية النورية، وكلّ ما يفتحه الله تعالى للدولة العباسية بسيوفنا وسيوف عساكرنا، ولمن نقيمه من أخ أو ولد من بعدنا، تقليدا يضمن للنعمة تخليدا، وللدعوة تجديدا، مع ما ينعم به نمن السّمات التي فيها الملك. وبالجملة فالشام لاينتظم أموره بمن فيه، والبيت المقدس ليس له قرنٍ يقوم به ويكفيه، والفرنج فهم يعرفون منا خصما لايملّ الشر حتى يملّوا، وقرناً لايزال محرم السيف حتى يحلوا. وإذا شد رأينا حسن الرأي ضربنا بسيف يقطع في غمده، وبلغنا المنى بمشيئة الله تعالى ويّدُ كلّ مؤمن تحت برده، واستنقذنا أسيراً من المسجد الذي أسرى الله إليه بعبده.
ومن كتاب آخر فاضليّ عن السلطان إلى الدّيوان في تعداد ماله من الأيادي؛ قال: " والذي أجراه الله على يد المملوك من الممالك التي دوخها، وسنن الضلال التي نسخها، وعقود الإلحاد التي فسخها، ومنابر الباطل التي رَحَضَها، وحجج الزندقة التي دحضها؛ فلله عليه المنة فيه إذْ أهلَّه لشرف مشهده، ومافعله إلا لوجهه، ويدُ الله كانت عون يده؛ وإلا فقد مضت الليالي والأيام على تلك الأمور وما تحركت للفلك في قلعها نابضة، وغبرت الأحوال على تلك البدعة وما ثرت لأفراسها رابضة. فشكر يد الله تعالى فيما أجراه على يده منها، أن يجتهد في أخرى مثلها في الكفار، وقد عاد الإسلام إلى وطنه، وصوّحت من الكفر خضراء دمنه " .
ومن كتاب آخر للفاضل يذكر فيه إعادة صلاح الدين الخطبة بمصر للدولة العباسية يقول فيه: " حتى أتى الدّنيا ابن بجدتها، فقضى من الأمر ماقضى، وأسخط من الله في سُخطه رضا، وجعل وجه لابس السواد مُبيضا، فأدرك لهم بثأرٍ نامت عنه الهمم، ودوّخت عليه الأمم، وشفى الصدور، وجاء بالحق إلى من غره بالله الغرور، واستبضع إلى الله تعالى تجارة لن تبور " .
ومن كتاب آخر: قد بورك للخادم في الطاعة التي لبس الأولياء شعارها، وأمضى في الأعداء شغارها، وجمع عليها الدين وكان أديانا، واستقامت بها القلوب على صبغة التكلف وكانت ألوانا.
ومن كتاب آخر: لم يكن سبب خروج المملوك من بيته إلا وعد كان انعقد بينه وبين نور الدين رحمه الله تعالى في أن يتجاذبا طرفي الغزاة من مصر والشام، المملوك بعسكري برّه وبحره، ونور الدين من جانب سهل الشام ووعره. فلما قضى الله بالمحتوم على أحدها، وحدثت بعد الأمور أمور، اشتهرت للمسلمين عورات وضاعت ثغور، وتحكمت الآراء الفاسدة، وفُورقت المحاج القاصدة، وصارت الباطنية بطانة من دون المؤمنين، والكفار محمولة إليها جزى المسلمين؛ والأمراء الذين كانوا للإسلام قواعد، وكانت سيوفهم للنصر موارد، يشكون ضيق حلقات الأسار، وتطرق الكفار بالبناء في الحدود الإسلامية. ولاخفاء أن الفرنج بعد حلولنا بهذه الخطة قاموا وقعدوا، واستنجدوا أنصار النصرانية في الأقطار، وسيروا الصليب ومن كسى مذابحهم بقمامة، وهددوا طاغية كفرهم بأشراط القيامة، وأنفذوا البطارقة والقسيسين، برسائل صور من يصورّونه ممن يسمونهم القديسين؛ وقالوا إن الغفلة إن وقعت فيما لايستدرك فارطه. وإن كلا من صاحب قسطنطينية، وصاحب صقلية، وملك الألمان، وملوك ما وراء البحر، وأصحاب الجزائر، كالبندقية، والبشانية، والجنوبية، وغيرهم، قد تأهبوا بالعمائر البحرية، والأساطيل القوية. وللإسلام بأمير المؤمنين أعزُّ ناصر، لاسيما وهم ينصرون باطلا وهوينصر حقا، وهو يعبد خالقاً وهم يعبدون خلقا
فصلقال العماد: وكنت بالموصل فسئلت نظم مرثية في نور الدين، فنظمت بعد عوْدي إلى دمشق في رجب:
الدّين في ظُلَم لغيبة نوره ... والدهر في غُمم لفقد أميره
فليندبُ الإسلامُ حامي أهله ... والشام حافظ ملكه وثغوره
ما أعظم المقدار في أخطاره ... إذ كان هذا الخطب في مقدوره!!
ماأكثر المتأسفين لفقد مَنْ ... قَرَّتْ نواظرهم بفقد نظيره
ماأعوص الإنسان في نسيانه ... أو ماكفاه الموت في تذكيره؟
مَن للمساجد والمدارس بانيا ... لله طوعا عن خلوص ضميره
من ينصر الإسلام في غزواته ... فلقد أصيب برُكنه وظهيره
مَنْ للفرنج، ومن لأسر ملوكها ... من للْهُدى يبغي فكاك أسيره
من للخطوب مذلِّلاً لجماحها ... من للزمان مُسَهّلا لوعوره
من كاشفُ للمعضلات برأيه ... من مشرقٌ في الداجيات بنوره
من للكريم، و من لنعش عثاره ... منْ لليتيم، ومن لجبْر كسيره
من للبلاد، و من لنصر جيوشها ... من للجهاد، ومن لحفظ أموره
منْ للفتوح محاولا أبكارها ... برَواحه في غزوه وبُكوره
منْ للعلا وعُهودها، منْ للندى ... ووفوده، منْ للحِجا ووفوره
ماكنت أحسب نور الدين دين محمد ... يخبو وليل الشّرك في ديجوره
أعْزِزْ عليّ بليث غابٍ للهدى ... يخلو الشرى من زوره وزئيره
أعْزِزْ عليّ بأنْ أراه مُغّيباً ... عنْ محفل متشرف بحضوره
لهفي على تلك الأنامل، إنها ... مُذْ غّيبت غاض النّدى ببحوره
ولقد أتى منْ كنت تُجري رسمه ... فضع العلامة منك في منشوره
ولقد أتى منْ كنت تُؤمن سربه ... وقِّع له بالأمن مِنْ محذوره
ولقد أتى منْ كنت تؤثر قربه ... فأدم له التّقريب في تقريره
والجيش قد ركب الغداة لعرضه ... فاركب لتُبْصِرَه أوَانَ عبوره
أنت الذَّي أحييت شرع محمد ... وقضيت بعد وفاته بنشُوره
كم قد أقمت من الشريعة مَعْلما ... هو مُنْذ غبت معرّضٌ لِدثُوره
كم قد أمرت بحفر خندق معقلٍ ... حتى سكنت اللّحد في محفوره
كم قيصرٍ للرُّوم رُمت بقسره ... إرْواء بيض الهند من تاموره
أُوتيت فتح حصونه، ومَلَكتَ عُقْ ... رَ بلاده، وسبيت أهل قصوره
أزَهِدت في دار الفناء وأهلها ... ورَغبت في الخلد المقيم وحُوره
أوَ ماوعدت القدس أنك منْجزٌ ... ميعاده في فتحه وظهوره
فمتى تجير القدس من دنس العِدا ... وتقدِّس الرّحمن في تطهيره
ياحاملين سريره: مهلاً، فمن ... عجبٍ نهوضُكم بحمْل ثبيره؟
ياعابرين بنعشه: أَنَشَقْتُمُ ... من صالح الأعمال نشر عبيره؟
نزلت ملائكة السّماء لدفنه ... مستجمعين على شفير حفيره
ومن الجفاء له مُقامي بعده ... هلاّ وفيت وسرت عند مسيره
حيّاك معتّل الصِّبا بنسيمه ... وسَقاك مُنْهلُّ الحَيْا بدُروره
ولبست رضوان المهْيمن ساحباً ... أذيال سُنْدس خزّه وحريره
وسكنت عِّلِّيين في فردوسه ... حلْف المسّرة ظافرا بأجوره
قال العماد: وجاء نجاب إلى الموصل وذكر أنه فارق صلاح الدين بقرب دمشق بالكسوة وهو الآن يستكمل من ملك دمشق الحُظوة؛ فهاجني الطرب لقصده، لسابق معرفته وقديم ودّه؛ فقدمت دمشق على طريق البرية، والسلطان على حلب.
وكان العماد في عقابيل ألم، فلما شُفي وعاد السّلطان إلى حمص قصده فيها وقد تسلم قلعتها في شعبان، في الحادي والعشرين منه.
قال: وكنت نظمت قصيدة في الشوق إلى دمشق والتأسف عليها، ثم جعلت مدح السّلطان مخلصها، وهي طويلة، أولها:
أجيران جيرون مالي مجير ... سوى عطفكم، فاعدلوا أوْ فَجُورا
ومالي سوى طيفكم زائر ... فلا تمنعوه إذا لمْ تزوروا
يعزّ علي بأن الفؤاد ... لديكم أسيرٌ وعنكم أسير
وماكنت أعلم أني أعي ... شُ بعد الأحبة، إني صَبُور!
وفتْ أدمعي، غير أنّ الكرى ... وقلبي، وصبري، كلُّ غَدُور
إلى ناس باناس لي صبوةٌ ... لها الوجد داعٍ وذكرى مثير
يزيد اشياقي وينمو، كما ... يزيد يزيد، وَ ثَوْرا يثور
ومن بردى بَرْدُ قلبي المشوق ... فها أنا من حره مستجير
و بالمرج مرْجُوُّ عْيشي الذي ... على ذكره العذْب عيشي مرير
فقدتكم ففقدت الحياة ... ويوم اللقاء يكون النّشور
تطاول لسؤالي عند القصير ... فعن نيله اليوم باعي قصير
وكن لي بريداً بباب البريد ... فأنت بأخبار شوقي خبير
متى تجد الرى بالقريتين ... خوامص أثر فيها الهجير
ونحو الجليجل أُزْجى المطيَّ ... لقد جلّ هذا المرام الخطير
تراني أُنيخ بأدنى ضمير ... مطايا براها الوجا والضمور
وعند القطيفة المشتهاة ... قُطوف بها للأماني سفور
ومنها بُكوري نحو القُصَير ... ومنية عمري ذاك البكور
ويا طِيب بُشراي من جلق ... إذا جاءني بالنجاح البشير
ويستبشر الأصدقاء الكرامُ ... هنالك بي، وتُوفي النذور
ترى بالسلامة يوما يكون ... بباب السلامة منّي عبور
وإن جوازي بباب الصغير ... لَعَمْري من العُمر حظّ كبير
وما جنة الخلد إلا دمشق ... وفي القلب شوق إليها سعير
ميادينها الخضر فيحّ الرّحاب ... وسلسالها العذب صافٍ نمير
وجامعها الرّحب والقُبّة الْ ... مُنيفة والفلك المستدير
وفي قبّة النسر لي سادة ... بهم للمكارم أفق منير
وباب الفراديس فرْدوسها ... وسُكانها أحسن الناس حور
والارزة فالسّهم فالنيربان ... فجنات مزتها فالكفور
كأن الجواسق مأهولةً ... بروجٌ تَطَّلعُ منها البدور
بنيربها تستبير الهموم ... بربوتها يتربى السّرور
وماغرّ في الرّبوة العاشقي ... ن بالحسن إلاّ الرّبيب الغرير
وعند المغارة يوم الخميس ... أغار على القلب منيّ مغير
وعند المنْيبع عين الحياة ... مدى الدهر نابعة ماتفور
بجسر ابن شواش ثمَّ السكون ... لنفس، بنفسي تلك الجسور
وما أنسَ لاأنْس أُنْس العبور ... على جسر جسرين إني جسور
وكمْ بتّ ألْهو بقرب الحبي ... ب في بيت لِهْيا ونام الغيور
فأين اغتباطيَ بالغوطتين ... وتلك الليالي وتلك العصور
وأشجار سطرا بدت كالسطو ... ر، نمقَهُنّ البليغ البصير
وأيْن تأملْت فُلكٌ يدور ... وعينٌ تفورُ، وبحرٌ يمور
وأين نظرت نسيمٌ يرِقّ ... وزهرٌ يروق، وروضٌ نضير
إلا القساوة يا قاسيون ... وبين السّنا يتجلّى سَنير
ومُنْذُ ثَوى نوُ دين الإل ... ه لم يبق للدّين والشّام نور
وللنّاس بالملك النّاصر الصَّ ... لاح صلاحٌ ونصرٌ وخير
هو الشمس، أفلاكه في البلاد ... ومطلعه سرجه، والسّرير
إذا ماسطا، أو حبا، واحتبى ... فما الليث، من حاتمٌ، ماثبير
بيوسف مصر وأيامه ... تقر العيون وتُشفى الصّدور
ملكت فأسْجح، فما للبلاد ... سواك مجيرٌ ومولى نصير
وفي مِعْصم الملك للعزّ منك ... سوارٌ، ومنك علي الديِّن سُور
لك الله في كل ما تبتغيه ... بحقٍ ظهيرٌ، ونعم الظّهير
أما المفسدون بمصر عصْوك ... وهذي ديارهم اليوم قور
أما الأدعياء بها إذ نشطت ... لإبعادهم زال منك الفتور
ويوم الفرنج إذا ما لقوك ... عبُوس برغمهم قمطرير
نهوضاً إلى القديس يشفى الغليل ... بفتح الفتوح، وماذا عسير
سَلِ الله صعب الخطوب ... فهو على كل شئ قدير
إليك هجرت ملوك الزمان ... فمالك، والله، فيهم نظير
وفجرك فيه القرا والقُران ... جميعاً، وفجر الجميع الفجور
وأنت تريق دماء الفرنج ... زعندهم لاتراق الخمور
فصل في فتح بعلبكقال العماد: ولما فرغ السلطان من حمص وحصنها سار إلى بعلبك، فتسلمها في رابع شهر رمضان.
قال ابن أبي طيّ: وكان بها خادم يقال له يمن، فلما شاهد كثرة عساكر السّلطان اضطرب في أمره وراسل مَنْ بحلب على جناح طائر، فلم يرجع إليه منهم خبر؛ فطلب الأمان، وسلم بعلبك إلى السلطان.
قال العماد: وهنأته بأبيات منها:
بفتوح عصرك يَفْخر الإسلام ... وبنُور نصرك تُشرق الأيام
وبفتح قلعة بعلبك تهذّبت ... هذي الممالك واستقام الشّام
وبكى الْحسُود دماً، وثغر الثّغر، من ... فرح بنصرك للهدى، بَسَّام
فتح تَسنّى في الصيّام، كأننا، ... شكرا لما منح الإله، صيام
من ذا رأى في الصّوم عيد سعادة ... حلّت لنا والفطر فيه حرام
أسدي صلاح الدّين والدّنيا يداً ... بنوالها سوقُ الرّجاء تقام
فتملّ فتحك، واقصد الفتح الَّذي ... بحصوله لفتُوحك الإتمام
دُمْ للعُلا حتى يدوم نظامها ... واسلْم يعزَّ بنصرك الإسلام
قال: ولزمت خدمته أرحل برحيله وأنزل بنزوله. وكنت ليلةً عنده وهو يذكر جماعة من شعراء الزمان، وعنده ديوان الأمير مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن سديد الملك علي بن منقذ، وهو به مشغوف، وخاطره على تأمله موقوف، وإلى استحسانه مصروف. وقد استحسن قصيدة له طائية لو عاش الطائيان لأقرَّا بفضلها، وإن خواطر المبتكرين لتقصر عن مثلها. على أنّ الشّعراء المحدثين مامنهم إلا من نظم على رويّها ووزنها، واستمد خصب خاطره من مُزنها، فمنهم المعري، وابن أبي حصينة، والأرَّجاني، والصالح ابن رزيك. وقد أوردت جميعها في كتاب الخريدة. ومطلع قصيدة المعرّي:
لمن جيرة سيموا النوال فلم ينطوا
فنظمت في السلطان ونحن على بعلبك بتاريخ انسلاخ شعبان قصيدة طائية، منها:
عفا الله عنكم، مالكم أيها الرّهط ... قسطتم، ومن قلب المحبّ لكم قسط!
شرطتم لنا حفظ الوداد وخنتم ... حنانيكم؛ ماهكذا الودّ والشرط!
جعلتم فؤاد المُسْتهام بكم لكم ... محطا، فعنه ثقل همكم حُطّوا
ملكتم فأنكرتم قديم موَّدتي ... كأن لم يكن في البين معرفة قطّ
فدت مهجتي من لايذّم لمهجتي ... إذا حاكمته، وهو في الحكم مشتط
وما كنت أدري قبل سطوة طرفه ... بأن ضعيفاً فاترا مثله يسطو
وأهيف للإشفاق من ضعف خصره ... يحلُّ نطاقا للقلوب به ربط
يلازم قلبي في الهوى القبض، مثلما ... يلازم كفَّ النَّاصر الملك البسط
مليكٌ حوى الملك العقيم بضبطه ... كريمٌ، وما للمال في يده ضبط
إذا لُثمت أيدي الملوك، فعنده ... مدى الدَّهر، إجلالاً له، ثلم البسط
عنا لك طويا نيلُ مصر، ودجلةُ الْعِراق، ودان العُرب، والعُجم، والقبط
وللنيل شطٌ ينتهي سيبه به ... ونَيْلُك للرَّاجين نِيلٌ ولا شطُّ
عدوُّك مثل الشّمع، في نار حقده ... له عنق إصلاح فاسده القط
وهي ثمانية وثمانون بيتا.
ولسعادة الأعمى قصيدة طائية في السلطان سيأتي ذكرها.
قال العماد: ولما وصلتُ إلى السلطان، ورغبت منه في الإحسان، وجدته لأمري مُغْفلا، ولشُغلي مهمى؛ ثم عرفت أنّ حسّادي قالوا له: متى أعدت ديوان الكتابة إلى العماد، وهو لاشكّ بمحل الوثوق والاعتماد، وهذا منصب الأجل الفاضل، وهو عنده في أجل المنازل، ربما ضاق صدره، وتشعّث سرّه. فلما عرفت هذا المعنى، لجأت إلى الفضل الفاضليّ لأنه به يعنى؛ فقام بأمري، ونوّه بقدري، وأراح سرّي، وشدّ أزري.
فصل فيما جرى للْمَوَاصلة والحلبييّن مع السُّلطان في هذه السّنة
قال ابن شداد: ولما أحسّ سيف الدين صاحب الموصل بما جرى، علم أن الرّجل قد استفحل أمره، وعظم شأنه، وعَلَت كلمته، وخاف أنه إن غفل عنه استحوذ على البلاد واستقرّ قدمه في الملك وتعدّى الأمر إليه. فجهز عسكرا وافراً وجيشاً عظيماً، وقدّم عليهم أخاه عز الدين مسعوداً، وساروا يريدون لقاء السلطان وضرب المصاف معه وردّه عن البلاد. فوصل إلى حلب والسلطان بحمص، وانضم إليه من كان بحلب من العسكر وخرجوا في جمع عظيم. ولما عرف السّلطان بمسيرهم سار حتى وافاهم بقرون حماة، وراسلهم وراسلوه، واجتهد أن يُصالحم فما صالحوه، ورأوا أنّ المصاف ربما نالوا به الغرض الأكبر، والمقصود الأوفر، والقضاء يجرّ إلى أمورٍ وهم بها لايشعرون. وقام المصاف بين العسكرين، فقضى الله تعالى أن انكسروا بين يديه، وأَسر جماعة منهم، ومنّ عليهم وأطلقهم؛ وذلك عند قرون حماة في تاسع عشر شهر رمضان.
ثمّ سار عقيب انكسارهم ونزل على حلب، وهي المدافعة الثانية وصالحوه على أن أخذ المعرّة، وكفر كاب، وبارين.
وقال العماد: لما تسلم السلطان قلعة بعلبك عاد إلى حمص وقد وصل عز الدين مسعود، أخو صاحب الموصل، إلى حلب نجدة. ولما عرفوا أن السلطان مشغول بالحصون جاءوا إلى حماة فحصروها وراسلوا في الصلح؛ فقدم السلطان في خف من اصحابه، وجاء كُمُشتكين وابن العجمي وغيرهما، وأجابهم السلطان إلى ماطلبوا، وأن يردّ عليهم الحصون، وأن يقنع بدمشق نائباً عن الملك الصالح وله خاطباً، وعلى الانتماء إليه مواظباً، وأن يردّ كلّ ما أخذه من الخزانة، وأن يسلك فيه سبيل الأمانة. فلّما رأوه مجيباً لكلّ ما يلتمس منه وهو في عسكر خفيف قالوا ما خبره صحيح، فشرعوا في الاشتطاط، وطلبوا الرّحبة وأعمالها؛ فقال هي لابن عمي ناصر الدّين محمد بن شيركوه، وكيف أُلحق به في رضاكم المكروه. فنفروا وجفلوا وأصبحوا على الرحيل إلى جانب العاصي قريبا من شيرز، وجمعوا العسكر وأظهروا أنهم على المصاف وعزم الانتصاف. فعبَّر السّلطان إلى سفح قرون حماة خيامه، وركز على مقابلتهم أعلامه؛ ووصل العسكر المصريّ في عشرة من المقدّمين منهم فرخشاه، وأخوه تقيّ الدّين. والتقوا، فهزمهم السلطان ونزل في منزلتهم.
قال العماد: ومما نظمت في هذه الوقعة في مدح ناصر الدين محمد بن شيركوه قصيدة، فقد كان له فيها عناء وبلاء حسن، منها:
ولَقَدْ ألِفتُ نِفارها وهَوَيْتها ... إذ ليس يُنكر للظبّاء نفار
ياجارةً للقلب جائرة: دَعِى ... ظُلمي، وإلاّ قلتُ: جار الجار
قلبي كطرفي مايفقي إفاقة ... سكران، مادارت عليه عقار
صَبُّ بصب الدمع، محترق الحشا ... خطرت ببال بلائه الخطار
لم يخْش من خطر الهوى حتى حمى ... ذاك القوام شبيه الخطار
يذرى الدموع كأنهنّ عوارفٌ ... لاِبْن المملّك شيركوه غزار
من آل شادي الشائدين بنا العلا ... أركانهن لهاذمٌ وشفار
حسنت بهم للدولة الأيام وال ... أعمال، والأحوال، والآثار
قد حاز ملك الشام يوسفٌ الذّي ... في مصر تغبط عصره الأعصار
نصرَ الهُدى فتوطد الإسلام في ... أيامه، وتضعضع الكفار
لما لقيت جموعهم منظومة ... صيرت ذاك النظم وهو نثار
في حالتي جُودٍ وبأسٍ لم يزل ... للتّبر والأعداء مِنْك تبار
تهبَ الألوف ولاتهاب ألوفهم ... هان العدوّ عليك والإنْبار
لما جرى العاصي هنالك طائعا ... بدمائهم فخرت به الأنهار
وتحطمت عند القرون قرونهم ... بل كلّت الأنياب والأظفار
عبروا المعر مالكين معرّة ... والعار يملك تارة ويعار
أو ماكفاهم يوم حمص وكفّهم ... في بعلبك بمثلها الإنذار
قال: وهنأت الملك المظفر تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب بقصيدة، منها:
لاتُفن من فرق الفراق الأدمعا ... فهي الشهود على الغرام المدّعى
واستبق صبرك ما استطعت، فإنه ... عون لقلبك إن هُما ثبتا معا
قلبٌ أصابته العيون، ولم يزل ... من مسّها بالهاجسات مرّوعا
ماباله قد صدّ عند صدودهم ... عنّي، ولما ودّعوني ودعا
ومن التحيّر أنني أبصرته ... في ظعنهم، وسألت عنه الأضلعا
أصبحت إذ شيّعتهم لثلاثة ... صبري، وغمضي، والفؤاد، مشيعا
ومنها:
أو ما أتقيتم حين رُعْتُم سربه ... فيه تقيّ الدين، ذاك الأروعا
عمر بن شاهنشاه من هو عامرٌ ... أركان ملك الشام حين تضعضعا
خضع العدوّ وذلّ بعد تعزز ... لكم، وحق عدوكم أن يخضعا
من معشر غر يرون جميع ما ... لم يبذلوه في السَّماح مضيعا
في مصر واليمن اجتلينا منهم ... في عصرنا تبعا ليوسف تُبعا
الحاويان بملك مصر ومكةٍ ... والشام واليمن الحظايا الأربعا
لما عصى الأعداء بالعاصي جرى ... بدمائهم طوعا سيولا دُفَّعا
وقال ابن أبي طي: لما نسلم السلطان بعلبك وأزاح عللها، عاد إلى حمص ونزل بها، فاتصل به ورود عزّ الدين مسعود، أخي سيف الدين صاحب الموصل، نجدةً للملك الصالح. وكان سبب وروده أن جماعة من أمراء حلب لما كان السلطان نازلا على حلب أجمعوا آراءهم وكاتبوا سيف الدين وألزموه نجدة ابن عمه، وأخبروه أن السلطان متى ملك حلب لم يكن له قصد إلا الموصل؛ وأرسلوا بذلك أمين الدين هاشماً خطيب حلب، وقطب الدين ينال بن حسان وغرس الدين قليج.
وكان سيف الدين منازلا لسنجار وفيها أخوه عماد الدين بن زنكي، وكان عماد الدين قد أظهر الانتماء إلى السلطان، فأنجده السلطان بقطعة من جيشه فكسرهم، ونهبهم عماد الدين بهم وبعسكره.
فلما وصلت رسالة الحلبيين إلى سيف الدين صالح أخاه عماد الدين وحشد عسكره وأنفذ يجيبهم مع أخيه عز الدين مسعود، فورد حلب بعد رحيل السلطان عنها إلى بعلبك؛ فاغتنم الحلبيون بُعد السلطان عنهم فاحتشدوا وخرجوا جميعاً حتى خيموا على حماة وأخذوا في حصارها. واتصل بالسلطان ذلك فرحل من بعلبك إلى حمص، وبلغ عز الدين فعاد عن حماة ونزل قريبا من جباب التركمان إلى جهة العاصي إلى قريب من شيزر. وأرسل النائب بحماة، علي بن أبي الفوراس، يقول له إنما وصلت في إصلاح الحال ووضع أوزار القتال، وسأله مكاتبة السلطان فيما يجمع الكلمة ويلم شعب الفرقة. فكتب ابن أبي الفوارس بذلك إلى السلطان وحَسَّن له الصُّلح، وتلطف في ذلك غاية التلطف.
وقدم أبو صالح بن العجمي وسعد الدين كمشتكين لطلب الصلح، فأجابهما السلطان إلى ما أرادا، وتقرر الأمر على أنه يرد إليهم جميع الحصون والبلاد، ويقنع بدمشق وحدها، ويكون نائبا للملك الصالح. فلما عاين سعد الدين إجابة السلطان إلى الصلح والنزول عن جميع الحصون التي أخذها: حمص وحماة وبعلبك، طمع في جانب السلطان وتجاوز الحد في الاقتراح، وطلب الرحبة وأعمالها. فقال: هي لابن عمي ولاسبيل إلى أخذها. فقام سعد الدين من بين يديه نافرا، وكان ذلك برأي أبي صالح ابن العجمي لأنه كان معه، فاجتهد السلطان به أن يرجع فلم يفعل، وخرج إلى عز الدين مسعود، وكان بعدُ نازلا على حماة، وحدثه مادار بينه وبين السلطان وهون عليه أبو صالح أمر السلطان وأخبره بقلّة من معه.
وكان السلطان لما كوتب في أمر الصلح سار في خفّ من أصحابه، فلما علموا بذلك طمعوا في جانبه وعوّلوا على لقائه وانتهاز الفرصة في أمره؛ فكاتب باقي أصحابه واستعدّ لحربهم، وسار إلى أن نزل على قرون حماة، وأخذ في مدافعة الأيام حتى يقدم عليه باقي عسكره. ورسلهم في التلطف للأحوال، فلم ينجح فيهم حال. وكانوا في كلّ يوم يعزمون على لقائه وقتاله، فيبطل عزيمتهم بمراسلة يفتعلها، تسويفا للأوقات وتقطيعا للزمان، حتى يقدم عليه عسكره. وكانت هيبته قد ملأت صدور القوم، ولولا ذلك لكانوا قد ناهزوا الفُرصة ونالوا منه الغرض.
قال: وفي يوم الأحد تاسع عشر رمضان التقوا، ولم يكن بعد وصل السلطان من عسكره أحد؛ فتجمع أصحاب السلطان كردوسا واحدا، وأخذوا يحملون يمنة ويسرة ويدافعون الأوقات رجاء أن يتصل بهم بعض العسكر. وضرى عسكر حلب والعسكر الموصليّ على أصحاب السلطان حين شاهدوا قلتهم واجتماعهم، وكاد أصحاب السلطان يولون الإدبار، فوصل تقي الدين عمر عند الحاجة إليه لتمام سعادة السلطان، فإنه لو تأخر ساعة انكسر عسكره؛ فوصل تقيّ الدين في عسكر مصر وجماعة من الأمراء وهم غير عالمين بأن الحرب قائمة. فلما رأوا الناس في الكرّ، والضرب الهبر، حملوا جميعا بعد أن افترقوا في اليمنة واليسرة، فصدموا عسكر الموصل صدمة ضعضعتهم.
وكان السلطان في هذه المدة قد كاتب جماعة من عسكرهم واستفسدهم إليه، وحمل إليهم الأموال. وهذا هو الذي أبطأ بهم إلى أن وصلت عساكره، وإلا لو كان عسكر حلب نصح لم يقدر السلطان على الثبوت ساعة. فلما اشتد القتال لم ينصح الجماعة التي كاتبها السلطان بل كانوا مثبطين مخوفين لمن قرُب منهم. ثم إنهم بعد ذلك انهزموا وتبعهم عسكر السلطان واستباحوا أموالهم وخيامهم، وأمر السلطان أصحابه ألا يوغلوا في طلبهم ولايقتلوا من رأوه منهزما ولا يذففوا على جريح. ورحل حتى نزل في منزلتهم.
ثم سار من وقته مجداً حتى نزل بمرج قرا حصار، ولم يزل هناك حتى عيّد عيد الفطر، فجاءته رسل الملك الصالح يسألونه المهادنة وأن يُقرّر الملك الصالح على ما في يده وماهو جارٍ تحت حكمه من الشام الأسفل إلى بلد حماة، فلم يرض بذلك، فجعلوا له مع حماة المعرة وكفر طاب، فرضى بذلك وحلف على نسخة رأيتها وعليها خطه.
قال: وكان في جماعة اليمين أنه متى قصد الملك الصالح عدوٌّ حضر بنفسه وجيوشه ودافع عنه، وألا يغَّر الدّعاء له من جميع منابر البلاد التي تحت يد السلطان وولايته وولاية أصحابه، وأن تكون السكة باسمه.
ولما حلف السلطان والملك الصالح وأمراؤه عاد السلطان قاصدا دمشق. فلما وصل إلى حماة وصلت إليه رسل الخليفة المستضئ ومعهم التشريفات الجليلة والأعلام السود، وتوقيعٌ من الديوان بالسلطنة ببلاد مصر والشام.
وفي هذه الخلع يقول ابن سعدان الحلبي:
يأيها الملك الغزير فضله ... لقد غدوت بالعُلا مليا
كفى أمير المؤمنين شرفا ... أنك أصبحت له وليّا
طارحك الودّ على شحط النّوى ... فكنت ذاك الصّادق الوّفيا
أوْلاكَ من لباسه زخرفة ... لم يولها قبلك آدميا
ناسبت الرّوض سناً وبهجة ... حتى حكته رونقاً وزيّا
قال: ورحل السلطان من حماة إلى بعرين، وكان فيها فخر الدين مسعود بن الزّعفراني، وكان خرج إلى السلطان لما وصل إلى الشام وتطارح عليه وخدمه، وظنّ أن السلطان يقدمه على عساكره، فلم يلتفت إليه، فترك السلطان وعاد إلى حصن بعرين، فأغضب السلطان ذلك وسار إليه وحاصره حتى تسلم حصنه.
وقال العماد: نزل السلطان قراحصار، بنيَّة الحصار، فجاءت رسلهم بالانقياد، وأجابوا إلى المراد، وقالوا اقنعوا بما أخذتموه إلى حماة، ولاتُشْمِتُوا بنا العداة. فاستزدناه عليهم كفر طاب والمعرّة، واستوفينا عليهم الأيمان المستّقرة؛ وسألهم في المعتقلين، إخوة مجد الدين، فأجابوا وأفرجوا عنهم، وتمّ الصلح، وعمّ النجح.
ورحلنا ظاهرين ظافرين، ونزلنا حماة يوم الاثنين ثاني عشر شوال، وبها وصلت إليه رسل الديوان العزيز بالتشريفات، والتقليد بما أراد من الولايت؛ وأفاضوا على السلطان وأقاربه الخلع، وخص ناصر الدين محمد بن شيركوه بمزيد تفضيل على أقارب السلطان، وكأنه رعاية لحق والده أسد الدين، رحمه الله تعالى.
ثم تسلم السلطان حصن بعرين، وكان بيد الأمير فخر الدين مسعود بن الزعفراني، وهو من أكابر أمراء نور الدين، وذلك في أواخر شوّال. وأقطع مدينة حماة لابن خاله وصهره الأمير شهاب الدين محمود، وأنعم بحمص على ابن عمه ناصر الدين.
قال العماد: وأذكر أنَّا عبرنا نهر العاصي عائدين وقد انكشف الشمس وادلّهم النهار، وغلب على القلوب الاستشعار، وطاحت الأنوار، وخفيت الرّسوم، وظهرت النجوم؛ وجئنا حمص، ثم بعلبك، ثم البقاع، ووصلنا دمشق في ذي القعدة.
فصلقال العماد: قد سبق ذكر ماقرّره حُسّادي في خاطر السلطان، وقالوا: شُغله المكاتبة وهي منصب الأجل الفاضل، وهو يستنيب فيه من رآه من الأفاضل، وهذا تَصْرفُه برِفدٍ جزيل، ووجهٍ جميل. والسلطان مع شدّة رغبته متوقف، وإلى ظهور وجه النّجاح في أمري متشوف.
وكنت قد أنست مدّة مقامي بالعسكر بذي المجد والمفخر، ومورد الكرم والمصدر، الأميلا نجم الدين بن مصال؛ وهو ذو فضل وإفضال، وقبول وإقبال، وله من السلطان ومن الفاضل لجلالة قدره إجلال؛ وقد مال إلى فضله، ونباهته ونبله. وكان أبوه قد وزر للحافظ في آخر عهده، متفرّدا بسؤدده ومجده؛ وكان من أهل السنة والجماعة، والتّقى والورع والعفاف والطاعة؛ وله يدٌ عند السلطان في النُّوب التي قصدوا فيها مصر، وأجزل عنده الإحسان والبّر، لاسيما عند كونه بالإسكندرية محصورا؛ وكان إحسانه مشكورا، واعتناؤه لحفظه مشهورا. فلما ملك أحبّه، واختار قربه، فلزْمت له التودد، وإليه التردد، وجعلته الوسيط بيني وبين الأجل الفاضل، واتخذته من الحجج والوسائل، ووقفت خاطري على تقاضيه نظما ونثرا، ورسالة وشعرا. فمن ذلك ماكتبته إليه:
لعلّ نجم الدين ذا الفضل ... يُذكر الفاضل في شُغلي
إنّ أجلّ الناس قدراً فتىً ... بفضله يتْعب من أجلي
ومثلُه من يعتنى بالعلا ... ويستديم الحمد من مثلي
قال: وأول ما أهديته للفاضل مدحة حين لقيته بحمص في شعبان منها:
عاينت طود سكينة، ورأيت شم ... س فضيلة، ووردت بحر فواضل
ورأيت سحبان البلاغة ساحبا ... ببيانه ذيل الفخار لوائل
أبصرت قُسّا في الفصاحة معجزا ... فعرفت أني في فهاهة باقل
حلِف الحصافة، والفصاحة، والسّما ... حة، والحماسة، والتّقى، والنائل
بحرٌ من الفضل العزيز، خِضّمُّه ... طامي العُباب، وماله من ساحل
وجميعُ مافي الأرض سبعة أبحر ... وبحوره تُسْمى بعشر أنامل
في كفه قلمٌ يعجّل جريه ... ماكان من أجل ورزق آجل
يجري ولاجرى الحسام إذا جرى ... حدّاه، بل جرْى القضاء النازل
نابت كتابته مناب كتيبة ... كفلت بهزم كتائب وجحافل
فَعدُوّه في عدوه، ووليّه ... في عدله؛ أكرمْ بِعادٍ عادل
ريّان من ماء التّقي، صادٍ إلى ... كسب المحامد، وهي خير مناهل
ياواحد العصر الذي بزّ الورى ... فضلا بغير مشابه ومشاكل
مالي وجاه الجاهلين، فأغنني ... عنهم، كفيتهم، وَجُدْ بالجاه لي
أرجوك معتنيا لدى السلطان بي ... كرماً، فمثُلك يْعتنى بأماثلي
قرّر لي الشغل المبجل، مُخليا ... بالي من الهمّ المقيم الشاغل
قال: فدخل الفاضل إلى السلطان وعرّفه أنه فيّ راغب، وقال لايمكنني الملازمة الدائمة في كل سفرة، وغداً يكاتبك ملوك الأعاجم، ولاتستغني في الملك عن عقد الملطفات وحلّ التّراجم؛ والعماد يفي بذلك ولك أختاره، وقد عُرف في الدولة النّورية مقداره. وأخذ لي خط السلطان بما قرره لي من شغلي وقد عرف أن الأجل ّ الفاضل قد أجلّ فضلي.
قال: وخدمت أمير المؤمنين المستضئ بالله في ذي القعدة مع الرّسل بهذه القصيدة:
أصحّ عقود الغانيات مريضها ... وأفتْكُ ألحاظ الحِسان غضيضها
ومِنْ عجبٍ صلّت لقبلة بأسهم ... رؤس أعادٍ من ظباهم محيضها
قال ابن أبي طيّ: وظهر في مشغرا، قرية من قرى دمشق، رجل ادعى النّبوة وكان من أهل المغرب، وأظهر من التخاييل والتمويهات مافتُن به الناس، واتبّعه عالم عظيم من الفلاحين وأهل السواد، وعصى على أهل دمشق، ثم هرب من مشغرا في اليل وصار إلى بلد حلب، وعاد إلى إفساد عقول الفلاحيّن بما يريهم من الشعبذة والتخاييل؛ وهوى امرأةً وعلّمها ذلك، وادعّت أيضا النبّوة.
قال: وفيها توفي شهاب الدين إلياس الأرتقي صاحب البيرة، وأوصى إلى الملك الناصر صلاح الدين بولده شهاب الدين محمد.
ثم دخلت إحدى وسبعين وخمسمائةقال العماد: والسلطان نازل بمرج الصفر من دمشق، فجاءه رسول الفرنج يطلب الهدنة، فأجابهم السلطان بعد أن اشترط عليهم أموراً، فالتزموها.
وكان الشام ذلك العام جدباً، فأذن السلطان للعساكر المصرية في الرحيل إلى بلادهم وإذا استغلوها خرجوا إليه، وسار معهم الفاضل، واعتمد على العماد فيما كان بصدده.
وواظب السلطان على الجلوس في دار العدل، وعلى الصيد، ومدحه العماد بقصيدة، منها:
سواك لسهم العلا لن يريشا ... فنسأل رب العلا أن تعيشا
من الناس بالبّرِ صِدْت الكرام ... وبالبأس في البِّر صدت الوحوشا
وكمْ سرت من مصر نحو العريش ... فهدّمت للمشركين العُروشا
سراياك تبعث قُدّامها ... من الرعب نحو الأعادي جيوشا
ويوم حماة تركت العداة ... كما طيرت بالفلا الرِّيحُ ريشا
قال: ومدحت، مستهل ربيع الأول، تقيّ الدّين بقصيدة موسومة، وكان قد فوض إليه ولاية دمشق، ومنها بيتان ابتكرت المعنى فيهما ولم أُسبق إليهما، وهما:
يفيد العاقل اليقظ التّغابي ... ليدرك في الغنى حظّ الغبيّ
ولم تصب السّهام على اعتدال ... بها لولا اعوجاجٌ في القسيّ
فقل للدهر يقصر عن عنادي ... أما هو يتّقي بأس التّقيّ
حلفت برب مكة والمصلى ... وثاوى تُرب طيبة والفرىّ
لأّنتم يابني أيوبَ خير ال ... ورى بعد الإمام الستضئّ
قال: وفي أول هذه السنة وصل إلى دمشق الجماعة الذين خرجوا من بغداد موافقة قطب الدين قايماز، فأخذوا لأنفسهم بالالتجاء إلى السلطان والاحتراز.
وكان قايماز هذا مُحكَّما في الدولة الإمامية من أول الأيام المستنجدية، وقوى في الأيام المستضيئية على وزير الخليفة عضد الدين بن رئيس الرؤساء، وسامه أنواع البلاء، وأخافه، ورام إتلافه، حتى استعاذ منه برباط صدر الدين شيخ الشيوخ فسلم به.
ثم إنّ قايماز حالف الخليفة وشقّ العصا، وعنّ له حصار الداّر، فأمر الخليفة بالقبض عليه، فلم ينج لما أحيط بداره، إلا بفتح باب في جداره. وانهزم فوصل إلى الحلة في اوائل ذي القعدة سنة سبعين، وهو في موسم الحجّ؛ فجمع رجاله وتوّجه إلى الموصل وخانه إخوانه، وخذله أصحاب، فتوفي في بعض قرى الموصل، وتفرق أصحابه في البلاد، فمنهم من رجع إلى بغداد، ومنهم من أتى إلى الشام؛ منهم حسام الدّين ثميرك وعز الدين أقبوري ابن ازغش، وكان صهر السلطان قديما، وعنده كريما، فأقطعه في الديار المصرّية، وكتب في حقّه إلى الدّيوان شفاعة في تخليص مال÷نس واستقامة حاله؛ وكان ذا خزائن مملوة، وخيْلٍ مسَّومة؛ فلم يكن ذنبه عندهم في متابعة قايماز مما يقبل الصفح. وكان أقبوري زوج أخت السلطان، والسلطان خال بنته، وهي زوجة عز الدين فرخشاه ابن أخي السلطان.
قلت: وفي بعض الكتب عن السلطان إلى وزير بغداد بالمثال الفاضليّ: وما نحسب أنا مع الموالاة المشتهرة، والنصرة المتناصرة المستظهرة، والمساعي التي كانت لثارات هذه الدولة بالغة، ولأعدائهم دامغة، ولمازعيهم الأمر قاصمة، ولمجاذبيهم الحقَّ واقمة، وبحقوق الله تعالى الواجبة لهم قائمة، وكوننا ما أعنَّا منها بنجدة من رجال، ولا بمادة من مال، ولا بإعانة بحال من الأحوال - يردّ سؤالنا من الدّولة، أعلاها الله، في ذي قربى لانستطيع دفعه، ولايقبل أسباب النفع إذا أردنا نفعه، فالأخبار عندنا واسعة، والأعواض لدينا غير متعذرة، والولايات التي نفوضها إليه عن كفايته غير مستغنية؛ ولكنّه ماباع بمكانه من الخدمة مكانا، ولاآثر غير سلطانه سلطانا؛ وله أعذار لابأس أن نُعيره فيها لسانا وبيانا.
ثم ذكرها، ثم قال: وهذا الأمير جزء منَّأ فكيف يُعّد جزء منا عاصياً، وبألستنا وسيوفنا يُدْعى الخلق إلى الطاعة، وكيف تخلو دار الخلافة من واحد من أهلنا ينوب عنا وعن بقية الجماعة. فنحن في أنفسنا نشفع، وعن جاهنا ندفع، وفي مكاننا نسأل، وبخطّنا الَّي لانسمح به للإسلام نبخل. وأنت أيها الأمير السَّائر ثالث رسول سواك ندب في أمر هذا الأمير، والله وليّ التّدبير.
وقال العماد في الخريدة: كنت جالساً بين يدي الملك الناصر صلاح الدِّين بدمشق في دار العدل، أنفذُ ما يأمر به من الشغل، فحضر سعادة الأعمى من أهل حمص، وكان مملوكا لبعض الدمشقيين مولدا، ويكتب على قصائده سعيد بن عبد الله، فوقف ينشد هذه القصيدة في عاشر شعبان سنة إحدى وسبعين:
حيّتك أعطاف القدود ببابها ... لما انثنت تيهاً على كثبانها
ثم ذكر القصيدة وغزلها في وصف دمشق، ثم قال:
سلطانها الملك ابن أيوب، الذّي ... كفّاه لاتنكف عن هطلانها
بمواهبٍ، لوْ لمْ أكنْ نُوحاً لما ... نُجيّت يوم نداه من طوفانها
سمحٌ يروح إلى الندىّ براحة ... قد أعشب المعروف بين بنانها
وفتىً، إذا زخرت بحارُ نواله ... غرقت بحار الأرض في خلجانها
تلك السيوف المرهفات بكفه ... أمضى على الأيام من حدثانها
ملك إذا جليت عرائس ملكه ... رصعت فريد العدل في تيجانها
فاسلم صلاح الدين، وابْق لدولة ... ذلّت لدولتها ملوك زمانها
وانهض إلى فتح السّواحل نهضة ... قادت لك الأعداء بعد حرانها
وهي طويلة.
قال: وقام اليوم الذّي يليه، وقد جلس السلطان للعدل، فأنشده قصيدة، منها:
هل بعد جِلِّق إلا أن ترى حَلَبا ... وقد تحللّ منها مشكل عقد
وقد أتتك كما تختار طائعةً ... وقد عَنَا لك منها الحصن والبلد
قال: وكان سعادة سافر إلى مصر في أول غارته على غزّة، وعوده من ذلك الغزو بالعزة:
فتىً مُذْغزا بالخيل والرَّجل غزة ... نأى عن نواحيها الرّضا ودنا السخط
رماها بأُسد مالهن مَرابضٌ ... ولا أُجُمٌ إلاّ الذي تُنْبت الخط
وعاث ضواحيها ضحى بكتائب ... من الترك لانوب طغام ولاقبط
وله في السلطان قصائد أخر. قال: وقام البهاء السنجاري وأنشد الملك النّاصر قصيدة في دار العدل بدمشق سنة إحدى وسبعين في شعبان، منها:
ياظبية الْهَرَمْين من مصرٍ، على الرَّ ... بْع السَّلام وإن تقوض أو عفا
أصبْو إلى عصر تقادم عهده ... فأزيدُ مِنْ وَلَهٍ عليه تلُّهفا
أحبابنا بالقصر، لو قصرتمُ ... في الهجر ماشمت الحسُود ولاأشتفى
ومنها:
أشكو إلى الوادي، فيحنو بانهُ ... من رقة الشكوى عليّ تعطفا
وجرى بي الأملُ الطَّموح، فأقام بي ... سلطانَ أرض الله طرًّا، يُوسفا
الناهب الأرواح في طلب العلا ... والواهب الآجال في حسن الوفا
فصل فيما تجدد للمواصلة والحلبيين
قد سبق ذكر الصلح الذي جرى بين السلطان والحلبيين. فلما سمع به المواصلة عتبوا عليهم ووبخوهم، ونسبوهم إلى العجلة في ذلك وسلوك غير طريق الحزم؛ فحملوهم على النقْض والنّكث، وأنفذوا من أخذ عليهم المواثيق، وتوجه ذلك الرسول منهم إلى دمشق ليأخذ للمواصلة من السلطان عهده، ويكشف أيضا ماعنده. فلما خلا به طالبه السلطان بنسخة الرأي، فغلط وأخرج من كمه نسخة يمين الحلبيين لهم، وناولها إياه، فتأملها وأخفى سرّه وما أبداه، واطلع على ما اتفقوا عليه، وردها إليه، وقال: لعلّها قد تبدلت؛ فعرف الرّسول أنه قد غلط، ولم يمكنه تلافي مافرط. وقال السلطان كيف حلف الحلبيون للمواصلة، ومن شرط أيمانهم، أنهم لايعتمدون أمراً إلا بمراجعتهم لنا واستئذانهم. وعرف من ذلك اليوم أن العهد منقوض، والوفاء مرفوض.
وشاع الخبر عن المواصلة بالخروج في الرّبيع، فكتب السلطان إلى أخيه العادل وهو نائبه بمصر، يُعلمه بذلك، ويأمره أن يأمر العساكر بالاستعداد للخروج في شعبان.
قلت: وفي كتاب طويل فاضلي جليلٍ إلى بغداد عن السلطان: يطالع بأن الحلبيين والموصليين لما وضعوا السلاح، وخفضوا الجناح، اقتصرنا، بعد أن كانت البلاد في أيدينا، على استخدام عسكر الحلبيين في البيكارت إلى الكفر، وعرضنا عليهم الأمانة فحملوها، والأيمان فبذلوها؛ وسار رسولنا وحلف صاحب الموصل بمحضر من فقهاء بلد وأمراء مشهده، يميناً جعل الله فيها حكما، وضيق في نكثها المجال على من كان حنيفا مسلما، وعاد رسوله ليسمع منا اليمين، فلما حضر وأحضر نسختها، أومى بيده ليخرجها، فأخرج نسخة يمين كانت بين الموصليين والحلبيين مضمونها الاتفاق على حزبنا، والتداعي إلى حربنا، والتساعد على إزالة خطبنا، والاستنفار لمن هو على بعدنا وقربنا؛ وقد حلف بها كمشتكين الخادم بحلب وجماعة معه يمينا نقضت الأولى. فرددنا اليمين إلى يمين الرسول وقلنا هذه يمين عن الأيمان خارجة، وأردت عمرا وأراد الله خارجة.
وانصرف الرَّسول عن بابنا وقد نزّهنا الله أن يكون اسمه معرضا للحنث العظيم، والنّكث الذّميم، وعلمنا أنّ الناقد بصير، والآخذ قدير. والمواقف الشرّيفة النبوية، أعلاها الله، مستخرجة الأوامر إلى الموصليّ إماّ بكتاب مؤكد بأن لاينقض عهد الله من بعد ميثاقه، وإما أن تكون الفسحة واقعة لنا في تضييق خناقه.
ثم ذكر أمر الفرنج، ثمّ قال: والمملوك بين عدوّ إسلام يشاركونه في هذا الاسم لفظا، ولاينووُن لما استحفظوا حفظا، وعدوّ كفر فما يجاورهم إلاّ بلادُه، ولايقارعهم إلاّ أجناده.
ثم طلب خروج الأمر بخطاب جميع ملوك الأطراف أن يكونوا للمملوك على المشركين أعوانا، وأن يُتثل أمر نبينا صلى الله عليه وسلم، في أن يكونوا بنيانا، فيعضوده إذا سعى، ويلّبوه إذا دعا، ولايقعدوا عن المعاضدة في فتح البيت المقدّس الذي طابت النّفوس عن ثاره، وطأطأت الرّؤس تحت عاره، وصارت القلوب صخرة لاترق على صخرته، والعزائم قاصية عن تطهير أقصاه من رجس الشرك ومعرّته. فإن قعدت بهم العزائم، وأخذتهم في الله لومةُ لائم، فلا أقلّ من ألا يكونوا أعوانا عليه يلفتونه عن قصده، حريصين على اتصال المكروه إليه.
قال ابن شداد: لمّا وقعت الوقعة الأولى مع الحلبيين والمواصلة، كان سيف الدّين، صاحب الموصل، على سنجار يُحاصر أخاه عماد الدين بقصد أخذها منه ودخوله في طاعته؛ وكان أخوه قد أظهر الانتماء إلى السّلطان صلاح الدين واعتصم بذلك. واشتد سيف الدين في حصار المكان وضربْه بالمنجنيق حتّى استُهدم من سوره ثلُم كثيرة؛ وأشرف على الأخذ. فبلغه وقوع هذه الواقعة فخاف أن يبلغ ذلك أخاه فيشتّد أمره ويقوى جأشه، فرسله في الصّلح، فصالحه.
ثم سار من وقته إلى نصيبين واهتمّ بجمع العساكر والإنفاق فيها؛ وسار حتى أتى الفرات وعبر بالبيرة، وخيّم على جانب الفرات الشامي، وراسل كمشتكين والملك الصالح حتى تستقر قاعدة يصل عليها إليهم. فوصل كمشتكين إليه وجرت مراجعات كثيرة عزم فيها على العوّد مرارا، حتى أستقرّ اجتماعه بالملك الصالح وسمحوا به، وسار ووصل حلب وخرج الصالح إلى لقائه بنفسه، فالتقاه قريب القلعة، واعتنقه، وضمه إليه وبكى؛ ثم أمر بالعود إلى القلعة فعاد إليها، وسار هو حتى نزل بعين المباركة وأقام بها مدّة وعسكر حلب يخرج إلى خدمته في كل يوم.
وصعد القلعة جريدةً وأكل خبزاً ونزل، وسار راحلا إلى تل السّلطان ومعه جمع كبير وأهل ديار بكر، والسلطان رحمه الله تعالى قد أنفذ في طلب العساكر من مصر وهو يرقب وصولها، وهؤلاء يتأخرون في أمورهم وتدابيرهم، وهم لايشعرون أنّ في التأخير تدميراً، حتى وصل عسكر مصر، فسار رحمه الله حتى أتى قرون حماة، فبلغهم أنه قد قارب عسكرهم فأخرجوا اليزك، ووجهّوا من كشف الأخبار، فوجدوه قد وصل جريدة إلى جباب التركمان، وتفرّق عسكره يسقى، فلو أراد الله نُصْرتهم لقصدوه في تلك الساعة، لكنْ صبروا عليه حتى سقى خيله هو وعسكره، واجتمعوا، وتعبّوا تعبئة القتال.
وأصبح القوم على مصاف، وذلك بكرة الخميس العاشر من شوّال، فالتقى العسكران وتصادما، وجرى قتال عظيم، وانكسرت ميسرة السلطان بابن زين الدين بن مظفر الدين، فإنه كان في ميمنة سيف الدين. وحمل السلطان بنفسه، فانكسر القوم، وأسر منهم جمعاً عظيماً من كبار الأمراء، منهم الأمير فخر الدين عبد المسيح، فمنّ عليهم وأطلقهم.
وعاد سيف الدين إلى حلب فأخذ منها خزانته، وسار حتى عبر الفرات وعاد إلى بلاده. وأمسك هو رحمه الله عن تتبع العسكر، ونزل في بقيّة ذلك اليوم في خيم القوم، فإنهم كانوا قد أبقْوا الثّقل على ماكان عليه، والمطابخ قد عملت، ففرّق الاصبطلات، ووهب الخزائن، وأعطى خيمة سيف الدين عزّ الدين فرخشاه.
وقال العماد: رحلنا في شهر رمضان من دمشق مستأنفين، فعبْرنا العاصي لله طائعين، وإلى المسِّار مسارعين، فما عرّجنا على بلد، ولاانتظرنا ما وراءنا من مدد؛ ونزلنا الغّسُولة وجُزنا حماة، وخيّمنا في مرج بوقبيس. وجاء الخبر أنهم في عشرين ألف فارس سوى سوادهم، وماوراءهم من أمدادهم، وأنهم موعودون من الفرنج بالنجدة، وأنهم يزيدون في كلّ يوم قوّة وشدّة، وماكان اجتمع من عسكرنا سوى ستة آلاف فارس. فرتّب السلطان عسكره، وقوى بقوّة قلبه لْلَبه، وأمد الله بحزب ملائكته حزبه.
ولما وصل المواصلة إلى حلب، أطلقوا من كان في الأسر من ملوك الفرنج، منهم أرناط إبرنس الكرك، وجوسلين خال الملك، وقرّروا معهم أن يدخلوا من مساعدتهم في الدّرك. فلما عيّدنا وصل إلى السلطان الخبر بوصولهم إلى تلّ السلطان، فعبرْنا العاصي عند شَيْزَر، ورتّبنا العسكر، وأعدنا الأثقال إلى حماة.
ثم وصف الوقعة إلى أن قال: وركب السلطان أكتافهم فشل مِئِيِهْم وآلافهم، حتى أخرجهم عن خيامهم، وأشْرَقهم بمائهم. ووكل بسرادق سيف الدين غازي ومضاربه ابن أخيه فرخشاه، وركض وراءه حتى علم أنه تعدّاه. ووقع في الأسر جماعة من الأمراء المقدمين، ثم مَنَّ عليهم بالخلع بعد أن نقلهم إلى حماة وأطلقهم. ثمّ نزل في السرادق السيفي فتسلمه بخزائنه ومحاسنه، واصطبلاته ومطابخه، وَرَواسي عِزّه ورواسخه، فبسط في جميع ذلك أيدي الجُود، وفرّقها على الحضور والشهود، وأبقى منها نصيباً للرُّسل والوفود. ورأى في بيت الشّراب، بل في السّرادق الخاصّ، طيوراً من القماري، والبلابل، والهزار، والببغاء، في الأقفاص، فاستدعى أحد النّدماء مظفر الأقرع فآنسه، وقال: خُذْ هذه الأقفاص، واطلب بها الخلاص، واذهب بها إلى سيف الدّين فأوصلها إليه وسلّم منّا عليه، وقل له عدْ إلى اللعب بهذه الطيور، فهي سليمة لاتوقعك في مثل هذا المحذور.
قال: ولما كسر القوم ولوا مدبرين إلى حلب، فلم يقف بعضهم على بعض، وظنوا أن العساكر وراءهم ركضا وراء ركض؛ فتبعجت خيولهم، وتموّجت سيولهم، وما صدّقوا كيف يصلون إلى حلب ويغلقون أبوابها، ويسكنون اضطرابها. وأما سيف الدّين فإنه ركض في يومه من تلّ السلطان إلى بزاعة، وجاوز في سَوْقه الاستطاعة، وفرق وفارق الجماعة.
وفي كتاب ابن أبي طيّ أن ميسرة سيف الدين انكسرت، فتحرّك إلى جانبها ليكون ردْءًا لها ومدداً، فظن باقي العسكر أنه قد انهزم فانهزموا، فحقق ماكان وهما، فسار على وجهه لايلوى على شئ؛ وتبعهم السلطان، فهلك منهم جماعة قتْلاً وغرقا، وأُسر جماعة كبيرة من وجوههم وأمرائهم؛ ثم رجع وأمر أصحابه برفع السيف عن الناس، وترْك التّعرّض لمن وُجد منهم بقتل أو نهب.
وفرّق ماوجد في خزائن سيف الدين وسيَّر جواريه وحظاياه إلى حلب، وأرسل إليه بالأقفاص وقال له: عد إلى اللعب بهذه الطيور، فإنها ألذّ من مقاساة الحرب. ووجد السلطان عسكر الموصل كالحانة من كثرة الخمور والبرابط والعيدان والجنوك والمغنين والمغنيات.
قال: واشتهر أنه كان مع سيف الدين أكثر من مائة مغنيّة، وأن السلطان ا{ى ذلك لعساكره واستعاذ من هذه البلية. وكان أنفذ الأمراء الذّين أسرهم إلى حماة ثم ردّهم، وخلعّ عليهم وأرسلهم إلى حلب.
وهنأ العماد السّلطان رحمه الله تعالى بقصيدة، منها:
فالحمد لله الذي إفضالهُ ... حلْوُ الجنا، عالي السَّنا، وضاحه
عاد العدوّ بظلمة من ظلمه ... في ليل ويلٍ قد خبا مصباحه
وجنى عليه جهله بوقوعه ... في قبضة البازي فَهِيضَ جناحه
حمل السلاح إلى القتال، ومادرى ... أن الذي يجنى عليه سلاحه
أضحى يريد مواصليه صدوده ... وغدا يجيد رثاءه مدّاحه
إن أفسد الدين الغلاة بحنثهم ... فالناصر الملك الصلاح صلاحه
قد كان عزمك للإله مصمما ... فيهم، فلاح، كما رأيت، فلاحه
وكأنني بالساحل الأقصى، وقد ... ساحت بنحر دم الفرنجة ساحه
فاعبُر إلى القوم الفرات، ليشربوا ال ... َمْوت الأُجاج، فقد طمى طفّاحه
لتفتك من أيديهم رهن الرُّها ... عجلاً، ويدرك ليلها إصباحه
وابغوا لحرَّان الخلاص، فكم بها ... حرّان قلبٍ نحوكم ملتاحه
نجوا البلاد من البلاءِ بعدلكم ... فالظلم بادٍ في الجميع صراحه
واستفتحوا ماكان من مستغلق ... فيها، فرّبكم لكم فتاحه
أنتم رجال الدّهر، بل فرسانه ... ولذي الحلوم الطائشات رجاجه
فُتَّاكه، نُسّاكه، ضُرّاره ... نُفّاعه، مُنّاعه، مُنّاحه
وأبو المظفر يوسف مطعامه ... مِطْعانُه، مِقْدامُه، جَحْجَاحه
وإذا انتدى في محفل فحيِيُّه ... وإذا غدا في جحفل فوقاحه
قال: وكان لعزّ الدين فرخشاه في هذه الوقعة يد بيضاء، وهو محب للفضل وأهله باعثُ للخواطر على مدحه ببذله؛ فنظمت فيه قصيدة، منها:
نصرٌ أنار لملككُمْ بُرهانه ... وعلا لذلة شانئيكم شانه
ما أسعد الإسلام وهو مظفر ... وأبو المظفّر يوسفٌ سلطانه
الملكُ مرفوعٌ لكم مقداره ... والعدل موضوعٌ بكم ميزانه
والدهسر لايأتي بغير مرادكم ... فهل القضاء لأجلكم جريانه
وكأنما لله في أحكامه ... فلكٌ على إيثاركم دورانه
فخراً بني أيوب، إن فخاركم ... بذَّ الملوك السابقين رهانه
يكفى حسودكم اعتقالا همة ... فكأنما أشجانه أسجانه
الدّين، عزّ الدين، عزّ بنصركم ... والكفر ذلّ بعونكم أعوانه
قد كان جيشكم كبحرٍ زاخر ... واللابسون جواشناً حيتانه
فطمى لهلكهم عليهم بحركم ... بأساً وغرّق فلكهم طوفانه
فضل الملوك الأكرمين بفضله ... فعلا زمانهم البهيج زمانه
في فضله، في عدله، في حلمه ... صديقّه، فاروقه، عثمانه
هو في السماح، وفي اللقاء، عليّه ... هو في العفاف وفي التقى سلمانه
من آل شادي الشائدين لمجده ... ببنيه بيتاً عالياً بنيانه
بيت من العلياء، سامٍ، سامقٌ ... يبنى على كيوانها إيوانه
ياسالب التِّيجان من أربابها ... ومن الثناء مصوغةٌ تيجانه
والحمد مالٌ أنتم بُذَّاله ... والمال حمدٌ أنتم خزانه
قال: ثم إن صاحب الموصل أسرع عودته، وواصل لذّته، والحلبيون أوثقوا الأسباب، وغلقوا الأبواب، وسُقط في أيديهم، حين أفرطوا في تعديهم، وتهيئوا للحصار، وخافوا من البوار، وتبلدوا وتلددوا، وتجادلوا ثم تجلدوا.
وقال ابن سعدان الحلبي من جملة قصيدة: يهنئ بها السلطان بهذه الكسرة:
وما شك قوم حين قمت عليهم ... غداة التقى الجمعان أنك غالب
ولو لم تقد تلك المقانب لاغتدى ... لنفسك في نفس العدو مقانب
قال ابن أبي طيّ: وأما سيف الدين فإنه امتدت به الهزيمة إلى بزاعا، فأقام بها حتى تلاحق به من سلم من أصحابه، ثم خرج منها حتى قطع الفرات وصار إلى الموصل. وصار باقي عسكر حلب إلى حلب، في سابع شوال، في أقبح حال وأسوئه، عراةً حفاةً فقراء، يتلاومون على نقض الأيمان والعهود.
وخاف أهل حلب من قصد السلطان لهم، فأخذوا في الاستعداد للحصار؛ وجاء السلطان وخيّم عليها أياماً، ثم قال: الرأي أن نقصد ماحولها من الحصون والمعاقل والقلاع فنفتحها، فإنا إذا فعلنا ذلك ضعف حلب وهان أمرها. فصوّبوا رأيه، فنزلوا على بزاعة، فتسلّمها بالأمان، وولاها عز الدين خشترين الكردي.
فصل في فتح جملة من البلاد حوالي حلبقال العماد: ثم نزل السلطان على حصن بُزاعة وتسلّمه في الثاني والعشرين من شوال، ثم فتح منبج في التاسع والعشرين منه، وكان فيها الأمير قطب الدين ينال بن حسَّان، والسلطان لايناله به إحسان، بل كان في جرّ عسكر الموصل إليه أقوى سبب، ولايحاذقه ولايحفظ معه شرط أدب، ويواجهه بما يكره. فسلّم القلعة بما فيها، وقوّم ما كان سلمه بثلاثمائة ألف دينار، منها عين ونقود، ومصوغ، ومطبوع، ومصنوع، ومنسوج، وغلات؛ وسامه على أن يخدم، فأبى وأنف، وكبرت نفسه، فتعب سرُّه، وذهب ماجمعه. ومضى إلى صاحب الموصل فأقطعه الرَّقة، فبقى فيها إلى أن أخذها السلطان منه مرة ثانية في سنة ثمان وسبعين.
وقال العماد:
نزولك في منبج ... على الظفر المبهج
ونجحك في المرتجى ... وفتحك للمرتج
دليل على كلّ ما ... تحاول أو ترتجي
أمورك فيما ترو ... مُ واضحة المنهج
وشانيك دامي الشئو ... ن منك، شقيّ، شجى
ومن كان في حصنه ... ومن قبل لم يخرج
يقال له: ليس ذا ... بعُشّك، قم فادرج
فرأيك يستنزل النُّ ... جومُ من الأبرُج
فعجِّل عبور الفرات ... وأسرِ، وَسِر، وادْلُج
وعُجْ نحو تلك البلاد ... وعن غيرها عرّج
فحران، والرّقتا ... ن تاليتا منبج
وجَلَّ عن المسلمي ... ن ليلهم المّدجى
قال ابن أبي طيّ: لما ملك السلطان منبج وتسلم الحصن صعد إليه وجلس يستعرض أموال ابن حسان وذخائره؛ فكان في جملة أمواله ثلاثمائة ألف دينار، ومن الفضة والآنية الذهبية والأسلحة والذخائر ما يناهز ألفي ألف دينار. فحان من السلطان التفاتة فرأى على الأكياس والآنية مكتوبا يوسف، فسأل عن هذا الاسم، فقيل له: ولدٌ يحبُّه ويؤثره اسمه يوسف كان يدخر هذه الأموال له. فقال السُّلطان: أنا يوسُف وقد أخذت ماخُبئ لي. فتعجب الناس من ذلك.
قال: ولمَّا فرغ من منبج نزل على عزاز ونصب عليها عدّة مجانيق، وجدّ في القتال وبذل الأموال.
قال العماد: ثمَّ نزل السُّلطان على حصن عزاز وقطع بين الحلبيين وبين الفرنج الجواز. وهو حصن منيع رفيع، فحاصره ثمانية وثلاثين يوما. وكان السُّلطان قد أشفق على هذا الحصن من موافقة الحلبيين للفرنج، فإن الغيظ حملهم على مهادنة الفرنج وإطلاق ملوكهم الذّين تعب نور الدين رحمه الله تعالى في أسرهم، فرأى السُّلطان أن يحتاط على المعاقل، ويصُونها صون العقائل؛ فتسلّمها حادي عشر ذي الحجة بعد مدة حصارها المذكورة.
وقال العماد قصيدة، منها:
أعطاه ربّ العالمين دولة ... عزّةُ أهل الدّين في إعزازها
حاز العُلا ببأسه وجوده ... وهو أحق الخلق باجتيازها
بجده أفنى كنوزاً فني ال ... ملوك في الجدّ على اكتنازها
مهلك أهل الشِّرك طرًّا: رُومها ... أرمنها إفرنجها، إنجازها
تفاخر الإسلام من سلطانه ... تفاخر الفرس بابراوازها
تَهَنَّ من فنح عزازٍ نصرة ... أوقعت العداة في اعتزازها
واليوم ذلت حلب، فإنها ... كانت تنال العزَّ من عزازها
وحلب تنفي كمشتكينها ... كما انتفت بغداد من قيمازها
برزت في نصر الهدى بحجَّة ... وضوحُ نهج الحقّ في إبرازها
كم حاملٍ للرمح عاد مبديا ... عجز عجوز الحيّ عن عكازها
ارفع حظوظي من حضيض نقصها ... وعدِّ عَنْ هُمّازِها لُمّازها
والشعر لابد له من باعث ... كحاجة الخيل إلى مهمازها
قال: وأغار عسكر حلب على عسكرنا في مدة مقامنا على عزاز، فأخذوا على غرّة وغفلة ما تعجلّوه، وعادوا؛ فركب أصحابنا في طلبهم فما أدركوا إلا فارساً واحدا، فأمر السلطان بقطع يده بحكم حرده. فقلت للمأمور، وذلك بمسمع من السلطان، تمهّل ساعة لعلّه يقبل مني شفاعة. ثم قلت: هذا لايحلّ، وقدرّك بلْ دينك عن هذه يجل. ومازلت أكرر عليه الحديث حتى تبسم، وعادت عاطفته ورحم، وأمر بحبسه، وسرّني سلامة نفسه.
ودخل ناصر الدين بن أسد الدين، وقال: ما هذا الفشل والوني، وإن سكتم أنت فما أسكت أنا. ودمدم وزمجر، وغضب وزأر، وقال: لِمَ لايُقتلُ هذا الرّجل ولماذا اعتقل! فوعظه السّلطان واستعطفه، وسكنَّ غيظه وتعطفه، وتلا عليه: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخْرى). وأُطلق سراحه، وتمَّ في نجاته نجاحه.
فصل في وثوب الحشيشية على السلطان مرّة ثانية على عزاز، وكانت الأولى على حلب
قال العماد: وفي حادي عشر ذي القعدة قفز الحشيشية على السلطان ليلة الأحد وهو نازل على عزاز. وكان للأمير جاولي الأسدي خيمة قريبة من المنجنيقات، وكان السلطان يحضر فيها كلّ يوم لمشاهدة الآلات وترتيب المهمات، وحضّ الرّجال، والحث على القتال؛ وهو بارٌ ببث أياديه، قارٌ على الدهر بكف عواديه؛ والحشيشية في زي الأجناد وقوف، والرّجال عنده صفوف، إذ قفز واحدٌ منهم فضرب رأسه بسكينه، فعاقته صفائح الحديد المدفونة في لمته عن تمكينه، ولفحت المدية خدّه فخدشته. فقوّى السّلطان قلبه، وحاش رأس الحشيش إليه وجذبه، ووقع عليه وركبه، وأدركه سيف الدين يازكزج فأخذ حشاشة الحشيشي وبضعه، وقطعه؛ وجاء آخر، فاعترضه الأمير داود بن منكلان فمنعه، وجرحه الحشيشي في جنبه، فمات بعد أيام، وجاء آخر، فعانقه الأمير علي بن أبي الفوارس وضمه من تحت إبطيه، وبقيت يدُ الحشيشي من ورائه لايتمكن من الضرب، ولايتأتى له كشف ماعراه من الكرب؛ فنادى: عليّ اقتلوني معه فقد قتلني، وأذهب قوّتي وأذهلني؛ فطعنه ناصر الدين بن شيركوه بسيفه. وخرج آخر من الخيمة منهزما، وعلى الفتك بمن يعارضه مُقْدما، فثار عليه أهل السوق فقطعوه.
وأما السلطان فإنه ركب وجاء إلى سرادقه وقد خرعه الحادث، وفزعه الكارث، وصوته جهوري، وزئيره قسوّري، ودم خده سائل، وعطف روعه مائل، وطوق كزاغنهد بتلك الضربة مفكوك، ونهج سلامته مسلوك. وكان سلا سلامته وأقام القوم قيامته، ومن بعد ذلك رعب ورهب، واحترز واحتجب، وضرب حول سرادقه على مثال خشب الخركاة تأزيرا، ووقفه تحجيرا؛ وجلس في بيت الخشب، وبرز للناس كالمحتجب، وماصرف إلا من عرفه، ومن لم يعرفه صرفه، وإذا ركب وأبصر مَنْ لايعرفه في موكبه أبعده ثم سأله عنه، فإن كان مستسعفا أو مستسعدا أسعفه وأسعده.
ومن كتاب فاضل إلى العادل: السلامة شاملة، والرّاحة بحمد الله للجسم الشريف الناصري حاصلة، ولم ينله من الحشيشي الملعون إلا خدش قطرت منه قطرات دم خفيفة، انقطعت لوقتها، واندملت لساعتها؛ والركوب على رسمه، والحصار لأعزاز على حكمه؛ وليس في الأمر بحمد الله ما يضيق صدرا، ولا ما يشغل سراً.
وقال ابن أبي طيّ: لما فتح السلطان حصن بزاعة ومنبج أيقن من بجلب بخروج مافي أيديهم من المعاقل والقلاع، فعادوا إلى عادتهم في نصب الحبائل للسلطان. فكاتبوا سناناً صاحب الحشيشية مرة ثانية، ورغبوه بالأموال والمواعيد، وحملوه على إنفاذ من يفتك بالسلطان. فأرسل، لعنه الله، جماعة من أصحابه فجاءوا بزي الأجناد، ودخلوا بين المقاتلة وباشروا الحرب وأبلوا فيها أحسن البلاء، وامتزجوا بأصحاب السلطان لعلهم يجدون فرصة ينتهزونها. فبينما السلطان يوماً جالس في خيمة جاولي، والحرب قائمة والسلطان مشغول بالنظر إلى القتال، إذ وثب عليه أحد الحشيشية وضربه بسكينة على رأسه، وكان رحمه الله محترزاً خائفاً من الحشيشية، لاينزع الزردية عن بدنه ولاصفائح الحديد عن رأسه؛ فلم تصنع ضربة الحشيشي شيئا لمكان صفائح الحديد وأحس الحشيشي بصفائح الحديد على رأس السلطان فسبح يده بالسكينة إلى خد السلطان فجرحه وجرى الدم على وجهه؛ فتتعتع السلطان بذلك.
ولما رأى الحشيشي ذلك هجم على السلطان وجذب رأسه، ووضعه على الأرض وركبه لينحره؛ وكان من حول السلطان قد أدركهم دهشة أخذت عقولهم.
وحضر في ذلك الوقت سيف الدين يازكوج، وقيل إنه كان حاضرا، فاخترط سيف وضرب الحشيشي فقتله. وجاء آخر من الحشيشية أيضا يقصد السلطان، فاعترضه الأمير داود بن منكلان الكردي وضربه بالسيف، وسبق الحشيشي إلى ابن منكلان فجرحه في جبهته، وقتله ابن منكلان، ومات ابن منكلان من ضربة الحشيشي بعد أيا. وجاء آخر من الباطنية فحصل في سهم الأمير علي بن أبي الفوارس فهجم على الباطني ودخل الباطني فيه ليضربه فأخذه علي تحت إبطه، وبقيت يد الباطني من ورائه لايتمكن من ضربه، فصاح علي: اقتلوه واقتلوني معه، فجاء ناصر الدين محمد بن شيركوه فطعن بطن الباطني بسيفه، ومازال يُخضخضه فيه حتى سقط ميتا ونجا ابن أبي الفوارس. وخرج آخر من الحشيشية منهزما، فلقيه الأثير شهاب الدين محمود، خال السلطان فتنكب الباطني عن طريق شهاب الدين فقصده أصحابه وقطعوه بالسيوف.
وأما السلطان فإنه ركب من وقته إلى سرادقه ودمه على خده سائل، وأخذ من ذلك الوقت في الاحتراس والاحتراز، وضرب حول سرادقه مثال الخركاه، ونصب له في وسط سرادقه برجا من الخشب كان يجلس فيه وينام، ولايدخل عليه إلا من يعرفه، وبطلت الحرب في ذلك اليوم، وخاف الناس على السلطان.
واضطرب العسكر وخاف الناس بعضهم من بعض، فألجأت إلى ركوب السلطان ليشاهده الناس، فركب حتى سكن العسكر، وعاد إلى خيمته.س وأخذ في قتال عزاز فقاتلها مدة ثمانية وثلاثين يوماً حتى عجز من كان فيها وسألوا الأمان، فتسلمها حادي عشر ذي الحجة، وصعد إليها وأصلح ماتهدّم منها، ثم أقطعها لابن أخيه تقيّ الدين عمر.
وكانت عزاز أولا للجفينة غلام نور الدين، فلما ملك السلطان منبج أخذها منه الملك الصالح وقوّاها لعله يحفظها من الملك الناصر، فلم يبلغ ذلك.
ولما فرغ السلطان من أمر عزاز حقد على من بحلب لما فعلوه من أمر الحشيشية، فسار حتى نزل حلب، خامس عشر ذي الحجة، وضربت خيمته على رأس الياروقية فوق جبل جوشن وجبى أموالها وأقطع ضياعها، وضيق على أهلها، ولم يفسح لعسكره في مقاتلتها، بل كان يمنع أن يدخل إليها شئ أو يخرج منها أحد.
وكان سعد الدين كمشتكين في حارم، وكانت إقطاعه في يد نوابه، وكان انتزعها من يد أولاد الداية بعد أن عصى نائبها.
وكان سبب خروجه إليها أنّ السلطان لما نزل على عزاز خاف كمشتكين أن ينتقل منها إلى حارم، فخرج إليها، فلما نزل السلطان على حلب ندم كمشتكين على كونه خارجا في حارم، وخاف أن يجري بين السلطان وبين الأمراء الحلبيين صلح فلا يكون له فيه ذكر ولااسم. فراسل السلطان يتلطف معه الحال ويقول: لو فسح لي في الدخول إلى حلب لسارعت في الخدمة وأصلحت الأمر على مايرومه السلطان. وراسل أيضا الملك الصالح والأمراء بحلب يقول لهم: قد حصلت خارجاً وقد بلغتني أمورٌ ولابدّ من طلبي من الملك الناصر ليأذن لي في الصيرورة إليكم، فإن الذي قد حصل عندي لايمكنني الكلام فيه. فراسل الملك الصالح السلطان في الأذن له في الدخول إلى حلب، فأذن له؛ وطلبوا الرهائن منه، فأنفذ السلطان إليهم رهينة شمس الدين بن أبي المضاء الخطيب والعماد كاتب الإنشاء، وأنفذوا من حلب إلى السلطان رهينةً نصرة الدين ابن زنكي.
وحكى العماد الكاتب قال: لما حصلنا داخل حلب أُخذنا برأي العدل ابن العجمي وجعلنا في بيت ومنع منا غلماننا، ولم يُحضر لنا طعام ولامصباح، وبتنا في أنكد عيش.
وفي تلك الليلة دخل كمشتكين إلى حلب، فلما أصبحوا أُحضرت أنا وابن أبي المضاء إلى الملك الصالح، وكان عنده ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود وجماعة من أرباب الدولة، وكان صاحب الكلام العدل ابن العجمي، فأخذ يتحدث بلثغته، ويترجم بلكنته، ويضرب صفحا عني، ويوهم الجماعة أني وأني.
وما درى الغِمرُ بأني امرؤ ... أُميّز التبر من الترب
قد عارك الأهوال حتى غدا ... بين الورى كالصارم العضب
قد راضه الدّهر، فَلْو أمَّه ... بخطبه ما ريع للخطب
قال: وعرضت نسخة اليمين علينا، وصرفنا ولم يلتفت إلينا.
فلما صار إلى السلطان وأخبراه بما جرى في حقهما من الهوان، علم أن ذلك كان حيلة عليه حتى دخل كمشتكين إلى حلب، فأطلق نصرة الدين وقاتل أهل حلب.
ولم يزل منازلا لحلب إلى انسلاخ سنة إحدى وسبعين وخمسمائة؛ ثم كان ما سيأتي ذكره.
فصل في بواقي حوادث هذه السنة ودخزل قرقوش إلى المغربقال العماد: وفي سابع شوّال وصل أخو السلطان شمس الدولة من اليمن إلى دمشق.
وذكر ابن شداد أنه قدم في ذي الحجة.
قلت: ولمّا سمع السلطان بقدُومه أرسل إليه بالمثال الفاضليّ كتابا أوّله: (أَنا يُوسُفُ وَهَذا أَخي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلْنَا). وقال في آخره: ولقد أحسن عدنان المبشر إذْ طلع علينا طلوع الفجر قبل شمسه، وغرس في القلوب ما يسرّنا ويسرّه جنى غرسه.
قال ابن أبي طيّ: كان سبب خروجه من اليمن كراهية البلاد، والشّوق إلى أخيه الملك الناصر، وأن يرى ملوك الشام وغيرها. وأمر للعساكر بما أنعم الله به عليه من النّعم والأموال.
قال: وحكى أنه لما تحدّث الناس بخروج شمس الدّولة من اليمن كان باليمن رجل يقال له عباس، وكان صهر ياسر بن بلال الحبشي صاحب عدن، وكان بين عباس وياسر عداوة، فافتعل عباس كتاباً على لسان ياسر وزوّر عليه علامته إلى زيد بن عمرو بن حاتم صاحب صنعاء يقول فيه: إن شمس الدولة سائر إلى أخيه الملك الناصر إلى الشام، وسبب خروجه ضعفه عن اليمن؛ فأمسكوا ما كنتم تحملون إليه من الأتاوة والرشوة ويبقى لكم. واحتال حتّى وصل الكتاب إلى شمس الدولة، وكان نازلا على حصن يعرف بالخضراء يحاصره.
فلما وقف شمس الدولة على الكتاب استدعى ياسراً وقال له: هذا خطك وعلامتك؟ قال: كأنه هو. قال: فبأي شئ استحققت منك هذا وقد قرّبت منزلتك، وأبقيت عليك بلادك، ورفعت بضبعك على أهل إقليمك. وأراه الكتاب. فلما وقف عليه ياسر حلف أنه ماكتبه، ولايعرفه، ولااملاه لأحد، ولم يعلم خبره. فلم يصدقه شمس الدولة، وأمر به فقتل صبراً بين يديه. فهاب شمس الدولة ملوك اليمن وحملوا إليه الأموال وحلفوا له على الطاعة.
ثم إن شمس الدولة خرج إلى تهامة وتوجه إلى الشام واستخلف على تهامة سيف الدولة مبارك بن كامل بن منقذ؛ وعثمان بن علي الزنجيلي على عدن؛ وتوجه إلى حضرموت ففتحها، واستناب عنه بها رجلا كرديا يسمى هارون، وكان مقامه بشبام واستمرّ الكردي بها مدة.
ثم أن صاحب حضرموت تحرّك وجمع، فقتل، وعاث هارون في تلك البلاد واستقام أمره. ووليّ شمس الدولة ثغر تعزّ مملوكه وجعل إليه أمر الجند، وولىّ قلعة بعكر مملوكه قايماز.
قال: وكان وصول شمس الدولة إلى السلطان قبل وقعة المواصلة وكسرتهم، وكان شمس الدولة سبب الظفر، وأعطاه السلطان سرادق سيف الدين صاحب الموصل بما فيه من الفرش والأثاث والالات، وولاه دمشق وأعمالها والشَّام، وأمره أن يكون في وجه الفرنج لأن السلطان خاف من الحلبيين أن يكاتبوا الفرنج كعادتهم.
قال: وفيها قتل صدّيق بن جولة صاحب بُصرى وصَرْخد، قتله ابنُ أخيه، وملك بعدهُ بُصْرى وصرخد شهورا، فكاتبه شمس الدولة أخو السلطان وحلف له على مايريده من إقطاع؛ واقترح شمس الدولة أن يكتب هو مايريده ليحلف عليه، فأنفذ من بُصْرى نسخة يمين كتبها قاضي بصرى، وكان قليل المعرفة بالفقه والتصرّف في القول، فلم يستقص فيها وجوه التأويل. فلما استوثق بها من شمس الدولة وخرج إليه تأوَّل عليه شمس الدولة في اليمين وقبضه، ثم أقطعه عشرين ضيعة، ثم أخذها منه بعد أيام.
قال: وفيها عصى الأمير غرس الدّين قليج بتلّ خالد بسبب كلام جرى بينه وبين كمشتكين، فأنهد إليه من حلب عسكرا فحاصروه أياما، وسلم الحصن، وصلحت حاله.
قال ولما ملك شمس الدّولة اليمن سمت نفس ابن أخيه تقيِّ الدِّين إلى الملك وجعل يرتاد مكانا يحتوى عليه، فأُخبر أنَّ قلعة ازبري هي فم درب المغرب، وكانت خرابا فأشير عليه بعمارتها، وقيل له متى عمرت وسكنها أجنادٌ أقوياء شجعان مُلِكَت برقة، وإذا ملكت برقة مُلك ماوراءها. فأنفذ مملوكه بهاء الدِّين قراقوش وقدّمه على جماعة من أجناده ومماليكه، فصاروا إلى القلعة المذكورة وشرعوا في عمارتها.
واجتمع بقراقوش رجل من المغرب فحدّثه عن بلاد الجريد وفزّان، وذكر له كثرة خيرها، وغزارة أموالها، وضعف أهلها، ورغبّه في الدخول إليها. فأخذ جماعة من أصحابه وسار في حادي عشر المحرّم من هذه السّنة، فكان يكمن النَّهار ويسير الليل مدّة خمسة أيام، وأشرف على مدينة أوجلة فلقيه ملكها وأكرمه واحترمه، وسأله المقام عنده ليعتضد به ويزوّحه بنته ويحفظ البلاد من العرب، وله ثلث ارتفاعها. ففعل قراقوش ذلك فحصل له من ثلث الارتفاع ثلاثون ألف دينار، فأخذ عشرة آلاف لنفسه وفرّق على رجاله عشرين ألفا.
وكان إلى جانب أوجلة مدينة يقال لها الأرزاقية، فبلغ أهلها صنيع قراقوش في أوجلة وأنه حرس غلالهم، فصاروا إليه ووصفوا له بلدهم وكثرة خيره وطيب هوائه، ورغبّوه في المصر إليهم على أنهم يملكونه عليهم. فأجاب على ذلك، واستخلف على أوجلة رجلا من أصحابه يقال له صباح ومعه تسعة فوارس من أصحابه، فحصل لقراقوش أموال كثيرة.
واتفق أنّ صاحب أوجلة مات، فقتل أهل أوجلة أصحاب قراقوش، فجاء قراقوش وحاصرها حتى افتتحها عنوة وقتل من أهلها سبعمائة رجل، وغنم أصحابه منها غنيمة عظيمة، واستولى على البلاد.
ثمّ إن أصحابه رغبوا في الرّجوع إلى مصر وخشى قراقوش أن يقيم وحده فرجع معهم. فلمّ حصل بمصر طاب له المقام وثقل عليه العود، وزوّجه تقيّ الدّين بإحدى جواريه. وكان استناب بأوجلة وقال لأهلها أنا أمضى إلى مصر لتجديد رجال وأعود إليكم.
قال ابن الأثير: وفي ربيع الآخر سنة إحدى وسبعين استوزر سيف الدّين صاحب الموصل جلال الدين أبا الحسن علي بن جمال الدّين الوزير، رحمهما الله تعالى، ومكنّه في ولايته، فظهرت منه كفاية لم يُظَّنها النَّاس، وبدا منه معرفة بقواعد الدّول وأوضاع الدّواوين، وتقرير الأمور والاطلاع على دقائق الحسبانات، والعلم بصناعة الكتابة الحسابية والإنشاء حيّرت العقول، ووضع في كتابة الإنشاء وضعا لم يعرفوه.
وكان عمره حين ولي الوزارة خمسا وعشرين سنة؛ ثمّ قبض عليه في شعبان سنة ثلاث وسبعين وشفع فيه كمال الدين بن ينسان وزير صاحب آمد وكان قد زوجه بنته، فأُطلق وسار إليه. وبقي بآمد يسيرا مريضا، ثم فارقها، وتُوفي بدنيسر سنة أربع وسبعين، وحُمل إلى الموصل فدفن بها، ثمّ حُمل منها في موسم الحجّ إلى المدينة ودفن عند والده. وكان من أحسن الناس صورة ومعنىً، رحمه الله تعالى.
قال: ثمّ إن سيف الدين استناب دُزْدَاراً بقلعة الموصل الأمير مجاهد الدّين قايماز في ذي الحجة سنة إحدى وسبعين، وردّ إليه أزمة الأمور في الحلّ والعقد، والرفع والخفض وكان بيده قبل هذه الولاية مدينة إربل وأعمالها ومعه فيها ولدٌ صغير لزين الدَّين على، لقبه أيضا زين الدِّين، فكان البلد لولد زين الدِّين اسماً لامعنى تحته، وهو لمجاهد الدِّين صورة ومعنىً.
قلت: وفيها في حادي عشر رجب توفيّ حافظ الشام أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر صاحب التاريخ الدمشقي رحمه الله تعالى، وحضر السلطان صلاح الدين جنازته ودفن في مقابر باب الصغير.
وفيها قدم دمشق أبو الفتوح عبد السَّلام بن يوسف بن محمد بن مقلد الدّمشقي الأصل البغدادي المولد التنوخي الجماهري الصوفي ابن الصوفي؛ ذكره العماد في الخريدة وقال: كان صديقي، وجلس للوعظ وحضر عنده صلاح الدين وأحسن إليه، وعاد إلى بغداد.
وذكر العماد من أشعاره مقطعات، منها في الحقائق، وأنشدها في مجلسه:
يامالكاً مُهجتي، يامنُتهى أملي ... ياحاضراً شاهداً في القلب والفكر
خلقتني من تراب أنت خالقه ... حتى إذا صرتُ تمثالاً من الصُّور
أجريت في قالبي رُوحاً منورة ... تمرُّ فيه كَجَرْي الماء في الشجر
جمعت بين صفا رُوحٍ منوّرة ... وهيكلٍ صنعته من معدنٍ كدر
إن غبت فيك فيا فخري وياشرفي ... وإن حضرت فيا سمعي ويابصري
أو احتججت فسري منك في ولهٍ ... وإنْ خطرتُ فقلبي منك في خطر
تبدو فتمحوُ رسومي ثم تثبتُها ... وإن تغيبت عنّي عشتُ بالأثر
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وخمسمائةقال العماد: والسّلطان مقيم بظاهر حلب، فعرف أهلها أنّ العقُوبة أليمة، والعاقبة وخيمة. فدخلوا من باب التذلل، ولاذوا بالتوسل وخاطبوا في التّفّضل، وطلبوا الصُّلح؛ فأجابهم، وعفا وعفّ، وكفى وكفّ؛ وأبقى للملك الصالح حلب وأعمالها، واستقرى كل عثرة لهم وأقالها؛ وأراد له الإعزاز، فرد عليه عزاز.
وقال ابن شداد: أخرجوا إليه ابنةً لنور الدين صغيرة سألت منه عزاز فوهبها إياها.
قال ابن أبي طيّ. لما تمّ الصلح وانعقدت الأيمان، عوّل الملك الصالح على مراسلة السلطان وطلب عزاز منه، فأشار الأمراء عليه بإنفاذ أخته، وكانت صغيرة، فأُخرجت إليه؛ فأكرمها السلطان إكراماً عظيماً، وقدم لها أشياء كثيرة، وأطلق لها قلعة عزاز وجميع مافيها من مال وسلاح وميرة وغير ذلك.
وقال غيره: بعث الملك الصالح أخته الخاتون بنت نور الدين إلى صلاح الدين في الليل فدخلت عليه، فقام قائماً وقبّل الأرض وبكى على نور الدين؛ فسألت أن يردّ عليهم أزاز فقال سمعا وطاعة، فأعطاها إياها وقدّم لها من الجواهر والتحف والمال شيئا كثيرا. واتفق مع الملك الصالح أنّ له من حماة وما فتحه إلى مصر، وأن يطلق الملك الصالح أولاد الداية.
قال العماد: وحلفوا له على كلّ ماشرطه، واعتذروا عن كلّ ما أسخطه. وكان الصُّلح عاماً لهم وللمواصلة وأهل ديار بكر؛ وكُتب في نسخة اليمن أنه إذا غدر منهم واحدٌ وخالف، ولم يفِ بما عليه حالف، كان الباقون عليه يداً واحدة، وعزيمة متعاقدة، حتى يفئ إلى الوفاء والوفاق، ويرجع إلى مرافقة الرّفاق.
فلما انتظم الصلح ذكر السلطان ثأره عند الاسماعيلية وكيف قصدوه بتلك البلية؛ فرحل يوم الجمعة لعشر بقين من المحرّم، فحصر حصنهم مصياث ونصب عليه المجانيق الكبار، وأوسعهم قتلاً وأسراً، وساق أبقارهم، وخرّب ديارهم، وهدم أعمارهم، وهتك أستارهم، حتّى شفع فيهم خاله شهاب الدين محمود بن تكش صاحب حماة، وكانوا قد راسلوه في ذلك لأنهم جيرانه، فرحل عنهم وقد انتقم منهم.
قال: وكان الفرنج قد أغاروا على البقاع، فخرج إليهم شمس الدّين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم، وهو متولي بعلبك ومقطع أعمالها، ومدبّر أحوالها، والمتحكم في أموالها، فقتل منهم وأسر أكثر من مائتي أسير، وأحضرهم عند السلطان وهو على حصار مصياث، فجدّد منه إلى غزو الفرنج الانبعاث.
قال ابن أبي طيّ: وهذا أكبر الدواعي في مصالحة السلطان لسنان وخروجه من بلاد الاسماعيلية، لأن السلطان خاف أن تهيج الفرنج في الشام الأعلى وهو بعيد عنه، فرُبما ظفروا من البلاد بطائل؛ فصالح سناناً وعاد إلى دمشق.
قال العماد: وكان قد خرج شمس الدولة أخو السلطان من دمشق حين سمع أن الفرنج على الخروج، وباسطهم عند عين الجر في تلك المروج؛ ووقع من أصحابه عدّة في الأسار، منهم سيف الدين أبو بكر بن السلار.
ووصل السلطان إلى حماة وقد استكمل الظَّفر، واجتمع فيها بأخيه شمس الدولة ثاني صفر، وهو أول لقائه بعدما أزمع عنه إلى اليمن السفر؛ وتعانق الأخوان في المخيّم بالميدان، وتحدّثا في الحدثان، وروعات الفراق، ولوعات الأشواق.
وكان قد وصل إلى السلطان من أخيه هذا عند مفارقته بلاد اليمن كتاب ضمنّه أبياتا أظنها من شعر ابن المنجم المصري، أولها:
الشوق أولع بالقلوب وأوجع ... فَعَلاَمَ أدفع منه مالا يُدفع
منها:
وحملتُ من وَجد الأحبة مفرداً ... ماليس تحمِلهُ الأحبّة أجمع
لايَسْتَقرّ بيَ النّوى في موضع ... إلا تقاضاني التَّرَّحلَ موضع
فإلى صلاح الدين أشكو أنني ... من بعده مُضْنى الجوانح موجع
جزعا لبعد الدار منه، ولم أكن ... لولا هواه، لبعد دارٍ أجزع
فلأركبنَّ إليه متن عزائمي ... ويُخبّ بي ركبُ الغرام ويوضع
حتّى أشاهد منه أسعد طلعة ... من أفقها صبح السعادة يطلع
قال العماد: فسألني السلطان أن أكتب له في جوابها على رَوِيها ووزنها، فقلت. فذكر قصيدة، منها:
مولاي شمس الدولة الملك الذي ... شمس السيادة من سناه تطلع
مالي سواك من الحوداث ملجأُ ... مالي سواك من النّوائب مفزع
وَلأَنت فخر الدين فخري في العلا ... وملاذُ آمالي، ورُكني الأمنع
إلا بخدمتك المجلة موقعي ... والله ما للملك عندي موقع
وبغير قُربك كلُّ ما أرجوه من ... درك المُنى متعذر متمنع
للنَصَّرُ إن أقبلت نحوي مُقْبل ... واليمنُ إن أسرعت نحوي مسرع
قال: ثمّ سرنا إلى دمشق ووصلنا إليها سابع عشر صفر، وفوّض ملك دمشق إلى أخيه الملك المعظم شمس الدولة، وعزم إلى مصر السّفر.
فصل في ذكر جماعة من الأعيان تجدّد لهم ما أقتضى ذكرهُ في هذه السنة
قال العماد: في السادس من المحرّم توفيّ بدمشق القاضي كمال الدين بن الشهروزري، وعمره ثمانون سنة، لأن مولده في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة. وكان في الأيام النُّورية بدمشق هو الحاكم المتحكم، وصلاح الدين إذ ذاك يتولى الشحنكية بدمشق، وكمال الدين يعكس مقاصده بتوخيّه الأحكام الشرّعية، وربما كسر أغراضه، وأبدى عن قبوله إعراضه، ويقصد في كلّ مايعرض له اعتراضه، وكم صبر على جماعة بحلمه وراضه، إلى أنْ نقله الله سبحانه من نيابة الشحنكية إلى المُلك، وصار كمال الدين من قضاة ممالكه المنتظمة في السلك، وكان في قلبه منه مافيه، وما فرط منه فات وقت تلافيه. فلما ملك دمشق أجراه على حكمه، ولمْ يؤاخذه بحرُمه، واحترم نوّابه، وأكرم أصحابه، وفتح للشرّع بابه، وخاطبه واستحسن جوابه، ولم يزل يستفتيه ويستهديه، ويعرض على رأيه ما يعيده ويبديه.
وكان ابن أخيه ضياء الدين بن تاج الدين الشهرزوري قد هاجر إلى صلاح الدين بمصر في ريعان ملكه، وأذنت هجرته في درك إرادته بإدارة فلكه، وأنعم عليه هناك بجزيرة الذهب، ومن دار الملك بمصر بدار الذهب، ووفرَّ حظه من الذهب، وملكه داراً بالقاهرة نفيسةً جميلةً، جليَّة جليلة، ورتّب له وظائف، وخصّه بلطائف؛ ووصل مع صلاح الدين إلى الشام، وأمره جارٍ على النظام.
ولما أشتد بكمال الدين المرض، وكاد يفارق جوهره العرض، أراد أنْ يبقى القضاء في ذويه، فوّصى مع حضور ولده بالقضاء لضياء الدين ابن أخيه، علماً منه بأن السلطان يُمضي حُكمه لأجل سوالفه، ويجعله عنده من عوائد عوارفه. ومات ولم يخلف مثله، ومن شاهده شاهد العقل والفضل كلّه، بارًّا بالأبرار، مختاراً للأخيار، مكرما للكرام، ماضيا في الأحكام. وقد قوّاه نور الدين رحمه الله وولده في أيامه، وسدد مرامي مرامه.
وهو الذي سن دار العدل لتنفذ أحكامه بحضرة السلطان، فلا يبقى عليه مغمز ولا ملمز لذوي الشنآن. وهو الذي تولى له أبناء أسوار دمشق، ومداسها، والبيمارستان. فاستمرت عادته واستقرت قاعدته في دولة السلطان. وتوفي ونحن بحلب محاصرون.
وذكر العماد في الخريدة لابنه محييّ الدّين قصيدة في مرثيته منها:
ألِمُّوا بِسَفْحِي قاسيون فسلموا ... على جدثٍ بادي السنا، وترحموا
وبالرغم مني أن أناجيه بالمنى ... وأسأل مع بعد المدى من يُسلم
لقد عدمت منك البرية والداً ... أحنّ من الأم الرؤف وأرحم
ولاسيما إخوان صدق بجلق ... همُ في سماء المجد والجود أنجم
نشرت لواء العدل فوق رؤسهم ... فما كان فيهم من يضام ويظلم
لقيت من الرّحمن عفوا ورحمة ... كما كنت تعفو، ماحييتَ، وترحم
قال العماد: وجلس ابن أخيه ضياء الدين مكانه، وأحسن إحسانه، وأبقى نُوّاب عمه، وأنفذ أحكامه بنافذ حكمه.
وكان الفقيه شرف الدين أبو سعد عبد الله بن أبي عصرون قد هاجر من حلب إلى السلطان، وقد أنزله عنده بدمشق في ظل الإحسان، وهو شيخ مذهب الشافعي رضي الله عنه، والأقوم بالفتيا، وأعرفهم بما تقتضيه الشريعة من أمر الدين والدُّنيا، والسلطان يؤثر أن يفوّض إليه منصب القضاء، ولايرى عزل الضياء؛ فأفضى بسرّ مراده إلى الأجل الفاضل، وكان الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري يتعصب لشيخه، فاستشعر الضياء من العزل، وأشير عليه بالاستعفاء، ففعل، فأعفى وبقيت عليه الوكالة الشرعية عنه في بيع الأملاك.
قال العماد: وأول ما أشتريت منه بوكالة السلطان الأرض التي ببستان بقر الوحش التي بنيت فيها المواضع من الحمام والدور والاصطبل والخان، وكنت قد احتكرتها في الأيام النورية فملكتها في الأيام الصلاحية.
قلت: قد خرجت هذه الأماكن في سنة ثلاث وأربعين وستمائة بسبب الحصار، واستمرّ خرابها، وعفت آثارها، وصارت طريقاً على حافة بردى وأنت خارج من جسر الصفيّ خارج باب الفرنج مارًّا إلى ناحية الميدان.
قال: فلما استعفى ضياء الدين بن الشهرزوري من القضاء لم يبق في منصب القضاء إلا فقيه يعرف بالأوحد داود بن إبراهيم بن عمر بن بلال الشافعي وكان ينوب عن كمال الدين، فأمره السلطان أن يجري على رسمه، ويتصّرف في حكمه.
وكان السلطان لإحياء القضاء في البيت الزَّكوي مؤثرا، ولذكر مناقبه مكثر، وقد سبق منه الوعد للشيخ شرف الدّين بن أبي عصرون وهو راج، وبطلب نجاز عِدَته مناج، ففوض إليه القضاء والحكم والإنفاذ والإمضاء، على أن يتولى محيي الدين أبو المعالي محمد بن زكي الدين، والأوحد، قاضيين في دمشق، يحكمان، وهما عن نيابته يوردان ويصدران؛ وتوليتهما بتوقيع من السلطان. ولم يزل الشيخ شرف الدين ابن أبي عصرون متولياً للقضاء، منفرداً بالحكم والإمضاء، سنة اثنتين وثلاث وسبعين في ولاية أخي السلطان الملك المعظم فخر الدين.
فلما عدنا إلى الشام تكلم الناس في ذهاب نور بصره، وأنه لايقوم في القضاء بورده وصدره، ففوض السلطان القضاء بالإشارة الفاضلية إلى ابنه محيي الدين أبي حامد محمد، كأنه نائب أبيه، ولا يظهر للناس صرفه عما هو متوليه. واستمر القضاء له إلى انقضاء أشهر من سنة سبع وثمانين، ثم صُرف واستقلّ به ابن زكي الدين، فأقام في مدّة ولايته للشرع القواعد والقووانين، وفوّض ديوان الوقوف بجامع دمشق وغيره من المساجد والمشاهد إلى أخيه مجد الدين بن الزكي، فتولاه إلى أن انتقل من أعمال الوقوف إلى موقف اعتبار الأعمال، وتوّلاها بعده أخوه محيي الدّين على الاستقلال، إلى آخر عهد السلطان وبعده.
قلت: وفيها في صفر وقف السلطان قرية حزم باللوى من حوران على الجماعة الذين يشتغلون بعلم الشريعة أو بعلم يحنتاج إليه الفقيه، أو من يحضر لسماع الدروس بالزاوية الغربية من جامع دمشق المعروفة بالفقيه الزاهد نصر المقدسي رحمه الله تعالى، وعلى من هو مدرّسهم بهذا الموضع من أصحاب الإمام الشافعي رضي الله عنه؛ وجعل النظر لقطب الدين النيسابوري رحمه الله.
ورأيت كتاب الوقف بذلك على هذه الصورة، وعليه علامة السلطان رحمه الله: " الحمد لله، وبه توفيقي " .
قال العماد: وفيها في ليلة الجمعة الثاني عشر من صفر، ونحن في طريق الوصول إلى دمشق، توفي شمس الدين ابن الوزير أبي المضاء بدمشق، وهو أول خطيب بالديار المصرية للدولة العباسية. وكان يتولى الرسالة إلى الديوان العزيز، ويقصده الشعراء ويحضره الكرماء، فيكثر خلعهم وجوائزهم، ويبعث على مدحه غرائزهم. فحمل السلطان همه وقرّب ولده، وجبر بِتْربيته يُتْمه.
ثم تعين ضياء الدين بن الشهرزوري بعده للرسالة إلى الديوان، وصارت منصبا له ينافس عليه، واستتب له هذه السفارة إلى آخر العهد السلطاني، وذلك بعد المضي إلى مصر والعود إلى الشام، فإنه بعد خاطب في هذا المرام؛ فأما في هذه السنة فإنه كان في مسيرنا إلى مصر في الصحبة، وهو متردد إلىّ بصفاء المحبة.
وفيها في آخر صفر تزوّج السلطان بالخاتون المنعوته عصمة الدين بنت الأمير معين أنر، وكانت في عصمة نور الدين رحمه الله تعالى، فلما توفي أقامت في منزلها بقلعة دمشق، رفيعة القدر، مستقلة بأمرها، كثيرة الصدقات، والأعمال الصالحات. فأراد السلطان حفظ حرمتها، وصيانتها وعصمتها، فأحضر شرف الدين بن أبي عصرون وعُدُوله، وزوجه إياها بحضرتهم أخوها لأبيها الأمير سعد الدّين مسعود بن أنر بإذنها، ودخل بها وبات عندها، وقرن بسعده سعدها؛ وخرج بعد يومين إلى مصر.
وذكر العماد بعد وفاة ابن الشهرزوري وابن أبي المضاء الأمير مؤيد الدولة أبا الحارث أسامة بن مرشد بن سديد الملك أبي الحسن عليّ بن منقذ، وعوده إلى الشام عند علمه بوصول السلطان، فقال: هذا مؤيد الدولة من الأمراء الفضلاء، والكرماء الكبراء، والسادة القادة العظماء، وقدمتعه الله بالعمر وطول البقاء؛ وهو من المعدودين من شجعان الشام، وفرسان الإسلام.
ولم تزل بنو منقذ ملاّك شيزر، وقد جمعوا الشيّادة والمفخر، ولما تفرّد بالمعقل منهم من تولاه، لم يرد أن يكون معه فيه سواه، فخرجوا منه في سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وسكنوا دمشق وغيرها من البلاد، وكلهم من الأجواد الأمجاد، وما فيهم إلا ذو فضل وبذل، وإحسان وعدل، وما منهم إلا من له نظمٌ مطبوع، وشعر مصنوع، ومن له قصيدة وله مقطوع.
وهذا مؤيد الدّولة أعرقهم في الحسب، وأعرفهم بالأدب؛ وكانت جرت له نبوة في أيام الدمشقين، وسافر إلى مصر وأقام هناك سنين، في أيام المصريين، فتمت نوبة قتل المنعوت بالظافر، وقتل عباس وزيرهم إخوته، وإقامة المنعوت بالفائز، وما صادف ذلك من الهزاهز. فعاد مؤيد الدوّلة إلى الشام، وسار إلى حصن كيفا وتوطن بها. ولما سمع بالملك الصلاحيّ جاء إلى دمشق، وذلك في سنة سبعين، وقال:
حمدت على طول عمري المشيبا ... وإن كنت أكثرت فيه الذنوبا
لأني حييتُ إلى أن لقي ... تُ بعد العدو صديقاً حبيبا
قال: وكنت أسمع بفضله وأنا بأصبهان في أيام الشبيبة. وأنشدني له مجد العرب العامري بأصفهان في سنة خمس وأربعين هذين البيتين، وهما من مبتكرات معانيه، في سنّ قلعها:
وصاحبٍ لم أَملَّ الدّهر صحبته ... يشقى لنفعي ويسعى سَعي مجتهد
لم ألقه مُذْ تصاحبنا، فحين بدا ... لناظري افترقنا فُرقة الأبد
قال: فلما لقيته بدمشق في سنة سبعين أنشدنيها لنفسه؛ مع كثير من شعره المبتكر من جنسه.
قلت: ومن عجيب مااتفق أني وجدت هذين البيتين مع بيتين آخرين، والمجموع أربعة أبيات، في ديوان أبي الحسين أحمد بن منير الأطرابلسي؟ ومات ابن منير سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. قرأت في ديوانه: وقال في الضرس:
وصاحب لا أمل الدهر صحبته ... يسقى وأجنى ضرّه بيدي
أدنى إلى القلب من سمعي ومن بصري ... ومن تلادي، ومن مال، ومن ولدي
ثم قال:
أخلُو ببِثِّي من خالٍ بوجنته ... مداده زايد النقصير للمدد
لم ألقه مذ تصاحبنا.... البيت فالأشبه أنّ ابن منير أخذهما وزارد عليهما، ولهذا غير فيهما كلمات. وقد وجدت هذا البيت الأول على صورة أخرى حسنة:
وصاحب ناصح لي في معاملتي
ويجوز أن يكون أسامة أنشدهما متمثلاً فنسبا إليه لما كان مظنة ذلك. ويجوز أن يكون اتفاقا، والله أعلم.
قال العماد: وشاهدت ولده عضد الدّين أبا الفوارس مرهفا وهو جليس صلاح الدّين وأنيسه وقد كتب ديوان شعر أبيه لصلاح الدّين، وهو لشغفه به يفضله على جميع الدوّاوين. ولم يزل هذا الأمير العضد مرهف مصاحباً له بمصر والشام، وإلى آخر عصره، وتوطن بمصر؛ فلما جاء مؤيد الدولة أبوه، أنزله أرحب منزل، وأورده أعذب منهل، وملكه من أعمال المعرّة ضيعة زعم أنها كانت قديما تجري في أملاكه، وأعطاه بدمشق داراً وإدراراً. وإذا كان بدمشق جالسه وآنسه، وذاكره في الأدب ودارسه.
وكان ذا رأي وتجربة، وحنكة مهذبة، فهو يستشيره في نوائبه، ويستنير برأيه في غيهبه؛ وإذا غاب عنه في غزواته، كاتبه وأعلمه بواقعاته ووقعاته، واستخرج رأيه في كشف مهماته، وحلّ مشكلاته. وبلغ عمره ستّا وتسعين سنة، فإن مولده سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وتوفي سنة أربع وثمانين وخمسمائة.
وقد تقدم من أخباره في قتل الأسد في شيبته أيام كونه بشيزر، وذكرت له أيضا ترجمة حسنة في تاريخ دمشق.
فصل في رجوع السلطان إلى مصروخرج من دمشق يوم الجمعة، رابع شهر ربيع الأول.
قال العماد: ولما استتمت للسلطان بالشام أمور ممالكه، وأمن على مناهج أمره ومسالكه، أزمع إلى مصر الإياب، وقد أمحلت من بعده من جود جَود السحاب، وتقدمه الأمراء والملوك. وخرج بكرة الجمعة ونزل بمرج الصّفّر، ثم رحل عنه قبْل العْصر إلى قريب الصنمتين، وخرجت معه وقلبي مروع إلى أهلي، فما نزلت منزلا إلا نظمت أبياتاً. فقلت يوم المسير وقد عبرت بالخيارة:
أقول لِركبٍ بالخيارةٍ نُزَّل ... أثيروا؛ فما لي في المقام خيار
همُ رحلُوا عنك الغداة ومادَرَوْا ... بأنهم قد خلفوك وساروا
حليف اشتياق لاترى من تحبّه ... وفي القلب من نار الغرام أُوار
أجيروا من البلوى فؤادي فعندكم ... ذمام له ياسادتي وجوار
وقلت وقد نزلنا بالفقيع:
رأيتني بالفقيع منفرداً أضْ ... يع من فقع قاعها الضائع
بعت بمصر دمشق عن غرر ... مني، فياغبن صفقة البائع
صبْري والقلبُ عاصيان، وما ... غير همومي وأدمعي طائعي
وقلت بالفوّار:
تحّدر بالفوّار دمعي على الفوْر ... فقلتُ لجيراني أجيروا من الجور
وأصعب مالاقيتُ أني قانع ... من الطيف مذ بنتم بزور من الزور
وقلت بالزرقاء:
ولمَ أنسَ بالزرقاء يوم وداعنا ... أنامل تدمى حيْرةً للتندم
أعدتُك يازرقاء حمراءَ، إنني ... بكيتك حتى شيب ماؤك بالدم
تأخر قلبي عندهم مُتخلفا ... وخالفتهمُ في عزْمتي والتقدم
فيا ليت شعري هل أعود إليهم ... وهل ليت شعري نافعٌ للمتيم
قال: وقلت وقد عبرنا على مسالك قريبة من قلعة الشوبك، وفيها تخطف الإفرنجُ القاصدين إلى مصر:
طريق مصر ضيّق المسْلك ... سالكهُ لاشك في مهلك
وحب مصر صار جبا لمن ... أوقعه في شبك الشوبك
لكنما من دونها كعبة ... محجوجة مبرورة المنسك
بها صلاح الدين يُشكى الذي ... إليه من أيامه يشتكى
قال: ونظمت في طريق مصر قصيدة مشتمله على ذكر المنازل بالترتيب، وإيراد البعيد منها والقريب. واتفق أن السلطان سير إلى مصر الملك المظفر تقي الدين، وكان لايستدعي من شاديه، إلا إنشادها في ناديه، ويطرب لسماعها، ويعجب بإبداعها، وكان قد فارق أهله بدمشق كما فارقت بها أهلي، وجمع الله بهم بعد ذلك شملي. وهي هذه.
هجرتكمُ لاعَنْ ملالٍ ولاغّدْر ... ولكن لمقْدُور أُتيح منَ الأمر
وأعلم أني مخطئ في فراقكم ... وعّذري في ذنبي، وذنبي في عذري
أرى نُوباً للدّهر تُحصى ولا أرى ... أشد من الهجران في نُوب الدهر
بعيني إلى لُقيا سةكم غشاوةٌ ... وسمعي عنْ نجوْى سواكم لذو وقر
وقلبي وصبري فارقاني لبُعدكم ... فلا صبر في قلبي، ولاقلب في صدري
وإني على العهد الذي تعهدونه ... وسرّي لكم سرّي، وجهري لكم جهري
تجرعت صرف الهمّ من كأس شوقكم ... وها أنا في صحوي تريف من السّكر
وإن زماناً ليس يعْمر موْطني ... بسُكناكمُ فيه فليس من العمر
وأقسم لو لم يقسم البين بيننا ... جوى الهمّ ما أمسيت مقتسم الفكر
أسير إلى مصر وقلبي أسيركمُ ... ومِنْ عجبٍ أسري وقَلبيَ في أسر
أخلايَ قد شطّ المزار، فأرسلوا ال ... خيال وزورُوا في الكرى واربحوا أجري
تذكرت أحبابي بجلق بعدما ... ترحلت، والمشتاق يأنسُ بالذكر
وناديت صبري مستغيثاً فلم يجب ... فأسبلت دمْعي للبكلء عَلَى صَبْري
ولمّا قصدنا من دمشق غباغبا ... وبتنا من الشوق المُمِضِّ على الجمر
نزلنا برأس الماء عند وداعنا ... موارد من ماء الدموع التي تجري
نزلنا بصحراء الفقيع وغودرت ... فواقع من فيض المدامع في الغدر
ونهنهت بالفوّار فيض مدامعي ... ففاضت وباحت بالمكتَّم من سرّي
سرينا إلى الزرقاء، منها، ومن يصب ... أواماً يَسِرْ حتى يرى الْوِرد أو يسري
تذكرت حمّام القُصير وأهله ... وقد جزت بالحمام في البلد القفر
وبالقريتين القرْيتَين، وأين من ... مغاني الغواني منزل الأدم والعفر
وَرْدنا من الزيتون حسمي وأيلة ... ولم نسترح حتى صدرنا إلى صدر
غشينا الغواشي وهي يابسة الثّرى ... بعيدة عهد القطر بالعهد والقطر
وضنّ علينا بالنّدى ثمد الحصا ... ومن يرتجى ريَّاً من الثمد النّزْر
فقلت اشرحي بالخمس صدراً مطيّتي ... بصدر وإلا جادك النّيل للعشر
رأينا بها عيْن المواساة، إننا ... إلى عين موسى نبذل الزّاد للسّفر
وما حسرت عيني على فيض عبرةٍ ... أكفكفها حتى عبرنا على الجسر
ومِلْنا إلى أرض السّدير وجنّة ... هنالك من طلحٍ نضيدٍ ومن سدر
وجبنا الفلا حتى أصبنا مباركا ... على بركة الجبّ المبشر بالقصر
ولمّا بدا الفسطاط بشرت رفقتي ... بمن يتلقي الوفد بالوفر والبشر
بكت أمّ عمرو من وشيك ترَّحلي ... فيا خجلتي من أمّ عْمرو وَمِنَ عمرو
تقول إلى مصر تصير! تعجبَّا ... وماذا الذي تبغي، ومنْ لك في مصر؟!
فقلت: ملاذي، الناصر، الملك الذي ... حصلت بجداوه على الملك والنّصر
فقالت: أقم لاتعدم الخير عندنا ... فقلت: وهل تغني السّواقي عن البحر
ثقي برجوع يضمن الله نجحه ... ولاتقتضي أنْ نُبْدل العُسر باليسر
عطيَّته قد ضاعفت مُنَّة الرّجا ... ونعمته قد أضعفت مُنَّة الشكر
قال: وكان الدخول إلى القاهرة يوم السبت سادس عشر ربيع الأول بالزي الأجمل والعزّ الأكمل.
وتلّقى السلطان أخوه ونائبه الملك العادل سيف الدين إلى صدر، وعبر إلينا عند بحر القلزم الجسر، وتلقانا خير مصر ووصلت إلينا ثمراتها، وجليت علينا زهراتها، فظهر بنا نشاطها، وزاد اغتباطها، ودخل السلطان داره، ووفق الله في جميع الأمور إيراده وإصداره.
وكانت قد صعبت عليّ مفارقة دمشق وأهلها، لقلة الوثوق بأني أحصل بمثلها؛ فنظمت يوم خروجي منها أبياتا إلى ناصر الدين محمد بن شيركوه، منها:
بمهجتي خنث العط ... ف مستلذ الدّلال
يقول لي بانكسارٍ ... ورقّةٍ واعتلال
معاتباً بحديثٍ ... أصفى من السلسال
ما مصر مثل دمشقٍ ... بعتَ الهدى بالضلال
فقلت عنّت أمورٌ ... عجيبة الأشكال
أسيرُ في طلب العزّ ... مثل سيْر الهلال
لم يبلغ البدرُ لولا ال ... مَسيرُ أوجَ الكمال
وكيف أترك شغلي ... وإنه رأس مالي
صلاح الدين حالي صلاح الدّ ... ين الغزير النّوال
مالي أفارق مَلْكاً ... ملكته آمالي
ياناصر الدّين: قلبي ... عليه في بلبال
ثم ذكر العماد المحسنين إليه بالقاهرة، وسيّدهم المولى الأجل الفاضل؛ وقد مدحه بقصيدة منها:
كيف لايفتدى لي الدهر عبدا ... وأنا عبدُ عبِدْ عَبِدْ الرّحيم
بدوام الأجل سيّدنا الفا ... ضل يادولة الأفاضل دومي
إذ أراه ينوب عني لدى المل ... ك مناب الأرواح عند الجسوم
مالك الحلّ في الممالك والعق ... د وحكم التحليل والتحريم
مُعْمِلٌ للنفاذ في كلّ قطر ... قلماً حاكماً على إقليم
يتلقى الملوكُ في كل أرض ... كتبه القادمات بالتعظيم
ناحل الجسم، ذو خطاب به يصغ ... ر للدهر كلُّ خطب جسيم
ثم ذكر الأخوين تقي الدين عمر وعز الدين فرخشاه، وهما أبنا أخي السلطان، وهو شاهنشاه بن أيوب، وهمام الدين بزغش الشنباشي والى القاهرة. ومدح فرخشاه بقصيدة حسنة، منها:
شادنٌ كالقضيب لدْن المهزه ... سلبت مقلتاه قلبي بغمزه
كلّما رُمْت وصله رام هجري ... وإذا زدتُ ذلة زاد عزه
للصبا من عذاره نسج حُسن ... رقم المسك في الشقائق طرزه
وعزيزٌ عليّ أن أصطباري ... فيه قد عزه الغرام وبزه
مارأى ما رأيت مجنونُ ليلى ... في هواه، ولا كثير عَزّه
ما ذكرنا الفسطاط إلا نسينا ... ما رأينا بالنيْربين والاَرزْه
ونصيري عليه نائل عز الد ... ين ذي الفضل، خلّد الله عزه
فرّغ الكنز من ذخائر مالٍ ... مالئاً من نفائس الحمد كنزه
همةٌ مستهامة بالمعالي ... للدَِّنايا أبيّة مشمئزه
قال العماد: وتوفرنا على الاجتماع في المغاني لاستماع الأغاني، والتنزه في الجزيرة والجيزة، والأماكن العزيزة، ومنازل العزّ والروضة، ودار الملك والنيل والمقياس، ومراسي السفن، ومجاري الفلك والقصور بالقرافة، وربوع الضيافة، ورواية الأحاديث النبوية، والمباحثة في المسائل الفقهية، والمعاني الأدبية.
قال: واقترحنا على القاضي ضياء الدين بن الشهرزوري أن يفرجنا في الأهرام، فقد كنا شغفنا بأخبارها في الشام؛ فخرج بنا إليها، ودرنا تلك البرابي والبراري، والرمال والصحاري، وأحمدنا المقارَّ والمقاري؛ وهالنا أبو الهول، وضاق في وصفه مجال القول؛ ورأينا العجائب، وروينا الغرائب، واستصغرنا في جنب الهرمين كلَّ ما استعظمناه، وتداولنا الحديث في الهرم ومن بناه، فكلٌ يأتي في وصفهما بما نقله، لابما عقله، واجتهدوا في الصعود إليه فلم يوجد من توقله، وحارت العقول في عقوده، وطارت الأفكار عن توَّهم حدوده؛ فياله من مولود للدهر قبل الطوفان، انقرضت القرون الخالية على آبائه وجدوده، وسمار الأخبار يسمرون بذكر حديث أحداث عاده وثموده، ويُدل إحكامه وعلّوه على همة بانيه في بأسه وجوده. وإن في الأرض الهرمين كما أن في السماء الفرقدين، وهما كالطودين الراسخين، وكالجبلين الشامخين؛ قد فنيت الدُّهور وهما باقيان، وتقاصرت القصور وهما راقيان، وكأنهما لأُمّ الأرض ثديان، وعلى ترائب التراب نهدان، ولسلطان العالم علمان، وإلى مراقي الأملاك سُلمان، وهما لليل والنهار رقيبان، ولرضوي ولشمام نسيبان، ومن زحل والمريخ قريبان، ولعوادي الخطوب خطيبان، ولثور الفلك روقان، ولشخص الكرة الترابية سافان.
قلت: ثم ذكر العماد جماعة ممن كان يقيم الضيافة له ولمثله من الفضلاء والأعيان؛ فذكر منهم الناصح مؤدب أولاد السلطان، وله دارٌ مشرفة على النيل، وذكر منهم اللسان الصوفي البلخي، وكان له صحبة قديمو بنجم الدين أيوب والد السلطان، وله دارٌ أيضا على شاطئ النيل برسم ضيافة من نزل به.
قال: ثم وقف السلطان داره على الصوفية من بعده، وانتقل بعد سنين إلى النَّعيم وخُلده.
فصل في بيع الكتب وعمارة القلعة والمدرسة والبيمارستانقال العماد: وكان لبيع الكتب في القصر كلّ أسبوع يومان، وهي تباع بأرخص الأثمان وخزائنها في القصر مرتَّبة البيوت، مقسمة الرّفوف، مفهرسة بالمعروف. فقيل للأمير بهاء الدين قراقوش، متولي القصر، والحالّ والعاقد للأمر: هذه الكتب قد عاث فيها إلى أرضها؛ وهو تركيّ لاخبرة لهى بالكتب، ولادربة له بأسفار الأدب. وكان مقصود دلالي الكتب أن يكسوها، ويخرموها ويعكسوها. فأخرجت، وهي أكثر من مائة ألف، من أماكنها، وغُربت من مساكنها، وخرّبت أوكارها، وأذهبت أنوارها وشتت شملها، وبتُ حبلها، واختلط أدبيُّها بنجوميتها، وشرعيُّها بمنطقيها، وطبيُّها بهندسيِّها، وتواريخها بتفاسيرها، ومجاهيلها بمشاهيرها.
وكان فيها من الكتب الكبار، وتواريخ الأمصار، ومصنفات الأخبار، ما يشتمل كل كتاب على خمسين أو ستين جزءاً مجلدا، إذا فقد منها جزءٌ لايخلف أبدا. فاختلطت واختبطت، فكان الدلال يخرج عشرة عشرة من كل فن كتباً مبترة، فتسام بالدون، وتباع بالهُون؛ والدلال يعرف كلّ شدة، وما فيها من عدة، ويعلم أن عنده من أجناسها وأنواعها، وقد شارك غيره في ابتياعها، حتى إذا لفق كتاباً قد تقوم عليه بعشرة، باعه بعد ذلك لنفسه بمائة.
قال: فلما رأيت الأمر حضرت القصر، واشتريت كما أشتروا، ومريت الأطباء كما مروا، واستكثرت من المتاع المبتاع، وحويت نفائس الأنواع. ولما عرف السلطان ما ابتعته، وكان بمئتين، أنعم عليَّ بها، وأبرأ ذمَّتى من ذهبها؛ ثم وهب لي أيضا من خزانة القصر ما عينت عينه من كتبها.
ودخلت عليه يوماً وبين يديه مجلدات كثيرة انتقيت له من القصر، وهو ينظر في بعضها، ويبسط يدي لقبضها، وقال: كنت طلبت عينتها، فهل في هذه منها شئ؟ فقلت: كلها، وما أستغنى عنها، فأخرجتها من عنده بحمال، وكان هذا منه بالإضافة إلى سماحه أقل نوال.
قال: وكان السلطان لما تملك مصر رأى أن مصر والقاهرة لكلّ واحدة منهما سور لايمنعها، فقال: إن أفردت كلّ واحدة بسور احتاجت إلى جند مفرد يحميها، وإني أرى أن أدير عليهما سوراً واحداً من الشاطئ إلى الشاطئ.
وأمر ببناء قلعة في الوسط عند مسجد سعد الدولة على جبل المقطم، فابتدأ من ظاهر القاهرة ببرج في المقسم، وانتهى به إلى أعلى مصر ببروج وصلها بالبرج الأعظم. ووجدت في عهد السلطان بيتاً رفعه النواب، وأكمل فيه الحساب، ومبلغه، وهو دائر البلدين مصر والقاهرة بما فيه من ساحل البحر والقلعة بالجبل، تسعة وعشرون ألفا وثلاثمائة ذراع وذراعان؛ من ذلك ما بين قلعة المقسم على شاطئ النيل والبرج بالكوم الأحمر بساحل مصر عشرة آلاف وخمسمائة ذراع، ومن القلعة بالمقسم إلى حائط القلعة بالجبل بمسجد سعد الدوة ثمانية آلاف وثلاثمائة واثنان وتسعون ذراعا، ومن جانب حائط القلعة من جهة مسجد سعد الدولة إلى البرج بالكوم الأحمر سبعة آلاف ومائتا ذراع، ودائر القلعة بجبل مسجد سعد الدولة ثلاثة آلاف ومائتان وعشرة أذرع. وذلك طول قوسه في أبدانه وأبراجه من النيل إلى النيل، على التحقيق والتعديل، وذلك بالذراع الهاشمي بتولي الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي.
وبنى القلعة على الجبل، وأعطاها حقها من إحكام العمل، وقطع الخندق وتعميقه وحفر واديه وتضييق طريقه. وهناك مساجد يعرف أحدها بمسجد سعد الدولة، فاشتملت القلعة عليها ودخلت في الجملة. وحفر في رأس الجبل بئراً ينزل فيها بالدرج المنحوتة من الجبل إلى الماء المعين، ولم يتأت له هذا كله في سنين متقاربة لولا أعانه ربُّه المعُين.
وتوفي السلطان وقد بقي من السور مواضع والعمارة فيه مستمرة، ووظائف نفقاتها مستدرة.
قال: وأمر ببناء المدرسة بالتربة المقدسة الشلفعية ورتب قواعدها بفرط الألمعية، وتولاها الفقيه الزاهد نجم الدين الخبوشاني، وهو الشيخ الصالح الفقيه الورع، التقيّ النقيّ.
قال: وأمر باتخاذ دارٍ في القصر بمارستاناً للمرضى، واستغفر الله تعالى بذلك واسترضى؛ ووقف على البيمارستان والمدرسة وقوفاً، وقد أبطل منكراً وأشاع معروفاً؛ وأضرب عن ضرائب فمحاها، وهبّ إلى مواهب فأسداها، واهتم بفرائض ونوافل فأداها.
فصل في خروج السلطن إلى الإسكندرية وغير ذلك من بواقي حوادث هذه السنةقال العماد: ثمَّ خرج من القاهرة يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان، واستصحب ولديه الأفضل عليَّاً والعزيز عثمان، وجعل طريقه على دمياط، ورأى في الحضور بالثغر ومشاهدته الاحتياط، وكان له بها سبيّ كثير جلبه الأسطول، فامتد مقامه بظاهر البلد يومين، ووهب لي منه جارية.
ثمَّ وصلنا إلى ثغر الإسكندرية وترددنا مع السلطان إلى أخيه الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمد السلفي، وداومنا الحضور عنده، واجتلينا من وجهه نور الايمان وسعده؛ وسمعنا عليه ثلاثة أيام، الخميس والجمعة، والسبت، رابع شهر رمضان، واغتنمنا الزمان، فتلك الأيام الثلاثة هي التي حسبناها من العمر، فهي آخر ما اجتمعنا به في ذلك الثغر.
وشاهدنا ما استجده السلطان من السُّور الدائر، وما أبقاه من حسن الآثار والمآثر؛ وما انصرف حتى أمر بإتمام وتعمير الأسطول.
قال ابن أبي طيّ: ولما نوى السُّلطان المقام بالإسكندرية ليصوم فيها رأى أنه لايخلي نفسه من ثواب يقوم له مقام القصد إلى بلاد الكفار والجهاد في المشركين، فرأى الأسطول وقد أخلقت سفنه وتغيرت آلاته، فأمر بتعمير الأسطول وجمع له من الأخشاب والصَّناع أشياء كثيرة. ولما تمَّ عملُ المراكب أمر بحمل الآلآت، فنقل من السلاح والعدد ما يحتاج إليه، وشحنه بالرجال، وولىّ فيه أحد أصحابه، وأفرد له إقطاعا مخصوصا وديوانا مفردا، وكتب إلى سائر البلاد يقول، القولُ قولُ صاحب الأسطول، وأن لايمنُع من أخذ رجاله وما يحتاج إليه، وأمر صاحب الأسطول أن لايبارح البحر، ويغرى إلى جزائر البحر.
قال العماد: وقلت في معنى تنقلي في البلاد:
يوماً بحيّ، ويوماً في دمشق، وبال ... فُسطاط يوماً، ويوماً بالعراقين
كأن جسمي وقلبي الصبّ ما خلقا ... إلا ليُقتسما بالشوق والبين
وقلت يوم الخروج من القاهرة:
يا باخلاً عند الوداع بوقفة ... لو سامني روحي بها لم أبخل
ماكان ضرك لو وقفت لسائل ... ترك الفؤاد بدائه في المنزل
هلاّ وقفت لقلب من أحرقته ... مقدار إطفاء الحريق المشعل
إن أسر مرتجلاً ففي أسر الهوى ... قلبي لديك، مقيداً لم يرحل
عذب العذاب لدى فؤاد المبتلي ... إذ كنت أنت معذبي والنبتلى
وقلت وقد نزلنا بين منية غمر ومنية سمنود:
نزلت بأرض المنيتين ومنيتي ... لقاؤكم الشافي ووصبكم المجدي
سأبلي ولاتبلي سريرة ودكم ... وتؤنسني إن مت في وحشة اللحد
قال: وعدنا من ىالإسكندرية في شهر رمضان، فصمنا بقية الشهر بالقاهرة، والسلطان متوفر في ليله ونهاره، على نشر العدل وإنشاره، وإفاضة الجود واغزاره، وسماع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأخباره، وإشاعة العلم والإعلان بأسراره، وإبداء شعار الشرع وإظهاره، وإبقاء المعروف على قراره، وإعدام أعلام الباطل وإنكاره.
وقال: ومن مدائحي في السلطان ما أنشدته إياه سادس شوال:
فديتك من ظالم منصف ... وناهيك من باخل مسرف
أيبلغ دهري قصدي وقد ... قصدت بمصر ذرا يوسف
ويوسف مصر بغير التقى ... وبذل الصنائع لم يوصف
فسر وافتح القدس واسفك به ... دماءً متى تجرها ينظف
وأهد إلى الأسبتار البتا ... ر وهدّ السقوف على الأسقف
وخلّص من الكفر تلك البلاد ... يخلصك الله في الموقف
قال: وفيها وصل رُسُل المواصلة وصاحبي الحصن وماردين إلى دمشق فاستوثقوا بتحليف أخي السلطان شمس الدولة تورانشاه بن أيوب، ثم قصدوا مصر، ووقع رسول صاحب حصن كيفا في الأسر.
قال ابن أبي طيّ: وصل رسول الموصل القاضي عماد الدين بن كمال بن الشهرزوري بهدية قود، فخرج الموكب إلى لقائه، وأكرمه السلطان واحترمه؛ وقدم بعده رسول نور الدين قرا أرسلان ورسول صاحب ماردين، بهدايا، واجتمعوا في دمشق، وخرجوا إلى السلطان بمصر، فاعترضهم الفرنج، فأسر رسول صاحب الحصن، ولم يزل في الأسر حتى فتح السلطان بيت الأحزان فأطلقه وأحسن إليه: قال: وفيها رجع قراقوش إلى أوجلة وتلك البلاد، فجمع أموالاً ورجع إلى مصر، ثم أراد الرجوع فمنعه العادل، ثم خلصه فرخشاه فرجع وفتح بلاد فزّان بأسرها.
قال العماد: ثم خرج السلطان إلى مرج فاقوس، من اعمال مصر الشرقية، لإرهاب العدوّ وهو يركب للصيد والقنص، والتطلع إلى أخبار الفرنج لانتهاز الفرص. واقترح عليّ أن أمدح عز الدين فرخشاه بقصيدة موسومة، ألزم فيها الشين قبل الهاء؛ فعملت ذلك في أواخر ذي الحجة، فقلت:
مولاي عزَّ الدين فرخشه ... الدهر من يَرْجُك لايخشه
تلقاه سمح الكف، دفاقها ... طلق المحيَّا كرماً، بشه
إن شئت فوتاً بالرّدى فالقه ... أو شئت فوزاً بالعلا فاغشه
يديم بالأيدي وبالأيد في ... خزى لهاه والعدا بطشه
كم ملكٍ عاداكم لم يبت ... إلا جعلتم عرشه نعشه
خوفتم الشرك، فلا قمصه ... أمنتَّم يوما ولا فنشه
اورثك السؤدد ياابن العلا ... والداك السيد شاهنشه
وقال في الخريدة. كنا مخيمين بمرج فاقوس مصممين على الغزاة إلى غزة، وقد وصلت أساطيل ثغرى دمياط والإسكندرية بسبي الكفار، وقد أوفت على ألف رأس عدة من وصل في قيد الأسار؛ فحضر ابن رواحة منشداً مهنئاً بعيد النحر، سنة اثنتين وسبعين، ومعرضا بما وهبه الملك الناصر من الإماء والعبيد، قصيدة، منها:
لقد خبر التجارب منه حزم ... وقلبّ دهره ظهراً لبطن
فساق إلى الفرنج الخيل برا ... وأدركهم على بحر بسفن
وقد جلب الجواري بالجواري ... يمدن بكل قدٍ مرجحن
يزيدهم اجتماع الشمل بؤساً ... فمرنان تنوح على مرن
زهت إسكندرية يوم سيقوا ... ودمياط، فما منيا بغبن
يرون خياله كالطيف يسري ... فلو هجعوا أتاهم بعد وهن
أبادهم تخوفه، فأمسى ... مناهم لو يبيتهم بأمن
تملك حولهم شرقا وغربا ... فصاروا لاقتناص تحت رهن
أقام بآل أيوبٍ رباطا ... رأت منه الفرنجة ضيق سجن
رجا أقصى الملوك السلم منهم ... ولم ير جهده في البأس يغني
وفيها أبطل السلطان المكس الذي كان بمكة على الحاج، وسيأتي ذكره في أخبار سنة أربع وسبعين.
قال أبن الأثير: وفي سنة اثنتين وسبعين شرع مجاهد الدين، يعنى قايماز دزدار قلعة الموصل، في عمارة جامعه بظاهر الموصل بباب الجسر، وهو من أحسن الجوامع. ثم بني بعد ذلك الرباط، والمدرسة والبيمارستان، وكلها متجاورات.
قال: وتوفي في شهر ربيع الأول من سنة خمس وتسعين بقلعة الموصل، وهو متوليهل، والحاكم في الدولة الأتابكية النورية. وكان ابتداء ولايته القلعة في ذي الحجة، سنة إحدى وسبعين، ثم قبض عليه سنة تسع وثمانين، وأعيد إلى ولايتها بعد الإفراج عنه، وبقي إلى الآن. وكان أصله من أعمال شبختان وأخذ منها وهو طفل. وكان عاقلا خيّرا، ديّنافاضلاً، تعلم الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وكان يحفظ من الأشعار والحكايات والنوادر والتواريخ شيئاً كثيرا، إلى غير ذلك من المعارف الحسنة. وكان يكثر الصوم، وله ورد يصليه كل ليلة ويكثر الصدقة. وبنى عدة جوامع منها الذي بظاهر الموصل، وبنى خانقاهات منها التي بالموصل، ومدارس وقناطر على الأنهار، إلى غير ذلك من المصالح؛ ومناقبه كثيرة.
قال العماد في الخريدة: نزلنا ببركة الجب لقصد فرض الجهاد، وعرض الأجناد؛ فكتب الأسعد بن مماتي إلى قصيدة في الملك الناصر، ويعرض بالشطرنج فإنه كان يشتغل به، وذلك في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين:
ياكريم الخيم في الخيم ... أهيف كالريم ذو شمم
عجبي للشمس إذ طلعت ... منه في داج من الظلم
كيف لاتطمى لواحظه ... ورماة الطرف في العجم
لاتصد قلب المحب لكم ... لايحل الصيد في الحرم
ياصلاح الدين ياملكا ... قد براه الله للأمم
أضحت الكفار في نقم ... وغدا الإسلام في نعم
إن يك الشطرنج مشغلة ... لعليّ القدر والهمم
فهي في ناديك تذكرة ... لأمور الحرب والكرم
فلكم ضاعفت عدّتها ... بالعطاء الجمّ لاالقلم
ونصبت الحرب نصبتها ... فانثنت كفاك بالقمم
فابق للأقدار ترفعها ... وأمر الأقدار كالخدم
وفيها توفي بالإسنكدرية القاضي الشريف أبو محمد عبد الله العثماني الديباجي من ولد الديباج محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله عنهم، ويعرف بابن أبي إلياس، من بيت القضاء والعلم. وكان واسع الباع في علم الأحاديث، كثير الرواية، قيما بالأدب، متصرفا في النظم والنثر، إلا أنه مقلّ من النظم، أوحد عصره في علم الشروط، وقوله المقبول على كل العدول. ذكر ذلك العماد رحمه الله في الخريدة.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة
والسلطان مخيم بمرج فاقوس، فنظم العماد في الأجل الفاضل قصيدة ميمية في منتصف المحرم، وخدمه بها هناك في المخيم أولها:
ريم هضيم يروم هضمي ... من سقم عينيه عين سقمي
ان رمت يا عاذلي صلاحي ... فخلني والهوى وزعمي
لومك يذكي الغرام قل لي ... انت نصيحي ام انت خصمي!
ايازماني الغشوم اقصر ... انك لا تستطيع غشمي
عبد الرحيم الرحيم اضحى ... عوني على خطبك الملم
الفاضل، الافضل، الاجل ... المفضل، الاشرف، الاشم
غيث غياث، وجود جود ... وبحر علم، وطود حلم
يرعاه في اليمين منه ... تستخرج الدر من خضم
قال: وكان عندنا بالمخيم بالعباسة، في المحرم علم الدين الشتاني، وهو من ادباء الموصل وشعرائها، وفصئاحها وظرفائها، وفد سنة اثنين وسبعين الى مصر، واهدى النظم والنثر، واصطنعه عز الدين فرخشاه، وانزله في جواره، وجمع له من رفده ومن الامراء الف دينار، فمدح السلطان بالمخيم بكلمة، مطلعها:
غدا النصر معقوداً برايتك الصفراء ... فسر وافتح الدنيا، فأنت بها احرى
قلت: لم يذكر العماد من هذه القصيدة غير هذا البيت، وانه لقائم مقام قصائد كثيرة.
والشاتاني هو ابو على الحسن بن سعيد له ترجمة في تاريخ دمشق. وذكر العماد في الخريدة، وذكر فيها من هذه القصيدة:
يمينك فيها اليُمن واليُسر في اليُسرى ... فبُشرى لمن يرجو النّدى منهما بُشرى
قال العماد: وكانت الأعلام السلّطانية صُفراً، لايفارق نشرها نصراً.
قلت: وفيها يقول بعض الفضلاء:
إذا اسود خطب دونه الموت أحمر ... أتت بالأيادي البيض أعلامه الصّفر
وقد ظهرت منصوبة جزمت بها ... ظهور العدا من رفعها الخفض والجرّ
وأضحت تجوز الأرض شرقاً ومغربا ... ولله في إعلاءِ رتْبته سِرّ
وقال العماد: عاد السلطان إلى القاهرة وأقام بها، ثم اهتمت بالغزاة همتّه إلى غزة وعسقلان، فخرج يوم الجمعة ثالث جمادى الأولى بعد الصلاة، وخيم بظاهر بلبيس في خامسه، وبخميسه. ثم تقدمنا منه إلى السدير، وخيمنا بالمبرز، ثم نُودي: خذوا زاد عشرة أيام أخرى زيادة للاستظهار، ولإعواز ذلك عند توسط ديار الكفار.
قال: العماد: فركبت إلى سوق العسكر للابتياع، وقد أخذ السّعر في الارتفاع، فقلت لغلامي: قد بدا لي، وقد خطر الرّجوع من الخطر ببالي، فاعرض للبيع أحمالي وأثقالي، وانتهز فرصة هذا السّعر الغالي، وأنا صاحب قلم لاصاحب علم، وقد استشعرت نفسي في هذه الغزوة من عاقبة ندم؛ والمدى بعيد، والخطب شديد؛ وهذه نوبة السيّوف لانوبة الأقلام، وفي سلامتنا سلامة الإسلام؛ والواجب على كل منا أن يلزم شغله، ولايتعدّى حدّه، ولايتجاوز محلّه، لاسيما ونواب الدّيوان قد استأذنوا في العودة، وأظهروا قلّة العِدّة. وأظهرت سرّي للمولى الأجل الفاضل، فسرّه ذلك، إشفاقاً عليّ، وإحساناً إلىّ. وكان السّلطان أيضا يؤثر إيثاري، ويختار اختياري؛ فقال لي: أنت معنا أو عزمت أن تدعنا ولاتتبعنا؟ فقلت: الأمر للمولى، وما يختاره لي فهو أولى، فقال: تعّود وتدعو لنا، وتسأل الله أنْ يبلغنا من النّصر سؤلنا.
وكنت قد كتبت أبياتا إلى المخدوم الفاضل ونحن بالمبرز في العشرين من الشهر:
قيَل في مصر نائلٌ عدد الرّم ... لِ، ووفرْ كنيلها الموفور
فاغتررنا بها وسرّنا إليها ... ووقعنا، كما ترى، في الغرور
وحظينا بالرّمل والسيّر فيه ... ومنعنا من نيلها الميسور
وبرزنا إلى المبرز نشكو ... سدرا من نزولنا بالسدير
قيل لي: سِر إلى الجهاد. وماذا ... بالغٌ في الجهاد جهدُ مسيري؟
ليس يقوى في الجيش جأشي، ولاقو ... سي موتورا إلى موتور
أنا للكتُب لاالكتائب إقدا ... مي، وللصُّحف لا الصفاح حضوري
كاد فضلي يضيع لولا اهتمامُ ال ... فاضل الفائض النّدى بأموري
فأنا منه في ملابس جاهٍ ... رافلاً منه في حبير حبور
فهو رقيّ من الحضيض حظوظي ... وسما بي إلى سرير السُّرور
وقال: وما انقطعت عن السلطان في غزواته إلافي هذه الغزوة، وقد عظَّم الله فيها من النبوة؛ وكانت غزوات السلطان بعدها مؤيدة، والسّعادات فيها مجددة.
وكنت لما فارقت القاهرة استوحشت، وتشوقت إلى أصدقائي وتشوشت، وكتبت من المخيم ببلبيس إلى القاضي شمس الدين محمد بن موسى المعروف بابن الفرّاش، وقد أقام بالقاهرة، وكان صاحباً لي من الأيام النورية، واستشرته في التأخر عن السلطان. فكتب في الجواب: رافقه ولاتفارقه، فكرهت رأيه، فكتبت إليه:
إذا رأيتم بمكروهي فذاك رضاً ... لاأبتغي غير ما تبغون لي غرضا
وإن رأيتم شفاء القلب في مرضي ... فإنني مُستطيبٌ ذلك المرضا
أنتم أشرتم بتعذيبي، فصرت له ... مُسْتعذباً، أسْتّلِذّ الْهمّ والمضضا
أصبحت ممتعظاً بي في محبتكم ... فحاش لله أن أبغى بكم عوضا
لله عيشٌ تقضَّى عندكم ومضى ... وكان مثل سحابٍ برْقهُ ومضا
العيش دان جناه الغضّ عندكم ... والقلبُ محترقُ منيّ بجمر غضا
ماكنت أعهد منكم ذا الجفاء ولا ... حسبت أنّ ودادي عندكم رُفضا
قد أظلم الأفق في عيني لغيبتكم ... فإن أذنت لشخصي في الحضور أضا
ولست أول صبّ من أحبتَّه ... لمَّا جفوا ماقضى أو طاره، وقضى
مُروا بما شئتم من محنة وأذىً ... فقد رأيت امتثال الأمر مُعترضا
طوبى لكم مصرُ، والدارّ التي قضيت ... فيها المآرب، والعيش الذي خُفضا
بعيشكم إن خلوتم بانبساطكم ... تذكروا ضجراً بالعيش منقبضا
رضيتم سفري عنكم؛ وأعهد كم ... بسفرتي عنكم لاتظهرون رضا
هلا تكلَّفتم قولاً أُسرُّ به ... هيهات جوهركم قد عاد لي عرضا
تفضلوا واشرحوا صدري بقربكم ... أو فاشرحوا لي ذا المعنى الذَّي غمضا
فكتب إليَّ في جوابها أبياتاً، منها:
لاتنسبوني إلي إيثار بُعْدكم ... فلست أرضى إذا فاقتكم عوضا
ولي ودادٌ تولَّى الصّدق عقدته ... فما تراه على الأيام منتقضا
يلقاك قلبي على سبل العتاب له ... بصحَّةٍ ليس يخشى بعْدما مرضا
وصرت كالدَّهر يجنى أهله أسفاً ... ويلتقي من عتاب المذنب المضضا
قال: ثمّ ودّعت وعُدْت، ونهضوا وقعدت.
فصل في نوبة كسرة الرَّملة
وكانت على المسلمين بالجملة، وذلك يوم الجمعة غرَّة جمادى الآخرة أو ثانية.
ورحل السلطان بعساكره فنزل على عسقلان يوم الأربعاء التاسع والعشرين من جمادى الأولى، فسبى وسلب، وغنم وغلب، وأسر وقسر، وكسب وكسر، وجمع هناك من كان معه من الأسرى فضرب أعناقهم، وتفرَّق عسكره في الأعمال مغيرين ومبيدين، فلما رأوا أن الفرنج خامدون استرسلوا وانبسطوا.
وتوَّسط السُّلطان البلاد، واستقبل يوم الجمعة، مستهلّ جمادى الآخرة، بالرّملة، راحلاً لقصد بعض المعاقل، فاعترضه نهرٌ عليه تلّ الصافية فازدحمت على العبور أثقال العساكر المتوافية، فما شعروا إلا بالفرنج طالبةً بأطلابها، حازبةً بأحزابها، ذابَّةً بذئابها، عاويةً بكلابها، وقد نفر نفيرهم، وزفر زفيرهم؛ وسرايا المسلمين في الضياع مغيرة، ولرِحا الحرب عليهم في دورهم مديرة. فوقف الملك المظفرّ تقيّ الدّين وتلقاهم وباشرهم ببيضه وسُمره، فاستشهد من أصحابه عدَّة من الكرام، انتقلوا إلى نعيم دار المقام؛ وهلك من الفرنج أضعافها.
وكان لتقي الدين ولدٌ يقال له أحمد، أول ماطرّ شاربه، فاستشهد بعد أن أردى فارسا.
قال: وكان لتقي الدين أيضا ولد آخر، اسمه شاهنشاه، وقع في أسر الفرنج. وذلك أن بعض الفرنج بدمشق خدعه وقال له: تجئ إلى الملك وهو يعطيك الملك؛ وزّور كتابا فسكن إلى صدقه وخرج معه، فلما تفرد به شدّ وثاقه، وغلّه وقيَّده، وحمله إلى الداوية، وأخذ به مالاً، وجدد عندهم له حالا وجمالا؛ وبقي في الأسر أكثر من سبع سنين حتى فكّه السلطان بمال كثير، وأطلق للداوّية كلّ من كان لهم عنده من أسير؛ فغلط القلب التقوّى على ذلك الولد جرّ هلاك أخيه، ولما عاد من الغزوة زرناه للتعزية فيه.
قال: ولو أن لتقيّ الدين رداءًا لأردى القوم، لكن النّاس تفرقوا وراء أثقالهم، ثم نجوا برحالهم، وصوّب العدوّ بجملتهم حملتهم إلى السلطان، فثبت ووقف على تقدمه من تخلف. وسمعته يوماً يصف تلك النوبة، ويشكر من جماعته الصحبة، ويقول: رأيت فارساً يحثّ نحوي حصانه، وقد صوّب إلى نحري سنانه، فكاد يبلغني طعانه، ومعه آخران قد جعلا شأنهما شانه. فرأيت ثلاثة من أصحابي خرج كلّ واحد إلى واحد منهم فبادروه وطعنوه، وقد تمكن من قربي فما مكَّنوه؛ وهم إبراهيم بن قنابر، وفضل الفيضي، وسويد بن غشم المصري، وكانوا فرسان العسكر وشجعان المعشر. وأتفق لسعادة السلطان أنّ هؤلاء الثلاثة رافقوه وما فارقوه، وقارعوا العدوّ دونه وضايقوه؛ فما زال السلطان يسير ويقف، حتى لم يبق من ظنّ أنه يتخلف.
ودخل الليل وسلك الرمل ولاماء ولادليل، ولاكثير من الزاد والعلف ولاقليل، وتعسفوا السلوك في تلك الرمال وأوعاث والأوعار، وبقوا أياماً وليالي بغير ماء ولازادٍ حتى وصلوا إلى الديار. وأذن ذلك بتلف الدّواب وترجل الركاب ولُغوب الأصحاب، وفقد كثير ممن لم يعرف له خبر، ولم يظهر له أثر. وفقد الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري وأخوه الظهير، ومن كان في صُحبتهم، فضّل الطريق عنهم، وكانوا سائرين إلى وارء، فأصبحوا بقرب الأعداء، فأكمنوا في مغارة، وانتظروا من يدلهم من بلد الإسلام على عمارة. فدّل عليهم الفرنج من زعم أنه يدل بهم، وسعى في أسرهم وعطبهم، فأسروا، وماخلص الفقيه عيسى وأخوه إلا بعد سنين؛ بستين أو سبعين ألف دينار، وفكاك جماعة من الكفار.
قال: وما اشتدت هذه النوبة بكسرة، ولاعدم نُصرة، فإن النكاية في العدوّ وبلاده بلغت منتهاها، وأدركت كلُّ نفسٍ مؤمنة مُشتهاها. لكن الخروج من تلك البلاد شتت الشمل، وأوعر السّهل، وسُلك مع عدم الماء والدليل والرمل.
ومما قدره الله تعالى من أسباب السّلامة، والهداية إلى الاستقامة، أن الأجل الفاضل استظهر في دخول بلاد الأعداء باستصحاب الكنانية والأدلاء، وأنهم ماكاونوا يفارقونه في الغداء والعشاء؛ فلما وقعت الواقعة خرج بدوابه، وغلمانه وأصحابه، وأدلائه وأثقاله، وبث أصحابه في تلك الرمال، والوهاد والتلال، حتى أخذ خبر السلطان وقصده، وأوضح بأدلائه جدده، وفرّق ماكان معه من الأزواد على المنقطعين، وجمعهم في خدمة السلطان أجمعين؛ فسُهل ذلك الوعر، وأنس بعد الوحشة القفر، وجبر الكسر.
وكان الناس في مبدأ توجُّه السلطان إلى الجهاد، ودخول الأجل الفاضل معه إلى البلاد، ربما تحدثوا وقالوا لو قعد وتخلف كان أولى به، فإن الحرب ليست من دأبه. ثمّ عُرف أنّ السَّلامة والبركة والنجاة كانت في استصحابه.
وجاء الخبر إلى القاهرة مع نجابين فخلع عليهم وأركبوا، وأُشيع بأن السلطان نصره الله، وانّ الفرنج كسروا وغلبوا. فركبت لأسمع حديث النجّابين وكيف نصر الله المسلمين، وإذا هم يقولون: أبشروا فإن السلطان وأهله سالمون، وإنهم واصلون غانون. فقلت لرفيقي ما بُشر بسلامة السلطان إلا وقد ثمت كسرة، وما ثمَّ سوى سلامته نُصرة.
ولما قرب خرجنا لتَّلقيه، وشكرنا الله على مايسره من ترقيه وتوقيه. ودخل القاهرة يوم الخميس منتصف الشهر، ونابت سلامته مناب الدّهر، وسيرنا بها البشائر، وأنهضنا ببطاقتها الطائر، لإخراس ألسنة الأراجيف، وإبدال التأمين من التخويف، فقد كانت نوبتها هائلة، ووقعتها غائلة.
وقال القاضي ابن شداد: خرج السلطان يطلب الساحل حتى وافى الفرنج على الرّملة، وذلك في أوائل جمادى الأولى، وكان مقدم الفرنج البرنس أرناط، وكان قد بيع بحلب فإنه كان أسيراً بها من زمن نور الدين رحمه الله تعالى؛ وجرى خللٌ في ذلك اليوم على المسلمين. ولقد حكى السلطان، قدّس الله روحه، صورة الكسرة في ذلك اليوم، وذلك أنّ المسلمين كانوا قد تعَبَّوا تعبئة الحرب، فلما قارب العدوّ رأى بعض الجماعة أن تغير الميمنة إلى جهة الميسرة والميسرة إلى جهة القلب، ليكون حال اللقاء وراء ظهرهم تلٌ معروف بأرض الرّملة. فبينما اشتغلوا بهذه التعبئة هجم الفرنج، وقدّر اله كسرهم، فانكسروا كسرةً عظيمة؛ ولم يكن لهم حصن قريب يأوون إليه، فطلبوا جهة الديار المصرية وضلوا في الطريق وتبددوا، وأُسر منهم جماعة منهم الفقيه عيسى. وكان وَهَناً عظيماً جبره الله تعالى بوقعة حطين المشهورة؛ ولله الحمد.
قلت: وذلك بعد عشر سنين؛ فكسرة الرّملة هذه كانت في سنة ثلاث وسبعين، وكسرة حطين كانت في سنة ثلاث وثمانين.
قال العماد الكاتب: وحيث كانت للملك المظفر تقي الدين في هذه الغزوة اليد البيضاء، أنشدته قصيدة، منها:
سقى الله العراق وساكنيه ... وحيّاه حيا الغيث الهتون
وجيراناً أمنت الجور منهم ... ومافيهم سوى وافٍ أمين
صفوا والدهر ذو كدرٍ، وقدما ... وفوا بالعهد في الزمن الخئون
بنو أيوب زانوا الملك منهم ... بحليةِ سؤودٍ وتُقى ودين
ملوكٌ أصبحوا خير البرايا ... لخير رعيةٍ في خير دين
أسانيد السيادة عن علاهم ... مُعَنْعَنَةٌ مصححةُ المتون
بنو أيوب مثلُ قريش مجداً ... وأنت لها كأنزعها البطين
أخفت الشرك حتى الذّعر منهم ... يُرى قبل الولادة في الجنين
ويومَ الرّملة المرهوبَ بأساً ... تركت الشرك منزعج القطين
وكنتَ لعسكر الإسلام كهفاً ... أوى منه إلى حصن حصين
وقد عرف الفرنج لما ... رأوا آثارها عين اليقين
وأنت ثبت دون الدّين تحمى ... حماه أوان ولى كلُّ دين
قال: واهتم السلطان بعد ذلك بإفاضة الجود، وتفريق الموجود، وافتقاد الناس بالنقود، والسنايا الصادقة الوعود، وجبر الكسير، وفك الأسير، وتوفير العدد، وتكثير المدد، وتعويض مانفق من الدواب؛ فسلوا مانابهم، ولم يأسوا على ما أصابهم.
قال ابن أبي طيّ: وقال ابن سعدان الحلبيّ يمدح السلطان، ويذكر ما فعله على عسق لان، ويهوّن عليه أمر هذه الكسرة، من قصيدة:
قرَّبت من عسقلان كلّ نائبة ... باتت تقل بوكاف من الأسل
فاض النجيع عليها وهي ممُحلة ... فأصبحت موتعا للخيل والإبل
قل للفرنجية الخذلى: رويدكم ... بالثأر أو تخرج الشعري من الحمل
ترقبوها من الفوار طالعةً ... خوارق الأرض تمحور رونق الأصل
كأنني بنواصيهنّ يقدمها ... كاسٍ من الجود عريان من النجل
حَسِب العدا ياصلاح الدين حسبهم ... أن يقرفوك بجرح غير مندمل
وهل يخاف لسان النحل ملتمسٌ ... مرّت على أصبعيه لذة العسل
فصل في وفاة كمشتكين وخروج السلطان من مصر بسبب حركة الفرنجقال العماد: وقعت المنافسة بين الحلبيين مدبري الملك الصالح، واستولى على أمره العدل ابن العجمي أبو صالح. وكان سعد الدّين كمشتكين الخادم مقدم العسكر، وأمير المعشر، وهو صاحب حصن حارم، وقد حسده أمثاله من الأمراء والخدام، فسلموا لابن العجمي الاستبداد بتدبير الدولة، فقفز عليه الاسماعيلية يوم الجمعة بعد الصلاة في جامع حلب فقتلوه.
واستقل كمشتكين بالأمر، فتكلم فيه حسّاده وقالوا للملك الصالح: ما قتل وزيرك ومشيرك ابن العجمي إلا كمشتكين فهو الذي حسن ذلك للاسماعيلية. وقالوا له: أنت السلطان وكيف يكون لغيرك حُكمٌ أو أمر! فما زالوا به حتى قبض عليه وطالبوه بتسليم قلعة حارم، وأوقعوا بها لأجله العظائم. فكتب إلى نوابه بها فنبوا وأبو، فحملوه ووقفوا به تحت القلعة، وخوّفوه بالصرعة، فلما طال أمره، قصر عمره، واستبد الصغار بعده بالأمور الكبار، وامتنعت عليه قلعة حارم، وجرد إليها العزائم. ونزل عليه الفرنج ثم رحلوا بقطيعةٍ بذلها لهم الملك الصالح واستنزل عنها أصحاب كمشتكين وولىّ بها ملوكاً لأبيه يقال له سرخك.
وقال ابن الأثير: سار الملك الصالح من حلب إلى حارم ومعه كمشتكين، فعاقبه ليأمرَ من بها بالتسليم، فلم يجب إلى ماطلب منه، فعُلق منكوساً ودُخن تحت أنفه فملت؛ وعاد الملك الصالح عن حارم ولم يملكها. ثم أنه أخذها بعد ذلك.
قال ابن شداد: أما الملك الصالح فإنه تخبط أمره، وقبض كمشتكين صاحب دولته، وطلب منه تسليم حارم إليه، فلم يفعل، فقتله. ولما سمع الفرنج بقتله نزلوا على حارم، طمعاً فيها، وذلك في جمادى الآخرة، وقاتل عسكر الملك الصالح العساكر الفرنجية. ولما رأى أهل القلعة خطرها من جانب الفرنج سلموها إلى الملك الصالح في العشر الأواخر من شهر رمضان. ولما عرف الفرنج بذلك رحلوا عن حارم طالبين بلادهم، ثمّ عاد الصالح إلى حلب، ولمْ يزلْ أصحابه على اختلاف يميل بعضهم إلى جانب السلطان قدّس الله روحه.
قال العماد: ووصل في هذه السنة إلى الساحل من البحر كند كبير يقال له اقلندس، أكبر طواغيت الكفر، واعتقد خلو الشام من ناصري الإسلام. ومن جملة شروط هدنة الفرنج أنهم إذا وصل لهم ملك أو كبير، مالهم في دفعه تدبير، أنهم يعاونونه ولايباينونه، ويحالفونه ولايخالفونه، فإذا عاد عادت الهدنة كما كانت، وهانت الشدة ولانت. وبحكم هذا الشرط حشدوا الحشود، وجندواا الجنود، ونزلوا على حماة، في العشرين من جمادى الأولى، وصاحبها، شهاب الدّين محمود الحارمي، مريض، ونائب السلطان بدمشق يؤئذ أخوه الأكبر توانشاه، وهو والأمراء مشغولون بذاتهم. وكان سيف الدين عليّ بن أحمد بن المشطوب بالقرب، فدخلها وخرج للحرب، واجتمع إليها رجال الطعن والضرب، وجرت ضروبٌ من الحروب، وكاد الفرنج تهجم البلد فأخرجوهم من الدروب. ونصر الله أهل الإسلام، بعد حصارهم لهم أربعة أيام، فانهزم الملاعين ونزلوا على حصن حارم، كما تقدم ذكره، فرحلهم عنه الملك الصالح بعد حصاره أربعة أشهر.
ومن كتاب فاضليّ إلى بغداد: " خرج الكفّار إلى البلاد الشَّامية فاسخين لعقد كان محكماً، غادرين غدرا صريحاً، مقدرين أن يجهروا على الشَّام لما كان بالجدب جريحا. ونزلوا على ظاهر حماة يوم الاثنين الحادي والعشرين من جمادى الأولى، وزحفوا إليها في ثانية فخرج إليهم أصحابنا. وتضَّمن كتاب سيف الدين - يعنى المشطوب - أن القتلى من الفرنج تزيد على ألف رجل مابين فارس وراجل، شفى الله منهم الصدور ورزق عليهم النصر والظُّهور. ثم انصرفوا محموعا لهم بين تنكيس الصُّلُب وتحطيم الأصلاب، مفرّقة أحزابهم عن المدية المحروسة كما افترقت عن المدينة الشريفة النبوية الأحزاب " .
قال العماد: وتسامع الحلبيون بيوم رحيلنا من مصر لقصد الشَّام، لنُصْرة الإسلام، وقالوا أوّل ما يصل صلاح الدين نسلم حارم. فراسلوا الفرنج وقاربوهم، وأرغبوهم وأرهبوهم، وقالوا لهم صلاح الدين واصل، ومالكم بعد حصوله عندكم حاصل. فرحل الفرنج بقطيعة من المال أخذوها، وعدّة من الأسارى خلَّصوها.
ثم تُوفى خال السُّلطان شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي، في جمادى الآخرة، وتوفي ولده تكش، ابن خال السُّلطان، قبله بثلاثة أيَّام وذلك أوان وقعة الرملة.
ولما سمع السُّلطان بنزول الفرنج على حارم رحل من البركة يوم عيد الفطر بعساكره، ووصل أيلة في عاشر الشهر، واستناب بمصر أخاه العادل؛ وأقام بها أيضا القاضي الفاضل بنيَّة الحج في السنة القابلة. ووصل السُّلطان إلى دمشق في الرابع والعشرين من شوّال. ومما نظمه العماد في التَّشويق إلى مصر قوله:
ساكني مصر، هناكم طيبها ... إن عيشي بعدكم لمْ يطب
لاعدمتم راحةً من قربها ... فأنا من بعدها في تعب
بعد العهد بأخباركم ... فابعثوا أخباركم في الكتب
ليت مصراً عرفت أني وإن ... غبتُ عنها فالهوى لم يغب
ومن ذلك قوله:
تذكرت في جلَّقٍ داركم ... بمصر، ويا بُعْد مابيننا
وما أتمنى سوى قُربكم ... وذلك والله كلُّ المنى
لكم بالجنان وطيب المقام ... وحسن النعيم بمصر الهنا
ومن ذلك أيضا:
ياساكني مصر، قد فقتم بفضلكم ... ذوي الفضائل من سكان أمصار
لله درّكمُ من عُصْبة كرُمت ... ودرُّ مصركم الغناء من دار
ومن ذلك أيضا:
ياحبذا مصرٌ وبْرِ ... كتها وصدْرٌ والعريش
فهناك أملاكي الذَّي ... نَ سَمَتْ بعزّهم العُروش
قال: ووصل كتاب من الفاضل يذكر فيه أنّ العدوّ، خذله الله تعالى نهض ووصل إلى صدر، وقالت القلعة ولم يتم له أمر، فصرف الله شره وكفى أمره.
ووصل من الفرنج مستأمن وذكر أنَّهم يريدون الغارة على فاقوس، فاستقلوا أنفسهم وعرّجوا، وذكر أنهم مضوا بنية تجديد الحشد، ومعاودة القصد.
قال: وأما نوبة العدوّ في الرّملة فقد كانت عثرةً، علينا ظاهرها، وعلى الكفَّار باطنها، ولزمنا مانسي من اسمها، ولزمهم مابقي من عزمها؛ ولادليل أدلّ على القوّة من المسير بعد شهرين من تاريخ وقعتها إلى الشَّام، نخوض بلاد الفرنج بالقوافل الثَّقيلة، والحشود الكبيرة، والحريم المستور، والمال العظيم الموفور.
قال العماد: ولما دخلنا دمشق وجدنا رُسُل دار الخلافة، قد وصلوا بأسباب العاطفة والرأفة؛ وكان حينئذ صاحب المخزن ظهير الدّين أبو بكر منصور بن نصر العطَّار، وهو من ذوي الأخطار، وله التحكم في الإيراد والإصدار، وقد توفَّر على محبَّة السُّلطان وتربية رجائه، وتلبية كتابهُ ورسوله بكلّ ماسَرَ السَّرائر، ونوّر البصائر.
فصل في ذكر أولاد السلطانقال العماد: وفي هذه السَّنة ولد بمصر للسُّلطان ابنه أبو سليمان داود.
وكتب الفاضل إلى السلطان يهنئه به ويقول: " إنه وُلد لِسَبْع بقين من ذي القعدة. وهذا الولدُ المُبارك هو المُوفى لاثني عشر ولداً، بل لاثني عشر نجماً متوقداً، فقد زاد الله في أنجمه على أنجم يوسف عليه السلام نجماً، ورآهم المولى يقظة ورأى تلك الأنجم حلما، ورآهم ساجدين له، ورأينا الخلق سجوداً، وهو قادرٌ سبحانه أن يزيد جدود المولى إلى أن يراهم أباءً وجدوداً " .
قال العماد: وكنت في بعض الليالي عند السُّلطان في آخر عهده، وجرى ذكر أولاده، واعتضاده بهم واعتداده؛ فقلت له: لو عرفت أيام مواليدهم في أعوامها، لأنشأت رسالةً على نظامها. فذكر لي ما أثبته على ترتيب اسنانهم وماصورته: الملك الأفضل نور الدين أبو الحسن عليّ؛ ولدُ بمصر ليلة عيد الفطر عند العصر سنة خمس وستين وخمسمائة.
العزيز أبو الفنح عثمان عماد الدِّين؛ ولد بمصر ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستين.
الظافر أبو العباس خضر مظفر الدِّين؛ ولد بمصر في خامس شعبان سنة ثمان وستين، وهو أخو الأفضل لأبويه.
الظاهر أبو منصور غازي غياث الدين؛ ولد بمصر منتصف رمضان سنة ثمان وستين.
المقرّ أبو يعقوب إسحاق فتح الدِّين؛ وُلد بمصر في ربيع الأول سنة سبعين.
المؤيد أبو الفتح مسعود نجم الدين؛ وُلد بدمشق في ربيع الأول سنة إحدى وسبعين، وهو أخو العزيز لأبويه: الأعزُّ أبو يوسف يعقوب شرف الدِّين؛ وُلد بمصر في ربيع الآخر سنة اثنتين وسبعين، لأم العزيز.
الزَّاهر أبو سليمان داود مجير الدِّين؛ ولد بمصر في ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين، لأم الظاهر.
المفضّل أبو موسى قطب الدِّين، ثم نعت بالمظفَّر؛ ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين، وهو أخو الأفضل لأمه.
الأشرف أبو عبد الله محمَّد عزيز الدِّين؛ وُلد بالشَّام سنة خمس وسبعين وخمسمائة.
المحسن أبو العباس أحمد ظهير الدِّين؛ وُلد بمصر في ربيع الأول سنة سبع وسبعين، وهو لأم الأشرف.
المعظَّم أبو منصور تورانشاه فخر الدين؛ ولد بمصر في ربيع الأول سنة سبع وسبعين أيضا. قلت: ومات سنة ثمان وخمسين وهي السنة التي أخرب العدو من التتار، خذلهم الله تعالى فيها، مدينة حلب وغيرها، والله أعلم.
الجواد أبو سعيد أيوب ركن الدِّين؛ ولد في ربيع الأول سنة ثمان وسبعين، وهو لأم المعز.
الغالب أبو الفتح ملكشاه نصر الدِّين؛ مولده بالشَّام في رجب سنة ثمان وسبعين، وهو لأم المعظم.
المنصور أبو بكر، وهو أيضا أخو المعظم لأبويه، ولد بحرّان بعد وفاة السلطان.
قلت: فهذه خمسة عشر ولداً ذكرهم العماد في هذا الموضع.
وقال في آخر كتاب الفتح القُدسي، على ماسنذكره في آخر هذا الكتاب: لما توفي خلَّف سبعة عشر ولداً وابنةً صغيرة. فقد فاته هنا ذكر اثنين، وهما عماد الدين شاذي، لأم ولد، ونصرة الدين مروان، لأم ولد. وأما البنت فهي مؤنسة خاتون، تزوجها الملك الكامل محمد، على ماسنذكره إن شاء الله تعالى، وهو ابن عمها الملك العادل أبي بكر بن أيوب.
وللسلطان غير هؤلاء الأولاد ممن درج في حياته، كالملك المنصور حسن، وسيأتي ذكر وفاته؛ والأمير أحمد وهو الذي رثاه العرقلة بقوله:
أيّ هلال كُسفا ... وأي غصنٍ قصفا
كان سراجاً قد طفا ... على الورى، ثمّ انطفا
لم يركب الخيل، ولم ... يقلدوه مرهفاً
قل للنحاة: ويحكم ... أحمدكم قد صرفا
صبراً صلاح الدين يا ... ربّ السماح والوفا
قال العماد: وورد من الفاضل كتاب تاريخه منتصف ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين ذكر فيه فصولا متعددة. منها: للمولى أولادٌ وقد صاروا رجالاً، ويجب أن تستجدّ للقلاع رجالا، كما فعل السابقون أعماراً وأعمالا، وقيل: القلاع أنوفٌ من حلها شمخ بها. مافي الرجال على النساء أمين.
ومنها أبيات في ذكر السلام:
مملوك مولانا، ومملوكُ ابنه ... وأخيه، وابن أخيه، والجيران
طيّ الكتاب إليه منه إجابة ... لسلام مولانا ابنه عثمان
والله قد ذكر السلام وأنه ... يجزي بأحسن منه في القرآن
وغريبة قد جئت فيها أوّلا ... ومن اقتفاها كان بعدي الثاني
فرسولي السلطان في إرسالها ... والناس رسلهم إلى السلطان
قلت ووصف الفاضل الملك المؤيد في كتاب آخر فقال: " وقد تمطت به وامتدت، وتأهبت السعادة لخطبته واعتدت، ولاحظته العيون بالوقار وطرفت دون جلالته وارتدت " .
وفي بعض كتب الفاضل عن السلطان إلى ولده الأفضل: إعزازه لأهل الفضل دليلٌ على فضله، وأنّ الأولى أن تكون كتب الأدب عند أهله. وما أبهجنا إذ جال في فضاء الفضائل، وخطب من أبكار المعاني كرائم العقائل، وآخى بين السيف والقلم، وصار في موكبه العلمُ والعلم.
ومن كتاب آخر في المعنى: فلقد زادت هذه المنقبة في مناقبه، ونظمت عقود سؤدد في ترائبه.
فما ترجم الإنسان عن سرّ فضله ... بأفضل من تقريبه لأولى الفضل
قال العماد: وخرج السلطان للصيد في ذي الحجة نحو قارا، فشكوت ضرسي، وعدمت أنسي، فرجعت مع عزّ الدين فرخشاه لحميّ عرته، فشكا منها، ألا تزور إلا نهاراً جهاراً، ولاتفارق بعرق، بالضد من الحمي التي وصفها أبو الطيب المتنبي. فنظمت فيه كلمة طويلة أولها:
يمينك دأبها بذل اليسار ... وكفك صوبها بدر النطار
وإنك من ملوك الأرض طُرَّا ... بمنزلة اليمين من اليسار
وأنت البحر في بث العطايا ... وأنت الطود في بادي الوقار
ومنها في وصف الحمى:
وزائرة وليس بها حياء ... فليس تزور إلا في النهار
ولو رهبت لدى الإقدام جوري ... لما رغبت جهاراً في جواري
ولو عرفت لظى في وهج اشتياق ... ليظهر ماأورى من أواري
ولو عرفت لظى سطوات عزمي ... لكانت من سطاي على حذار
تقيم، فحين تبصر من أناتي ... ثبات الطود تسرع في الفرار
تفارقني على غير اغتسال ... فلم أحلل لزورتها إزاري
أيا شمس الملوك، بقيت شمساً ... تنير على الممالك والديار
أحماك استعارت لفح نار ... لعزمك لم تزل ذات استعار
فصل
قال العماد: وفي العشر الأول من ذي القعدة قتل عضد الدين بن رئيس الرؤساء، وزير الخليفة ببغداد، على أيدي الملاحدة. وكان قد توجه إلى الحج، فوقف له في مضيق قطفتا، غربي دجلة، كهلٌ في يده قصّة يزعم أنه يريد رفعها إلى الوزير من يده إلى يده؛ فأومأ ليوصل قصته، فانتهز فيه فرصته، فقتله؛ وبدر كمال الدين أبو الفضل بن الوزير فقتل قاتل أبيه بسيفه. وكان مع ذلك الجاهل الملحد رفقيان له، فجرح أحدهما صاحب الباب أبو المعوج فمات، وجرح آخر ولد قاضي القضاة، وقطع الملاحدة وأحرقوا. واستقلَّ ظهير الدين أبو بكر منصور بن نصر المعروف بابن العطار صاحب المخزن بالدولة، وكان للسلطان خدنا مصافيا.
قلت: وابن العطار هذا هو المرجوم المسحوب بعد موته ببغداد، كما سيأتي ذكره في آخر حوادث سنة خمس وسبعين.
قال ابن الأثير: وكنت حينئذ ببغداد عازما على الحد، فعبر عضد الدين دجلة في شبارة، فلما ركب دابته والناس معه مابين راكب وراجل، تقدم إليه بعض العامة ليدعو له، فمنعه أصحابه، فزجرهم وأمرهم ألا يمنعوا أحداً عنه؛ فتقدم إليه الباطنية فقتلوه بالجانب الغربي وقُتل الباطنية وأحرقوا، وحمل من موضعه إلى دار له بقطفتا في الجانب الغربي فتوفي بها.
قال العماد: ووردت مطالعة الفاضل إلى السلطان تتضمن التوجع لقتل الوزير عضد الدين، وفيها: (ومارَبُّكَ بِظَلاَّمٍ للعْبيِد)، فقد كان عفا الله عنه قتل ولدي الوزير ابن هبيرة وأزهق أنفسهما وجماعة لاتحصى:
من يرَ يوماً يُرَ به ... والدهر لايغتر به
وهذا البيت بيت ابن المسلمة عريق في القتل، وجدّه هو المقتول بيد اليساسيري في وقت إخراج الخليفة القائم في أيام الملقب بالمستنصر بمصر، فهو من ذرية لم تزل قالتة مقتولة، ومازالت السيوف عليها ومنها مسلولة؛ فهم في هذه الحادثة المسمعة المصمة كما قال دريد:
*أبى الموت إلا آل صمه*
والأبيات المولى يحفظها، وهي في الحماسة، وقد ختت له السعادة بما ختمت به له الشهادة، لاسيما وهو خارج من بيته إلى بيت الله. قال الله سبحانه: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجراً إلى اللهِ وَرَسُولهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقْد وَقَع أجْرُه على الله).
إن المساءة قد تسرّ وربما ... كان السرور بما كرهت جديرا
إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك كان وزيرا
وهذان البيتان قيلا في أبي سلمة الخلال أول وزير لبني العباس.
قلت: وبلغني أنّ الفاضل كان ينشد:
وأحسن من نيل الوزارة للفتى ... حياة تريه مصرع الوزراء
قال العماد: وكان ضياء الدين بن الشَّهْرَزوْري قد سار في الرسالة إلى بغداد وتوقف في الموصل لحادثة الوزير؛ ووافق وصوله إلى الموصل وفاة ابن عمه القاضي عماد الدين أحمد ابن القاضي كمال الدين بن الشهرزوري، وكان شاباً. وجاء كتاب الفاضل يذكر ذلك وفيه:
يدلى ابن عشرين في لحده ... وتسعون صاحبها راتع
اعتبط الولد مع نضارة الشباب المقتبل، ... وعُمرّ الوالد مع ذبول المشيب المشتمل.
ليُعْلم أن الشيب ليس بمسلم ... وأن الشباب الغض ليس بمانع
وليكون العبد حذراً من بغتات الآجال، في كلّ الأحوال. والله يطيل للمولى العمر، كما أطال له في القدر، ونسمع منه ولانسمع فيه، ويبقيه سنداً للدين الحنيفي فإن بقاءه يكفيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق